ﰡ
جاء ذكر الكتاب بعد الحروف المفردة التي فهم بعض المفسرين أنها رمز للكتاب الكريم، وفي كلمة (كتَابٌ) التنكير للتعظيم، أي أنه كتاب عظيم لا يطاول ولا يأتي أحد بمثله، (أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) أي نسقت ألفاظه فهي متآخية في نغمتها وتآلفها وهو نسق بياني مؤتلف غير مختلف، ومعانيه متساوقة فالخواطر تتسابق إلى النفس بإيماء من اللَّه يمهد كل معنى لما يليه كعقد من الجواهر تتبع كل حبة أختها، وأحكم مدلوله لَا يعروه تضليل ولا تبديل، ولا تناقض أو تضارب في معانيه، بل إنها متلاقية متعاونة مدعمة بالحجج والبراهين القاطعة الحاسمة تسير متهادية متصلة، ولكلمات الله المثل الأعلى.
(ثُمَّ فُصِّلَتْ) (ثم) للترتيب والتراخي، والتراخي هو التراخي المعنوي، ذلك لأن الناس ألفوا أن الكلام المحكم في نغمه وألفاظه وكلماته وأسلوبه لَا يكون مفصلا في معانيه، أي لَا يكون مبينا واضحا، لأن النغم يشغل القارئين عن المعاني، ولكن هذا القرآن كتاب اللَّه الخالد في الوجود الإنساني، كان مع حلاوة نغمه وتواصله وعباراته وتساوق معانيه مبينا مفصلا لأبواب الحلال والحرام والعقائد والمواعظ. والترتيب ليس للترتيب الزمني، إنما هو للترتيب الفكري والترابط النفسي فكلمة (ثُمَّ) هنا للترتيب والتراخي.
ولقد أعطى اللَّه تعالى القرآن شرفا إضافيا بعد شرفه الحقيقي في إعجازه وأنه لا يزال يتحدى الخليقة عربا وعجما أن يأتوا بمثله وأنى يكون، فيقول تعالى: (مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) كلمة (مِن لَّدُنْ) معناها من عند، وقل أن تستعمل في القرآن الكريم في غير جانب اللَّه العليم القادر. ويقول الزمخشري في معنى الآية الكريمة: (أُحْكِمَتْ) دون الباطل (ثُمَّ فُصِّلَتْ) كما تفصل القلائد الفرائد من دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص. إذ جعلت فصولا سورة سورة، وآية آية ووقَّت في التنزيل فلم تنزل جملة واحدة، فإن قلت ما معنى كلمة (ثُمَّ)؛ قلت: ليس معناها التراخي في الوقت بل في الحال، فتقول هي محكمة أحسن
وقد بين سبحانه وتعالى بعد ذلك المقصد الأصلي من القرآن ألا وهو التوحيد وإثبات رسالة النبي - ﷺ -. لذا قال تعالى:
النفي والإثبات دليل على قصر العبادة على اللَّه وحده لَا يعبدون غيره من أوثان أو أشخاص أو أي كائن من مخلوقاته سبحانه وتعالى. أي أن اللَّه تعالى أحكم القرآن وفصل آياته تفصيلا، وأقام فيه الدلائل القاطعة على أنه الخالق لتعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا.
ثم يقول تعالى حاكيا عن قول نبيه - ﷺ -: (إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) لمن عصى وأشرك أنذره بالسعير، (وَبَشِيرٌ) لمن آمن باللَّه تعالى وحده وكلل إيمانه بطاعة اللَّه فيما أمر به من طاعات فيها خير الدنيا والآخرة، وفيما نهى عنه من معاصٍ فيها فساد في الأرض وعذاب في الآخرة، والضمير في كلمة (مِنْهُ) يعود على الله تعالى.
ويأتي ذكر النذير البشير - ﷺ - بعد عبادة الله تعالى وحده، إيماء بأن القرآن الكريم قد أحكمت آياته وفصلت ليكون آية النبوة ومعجزة الرسالة المحمدية الخالدة إلى يوم الدين. فالقرآن الكريم هو البرهان لعبادة اللَّه وحده، وهو معجزة النبي - ﷺ -، تلك المعجزة الكبرى التي لَا تدانيها في بقائها وثمراتها معجزة أخرى من معجزات النبيين قبله - ﷺ -.
بعد أن نهى سبحانه عن عبادة غير اللَّه وبين أن النبي - ﷺ - نذير وبشير أمر بالاستغفار والتوبة فقال:
(الواو) عاطفة على قوله تعالى: (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ) ولتضمنيا معنى الأمر، وإن كانت للحكاية، ولكن لأنها غاية أحكام الآيات وتفصيلها، وكون النبي - ﷺ - له الإنذار المؤكد، والبشارة كانت في معنى الطلب بدليل الإنذار والتبشير، إذ لابد أن يسبقها الطلب، ولذا جاء عطف الطلب.
كلمة (وَأَنِ) في قوله تعالى: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ)، يصح أن نقول إنها تفسيرية، ويصح أن تكون مصدرية. والاستغفار طلب المغفرة، والخطاب لقوم مشركين فطلب إليهم أولا الإقلاع عن عبادة الأوثان، ثم الاستغفار، وطلب عفو الله فيما ارتكبوا من آثام في - حقه سبحانه، ثم يكون بعد ذلك الرجوع إلى اللَّه والعيش في رحابه، وذلك بالتوبة إليه. كأن الاستغفار هو الدخول إلى الوحدانية مع طلب عفو اللَّه ومغفرته، ولهذا قدم الاستغفار على التوبة؛ لأن الاستغفار كان عن الشرك وما اتصل به من جحود وعناد، والتوبة الرجوع إلى اللَّه وطاعته فيما أمر ونهى. والتعبير بكلمة (ثُمَّ) الدالة على الترتيب والتراخي للدلالة على البعد بين المقامين، مقام الاستغفار عن الشرك ومقام التوبة، فالتوبة ذاتها عبادة، ولا تراخي في الزمن بل الزمن واحد ولكن البعد في الرتبة. وفي قوله تعالى: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) معنى قرب اللَّه تعالى من العبد لأنه ربه الذي برأه ورباه وقام على تدبير حياته وحياة ما حوله.
(ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي عودوا بالتوبة إليه سبحانه؛ لأن العبد بالشرك يبعد عن اللَّه بعد أن خلقه حنيفا، وبالتوبة عاد إلى ما ابتدأ وهو القرب من الله.
و (تُوبُوا) فعل أمر له جواب كجواب الشرط؛ وقوله تعالى: (يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي إن تتوبوا بعد أن تستغفروا يكن الجزاء أن يمتعكم متاعا حسنا، أي يمكنكم من أن تتمتعوا متاعا حسنا، والمتاع الحسن هو المتاع
(وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) هذا الإيتاء في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا فإنه يتكون مجتمع فاضل كريم حيث يكون كل ذي فضل في مكانته، فيعطى حقه غير منقوص، ويتمتع الجميع بمتاع حسن وتكون الحقوق قائمة أدبية ومادية، فالمجتمعات التي لَا تظلها الفضيلة لَا تعرف فيها قيم الأفاضل وتضطرب الموازين اضطرابا شديدا بل تنقلب للرجال والأعمال معا.
وأما في الآخرة يؤتي ذو الفضل فضله بالنعيم المقيم والرضوان من رب العالمين وهو الجزاء الأكبر. وفي قوله تعالى: (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) معناه جزاء فضله ولم تذكر كلمة الجزاء، وإن قدرت في مطوي الكلام، للإشارة إلى أن الجزاء مساوٍ للفضل تماما حتى كأنه هو، فاللَّه تعالى عادل حكيم. وفي مقابل جزاء الذين يحسنون قال تعالى مهددا من يعرضون: (وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كبِيرٍ) تولوا أصلها تتولوا وحذفت التاء لتوالي التاءات وذلك كثير في العربية وفى القرآن الكريم، ويكون خطابا للمخاطبين في قوله تعالى: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) ولكن من الذي يخاطبهم، أهو اللَّه تعالى أم نبيه - ﷺ -، واللَّه جل جلاله لَا ينسب له الخوف (فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ) فيكون أليق بالنبي - ﷺ - على أساس بشارته وإنذاره. الكلمات إنذار للذين يعرضون وينصرفون عن كلام اللَّه وهو أنهم محل خوف ممن أرسله هاديا ومبشرا ونذيرا، وقد أكد اللَّه تعالى الخوف عليهم بالجملة الاسمية وبكلمة (إن)، وقوله تعالى: (عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) الكِبَرُ
قدم الجار والمجرور للدلالة على القصر، أي إلى اللَّه وحده مرجعكم لَا إلى أحد سواه ولا شريك له في الحكم على أعمالكم وأقوالكم وما كسبتم واكتسبتم، ولذكر لفظ الجلالة تربية للمهابة في قلوبهم، وفي ذلك إنذار شديد للمشركين الذين أشركوا غيره باطلا، ثم يؤكد سبحانه الإنذار بقوله: (وَهُوَ عَلَى كلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ).
فعقابه عقاب القادر القاهر فوق عباده ويحكم يوم الحساب، إذ هو قادر على كل شيء في الوجود وليس على درجة الكمال سواه.
بعد أن بين اللَّه قدرته القاهرة بين علمه الذي يحاسب على مقتضاه فقال:
(يَثْنُونَ) فعله ثنى بمعنى طوى. وكلمة (أَلَا) للتنبيه، والمعنى: ألا إنهم يطوون صدورهم على عداوة وبغضاء وكراهية شديدة، فأولئك الذين كانوا يعادون النبي ويزدرون عند سماع الحق وكأنه يكون منهم أمران: أولهما: العداوة والبغضاء يطوون قلوبهم عليها وتدفعهم إلى عمل ما لا يجوز ويفتنون المؤمنين عن دينهم.
ثانيهما: الازورار عن الحق ازورارهم عما لَا يحبون، وانصراف صدورهم عنه ويريدون أن يستخفوا عن النبي - ﷺ - وينسون أن اللَّه بكل شيء عليم.
ثم يبين سبحانه كمال إحاطة علمه فيقول: (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ) ويريدون أن تكون غاشية لهم تلف إحساسهم، أي أنه سبحانه يعلم ما يطوون عليه
وأنه سبحانه يجازيهم بذلك الذي يطوون. ثم يقول سبحانه في بيان صفة علمه (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) وهذا التعبير القرآني يبين دقة علم اللَّه تعالى، و (ذات) هي الحقائق التي تلازم الصدور من خواطر خير وغيره، ومن خلجات القلوب وما تخفي السرائر، وكلمة (ذات) بمعنى صاحبة أو متلازمة الصدور لا تخرج إلى الجهر والإعلان، ولا تكون كذلك إذا خرجت من مكنونها إلى موضع الإعلان.
وإن ذكر هذا العلم الشامل المحيط بكل صغيرة وكبيرة لبيان أنهم يتحملون جزاءه سبحانه، وهو جزاء ممن لَا تخفى عليه خافية في السماء ولا في الأرض الذي يعلم ما تكن الأفئدة وتكسب الجوارح ويجازي كلا بما يستحق، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وكل بما اكتسب رهين.
* * *
خالق الكون ومدبره
(وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٦) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (٨)
* * *
(مَا) نافية، وكلمة (مِن) للدلالة على عموم الآحاد في كل الدواب، أي يعلم كل دابة علما دقيقا في مفردها وجماعتها، أي أن كل دابة على اللَّه رزقها، وكانت التعدية للدلالة على أن ذلك متحقق ثابث بمقتضى وعد اللَّه تعالى الذي لَا يخلفه، فعبر بـ (عَلَى) وهذا لأن اللَّه لَا يجب عليه شيء إلا ما كتبه سبحانه على نفسه، كما قال تعالى: (... كتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ...).
وليس هناك إلزام، ولكن هناك وعدًا والتزامًا، والدواب ما يدب على الأرض من أصغر الكائنات إلى الإنسان، وعلى الله رزق كل هؤلاء، والإنسان بكل ما يتخذه من أسباب ليس هو المنشئ للرزق فقد يتخذ كل الأسباب ولا يكون إلا الحرمان، فكل شيء من فضل الله، وعلى الإنسان أن يسعى ولابد من الأخذ بالأسباب بعد التوكل وتفويض الأمر للَّه، وليس لأحد أن يحسب أن أسبابه وحدها تموله وتمونه، بل لابد من التوكل على اللَّه والتفويض إليه.
والرزق بالنسبة للدواب والأحياء، هو ما يتمول به ويتغذى، فينمى جسده ونفسه ويكون بقاؤه، وذلك عام في الدواب جميعها، وبمقتضى إرادته الحكيمة يكون بعض الدواب رزقا للآخر، وكل ذلك بتقدير اللَّه تعالى وبفضله الذي أنشأ ودبر وحكم.
وأكد سبحانه أن كل دابة في ظل فضله وسلطانه يدبر أمرها ويحكم بتدبيره فقال: (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا) المستقر هو الإقامة في الأرض، ويصح أن نعدها مصدرا ميميا، فيكون المعنى ويعلم استقرارها، كما يصح أن نعدها اسم مكان أو زمان، أي يعلم مقامها في الأرض وزمان إقامتها.
ثم يؤكد سبحانه كل هذا بقوله: (كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) أي أن كل دابة ورزقها ومقامها واستيداعها في باطن الأرض وديعة مستردة بعد حين، كل ذلك مكتوب في كتاب واضح هو اللوح المحفوظ والعلم المكنون.
وإن من ألفاظ القرآن أنه (... لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) وإن وعده سبحانه الحق لا يقبل إخلافا ولا تخلفا، ولكن ناسا لَا يؤمنون بالخالق الرازق ذي القوة المتين يحسبون أنهم يرزقون أنفسهم، ويريدون أن يفعلوا فعل أهل الموءودة ويظنون أنهم إن قضوا على نسلهم ضمنوا رزقهم، ولقد نسوا قول اللَّه تعالى: (... وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ...).
وقوله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاق نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ...).
ولقد قال بعض الذين يتخذون الأسباب:
وكيف أخشى الفقر والله رازقي | ورازق هذا الخلق في العسر واليسر |
تكفل بالأرزاق للخلق كلهم | وللضب في البيداء والحوت في البحر |
الضمير (هُوَ) يعود إلى اللَّه جل جلاله، وهو في نفس كل إنسان وعقله وقلبه إذا كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر، والآية تؤكد تدبير اللَّه تعالى لخلقه وإمداده
إنما يراد بالستة أيام الأدوار الكونية، وقد أشار اللَّه تعالى إلى هذه الأدوار فيِ سورة فصلت: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (١١) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢).
فالأيام هي أدوار الخلق والتكوين كما تشير الآيات.
(وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) يصح أن نقول - واللَّه سبحانه أعلم يمراده - إن العرش كناية عن السلطان الكامل، وفي ذلك تصوير لتدبير ملكه وخلقه في أرزاقهم وأقواتهم وبقائهم والتماسك بين أجزاء السماء والأرض وكيف ينزل الغيث ومنبت الأرض بعد موتها وكيف يمسك السماوات والأرض أن تزولا، وكيف يحفظ الوجود كله وهو الحي القيوم الذي لَا تأخذه سنة ولا نوم. وهذا قد يكون معنى العرش فيما أحسب، والله لَا إله إلا هو وحده عنده العلم الكامل.
وذكر سبحانه أنه على الماء للإشارة إلى أنه سبحانه هو الذي يدبر أمر الأحياء كلها، وأن رزق الذي يسبح في الماء في كفالة اللَّه كرزق الذي يدب على الأرض.
ثم يقول سبحانه: (لِيبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ) أي ليعاملهم معاملة المختبر، إذ إن لهم إرادة تتجه إلى الخير وتتجه إلى الشر، وهو سبحانه خلقكم ومكَّن لكم في الأرزاق والأقوات والاستقرار في الأرض، ليظهر المؤمن فيشكر ويظهر الكافر فيكفر، و (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) فيها (أَحْسَنُ) بمعنى أخلص والمخلص الذي بلغ إخلاصه أعلى الدرجات.
فالذي ظهر شره يعد ميتا وإن لم يمت، وإن المشركين مع هذا الخلق وذلك الإبداع منكرِون اليوم الآخر، وأن اللَّه يعيدهم كما بدأهم أول مرة، ولذلك قال تعالى: (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)، (اللام) الموطئة للقسم، أي إن قلت لهم مؤكدا القول بعد هذه الآيات البينات في دلالتها وكمال وضوحها في قدرة الحكيم العليم الخالق لكل شيء، لئن قلت لهم يا محمد إنكم لمبعوثون من بعد الموت، لَا يكون الجواب بالإيجاب بل يكون بالسلب؛ لأن موضع استغرابهم أنه بعد الموت.
وقد أكد اللَّه تعالى قول النبي بالقسم وبالجملة الاسمية وإن المؤكدة (إِنَّكُم مبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ)، كما أكد إجابتهم باللام وبنون التوكيد الثقيلة (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) وقد كانت إجابتهم سلبا مع استغراب وجحود (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِين) أي إن إجابتهم، إن هذا أمر باطل كما أن السحر أمر باطل، وأن ذكره خيالات وأوهام كما أن السحر خيالات وأوهام، وإن الإخبار بهذا لَا دليل عليه إلا القرآن وإنه لسحر وقول ساحر وما هم بمصدقين لساحر أو مجنون.
في قوله تعالى: (وَلَئِنْ) اللام موطئة للقسم، ولئن أخرنا عنهم العذاب الذي نال مثله الذين من قبلهم إلى أمة أي مدة معدودة من السنين المحدودة القليلة؛ لأن التعبير بمعدودة يومئ إلى أنها قليلة، كما قال تعالى عن قول اليهود (وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً...)، فالأمة هنا بمعنى مدة.
وتطلق بمعنى الملة كقوله تعالى: (... إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ).
وهذه معان مشتركة في لفظ واحد كإطلاق لفظ " القُرء " على الطهر وعلى الحيض، ومعنى الآية الكريمة أنه إذا أخر اللَّه تعالى العذاب الدنيوي الذي ينالهم بريح عاصف أو رجفة تجعل عالي الأرض سافلها أو بحرب مخزيه لهم ترد الحق إلى أصحابه وتقمع الباطل وتزهقه فإنهم يقولون متحدين النبي - ﷺ - (مَا يَحْبِسُهُ)، ما يمنعه، وكلامهم هذا يتضمن تحديا وإنكارا وتكذيبا مثل الذين سبقوهم إلى الكفر والجحود.
إن سنة اللَّه في الذين خلوا من قبلهم أنه سبحانه يمهل الكافرين، يدارسهم رسولهم الحق يدعوهم إليه ويؤيدهم بالبرهان ويردده المرة بعد الأخرى حتى يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، كما أخذ قوم نوح وعاد وثمود وآل مدين وآل فرعون، وإذا كانت الدعوة خالدة كدعوة محمد - ﷺ - غالبهم الحق وغالبهم، فقد صابرهم، وحتى هاجر وكان الجهاد والمغالبة حتى وضع اللَّه الباطل وأزهقه إنه كان زهوقا.
ولذلك لما جاء لم يكن مصروفا بل كان لونا آخر ليس من نوع ما نزل بمن سبقوهم.
إنهم تحدوا اللَّه منكرين مستنكرين يقولون: (مَا يَحْبِسُهُ) فالاستفهام للاستنكار والإنكار والاستهزاء بما هددهم به القرآن، وإنهم إذ تحدوا محمدًا ذلك التحدي السافر المستهزئ فإن اللَّه تعالى يقول: (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ) ألا للتنبيه الزاجر الموقظ لغفلتهم التي كانت من فرط الاغترار بقوتهم الظاهرة.
(وَحَاقَ بِهِم مَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون) (حاق) معناها أحاط وهي تتضمن معنى لإنزال الجزاء. جاء في تفسير معنى (حاق) في مفردات الراغب الأصفهاني: قوله تعالى: (وَحَاقَ بِهِم مَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون) وقال عز وجل: (... وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ...)، أي لَا ينزل ولا يصيب، وأصله " حَقَّ ".
وخلاصة المعنى على هذا، أنه أحاط بهم ونزل الأمر الذي كانوا به يستهزئون، وهو حق عليهم استحقوه بأعمالهم واستهزائهم فكان جزاءً وفاقا لما فعلوا من قبل، وقوله تعالى: (مَا كانُوا بِهِ يَسْتهْزِءُونَ) يفيد أن استهزاءهم كان دائما ومستمرا، ولذا عبر بالماضي الدال على وقوعه في ماضيهم واستمراره في حاضرهم ومستقبلهم حتى نزل بهم ما تعجلوه.
* * *
الصبر خلق الإيمان
قال تعالى:
(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ
* * *
هذا نص كريم في بيان طبيعة النفس التي تخضع للحس دون العقل المدرك الذي يوازن بين الماضي والحاضر ويضبط نفسه ووجدانه، بل يكون هلوعًا عندما يصيبه ما يسوؤه وطموعا أشرا بطرا عندما ينال خيرا ويذهب عنه ما يسوؤه، فإذا أصابه خير بطر، وإذا أصابه سوء جزع.
أما المؤمن المدرك صبور لَا تبطره النعمة، ولا توئسه النقمة، وهو يضبط نفسه، وضبط النفس والصبر متلازمان لَا يفترقان.
(وَلَئِنْ) (اللام) هي الممهدة للقسم، إن حرف شرط ودخول اللام يؤكد فعل الشرط أي أن أذاق الإنسان منه سبحانه رحمة ثم نزعها إنه ليئوس كفور.
وهنا ملاحظات بيانية موضحة ومقربة للنص الكريم:
الملاحظة الأولى: قال سبحانه: (أَذَقْنَا الإِنسَانَ) أي جعله يذوق ويحس متنعما، وأضاف سبحانه وتعالى ذلك إليه لبيان عظمها وأنها منحة جليلة، وسماها سبحانه رحمة لوجوب شكرها وبيان أنه أعطاها لتكون مصدر خير للناس تعم ولا تخص، فهي ليست له خاصة ولكن ليكون شكرها نفعًا للناس.
الملاحظة الثانية: قوله تعالى: (ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ) يشير إلى التفاوت بين العطاء الكريم والنزع الحكيم، وفيه تفاوت بين العطاء والنزع، وكل ذلك بتقدير العزيز العليم، وفيه بيان أن نعيم الدنيا ليس بدائم بل فيها العطاء والمنع، ونعيم الآخرة دائم غير مجذوذ.
الملاحظة الثالثة: هي الانتقال إلى حال شديد مؤكد في قوله تعالى: (إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ) بصيغة المبالغة الدالة على الهلع والجزع واليأس من رحمة اللَّه التي
الملاحظة الرابعة: جواب القسم في قوله تعالى: (إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كفُورٌ) فيه تأكيد لعمق يأسه واستيلائه عليه وكفره، وكان التأكيد بصيغة المبالغة وباللام وبالجملة الاسمية وبـ " إن " المؤكدة.
وكل ذلك لأنه مادي لَا يؤمن إلا بالمادة ولا يرجو ما عند اللَّه الذي يعطي ويمنع ويعز ويذل، وهذا حال الإنسان الذي لَا يؤمن إلا بالدنيا، إذا كان المنع بعد العطاء.
أما حاله في النعماء بعد الضراء فقال تعالى فيه:
(اللام) ممهدة للقسم وما قلناه في قوله تعالى: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً)، يقال هنا، والنعماء هي النعمة السابغة، والضراء ما يضر في الجسم أو المال ويصيب النفس فيوجد بأسا وضرا لَا يرجى زواله عند غير المؤمن.
جواب القسم (لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي)، وكان جواب القسم لدخول اللام، والتأكيد بنون التوكيد الثقيلة، والقسم واللام ذاته تأكيد.
والسيئات الأمور التي ساءته والتعبير بالماضي دليل على تأكيد الذهاب، وهو لا يسند ذلك لِلَّهِ، بل يذكره من غير إسناد للمنعم وكأنه جاء عفوا من غير مسبب الأسباب ومقدر الأقدار.
ومن قوله تعالى، إنه يفرح بذلك ويفاخر به فقال: (إِنَّه لَفَرِحٌ فخُورٌ) أي إنه يغمره الفرح فينسيه ما كان فيه من ضراء وما أصابه من شقاء.
الأمر الأول: المطاولة على الغير وغمط الناس حقوقهم.
الأمر الثاني: إنكار نعمة المنعم معتقدا أنه مجهوده وعمله وليس بعطاء من اللَّه وإن التفاخر يوهم صاحبه أنه في حال لم يصل إليها غيره فيتخيل ما ليس عنده، وقد نهى النبي - ﷺ - عن هذا حين قال، " كلوا واشربوا والبسوا من غير سرف ولا مخيلة " وقال تعالى: (... إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا).
وهذا شأن الإنسان الذي لم يؤته اللَّه تعالى صبر المؤمنين ولا ضبط نفوسهم، ولذلك استثنى الذين صبروا وآمنوا وعملوا الصالحات من عموم الإنسان فقال تعالى:
إن الصبر وضبط النفس كريمان متلازمان، بل إن ضبط النفس شعبة من شعب الصبر الثلاث:
الشعبة الأولى: تحمل المشاق النفسية والبدنية، ومن المشاق النفسية المحن والنعم، ويكون تحمل المحن بتلقيها من غير تململ ولا تزلزل، أما النعم فيتلقاها بالشكر والصبر على القيام بحقها.
الشعبة الثانية: تكون بعدم الأنين أو الشكوى والضجر، وهذا هو الصبر الجميل الذي التزمه يعقوب عليه السلام.
الشعبه الثالثة: هي رجاء زوال ما يمتحنه به اللَّه تعالى، فلا ييأس من رحمة اللَّه ولا يكفر بنعمه وألا تغريه نعمة اللَّه بالكبر والبطر.
وقد استثنى اللَّه تعالى الصابرين، وذكر في أوصافهم العمل الصالح (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، أي عملوا كل شيء فيه صلاح أنفسهم وجماعتهم، وصلاح دينهم الذي هو عصمة أمرهم، وإن اقتران العمل الصالح بالصبر يدل:
أولا: على أن العمل الصالح يقتضي صبرا على الاستمرار فلا بد أن يكون مستمرا دائما، ولذلك قال - ﷺ -: " أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل " (١)، كما أنه قال: " إن الله يحب الديمة في الأعمال " (٢)، ثانيا: يدل اقتران العمل الصالح بالصبر على أن العمل الصالح يحتاج إلى تحمل بعض المشاق، كما قال رسول اللَّه - ﷺ -: " والذي نفسي بيده لَا يقضى الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له، وليس ذلك لأحد غير المؤمن " (٣).
وقد بين سبحانه وتعالى جزاء الصابرين العاملين فقال: (أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَة وَأَجْرٌ كَبِير) الإشارة إلى أن الجزاء مغفرة، إذ إن اللَّه يستر ما لهم من أعمال غير مقبولة بغفرانه، لأن الصبر والعمل الصالح يستران بذاتهما العمل غير الصالح بأمر اللَّه تعالى: (... إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ...)، وبعد هذه المغفرة الساترة يكون الأجر الكبير الذي هو عظيم في ذاته وبلغ قدرا لَا يدرك كنهه إلا اللَّه معطيه.
________
(١) رواه البخاري؛ الرقائق - القصد والمداومة على العمل (٦٤٦٤)، وبنحوه مسلم: صلاة المسافرين وقصرها - ففية العمل الدائم من قام الليل ونحوه (٧٨٣).
(٢) رواه البخاري؛ الرقائق - القصد والمداومة على العمل (٦٤٦٤)، وبنحوه مسلم: صلاة المسافرين وقصرها - ففية العمل الدائم من قام الليل ونحوه (٧٨٣).
(٣) جزء من حديث رواه مسلم: الزهد والرقائق - المؤمن أمره كله خير (٢٩٩٩).
________
(١) الآفنة: التي تجمع بين النقص، وضعف العقل، والحمق. راجع لسان العرب - أفن.
(الفاء) فاء الإفصاح لأنها تفصح عن شرط مقدر، والشرط تحريض على الصبر وتقديره، إذا لم تصبر فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك. أي أنه لَا مناص من الصبر على الأذى والتأني لهم حتى يكون النصر المبين، وإلا فإنك تنزل عند رغباتهم الآثمة. (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ). (لعل) هنا فيها إشارة إلى ما يرجون، فلعلك أنت يا رسول اللَّه إلى خلقه أجمعين تجاريهم في ترك بعض ما يوحى إليك من شرع مرضاة لهم، فتحرم ما يحرمون وتبيح ما يبيحون. تحرم ما يحرمون من طيبات، وتجيز طواف العرايا ثم تنزل في مرضاتهم حتى تسيغ لهم عبادة الأوثان أو يكون السكوت عنهم فيها.
(وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) الضمير في (بِهِ) يعود إلى (مَا يُوحَى)، (ضَائِق) أي يعرض أمر غريب على نفسك وهو أن يضيق صدرك ببعض ما أنزل عليك وبعثت من أجله وبه اهتديت وبه تهدي.
ليس المعنى أن النبي - ﷺ - قد ضاق صدره أو يضيق، إنما المعنى أنهم يرجون أن تترك بعض ما أوحى إليك وأن يضيق صدرك بإيذائهم فتتركه مضطرا.
والنبي - ﷺ - لم يكن منه شيء من ذلك ولا يفكر في شيء منه ولكن يحرضه اللَّه تعالى على البقاء على الدعوة وتبليغ الرسالة غير ملتفت إلى أحد منهم، ثم قال تعالى: (أَن يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) وهذا متعلق بمحذوف " كراهة أن يقولوا لولا " أو نقول إنه متعلق بـ (ضَائِقٌ) ويكون المعنى على هذا:
وقد أنكروا على النبي - ﷺ - أنه فقير (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ منَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ).
وأنكروا أن يكون بشرا منهم رسولا (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ...).
أنكروا الأمرين وطلبوا معجزة واقعة لأحدهما وقالوا: (لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ) أي مال مكنوز يفعل فيه مثل الذين يكنزون الذهب والفضة. والمعجزة أن ينزل عليه إنزالا من غير أي سبب من أسباب الكسب فيكون له جبل من ذهب وآخر من فضة، وبذلك يدفع فقره ويكون اتباعه لثروته ولإنزال هذه الثروة والإعجاز بها، أما الأمر الثاني فيدفع بأن يكون معه مَلَك، وتكون الرسالة برسول سماوي لَا برجل يمشي في الأسواق مثلهم، وقد بين اللَّه استحالة ذلك بقوله تعالى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكَا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ).
ولقد كان النبي - ﷺ - حريصا على إيمانهم راغبا فيه، ولذا قال تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦).
ولذا قال تعالى: (إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ)، أي إنك مقصور على الإنذار بمقتضى الرسالة وليس عملك الهداية، بل التوجيه والتخويف لمن عصى، والتبشير لمن اهتدى، وَوَضع العلامات على الطريق لكيلا يضل أحد (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ وَكيلٌ)، أي إنه جل جلاله حفيظ على كل شيء، فتوكل عليه في دعوتك ولا تأبه لهم، فاللَّه سبحانه حافظك منهم ومن طغواهم وهو سبحانه عالم بكل ما يصنعون، ومعاقبهم عليه، وهم راجعون إليه سبحانه وتعالى، ولن يفلتوا من جزاء ما يفعلون، فتوكل على اللَّه الحي القيوم، وامض فيما أمرك به؛ إنه عليم بذات الصدور.
* * *
قال تعالى:
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٣) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٦)
* * *
(أَمْ) هنا بمعنى (بل)، فهي منقطعة وسياق القول أنهم بطلبهم أن ينزل على النبي - ﷺ - كنز من السماء أو يكون معه ملك ينكرون المعجزة القرآنية، فواجههم اللَّه تعالى بالتحدي المتجدد المستمر، والإضراب هنا فيه انتقال إلى هذا التحدي.
لقد تحداهم القرآن الكريم أن يأتوا بعشر سور مثله فعجزوا فتحداهم بسورة فعجزوا، وقد صور الزمخشري أن الانتقال من العشر إلى الواحدة تَنَزُّل في التحدي كمن يقول لمن يتعلم الكتابة، اكتب عشرة أسطر فلا يستطيع، فيقول له اكتب سطرا فإذا لم يكتب كان ذلك دليلًا على العجز المطلق، ولقد ادعوا على النبي - ﷺ - أنه افتراه، فتحداهم أن يأتوا بعشر سِوَرٍ مثله مفتريات، مثله في حسن
لقد تضمن اعتراضهم أمرين، إنكار أن يكون القرآن معجزة، والثاني أنه مفترى وليس نازلا من اللَّه تعالى، ولقد اتجه الرد عليهم إلى إعجازهم وعجزهم، لأنه الأمر الذي أنكروه ابتداء. فقل لهم يا محمد أن يأتوا بعشر مفتريات، واختلقوها اختلاقا لتكون على النهج الذي جاء به القرآن فإنكم أرباب البيان وأهل الفصاحة واللسان، واجعلوا الحكام في هذا الأمر منكم ممن يلغون لغوكم وينكرون الإعجاز مثلكم، وقوله من دون الله تعالى يعني غير اللَّه من أمثالكم ممن يضادون الله تعالى ويعادونه ولا تتقيدوا بواحد أو اثنين بل ادعوا من استطعتم عددا وقوة وعلما بأساليب البيان إن كنتم صادقين في أنه ليس بمعجز وأنه ليس من عند اللَّه وإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فأنتم الكاذبون.
(الفاء) في قوله تعال: (فَأْتُوا) تفصح عن شرط مقدر يناسب ما بعده، والتقدير، فإن كان افتراه كما ادعيتم فأتوا بعشر سور مثله مفتريات إن كنتم صادقين في ادعائكم افتراءه، وما هو بمفترى فلستم صادقين.
(الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، تحداهم بأن يأتوا بمن يحكم في هذا الأمر بأن يأتوا بعشر مفتريات، ثم يوازنوا بين القرآن وما جاءوا به فإن لم تستجيبوا فقد قامت الحجة، والاستجابة طلب الإجابة، ويراد بها التحدي للإجابة، والإجابة بقوة، والضمير في قوله تعالى: (لَكُمْ) للنبي - ﷺ - ولمن اتبعه، وذكر المفسرون أنه قد يكون للنبي وحده مخاطبا بضمير الخطاب للجمع تضخيمًا وتعظيمًا لشأنه، ولكن لم يعهد ذلك في القرآن كثيرا، وإن كان - ﷺ - في المقام الأعلى عند الله فهو صفيه وحبيبه وخاتم النبيين. ويتضح هنا أمران:
وإذا كانوا لم يستجيبوا ويأتوا بعشر سور مثله فقد لزمتهم المحجة، فوجب عليهم أن يؤمنوا ووجب عليكم معشر المؤمنين أن توثقوا علمكم بأنه من عند الله تعالى، ولذا قال تعالى مخاطبا المؤمنين: (فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) (الفاء) واقعة في جواب الشرط، واعلموا بالبرهان القاطع الحاسم أنه ما أنزل إلا بعلم اللَّه تعالى.
وكلمة (أَنَّمَا) أداة حصر تنفي وتثبت، فهي تنفي أن يكون مفترى وأثبتت أنه أنزل بعلم اللَّه فليس مفترى عليه سبحانه. وهذا يدل على أن الله تعالى بعث محمدا - ﷺ - به ليكون معجزته الكبرى ودليله على رسالة ربه، وإن اللَّه تعالى معلمكم صدقه ولو كان من غيره ما كان معلمه.
الأمر الثاني: هو أن لَا إله إلا هو، لأنه إذا ثبت أن القرآن من عند اللَّه وبعلمه نزل، فيكون ما اشتمل عليه حقا وصدقا، ومما اشتمل عليه الوحدانية فلا معبود إلا اللَّه تعالى وهو العزيز الحكيم.
ولقد قال بعد ذلك، والخطاب للمسلمين (فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ) (الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي إذا قامت الحجة على أنه من عند اللَّه، فبايعوا محمدا - ﷺ - على الإسلام وأخلصوا وجوهكم للَّه وأحسنوا، والاستفهام هنا يتضمن معنى الطلب، وقال علماء البلاغة: إن أبلغ صيغة تدل على الطلب المؤكد هي الصيغة التي تصدر بالاستفهام مثل: (... فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهونَ)، ومثل (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
والتخريجان محتملان وإنى أميل إلى التخريج الأول فهو أقرب؛ ولأنه لا تقدير فيه، وإن أولئك الذين أنكروا القرآن بعد قيام الدليل بعجزهم عند التحدي إنما يؤمنون بالحسيات فطلبوا أن يكون لمحمد كنز أو يكون معه مَلك، وزين لهم ضلالهم أنه لَا يمكن أن يكون الرسول من عند اللَّه فقيرا، ولابد أن يكون عظيما (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ).
ثم بين اللَّه لهم أن الدنيا يعطيها للبر والفاجر، والآخرة لَا يعطيها إلا لمن أحب، وأن التمتع في الدنيا لَا يلزم أن يكون متمتعا في الآخرة، فهما مفترقان وليسا متلازمين، ولكن التلازم في الإيمان والآخرة، ولذا قال تعالى:
وفى هذه الآية يبين سبحانه أن الحياة الدنيا وزينتها تسير على سنة اللَّه في الوجود مربوطة بالأسباب والمسببات وليسر لها صلة بالفضل في الآخرة، فالحياة وزينتها تكون للمؤمن والكافر إذا أخذ كل منهما بأسبابها، ومتعة الدنيا ليست دليلًا على متعة الآخرة بلِ قد يكون اختيارا شديدا بعده العذاب، كما قال تعالى:
(وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (٣٤) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥).
وقوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا) شرط جوابه دوله تعالى (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا) ومعنى وفاء الأعمال أي إعطاء نتائجها، فإذا زرع كان زرعه موفورا، وإذا صنع كانت ثمرات صناعته كاملة غير منقوصة، وكذلك إذا تاجر لَا يحرم من شيء من نتائج عمله إلا أن يشاء اللَّه تعالى: (وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسونَ)؛ لأنهم في الدنيا لَا يبخسون ثمرة عمل من أعمالهم.
وقوله تعالى: (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا) فيه إشارة إلى سنة اللَّه تعالى في هذه الدنيا أن الأمور تربط بأسبابها، والأعمال تربط بنتائجها فمن أجاد عملا في الدنيا أخذ حظا فيه سواء أكان مؤمنًا أم كافرًا. وهذا قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (١٨) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (١٩) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (٢١).
هذا أمر الدنيا ومتاعها وزينتها، أما الآخرة فقد قال تعالى فيها وفيمن اقتصر سعيهم على طلبها:
أولئك غرضهم الزينة والتفاخر كما قال تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفارَ نَبَاتُهُ...).
(مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ)، وفي قوله تعالى: (وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا) أي فسد ما صنعوا.
والحَبْطُ أن يكون فساد العمل أو الشيء من ذاته وليس من أمر خارج عنه، ويقول الراغب الأصفهاني في مفرداته، أصل الحَبْط من الحَبَط وهو أن تأكل الدابة حتى تنتفخ بطنها.
والحبط فساد الأمر من ذاته لَا من أثر خارج عنه كما أشرنا، وقد قال الراغب رضي اللَّه عنه في المفردات أيضا: " حبط العمل عن ثلاثة أضرب: أحدها: أن تكون الأعمال دنيوية لَا تغني في القيامة عنا كما قال تعالى:
(وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (٢٣).
والثاني: أن تكون أعمالا أخروية في ظاهرها لكن لم يقصد بها صاحبها وجه اللَّه تعالى، فإنه يؤتى بصاحبها يوم القيامة فيؤمر به إلى النار.
والثالث: أن تكون أعمالا صالحة ولكن بإزائها سيئات وهو ما يشار إليه بخفة الميزان.
وإن أولئك الذين قال فيهم سبحانه: (وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا) هم الذين مما نظروا إلا إلى الدنيا وزينتها ولم يفكروا في الآخرة؛ لأنهم لَا يؤمنون بالبعث ولقاء اللَّه تعالى، وما كانوا يصنعون المعروف إلا للرياء والسمعة فكانوا مشركين.
* * *
أهل الحق وأهل الباطل
قال تعالى:
(أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (١٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (١٩) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ
* * *
هذه موازنة بين الذين يتبعون الحق والذين يطلبون الدنيا وزينتها وتكون وحدها مقصدهم ويشركون باللَّه تعالى، وبين الذين يؤمنون باللَّه.
(أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ) (الفاء) هنا مؤخرة عن تقديم، وهي تفيد أن الاستفهام المتسائل مترتب على ما قبله من عمل غير فاضل، وكلمة (مِن) اسم موصول بمعنى الذي، والمعنى أمن كان على بينة من ربه كمن هو في عماية عن الحق ولا يدرك إلا الحياة الدنيا، وحذفت الموازنة الدالة على المفارقة الواضحة بينهما، إذ فرقٌ بين من يطلب الحق الباقي ومن يطلب العاجل الفاني.
(البينة) الأمر البين الذي تدركه العقول السليمة في غير اعوجاج، ويصح أن يراد به الإسلام؛ لأنه بَيِّن لَا يأتي إلا بما تقبله العقول ولا ينهى إلا عن الأمر المنكر غير المعقول؛ ولأنه دين الفطرة السليمة.
أسند اللَّه تعالى البينة إلى ربه، للدلالة على أنه الهادي إليها بمقتضى ما ركزه اللَّه تعالى في النفوس، وبمقتضى ما هدى إليه بالرسالات الإلهية، وقال تعالى:
ذكر اللَّه تعالى بعد البينة أن لها شاهدًا من اللَّه تعالى: (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ)، أي يجيء شاهدا من اللَّه، فالضمير الأول في (يَتْلُوهُ) يعود إلى البينة، وعاد مذكرا لأن البينة البرهان القاطع الحاسم الذي تهدي إليه الفطرة، فعاد الضمير مذكرا للإشارة إلى أنها برهان بين واضح الدلالة على الوحدانية. والضمير الثاني في قوله (شَاهِدٌ) يعود على اللَّه ربك، أي أنه هداك وأيدك، والشاهد هو القرآن الكريم النازل من لدن عزيز حكيم.
وإن القرآن الكريم جاء مع البينة، وقلنا إنها الإسلام، فكيف يقال إنه وليها ونقول في ذلك إن الإسلام يكون دفعة واحدة، لأن لبه شهادة أن لَا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه، والقرآن نزل منجما فهو كان يتلى بعده لَا قبله، وإن قلنا إن البينة هي برهان العقل المدرك فالقرآن جاء واليا، جاء به الحق.
وقد نقول وبحق نقول: إن القرآن جاء مع البينة مؤيدا لها، والتعبير بأنه تلاها للإشارة إلى التلاوة فيه وهي الترتيل، كما قال تعالى: (... وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)، وكما قال سبحانه: (... وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ...)، وللإشارة إلى أنه هناك مراتب في الإدراك، فالأولى أن تجيء البينة، والمرتبة الثانية هي التأييد من اللَّه بالقرآن ولا تراخ بين الرتبتين بل هما متصاحبتان، كما تقول: فَكِّر ثم اقرأ، أي اقرأ قراءة متفكر متدبر، وكأن القرآن شاهد؛ لأنه ببلاغته، وفصاحة كلمه، وعمق معانيه مع وضوحها، وعلمه وقصصه الحكيم كان المعجزة الخالدة، فهو شاهد دائم ناطق بالحق إلى يوم القيامة، وفيه الدلالة الواضحة على رسالة محمد - ﷺ - إلى يوم الدين.
ثم أشار سبحانه إلى تصديقه للكتب السابقة وبشارتها به فقال تعالى: (وَمِن قَبلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً)، فدلت هذه العباره على أمرين.
الأمر الثاني: الذي دلت عليه الآية أنه مصدق لما بين يديه من الكتاب، وأن الإيمان به إيمان برسالة الرسل أجمعين كما صرح بذلك القرآن الكريم.
وقوله تعالى: (إِمَامًا وَرَحْمَةً) وصف لكتاب موسى وهو التوراة التي نزلت عليه ولم ينس منها خط ولم يحرفوها أو يبدلوها، فلا يستدل بالمطبوع الذي يُغيَّر إلى الآن آنًا بعد آنٍ تقرأه تجد في ذاته دليل بطلانه وبرهان بهتانه.
ومعنى قوله تعالى: (إِمَامًا) أنه يؤزم به في الدين، ومعنى (رَحْمَةً) أن ما اشتمل من شرائع في الزواج والطلاق والعقوبات هو الرحمة؛ لأن من رحمة اللَّه بعباده أن يؤخذ الجاني بشدة رادعة زاجرة فالشدة العادلة على الجاني رحمة بالمجني عليه، والرفق معه ظلم وقسوة على المجتمع، وهنا لابد من الإشارة إلى أمرين:
الأمر الأول: كيف يكون ما جاء به موسى إماما يأتم به أتباع محمد - ﷺ -.
الأمر الثاني: أشريعة موسى نسختها شريعة محمد - ﷺ - أم لم تنسخها؟ والجواب عن الأول أن شريعة موسى في ضمن شريعة محمد، ولو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبع ما جاء به محمد - ﷺ -، فكتاب موسى إمام باعتباره مقدما في الزمن، والشريعتان في معناهما واحد والاختلاف في فروع جزئية تابعة للأزمنة.
أما الإجابة على أن شريعة محمد - ﷺ - نسخت شريعة موسى عليه السلام فهو أن شريعة محمد - ﷺ - نسخت من شريعة موسى فروعا ولم تنسخ أصولا، وما جاء به محمد - ﷺ - هو ما يجب اتباعه. ولقد روى سعيد بن جبير عن أبي موسى - رضي الله عنهما -
وقد قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى...).
قال تعالى: (أُوْلَئِكَ يُؤْمِونَ بِهِ) إشارة إلى الذين على بينة ويؤمنون بموسى عليه السلام، فرسالة محمد - ﷺ - جامعة للرسالات كلها، كما قال تعالى: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦).
(وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) الأحزاب جمع حزب، وهو من يحزب لفكرة أو لقوم أو لعصبية غير مؤثر الحق في ذاته إنما يؤثر من يتعصب له حقا كان أو باطلا وإن التحزب كالتعصب يعمي عن الحق وهو يعمي ويصم، لا يطلب الحق في ذاته إنما يطلب على هوى من يتعصب لهم، والأحزاب يصح أن تفسر في موضوع الآية الكريمة بأنها القبائل التعصبة المتجمعة لمحاربة الحق وكانت القبائل كذلك، وسماهم القرآن الأحزاب لأنهم تجمعوا متحزبين ضد الدعوة الإسلامية وذهبوا في غزوة الأحزاب ليقتلعوا الإسلام من المدينة فخاب فألهم وطاش سهمهم وارتدوا خاسرين بريح كريح ثمود، والذين كفروا به من الأحزاب لا يؤمنون بمحمد - ﷺ - ولا يؤمنون بموسى عليه السلام ويهددهم اللَّه تعالى بقوله: (فالنَّارُ مَوْعِدُهُ) فالنار مكان تنفيذ وعد اللَّه تعالى فيهم، وقوله تعالى هذا لَا يخلو من تهكم لاذع بهم؛ لأنهم كانوا يرجون رحمة، فإذا بهم يلقون عذابا وكأنهم عقدوا موعد اللقاء فخاب ظنهم وكانت النار موضعه.
________
(١) رواه أحمد: أول مسند الكوفيين - حديث أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه (١٩٠٦٨).
وأكد سبحانه النهي عن الريب بقوله تعالى: (إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ) والضمير يعود إلى البيان والقرآن، والحق هو الأمر الثابت الصادق الذي لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد جاء من ربك الذي خلقك ودبر أمورك بحكمته. وقد أكد سبحانه وتعالى أنه الحق بـ (إنَّ) المؤكِّدة، وبأنه من ربك الذي خلق فقدر وهدى، فاجتمع له فضلان فضل ذاتي لأنه الحق في ذاته، وفضل إضافي يؤكد أنه الحق، وهو أنه من عند اللَّه.
ثم قال تعالى: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ) الاستدراك هنا معناه، أن مقتضى الإسلام بينة وبرهان، وأنه حق ثابت أن يؤمن الناس جميعا ما دامت لهم عقول تدرك وقلوب تؤمن، ولكن أكثر الناس لَا يؤمنون، وكان التعبير بالمضارع للإشارة إلى أن أكثر الناس لهم قلوب ليس الإيمان من شأنها بل هم دائما متمردون على الحق وظلم الحقيقة، وهم مفترون على اللَّه تعالى ويكذبون عليه، ولذا قال تعالى:
إن الكفر مباءة للآثام، تعيش فيه وتفرخ، ويتبع الإثم إثم مثله، ويأخذ بعضه بحَجُزِ بعض في سلسلة متصلة تبدأ بالشرك باللَّه تعالى ثم بالكذب عليه بتحريم ما أحل اللَّه على أنه من عند اللَّه، والجحود بما أنرل سبحانه والافتراء عليه تعالى وفساد اعتقادهم بأن يعبدوا الأوثان ويقولوا إنهم شفعاؤنا. وهكذا يكون الشرك كالمعاطن التي تحوم حولها الحشرات والجراثيم وكل الموبقات.
افترى الكذب معناه قصده وأراده، والكلمة نكرت لبيان أن الكذب على اللَّه تعالى قل أو كثر ظلم عظيم بل أعظم الظلم، وأن الشرك ظلم عظيم لأن من أشرك ضلل نفسه وضلل الناس ولأنه ارتكب بهتانا عظيما.
ويقول سبحانه: (أُوْلَئِكَ يُعْرَضُون عَلَى رَبِّهِمْ) الإشارة إلى الذين افتروا الكذب، يعرضون على ربهم الذي خلقهم ورباهم وحفظهم وهو الحي القيوم.
وهم يعرضون على ربهم ويلقونه سبحانه غير مختارين، وهو اللقاء الذي لا يتمنونه؛ لأنه لقاء الذين كفروا بربهم يعرضون عليه كما يعرض الجاني على شهوده ليشهدوا عليه، كما أنهم يرون ما أنكروا وكذبوا.
وفى المحشر والحشد الجامع يقول المشاهدون من ملائكة وأنبياء وصديقين (هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبوا عَلَى رَبِّهِمْ) مشيرين إليهم استنكارا لفعلهم وبيانا لشناعة ما كانوا عليه وحسبهم ذلك سوءا وفحشا واستحقاقا للعذاب. وإن ذلك العرض وتلك الشهادة أبلغ عقاب معنوي، ومن بعد ذلك يكون العقاب المادي على ذلك الظلم الفاجر الآثم والشرك الضال المضل.
والأشهاد جمع شاهد كأصحاب جمع صاحب، أو جمع شهيد كأشراف جمع شريف، والمعنى واحد، وقد ختم اللَّه تعالى الآية بقوله تعالى: (أَلا لَعْنَة اللَّه عَلَى الظَّالِمِينَ) (ألا) أداة تنبيه وفيها توكيد للحكم الذي يجيء بعدها، و (لَعْنَةَ اللَّهِ) مقته وعذابه والطرد من رحمته وقوله: (الظَّالِمِينَ) إظهار في موضع
وقد ذكر اللَّه أفعال أولئك الظالمين فقال تعالت كلماته:
يذكر اللَّه تعالى أحوال الذين يفترون على اللَّه الكذب، وقد ذكرنا كيف كانوا يفترون، وهذه الحال التي ذكرت هي الصد عن سبيل اللَّه تعالى بإيذاء المؤمنين وفتنهم ليقولوا كلمة الكفر وهم لها كارهون، وقد بالغوا في إعناتهم حتى مات منهم من مات تحت حر العذاب الذي ابتدعوا فيه طرائق تتنافى مع كل إنسانية بل ووحشية، حيث كانوا يحمون الحديد ويصبونه محميا في فرج المسلمة حتى لقد اضطر بعض المسلمين أن ينطق كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان. وكان من صدهم أن النبي - ﷺ - عندما كان يذهب داعيا في الحج القبائل كان يذهب منهم من ينفرهم من الإسلام كأبي لهب، وأن الأوس والخزرج عندما استجابوا للنبي - ﷺ - كانوا يلتقون به على استخفاء منهم وفي سر لَا إعلان فيه، وهم يتبعونهم كلما علموا باجتماعهم به، ولذا قال تعالى في وصف هذه الحال: (الَّذِينَ يَصُدُّون عَن سَبيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا) وسبيل اللَّه هي سبيل الحق والإسلام كما قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صَرِاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ...).
(يبْغُونَهَا عِوَجًا) أي يريدونها ملحفين في ذلك أن تكون معوجة بأن يلين معهم في عبادة الأوثان وتحريم ما أحل اللَّه ويرضى بما يرضون، أو يريدون ويبغون أن يكون أتباعه معوجين منحرفين عن الحق وأن يرتدوا عن دينهم الذي ارتضوا، وقد أشار سبحانه إلى السبب الذي جعلهم يوغلون في الكفر ذلك الإيغال ويمعنون فيه هذا الإمعان، فقال تعالى في حالهم التي أضلتهم: (وَهُم بِالآخِرَة هُمْ كَافِرُونَ).
وقد أكد سبحانه كفرهم بالبعث واليوم الآخر وأنه لَا حساب ولا عقاب، أكده أولا بالضمير وهو قوله تعالى: (وَهُم) وتكراره في قوله تعالى: (هُمْ كَافِرُونَ) وأكده بالجملة الاسمية.
وذلك ضلالهم وهو الضلال البعيد، وأنهم بغوا وطغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد وحسبوا أنهم الغالبون وأنه لَا يعجزهم أحد وذلك سر طغيان الطغاة.
لذا قال تعالى ما يفيد أنهم أعجزوا العباد فلن يعجزوا رب العباد.
الإشارة إلى الذين يصدون عن سبيل اللَّه تعالى ويبغونها عوجا ويريدون أهلها معوجين غير سائرين في الجادة، والإشارة إلى الموصوفين بصفات تدل على أن هذه الصفات سبب لما يقومون به من تحد للَّه تعالى، ولذا قال سبحانه: (لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ)، أي لم يكونوا معجزين للَّه عن أن ينزل بهم ما أنزل بمن سبقهم بجوائح ماحقة كخسف في الأرض أو رجفة أو ريح صرصر عاتية أو حرب مجلية مخزية، والمعنى أنهم لم يكونوا بحالهم وكينونتهم معجزين اللَّه في الدنيا، فاللَّه هو القهار والغالب على كل شيء فلا ولي لهم يقاوم إرادة اللَّه تعالى فيهم، ولذا قال تعالى: (وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن أَوْلِيَاءَ) أي ما كان لهم أولياء يعاندون اللَّه تعالى فيما يريد فيهم ويقاومون إرادته، وهذا ما يدل عليه قوله تعالى: (مِّن دُونِ اللَّهِ) فإنها تدل على المضادة لما يريد اللَّه سبحانه وتعالى فهم لا يستطيعون نصرتهم ولا منع العذاب عنهم، قالوا بمعنى النصر المانع وكلمة (مِّن) في قوله تعالى: (مِنْ أَوْلِيَاءَ) لتعميم النفي أي ما كان لهم أي ولي من الأولياء.
وما بعثهم على تلك الآثام التي ضاعفت لهم العذاب إلا أنهم لم يستمعوا إلى الحق ولم يبصروا الآيات، ولذا قال تعالى: (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ) ذكر اللَّه تعالى في هذا النص الكريم السبب في هذه المآثم فذكر أنه أمران:
الأمر الأول: أنهم لَا يستطيعون السمع، وليس المراد أنهم صُمٌّ حقيقة، بل شبهت حالهم بحال الأصم الذي لَا يستطيع السمع؛ ذلك لأنهم لَا يتدبرون ما يسمعون من دعوة إلى الحق وآيات تتلى فيها الإعجاز فكانوا كأنهم لايسمعون، وقد ذكرهم اللَّه في مواضع أخرى (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (١٧٩).
الأمر الثاني: قوله تعالى: (وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ) أي ينظرون نظرة تأمل للكون ويدركون أسراره، والجمع بين الماضي والمستقبل في قوله تعالى: (وَمَا كَانُوا يُبصِرُونَ) للدلالة على استمرار غفلتهم عن الآيات وتجددها وقتا بعد آخر، فكلمة " كان " تدل على الماضي وكلمة (يُبصِرُونَ) تدل على المستقبل، كذلك قوله تعالى: (مَا كَانوا يَسْتَطِيعُون السَّمْعَ) واللَّه أعلم بمراده في كتابه.
ولقد حكم سبحانه بعد ذكر عذابهم في الدنيا والآخره فقال تعالى:
(أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢١)
وأنهم خسروا بضلالا عقولهم، وخسروا أنفسهم بظلمهم، فالظلم خسارة للنفس، وخسروا أنفسهم بكفرهم باليوم الآخر وعدم رجاء ما عند اللَّه، وبعذاب الدنيا والآخرة، ثم قال تعالى: (وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانوا يَفْتَرونَ) أي غابت عنهم الأوثان التي كانوا يحسبونها شفعاء عند اللَّه، وتلفتوا فلم يجدوها والتعبير بـ (ضَلَّ) يفيد أنهم طلبوها فلم يجدوها، أو توهموا أنها تنفعهم فلم تجدهم، وفى تعبيره سبحانه عن الأوثان بقوله تعالى: (مَّا كَانوا يَفْتَرُونَ) إشارة إلى أنها لا وجود لها في ذاتها وإن وجودها كآلهة إنما هو في أوهامهم وافترائهم. ثم يؤكد سبحانه خسارتهم البالغة إلى أقصى حد.
قال الخليل وسيبويه إن (لا جَرَمَ) كلمة واحدة معناها حق ويكون المعنى:
حق وثبت أنهم في الآخرة هم الأخسرون، فالنص يثبت أنهم خسروا وأنهم بلغوا في الآخرة أقصى درجات الخسارة، ولذا جاء جمع (الأَخْسَرُونَ)، وفعل التفضيل هنا يدل على أقصى درجات الخسارة، أي لَا خسارة فوقها أو مثلها بل هي فوق كل خسارة، وما ظنك بخسارة مؤداها البقاء في الجحيبم خالدين فيها إلى ما شاء اللَّه تعالى.
وروي عن الخليل أيضا في (لا جَرَمَ) أن معناها لابد ولا محالة فهي تفيد التأكيد بأنهم في أعلى درجات الخسارة.
والأصل في (لا جَرَمَ) أن لَا نافية، وهي رد لهم في أطماعهم، وبيان بطلانهم، وجرم معناها كسب، والمعنى لَا كسب ذلك الفعل لهم - أنهم الأخسرون. ومؤدى لَا جرم حق كما ذكرنا أولا.
بعد أن بين سبحانه وتعالى حال الذين كفروا في الدنيا وفي الآخرة، وأنه في الدنيا غرور بها وزينتها، وفي الآخرة خسران مبين وشقاء وجحيم، بين سبحانه حال المؤمنين فقال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ)، ذكر سبحانه وتعالى لهم أعمالا ثلاثة:
أولها: الإيمان الذي يقذفه اللَّه في قلب المؤمن فيخضع للحق ويذعن له وإن القلب إذا أشرق بالإيمان واستضاء به كانت الحكمة والاستقامة في القول والعمل فلا يكون منه إلا الخير والإذعان للحق.
والثانية: العمل الصالح وهو ثمرة الإيمان وأن الايمان إن لم يصاحبه العمل كان ذلك نقصا في الإذعان، فإن الإخلاص يتولد عنه الحكمة التي يتولد عنها القول الطيب والعمل الطيب.
والحال الثالثة: هي الإخبات إلى اللَّه، والإخبات هو الاطمئنان، والكلمة مثل للأرض والخبت، وهي الأرض المصمتة (١) السهلة، والاطمئنان الى اللَّه يتضمن تصديق ما وعد، والخضوع لما أمر ونهى، وقال تعالى: (إِلَى رَبِّهِم) لما يفيده معنى الربوبية والخلق والقيام على حفظهم وتربيتهم وما يترتب على ذلك من الاطمئنان والخضوع وعدم التمرد علمِه سبحانه والخروج عن طاعته.
وقد أكد سبحانه هذه الأحوال بـ (إنَّ) المؤكدة، وذكره بالاسم الموصول للدلالة على أنه سبب الجزاء الذي يعطيهم ربهم، والثناء الذي أضفاه عليهم خالقهم.
________
(١) أصْمَتَتِ الأرضُ " أحالتْ آخرَ حَوْلَيْنِ. كما في القاموس، والمراد هنا الساكنة الممهدة للسير.
هذا مكان الذين آمنوا، وذلك مهوى الذين يصدون عن سبيل اللَّه، وقد وازن سبحانه وتعالى بين الفريقين فقال تعالت كلماته:
المثل هو الحال والشأن، الفريقان فريق من ضل وغوى فكان في السعير، ومن آمن واهتدى وعمل صالحا واطمأن إلى حكم ربه فكان في الجنة، فجعل فريق الغواية كالأعمى الذي لَا يبصر والأصم الذي لَا يسمع، وفريق الهداية كالبصير الذي أوتي حدة في البصر حتى كان بصيرا يرى الأشياء والحقائق، والسميع الذي أرهف سمعه حتى صار يسمع دبيب النمل.
(هَلْ يَسْتَوِيَانِ)؟ هذا استفهام إنكاري بمعنى إنكار الوقوع، أي لَا يستويان مثلا أي حالا وشأنا، بل يفترقان ويكونان بما يتفق مع حال كل منهما، فالأعمى الذي لَا يرى حتى يعرف الطريق، والأصم الذي لَا يسمع الهادي الذي يرشده فهو يتردى في المهاوي غير رشيد ولا مسترشد، والبصير الذي يرى أعلام سبيل الله تعالى وهو السميع الذي يسمع المرشد الهادي إلى سواء السبيل لَا بد أن يسلك الطريق الأقوم، فلا يستويان في الابتداء والانتهاء، ففريق في الجنة، وفريق في السعير.
والتشبيه فيه تخريجان:
التشبيه الأول: تشبيه الكافر بالأعمى الأصم الذي لَا يرى الطريق ولا يسمع من يهديه، والمؤمن بالبصير السميع الذي يهتدي ببصره وبإرشاده وقد وضحناه.
ختم اللَّه الآية الكريمة موجها القول إلى الناس (أَفَلا تَذَكَّرُونَ)، (الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها وأخرت عن تقديم؛ لأن الاستفهام له الصدارة، والاستفهام للتنبيه والتحريض على التذكر والاعتبار وإن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار.
* * *
القصص الحق
قال تعالى.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (٢٧) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (٢٨) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ
* * *
إن قصص القرآن ليس فيه تكرار إنما فيه بيان العبرة، وتساق القصة أو جزء منها في موضع العبرة فيها، وإذا كان فيه تكرار فهو ليس في الأخبار إنما هو في موضع الاعتبار.
وموضع الاعتبار هنا أن قوم نوح يحاربونه بما حارب الملأ من قريش محمدا - ﷺ -، ودعوة نوح هي دعوة محمد الخالدة، وهي دعوة النبيين من قبل، وهي الحقيقة الأزلية، هي عبادة اللَّه تعالى وحده لَا شريك له.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) الذين يألفهم ويألفونه ويعرفون مقامه فيهم، ونسبه منهم، وقد ناداه نداء الحدب عليهم المحب المنذر لهم، مبينا مغزى رسالته (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبينٌ) وهذا معنى أرسلنا والغاية من الرسالة، وهذا مشابه لأمر النبي - ﷺ - عندما قال لقومه عندما أبلغهم برسالته: " أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم "، قالوا: ما عهدنا عليك كذبا، قال: " إني لنذير لكم بين يدي عذاب شديد " (١).
(أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٢٦)
________
(١) رواه البخاريْ تفير القرآن - (وأنذر عشيرتك) (٤٧٧٠)، وأطرافه في البخاري ستة، بنحو من هذا، كما رواه مسلم: الإيمان - (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (٢٠٨).
وقد تبعه من تبعه من الضعفاء والفقراء الذين يزدريهم الكبراء في هذه الدنيا كما ازدرى كفار مكة أتباع النبي - ﷺ - من الفقراء والأرقاء واستهزءوا بهم، كذلك كان الذين كفروا بنوح ابتداء من اللأ والكبراء.
وتتضمن إجابتهم ثلاثة أمور كلها لقيها النبي - ﷺ - من قومه والملأ هم الأشراف الأقوياء المستكبرون في الأرض بغير الحق، ووصفهم سبحانه بالموصول (الَّذِينَ كَفَرُوا) لبيان أن السبب هو كفرهم وليس ثمة باعث حقيقي مما تضمنه قولهم، إنما الباعث هو الكفر الذي سبق إليهم ابتداء، وكان ذلك القول مظهره وأول ما دل عليه، وهو استغرابهم أن يكون بشر منهم رسولا، وكذلك كان يقول مشركو مكة.
الأمر الأول: (مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مّثْلَنَا) فأي ميزة جعلتك رسولا من بيننا، وهذا كقول المشركين في مكة: (... مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأكُلُ الطَّعَامَ وَيَمشِي فِي الأَسْوَاقِ...)، وهذا هو أول ما تضمنته إجابتهم.
الأمر الثاني: أنهم قالوا: (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا) جمع أراذل، وهم الأخساء في نظرهم لأنهم يقيسون الخسة والرفعة بمقدار القوة المادية، فمن كان غنيا مستعليا بماله ونفره كان عاليا، ومن كان قليلا في ماله ونفره كان خسيسا في نظرهم ومعنى (بَاديَ الرأْيِ) أي ظاهر مت الرؤية لَا يحتاج إلى دليل.
الأمر الثالث: ما نرى لكم يا نوح أنت ومن معك من فضل علينا حتى تستحقوا الثواب دوننا، ومن هذا البيان استغراق النفي، أي لَا نرى لكم علينا أي
ولقد أجابهم نوح عليه السلام:
ابتدأ نوح عليه السلام نداءهم بـ " يا قوم " تقريبا وتأليفا، (أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَبِّي) أي دليل وسلطان، (وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) أي خفيت عليكم ولم تهدكم، (أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ) أي لَا نلزمكم إياها وأنتم كارهون لها، والرحمة من آثار الإيمان، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي جاءت البينة فلم تدركوها فخفيت عليكم، والخطاب أرفق ما يكون لقربهم إليه، ولم يقل كفرتم بل قال: " خفيت عليكم " وترك الأمر لاختيارهم، ووجه أنظارهم إلى أن الأمر ليس لفضل شخصي، ولكن لهدى إلهي، ولأن رسالات اللَّه بينات وهداية.
ثم بين أن المسألة ليست أمرا دنيويا، حتى تتنافسوا عليه، إنما هو أغلى مما عندكم وما تتنافسون فيه.
ثم ناداهم عليه السلام بما يؤلفهم:
طمأنهم إلى أنه لَا يسألهم مالا، والمال عنصر حياتهم المادية التي بها يستعلون وهو زخرف الحياة وزينتها، ولكن يسألهم هداية، وأجره على اللَّه وحده
وإن الاعتبار بحالهم وحالكم إنما يكون في الآخرة وليس في الدنيا، ولذا قال: (إِنَهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ) وعند لقاء ربهم الذي خلقهم ورباهم على تقوى منهم، فستكونون معهم وستعلمون أنهم أهدى سبيلا.
ويتجه نوح إلى أن يصدع بالحق فيهم بعد هذا الرفق الكريم ويقول:
(وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ)، وهذا الاستدراك من القول اللين العطوف إلى القول الحق الذي لَا يخلو من عنف في لطف، أراكم قوما تجمعتم وتحزبتم وأنتم تجهلون الحقائق وتمارون بالباطل، انتقل من عذرهم بخفاء الأمور عليهم إلى رميهم بالجهل المستمر الذي يتجدد آنًا بعد آنٍ وقد استمروا عليه. ثم من بعد ذلك مستنكرا طردهم.
ابتدأ أيضا بالنداء المقرب المؤلف (وَيَا قَوْمِ) إن كنتم تسترذلونهم وتستحقرونهم فهم عند الله أهل القربى فكيف أطردهم ومن ينصرني أمام اللَّه لدفع انتقامه مني وقد طردت عباده المقربين، وكلمة (من) في النص تدل على مجابهته للَّه، ومدافعته لإرادته، ومن ينصرني أمامه، ثم تختم الآية بقوله: (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)، أفلا تفكرون وتتدبرون لتعرفوا أن طردهم ليس بصواب ولا حسن العاقبة، وأنهم إذا كانوا فقراء فأنا أيضا فقير إلى اللَّه تعالى ولست أفاخر بمال، ولذا قال تعالى حاكيا عنه:
نفي أربعة أمور:
الأمر الأول: أنه ليس عنده خزائن، فهو في الأموال دونهم، فاللَّه تعالى لم يبعث رسولا يعطيه خزائن الأرض، لكن يبعثه بما هو أعز وأغلى وهو إثراء الروح والنفس بمحبة اللَّه ورجاء ثوابه وتقوى اللَّه تعالى وخوف عقابه.
الأمر الثاني: نفي أنه يعلم الغيب، فما جاء إلا هاديا للحق وداعيا إلى اللَّه تعالى، وذلك لَا يقتضي علم الغيب الذي اختص اللَّه تعالى به نفسه، وهو في هذا مثلكم.
الأمر الثالث: أنه لَا يقول إنه ملك، وهو بشر مثلكم نشأ بينكم وعرفتم مولده، وأنه بشر كسائر البشر.
الأمر الرابع: نفي أنه يقول للمؤمنين الذين يحتقرهم أغنياؤكم، مجاوبة لكم، لن يؤتيهم الله خيرا بل لهم الخير كل الخير، وعبر عنهم: (لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ) للدلالة على أنهم ليسوا مزدرين في ذات أنفسهم، بل أعينكم الغاشية هي التي ترى هذا الازدراء.
ثم يشير إلى أن الاعتبار ليس للصورة ولكن إلى نور القلوب، ولذلك قال (اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفسِهِمْ) وهي الجملة المعترضة بين قوله: (وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا) وقوله تعالى: (إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ) أي إذا قلت لهم ذلك مطاوعة لرغباتكم، وأكد ظلمه باللام وكونه - إذن - في زمرة الظالمين الذين لَا يعرفون إلا بالظلم إذ اشتهروا به.
* * *
(قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣٢) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥)
* * *
قال تعالى في المجاوبة بينهم:
لم يئن نوح عليه السلام عن دعوتهم وملاينتهم وأخذهم بالرفق حتى أعلنوا مجافاته وقالوا: (يَا نوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْت جِدَالَنَا) فسيوا دعوته إلى الحق جدالا يقصد به الغلب في البيان، وما هو إلا ناصح أمين يريد الهداية والإرشاد إلى الطريق الأقوم، ولكنهم لَا يريدون رشادا بل أرادوا تحديا، ولذا قالوا (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) لقد أنذرهم بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاستعجلوا العذاب ولم يستعجلوا العظة والاعتبار والهدى ورفع الضلال.
وما كان العذاب في قبضة نوح، إنما هو بيد اللَّه ينزله في الوقت الذي يعلمه سبحانه وتعالى مناسبا، لذا قال:
(قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٣)
وإن عمل نوح ليس إنزال العذاب، إنما ذلك من عند الله، وعمله هو النصح، فإن لم ينفع النصح، فالله تعالى يريد أن تستمروا في طريقكم فتقعوا في العذاب بإرادتكم، إذا اخترتم طريقها وصرتم في مجرفها حتى انتهيتم إليها.
أي لَا تنفعكم نصيحتي الصادرة لكم في إخلاص وإيمان بالحق إن أردت أن أنصح لكم وأخلص لكم مرفقا بكم غير مغلظ، (إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يغْوِيَكُمْ) أي إن كانت إرادة الله تعالى أن تستمروا في طريق الغواية وهي الضلالة حتى تنتهوا إليها، فأنا أريد لكم النصح والله يريد لكم أن تستمروا في طريق الضلالة وإرادته سبحانه هي النافذة.
ثم ذكر نوح أن الله تعالى هو الذي خلقكم ويعرف مآل أعمالكم وأنكم راجعون إليه ولذا قال: (هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْه تُرْجَعُونَ)، هو ربكم الذي خلقكم ويعلم ما تخفي صدوركم (وَإِلَيْهِ تُرْجَعونَ) إنذار لهم فالمرجع إليه وأنه لمحاسبكم على كل ما صنعتم محاسبة العليم الخبير السميع البصير، وقوله تعالى: (وَإِلَيْهِ ترْجَعُونَ) تدل بتقديم الجار والمجرور على أن المرجع إليه وحده، وإن في هذا القصص الحكيم الأمرين:
الأمر الأول: التخفيف عن النبي - ﷺ -، ولبيان أنه لاقى النبيون مما لاقى هو، والعاقبة كانت لهم وحادهم المشركون بما حادُّوا به النبي - ﷺ -، وأن ذلك عبء يحتمل في سبيل أداء الرسالة الإلهية إلى خلق اللَّه تعالى، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها.
السابقين من غير أن يتعلم على معلم، ومن غير أن يقرأ في كتاب (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨).
ولذلك كان هذا القصص الحق مع الأسلوب المعجز من دلائل الإعجاز، ولقد أشار سبحانه إلى ذلك فقال:
(أَمْ) هنا للإضراب الانتقالي أي أنه سبحانه في الأسلوب القرآني الحكيم ينتقل من السير في القصة إلى نهايتها وإلى ما تشير إليه من دلائل الإعجاز، أي يقولون قصد الكذب في هذا الكلام الدال على صدق الرسالة، قد يقولون ذلك وهم يعلمون أنه الصادق الأمين الذي لم يعرفوا له كذبا قبل البعث وبعده، ويأمره اللَّه تعالى بأن يقول لهم: (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ)، قل إن افتريته وكان قصصه كاذبا فإن إجرامه عليَّ، فعليَّ هذا الإجرام أي وباله وإثمه (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) فإجرامكم كثير، إشراك باللَّه وأوهام تسيطر عليكم فتحرِّمون ما أحل اللَّه وتحلون ما حرم اللَّه تعالى وتؤذون أهل الحق وتصدون عن سبيل اللَّه وتبغونها عوجا، وإن البراءة من إجرامكم خير لَا ريب فيه وهداية لَا شِيَة فيها.
وفى قوله تعالى: (إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي) كان التعبير بقوله (إِنِ) لبطلان أصل الافتراء واستحالته؛ لأنه - ﷺ - لم يعرف عنه كذب قط، ولأنه يوافق كتب أهل الكتاب التي لم يتلوها من قبل، ولأنه من الله العليم بكل شيء وقوله: (فَعَلَيَّ إِجْرَامِي) يفيد أنه عليه السلام يتحمل تبعة قوله وأن إجرامهم ثابت وهو بريء منه.
* * *
(وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (٣٩) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (٤٠) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (٤١) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (٤٢) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٤) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ
* * *
بذل أقصى جهده في التقريب والتأليف والنصيحة والإرشاد وتحمل سفه القول منهم حتى آمن من آمن، وما آمن معه إلا قليل، ومن بعد إيمانهم أوحى اللَّه تعالى إلى نوح عليه السلام أنه لن يؤمن غيرهم. (فَلا تَبْتَئِسْ) أي لَا تحزن ولا تأسف بما كان يفعل من استكبروا في الأرض من سخرية وازدراء لأهل الإيمان، وأنما أنت نذير وقد أنذرت، ولم يبق إلا أن ينزل بهم ما كانوا يستعجلون ويقولون بتحد (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا)، وقد اشتبه حال نوح مهم بحال محمد - ﷺ - مع قريش قبيل الهجرة، إذ لم يؤمن منهم أحد، وإن كان منهم من يلقي بالمودة من غير إيمان، ثم كانت الهجرة وكانت الحرب وأنزل اللَّه بهم هزيمة بعد هزيمة ولم تكن إبادة كإبادة قوم نوح عليه السلام، لأن رسالة محمد خالدة فكان من أصلاب المشركين باللَّه والجاحدين لرسالة محمد - ﷺ -، من يعبد اللَّه وحده ومن يدعو إلى اللَّه ويجاهد في سبيله كخالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل.
لم يترك قومه غيهم وما هم فيه من ضلال (وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ) أي طائفة من أشرافهم وكبرائهم (سَخِرُوا مِنْهُ) كانوا يحسبون ذلك عملا لَا ثمرة له فيبني لهم نوح عليه السلام نتيجة ما يفعلون ويقول لهم:
وكلمة (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) في قوله تعالى لتحقيق العلم لأنه سيكون علم معانيه لَا علم إخبار.
(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (٤٠)
وعلى ذلك يكون التنور في الأرض ليكون منه الغرق، وليس التنور في السفينة أي أن التنور لما فار ووجدت أسباب الغرق أمر اللَّه نوحا وقد استعدت السفينة للسير أن يحمل فيها من كل حي زوجين اثنين ليكون التوالد في الحيوان والنبات بشكل عام.
وقد عرض لي خاطر أذكره وهو أن التنور في السفينة، وأنه فار وخرج منه بخار حرك السفينة للسير، فهي قد سارت بالبخار لَا بالتجديف أو الرياح، إذ لم يذكر هنا ولكن ذكر فقط التنور وفورانه. وقد يقال إن البخار لم يكن قد اخترع، وما اكتشف إلا في القرن التاسع عشر، حيث سارت به القطر والسفن.
نقول في الجواب على ذلك بأن صنع السفينة قال فيه اللَّه تعالى:
(وَاصْنعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا) فالسفينة كانت تصنع تحت رعايه اللَّه ووحيه فهل يعجز سبحانه عن تسييرها بالبخار الذي جعل سبحانه العقل البشري يتوصل إليه بعد ألوف السنين، إن هذا هو ظاهر الآية.
أولا: لأن ظاهر الآية يدل على أن ذلك كان عند تمام صنعها.
ثانيا: أنه جاء مقترنا للأمر بحمل زوجين اثنين من كل الأحياء.
ثالثا: أنه لم يكن ثمة ذكر للأرض ولكن ذكر للسفينة، فالتنور فيها، وليس معنى ذلك بالفعل أن السفينة فارت بالماء الغرق، إنما فارت بالماء المسير.
إن ذلك الخاطر استمر يطرق أبواب التفكير حتى آمنا به، واللَّه أعلم بالصواب. بعد أن أعدت السفينة تحت رعاية اللَّه وكلاءته، وصنعت بوحي في تركيبها جزءا جزءًا، وما كان نوح صانع سفن، ولكن كان نبيا مرسلا موحًى إليه،
حمل نوح عليه السلام. من كل زوجين اثنين وحمل أهله، إلا من سبق عليه القول منهم وهو ابنه، وحمل من آمن، وذكر سبحانه أن الذين آمنوا كانوا عددًا قليلًا.
وقد ذكر في الأخبار أن السفينة كانت ضخمة كأنها مدينة تسير في البحر، وروي أن طولها مائتا ذراع وألف، وعرضها ستمائة ذراع وارتفاعها ثلاثون، واللَّه أعلم، وبعد صنعها أمر نوح بتكليف من ربه بأن يركبوا.
ركب نوح وما معه وأهله، ومن معه ممن آمن واتبعه، ومن بعد ركوبهم كان الغرق بالماء الذي جاءهم من حيث لَا يحسبون، جاءهم الماء من السماء والأرض، جاءهم من السماء فانهمر المطر، وجاء منِ عيون الأرض كما ذكر سبحانه في سورة القمر: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (١٤).
وهكذا نجد مجموع آيات القرآن الكريم فيها القصة كاملة، لكن كل جزء ذكر في موضع عبرته، ولا تكاد نجد تكرارًا، إنه كلام العزيز الحميد الذي أحاط بكل شيء علما.
(بِسئم اللَّه مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) أي بسم الله تعالى من وقت جريها إلى وقت رسوها، وهناك قراءة (بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رحِيِمٌ) يغفر الذنوب لعباده المؤمنين برحمته، ثم وصف حال الفلك فقال تعالى:
أي إن الماء ارتفع وكثر حتى علا موجه واصطفق، وشبه الموج بالجبال لارتفاعه وصعوبة اختراقه.
وهنا تحركت عاطفة الأبوة الفطرية في نفس نوح، والفطرة السليمة تتحرك فيها العواطف الإنسانية، فنادى على ابنه خشية الغرق، وقد عزل نفسه عن أبيه الداعي إلى الحق وهذا معنى (فِي معْزِلٍ) أي مكان معزول عن أبيه لكفره، أو عن القوم فرارا بنفسه ولكن لَا فرار من قضاء اللَّه المحتوم، فقال مغرورا مخدوعا غير مقدر أن العذاب نازل لَا محالة.
يعصمني من الماء أي يمنعني من الماء فلا يغرقني، قال نوح الذي يعلم من اللَّه أنه الهلاك المدمر (لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ) وهم الذين نجوا في السفينة مع أبيك وأهلك ومن تبعه.
وكان الموج الشديد الهائل كالجبال الذي حال بين نوح عليه السلام وابنه، وكان من المغرقين لأنه رضي أن يكون مع الكافرين تناله مما نالهم مع أنه ابن نوح، فليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يُرى.
بعد أن غرقوا ولم يبق منهم ديَّار جزاء ما اقترفوا وأشركوا، رفع اللَّه الماء الذي كان إهلاكا لهم.
في قوله تعالى: (وَقيلَ يَا أَرْضُ) القول تكويني، وكان الفعل بالنداء لغير المعلوم، لمعرفة من ينادى بالتكوين جل جلاله، ولأنه في المظهر غاض الماء من ذات نفسه، وهو يأمر اللَّه تعالى: (ابْلَعِي مَاءَكِ) فالأرض ابتلعت الماء الذي ملأها
إذ وعده اللَّه تعالى أنه ناج هو وأهله، فقال له ربه نافيًا دخول ابنه في أهله فلا يكون داخلا في الوعد بالنجاة.
إنه في ذاته عمل غير صالح، فشاقك وترك صفَّك وكان في صف المشركين، وهناك قراءة بكسر الميم في كلمة (عَمَلٌ) على أنه فعَل وبفتح الراء في كلمة (غَيْر) فيكون اللفظ " عمِل غيرَ صالح " (١) ذلك بانضمامه إلى صفوف المعاندين، ويكون في التقدير على القراءة الأولى أنه ذاته صار كأنه عمل غير صالح، وهي أبلغ في الدلالة على فساده من القراءة الثانية، وقد عاتبه اللَّه تعالى: (فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)، (الفاء) لترتيب ما قبلها على ما بعدها، فترتب على كونه عمل غير صالح وعَدَّه نوح من أهله - ذلك
________
(١) (عَمِلَ غيرَ) قراءة يعقوب والكسائي، وقرأ الباقون (عَمَلٌ غَيْرُ). غاية الاختصار (١٠١١).
بعد هذا التنبيه الرقيق العاتب أدرك نوح خطأ موقفه فقال مناجيا ربه (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ... (٤٧)
أي إني ألجأ إليك سبحانك أن تعيننى ألا أسألك ما ليس لي به علم وأستعينك يا رب العالمين أن يقع منى في المستقبل سؤال لك فيما ليس لي به علم، وما هو من تقديرك وتدبيرك في أن الحق أولى من الآباء والأبناء وكان هذا عن المستقبل، أما عن الماضي فقال،
القائل معلوم وإن بُني الفعل لغير المعلوم، (اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا) أنزل من السفينة مصحوبا بسلام وأمن من اللَّه، (وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ)، وجعل سبحانه منهم أمما مع أنهم عشرات أو على الأكثر مئات، ذلك لأنهم آباء لجماعات مؤمنة طاهرة أي ستكون منهم ذرية طاهرة، (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَ يمسُّهم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ)، أي سيكون ممن معك أمم صالحة وأخرى ظالمة، والخلاصة أن الأمم الذين يجيئون ممن معك، على بعضهم بركات، ولبعضهم عذاب أليم.
* * *
قال تعالى:
* * *
الإشارة إلى القصص الحكيم من قصة نوح عليه السلام، وهي أنباء عظيمة أي أخبار ذات شأن وخطر، وقوله تعالى: (مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلا قَوْمُكَ مِن قبْلِ هَذَا) لأنهم كانوا أميين ليس عندهم من يدرس، ولا عندهم كتب تكتب، ولم يكونوا أهل كتاب نزل فيها كالتوراة والإنجيل يعلمون علم النبوات منه قبل هذا، وقد علمت ما في هذه الأنباء من عبر وكيف جاهد نوح في الدعوة إلى اللَّه، وكيف عانده قومه وكيف عابوا دعوته كما عاب قومك دعوتك، وأن الذين ابتدءوا بالاستجابة هم الضعفاء من عبيد وفقراء، وكيف كانت آية اللَّه بالفلك المشحون، وانهمار الماء من السماء، وتفجير الأرض عيونا، حتى كان الغرق وسارت السفينة في موج كالجبال وكذلك كان عاقبة المكذبين.
(فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، إذ ترتب على القصص الحق وما فيه من معاندة الكافرين ونزول آية اللَّه فيهم بالإغراق - الأمر بالصبر حتى يرى آية اللَّه في المشركين من قريش، وإنها آتية لَا محالة، وإن كانت المجاهدة حتى صارت كلمة اللَّه هي العليا. وفي قوله تعالى: (الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) إشارة إلى أن التقوى هي السبب في حسن العاقبة، والنصر المبين لمن خاف واتقى، والخزي لمن ضل وشقي. وفي الآيات إشارة لأمرين:
الأمر الأول: الصبر وألا يأخذه ما هم عليه من مظاهر القوة والغرور.
* * *
هود وقومه
قال اللَّه تعالى:
(وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (٥٠) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٥١) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (٥٢) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (٥٣) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ
* * *
نجد الدعوة إلى التوحيد كما دعيت إليه قريش، وناوءوا هودا كما ناوءت قريش، وصابرهم كما يصابرهم، ولما أصروا على الشرك والإيذاء أنزل اللَّه عليهم ما دمرهم.
ناداهم هود بما يقربهم إليه (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهُ) أي اعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا ووضح ذلك بقوله: (مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) أي ما لكم أيَّ إله غيره فكلمة (مِّنْ) لاستغراق النفي وشموله؛ لأن الألوهية تقتضي الانفراد بالخلق والتدبير، وأن يكون المعبود واحدا في ذاته وصفاته ليس كمثله شيء، وقد كانوا يعرفون ذلك، فكيف يكون غيره، ولكنهم فعلوا غير المعقول وغير ما يوجبه العقل السليم، ولذا قال: (إِن أَنتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) وكلمة (إِنْ) نافية ثم جاء بعدها الإثبات بكلمة (إِلَّا) أي أنتم مقصورون على الافتراء والكذب المقصود بعبادتكم أوثانا لَا تضر ولا تنفع ولا تتكلم ولا تتحرك.
(اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) أي اطلبوا الغفران، لأن تعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا، وعبر بـ " ربكم " للإشارة إلى ما يبعثهم على عبادته، وهو أنه الذي خلقهم وربَّهُم ودبر أمورهم بحكمته وإرادته.
ويبين سبحانه ما يترتب على الاستغفار، وهو ذاته مما يوجب العبادة فقال تعالى: (يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا)، المراد المطر، وعبر عنه بمكان نزوله من قبيل (إطلاق المحل وإرادة الحالّ)، ومدرارا أي كثيرا، ينبت به زرعكم ويكون قوام حيازكم، وفي ذلك الخير فائدتان:
الفائدة الأولى: أن القرب إلى اللَّه وعبادته الخالصة يبسط اللَّه بهما الرزق، كما قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦). الفائدة الثانية: تذكيرهم بنعم اللَّه تعالى عليهم وهى توجب أن يؤمنوا بدل أن يشركوا ويقول سبحانه على لسان نبيه هود (ويزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ) أي يزيدكم قوة مضمومة إلى قوتكم، فشكر النعمة يزيدها (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ
وقد أجابوا هذه الدعوة الرشيدة الحبيبة، الرقيقة القوية العميقة بالرفض القاطع فطالبوا بعد الرفض بالبينة، أي الدليل الملزم، وكان هذا غريبا بعد الرفض كالقاضي الذي يرفض الدعوى ثم يطالب بالدليل.
هي أقوال ثلاثة رافضة:
أولها: ادعاؤهم أنه لم يأتهم ببينة أي بدليل يدل على رسالته، وهم بذلك يمضون في عنادهم غير معترفين بما جاءهم من معجزات هي علامة قاطعة.
ثانيها: أنهم ينفون إجابته نفيا لازما قاطعا لَا يترددون فيه قائلين: (وما نَحْن تارِكِي آلِهَتِنَا) عن قولك ويردون النفي بإضافة الآلهة إليهم كأنهم منها وهي ثالثها: أنهم لَا يؤمنون بالحق إذ جاء، ولذا قال كما حكى اللَّه تعالى عنهم:
(وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِين) أي وما نحن بمؤمنين استجابة لك، وقدم (لَكَ) للإشارة إلى اختصاص الكفر به وعدم التسليم، في مقابل إيمانهم بما آمن به آباؤهم وقد تأكد النفي بالباء في قوله (بِمُؤْمِنِينَ).
وقد اتهموه بأنه قد اعتراه بعض آلهتهم بسوء، أي اتهموا عقله وأن يكون به مس من الجن، كما قالت قريش للنبي - ﷺ -، إذا كان هو رئيا قد جاءك التمسنا لك الطب، وقال أولئك:
أي إن الحال أن بعض آلهتنا أنزل بك سوءا فقلت ما قلت.
ولكن هودا عليه السلام يصابرهم، ويلين بالقول معهم، فلما طمعوا أن يمنعوه أو يجروه إليهم قال لهم قولا جازما: (إِنِّي أشْهِدُ اللَّهَ) أي أجعله شهيدًا على ما أقول أي إني بريء من شرككم، فكلمة (مِمَّا) وما بعدها من الفعل مصدر، وأكد براءته في الشرك بـ (أن) في كلمة (أَنِّي) وبالجملة الاسمية، والتعبير بالفعل لتصوير حالهم القبيحة وهم يشركون باللَّه تعالى رب العالمين.
إنه إذ يبرأ منهم ومن إشراكهم، يعتمد على اللَّه تعالى خالقهم فيقول:
أي فكيدوني مجتمعين غير متفرقين، ودبروا لي ما هو إيذاء وكيد وتدبير خبيث لي: (ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ) أي لَا تؤجلون، والتعبير بـ (ثُمَّ) هنا يافيد أن يكيدوا غاية الكيد وأبعده، وأن يتدبروا أبعد التدبير ولا يؤجلونه.
ويفشل تدبيرهم لأن قوتهم لَا تقف أمام قوة اللَّه وتدبيره، وأكد هذا سبحانه وتعالى:
(إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ) أي اعتمدت عليه سبحانه فهو يحميني بحكمته وتقديره وتدبيره وهو ربِّي وربكم، يعرف طاقتكم وما عندكم من قوة وتدبير، وإنه بلا ريب ضعيف بجوار تدبيره، وقاض عليه سبحانه، وأكد ذلك قوله تعالى: (مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) أي قادر عليها متمكن من أمرها، وفى قوله تعالى: (آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) أي قادر عليها متمكن من أمرها، وفي قوله تعالى: (آخِذٌ) تمثيل لقوته تعالى وسيطرته وأنه آخذ بناصية خلقه لَا يتمكن أحد من البعد عن قبضته، ثم بين لهم أن طريق اللَّه هي الطريق فقال: (إنَّ رَبِّي عَلَى
وقد أبلغ هود رسالة ربه وحسبه ذلك، ولم يبق إلا أن ينزل بهم ما استعجلوه ولذا قال تعالى:
أبلغ هود رسالته في بيان ورفق، ولم يكن رفقه ضعفا في جنب اللَّه، ولكنهم أصروا على الكفر والعصيان واستعجلوا العذاب الذي كان يذكرهم به أثناء تبليغ رسالة ربه، عندئذ ذكرهم بعاقبة أمرهم، فقال تعالى مخبرًا عنه: (فَإِن تَوَلًوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ)، (تَوَلَّوْا) فعل مضارع حذفت فيه تاء، أي فإن تتولوا بأن تعرضوا فقد أبلغتكم رسالة ربي الذي رباني وخلقني، ولم يبق بعد الرسالة إلا أن ينزل بكم ما أنذركم به وهو عذاب محيط مدمر، ولذا قال تعالى فيه:
(وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ) أي بعد إزالتكم من الأرض، ولا تضرونه شيئا بزوالكم وذهاب جمعكم لأنه لَا يحتاج إلى خلقه وهم يحتاجون إليه.
(إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ)، أي رقيب لَا تخفى عليه أعمالكم
ويجازيكم عليها حق الجزاء وهو حفيظ على كل شيء، لَا يمكن أن يضره شيء، وهو فوق كل شيء وعلى كل شيء قدير.
بين سبحانه نزول العقاب بالكافرين ونجاة المؤمنين برحمة كريمة منه، وحسبها شرفا أنها من رب العالين، وبين سبحانه أن النجاة كانت عظيمة؛ لأنها نجاة من عذاب شديد، كما بين سبحانه أن العذاب غليظ أي شديد لَا رفق فيه؛
سورة الأحقاف: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢٤).
أشار اللَّه تعالى إلى العبرة من عاد، كانت أقوى للعرب في أزمانها، وكانت منهم آفات ثلاث، أنهم جحدوا بآيات ربهم أي أنكروا دلالتها، وعصوا الرسل، واتبعوا الجبابرة في غيهم وطغيانهم.
(وَتِلْكَ) الإشارة إلى الذين تضمنت الأخبار السابقة ذكرهم، وكانت الإشارة إلى عاد لقوتها وطاغوتها وتمردها ومآل أمرها ولما فيها من عبرة، وأنبأت أخبارهم عن موطن الاعتبار، وهو طغيانهم ثم نزول العقاب بهم من غير هوادة لإنكارمم الآيات وعصيانهم الرسل، وقد استهوتهم القوة الظاهرة للجبارين في الأرض الذين عاندوا في الحق وتحدوا اللَّه ورسوله المبعوث لهم رحمة بهم. وقال تعالى في عذابهم عند الهلاك الذي اجتثهم من الأرض:
أي أنهم قد والاهم غضب اللَّه تعالى، ومعنى (أُتْبِعُوا) أي أتبعهم اللَّه، ولعنته سخطه وطردهم من رحمته في هذه الدنيا، وكان مظهر اللعنة ما نزل بهم من عقاب قطع دابرهم، وتسجيل إثمهم وطغيانهم وما أحسوا به في ذات أنفسهم، وخروجهم عن سنن الفطرة والاتجاه إلى الأذى والإيذاء، ولعنتهم في الآخرة العذاب في الجحيم، وأن الله لَا ينظر إليهم ولا يكلمهم (أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ) أي ألا طردا من رحمة اللَّه تعالى وهلاكا لهم مع هذا الطرد والإبعاد. وذكر سبحانه أنهم قوم للإشارة إلى مظهر كفرهم وعنادهم برسولهم الذي هو منهم وهم قومه وكان جديرا بهم أن يؤمنوا ولكنهم كفروا وطغوا.
* * *
(وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (٦١) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٦٢) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (٦٣) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (٦٤) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (٦٥) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (٦٦) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (٦٨)
* * *
العطف في هذا الموضع على ما سبق في قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا...).
فالمعنى أن اللَّه سبحانه وتعالى أرسل نوحا ومن بعده هودا وإن لم يتعاقبا، ومن بعدهما صالحا إلى ثمود.
وكانت دعوته الأولى هي التوحيد، لب الرسالات السماوية ومجتمعها والمشترك فيها جميعا (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ) حق عبادته لَا تشركوا معه أحدا ولا حجرا ولذا قال سبحانه في تفسير معنى عبادته (مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) ثم آخذ يجري على لسان نبيه أسباب الألوهية له ونفيها عن غيره فقال: (هُوَ أَنشَأَكم مِّنَ الأَرْضِ) أي خلقكم من الطين، (واسْتَعْمَرَكمْ فِيهَا) أي جعلكم تعمرونها فتنشئون فيها المباني والحدائق الغناء، والسين والتاء في كلمة (اسْتَعْمَرَكمْ) معناهما التكليف لعباده أن يعمروها فهو سبحانه مظهرهم على ما جعلهم يسخرون السماوات والأرض بما قدره تعالى لهم.
ثم يقول صالح (فَاسْتَغْفِرُوهُ) أي اطلبوا غفرانه بأن يستر ما ارتكبتم من ذنوب وينشئكم نشأة طاهرة طيبة، وبعد الاستغفار توبوا إليه (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي ارجعوا إليه بعد أن بعدتم عنه بالشرك، وعبر بكلمة (ثُمَّ) للدلالة على بعد حالهم في الانتقال من الاستغفار إلى الرجوع إلى اللَّه تعالى؛ لأن الاستغفار طلب محو الذنوب أو سترها، وتلك أول خطوة في ترك الكفر والشرك، وتعلوها مرتبة الاتصال باللَّه لقبول التوبة، ولذا قال تعالى على لسان نبيه بعد (إِنَ رَبِّي قَرِيبٌ مجِيبٌ) وهذا إدناء إلى التوبة وتقريب لها، أي أن اللَّه تعالى في عليائه قريب إلى النفوس التائبة محب للدعاء والرجوع إليه، وذلك رد على أوهامهم التي يقولون
وفيها التعبير (رَبِّي) وذلك يفيد أنه مربيه ومُنشؤه، ومربيهم ومُنشؤهم فكيف لَا يكون قريبا منهم وهو الحي القيوم في السماوات والأرض.
ومنها ذكر كلمة (مُّجِيبٌ) وفيه إشارة إلى أنه سبحانه هو الذي يدعى فيجيب لَا تلك الأحجار التي لَا تضر ولا تنفع فلا تجيب دعاء ولا تسمع نداء، وماذا كانت إجابة قومه إلى تلك الدعوة الحق.
كان صالح معروفا قبل الرسالة بالكمال الإنساني، كما كان محمد - ﷺ - معروفا بأنه الصادق الأمين (مرْجُوًّا) مرجو خيره غير مذموم، وقولهم: (قَدْ كنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا) أي كنت فينا مرجو الخير محمود الخصال والفعال، وكأنهم يحسبون أنه ينبغي أن يفعل ما هو على هواهم ويردد مقالاتهم ويعبد ما يعبدون.
ويثيرون العجب فيقولون: (أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) فهم يستنكرون دعوته، والاستفهام إنكاري لإنكار الواقع، وهو أنه فعلا ينهاهم أن يعبدوا ما يعبد آباؤهم، وليست عبادة آلهتهم حجة مسوغة لهم؛ فآباؤهم كانوا لَا يعقلون شيئا ولا يهتدون. (أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُد مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) فالشك هو عدم التصديق بما يقول والتظن في صدقه، فهم يشكون فيما يدعو إليه من التوحيد وهجر عبادة الأوثان لأنها أحجار لَا تضر ولا تنفع، وإن هذا الشك يوقعهم في الريب، أي أن شكهم في صدق ما يدعوهم إليه يوقعهم في حال الريب فلا يؤمنون بقوله ويكونون في حال من الاضطراب.
التخسير مصدر كلمة " خسَّر " أي تضعيف الخسارة، وذلك أنهم بردهم لدعوته ومحاولة أن يكون معهم ويتبع ما كان عليه آباؤهم، يجعلون الخسارة مضاعفة له بردهم دعوته وعصيانه للَّه تعالى إن لم يبلغ دعوته.
وهو سبحانه ينقل قوله لهم فيقول تعالى عنه: (أَرَأَيْتمْ) الاستفهام للتنبيه والتقرير، والمعنى لقد رأيتم وعلمتم هذه الحال التي أكون عليها، (إِن كنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي) أي بصيرة وإدراك وحجة بينة واضحة بعبادته وحده، (وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً) وهي الرسالة التي كان اصطفائي بها رحمة بي ورحمة بكم، فإذا عصيته بعدم تبليغها واتباع أهوائكم (فَمَن يَنصُرنِي) أي يعصمنِي من اللَّه إن عصيته بالامتناع عن التبليغ واتباع ما تدعونني إليه، (فَمَا تَزِيدُوننِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ) أي فإنكم بهذا لَا تزيدوني غير خسارة مضاعفة بكفركم وعدم استجابتكم، وبامتناعي عن التبليغ ثم باتباعي أهوائكم، وتلك خسارة مضاعفة، بعد هذا ذكر لهم المعجزة، وقد كانوا في الصحراء وسفينتهم فيها الناقة تقطع الفيافي والقفار في صبر ووداعة وأناة فكانت المعجزة من جنسها، ناقة لها خواص ليست لكل صواحبها تجعلها غير مشابهة لهم، وهي آية لهم ونذير، إن اعتدوا عليها، وجعل لها شِرب أي ماء، غير شِرب سائر النوق، فقال لهم عليه السلام فيما قصَّ اللَّه تعالى:
نسب صالح الناقة إلى اللَّه مع أن كل شيء من المخلوقات منسوب إلى اللَّه، ولكن اللَّه تعالى اختارها لتكون معجزة صالح عليه السلام، كان ذلك له فضل اختصاص في النسبة إلى اللَّه تعالى.
ولكنهم لم يكترثوا لتحذير نبيهم فعقروها استهانة منهم بتحذيره
فقال لهم الرسول صالح عليه السلام: ابقوا متمتعين في داركم ثلاثة أيام، وهي لتطبيق القرب الذي أنذرهم به، وليعايشوا جريمتهم، ثم أكد نزوله بعد هذه المدة القصيرة فقال: ذلك وعد من الله تعالى صادق غير مكذوب، وهو متحقق لَا محالة.
بعد ذلك نزلت آية الله تعالى بالعذاب المهلك الذي اختص الله به الذين كفروا فقال سبحانه:
فلما جاء أمرنا أي بعد الأيام الثلاثة، وهو الهلاك المدمر نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا، أي برحمة أرادها الله تعالى وكانت هبة للذين آمنوا جزاء بما كانوا يعملون، نجوا بها من خزي يومئذ، أي هذا اليوم.
(وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (٦٨)
* * *
إبراهيم ولوط
(وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤)
* * *
قال تعالى:
(وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠)
وفى القصة التي جمعت بين إبراهيم ولوط عبر نذكر بعضها قبل التصدي لذكر ما جاء في هذا الوضع، منها إثبات أن الله هو الفاعل المختار المريد الذي لا يتقيد بالأسباب العادية كما نتقيد بها، بل إنه خالق هذه الأسباب يملك تغييرها، وأنه سبحانه وتعالى القادر المريد، فهذه عجوز تجاوزت سن الولادة تحمل وتلد، ومن هذه العبر أن الملائكة أراد اللَّه جعلهم كالأناسي ويلبس الأمر كما لبَّس على إبراهيم عليه السلام إذ أنكرهم لما رأى أيديهم لَا تصل إلى الطعام وأوجس منهم خيفة.
ومنها أن الفواحش تفتك بالجماعات وتذهب قوتها وتعدها للفناء، كما في شأن قوم لوط إذ إن فاحشتهم قطعت نسلهم وأسلمتهم إلى الدمار، ومنها أن كل امرئٍ بما كسب رهين ومعاقب بعمله، فلم يعف امرأة لوط من العذاب أنها امرأته، ولأنها كانت من المفسدين حق عليها ما نزل بهم من العذاب.
ومنها أن آل لوط لم يكونوا عبدة أوثان فقط بل كانوا مع ذلك يأتون الفاحشة التي ما سبقهم بها أحد، يأتون الرجال شهوة - من دون النساء حتى أصبحوا لَا يخرجون من شر إلا إلى شر، فهم في دائرة الفساد المطلق والفاحشة الشنعاء التي هي كرءوس الشياطين من المخنثين ومن يتشبهون بالإناث في ملابسهم وشعورهم بل وفي أفعالهم، وَوُجدَت جماعة تنطلق انطلاقا إلى كل موبق باسم حرية الإرادة وما هي إلا الوقوع في أسر الشهوة ومن ورائها ذلها.
ومنها أن الانطلاق إلى الهوى لَا يرده عقل ولا تدبير ولا حياء بل ولا أي مروءة إنسانية، حتى أنهم عندما رأوا الملائكة، جاءوا إلى لوط عليه السلام
ولنبدأ بذكر القصة بعد هذا الذي أدركناه من عبر، قال تعالى: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ)، حيوه بالسلام، وهو مصدر لفعل محذوف أي " نُسَلِّمُ سلامًا "، وقد كانت هذه تحية فردها بأحسن منها فقال (سَلامٌ) أي أمري كله سلام، وأتم التحية بكرم الضيافة الذي امتاز به أبو العرب إبراهيم بأن أعد الطعام الشهي المشوي (فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنيذٍ) (الفاء) للعطف الدال على الفورية أي ما أبطأ أن جاء بعجل مشوي: يقال حنذ الشاه أي شواها. ونلاحظ هنا أن اللَّه سبحانه وتعالى قد صدر القصة بقوله: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا) وكلمة (قد) مؤكدة للخبر؛ وأكد الخبر لأن فيه غرابة وهي مجيء الملائكة إلى الأرض (رُسُلُنَا) تكريما وتشريفا وتعظيما.
وقال (بِالْبُشْرَى) أن مصاحبة لهم البشرى بولد لإبراهيم عليه السلام الذي قدم لهم من الطعام ما ينبئ عن الكرم وحسن اللقاء، ولم يجدهم يمدون أيديهم إليه وعبر عن ذلك بقوله تعالى:
مبالغة في الامتناع عن الأكل إذ لم تتحرك أيديهم بل بقيت في مكانها لَا تمتد إليه، ولما رأى ذلك أحس أنهم غرباء عنه، وعن جملة أحاسيسه، إذ إنهم لم يمدوا أيديهم ولم يعتذروا، وعبر اللَّه عن ذلك بقوله تعالى: (نَكِرَهُمْ) وهو بمعنى أنكرهم واستنكر أمرهم، وإن كلمة (نَكِرَهُمْ) تدل على ما هو أبلغ من الإنكار والاستنكار، بل تدل مِع ذلك على الوحشة من لقائهم، ولذا قال تعالى بعد ذلك: (وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً)، والإيجاس هو الإدراك بالحس، والخيفة الخوف الشديد الذي يظهر في الهيئة؛ لأن خيفة اسم هيئة من الخوف، أي أدركوا سببا للخوف وظهر الخوف في هيئته عليه السلام، وخيفة في الإعراب تمييز محول من المفعول إلى التمييز، وقد أحس الرسل بهذا فقالوا: (لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ) عندئذ اطمأن وقر قراره،
(وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (٧١)
وذكر يعقوب بعد إسحاق وهو ابنه للإشارة إلى أنه سيكون من ذريته النبيون فهو أبو الأنبياء من الأسباط وموسى وداود وسليمان وعيسى عليهم جميعا السلام وهي كانت عقيم، أما هاجر كان منها الولد فكانت البشرى داعية سرور وغرابة أما السرور فلهذه البشرى وقت زوال ألم العقم، وأما الغرابة فقد كشفت عنها بقولها:
الاستفهام للعجب، والعجب كان يقوم على أمرين:
الأمر الأول: أنها عجوز قد أدبرت سن الولادة والحمل.
الأمر الثاني: أن زوجها شيخ هرم، وصرخت بالعجب فقالت: إن هذا لشيء عجيب. وقوله تعالى: (يَا وَيْلَتَى) هي للتعجب وتستعمل الكلمة غالبا في العجب من أمر متعجب شاق، وشاع استعماله في العجب، وعندي هنا أنه للأمر الشاق؛ لأن البشرى تحمل في نفسها آلام الحمل والوضع، كما أنها أحست في نفسها بما يتتبع من وهن كما قال سبحانه في ذلك الأمر (... حَمَلَتْهُ أمُّهُ وَهْنًا عَلَى وهْنٍ...)، رد الملائكة عجبها بقولهم لها.
هذا استفهام لإنكار العجب لأن ذلك من خوارق العادات والعجب إنما يكون فيما هو من أمر العباد والأسباب الجارية، أما ما يكون من أمر اللَّه فإنه من خالق الأسباب والمسببات، وقوله تعالى: (أَهْلَ الْبَيْتِ) أي بيت النبوة فقد كان بيت إبراهيم عليه السلام مهد الأنبياء الذي كان منه يعقوب والأسباط من بعده، ويوسف وموسى وداوود وسليمان وإل ياسين وعيسى.
(إِنَّهُ حَمِيدٌ مجِيدٌ) الضمير يعود على لفظ الجلالة (حَمِيدٌ) وصف لذات اللَّه بمعنى أنه المحمود الذي يدوم حمده وإنعامه ويحمد لهذا الإنعام، و (مَّجِيدٌ) على وزن فعيل من ماجد لأنه العالي في ذاته وصفاته ومجده سبحانه وتعالى.
كان الاتجاه إلى قوم لوط لينزل بهم ما استعجلوه من عذاب وليكون العقاب الصارم القاطع لفسادهم، المجتث لجمعهم، وإبراهيم الحليم أخذ يجادل في قوم لوط، ويظهر أن هذه المجادلة كانت لرجاء إمهالهم وألا يعجل اللَّه تعالى في أن ينزل بهم ما يستحقون، ولذا قال تعالى:
أمران جليلان ألقيا في نفس إبراهيم بالاطمئنان أحدهما: أنه ذهب عنه الروع أي الخوف الذي راعه واسترهبه، والآخر أن جاءته البشرى بولد أخًا لإسماعيل الذي تركه في البرية، فلما كان هذان الأمران أخذ يجادل في إمهال قوم لوط.
(يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ) والتعبير بالمضارع لإفادة الاستمرار في المجادلة وحدوثها متجددة وكانت المجادلة لربه، لأن في القوم لوطا النبي وله به قرابة نسب فهو حريص على نجاته شفيقا عليه. وعلل سبحانه تلك المجادلة بوصف إبراهيم
وهي صفات ثلاث من مكارم الأخلاق، ولكن المجرمين من قوم لوط فجروا فارتكبوا فاحشة لم يسبقهم بها أحد من العالمين.
الصفة الأولى: لإبراهيم عليه السلام: الحلم فهو لَا يتعجل العقاب بل يريد للمجرم فرصة للانخلاع من ذنوبه فهو يؤثر السماحة على العقاب.
الصفة الثانية: أنه مرهف الإحساس كثير التأوه من الشعور بالخطأ، وإن لم تكن خطيئة ولا ذنب، ومعاذ اللَّه أن يكون خليل اللَّه تعالى أثيما، وإنما هي قوة الإحساس والخشوع في جنب اللَّه تعالى.
الصفة الثالثة: أنه منيب أي راجع إلى اللَّه تعالى فهو لَا يفترق عن ربه إلا في محبة مُدْنية مقربة.
وإن اللَّه تعالى يأمره بالإعراض عن الدفاع عنهم فلا يصح أن يجادل عن المجرمين ويناديه اللَّه نداء الخليل.
ناداه ربه باسمه تقريبا له، أَعْرِض عن هذا الجدل فإنه لن يغير شيئا، لأنه قد مضت إرادة الله تعالى وأمره بالإهلاك. والتعبير بكلمة (رَبِّكَ) في هذا المقام للإشارة إلى أنه مقتضى الربوبية في أن يؤخذ الظالم بظلمه لأنه لَا يستوي السيئ والبريء، كما لَا يستوي الأعمى والبصير.
وأكد سبحانه أن العذاب نازل بهم لَا محالة (وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) وقد أكد سبحانه نزول العذاب بعدة مؤكدات:
أولها: وصفه بأنه غير مردود.
ثانيها: بالجملة الاسمية.
وهكذا كان العقاب نازلا لَا محالة، ذهب رسل اللَّه تعالى إلى لوط ولم يذكر أنه فوجئ بهم كما فوجئ إبراهيم عليهما السلام، ويظهر أن المفاجأة وقعت ولكن استغني عن ذكرها هنا بذكرها هناك، أو أنه شغل عن المفاجأة برؤيتهم يحال قومه وفسادهم عند لقاء هؤلاء الأطهار، ولذا قال تعالى:
جاء رسل الله الملائكة الأطهار في صورة أناسي مشرقة وجوههم متكاملة صورهم، فساء مجيئهم لوطا، إذ هو يعلم من قبل ما عليه قومه من فساد، ولذلك ساءه ذلك المجيء المفاجئ وعبر اللَّه تعالى عن ذلك بكلمة (سِيءَ) بالبناء للمجهول لبيان أنه داخل نفسه السوء من كل ناحية، ثم أردف ذلك بقوله تعالى: (وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا) وكلمة (ذَرْعًا) تمييز محول عن الفاعل، والمعنى ضاق بهم ذرعه أي باعه، وهذا التعبير تصوير لضيقه بصورة حسية كمن يضيق باعه فلا يستطيع أن يتحرك دافعا شرا داهما، (وَقالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ) أي شديد وقد قال الشاعر فيما يدل على الشدة في كلمة (عَصِيبٌ) يوم عصيب يوجب الإبطالا، ولقد جاء في معنى (وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا)، أصله أن يذرع البعير بيديه ذرعا في سيره على قدر سعة خطوه، فإذا حُمِّل أكثر من طوقه ضاق عن ذلك وضعف ومد عنقه فضيق الذرع، فضيق الذرع كناية عن ضيق الصدر، وهذا تخريج آخر، والقرآن الكريم حمال لكل وجوه القول البليغ.
هذا ما كان من أمر نبي اللَّه لوط وقد توقع الشر من قومه، أما ما كان من قومه فقد قال تعالى فيهم:
(وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨)
قالوا مصرين على سوئهم وقبح فحشهم.
قالوا ما لنا في بناتك من حاجة، وعبروا عن هذه الحاجة بكلمة الحق، فقد توهموا لفرط غلبة الشهوة عليهم أن هذا الذي يفعلونه من إثم حق منحه اللَّه لهم، هم ومن يشبههم من جيل هذا الزمان.
فوجئ لوط، وقد كان في حال ضعف يتمنى النجاة، بقولهم إنا رسل ربك الذي خلقك ورباك وبعثك وهو القوام عليك وعلى الناس أجمعين، وقد أدرك من كونهم رسل اللَّه أنهم جاءوا لعذاب قومه وإنجائه وابتدءوا بذلك.
(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) والإسراء السير ليلا، " بقطع من الليل "، وهو الجزء الذي يكون في منتصف الليل أو قريبا من النصف الأخير حيث يهجعون ويكونون في نوم عميق.
(وَلا يَلْتَفِتْ مِنكمْ أَحَدٌ) أي لَا ينظر وراءه ولا يتخلف لمتاع أو لنحوه مما يشغلكم عن أنفسكم، واستثنيت امرأته، ووصفها اللَّه تعالى في آية أخرى بقوله (... إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ)، وإن العذاب نازل بها، كما هو نازل بهم أي أن الحال والشأن يصيبها ما أصابهم، وعبر باسم الفاعل للدلالة على نزوله نزولا مؤكدا بها، وقوله تعالى: (مَا أَصَابَهُمْ) في التعبير بالماضي والعذاب لم يقع بعد لتأكيد الوقوع كقوله تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ...).
وقد تعين موعد نزول العذاب وأنه قرب فقالوا: (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) أي أن العذاب نازل بهم في الصباح وإنه لقريب، ومعنى الاستفهام التقرير، إذ هو للنفي وقد دخل على النفي إثبات، وجاء بهذه الصيغة لتأكيد الوقوع وقد أكد بالباء ثم كان العذاب الشديد المبيد، فقال تعالى:
(فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣)
و (مَنضُودٍ) أي متتابع لم ينقطع.
وأشار سبحانه إلى أن ذلك قريب من مشركي مكة لشركهم وكفرهم وعنادهم للنبي - ﷺ -، ولذا ختم اللَّه تعالى قصة صالح وثمود بقوله: (وَمَا هِيَ مِن الظَّالِمِينَ بِبَعيدٍ) أي أن ذلك ليس ببعيد عن كفار مكة، وأنه يترقبهم مثله إن لم يؤمنوا، وأن في قصص ثمود وعاد وقوم نوح لعبرة لأولي الأبصار.
* * *
مدين وشعيب
(وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ
* * *
قال تعالى:
(وَإِلَى مَدْيَنَ) معطوف على ما قبله من قوم صالح، (أَخَاهُمْ شُعَيْبًا) ذكر أنه أخوهم لأن الرسول يكون من قومه، ومن ذؤابتهم، وفي كلمة (وَإِلَى مَدْيَنَ)، الجار والمجرور متعلق بفعل محذوف، أي أرسلنا إلى مدين، لأن عطف النسق يكون على نية تكرار الفاعل.
وقد اتجه شعيب إلى قومه يناديهم بنداء الرابطة الواصلة بينه وبينهم الدالة على المحبة المتبادلة بقوله: (يَا قَوْمِ) ويطلب إليهم الإيمان بوحدانية اللَّه التي تتجلى في عبادته وحده: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) وكلمة (مِنْ)
وإذا كان قوم لوط قد اشتهروا بالفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين، فقد اشتهر آل مدين بالفساد في البيان والمعاملات والتطفيف في المكيال والميزان، ولذا نهاهم عن التطفيف بعد الأمر بعبادة اللَّه وحده فقال تعالى: (وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْميزَانَ).
وعلل الرسول الكريم نهيه عن ذلك بقو له: (إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ)، أي أراكم في سعة من العيش وعندكم الرزق الوفير، فلستم في فقر يسوِّل لكم أخذ حق غيركم، بل أنتم في سعة من الحلال فلا تمدوا أيديكم إلى الحرام، لكن الطمع يغريكم بأخذ حقوق غيركم، وإنه لَا يردع من كانوا في هذه الحال إلا عذاب يوم القيامة الذي يحيط بكم إحاطة الدائرة تنتقلون فيها من عذاب إلى أشد منه هولا.
وبعد أن نهى عن تطفيف الكيل أمر بالوفاء تأكيدا إليه من حسن التعامل.
ناداهم عليه السلام نداء المودة والرغبة في نفعهم فقال: (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ) أي أعطوهما لأصحابهما وافيين غير منقوصين، (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) أي لَا تنقصوهم حقوقهم فإن نقص الحقوق ظلم في ذاته، وهنا انتقال من الخاص إلى العام، فالنهي عن نقص المكيال والميزان نهي عن نقص في الكيل والوزن، أما النهي عن بخس الناس أشياءهم نهي عن كل معاملة فيها أكل مال الغير بالباطل، كالربا والغش والتدليس والخيانة والرشوة والسرقة والاغتصاب وغير ذلك من نقص لأموال الناس وأكل لها بالباطل.
وإن التعامل الآثم واستحلال أخذ الأموال بالباطل، وسيادة الفسوق في المعاملات يؤدي إلى التناحر وتقطيع أواصر المجتمع، ولذا قال معقبا: (وَلا تَعْثَوْا
أي البقية القليلة الحلال التي تفضل لكم من متاجركم ومعاملاتكم هي خير لكم وأثمن لأرزاقكم وأكثر وفرا (إِن كنتُم مُّؤْمِنِينَ)، فإن الإيمان يولد القناعة ويقطع الطمع، ومصارع الرجال تحت بروق المطامع، ولذا قال: (وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) حفيظ يحفظهم من غضب اللَّه وظلمهم أنفسهم.
هذه دعوة شعيب تنزيه للنفس عن الشرك وتنزيه من البخس والظلم والطمع فماذا كانت إجابة قومه؟!
استنكروا دعوته في العبادة وفي إصلاح المعاملات، ولما كان كثير الصلاة والضرعة (قالوا أَصَلاتُكَ تَأمُرُكَ) أي تدفعك لأن تدعونا إلى عبادة اللَّه تعالى وحده وترك عبادة الأوثان، كما يستنكرون دعوته لإصلاح معاملاتهم، وذلك من مبادئ الأخلاق الكريمة.
ثم يقولون: (إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشيدُ)، قال بعض المفسرين إن قولهم هذا كان تهكما عليه، كأنهم يقولون أتحسب نفسك العاقل الرشيد المدرك وحدك وما أنت كذلك.
وإني أرى أنهم قالوا ذلك قاصدين معناه على إدراكهم، ولذا أكدوه بـ (إن) بأن، وباللام، وأنت، و (الْحَلِيمُ): العاقل المدرك، و (الرَّشِيدُ) الذي يدبر أموره على حكم العقل.
بعد أن قالوا للنبي كما فهمنا، إن ما أنت عليه من عقل ورشد يمنعك من دعوتنا إلى ترك ما عليه آباؤنا، وإلى منع متاجرنا، ومكاسبنا، يقول لهم مؤكدا أمورا ثلاثة:
الأمر الأول: أنه على بينة من ربه، وإنه مبعوث لهذه الدعوة، ولذا يقول منبها: (أَرَأَيْتُمْ إِن كنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ من رَّبِّي) وفي قوله: (أَرَأَيْتُمْ) تنبيه الاستفهام فيه للتقرير وإثارة الانتباه الشديد، وقوله: (إِن كنتُ عَلَى بَيّنَةٍ من رَّبِّي) (إنْ) مخففة من نون التوكيد، أي أنه الأمر، والثاني (كنتُ عَلَى بَينَةٍ) أي بيان برسالتي من ربي الذي خلقني ورباني وقام على شئون الوجود.
الأمر الثاني: أن اللَّه رزقه رزقا حسنا طيبا لَا ظلم ولا تطفيف ولا تدليس ولا بخسا للناس بغير حق وأريد منكم رزقا، ولكن أريده رزقا حلالا طيبا، وفي ذلك دعوة إلى القدوة به.
الأمر الثالث: إنه يطبق على نفسه ما يدعوهم إليه فيقول: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ)، أي أن أقصد ما نهيتكم عنه وأنتم مولون، أي إني أبتدئ بالأخذ بالنهي في الأمور التي نهيتكم فلا أنهاكم وأفعل ما أنهاكم عنه، وذلك ليتخذوا منه قدوة طيبة، ولا أخالفكم أي لَا أقصد خلفكم إلى ما نهيتكم،
وقد رأى نبي اللَّه شعيب أنهم شاقوه وصاروا في جانب، وهو في جانب، فقدر أن هذه المجانبة إلى العصيان، وأن يصيبهم نتيجة شقاقهم أن ينزل بهم من العذاب ما نزل بقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، ولوط، ولذا قال شفيقا عليهم رفيقا بهم،
وهذا الكلام فيه تنبيه إلى سوء العاقبة، وبين أيديهم العبر من غيرهم، وهي تستقبلهم في عاقبة أمرهم (لَا يَجْرِمَنَّكُمْ) لَا يحملنكم المُشاقة والمعاندة على استمراركم في العصيان فيصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح من غرق، وما أصاب قوم هود من ريح صرصر عاتية، وما أصاب قوم صالح من صيحة تتبعها رجفة، وما أصاب قوم لوط، وقال في هذا (وَمَا قَوْم لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ)، بل إن أرضهم تصاقب أرضكم.
وإن شعيبا نبي اللَّه تعالى رفيق بقومه، ينذرهم، ثم يفتح باب التوبة ليدنوا منه، ولا يجافوه، فيقول:
يطلب إليهم أن يستغفروا ربهم، بأن يطلبوا مغفرته عما ارتكبوا ويرتكبون من شرك، وسوء في المعاملات، وعسى الله أن يغفر لهم، ثم يتوبوا إليه، أي يرجعوا إليه بعد أن بعدوا، وكانت التوبة بعيدة عن الاستغفار، وكذا عطف بـ (ثُمَّ) للدلالة على عظم ما ارتكبوا، وقبح ما فعلوا، ولكن اللَّه تعالى يغفر، وقد كلل قبوله التوبة، ومغفرته بقوله تعالى: (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) أي إنه بسبب رحمته بخلقه، وقربه منهم بالمودة يغفر لهم، ويقبل توبتهم، فبين شعيب الرفيق باب الرجوع إليه، ويعرفهم أنه قريب من عباده، قيل أن ينزل بهم عقاب يوم شديد.
* * *
لم تنفع العظات، ولم يبق إلا العقاب
(قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (٩١) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥)
* * *
ويرد الحليم الرشيد شعيب غير عابئ بتهديدهم معتمدا على ربه، معتزا بعزته:
على ما تتمكنون من عمله، لتكون نتيجته لكم أو عليكم وإني عامل ما يمكنني الله تعالى منه، وما أرسلني به، (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) (سوف) لتأكيد الوقوع (مَن يَأْتيهِ عذَابٌ) في الدنيا (يخزِيهِ) ينزل به، فيجعله في أسفل السافلين، (وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) في قوله، وفي دعوته، فتبين حينذاك خزيكم وكذبكم، كما يتبين صدق قولي فيما دعوتكم إليه، وفي إنذاركم.
(وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) ارتقبوا ما يستقبلكم، وإني معكم رقيب متتبع متوقع صدق ما أنذر الله ربِّي وربكم نزل العذاب، بهم بأمر الله تعالى في ميقاته، ولذا قال تعالى:
(وَأَخَذَت الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) وأظهر في موضع الإضمار لبيان أن ما أنزل بهم من العذاب سببه الظلم بالشرك والظلم بنقص المكيال والميزان، والظلم بمنع الناس حقوقهم، وبخسهم حظوظهم.
والصيحة تبعتها رجفة في الأرض ماتوا بها، ولذا قال (فَأَصْبَحوا فِي دِيَارِهِم جَاثِمِينَ)، أي ميتين. وجاثمون ملازمون أماكنهم لَا يستطيعون حراكا؛ لأن الموت الداهم أفقدهم الحركة.
كأن لم يقيموا فيها إقامة مستمتعين بمغانيها، وهذا يشير إلى أن متعة الدنيا إلى وقتنا هذا لَا بقاء منها لشيء، ويقول سيحانه: (أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ) أي ألا بعدا وطردا من رحمة الله تعالى، وهلاكا لمدين، كما بعدت ثمود. وهلكت.
* * *
قال تعالى:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩)
* * *
قلنا إن قصص القرآن لَا مكرر فيه، وإن كان يبدو ظاهر الأمر أن فيه تكرار؛ لأن الذكر يكون على قدر العبرة.
وهنا في هذا الموضع يذكر أحوال الأمم الذين يبعث النبيون إليهم، ولذا ذكر قوم فرعون، وما حل بهم من اتباعهم فرعون، ولم يفصل الآيات المتوالية التي كانت تجري على يدي موسى آية بعد آية، وهم لم يرتدعوا حتى أهلكهم اللَّه تعالى بالغرق كما ذكر سبحانه ذلك في سورة الأعراف، وكما ذكر حال فرعون وقد أصابه الغرق، وآمن في آخر رمق في حياته إيمانا لَا يقبله اللَّه تعالى.
قال تعالى:
أي من يحيطون به، ويشاركونه فيما يفعل، ثم وصف سبحانه حال ملأ فرعون، وهو وصف عميق لآل فرعون، ولأهل مصر،
والوِرد هو الذي يرده الناس لتبريد أجسامهم، ونقع غلتهم وترطيب أكبادهم، وسميت النار به تهكما بحالهم، إذ يردونها، فيجدون النار المتأججة بدل الماء الفرات.
وأنهم بهذه التبعية للطاغوت:
وألحقوا في هذه الدنيا لعنة طردوا فيها من العزة والكرامة ونزل بهم الهوان والذل والمقت، (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ) أي العون الذي يعين به الرافد من يعينه، (الْمَرْفُودُ) أي المعان، أي أن فرعون ومن اتبعه، وكل المصريين الذين اتبعوه، يتعاونون في تبادل إرفاد النار، يعين كل منهم الآخر، فهو يعينهم، وهم يعينونه، وهذا تصوير لحالهم، إذ تعاونوا على الظلم والذل والإذلال في الحياة، فتعاونوا على المقت وإرفاد النار بعد الوفاة.
* * *
العبرة فيما قص الله تعالى هنا
قال تعالى:
(ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ
* * *
بعد أن ساق القرآن الكريم ذلك القصص الصادق الواعظ أو ذكر بعض ما فيه من عبر، فقال تعالى:
إن ما نزل بهم هو بسبب ظلمهم، ولذا قال تعالى:
أي أن ما نزل بهم لم يكن ظلما، بل كان عدلا؛ لأنه لَا يستوي المحسن والمسيء، والأعمى والبصير، ولا الظلمات والنور، ولا الظل والحرور، فهو جزاء عمل، وجزاء العمل من جنسه، ولكن ظلموا أنفسهم بإضلالهم بالشرك، وانسياقهم في طريق الفساد، ومعاندتها للحق واضطهادها لأهلهم، وإشاعتها للضلال، وخضوعها للأوهام بدل العقل المدرك المستقيم.
وإنهم إذا تردوا في هذا الهلاك الذي نزل بهم منعا لاستمرار فسادهم، وطغيانهم، ومحاربتهم - بدا لهم عيانا بيانا أن الآلهة التي اتخذوها من الحجارة أو غيرها، لَا تدفع عنهم ضرا، ولا تجلب لهم نفعًا، ولا تحميهم مما نزل بهم، ولذا قال تعالت حكمته: (فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ)، (مِن) هنا لاستغراق النفي، أي ما أغنت عنهم الآلهة التي زعموها مضادة للَّه تعالى أي شيء من الغَناء.
وأضاف كلمة آلهة إليهم، لبيان أنها ليست آلهة في ذاتها، وهي عاجزة كل العجز، إنما هي آلهة في زعمهم، وأوهامهم التي أضلتهم، وسارت في ضلال بعيد.
إن هذه الآلهة أخزتهم، ولم تُفدهم؛ لأنهم ساروا في الضلال إلى أقصى الغاية بل إنهم (لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) بالإهلاك، وهو خالقكم والقائم على وجودكم لم يستطسعوا دفعا للضرر، ولا جلبا لنفع (وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) التباب الهلاك والتتبيب الإهلاك الشديد الذي يتضاعف في ذاته، أي ما زادوكم إلا هلاكا متضاعفا، والهلاك ليس زيادة في ذاته وإنما الزيادة هي زيادة الضرر.
وإن الله تعالى قدر العذاب وأنزله فكيف تزيد الحجارة فيما قدر الله وهي لا تملك من الأمر شيئا؟ والجواب عن ذلك أنه تصوير لحالهم مع هذه الحجارة، إذ إنهم استمروا في عبادتها لَا ينون بل يجادلون، ويعاندون حتى جاءهم العذاب الأليم، وكلما زادوا عنادا كان العذاب على قدره، وعنادهم المتزايد، وعقابهم عليه المتضاعف، كله في تقدير الله العزيز الحكيم، والله حكيم عليم.
وإن هذا سنة الله تعالى في خلقه العصاة، ولذا قال تعالت كلماته:
التشبيه في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ) هو تشبيه حال القرى القائمة الظالمة في توقع عذاب الله لها بحال الذين أخذوا من قبل كغرق قوم نوح، وكالرجفة التي أخذت ثمود ومدين، وكالريح الصرصر الذي أخذ من قبل عاد كهذا الأخذ الذي أخذ به السابقون، يؤخذ القائمون في عصر النبي - ﷺ -، وإن ذلك الماضي إنذار للحاضرين من القرى الظالمين كالمشركين في مكة الذي يتحدّون الله ورسوله، ويحسبون أنهم الغالبون، والله تعالى غالب على أمره، وقد قرر بعد ذلك شدة عذابه في أخذه لهم من حيث لَا يحتسبون، فقال عز من قائل: (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) أي إن أخذه المفاجئ الذي لَا يرتقبونه فوق ما فيه من ألم المفاجأة، وهم يرتعون ويلعبون هو في ذاته مؤلم موجع، وشديد في إيلامه وفي حاله، وحالهم معه، كانوا ينتظرون مطرا يمطرهم، فإذا هو ريح فيها عذاب أليم.
وإن ذلك إنذار كما ذكرنا. للمشركين، حتى يرجعوا عن غيهم، وإن اللَّه إذا كان قد أخر عنهم العذاب، لأجل محدود، فإنهم ليسوا غالبين، وإنه سبحانه
ووصف أخذ القرى بأنه يأخذها وهي متلبسة بظلمها، تحمل في نفسها موجب عذابها.
وإن هذه الإنذارات يتعظ بها وينزجر من يؤمن بالآخرة، ويخاف مقام اللَّه فيها، ولذا قال:
الإشارة في قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً) للمذكور من أنباء قوم نوح، وهود، وصالح، وشعيب الآية، أي لدلالة واضحة على قدرة اللَّه تعالى، وإن خوارق العادات فيها دلالة على إرادة الخالق، وأنه فاعل مختار، وأنه قادر على الإعادة كما بدأ الخلق، وأن قدرته ليست بقدرة البشر، وإنها ليست مرتبطة بالأسباب والمسببات كالعباد بل فوق كل شيء، وأنه خالق الأسباب والمسببات، ولكن لَا يدرك هذه الآية إلا من سلمت نفسه من آفات الشك والشرك، وآمن باليوم الآخر، ولم تكن الحياة الدنيا خلب كبده (١)، وكل شيء في حياته، ولذا قال: (لمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ) ومن يخاف الآخرة يؤمن باليوم الآخر وأن بعد هذه الحياة الدنيا حياة آخرة هي الحياة الحقيقية التي يكون فيها البقاء، ويؤمن ثانيا بأن الحياة الآخرة فيها العذاب فيخافه، لأنه محاسب على ما قدمت يداه.
وليس المراد أن هذه آية فقط لهؤلاء الذين يؤمنون باليوم الآخر، ويوم الحساب، ولكن المراد أن الذين يدركون هذه الآية من استقامت نفسه، وعقله وقلبه
________
(١) والخِلْبُ، بالكسر: لُحَيْمَةٌ رقيقة تصل بين الأضلاع، أو الكبد، أو زيادتها، أو حجابها، أو شيء أبيض رقيق لازق بها. القاموس المحيط - فصل الخاء.
وقد وصف اللَّه بعد ذلك اليوم، فذكر أنه يوم الحشر، وقال فيه: (ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لهُ النَّاسُ) أي أن الناس جميعا مجموعون له في أول خلق آدم إلى يوم القيامة، وذلك يوم مشهود يشهد فيه الناس جميعا، وهو مُعَلَّم معروف لأهل المعرفة، وهو مشهود بما فيه من أحداث وحساب وعقاب، وبما ينزل فيه الملائكة صفا، وبما يتجلى فيه رب البرية (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣).
(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (٤١) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢).
وإِن ذلك اليوم لآت لَا محالة وإن تأخر فلأجل معدود ولذا قال تعالى:
أي أجل معدود في علم اللَّه لَا يتأخر، ولا يتقدم، بل معدود بالسنين والأشهر، والشيء المعدود لَا يقبل الزيادة ولا النقص، وإذا كان معدودا فإنه آت لَا محالة، فلا يتقدم لاستعجال أحد، ولا يتأخر لإرادة التأخير، لَا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.
ثِم قال تعالى في يوم مجيئه فقال تعالى:
هنا قراءدان:
القراءة الأولى: أن الباء غير محذوفة وهو الأصل: (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ).
والقراءة الثانية: حذف اجتزاء بدلالة الكسرة عليها، كأنها مقدرة في الكلام، تخفيفا وتيسيرا، والقراءتان مشهورتان، وإن حذف الباء موجود في لغة هذيل، وهي من أفصح العرب، فيقال لَا أدرِ من غير عامل يجزم الفعل ويحذف الباء، ويقول الزجاج: إن هذه قراءة، والذي أراه اتباع المصحف، وإجماع القراء لأن القراءة سنة متبعة.
الأمر الأول: إن الكسر إنباء عن وجود الباء وإن لم ينطق بها ليكون ذلك خفيفا على اللسان، ووافق لغة من لغات العرب الفصيحة.
الأمر الثاني: أن النحو تشتق قوته من القرآن، والقرآن فوقه.
وقوله تعالى: (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (تَكَلَّمُ) فعل مضارع حذفت فيه التاء، وأصله لَا تتكلم نفس إلا بإذنه. والضمير يعود على الله تعالى (إِلَّا بِإِذْنِهِ)، لأنه
حاضر في العقول والنفوس والقلوب، ولقد قال تعالى في ذلك: (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦).
وكونهم لَا يتكلمون إلا بإذنه لكيلا يقولوا إلا صوابا كما قال تعالى:
(... لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا).
ففي هذا اليوم يكون الإقرار بالذنوب من غير مماراة، بل يقرون بالحق؛ لأن هذا يوم الصدق، وإن الكلام في هذا اليوم بالإقرار الصادق، أما أن يكون فيه شقيا لما ارتكب وإما أن يكون سعيدًا، ولذا قال تعالى: (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) فمن الجمع المجموع شقي بما ارتكب في النار، وإما سعيد لم يرتكب إثما، فيكون في الجنة، وقد فصل القول سبحانه:
الشهيق النفس في الصدر، والزفير إخراجه وقيل العكس، (أما) ولتفضيل والبيان لما يئول إليه أمر الشقي، وما يئول إليه أمر السعيد، (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ) أي الذين شقوا بأعمالهم في الدنيا، وتسجيلها عليهم بإقرارهم في الآخرة، (فَفِي النَّارِ) أي أن مآلهم النار يدخلونها، (لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ)، أي يدخلونها في صدورهم بشهيقهم، ويخرجون منها نارا بزفيرهم، فالنار تكوي جلودهم، وتدخل إلى أحشائهم، يتلظون بها في أبدانهم ظاهرا وباطنا، داخلا وخارجا.
وقوله تعالى: (مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ) جريا على استعمال العرب في تأكيد دوام الحكم بأمر من الأمور، فيقولون في بيان دوام العقد: ما بلَّ بحر صوفة، كما قالوا في عقد حلف الفضول، ومقتضى هذا التعبير أنه يجب أن تبقى السماوات والأرض لكي تدوم النار، وإن قيل في هذا الدليل على فنائها مع فناء ما يكون فيها.
ولا دليل على أن النار فانية، ولها نهاية، وكذلك الجنة لوجود هذا التعبير؛ لأن التعبير بقول (خَالِدِينَ فِيهَا) جاء في آيات الكتاب الحكيم مطلقا غير مقيد ببقاء السماوات والأرض، ويعرف ذلك ما يفهم بطريق مفهوم المخالفة لَا يعارض النص بإجماع علماء الأصول، وإن الخلود في النار ثابت ثبوت الخلود في الجنة ونحن في جميع الأحوال خاضعون لإرادة اللَّه تعالى ومشيئته في الدنيا والآخرة.
ولذا قال تعالى: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) وقد ذكر هذا النص الكريم هنا، في أهل الجنة، وقد جاءت آثار في معناه نختار بالذكر منها ثلاثة:
القول الأول: ما ذكره بعض التابعين، وحكاه الزمخشري من أن الاستثناء هو من الخلود في النار، أو من أصل دخولها، والمستثنون هم فسقة أمة محمد، وغيرهم ممن يؤمنون باللَّه، وكان منهم عصيان، فإنهم يدخلون النار على مقدار معاصيهم، ويشاء اللَّه أن يخرجوا فيخرجون، أو أن تنفعهم شفاعة الشافعين، على رأي جمهور العلماء.
وإن هذا القول قد يستقيم بالنسبة للذين شقوا، ولكنه لَا يستقيم في الذين سعدوا.
والقول الثاني: أن قوله تعالى: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) فيها بيان أن العذاب والعقاب متعلق بمشيئته فهو الفاعل المختار، والأمر في ذلك متعلق بمشيئته هو في العدل والرحمة، فليس بحتم عليه: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)
القول الثالث: أن هذا ذكر للاستثناء في مقام الفعل، أخذ به اللَّه في حقه ليندب خلقه إليه، كما قال تعالى: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ...).
وإذا كنا لم نختر هذا القول، بل اخترنا الثاني فإنا لَا نقول: إنه قول باطل، وإنما اختيارنا للثاني لأنه صحيح في ذاته، ويرشح له قوله تعالى بعد ذلك: (إِن رَبَّكَ فَعَّالٌ لمَا يُرِيدُ) فهذا النص السامي يثبت أن إرادة الله مطلقة في كل ما يعطي، وكل ما يمنع.
وقوله تعالى إلا ما شاء الله: التعبير بـ (مَا) دون (مَن) لأن معناها أنه إلا أن يشاء اللَّه هذا ما ينال الذين شقوا من عذاب، أما ما يناله الذين سعدوا، فقد بينه بقوله تعالى:
(سُعِدُوا) بالبناء للمفعول، لأن الفاعل معلوم، وهو اللَّه تعالى، فالمعنى سعدهم اللَّه، فسعدوا، وقد سعدوا، لأنهم اهتدوا إلى الإيمان والعمل الصالح في الدنيا، وسعدوا لأنهم دخلوا الجنة على وجه الدوام في الآخرة، وسعدوا لأن نالوا رضوان اللَّه، في الدنيا والآخرة، ولأنهم يوم القيامة، يتجلى عليهم ربهم فتنضر وجوههم وتنظر أعينهم، كما قال تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣).
وذكر سبحانه نيلهم الجنة، فيقول: (فَفِي الْجَنًةِ خَالِدِينَ) مقيمون على وجه الخلود، (مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ)، وقد ذكرنا أن هذا ليس تقييدًا لإرادة اللَّه
وقوله: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) ذكرنا ما قيل فيه، وقلنا إن المختار عندنا إنه بيان لمشيئة اللَّه التي لَا يقيدها شيء فلا حتم عليه، وإذا كان قوله في أهل النار: (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لما يُرِيدُ) يؤيد معنى المشيئة، فقوله تعالى: (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)، يؤيد المشيئة المطلقة هنا؛ لأن العطاء لَا إلزام فيه، وقوله تعالى: (غَيْرَ مَجْذُوذٍ) ومعناه مخير مقطوع بل هو دائم، والله أعلم.
وإذا كانت هذه الأقوام الماضية قد نزل بها ما نزل، وإن المشركين لَا يترقبون مثلها، فتأس بالأنبياء من قبلك، واصبر كما صبروا، ولذا قال تعالى:
(الفاء) تصل الكلام بما قبله، وهو مترتب على القصص السابقة والجزاء الذي أعده الله تعالى للأشقياء والسعداء، والفاء للإفصاح عن شرط مقدر مؤداه إذا كان ما علمت من قصص لعبدة الأوثان وأنبيائهم، وما نزل بالمشركين، فلا تك في شك من بطلان ما يعبد هؤلاء، وأصلها تَكُن، وحذفها كثير في القرآن الكريم، وهو يعطي اللفظ جمالا في النسق والنغم وحلاوة في اللفظ، وتلك خصائص القرآن الكريم، وقوله: (فِي مِرْيَةٍ) أي شك يدفع إلى الراء، والمجادلة، والنهي هنا والحال أن ذلك لَا يتصور منه، فهو بالنسبة له - ﷺ - أمر غير متصور الوقوع منه - ﷺ - وللنهي فائدتان:
الفائدة الأولى: أنه نهي لمن يقرءون القرآن، فهو نهي في ظاهره للنبي - ﷺ -، وفى حقيقته لكل أتباع محمد، وكل من يخاطبون بالقرآن، وهو اقتلاع لجذور الشك من النفس.
ومن أحسن ما قرأت في تأويل ذلك أن مؤدى النهي هو أمر النبي - ﷺ - بأن يقول لكل من يخاطبه (فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) وإن كان اللفظ لَا يساعد في ظاهره ذلك، فهو منتهاه، يؤدي إليه قوله تعالى (مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ)، والإشارة إلى المشركين، أي قل لقومك لَا تكونوا في مراء مما يعبد هؤلاء من أوثان، فإنهم لم يفكروا فيه، ولم يتجهوا فيه إلى منطق عقلي أوصلهم إليه، ولكنهم ألغوا عقولهم اتباعا لآبائهم ولذا قال تعالى: (مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ) أي أنهم مقلدون، وليسوا بمفكرين ولا بمهتدين ولذا كانوا يقولون لأنبيائهم: (... أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا...) وكان مشركو مكة يقولون: (... وَإِنَّا عَلَى آتارِهِم مُّقْتَدُونَ)، وكانوا يقولون: (بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ).
ولهذا، وذكر سبحانه اتباعهم لآبائهم، بل لبيان أنهم لَا يفكرون، وهم مؤاخذون لكفرهم، ولإهمال الآيات الدالة على الوحدانية، وللمعجزة الدالة على رسالة محمد - ﷺ -، وهي معجزة القرآن الكريم.
ولهذا قال تعالى في بيان جزائهم: (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ).
ذكر بعض المفسرين أن المراد نصيبهم في الدنيا من رزق، ويكون المعنى لا يغرنك تقلبهم في البلاد وما أوتوا من ثروة، وجاه، فإنه لَا يدل على أنهم على حق، فإن رزق الدنيا منوط بأسبابه، وإن اللَّه يعطيهم أرزاق الدنيا غير منقوصة، فالنصيب هنا هو الرزق الدنيوي.
وأما الرأي الثاني أن المراد نصيبهم من العذاب، والقرينة تعينه، لأن الكلام عن عذاب الذين عاندوا النبيين، وصادموا دعواتهم، وسخروا منها. وقوله تعالى (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) حال مؤكدة لمعنى الوفاء في كل الأقوال، ولعل خير الأقوال ما يشمل النصيبين، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.
* * *
قال تعالى:
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (١١٣) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥)
* * *
كانت التسلية في قصص الأنبياء الذين بعثوا في أرض العرب، وللعرب، ولم تذكر لهم كتب، وقد ذكر بعد ذلك موسى وقد جاء بكتاب يصدقه القرآن، وفيه بشرى بمحمد - ﷺ -، فأشار سبحانه إلى قصة موسى بطرف من القول فقال تعالت كلماته:
و (الفاء) في قوله: (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) للعطف والترتيب من غير تراخ، وكأنه ترتب على إيتاء اللَّه تعالى موسى الكتاب الاختلاف، وهذا يدل على أن الاختلاف ليس ناشئا من ذلك الكتاب، بل هو ناشئ من فساد النفوس وإذا فسدت النفوس لا يقنعها الدليل، ولا يهديها البرهان مهما يكن حاسما.
وقد افترق اليهود على فرق شتى حول التوراة ما بين ربانيين وقراءين، وصدوقيين لَا يؤمنون باليوم الآخر.
ويبدو من فرقهم أن الاختلاف في شأن الكتاب كان في فهمه، حتى ضلوا وحرفوا الكلم عن موضعه، وأتوا بكتاب لم يُنزل على موسى، وقالوا إنه من الكتاب، واجس منه في شيء.
وقد قال تعالى: (وَلَوْلا كَلمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) ولولا أن اللَّه تعالى يمهل الظالمين إلى يوم يبعثون، ويتركهم يتجادلون، ليزيد ابتلاؤهم لقضى بينهم في هذا الاختلاف وبين الحق الذي لَا يحتار فيه أحد، ولكنه تركهم يتعرفونه؛ لأنه خلقهم ذوي مدارك، ومع كل نفس فجورها وتقواها.
وقال تعالى: (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) الشك معناه التظن في الحق، وقد بدت دلالة، والريب هو نتيجة هذا التظنن، والضمير في قوله: (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) يعود إلى المشركين كما يقول أكثر المفسرين، والضمير في (مِّنهُ) يعود إلى القرآن.
وإن في ذلك لعبرة من ناحيتين:
الأولى: تسلية النبي - ﷺ -.
والثانية: بيان أن الاختلاف والجدل تميع فيهما الحقائق، ويحل محلها الشك والريب، اللهم هبنا الوفاق، وجنبنا الشقاق، وقد أكد اللَّه تعالى شك القوم بإن وباللام وبالجملة الاسمية.
ويقول في جزاء السابقين واللاحقين:
- هنا قراءتان إحداهما بـ (إِنَّ) الثقيلة، والثانية بـ (إنْ) الخفيفة (١)، والتنوين في (كُلًّا) نائب عن المضاف إليه، أي إنهم جميعا ليوفينهم ربك أعمالهم، وهذا يتضمن مآل الماضين والسابقين على محمد - ﷺ - وإنذار الذين يعادونه، ويؤذون أصحابه ويسخرون منهم، فالمعنى إذن، وإن كلا من الفريقين لما سيوفيهم ربك أعمالهم.
اللامان لتوكيد القول؛ الأولى واقعة في خبر (إن)، والثانية موطئة للقسم أو العكس، ولا تغيير في المعنى بأي التقديرين، وكانت (ما) فاصلة بينهما لكيلا يثقل النطق بلامين وهي مع ذلك دالة على تأكيد ما تدل عليه اللام الأولى.
________
(١) قراءة (وإنَّ كُلًّا) بإسكان النون، قراءة مكي ونافع، وأبو بكر والمفضل، وابن بشار عن علي. وقرأ الباقون بتشديد النون. غاية الاختصار (١٠٢١).
وقو له (أَعْمَالَهُمْ)، أي جزاء أعمالهم، ولكنه سبحانه حذف الجزاء، وأضاف الجزاء إلى الأعمال للإشارة إلى أن الجزاء وفاق العمل، فكأنهما شيء واحد، إذ يكون عادلا تمام العدل، يوم تجد كل نفس عملها محضرا، وإن العدل الحقيقي يقتضي المساواة بين العمل والجزاء، ويقتضي العلم، وقد أشار إلى العدل بالمساواة دين الجزاء والعمل حتى كأنه هو، وصرح بالثاني في قوله (إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبيرٌ) الضمير يعود إلى اللَّه الذي تذكره القلوب، ولا تنساه، و (خَبِيرٌ) معناه، عالم علص ادقيقا لَا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يعلم ما تكسبه الجوارح، وما يجول في الأفئدة. إنه سميع بصير.
(فاسْتَقِمْ) السين والتاء للطلب، أي اطلب إقامة الدين، وحفظ جوارحك الظاهرِة والباطنة في دائرة القيام به، وإدراك غاياته ومراميه، وقوله تعالى: (كَمَا أُمِرْت) الكاف للتشبيه والمعنى اجعل أعمالك ومرام نفسك وقلبك كما أمرت أي كما أنزل اللَّه تعالى، وبني للمفعول لأن الفاعل معلوم حاضر في الذهن دائما، ولأن الاستقامة توجب اتباع الأوامر في ذاتها (وَمَن تَابَ مَعَكَ)، فقوله تعالى: (وَمَن تَابَ مَعَكَ) معطوفة على الضمير في استقم، وإنما جاز النطق على الضمير المستتر في الخطاب من غير أن يؤكد بالضمير البارز للفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، وهو بقوله تعالى: (كَمَا أُمِرْتَ)، فيكون عدم إبراز ضمير الخطاب مناسبا للنسق.
وإن الاستقامة هي غاية الكمال الديني؛ لأنها القصد إلى الهدف الأسمى، ولانها روح الإسلام وغايته، وقد قال بعض الصوفية: إن الاستقامة هي مطلب
ولقد قال تعالى: في بيان الاستقامة أن أعلى درجات الإيمان: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)، إلى آخر الآيات.
وقوله (ومَن تَابَ مَعَكَ) أي الذين معك من المسلمين، وعبر عنهم بأنهم تابوا للإشارة إلى أن إسلامهم لَا يكون كاملا إلا إذا كانوا مع اللَّه تعالى، وإلى أن الإسلام توبة عن الشرك، وإن الشرك انحراف في النفس، وتركه رجوع إلى اللَّه تعالى.
وإن الاستقامة تهذيب روحي، واتجاه نفسي، وقد نهى عما يؤدي إلى الانحراف عن الاتجاه المستقيم (ولا تطغوا) فيه، إن النفس تنحرف عن الجادة، والطريق الأقوم بالطغيان، وهو مجاوزة الحد، ومجاوزة الحد قسمان:
القسم الأول: التشدد في الدين الذي يؤدي إلى إرهاف النفس، وإن إرهاقها يؤدي إلى التقصير، ولذا أمر النبي - ﷺ - بالاعتدال، فقد قال عليه الصلاة والسلام:
" لن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه، ولكن سددوا وقاربوا "، وقال: " أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ " (٢).
والقسم الثاني من الطغيان: الظلم، ومجاوزة الحد مع غيره، وإن هذا المعنى مناسب دلآية بعد ذلك. ولقد بين اللَّه سبحانه وتعالى أنه مراقب العباد،
________
(١) رواه مسلمْ الإيمان - جامع آوصاف الإسلام (٣٨)، ولفظه عند مسلم: قل آمنت باللَّه فاستقم "، وباللفظ اعلاه رواه أحمد مسند المكيين - حديث سفيان بن عبد اللَّه السقفي (١٤٩٩٠). كما رواه الترمذي الزهد، وابن ماجه في الفتن، والدارمي في الرقاق.
(٢) سبق تخريجه.
كان في هذه الآية النهي عن الظلم، ثم أردفها بالنهي عن الارتكان إلى ظالم، فقال:
________
(١) متفق عليه وقد سبق تخريجه من رواية عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه.
(وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)، الواو عاطفة هذا النهي على النهي السابق، وهو قوله تعالى: (وَلا تَطْغَوْا) الركون الاستناد، فيقال ركن إلى الجدار أو الجبل أو الركن إذا استند إليه، ويتضمن ذلك النهي الاعتماد على الظالم، والإدهان إليه والميل إليه، والتودد له، والتقرب منه، ومعاونته في الأمر الذي يفعله، وقوله تعالى: (الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي الذين وقع منهم الظلم، وإن لم يتصفوا بالظالمين، وإذا كان النهي عن مساندة الذين وقع منهم ظلم، فأولى بالنهي من يكون الظلم عادة وسياسة مستمرة لهم، ويلاحظ أن التعبير بالموصول فيه بيان بسبب النهي، وهو مرفوع الظلم منهم، ولقد قال الرسول - ﷺ - في معاونة الظالمين: " ومن سعى مع ظالم، فقد سعى إلى جهنم "؛ لأنه عاونه في ظلمه، ولو أن الذين يظلمون لا يجدون من يعاونهم، ويمانعهم، وينصرونهم على المظلومين ما استمروا يرعونها، حتى تكون فيها أشواك الأذى الممزقة.
ولقد وجدنا ناسا في عهد طاغوت رأيناه أشد من فرعون عتوا، يمالئونه على المسلمين، حتى قتل، وآذي وقطع أطراف الشباب، ووصل عدد قتلاه خمسة
وقد كتب الزمخشري في هذا كتابة قيمة ننقلها من تفسيره، رضي الله عنه:
" والنهي متناول الانحطاط في هواهم والانقطاع إليهم ومصاحبتهم ومجالستهم، وزيارتهم ومداهنتهم، والرضا بأعمالهم، والتشبه بهم، والتزيي بزيهم، ومد العين إلى زهرتهم، وذكرهم بما فيه تعظيم لهم، وتأمل قوله تعالى: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) فإن الركون هو الميل اليسير، وقوله تعالى: (إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي الذين وقع منهم الظلم، ولم يقل الظالمين، فكيف بالظالم، وحُكي أن الموفق (أحد خلافاء العباسيين في عهد انحلال الحكم العباسي) صلى خلف الإمام فقرأ بهذه الآية، فغشي عليه، فلما آفاق قيل له، هذا فيمن ركن إلى من ظلم فكيف بالظالم. وعن الحسن (البصري) رحمه الله: " جعل الله الدين بين لائين (لا تَطْغَوْا)، و (لا تَرْكَنُوا)..... ".
ولما خالط الزهري السلاطين كتب إليه أخ له في الدين:
" عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن، قد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك ويرحمك، أصبحت شيخا كبيرا، وقد أثقلتك نعم الله، بما فهمك الله من كتابه، وعلمك من سنة نبيه، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء، قال الله سبحانه: (... لَتبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ...). واعلم أن أيسر ما ارتكبت، وأخف ما احتملت، أنك آنست وحدة الظالم وسهلت سبيل الغي بدنوك ممن لم يؤد حقا ولم يترك باطلا حين أدناك، اتخذوك قطبا تدور عليك رحى باطلهم، وجسرًا يعبرون عليك إلى بلائهم، وسلَّما يصعدون فيك إلى ضلالهم، يدخلون الك بك إلى العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهلاء، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك، وما أكثر ما أخذوا منك في جنب ما أفسدوا عليك من دينك، فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم: (فَخَلَفَ
ويسترسل الزمخشري في نقل ما قاله العلماء في الظالمين، والذين يركنون إليهم كما نرى فيمن اتسموا بسِمة العلم، قال رضي الله تعالى عنه وقال سفيان (الثوري): في جهنم دار لَا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك.....
وعن الأوزاعي " ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملا ".
وعن محمد بن مسلمة: الذباب على العذرة أحسن من قارئ على باب هؤلاء.
وقال رسول الله - ﷺ -: " من دعا لظالم بالبقاء، فقد أحب أن يعصى الله في أرضه ".
ولقد سئل سفيان الثوري، عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هل يسقى شربة ماء، فقال: لَا. فقيل له يموت، فقال: " دعه يموت ".
رضي الله عن الزمخشري، وإن كنا لَا نرضى عن فتيا سفيان الثوري الأخيرة، فإنه صح عن النبي - ﷺ - أنه نهى عن القتل بالعطش، وهذا أمر بالإسعاف.
ولقد قال بعد النهي عن الركون إلى الظالم (وَمَا لَكم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أؤلياءَ)، (مِن) هنا لاستغراق النفي و (أَوْلِياءَ) النصراء أي ليس لهم من الذين
(ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ) العطف بـ (ثُمَّ) هنا، وهي دالة على التراخي لبيان البعد بين الانتصار، وموالاة الظالمين، أو الركون إليهم بموادتهم، ومعاونتهم.
اللهم لَا تؤاخذنا بما كان منا للظالمين من سكوت، في كثير من الأحيان، اللهم هيئ نفوس حكامنا للعدل، فإنهم أضاعوا المسلمين بظلمهم، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه.
ولقد قال تعالى بعد النهي عن الفساد، آمرا بالصلاح، لأن التخلية قبل التحلية.
هذا معطوف على الأوامر والمنهيات قبله، وقلنا إنه سبحانه نهى عن الظلم والطغيان، والامتناع عن الظلم والطغيان فعل الخير، وإن الظاهر من هذه الآية، وآية الروم، وهي قوله تعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨)، فإن هاتين الآيتين تومئان إلى أوقات الصلوات الخمس، فكانت بعد فرضيتها في المعراج.
وإقامة الصلاة في الأمر (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ) الإتيان مقومة مستوفية أركانها الظاهرة والباطنة من خلوص المشيئة لله تعالى: واستشعار معاني الأركان النفسية، وألا يقصد بها المراءاة، فمن صلى يرائي فقد أشرك، وقال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (٧).
وطرفا النهار ما هما؟، اختلفت الروايات في ذلك، وأقربها في اعتقادنا، وهو المأثور عن النبي - ﷺ - أن الطرفين الفجر أو الصبح، وما بعد الظهر، وزلفا من
وإن تعيين الآيات تقارب أو يتعين اتحادها فى هذه الآية، وآية الروم، ولا شك أن إقامة الصلوات الخمس مستوفيات أركانها الظاهرة والباطنة، والاستمرار عليها يطهر النفس من أرجاسها، ويمحو تلك المعاصي التي يغبر بها القلب، ولقد قال - ﷺ - فيما رواه مسلم: " الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر " (١).
وذكر شرط اجتناب الكبائر؛ لأنه لَا يمكن أداء هذه العبادات على وجهها، مجتمعا مع الكبائر قط، إذ لَا يجتمع في قلب مؤمن عبادة أديت على وجهها، وارتكاب كبيرة، ولقد أثر عن النبي - ﷺ - أنه قال: " لا يزنى الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن " (٢).
ولذا قال تعالى بعد الأمر بإقامة الصلاة في وقتها: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) لأن الحسنات نور يدخل القلب فيزيل غمته، وهي طهارة ترحض ما في النفس من أدران الشر، وأخباثه.
ولقد قال النبي - ﷺ -: " الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار " (٣).
وإن الصلوات الخمس - إن أقيمت على وجهها - أشد العبادات محاربة للمعاصي، ولذا قال تعالى: ر (... إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)، وإن توزيعها في أوقاتها جلاء
_________
(١) في واه مسلم - الطهارة - الصلوات الخمس - والجمعة إلى الجمعة (٢٣٣) عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه ".
(٢) سبق تخريجه.
(٣) سبق تخريجه.
ولقد روى البخاري عن ابن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي - ﷺ - فأبره، فأنزل اللَّه تعالى قوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يذهِبنَ السَّيِّئَاتِ) (١).
ولقد قال تعالى: (ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) الإشارة إلى القيام بالفرائض الخمس، وقال المفسرون: إنه إشارة إلى القرآن، وكانت الإشارة إلى البعيد لعلو منزلته، ورفعة مكانته، وبعد شأوه، ولا مانع فيما نرى أنها للقيام إلى الصلوات الخمس، لهذه المعاني أيضا، والمشار إليه مذكورا.
والذكرى التذكر الدائم الباقي المستمر، ولا شك أن أداء الصلوات الخمس في مواقيتها على الوجه الكامل يجعل نفس المؤمن في ذكر دائم للَّه، ولذا ختم الله تعالى آية الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر بقوله تعالى: (... وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكبَرُ...).
وإن العبادات أداؤها على الوجه الأكمل الذي أشرنا إليه يحتاج إلى صبر وضبط النفس، ولذا قال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشعِينَ)، ولذا قرن الأمر بإقامة الصلاة، بالأمر بالصبر، فقال تعالى:
________
(١) رواه البخاري: مواقيت الصلاة - الصلاة كفَّارة (٥٢٦)، ومسلم: التوبة (٢٧٦٣).
الأمر في هذه الآية وما قبلها للنبي - ﷺ - ابتداء، ولمن يتبعه من المؤمنين انتهاء، وهنا ملاحظة بيانية، تليق بالقرآن الكريم المعجزة الكبرى في بيانه، وكل شئونه.
والصبر ضبط النفس عند وقوع ما لَا يرغب، أو ما يرغب، فالصبر على النعمة، لَا يفرح بها فلا يبطرها بل يشكرها، والصبر على وقوع ما لَا يرغب بأن تنزل به شديدة فإنه يكون بألا يفزع ولا يهلع، فيضطرب تفكيره، ويطيش ولا يتدبر الأمر في رفق، وثبات جأش، واطمئنان قلب.
وبين الله تعالى أن الصبر من إحسان المحسنين فقال تعالت كلماته: (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي الذين يعملون العمل الصالح، ويحسنونه،
ويداومون عليه بالصبر، ولا يجزعون لحرمان أو شدة، ولا يأشرون ويبطرون إن اختبرهم الله تعالى.
* * *
الفساد يعم بسكوت الاخيار
قال تعالى:
(فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (١١٧)
* * *
قال تعالى في بيان ما يصلح الأمة: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، إن الجماعة إذا كان فيها من يدعو إلى الخير، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر جعلها فضلاؤها، كلها فاضلة، ولقد بين سبحانه وتعالى أن سبب فساد السابقين الذين أصابهم الله تعالى بالهلاك هو أن أهل الفضل لم يدعو إليه ولو أنهم دعوا ما استجابوا لهم، فقال:
أو نقول إن (لولا) بمعنى (هلا) للتحريض على أن يكون منهم فضلاء لنجاتهم، ولكن كيف يقال إن ثمة تحريضا، وقد مضوا بما كان منهم، والتحريض للحاضرين لَا للغابرين، والجواب عن ذلك أن القصة الصادقة تصورهم حاضرين ويكون التحريض لهم على التصوير، وللقائمين ليتعظوا ويعتبروا. وإطلاق كلمة البقية على الفضل إطلاق في اللغة العربية حلله الزمخشري بقوله رضي الله عنه: (أولُو بَقِيَّةٍ) أولو فضل وخير، وسمي الفضل، والجودة بقية؛ لأن الرجل يستبقى مما يخرجه أجوده وأفضله، فصار مثلا، في الجودة والفضل، ويقال فلان من بقية القوم، أي من خيارهم، وبه فسر بيت الحماسة:
" أن تزينوا ثم يأتيني بقيتكم....
ومن قولهم في الزوايا حنايا، وفي الرجال بقايا ".
وخلاصة ما يرمى إليه النص أن الأمم إنما تسير في طريق الهلاك، إذا سكت عقلاؤها عن النطق بالحق في إبانه، فما كفر مشركو قريش إلا لأنه لم يكن من رشدائهم من يقاوم أمثال أبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وغيرهم في طغيانهم وظلمهم.
ولذا قال تعالى في عمل أولي البقية لو صلحوا: (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ) من فشو الأراذل، كما فشا في قوم لوط، ومن تطفيف الكيل والميزان كما فشا في قوم شعيب، ومن الشرك فيهم جميعا، حتى لقد كانوا يعبدون الأحجار ولا يوجد فيهم من يبين أنها لَا تضر ولا تنفع، ولما جاءهم الرسل، سَكت أولو البقية، ولم يرشدوا، ولم ينادوا بالحق، منكر، نسكت من يُنتظر منهم قول فاضل، وتكلم المستهزءون من الحق والساخرون.
وقال تعالى: (إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ) (من) الأولى بيانية، و (من) في (مِنْهُمْ) تبعيضية، والاستثناء قال المفسرون البلاغيون: إن الاستثناء منقطع بمعنى لكن، أي لكن قليلا منهم ممن أنجيناهم منهم قد استقاموا على الطريقة، واتبعوا سبيل الرشاد.
ولا مانع أن يكون الاستثناء متصلا غير منقطع، ويكون المعنى فلولا كان من القرون أولو بقية، أي ما كان من القرون قبلكم أولو فضل إلا الذين قليلا أنجيناهم منهم، ويكون في النص قصر الفضل على الذين اتبعوا الأنبياء، وأرى أن هذا أقرب، وعليه يكون الذين بعث فيهم النبيون قسم تبعهم، وأنجاهم اللَّه، وهم عدد قليل، وقسم عصوا ربهم، وهم الظالمون، وقد بين سبحانه أمرهم فقال عز من قأل: (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ).
والترف والأثرة متلازمان، فحيثما كان الترف كانت الأثرة؛ لأن من يطلب النعم لَا يهمه إن كان من طيب أم كان من خبيث، وأكان باعتداء أم كان من غير اعتداء.
وإن المترفين الأثرين هم دعاة الشر دائما، ويقول تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (١٦).
وقوله تعالى: (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ) فيه أمور ثلاثة:
الأمر الأول: اتبع أي طلبوه، وساروا وراء الترف لَا يلوون عنه.
الأمر الثاني: ذكر أنهم ظلموا، أي تجاوزوا الحد، واعتدوا، ودفعهم ظلمهم إلى هذا الاتباع.
الأمر الثالث: أنهم اتبعوا الترف وشهوات الترف، فهذا كقوله اتبعوا الشهوات.
ولقد وصفهم - سبحانه وتعالى - مسجلا عليهم الإجرام، والآثام، فقال: (وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) أي استمروا في ماضيهم متجمعين على الإجرام، حتى صار الإجرام وصفا ملازما لهم.
وإن هذا الإجرام، والسكوت عن النهي على الفساد، وترك الأشرار يرتعون، وترك الظالمين يترفون يجعل الأمة كلها فاسدة وظالمة، وبذلك تهلك، ولذا قال تعالى:
الظلم ذكر بعض العلماء أنه الشرك لقوله تعالى حاكيا عن لقمان: (.. إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ). وإنه ظلم بلا ريب فيه، ويكون المعنى على هذا: وما كان الله يهلك القرى بشركها، وأهلها مصلحون فيما بينهم يتعاونون ويقيم الحق في معاملاتهم حتى لقد قال بعضهم إن الشرك مع إقامة العدل لا يهلك، والإيمان مع ظلم التعامل يهلك الأمم.
وقال بعض المفسرين: إن المراد والظاهر أنه مراد، أنه ما كان ربك ليهلك القرى ظالما لها، وأهلها مصلحون يعدلون فيما بينهم، ولا يشركون بالله ولا يكون منهم ظلم بل نصفة وعدل، فما كان الله ظالما لعباده.
وعندي قوله تعالى: (وَمَاكَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى) بظلمها، وأهلها متعاونون، صالحون للبقاء، والظلم أعم من الشرك، والاعتداء في المعاملات والفساد، والتخريب، وقطع ما أمر الله تعالى به أن يوصل.
و (مَا) هنا نافية، و (اللام) لتأكيد النفي، ولذا تسمى عند النحويين لام الجحود، والمعنى ما صح وما استقام لربك الذي خلقك وقام على تدبير أمرك أن يهلك القرى بظلم يقع فيها، وأهلها مصلحون، متعاونون فى الإصلاح أشرنا، وفاضلهم ينصح أرذلهم، والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر قائمو بواجبهم، قد ابتغوا الغاية السامية، وهي نشر الفضيلة، ومحاربة الرذيلة، قائمين بالقسط شهداء الله.
ولقد روى الترمذي حديثا في هذا المعنى: " إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه " (١).
________
(١) رواه الترمذي: الفتن - نزول العذاب إذا لم يغير المنكر (٢١٦٨)، كما رواه أحمد في مسند أبي الصديق (٣٠)، وأبو داود في الملاحم (٤٣٣٨)، وابن ماجه في الفتن (٤٠٠٥).
وإن إرادة اللَّه تعالى تعلقت بتنازع الخير مع الشر، من وقت أن هبط آدم وإبليس إلى هذه الأرض وقال: (... اهْبطُوا بَعْضُكمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ...). يتنازع الخير والشر، في نفس كل إنسان، كما قال تعالى: (وَهدَيَناهُ النَّجْدَينِ)، حتى إن كف النفس عن الشر يعد جهادا، يثاب عليه، ويتنازع الآحاد بعضهم مع بعض، وتتنازع الجماعات وتتحارب الدول، وتلك إرادة اللَّه، ولو شاء لخلقهم على منزع واحد، ولا تكون الحياة معتركا للخير والشر يتنازعان.
ولذا قال تعالى:
(لَوْ) هنا حرف امتناع لامتناع. امتناع الجواب لامتناع الشر، أي لو شاء ربك الذي خلقك وذرأك وكونك على أحسن تقويم أن يجعل الناس أمة واحدة، جماعة واحدة متحدة في هدايتها وتقواها لجعلها كذلك، وما كان التنازع بين الخير والشر، والعدل والظلم، والفضيلة والرذيلة، والرزق والحرمان، والغنى والفقر إلا بإرادته؛ بين - سبحانه وتعالى - أن ذلك الاختلاف دائم مستمر، فقال تعالى: (وَلا يزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) فيما بينهم في نفوسهم، وفي آحادهم، وفي جماعاتهم، وفى أممهم.
وإن الاختلاف على ذلك ابتلاء واختبار، ليبلو الناس فيما، فمن أراد الخير انتزعه من وسط الشر انتزاعا فيكون به الثواب الجزيل، ومن أراد الشر سار فيه، وأعلام الخير واضحة معلمة، تدعوه إلى سلوكه، فإن ضل فعن بينة، واللَّه من
الضمير في (خَلَقَهُمْ) يصح أن يعود إلى الناس، ويكون الاستثناء في قوله: (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) استثناء من الاختلاف ويكون المعنى ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة في الهداية والتقوى والفضيلة، ولكنه لم يشأ ذلك إلا في الذين رحمهم، وتكون (اللام) للتعليل، أي أن اللَّه تعالى خلق الناس متنازعين في الخير والشر، ولا يهتدي إلى الخير إلا الخلصاء الأطهار، ولذلك خلق الناس مختلفين لتبين الصفوة، ولتصل إلى الخير في وسط أشواك من الباطل فيكون لهم فضل الجهاد في الوصول إلى الحق.
ويصح أن يعود الضمير إلى قوده تعالى: (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) أي المستثنى ويكون المعنى كالأول في نتيجته، وغايته أي أن اللَّه تعالى خلق الناس مختلفين متعاركين يخلص الصفوة المرضية، ولأجل تلك الصفوة، والمؤدى في التخريجين أن اللَّه تعالى خلق الناس كذلك ليميز اللَّه الخبيث من الطيب، كما قال تعالى: (مَا كانَ اللَّهُ ليَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى ما أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَميز الْخَبيثَ منَ الطَّيبِ...).
وإن القلة التي يرحمها اللَّه بالإيمان، والكثرة هي تكون في النار، ولذا قال تعالى:
(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).
أشار سبحانه وتعالى إلى الذين رحمهم اللَّه تعالى، وفي هذا النص يذكر الذين عصوا أمر ربهم، والرحمة بهم ليست من عدل اللَّه، لأنهم لم يرحموا أننسمهم، ومن لَا يَرحم لَا يُرحم، فقال تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ).
(مِنَ) هنا لبيان من يملأ منهم، و (الْجِنَّةِ) الكلام على تقدير العصاة أي من عصاة الجن، وعصاة الإنس، والجِن عبر عنهم بالجِنة، والإنس عبر عنهم بالناس كما في قوله تعالى: (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ).
وقدر عصاة الأمرين:
الأمر الأول: أن الجزاء بجهنم كما في عرف القرآن، وكما هو العقل - يكون للعصاة.
الأمر الثاني: أن الناس مختلفون، فذكر اللَّه تعالى أهل الطاعة، وتفضل عليهم برحمته، فقال فيما سلف (إِلَّا مَن رَّحِمَ) والمخالفون لهم هم العصاة، وكان بمقتضى التقسيم أن تكون لهم جهنم، وقد تأكد أنهم يملأونها.
وعلى ذلك تكون كلمة (أَجْمَعِينَ) تأكيد، بأن العصاة كلهم سيدخلون جهنم، وتمتلئ بهم لَا يفر منها جبار، ولا نافخ نار.
وإذا أريد جنس الجنة، وجنس النار يكون الظاهر، أنه لَا ينجو من أحد الجنسين أحد، ويكون التأكيد لبيان أنه يستوي الجنسان، في ألا يغادرها أحد، كما تقول ملأنا الحقيبة من أوراق امتحان الشريعة، والمدني والجنائي، جميعا، أي فيها الأصناف جميعا غير متخلف بها صنف من هذه الأصناف.
ولا شك أن التقدير الأول أظهر وأبين، وسياق القول يقتضيه، ولقد روي في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " تَحَاجَّتِ الجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ
* * *
القصص لتثبيت النبي ووعظ المؤمنين
قال تعالى:
(وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣)
* * *
________
(١) رواه البخاري: التوحيد: ما جاء في قوله تعالى: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٧٤٤٩)، وتكرر ثلاث مرات بنحو من هذا، كما رواه مسلم: الجنة وصفة نعيمها - النار يدخلها المتكبرون (٢٨٤٧)، بلفظ: " تحاجت الجنة والنار "، وفيه: " فأما الجنة فينشئ الله لها خلقا ".
(مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ).
فكأن الثمرات لهذا القصص الصادق ثلاث:
الأولى. تثبيت فؤاد النبي - ﷺ - إزاء إنكار المشركين وإيذائهم للنبي عليه الصلاة والسلام ومن معه من المؤمنين فإن أولئك الرسل أوذوا كما أوذي، وكانت الباقية لهم وللمتقين فليطمئن النبي عليه الصلاة والسلام إلى العاقبة، ولا يغرنك تقلبهم في البلاد فالعاقبة لك ولأصحابك، ومعنى تثبيت فؤاد النبي - ﷺ -زيادة تثبيته بأنه لم يكن بدعا من الرسل، وإذا كان اللَّه تعالى قد عذب أقوام الأنبياء الصادقين بالعذاب الذي يجتث من فوق الأرض العصاة، فإنه سيعذب قومك بأمر إرادي كذلك لينتفى الظالمون، فيحصدون بالسيف، ويبقى غيرهم ممن يرجى أن يكون منهم أو من أصلابهم من يعبد اللَّه.
الثانية: الموعظة، وهي الاتعاظ بمن أنزل اللَّه تعالى عليهم العذاب، والاتعاظ طريق الإيمان، ومن لم يتعظ بغيره، فالبلاء في نفسه شديد، وهذا الاتعاظ للمؤمنين أي الذين في قلوبهم اتجاه إلى الإيمان.
الثالثة: الذكرى، أي التذكر الدائم المستمر لما نزل بالأقوام الظالمة.
وهذه أيضا للمؤمنين والذين يتجهون بقلب مدرك للإيمان، هذه ثمرات القصص.
وروي عن قتادة أن الإشارة إلى الدنيا، واللَّه أعلم.
بعد ذلك أمر اللَّه تعالى نبيه أن ينبه المشركينِ إلى هذا القصص الصادق، وفى هذا التنبيه تهديد لهم فقال تعالى:
المكانة الحال، وما تمكنوا منه، والأمر للتهديد، كما تقول لمن يفعل الشر، افعل ما يبدو لك، وكما قال - ﷺ -: " إن مما أدركه الناس من أقوال النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت " (١)، وكما في قوله تعالى: (... اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ...).
فالأمر للتهديد، وعبر اللَّه تعالى عن المشركين بقوله تعالى: (لِّلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) بفعل المضارع، أي ليس عن طبيعتهم، وكيانهم أن يؤمنوا، فالكافر الجاحد تنحل عقدة الإيمان في قلبه، فلا ينعقد قلبه على إيمان، بل هو جاحد مضطرب الفكر والنفس والقلب تأسره الأهواء المتنازعة، ويسير مع أشدها انحرافا، وأقواها استهواء (اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ)، أي على حالكم التي أنتم عليها من الغي والضلال، والاستكثار من الأموال، والأهواء والشهوات، وكل ما تمكنون منه من أهواء وشهوات ومفاسد، وبيَّن أن المؤمنين والنبي عاملون فقال: (إِنَّا عَاملُونَ) أي مستمرون في حالنا من إيمان، وإذعان للحق، وصبر على آذاكم
________
(١) سبق تخريجه.
أي انتظروا بقية أعمالكم، وعواقب فسادكم وجحودكم، وما استهواكم من مفاسد، و (إِنَّا مُنتَظِرُونَ) ما نرجو من رحمته ورضوانه، وجزاء وفاقا لأعمالنا.
وهذه مقابلة بين الحق والباطل، وسوءى الباطل، وحسنى العاقبة في الحق واللَّه بكل شيء عليم.
تمهيد:
سورة يوسف سورة مكية، وعدد آياتها إحدى عشرة ومائة، وقالوا: إن أربع آيات هي الأولى والثانية والثالثة والسابعة مدنية، ولا نرى فيها ما يدل معناها على أنها مدنية، والله أعلم.
ولقد كفرت طائفة من الطوائف الخارجة عن الإسلام بإنكارها سورة يوسف، وادعاء أنها ليست من القرآن، وكأن القرآن يخضع بالزيادة والنقصان للأهواء المنحرفة، وإن ادعت التمسك بالدين، فهي تمرق منه مروق السهم من الرمية، وأولئك هم أتباع عبد الكريم عجرو، وإن القرآن كله غير منقوص ثبت بالتواتر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنه تلقاه عن جبريل الرسول الأمين عن رب العالمين مرتلا متلواّ، كما قال تعالى: (... وَرَتَّلْنَاهُ تَرتِيلًا).
وما كان لنا أن نعرف ما دفعهم إلى هذا الإنكار الذي كفروا بسببه، ولكن نذكره لبيان أنه وهم كافرين لم يذوقوا القرآن ولم يعلموه، قالوا إنها قصة غرام، ونزلت دفعة واحدة، والقرآن منزه عن ذكر الغرام والحب، والقرآن نزل منجما، ونقول في الإجابة عن ذلك، إنها قصة المجتمع المصري، والأسرة الفرعونية التي طغت في البلاد وأكثرت فيها الفساد، وقال قائلهم: (... أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى)، وبيته على هذا النحو من الانحلال، وهي بينت مغبة الغرام، وكيف يوجد الانحلال، والاستعصام بالفضيلة حيث تفور فورة الرذيلة، ودعوة الوحدانية في وسط الوثنية، وتدبير الاقتصاد، واستعانة الفراعنة بخبراء الاقتصاد حيثما كانوا، وخضوعهم لآرائهم، وتوسيد الأمر لهم، ثم هي تبين مركز مصر
وإن ما سموه الغرام المنحرف لم يكن إلا في جزء صغير منها، ولم يستغرقه، بل ترددت عباراته، وقد ابتدأته بـ (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ...)، وانتهت بدخوله السجن، وهي ثماني آيات، فيها الغرام من جانبها والاستعصام من جانبه، وباقي السورة حكمة واقتصاد وتدبير، وتعاون، ومشقة وصبر، ثم لقاء الأحباب على مائدة المودة والأخُوة الودود.
فكيف تسمَّى سورة غرام إلا ممن انحرف عقله انحرافا منعه من استيعاب السورة.
وإن القرآن لم ينزل كله منجما، فأول سورة التوبة نزل دفعة واحدة، وأكثر سورة الأنعام نزل دفعة واحدة وسورة إبراهيم أكثرها نزل دفعة واحدة.
وإذا كان ممن تسموا باسم من الخوارج من قال هذا القول، فقد كان منهم أيضا، من أجاز نكاح البنات والأمهات والمجوس، وهم - بلا شك - كافرون كإخوانهم.
ونقول: إن أكثرهم كان مؤمنا منحرف العقل، ورضي الله عن علي بن أبي طالب إذ قاتلهم، وقتل منهم مقتلة كبيرة، فقد قال بعد ذلك القتال: (لا تقاتلوهم بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه).
إن القصص الذي في هود وغيرها، كان في الأرض العربية، ولم يكن فيها من غير البلاد العربية، إلا قصة موسى عليه السلام، وقد ذكر فيها طغيان فرعون، وخضوع أهل مصر له، في نفوسهم، وأفكارهم، وعقولهم حتي ساغ له أن يقوك: (... مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (٢٩).
أما قصة يوسف عليه السلام فإنها تناولت ناحية اجتماعية، تعرضت للأسرة، وما يجري في داخل القصور، وتعرضت للمجتمع المصري، وانحراف نساء الطبقة التي
* * *
الحسد بين الإخوة في سورة يوسف
إذا كان الحسد بين ابني آدم قد حمل أحد الأخوين على أن تطوع له نفسه قتل أخيه، فقتله، فالحسد بين يوسف وإخوته على أن يحاولوا أن يلقوه في غيابة الجب.
رأى يوسف رؤيا صادقة، وهو غلام، قال يوسف لأبيه (... يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) فَهِم يعقوب الأب الحبيب الذي يؤثر يوسف على إخوته باختصاص بمحبة أكثر لصغره، ومنها أن ليوسف منزلة عند الله فوق منزلة إخوته، فقال له: (... لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ).
ولقد أخبره باصطفاء ربه له، وتعليمه من تأويل الأحاديث، ما قد يثير إخوته.
(لَقَدْ كَانَ فِي يُوسفَ وَإِخوَتِهِ آيَاتٌ للسَّائِلِينَ)، أي دلائل تبين حكمة الله تعالى في الخلق والتكوين، وطبائع النفوس، وطغيان الحسد على المحبة الأخوية والمودة الواصلة، وإن تسعة أعشار الجرائم أو كلها سببها الحسد، فإذا اقتلع من النفوس اقتلع أكثر الأخباث النفسية. و (لِّلسَّائِلِينَ) أي الباحثين الدارسين لطبائع النفوش.
ابتدأ التدبير السيئ بقولهم: (... لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (٩) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ...)، لم ينفذوا القتل، أو لم يريدوه، وذلك للمشورة، فكان منهم
* * *
التنفيذ
ذهبوا إلى أبيهم، و (قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (١٢).
عندئذ قال يعقوب ما يدل على توجسه خيفة على ولده الحبيب العزيز، وفرطت من الرجل الطاهر نبي الله كلمة اتخذوها ذريعة لستر جريمتهم، قال لهم: (... إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (١٣).
لقد ذكر أنه يخاف أن يأكله الذئب، في غفلتهم، فلقنهم ما يستر إجرامهم، قالوا وقد وجدوا الحجة وأخفوها في أنفسهم، (... لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (١٤).
ذهبوا به واجتمعوا أن يلقوه في غيابة الجب (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١٥)، وقد ألقى اللَّه تعالى في روع يوسف الغلام الحبيب أنه سيعلو عليهم، وسينبئهم بأمرهم هذا وهم لَا يشعرون.
بعد أن ألقوه في الجب (وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (١٦) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (١٧).
وهكذا ترى أن الأب الشفيق الكريم قال إني أخاف أن يأكله الذئب، فقالوا ساترين جريمتهم أكله الذئب، ونبي اللَّه تعالى لم يصدق أبناءه، بل قال بعد أن جاءوا على قميصه بدم كذب: (... قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (١٨).
ولننظر في قصة القرآن عما جرى ليوسف، وقد ألهمه اللَّه تعالى الاطمئنان، جاءت قافلة تسير فأرسلوا واردهم يتعرف أماكن الماء، فوجد الجب، فألقى دلوه، فلم يخرج الماء، ولكن خرج ما هو أطهر فاستبشر، و (... قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ...)، وأسروه على أنه بضاعة، ولأنها بضاعة جاءت من غير ثمن، باعوه بثمن بخس دراهم معدودة، ولم يكونوا راغبين في اقتناء هذه البضاعة بل كانوا فيه من الزاهدين.
وإذا كان قد استقبل شقوة الحسد، فقد استقبل بعد ذلك بالبشر والحبور، (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا...)، وكذلك أشرق النور في وسط الظلمة.
وبذلك مكن اللَّه تعالى ليوسف، وألهمه اللَّه تعالى تأويل الأحاديث التي تتحدث بها النفس في منامها، (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢).
ولكن النفس الصبور يصقلها الله تعالى بالشدة، وإذا كانت الشدة التي استقبلته أولا كانت تتعلق بحياته أو موته، فالشدة الثانية أخطر على نفس الصديق يوسف.
(وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عن نفْسِهِ...)، أي أرادته لنفسها، وحاولت أن تخرجه من نفسه الطاهرة الصافية، (... وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ...).
في وقت هذه المحنة النفسية رأى نور الحق الذي يعصم نفسه، فبقي
ولكنهما وجدا سيدها لدى الباب، وببداهة المرأة التي تفجر ألقت التهمة على يوسف، و (... قَالَتْ مَا جَزَاء مَن أَرَادَ بأَهْلِكَ سُوءَا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمّ).
فبرَّأ يوسف نفسه عن التهمة، وقال الصدق: (... هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفسِي...).
اتهمته كاذبة، واتهمها صادقا، فلم يندفِع العزِيز، واحتكم، فحكم حكم من أهلها: (... إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧)
فألفيا قميصه قُدَّ من دبر، وبذلك تبين كذبها، وصدقه.
اطمأن زوجها إلى براءة يوسف، وقال: (... إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (٢٩).
وإن أخبار القصور تشيع وتنتشر، وقد كانت قصة المراودة بين زوج العزيز، ويوسف، وزوجها وبعض ذوي قرباها، ولا ندري كم كان عددهم، والخبر إذا خرج عن اثنين شاع، والناس دائما في شوق إلى ما يجري داخل القصور، وينشر دائما ما فيه غرابة.
(وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ... ) فأقامت لهن وليمة (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢).
كان الخبر يشيع، وقد رأى العزيز وملؤه الآيات الدالة على براءة يوسف، وأنه كان فريسة الراودة ولم يكن فاعلها. وقد رأوا حسما للشائعات حبسه (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥) أي حتى تمر مدة تهدأ فيها عواصف الشائعات.
دخل السجن، ومعه فتيان، استأنسا به، وفاضت نفوسهما إليه، ورأى كل منهما رؤيا، فقال أحدهما يقص رؤياه: (... إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦).
أجابهما، (قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (٣٨).
ابتدأ بالدعوة إلى التوحيد، وهو رسالة النبيين، ومعه دليلها، وهو تعليم اللَّه تعالى له، أنه ينبئهم بما يأكلون، كما علم عيسى من بعده، ثم أوَّل رؤياهما فقال: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (٤١).
ويظهر أنه أُهمل أمره، فأراد أن يذكر العزيز به: (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢).
رأى الملك رؤيا فتذكر الناسي، (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (٤٣) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (٤٤).
قال الصدّيق الطاهر، الذي علمه ربه: (... تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩).
أي يحلبون، ويعصرون فالعصير من الثمار.
علم الملك الذي أوّلت له الرؤيا، ولعله نسي المراودة وأمرها كشأن حكام مصر من الأزل، ينسون من يحسن إليهم ولا يذكرونه، وأي إحسان أعظم من أن يكرم شرفه وعرضه.
قال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي، ولكن يوسف الصديق الطاهر لا يذهب إلا وقد ثبتت براءته، فقال للرسول الذي أرسله الملك (... ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠).
رجع الملك إلى الماضي، وسأل امرأته التي فتنت بالصديق وأسند يوسف الكريم الأمر إلى النسوة، ولم يسنده إلى امرأة الملك.
قال الملك: (... مَا خطبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ...)، عندئذ تقدمت امرأة العزيز تعترف بذنبها، وتبرئ يوسف، قالت امرأة العزيز: (... الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١)
بعد هذه البراءة، وقد تضمنت حياته في السجن دلائل نبوية، ودعوة إلى التوحيد إذ يقول: (... أَأَرْبَابٌ متَفَرِقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) كانت حياة جديدة، دعاه الملك واستخلصه لنفسه، وقال: (... إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ)، تولى أمر المالية المصرية (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (٥٧).
كانت مصر في ذلك الإبَّان وما بعده مُستراد الخير (١)، وبتنظيم نبي اللَّه يوسف، وتمكينه من الملك صارت مقصد الشرق، وجاء إخوة يوسف يمتارون، فعرفهم إذ لم يكن التغيير فيهم كبير، ولم يعرفوه إذ ألقوه في الجب غلاما، وقد صار رجلا مكتملا، وقد جهزهم، وأعطاهم ما طلبوا، ولكن قال لهم:
(... ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (٦٠) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (٦١).
وإنه بهم لشفيق إذ قال لمن معه، (... اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يرْجِعُونَ) وذهبوا إلى أبيهم وقالوا: (... يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٦٣) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤).
فتحوا متاعهم فوجدوا بضاعتهم ردت إليهم، ففرحوا وقالوا ما نبغي شيئا فوق ما سهله لنا.
(... قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥).
________
(١) اسم مكان، والمعنى: مكان استيراد الخير لما حباها اللَّه بها من أنواع الخيرات ووفرتها في أرضها الغنية.
ولشفقته على أولاده وخوف العَيْن قال: (... يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ...)، ولكنها الشفقة الأبوية دفعته لأن يتصون عليهم.
دخلوا على يوسف، فآوى إليه أخاه، وقال: (... إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، ثم جهزهم بجهازهم، وأودع السقاية في رحل أخيه (... ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (٧٠) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (٧١) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢). زعيم: أي كفيل، قالوا: (... مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (٧٣) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (٧٤) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ...)، أي يكون مِلْكا.
أخذوا يفحصون أوعيتهم قبل وعاء أخيه، ثم استخرجوها من وعاء أخيه، كذلك كان تدبير اللَّه تعالى ليأخذ أخاه بعد طول افتراق.
ولقد كانت لفتة من عداوة أبناء العِلات (١) التي تظهر في القول لَا تزال متمكنة في قلوبهم (قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (٧٧) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (٧٩).
ندموا وتذكروا موثق أبيهم، وذكرهم به كبيرهم، وقال: (... فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ
________
(١) أبناء العِلات: أبناء الضرائر، أي أن الأنبياء يرجعون إلى أب واحد وهو إبراهيم عليه السلام أبي الأنبياء، وإن اختلفت أمهاتهم.
قالوا لأبيهم ذلك، ولكنه أحس بأمر، رشح له ما كان بالنسبة ليوسف من قبل، فقال مثل مقالته الأولى: (... بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ...) وبإلهام النبوة توقع الخير في وسط هذه الشدة، وقال: (... عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (٨٥) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨٦) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (٨٧).
ذهبوا إلى يوسف طالبين الميرة مرة أخرى، و (... قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨).
* * *
اللقاء على المودة والعفو
أعلن يوسف الصديق نفسه لإخوته فقال لهم: (... هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (٨٩) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (٩١).
قال كلمة العفو الودود: (... لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا...)، ذهبوا إلى الشيخ الذي ابيضت عيناه من الحزن، فأحس بريح يوسف، وقالوا: إنه أحس من بُعْد ثمانين ميلا، ولا غرابة في ذلك فهو أبو الأنبياء (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤)
وبهذا تنتهي قصة يوسف الصديق الحبيب؛ أُخذ من بين أهله، وأُلقي في الجب، وانتهى ملكا مصلحا، ونبيا مبشرا ونذيرا، وكان له أثر في مصر، ذُكر بعده بقرون عندما بعث موسى، فقد قال تعالى على لسان مؤمن آل فرعون: (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ ممَّا جَاءَكُم بِهِ...).
التقى الأحباب (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا...)، أي خضعوا لحكمه كما تخضع الرعية لراعيها العادل، لَا أنهم سجدوا له كما كان يسجد للفراعنة، فمعاذ اللَّه أن يكون نبي اللَّه يعقوب ساجدا لغير اللَّه، ومعاذ اللَّه أن يقبل ذلك يوسف نبي اللَّه من أبيه.
أخذ يذكر يوسف أباه برؤياه الأولى، ويذكر له كيف أخرج من السجن بعد أن نزغ الشيطان بينه وبين إخوته ولم يبق إلا أن يحمد اللَّه على ما أوتي من نعمة، ويقول: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١).
* * *
العبرة
كانت القصة كلها من الأخبار الغيبية على العرب، وقد كان فيها أخبار عن ناس لم يكن من شأنها أن تكون معلمة، معلنة، إذ هي أخبار أسرة، (... وَمَا كنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) فتلك أخبار النفوس لَا يعلمها إلا علام الغيوب، وتلك معجزة الذي كفروا به.
وإن الكون كله آيات بينات دالة على منشئه الواحد الأحد الفرد الصمد، وإذا كانوا يؤمنون باللَّه تعالى، فهو إيمان بالقدرة، ووحدانية الخالق المنعم، ولكنهم يعبدون غيره، وهذا قوله تعاِلى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُون).
وإن الحق ما تدعو إليه، (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨).
ولقد بين سبحانه وتعالى أنه لم يكن بدعا من الرسل، وأن الرسل قبله كانوا مثله، (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٠٩).
ويبين للنبي - ﷺ - أن الرسل كانوا يستيئسون، وفي حال يأسهم يجيء عذاب اللَّه للمشركين (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠).
الرسل جميعا اعتراهم اليأس إلا محمدا - ﷺ -، وذلك فضله عليهم أجمعين، بل قال وهو في أشد ما نزل به وقد فقد الناصر والمواسي: " إني لأرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله " (١)، ولقد ختم السورة بقوله تعالت كلماته: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١)
صدق اللَّه العظيم.
ما سبق استعراض لمعاني سورة يوسف عليه السلام إجمالا، وما كانت قصة غرام كما افتراه الكاذبون، إنما فيها آفات النفوس في الأسر، وعلاجها، وفيها علاج المجتمعات التي يصيبها الفقر، وفيها أن الشفقة في الأسرة هي إدامها، وفيها أن الشيطان ينزغ في النفوس من الحسد الذي يؤدي إلى أشد الجرائم فظاعة.
* * *
________
(١) انظر البخاري: بدء الخلق - ذكر الملائكة (٢٩٩٢)، ومسلم: الجهاد والسير - ما لقي النبي - ﷺ - (٣٣٥٢).
قال تعالى:
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (٣) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (٤) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦)
* * *