ﰡ
[سورة النمل]
فاتحة سورة النمل
لا يخفى على ارباب الهداية الكاملة من الراسخين في مقر العز والتمكين الواصلين الى سر الوحدة الذاتية بمقتضى اليقين الحقي متدرجين من مرتبتي العلم والعين إلهاما بعد ما سبقت لهم العناية الازلية والجذبة الإلهية والبشارة المتضمنة لانواع الرموز والإشارة من قبل الحق الحقيق بالحقية ان من اهتدى الى مرتبة التوحيد الذاتي وتمكن على تلك المرتبة مطمئنا راسخا بلا طريان تزلزل وتلوين لا بد ان يقيم ويديم صلاته وميله نحو الذات الاحدية مهذبا ظاهره وباطنه عن الميل والالتفات الى ما سواه من المزخرفات الفانية الشاغلة الملهية له عن الفناء فيه والبقاء ببقائه وايضا لا بد له ان يميت نفسه بالموت الإرادي عن مقتضيات أوصافه البشرية وقواه الناسوتية المبعدة عن التقرب بكنف اللاهوت وجوار حضرة الرحموت القيوم الذي لا ينام ولا يموت وبالجملة لا بدله الانخلاع عن خلعة التعيينات العدمية المقتضية للتعدد والكثرة مطلقا حتى يتصف بالطهارة الحقيقية والطيب المعنوي والسعادة السنية والسيادة السرمدية وبذلك خاطب سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بعد ما تيمن باسمه العلى الأعلى بِسْمِ اللَّهِ الذي تجلى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا على ما ظهر وبطن من الأشياء الرَّحْمنِ لعموم عباده بالرزق الأوفى الرَّحِيمِ لخواصهم بالمثوبة العظمى والدرجة العليا وبالترقى من ارض الطبيعة الى سموات الصفات والأسماء واللحوق بالملإ الأعلى والوصول الى سدرة المنتهى
[الآيات]
طس يا طالب السيادة السرمدية والسعادة السنية الازلية الابدية تِلْكَ الآيات المتلوة عليك تعظيما لشأنك وتتميما لبرهانك آياتُ الْقُرْآنِ اى بعض آيات القرآن المبين المبين لدلائل التوحيد وبينات الفرقان الفارق بين الحق والباطل من الاحكام وَكِتابٍ مُبِينٍ منتخب من لوح القضاء وحضرة العلم الإلهي المحيط بجميع ما لمع عليه برق تجلياته الحبية انما أنزلت إليك يا أكمل الرسل من عنده سبحانه لتكون
هُدىً هاديا لك الى مقام التمكن من التوحيد الذاتي وَلتكون ايضا بُشْرى بأنواع السعادات ونيل اصناف الخيرات والبركات ورفع الدرجات وانواع المثوبات لِلْمُؤْمِنِينَ التابعين لك في شأنك ودينك ان اطمأن قلوبهم بالإيمان اى اليقين العلمي المستجلب لليقين العيني والحقي والمطمئنون المتمكنون
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ المكتوبة المفروضة لهم من قبل الحق في الأوقات المخصوصة ويؤدونها على الوجه الذي وصل إليهم من صاحب الشرع الشريف والدين الحنيف بلا تخفيف ولا تسويف ليتقربوا بها نحو الحق ويزداد يقينهم وتصديقهم بسببها وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ المصفية لقلوبهم عن الميل الى ما سوى الحق من الزخرفة الفانية الدنية الدنيوية
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ولا يصدقون بِالْآخِرَةِ عنادا ومكابرة قد زَيَّنَّا وحسنا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ القبيحة الفاسدة الدنيوية وامهلناهم عليها زمانا ليستحقوا أشد العذاب وأسوأ العقاب فَهُمْ بواسطة امهالنا إياهم في سكرتهم وغفلتهم يَعْمَهُونَ يترددون ويتحيرون بطرين بما لهم من التنعم والترفه وبالجملة
أُوْلئِكَ البعداء عن عز الحضور الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ في النشأة الاولى إذ هم مترددون في اودية الإمكان بأنواع الخيبة والحرمان مقيدون بأصناف الأماني والآمال الطوال في بيداء الوهم والخيال وصحراء الحيرة والضلال لا نجاة لهم منها ولا ثبات لهم فيها وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ المقصورون على الخسران الأبدي والخذلان السرمدي لا يرجى لهم نيل مثوبة ورفع درجة وتخفيف عذاب وقبول شفاعة ولا خسران أعظم من ذلك لذلك قد أصاب يوم بدر ما أصاب ويصيب لهم في الآخرة بأضعافه وآلافه قال سبحانه مخاطبا لحبيبه تفضلا عليه وامتنانا له في انزاله القرآن اليه ووحيه عليه
وَإِنَّكَ يا أكمل الرسل لنجابة طينتك وطهارة فطنتك وفطرتك لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ ويؤتى بك وينزل إليك مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ مبالغ في الإتقان والاحكام عَلِيمٍ باستعدادات الأنام وقابلياتهم التي بها تتفاوت طبقاتهم فضلا وكرامة. ثم أخذ سبحانه بتعداد بعض ارباب الطبقات والكرامات حثا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم الى التوجه نحوه والتحنن اليه والمواظبة على شكر نعمه فبدأ بموسى صلوات الرحمن عليه وسلامه فقال مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم اذكر يا أكمل الرسل وقت
إِذْ قالَ أخوك مُوسى الكليم صلوات الرحمن عليه وسلامه لِأَهْلِهِ وزوجته ابنة شعيب عليه السلام حين سار معها من مدين الرشد الى مصر وهي حاملة والليلة شاتية مظلمة وهم ضالون عن الطريق فجاءها الطلق واضطر موسى في أمرها فرأى شعلة نار من بعيد فقال لأهله اثبتوا مكانكم إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ هذه الساعة مِنْها بِخَبَرٍ عن الطريق يخبر به من عندها إذ النار قلما تخلو عن ناس موقدين لها أَوْ آتِيكُمْ ان لم أجد عندها أحدا بِشِهابٍ اى جمر ذي قَبَسٍ اى مقتبس مشتعل منها لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ وتستدفئون من البرد وتستضيئون منها للطريق فاستقروا في مكانهم فذهب موسى نحوها
فَلَمَّا جاءَها اى النار ووصل عندها نُودِيَ من وراء سرادقات العز والجلال تكريما لموسى وتعظيما له وتنبيها عليه من ان مرجع جميع مقاصدك وحوائجك هو الحق فاطلبه وصل اليه حتى تجد عنده عموم مقاصدك أَنْ بُورِكَ اى الشأن انه قد اكثر عليك الخير والبركات يا موسى مَنْ فِي النَّارِ اى من ظهر فيها ولاح عليها وَمَنْ ظهر حَوْلَها اى أطرافها وحواليها إذ هو سبحانه محيط بعموم الأماكن والجهات ظاهر منها متجل عليها غير متمكن فيها وَبعد ما تحققت بشهود الحق من جميع الأماكن ومن عموم الأشياء نزه ذاته عن الحلول فيها والاتحاد بها فقل سُبْحانَ اللَّهِ المنزه عن الأماكن كلها المتجلى في جميعها رَبِّ الْعالَمِينَ يربيها بدوام التجلي الحبى عليها وبامتداد الاظلال والعكوس الفائضة منه سبحانه عليها المظهرة لها المربية إياها
يا مُوسى إِنَّهُ اى ان من ناداك في النار وظهر عليك على صورتها أَنَا اللَّهُ المحيط بعموم المظاهر والأكوان احاطة البحر لجميع الأمواج والازباد والشمس لعوم الأضواء والاظلال والروح لجميع الأعضاء والاجزاء من البدن الْعَزِيزُ الغالب القادر المقتدر لقهر مطلق السوى والأغيار الْحَكِيمُ المتقن في جميع الأفعال والآثار الصادرة الظاهرة منى على أبدع ارتباط وابلغ انتظام ونظام
وَبعد ما أزال الله سبحانه وحشته واذهب ولهه ودهشته بالمؤانسة والمواساة معه قال له سبحانه آمرا إياه أَلْقِ عَصاكَ التي قد أخذتها بيدك يا موسى على الأرض لترى من عجائب صنعتنا وغرائب حكمتنا ما ترى حتى تتنبه أنت من تبدل صورتها وسيرتها الى سرسريان وحدتنا الذاتية السارية في المظاهر فألقاها على الفور فإذا هي حية تسعى فَلَمَّا رَآها اى موسى العصا تَهْتَزُّ وتتحرك كَأَنَّها جَانٌّ اى حية صغيرة سريعة السير وَلَّى وانصرف موسى منها مُدْبِراً خائفا منها قلقا حائرا من أمرها وَلَمْ يُعَقِّبْ موسى نحوها ولم يرجع إليها ليأخذها هيبة وخوفا وقلنا له مناديا إياه ليقبل عصاه يا مُوسى لا تَخَفْ من عصاك ستعود على سيرتها الاصلية إِنِّي من كمال مرحمتى واشفاقى على خلص عبادي لا يَخافُ لَدَيَّ احد من أوليائي سيما الْمُرْسَلُونَ منهم المختارون للرسالة والتشريع العام ألا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
إِلَّا مَنْ ظَلَمَ من المرسلين بارتكاب ذنب صدر منه لا عن عمد ثُمَّ بَدَّلَ وتدارك ذنبه حُسْناً بالتوبة والندامة بَعْدَ سُوءٍ صدر عنه وهو يخاف عنى بسبب ذنبه فَإِنِّي ايضا غَفُورٌ له ولأمثاله اغفر لهم واعف عن زلاتهم رَحِيمٌ ارحمهم واقبل توبتهم بعد ما صدرت عن خلوص الطوية ومحض الندم
وَبعد ما قد رأى موسى من عجائب العصا ما رأى قال له سبحانه ثانيا آمرا أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ يا موسى تَخْرُجْ على الفور منه اى أدخلها فأخرجها ترها بَيْضاءَ محيرة للعقول والأبصار مع ان بياضها مِنْ غَيْرِ سُوءٍ مرض عرض عليها برص وغيره ثم قيل له من قبل الحق هي اى اليد البيضاء آية ومعجزة جديدة دالة على نبوتك ورسالتك موهوبة لك من لدنا معدودة محسوبة فِي تِسْعِ آياتٍ عظام قد وهب لك وهي العصاء واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس والجدب ثم بعد ما شهدت من يدك وعصاك ما شهدت يكفيك شهادتهما على صدقك في دعواك الرسالة مع ان لك معجزات كثيرة سواهما اذهب أنت مرسلا من عندي إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وبلغهم إنذاري وتخويفى ونزول عذابي إليهم من سوء صنيعهم إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن مقتضى الحدود الموضوعة فيهم من عندنا وبوضعنا فذهب موسى باذن الله ووحيه الى فرعون واظهر الدعوة عنده واقام البينة عليها
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ اى ظهرت على فرعون وقومه آياتُنا الدالة على كمال قدرتنا وحكمتنا وصدق من قد أرسلنا إليهم لإرشادهم وتكميلهم مع كونها آية مُبْصِرَةً موضحة مثبتة مبينة لهم صدق موسى في دعوى الرسالة ظاهرة لائحة في نفسها انها معجزة ما هي من جنس السحر والشعبذة قالُوا من فرط عتوهم وعنادهم ومن شدة بطرهم وسكرتهم هذا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر انه مجعول بمكر وحيل كثيرة
وَمن كمال استنكافهم واستكبارهم قد جَحَدُوا بِها وأنكروا لها ولم يلتفتوا إليها ظاهرا وَالحال
وَمن سعة جودنا وعموم فيضنا وفضلنا لَقَدْ آتَيْنا وأعطينا داوُدَ وَابنه سُلَيْمانَ عِلْماً متعلقا بالحكم والاحكام وعموم تدبيرات الأنام وضبط أحوالهم وأوضاعهم المتداولة بينهم من الإنصاف والانتصاف واقامة الحدود وسد الثغور وغيرها من الأمور المتعلقة بضبط المملكة وَقالا بعد ما رأيا ترادف نعم الله عليهما وتواليها لهما حين أرادا ان يشكر الله ويؤديا حقوق نعمه الجليلة ومنحه الفاضلة الجزيلة الْحَمْدُ والمنة والثناء التام الناشئ عن عموم الألسنة وعن جميع الجوارح والآلات الممنونة من نعمه المغمورة بموائد لطفه وكرمه ثابت لِلَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المستحق لعموم المحامد والاثنية الصادرة من ذرائر الأكوان طوعا المفضل المكرم الَّذِي قد فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ له الموحدين بذاته المصدقين لأنبيائه ورسله وكتبه وبالحكمة المتقنة المتعلقة بمرتبتى الناسوت واللاهوت الفائضة علينا الموهوبة إيانا من حضرة الرحموت ومن الحي الذي لا يموت
وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ يعنى بعد ما انقرض داود استخلف عنه ابنه سليمان وورث منه نبوته وحكمته وحكومته وقد سخر له عموم ما سخر لداود مع زيادات قد خلا عنها أبوه وهو تسخير الجن والريح ومنطق الطير فإنها ما تيسر لأبيه وَبعد ما تمكن سليمان على مقر الحكومة والنبوة قالَ يوما للملأ الجالسين حوله تنويها وتشهيرا لنعم الله على نفسه يا أَيُّهَا النَّاسُ قد عُلِّمْنا بلسان الوحى وترجمانه مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا من فضل الله علينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ اى كثير من الأشياء لم يؤت مثله أحدا من العالمين إِنَّ هذا الإعطاء والتخصيص والتفضل من الله العزيز العليم لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ الظاهر اللائح فضله على كل احد والملك العظيم الذي لم يؤت أحدا من الأنبياء الماضين
وَاذكر يا أكمل الرسل يوم حُشِرَ وجمع لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ وقد كان معسكره مسيرة مائة فرسخ خمسة وعشرون للانس وخمسة وعشرون للجن وخمسة وعشرون للطير وخمسة وعشرون للوحش تمشى كل طائفة منهم من بنى نوعهم صافين مستوين وان تسابق بعضهم على بعض فَهُمْ حينئذ يُوزَعُونَ ويحبسون حتى يتلاحقوا ويتساوى صفوفهم وكان سليمان ﷺ يأمر الريح فترفعه فوق رؤسهم مشرفا عليهم فتسير معه رخاء من كمال فضل الله عليه انه ما تكلم احد منهم بكلام الا وقد حملته الريح والقته في سمعه فبينما هو يسير مع عسكره هكذا قد رآه وجنده حراث فقال مستغربا متعجبا والله لقد اوتى آل داود ملكا عظيما فسمع سليمان عليه السلام قوله ومشى نحوه فقال له انما مشيت إليك لأوصيك ان لا تتمنى ما لا تقدر عليه وليس في وسعك تدبيره ثم قال والله لتسبيحة واحدة يتقبلها الله خير مما اوتى آل داود وقد كان سليمان ﷺ في يوم من الأيام مع جنوده على الوجه المذكور
حَتَّى إِذا أَتَوْا ودخلوا عَلى وادِ النَّمْلِ هو واد في الشام كثير النمل ولذلك سمى به قالَتْ نَمْلَةٌ
فَتَبَسَّمَ تبسما ظاهرا الى ان قد صار ضاحِكاً متعجبا مِنْ قَوْلِها المشتمل على انواع التدبيرات والخبرات من حسن المعاشرة مع الجيران وآداب المصاحبة مع الاخوان والتحذير عن مظان المهالك والمتالف قبل الوقوع فيها وغير ذلك وَبعد ما اطلع سليمان على قولها وغرضها وتوجه نحو الحق عادا على نفسه جلائل نعمه تعالى وآلائه قالَ حينئذ مناجيا اليه سبحانه رَبِّ يا من رباني بأنواع الخيرات والكرامات التي ما أعطيتها أحدا من خلقك أَوْزِعْنِي والهمنى ويسر على أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ ووفقني على ان أؤدي حقوقها على الوجه الذي ينبغي ويليق بشأنك وشأنها ولا يتأتى منى هذا الا بتوفيقك وتيسيرك يا رب وفقني على إتمامها وتكميلها حسب فضلك وجودك وَيسر على ايضا أَنْ أَعْمَلَ في مدة حياتي عملا صالِحاً مقبولا عندك مرضيا لك تَرْضاهُ وَبعد ما توفيتني أَدْخِلْنِي في جنتك بِرَحْمَتِكَ وسعة فضلك وجودك فِي زمرة عِبادِكَ الصَّالِحِينَ المرضيين عندك المقبولين دونك وعدني من عدادهم واحشرني في حوزتهم ومن زمرتهم انك على ما تشاء قدير وبرجاء المؤملين جدير. ولما صار سليمان ﷺ في بعض أسفاره وقد كان الهدهد دائما رائده وبريد عسكره ودليلهم يدلهم على الماء عند الاحتياج إذ هو عالم بالمياه الى حيث يعرفه تحت الأرض ويعين موضعه وكان يأمر سليمان عفاريت الجن ليحفروها ويخرجوا منها الماء لدى الحاجة فاحتاج سليمان ﷺ في يوم من الأيام الى الماء ولم يكن الهدهد حاضرا عنده فغضب عليه
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ وتعرفها مفصلا حتى يجده بينهم فلم يجد فغضب فَقالَ مغاضبا ما لِيَ اى اى شيء عرض على ولحق بي حتى صرت كذلك لا أَرَى الْهُدْهُدَ بين الطيور اهو حاضر عندي قد ستر على فلم أره أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ المتخلفين عن خدمتي ورفاقتي فو الله لو وجدته
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً بحيث آمر بنتف ريشه وحبسه في حر الشمس في محبس مضيق مع ضده أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ جدا ليعتبر منه سائر الخدمة أَوْ لَيَأْتِيَنِّي وليقيمن على لإثبات عذره بِسُلْطانٍ مُبِينٍ حجة واضحة ظاهرة الدلالة مقبولة من ذوى الاعذار الصادقة عند اولى البصائر والأبصار وذوى القدر والاعتبار
فَمَكَثَ الهدهد بعد تفقد سليمان وتهديده زمانا غَيْرَ بَعِيدٍ مديد متطاول ثم حضر عنده بلا تراخ طويل فَقالَ معتذرا لغيبته ومكثه انما غبت عن خدمة السلطان لأني قد أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ أنت يا سيدي يعنى قد تعلق ادراكى بمعلوم لم يتعلق به قبل لا علمي ولا علمك ولا علم احد من جنودك وَبعد وقوفي واطلاعى عليه قد جِئْتُكَ تلك الساعة بالعجلة مِنْ بلاد قبيلة سَبَإٍ من نواحي المغرب وبمن ملك عليها بِنَبَإٍ وخبر يَقِينٍ مطابق للواقع قد حققته وتحققت به وجئتك لشرحه قال سليمان عليه السلام مبتهجا مزيلا لغيظه وغضبه عنه مستكشفا عن خبره وما الخبر والنبأ ايها الصديق قال الهدهد
إِنِّي بعد ما قد وصلت الى ديارهم بأقصر مدة قد وَجَدْتُ وصادفت امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ اسمها بلقيس بنت شراحيل
وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ ويعبدونها مِنْ دُونِ اللَّهِ المستحق للتذلل والعبادة وَمن غاية جهلهم بالله وغفلتهم عن كمال أوصافه العظمى وأسمائه الحسنى قد زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ هذه وعبادتهم هكذا فَصَدَّهُمْ الشيطان وصرفهم بتزيينه وتغريره عَنِ السَّبِيلِ السوى الموصل الى توحيد الحق الحقيق بالعبودية والتذلل فَهُمْ بسبب تضليل الشيطان وتغريره إياهم ورسوخهم على ما قد زينه لهم لا يَهْتَدُونَ الى التوحيد حسب فطرتهم الاصلية وجبلتهم الحقيقة فلا بد لهم من مرشد كامل وهاد مشفق يهديهم الى سواء السبيل مع انهم من زمرة العقلاء المميزين بين الهداية والضلال لأنهم لانهماكهم في الغفلة والغرور قد زين لهم الشيطان عبادة الشمس التي من جملة مظاهر الحق مقتصرين العبادة عليها لقصور نظرهم ولو نبههم منبه نبيه على توحيد الله واستقلاله سبحانه في عموم مظاهره لعل الله يوقظهم من منام الغفلة بان قال لهم مناديا إياهم
أَلَّا يَسْجُدُوا يعنى تنبهوا ايها الفاقدون قبلة سجودكم ووجهة معبودكم وانصرفوا عنها ايها القوم الضالون المنصرفون عن المسجود الحقيقي والمعبود المعنوي بل اسجدوا وتذللوا لِلَّهِ المتجلى في الأكوان المنزه عن الحلول في الجهات والمكان المقدس عن تتابع الساعات عليه وتعاقب الآنات والأزمان إياه بل له شأن لا يشغله شأن ولا يجرى عليه زمان ومكان العليم القدير الَّذِي يُخْرِجُ ويظهر بمقتضى علمه المحيط وقدرته الكاملة الشاملة الْخَبْءَ اى الشيء الخفى المطوى المكنون الكائن فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى سموات الأسماء الإلهية وأوصافه الذاتية وَايضا يَعْلَمُ سبحانه بعلمه الحضوري عموم ما تُخْفُونَ تكتمون وتسترون أنتم في سرائركم وضمائركم بل بالخفيات التي لا اطلاع لكم عليها أصلا بمقتضى قابلياتكم واستعداداتكم وَكذا عموم ما تُعْلِنُونَ أنتم ايضا من أفعالكم وأحوالكم وكيف لا يظهر المكنون من الأمور ولا يعلم خفيات الصدور
اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد الحي القيوم الذي لا إِلهَ ولا موجود في الوجود إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ المحيط بجميع ما قد لمع عليه بروق تجلياته المتشعشعة المتجددة المترتبة على أسمائه الذاتية الكاملة المستدعية للظهور والبروز عن أوصافه الفعلية والمقتضية لإظهار ما قد كمن من الكمالات المندمجة في الذات الاحدية الى فضاء الوجود والشهود وبعد ما سمع سليمان منه ما سمع
قالَ ممهلا عليه مستأخرا سَنَنْظُرُ ونصبر الى ان يظهر لدينا أَصَدَقْتَ فيما أخبرت به أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ المزورين قد زورت هذا للتخلص من العذاب الأليم. ولما صح الخبر ووضح صدقه عند سليمان صلوات الرحمن عليه وسلامه أراد ان يرسل الهدهد رسولا الى بلقيس فأمر الكتاب ان يكتبوا كتابا هكذا بسم الله الرحمن الرحيم السلام على من اتبع الهدى اما بعد فلا تعلوا على وأتونى مسلمين ثم طبعه بالمسك وختمه بخاتمه ثم قال للهدهد
اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ بحيث لم يتفطنوا بك وبأمرك ثُمَّ تَوَلَّ وانصرف
قالَتْ منادية لهم مستفتية منهم يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي قد أُلْقِيَ اليوم إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ وصفته بالكرامة إذ هي نائمة في قصرها والأبواب مغلقة عليها فرأت في صدرها هذا بلا إحضار محضر وبعد ما سمعوا منها ما سمعوا كأنهم قالوا ممن وما مضمونه قالت
إِنَّهُ اى الكتاب مرسل مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ اى مضمونه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَّا تَعْلُوا اى عليكم ان لا تترفعوا ولا تتكبروا عَلَيَّ ولا تبالوا ببسطتكم وبشوكتكم وبالجملة لا يليق بكم وبشأنكم الا الإتيان على وجه الخضوع بلا كبر وخيلاء وَبعد ما انحصر أمركم على الإتيان أْتُونِي مُسْلِمِينَ منقادين لأمر الله مطيعين لحكمه وحكم رسوله بلا ممانعة وإباء واظهار مقاتلة ومقابلة ثم قرأت مضمون الكتاب عليهم وشرحت لهم فحواه
قالَتْ خائفة مضطربة منادية لهم ثانيا تأكيدا للتأمل والتدبر في هذا الأمر الهائل والشأن المهول يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي وأجيبوا على وأشيروا الى فِي أَمْرِي هذا واختاروا ما هو الأحوط واستصوبوا طريقا ورأيا اختر ذلك قطعا وآمر بها حكما وامض بها جزما إذ ما كُنْتُ قاطِعَةً جازمة أَمْراً امضى عليه واجزم به حَتَّى تَشْهَدُونِ له وتستصوبوه بل الأمر مفوض إليكم فاستصوبوا ما قد تقرر رأيكم عليه حتى امض على مقتضاه وبعد ما فوضت أمرها إليهم استعطافا واستظهارا
قالُوا اى الأشراف مستعلين مستكبرين حسب خيلاء اصحاب القدرة والقوة وارباب الجاه والثروة نَحْنُ قوم أُولُوا قُوَّةٍ وقدرة تامة عددا وعددا وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ قد انتشر صيتنا في الآفاق بالشدة والشجاعة وبأنواع الجرأة والاستيلاء والصولة على الأعداء والغلبة عليهم فنحن هكذا ولا خوف لنا لا منهم ولا من غيرهم وَالْأَمْرُ بعد ذلك مفوض إِلَيْكِ ونحن عبيدك فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ من القتال او الصلح نعمل على وفق ما امرتنا به
قالَتْ في جوابهم بعد ما تأملت وتعمقت في أمرها ورأيها نعم ان لنا كثرة وقوة وشوكة وشجاعة وصولة منتشرا في اقطار الأرض بأسها وصيتها الا ان الحرب خداع والقتال سجال لا تدرى عاقبتها ومآلها ولا اعتماد على الكثرة والجرأة بعد ما قد مضى القضاء ونفذ على الهزيمة ومن المقدمات المسلمة إِنَّ الْمُلُوكَ وارباب القدرة والاستيلاء إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً عنوة وقهرا أَفْسَدُوها وغيروا أوضاعها وبدلوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً بالغلبة والاستيلاء وَبالجملة كَذلِكَ يَفْعَلُونَ هؤلاء لو دخلوا على بلادنا هذه
وَبالجملة ما ينبغي ولا يليق بنا اليوم ولا يصلح بحالنا لا مقارعة باب المقاتلة بإمضاء السيوف ولا المصالحة ايضا بإعطاء الألوف بل إِنِّي مُرْسِلَةٌ رسلا إِلَيْهِمْ أولا مصحوبة بِهَدِيَّةٍ كثيرة لائقة بعظم شأننا وشأنهم لاختبرهم فَناظِرَةٌ انا منتظرة بعد ذلك بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ اى بأى شيء يعودون من عندهم بعد تجسسهم عن أحوالهم وأطوارهم ومعاشرتهم مع رسلنا حتى اعمل على مقتضى ما يرجعون هذا ما هو الا من كمال عقلها ورزانة رأيها وتدبيرها المملكة وصيانتها آداب السلطنة والامارة وضبط المملكة. روى انها قد أرسلت منذر بن عمرو في وفد وأرسلت معه غلمانا على زي الجواري وجواري على زي الغلمان وحقة فيها
فَلَمَّا جاءَ الرسل سُلَيْمانَ وحضروا عنده على الوجه المعروف نظر نحوهم بوجه حسن طلق وتكلم معهم لينا حزنا مستخبرا عن احوال ملكتهم ومملكتهم ثم قالَ ما أمركم وشأنكم فأعطوا كتاب بلقيس فنظر فيه فإذا هي قد فصلت فيه جميع ممتحناتها قال سليمان عليه السلام اين الحقة فجئ بها فقال ان فيها درة ثمينة غير مثقوبة وجزعة معوجة الثقب فأمر سليما الارضة فأخذت شعرة فدخلت في الدرة حتى خرجت من الجانب الآخر وامر دودة اخرى حتى دخلت في الجزعة المعوجة الثقب بخيط وخرجت من الجانب الآخر وميز ايضا بين الجواري والغلمان حيث أمرهم بغسل الوجه واليد فكانت الجارية تأخذ الماء بإحدى يديها وتصبه في الاخرى ثم تضربه وجهها والغلام كما يأخذه يضرب به الوجه ثم أتوا ببقاء الهدايا المرسلة فأبى سليمان عليه السلام وامتنع من قبولها ورد كله إليهم مهددا عليهم حيث قال أَتُمِدُّونَنِ وتزيدونني بِمالٍ يميل إليها أبناء الدنيا الدنية المحرومون عن اللذات الاخروية فَما آتانِيَ اللَّهُ المنعم المفضل على من الأمور الاخروية واللذات اللدنية من النبوة والرسالة وتسخير الثقلين والرياح والطيور والوحوش وجميع من في الجو وعلى وجه الأرض خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ من حطام الدنيا ومزخرفاتها الفانية فما لنا ميل والتفات إليها بَلْ أَنْتُمْ وأمثالكم من أبناء الدنيا بِهَدِيَّتِكُمْ هذه تَفْرَحُونَ تميلون وتسرون بها لفخركم بأمثال هذه الزخارف لقصور نظركم عليها وغفلتكم عن الأمور الاخروية
ارْجِعْ ايها الرسول إِلَيْهِمْ اى الى ملكتكم ومن معها من الجنود وقل لهم ما مطلوبي منهم ومن أمثالهم الا الايمان بالله المتوحد بالالوهية والربوبية والانقياد له والإطاعة لأحكامه وبالجملة قد لزم عليهم الإتيان إلينا مؤمنين مسلمين موحدين منقادين والا فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ من الانس والجن واصناف الوحوش والطيور وانواع السباع والبهائم والهوام والحشرات بالغة من الكثرة الى حد لا قِبَلَ لَهُمْ بِها ولا يسع لهم مقابلتها من بعيد فكيف ممانعتها ومقاتلتها وَبعد ما لم يسع لهم المقابلة والمقاتلة لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها اى من بلادهم المألوفة أَذِلَّةً ضعفاء ذليلين وَهُمْ حينئذ صاغِرُونَ مهانون أسراء بأيدي هؤلاء العفاريت. ثم لما رجع الرسل مع ما اهدت من الهدايا على وجهها وقد حل جميع ممتحناتها ومشاكلاتها قالت بلقيس قد علم انه ليس بملك بل هو نبي من الأنبياء مؤيد بأمر سماوي وما لنا طاقة مقاومتها ومقابلتها معه وما لنا سوى المصالحة والإطاعة بامره والحضور عنده ثم أرسلت بلقيس اليه صلوات الرحمن عليه رسولا ثانيا قائلا منها حاكيا عنها انى قادمة الى شرف خدمتكم وحضوركم عن قريب وأخذت بتهيئة الأسباب حتى تخرج وجعلت سريرها داخل سبعة أبواب في قصرها وقد كان قصرها داخل سبعة قصور وأغلقت كل الأبواب ووكلت عليها حراسا متعددة وارتحلت نحو سليمان عليه السلام فلما دنت اليه رأى سليمان حين كان على سريره جما غفيرا من السواد مسيرة فرسخ فسأل عنهم فقالوا هي بلقيس قد أتت بجنودها مطيعين مسلمين
قالَ سليمان عليه السلام لمن حوله من الجن والانس يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي ويحضروا عندي مُسْلِمِينَ مؤمنين إذ بعد ما قد أتوا لا يجوز إتيان عرشها الا باذنها إذ لا يصح
قالَ عِفْرِيتٌ خبيث مارد مِنَ الْجِنِّ اسمه ذكوان او صخر أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ اى مجلسك الذي تجلس عليه أنت للحكومة وكان من دأبه الجلوس الى وقت الزوال وَبالجملة أتيك به قبل إتيانها وإِنِّي عَلَيْهِ اى على حمل العرش وإتيانه لَقَوِيٌّ احمله بلا تزلزل أركانه وقوائمه أَمِينٌ لا أتصرف شيأ من زينته وجواهره فاستبطأ عليه السلام إتيانه وطلب السرع من ذلك
قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ فائض عليه مِنَ الْكِتابِ اى من حضرة العلم المحيط الإلهي المعبر عنه بالقضاء واللوح المحفوظ وعالم الأسماء والأعيان الثابتة يقدر بذلك العلم على إحضار شيء واعدامه دفعة وهو كان وزيره آصف بن برخيا قد انكشف عليه خواص الأسماء الإلهية ففعل بها ما فعل أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ اى قبل ان تعيد وتطبق اجفانك حين نظرك والتفاتك وهذا كناية عن كمال السرعة والعجلة فاتى به طرفة عين فَلَمَّا رَآهُ اى سليمان العرش مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ في طرفة عين قبل إتيان بلقيس ساعة قالَ سليمان عليه السلام متوجها الى ربه مذكرا نعمه الفائضة على نفسه مجددا الشكر إياها هذا اى حضور هذا العرش العظيم الثقيل في غاية الثقل والعظمة في آن واحد مع انه قد كان في مسافة بعيدة مِنْ فَضْلِ رَبِّي على ومن عداد جلائل العامة وافضاله الى انما تفضل سبحانه على بهذا لِيَبْلُوَنِي ويختبرني أَأَشْكُرُ وأخذ بمواظبة شكر نعمه المتواترة على بحيث أعجز عن أداء شكره واعترف بالعجز والقصور عن احاطة نعمه فكيف عن أداء حقوقها أَمْ أَكْفُرُ لنعمه ولا أقيم بمقام الشكر عليها وان كانت الاقامة والتوفيق عليها ايضا من جملة انعامه وافضاله وإكرامه وَلا عائدة من شكرنا اليه سبحانه إذ هو منزه عنها بل مَنْ شَكَرَ على نعم الحق وصرفها على مقتضى ما جبلها الحق لأجله فَإِنَّما يَشْكُرُ الشاكر لِنَفْسِهِ ولازدياد نعمه بمزيد الشكر وَايضا مَنْ كَفَرَ فإنما يكفر لنفسه ولانتقاص نعمه لانتقاص شكره فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ في ذاته من عموم الفوائد والعوائد كَرِيمٌ جواد لا يعلل فعله بالأغراض وانعامه بالاعواض ثم لما دنت بلقيس مع من معها من اشراف قومها بالدخول على سليمان عليه السلام والعرش عنده
قالَ سليمان لمن حوله نَكِّرُوا لَها عَرْشَها حين جلست وغيروا بعض أوضاعه وزينته نَنْظُرْ حينئذ أَتَهْتَدِي وتتعقل انه هو أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ لاستحالة ان يكون هذا هو عادة وانما قصد به عليه السلام اختبار عقلها ورشدها للايمان بالمغيبات والمستبعدات الخارقة للعادات فغير عرشها على الفور وقد بنى سليمان عليه السلام صرحا ممردا من قوارير ووضع سريره فيها وهي على الماء ومن غاية صفائها لا يتميز عن الماء وفي الماء حيوانات مائية المولد من الحوت والضفدع وغيرها
فَلَمَّا جاءَتْ بلقيس وهو عليه السلام في ذلك الصرح على السرير قِيلَ لها أولا أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ بعد ما أمعنت نظرها نحو العرش كَأَنَّهُ هُوَ أتت حينئذ بكلمة التشبيه وقد تحقق عندها انه هو صيانة لنفسها عن الكذب وَبعد ما تفرست بلقيس منه عليه السلام القبول والتحسين إياها في قولها بادرت الى تصديق نبوته عليه السلام وقالت لا حاجة لنا الى اختبارك بأمثال هذه المعجزات والخوارق حتى نؤمن لك يا نبي الله إذ قد أُوتِينَا الْعِلْمَ المتعلق منا بصدقك وتصديق نبوتك مِنْ قَبْلِها اى قبل ظهور هذه المعجزة الخارقة للعادة بأمور قد اختبرناك بها وَبالجملة قد كُنَّا مُسْلِمِينَ منقادين لك مسلمين نبوتك وتأييدك من قبل الحق
وَمن فضل الله إياها انه قد صَدَّها وصرفها بعد ما قد ظهر عندها نبوة سليمان عليه السلام عن ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعنى قد
لَ
يعنى قال سليمان عليه السلام آمراهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ
فبادرت الى الاجابةلَمَّا رَأَتْهُ
اى القصرسِبَتْهُ لُجَّةً
فيها انواع الحيوانات المائية كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها
اى رجليها لتدخل فيها فلما رأى سليمان عليه السلام ساقيها وقد اخبر ان ساقيها لا كساق الإنسان لذلك قد احتال ببناء قصر القوارير حتى يظهر عنده هل هو مطابق للواقع أم لا فلما رآها احسن ساقا وقدما لكن على ساقيها شعر صرف عليه السلام وجهه عنها مستغفرا ثم الَ
لهانَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ
اى بنيان مملس مصنوع نْ قَوارِيرَ
زجاجات فأرخت زيلها فدخلت وبعد ما قد رأت اللجة أولا ظنت انه يستغرقها بها عمدا ثم لما ظهر خلافه الَتْ
مستغفرة عن سوء ظنها إياه بِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
بهذا الظن الفاسد على نبي الله أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ
الواحد الأحد المستقل بالالوهية والربوبيةبِّ الْعالَمِينَ
لا رب له سواه ولا اله الا هو. وقد اختلف في تزوجها والأصح انه قد تزوجها ثم انقرضت هي وسليمان ومن عليها جميعا إذ كل يوم هو في شأن وكل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام
وَمن وفور جودنا وإحساننا لخلص عبادنا لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ حين لاح عليهم امارات العدوان وعلامات الفسوق والعصيان أَخاهُمْ صالِحاً قائلا لهم أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ حق عبادته وتذللوا نحوه بأنواع الخشوع والخضوع ولا تتكبروا عليه بالخروج عن مقتضى أوامره وحدوده فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ اى بعد ما اظهر عليهم الدعوة فاجؤا على الافتراق حيث آمن له البعض وصدقه واعرض عنه البعض الآخر فكذبه فاختصما
قالَ صالح للمعرضين المكذبين يا قَوْمِ شأنكم الحذر والاحتراز عن عذاب الله ونكاله وعن موجبات قهره واسباب غضبه وجلاله لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ الموجبة لانواع العذاب والقهر الإلهي قَبْلَ الْحَسَنَةِ المستجلبة لعموم الخيرات لَوْلا هلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ العفو الغفور لكفركم وذنبكم الذي قد صدر عنكم لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قبل حلول عذابه عليكم إذ حين حلول العذاب لا ينفع توبتكم واستغفاركم وبعد ما ظهر عليهم امارات قهر الله وغضبه إياهم حيث وقع الجدب بينهم
قالُوا مغاضبين على صالح اطَّيَّرْنا اى قد تطيرنا وتشأمنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ من المصدقين لك المتدينين بدينك إذ قد تواترت علينا المصائب مذ ظهرتم أنتم بدينكم هذا بيننا وقد وقع الوقائع الهائلة بشؤمكم وشؤم دينكم وبعد ما قد سمع صالح منهم ما سمع ايس عن ايمانهم وصلاحهم حيث قالَ في جوابهم طائِرُكُمْ اى اسباب خيراتكم وشروركم عِنْدَ اللَّهِ وفي لوح قضائه وحضرة علمه إذ قد كتب عليكم الخير والشر حسب ما صدر عنكم من الأعمال الصالحة والطالحة ولا معنى لتطيركم وتشاؤمكم بنا بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ تختبرون بتفاقم انواع المحن وبتلاطم امواج الفتن كي تستغفروا وتندموا عما أنتم عليه من الكفر والعصيان حتى لا تستأصلوا بنزول عذاب الله الموعود لاستئصالكم حتما وبعد ما سمعوا منه كلامه هذا قصدوا مقته وإهلاكه
وَقد كانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يعنى تسعة رجال اتفقوا بحيث صاروا رهطا واحدا وطائفة متفقة على قتله والرهط جمع لا واحد له يطلق على مادون العشرة وكان شأنهم مقصورا على الفساد والإفساد يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بأنواع الفسادات وَلا يُصْلِحُونَ أصلا في حال من الأحوال وبعد ما ظهر عليهم امارات العذاب الإلهي وتحقق عندهم
قالُوا فيما بينهم تَقاسَمُوا بِاللَّهِ بان حلف كل منهم عند صاحبه لَنُبَيِّتَنَّهُ ولنهلكنه قبل إتمام العذاب علينا وَأَهْلَهُ ايضا ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ عند طلب ثأره مبالغين في الإنكار ما شَهِدْنا في مدة عمرنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ يعنى المكان الذي أهلك فيه صالح فكيف قتلنا إياه ونؤكد قولنا هذا بالقسم ايضا عند وليه ونقسم وَالله إِنَّا لَصادِقُونَ في قولنا هذا
وَبالجملة ما لنا علم بإهلاكه ومهلكه ومهلكه وبالجملة قد مَكَرُوا واحتالوا لمقت نبينا مَكْراً بليغا وَقد مَكَرْنا ايضا لهلاكهم واستئصالهم مَكْراً ابلغ من مكرهم إذ قد أمرنا للملائكة حين يمّم أولئك الماكرون المفسدون لقتل نبينا صالح وأخذوا يطلبونه ليرجموه بالحجارة ان يصيحوا عليهم حين قصدهم واشتغالهم لرجمه فصاحوا حينئذ عليهم بالصيحة الهائلة وَهُمْ حالتئذ من شدة هولهم وفزعهم لا يَشْعُرُونَ لا الصائح ولا الصالح ولا الرماة ولا العداة الطغاة فهلكوا بالمرة بلا وصول الى مرامهم
فَانْظُرْ ايها الناظر المعتبر كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ راجعة واصلة إليهم لاحقة بهم وبالجملة أَنَّا من مقام قهرنا وجلالنا قد دَمَّرْناهُمْ وأهلكناهم اى التسعة المتقاسمين وَقَوْمَهُمْ ومن معهم أَجْمَعِينَ بحيث لم يبق منهم احد يخلفهم
فَتِلْكَ الاطلال الخربة والرسوم المندرسة والدور المنكوسة بُيُوتُهُمْ ومساكنهم التي شيدوها وحصنوها مدة حياتهم بأنواع التشييدات والترصينات والتجصيصات انظر كيف صارت خاوِيَةً ساقطة جدرانها على سقوفها منعكسة منكوسة كل ذلك بِما ظَلَمُوا وبشؤم ما خرجوا عن مقتضى الحدود الإلهية عتوا واستكبارا إِنَّ فِي ذلِكَ المكر والإهلاك لَآيَةً دالة على كمال قدرتنا على انتقام من خرج عن ربقة الانقياد واطاعتنا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَبعد ما أهلكناهم صاغرين قد أَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا بتوحيدنا وصدقوا رسلنا سالمين غانمين من أمتعتهم وأموالهم وَهم من كمال إخلاصهم في الايمان وخشيتهم عن ما له الظلم والعدوان قد كانُوا يَتَّقُونَ ويحذرون من قهرنا وغضبنا ولا يسيئون الأدب معنا ومع رسلنا
وَمن مقتضيات حكمتنا المتقنة ايضا قد أرسلنا لُوطاً الى قوم قد خرجوا عن مقتضى حدودنا تاركين طريق حكمة التناسل والتوالد وإبقاء النوع مبدلين لها الى ما هو مذموم عقلا وشرعا وعرفا وعادة ومروءة وطبعا وفطنة وفهما اذكر يا أكمل الرسل إِذْ قالَ لوط عليه السلام لِقَوْمِهِ مستفهما منهم على سبيل الإنكار والتوبيخ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ والفعلة القبيحة الشنيعة وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ وتشاهدون قبحها وشنعتها وقت ما فعلتم وأتيتم
أَإِنَّكُمْ ايها المسرفون المستعبدون العابدون للشهوة مثل الحمار لَتَأْتُونَ الرِّجالَ الذين هم أمثالكم في الرجولية شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ مع ان الحكمة الإلهية تقتضي إتيانهن للتناسل وبقاء النوع كسائر انواع الحيوانات وهؤلاء الحيوانات مع جهلهم لا يخرجون عن مقتضى الحكمة وأنتم ايها الحمقى مع انكم مجبولون على العقل الفطري المميز بين الذمائم من الأخلاق والأطوار وحميدتها تخرجون عن مقتضاها بَلْ أَنْتُمْ بفعلتكم هذه قَوْمٌ تَجْهَلُونَ منسلخون عن مقتضى الإدراك المميز للإنسان عن سائر الحيوانات العجم إذ لا يتأتى منها أمثال هذه الا من الحمار الأرذل الأنزل انظروا ماذا شريككم في فعلتكم هذه ايها الحمقى المسرفون المفرطون
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ بعد ما سمعوا منه انواع التشنيعات والتقريعات إِلَّا أَنْ قالُوا من فرط انهماكهم في الغي والضلال ونهاية عمههم وسكرتهم في رق شهواتهم ولذاتهم البهيمية
فَأَنْجَيْناهُ اى أخرجنا لوطا من بينهم وَأمرنا له ان يخرج أَهْلَهُ ايضا عناية منا إياهم إِلَّا امْرَأَتَهُ المائلة عليهم الراضية بفعلتهم إذ هي منهم لذلك قَدَّرْناها في سابق قضائنا مِنَ الْغابِرِينَ الهالكين المصابين
وَبعد ما أخرجنا لوطا واهله من بينهم قد أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً اى مطر هو مطر الحجارة المهلكة فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ مطرهم الذي قد امطروا به بحيث لم يبق منهم ومن مساكنهم ومواشيهم شيء أصلا. وبعد ما قص سبحانه لحبيبه ﷺ قصص بعض ارباب الطبقات من الأنبياء والرسل المختص بأنواع الفضائل والكرامات الموهوبة من عنده سبحانه إياهم تفضلا عليهم وامتنانا امره سبحانه بان بادر الى تجديد الشكر والثناء عليه سبحانه بما أولاهم من النعم العظام واعطاهم من الفواضل الجسام إبقاء لحقوق المواخاة والاتحاد الحقيقي الواقع بين الأنبياء العظام والرسل الكرام بعد رفع الإضافات ونزع البسة التعينات الناسوتية والتشرف بلبس الخلعة اللاهوتية فقال سبحانه
قُلِ يا أكمل الرسل بعد ما تلونا عليك بعض فضائل اخوانك تحميدا علينا من قبلهم وتسليما منا إياهم الْحَمْدُ والثناء الكامل اللائق الصادر من ألسنة عموم اهل النعم والانعام من الثقلين وغيرهم ثابت لِلَّهِ الواحد الأحد الحقيق بجميع المحامد والاثنية الصادرة عن ألسنة عموم من رش سبحانه عليهم رشحات بحر وجوده وامتد عليهم اظلال أسمائه وصفاته بمقتضى جوده وَسَلامٌ منه سبحانه ورحمة نازلة من لدنه على التواتر والتوالي عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى سبحانه واختارهم من بين البرايا لإرشاد التائهين في بيداء الغفلة والضلال وتكميل الناقصين المنحطين عن رتبة الخلافة والنيابة بميلهم الى فضلات الدنيا العائقة عن الوصول الى دار الخلافة التي هي التوحيد المسقط لتوهم الإضافات مطلقا قل يا أكمل الرسل بعد ما قد ظهر الحق عندك مستفهما مقرعا للمشركين المتخذين غير الله الها جهلا وعنادا آللَّهُ الواحد الأحد القادر المقتدر المدبر لمصالح عباده الموصل لهم بعد تصفية ظواهرهم وبواطنهم الى ما قد جبلوا لأجله من معرفة مبدئهم ومعادهم خَيْرٌ واحسن وانفع واولى وأليق لهم أَمَّا يُشْرِكُونَ له عنادا ومكابرة من الاظلال الهالكة في أنفسها المجبورة المستهلكة تحت قهر الله وقدرته الكاملة ثم قرع عليه سبحانه من انواع التقريعات والتوبيخات ما قرع تتميما لردعهم وتكميلا لزجرهم فقال
أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ اى عالم الأسباب العادية العلوية وَالْأَرْضَ اى عالم الطبيعة السفلية القابلة لقبول فيضان آثار الفواعل العلوية وَمن أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ جانب السَّماءِ ماءً محييا لأموات الأراضي القابلة اليابسة بالطبع فَأَنْبَتْنا بِهِ اى بالماء بعد ما أنزلناه من جانب السماء حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ وبهاء ونضارة وصفاء ما كانَ اى ما صح وما أمكن لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها بل شجرة واحدة من جملة أشجارها لولا امداد الله وانباته إياها أَإِلهٌ اى أتدعون وتعبدون وتدعون الها آخر مَعَ اللَّهِ المدبر لمصالحكم بالاستقلال وبكمال الارادة والاختيار بَلْ هُمْ اى المتخذون غير الله الها قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ويصرفون عن الحق الصريح الذي هو التوحيد الى الباطل الزاهق الزائل الذي هو الشرك في ألوهيته واثبات الغير معه في الوجود وادعاء استحقاق العبادة إياه عنادا ومكابرة
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً اى مقرا تستقرون عليها وتعيشون فيها
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ القلق الحائر في أموره بلا رشد منه الى مخرجه ومخلصه إِذا دَعاهُ وتضرع نحوه دعوة مؤمل صريع ومتمن فجيع سواه سبحانه وَمن يَكْشِفُ السُّوءَ المتفاقم على ذوى الأحزان واولى المصائب والملمات غيره سبحانه وَبالجملة من يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ من الاسلاف الذين مضوا عليها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد تدعون ايها الجاهلون المسرفون المكابرون وأنتم ايها المبطلون المفرطون من نهاية جهلكم المركوز في جبلتكم وغفلتكم من الوهية الحق ومن غاية غيكم وضلالكم عن توحيده قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ اى قليلا منكم تتذكرون آلاء الله ونعماءه المتوالية المترادفة عليكم آنا فآنا طرفة فطرفة ايها الكافرون المعاندون المكابرون
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ ويرشدكم ايها الحمقى فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بالنجوم الزاهرات وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ المبشرات لتكون لكم بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ اى بشارة بالمطر المحيي لأموات الأراضي بأنواع النباتات والحبوبات المبقية لأصناف الحيوانات أَإِلهٌ قادر على أمثال هذه الأفعال المتقنة والآثار المحكمة مَعَ اللَّهِ المستقل بالقدرة الكاملة والحكمة الباهرة والرحمة العامة الشاملة تدعون وتعبدون ايها الحمقى الجاهلون مع انه قد تَعالَى اللَّهُ وتنزه ذاته وتعاظمت أسماؤه وصفاته عن مشابهة الأمثال وعن مطلق المشاركة معها في عموم الآثار والأفعال سيما عَمَّا يُشْرِكُونَ له أولئك المشركون المسرفون من الأوثان والأصنام
أَمَّنْ يَبْدَؤُا ويظهر الْخَلْقَ اى عموم المخلوقات والمكونات من كتم العدم إبداء إبداعيا وإيجادا اختراعيا بعد ما لم يكن شيأ مذكورا برش نوره عليها ومد ظله إليها بمقتضى لطفه وجماله ثُمَّ بعد إظهاره وإيجاده على الوجه الأغرب الابدع من يُعِيدُهُ ويبعثه بعد اعدامه وإماتته بمقتضى قهره وجلاله على النمط البديع العجيب الغريب ايضا وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ ويقوّم امزجتكم بأنواع الاغذية الحاصلة مَنْ امتزاج آثار فواعل السَّماءِ وَقوابل الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ القادر المقتدر على إنشاء انواع البدائع وإبداء اصناف الغرائب والعجائب المكونة في التراب اليابس الجامد لتكون غذاء لمن عليها من الحيوانات تثبتون وتشركون ايها الحمقى المشركون المسرفون المكابرون وان أصروا على شركهم وكفرهم سيما بعد ما سمعوا قوارع الدلائل القاطعة وشواهد الحجج والبراهين الساطعة المذكورة في كتابك هذا المثبتة لتوحيد الحق المبينة له على الوجه الأبلغ الأكمل قُلْ لهم يا أكمل الرسل إلزاما عليهم وتبكيتا هاتُوا ايها الحمقى بُرْهانَكُمْ على دعواكم الوهية معبوداتكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في هذه الدعوى وبعد ما قدمت
قُلْ يا أكمل الرسل كلاما ناشئا عن محض التوحيد خاليا عن وصمة الكثرة مطلقا لا يَعْلَمُ مَنْ ظهر فِي السَّماواتِ اى العلويات وَمن ظهر في الْأَرْضِ اى السفليات من المظاهر المجبولة فيهما على فطرة الشعور والإدراك الْغَيْبَ الذي قد غاب وخرج عن مداركهم وعقولهم وكذا عن حيطة حواسهم وآلاتهم ولا يسع لهم ان يحيطوا بها ويتصفوا بشعورها وادراكها إِلَّا اللَّهُ المنزه عن مطلق الأماكن والأزمان بل الكل في حيطة أسمائه وأوصافه المبرى عن الاشتراك في جنس وعن الامتياز بفصل فانه واحد احد من كل الجهات ليس معه شيء ولا دونه حي فلا يشارك شيء في شيء حتى يميز عنه بشيء بل وحدته لا كسائر الوحدات وعلمه لا كسائر العلوم والإدراك وكذا جميع صفاته وأسمائه فانه سبحانه يعلم بعلمه الحضوري جميع ما ظهر وبطن وغاب وشهد بلا تفاوت من تقدم وتأخر وزمان ومكان واسباب وآلات وعلل وموجبات وشرائط ومقتضيات بل الكل في ساحة عز حضوره على السواء بلا اختلاف الخفاء والجلاء وَان اجتهد أولئك العالمون من اهل السموات والأرضين ما يَشْعُرُونَ ويدركون أَيَّانَ يُبْعَثُونَ اى متى يبعثون وفي أى آن يحشرون من قبور تعيناتهم وينشرون من أجداث هوياتهم للوقوف بين يدي الله وان وصلوا بعد ما اجتهدوا بتوفيق الله وتيسيره الى مقام قد عرفوا ان وقوفهم بين يديه سبحانه للعرض والجزاء كائن ثابت لا محالة لكنهم ما وصلوا الى مرتبة يسع وينكشف لهم تعيين وقت الحشر والنشر إذ تعيين وقت البعث من حملة الغيوب التي قد استأثر الله بها في علم غيبه ولم يطلع أحدا من أنبيائه وأوليائه عليها
بَلِ ما ادَّارَكَ وما تدارك وبلغ وما وصل وتعلق عِلْمُهُمْ اى علم عموم العلماء ومشاعر جميع ارباب الشعور والإدراك بعد ما كوشفوا بالهام الله وجذب من جانبه الا فِي تحقق النشأة الْآخِرَةِ وانية ما فيها من المعتقدات الاخروية المحققة من الحشر والنشر والصراط والسؤال والجنة والنار والثواب والعقاب وجميع الأمور التي قد نطقت بها ألسنة الرسل والكتب وبالجملة ما بلغت بتعيين وقت البعث وتشخيص حينه وآن وقوعه الافهام واحلام الخواص والعوام بَلْ هُمْ اى اكثر الناس فِي شَكٍّ وتردد مِنْها اى من النشأة الآخرة ومن تحقق الأمور الكائنة فيها بَلْ هُمْ اى بل أكثرهم مِنْها اى من قيام الساعة ومن الأمور الموعودة فيها عَمُونَ غافلون منكرون لا يعتقدون وقوعها ولا يقبلون قيامها بل ينكرونها أشد انكار ويكذبونها ابلغ تكذيب
وَمن شدة انكارهم وتكذيبهم قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وبعموم ما قد وعد سبحانه لهم في يوم العرض والجزاء على سبيل الاستبعاد والاستنكار مستفهمين مستهزئين أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا ايضا كذلك أَإِنَّا وانهم لَمُخْرَجُونَ من قبورنا احياء على الوجه الذي قد كنا عليه في مدة حياتنا قبل طريان الموت الطبيعي علينا كلا وحاشا إذ هي من جملة الأمور المستحيلة الممتنعة التي تأبى العقول السليمة عن قبولها ولا منشأ لها سوى انا
لَقَدْ وُعِدْنا هذا اى البعث والحشر نَحْنُ اليوم على لسان هذا المدعى للنبوة والرسالة وَكذا قد وعد آباؤُنا ايضا مِنْ قَبْلُ على ألسنة المدعين الآخرين الذين مضوا وقد كان أسلافهم ايضا كذلك على ألسنة إسلاف أخر من المدعين وهكذا وهكذا وبالجملة إِنْ هذا اى ما هذا الوعد بالبعث والجزاء إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ الموروثة لأخلافهم اللاحقين المستخلفين المتأخرين عنهم وبالجملة ما هذا الا ديدنة قديمة وعادة مستمرة قد بقيت بين الأنام من قديم الأيام لتخويف العوام بلا وقوع ولا إمكان وقوع ايضا ثم
قُلْ يا أكمل الرسل كلاما خاليا عن وصمة المجادلة والمراء صادرا عن محض الحكمة والعبرة والاستبصار آمرا لهم على سبيل الاعتبار سِيرُوا ايها المنكرون المكابرون ليوم العرض والجزاء فِي الْأَرْضِ التي هي محل العبرة ومنزل الاستبصار فَانْظُرُوا معتبرين متأملين كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ المكذبين كمال قدرة الله القادر المقتدر على كل ما أراد وشاء بلا فتور وقصور ولا ينتهى قدرته دون مقدوره بل له اعادة كما له ابداؤه مع جميع اجزائه ولوازمه وعوارضه من الزمان والمكان والحركات والسكنات ومع جميع الأطوار والأحوال الطارية عليه من مبدأ حدوثه الى منتهى حياته إذ جميع ما جرى عليه وصدر عنه حاضر عنده سبحانه مشهود له غير مغيب عنه بلا انقضاء من حضرة علمه وإمضاء من لوح قضائه إذ عنده سبحانه لا زمان ولا مكان حتى يتصور الانقراض والانقضاء واستبعاد أمثال هذه المسألة انما يجئ عن العقول السخيفة والأحلام الضعيفة المحبوسة في مضيق الزمان والمكان المتحصنة بحصون الجهات والابعاد المقيدة بسلاسل الأيام وأغلال الليالى ومن انكشف له بصر بصيرته وارتفع عنه سبل السدل وحول التحويل ورمد التغير والتبدل واكتحل عين عبرته وبصر بصيرته بكحل الكشف والشهود قد اضمحل دونه الزمان والمكان والجهات والأقطار وجميع ما يوهم الانقضاء والانصرام والتجدد والاستمرار ولم يبق في عين عبرته ونظر شهوده وخبرته سوى الله الواحد القهار لعموم الأغيار فسمع منه به وابصر به اليه وظهر منه عليه بحوله وقوته وفنى فيه وبقي لديه ولاح منه ورجع اليه وبدا عنه وعاد عليه قائلا دائما بلسان الحال والمقال انا لله وانا اليه راجعون. ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين برحمتك وجودك يا ارحم الراحمين
وَبعد ما قد هدد سبحانه مكذبي وعده ووعيده بما هدد وقرعهم بما قرع أراد سبحانه ان يسلى حبيبه ﷺ بما لحق له من أذى المنكرين المكذبين بقوله لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ان كذبوك واعرضوا عنك يا أكمل الرسل وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ وسآمة مِمَّا يَمْكُرُونَ اى من مكرهم وحيلتهم فان الله يكفيك ويكف عنك مؤنة شرورهم وكن في نفسك يا أكمل الرسل وسيع الصدر طلق الوجه فرحان القلب يقظان السر فان الله ناصرك ومعينك في كل الأحوال يحفظك عن شرورهم ومكرهم وسيغلبك عليهم عن قريب ويظهر دينك على عموم الأديان كلها وينشر آثار هدايتك وارشادك في اقطار الأرض وانحائها وكفى بالله حسيبا
وَمن شدة شكيمتهم وغاية انكارهم وضغينتهم معك يا أكمل الرسل يَقُولُونَ متهكمين مَتى هذَا الْوَعْدُ المعهود والعذاب الموعود وفي اىّ آن يظهر واىّ زمان يقوم عيّنوا لنا وقته ايها المدعون إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى الوقوع والنزول
قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما قد اقترحوا عنك والحوا عَسى اى قد دنا وقرب أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ اى تبعكم ولحقكم واللام زائدة بَعْضُ العذاب الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ نزوله وحلوله فقد لحقهم عذاب يوم البدر
وَسيلحقهم عن قريب كله ايضا لكن من سنته سبحانه امهال عباده زمانا رجاء ان يتنبهوا او يتوبوا عما أصروا عليه من الكفر والكفران والشرك والطغيان إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل لَذُو فَضْلٍ عظيم ورحمة واسعة شاملة عَلَى عموم النَّاسِ سيما الناسين سوابق عهودهم مع الله المدبر لأحوالهم يمهلهم وينبه عليهم رجاء ان يتنبهوا ويتفطنوا بمقتضى فطرتهم الاصلية وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ نعمة الامهال حتى يخلصوا من نقمته وعذابه لذلك لحقهم ما لحقهم من العذاب ومن جملة كفرانهم بنعم الحق
وَبالجملة لا ينفع لهم مكرهم هذا وحيلتهم هذه إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل لَيَعْلَمُ بعلمه الحضوري ما تُكِنُّ وتخفى صُدُورُهُمْ من الغل والنفاق وَما يُعْلِنُونَ ويظهرونه بألسنتهم من ايمان وكفر وفساد وصلاح وعهد ونقض إذ لا يخفى عليه سبحانه شيء من احوال عباده وما جرى عليهم في ظواهرهم وبواطنهم
وَكيف يخفى عليه شيء من أحوالهم إذ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي طي السَّماءِ وَالْأَرْضِ حتى النقير والقطمير وكذا ما يعقل ويحس ويعبر عنه ويومى اليه ويرمز نحوه ويعرب عنه الى ما شاء الله إِلَّا هو مثبت محفوظ فِي كِتابٍ مُبِينٍ هو لوح القضاء وحضرة العلم المحيط الإلهي الذي قد فصل فيه عموم ما كان وما يكون ازلا وابدا بحيث لا يشذ عن حيطته ما من شأنه ان يعلم ويحس به وايضا من جملة ما يدل على شمول قضائه وعلى حيطة حضرة علمه الكتب الإلهية النازلة المنزلة من عنده سبحانه المنتخبة من حضرة علمه ولوح قضائه سيما القرآن إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ من كمال جمعيته واحاطته يَقُصُّ يظهر ويبين عَلى علماء بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الأمر والشأن الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من الأمور المتعلقة بدينهم وملتهم
وَإِنَّهُ في نفسه لَهُدىً هاد موصل الى طريق التوحيد الذاتي وَرَحْمَةٌ نازلة لِلْمُؤْمِنِينَ الموحدين المحمديين من قبل الحق ليهديهم الى وحدة ذاته ويوصلهم الى غاية ما جبلوا لأجله من المعرفة والتوحيد واليقين
إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل يَقْضِي بَيْنَهُمْ اى بين المختلفين في بنى إسرائيل ويحكم عليهم بِحُكْمِهِ المستنبط من حكمته البالغة المتقنة وَكيف لا هُوَ الْعَزِيزُ الغالب في احكام أحكامه المحكمة المبرمة الْعَلِيمُ في حكمته البالغة المتقنة المفرعة على عدالته الحقيقية وان كذبوك يا أكمل الرسل وأنكروا كتابك وجادلوا معك مراء ومجادلة عنادا ومكابرة
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ المتكفل لحفظك وحضانتك إِنَّكَ في امر دينك وكتابك ورسالتك وهدايتك وفي عموم ما جئت به من قبل ربك عَلَى الْحَقِّ والصدق الذي لا يأتيه الباطل والكذب لا من بين يديه ولا من خلفه الْمُبِينِ الظاهر حقيته عند ذوى البصائر واولى الألباب المستكشفين عن لب الأمور المعرضين عن قشرها فان اعرضوا عنك ولم يقبلوا منك ارشادك وهدايتك لا تبال بهم وباعراضهم وانصرافهم إذ هم عند التحقيق أموات لا حياة لهم حقيقة بل هم موتى
إِنَّكَ وان بالغت واجتهدت في ارشادك وهدايتك إياهم لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ما جئت به من الأوامر والنواهي المأمورة بها الأحياء المقربة الى الله المبينة لطريق توحيده وكيف لا وهم عن السمع معزولون وَايضا أنت لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ اى ليس في وسعك إسماع الدعاء للاصمين الفاقدين آلة السماع والاستماع سيما إِذا وَلَّوْا وانصرفوا عنك مُدْبِرِينَ بلا التفات وتوجه منهم الى الاستماع والسماع والإصغاء
وَبالجملة ما أَنْتَ ايها المرسل للهداية والمبعوث للإرشاد والتكميل بِهادِي الْعُمْيِ الفاقدين آلات الهداية واسبابها عَنْ ضَلالَتِهِمْ المركوزة في جبلتهم الراسخة في طبيعتهم بل إِنْ تُسْمِعُ اى ما تسمع أنت بهدايتك وارشادك ايها الهادي بوحينا وتوفيقنا إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا الدالة على وحدة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا وبالجملة ما تهدى أنت الا من يصدق بعموم ما جئت به من عندنا ووفق من لدنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ منقادون لأوامرنا وأحكامنا
وَاصبر يا أكمل الرسل وقت إِذا وَقَعَ الْقَوْلُ الموعود عَلَيْهِمْ ولاح امارات الساعة وظهر علامات القيامة ودنا وقت قيامها أَخْرَجْنا لَهُمْ قبيل قيام الساعة دَابَّةً عظيمة مِنَ الْأَرْضِ لتكون امارة على قيامها دالة على كمال قدرتنا على احياء الأموات من العظام الرفات طولها سبعون ذراعا ولها قوائم وزغب اى شعرات صفر كريش الفرخ وريش وجناحان يقال لها الجساسة لا يفوتها هارب ولا يدركها طالب سئل عليه السلام عن مخرجها فقال من أعظم المساجد حرمة على الله يعنى المسجد الحرام فإذا خرجت عليهم تُكَلِّمُهُمْ وتخاطب معهم بسوء فعالهم وحسن خصالهم فتفرق المؤمن من الكافر وتميزهم وحينئذ قد ظهر أَنَّ النَّاسَ المنهمكين في بحر الغفلة والنسيان لأي شيء كانُوا بِآياتِنا الواصلة إليهم من ألسنة رسلنا لا يُوقِنُونَ ولا يذعنون بل ينكرون ويكذبون عنادا ومكابرة
وَاذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ نَحْشُرُ ونسوق عند قيام الساعة مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً فرقة وجماعة هي صناديدهم ورؤساؤهم مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا التي قد جاء بها الرسل لهدايتهم وإرشادهم فَهُمْ في حين حشرهم وسوقهم يُوزَعُونَ اى يحبس اولهم لآخرهم حتى يتلاحقوا ويزدحموا وبالجملة يساقون أولئك المجرمون هكذا
حَتَّى إِذا جاؤُ المحشر وحضروا الموعد وعرضوا على الله صافين صاغرين جاثمين جالسين على ركبهم باركين قالَ قائل من قبل سرادقات العظمة والجلال معيّرا عليهم وموبخا أَكَذَّبْتُمْ أنتم ايها المسرفون المكذبون بِآياتِي في بادئ الرأى بلا تأمل وتدبر فيها وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً ولم تطرحوا نظركم وعقولكم عن فحص معانيها وضبط فحاويها حتى ظهر عندكم ولاح عليكم هل هي جدير بالرد والإنكار أم هي حقيق بالقبول والاعتبار فبادرتم الى تكذيبها دفعة بلا إمعان فيها أَمَّا ذا اى أم اى شيء شنيع وامر فظيع قد كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أنتم ايها الجاهلون المسرفون هذا. وبعد ما قد جرى من قبل الحق من انواع التوبيخ والتقريع ما جرى سكتوا حائرين خائبين منكوسين
وَحينئذ قد وَقَعَ الْقَوْلُ المعهود منا وتحقق الوعد المحقق وحل العذاب الموعود عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا اى بسبب ظلمهم السابق الواقع منهم في النشأة الاولى فَهُمْ حينئذ لا يَنْطِقُونَ ولا يعتذرون ولا يتضرعون لانكبابهم على النار منكوسين بحيث لا يسع لهم التنطق والتضرع أصلا
أَلَمْ يَرَوْا ولم ينظروا أولئك الحمقى العميان بنظر العبرة والاستبصار الى مصنوعاتنا المتبدلة المتغيرة المجبورة المقهورة تحت قدرتنا واختيارنا ليتحقق عندهم امر الساعة ولم يبادروا الى إنكارها حتى لا يلحقهم ما لحقهم أَنَّا من كمال قدرتنا ووفور حولنا وقوتنا كيف جَعَلْنَا اللَّيْلَ مظلما لِيَسْكُنُوا فِيهِ بلا دغدغة منهم الى الحركة والاشتغال وَكيف جعلنا النَّهارَ مُبْصِراً مضيئا يتحركون ويترددون لشغل معاشهم إِنَّ فِي ذلِكَ الاضائة والاظلام على التعاقب والتوالي لَآياتٍ دلائل قاطعات وشواهد ساطعات دالة على قدرة القدير القادر المقتدر على أمثال هذه المقدورات المتقنة والمصنوعات المحكمة الصادرة عن محض الحكمة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ويذعنون بوحدة ذات الله وكمالات أسمائه وأوصافه
وَاذكر يا أكمل الرسل تنبيها على التائهين في بيداء الغفلة يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ألا وهو البوق الموضوع المنفوخ فيه لحشر الأموات من اجداثها فَفَزِعَ
وَتَرَى ايها الرائي يومئذ الْجِبالَ الرواسي التي تَحْسَبُها وتظنها أنت جامِدَةً ثابتة مستقرة في مكانها بلا حركة وذهاب وَهِيَ في أنفسها يومئذ تَمُرُّ اى تتحرك وتذهب مَرَّ السَّحابِ كمروره وسرعة سيره إذ الأشياء العظيمة التي لا تحيط الأبصار بجميع جوانبها قلما يحس بحركتها وان اسرع فيها بل يظن انها ثابتة في مقره وهكذا حال الجبال وجميع الاظلال والاطلال المشهودة في عالم الحس والخيال كل طرفة وآن على التقضي والارتحال قبل قيام الساعة ولو تفطنت بمرورها ايها الفطن اللبيب لوجدتها في كل آن على التقضي والانصرام إذ الاعراض لا قرار لها ولا قيام والعكوس والأشباح لا مرار لها ولا نظام بل كل يوم وآن في شأن لا كشأن الذي سيمضى وكل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ومرور الجبال على هذا المنوال انما يكون صُنْعَ اللَّهِ اى من صنع الله القادر القوى الَّذِي أَتْقَنَ واحكم كُلَّ شَيْءٍ اتقانا بديعا ودبره تدبيرا انيقا عجيبا وأودع فيه من الحكم والمصالح ما لم يطلع عليها احد من عباده إذ لا يسع لهم الاطلاع على أفعاله سبحانه بل إِنَّهُ بذاته وبمقتضى أسمائه وصفاته خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ اى بعموم أفعالهم وأحوالهم وأقوالهم الظاهرة والباطنة يجازيهم عليها بمقتضى خبرته ان خيرا فخير وان شرا فشر لذلك
مَنْ جاءَ من المكلفين في دار الابتلاء بِالْحَسَنَةِ اى الخصلة الواحدة المقبولة عند الله وعند الناس فَلَهُ في دار الجزاء خَيْرٌ مِنْها إذ يعطى له بدلها سبعمائة من الحسنة وقد أبدل الخسيس بالشريف سيما بأضعافه والفاني بالباقي وَهُمْ ايضا مع وفور هذه المثوبات مِنْ فَزَعٍ هائل مهول للناس يَوْمَئِذٍ اى يوم ينفخ في الصور آمِنُونَ مطمئنون متمكنون لا يضطربون من هولها ولا يفزعون
وَمَنْ جاءَ في دار الاختبار بِالسَّيِّئَةِ المردودة عند الله وعند الناس من الأمور التي قد حرمها الشرع والعقل والمروءة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ اى كبوا على وجوههم في النار صاغرين ذليلين قيل لهم حينئذ زجرا عليهم وطرد الهم هَلْ تُجْزَوْنَ وما تجازون بهذا الهوان والصغار إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اى بسبب عملكم من السيئات الجالبة له في النشأة الاولى. ثم لما امر سبحانه الرسول ﷺ بتبليغ ما اوحى اليه من الوعد والوعيد والأوامر والنواهي المصلحة لأحوال الأنام في النشأتين وبيان مبدأهم ومعادهم وما يئول اليه أمرهم بعد ما انقرضوا من هذه النشأة التي هي دار الابتلاء والاختبار اما الى دركات النيران واما الى درجات الجنان. ثم بين لهم سبحانه طريق الوصول الى مقر التوحيد والتمكين في مقام التجريد والتفريد حيث امر له ﷺ ايضا بان قال لهم امحاضا للنصح كلاما ناشئا عن محض الحكمة خاليا عن وصمة الميل الى الهوى
إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ عبادة خاصة خالصة عن جميع الرياء والرعونات رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ أراد بها مكة
وَايضا قد أمرت أَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ المنزل على من عند ربي وداوم على تلاوته بين اظهر الأنام لأنه اوحى للهدى والرشد بالنسبة الى عموم العباد فَمَنِ اهْتَدى به بعد ما سمعه وتأمل معناه وامتثل بمقتضاه فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ونفع هدايته عائد إليها مفيد لها وَمَنْ ضَلَّ واعرض عنه بعد ما سمع واستكبر وكذب فَقُلْ بمقتضى أمرنا ووحينا إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ اى امرى منحصر بالإنذار والتخويف كسائر الرسل المنذرين فالهداية والضلال انما هو مفوض الى الكبير المتعال وبعد ما قد أمرني ربي بهذه المأمورات المذكورة قد أمرني ايضا بتجديد التحميد على تبليغ ما اوحى الى به بقوله
وَقُلِ يا أكمل الرسل بعد ما قد تلوت عليهم ما تلونا عليك الْحَمْدُ لِلَّهِ على ما علمني ربي من الحقائق والمعارف وشرفني بأنواع المكاشفات والمشاهدات ويسر على تبليغ ما اوحى الى وأمرني بتبليغه الى قاطبة الأنام وان اعرضوا عن قبول ما قد بلغت لهم من مصالح دينهم في النشأة الاولى والاخرى قل لهم على سبيل التهديد سَيُرِيكُمْ سبحانه في النشأة الاخرى عند قيام الساعة الموعودة صدق آياتِهِ الدالة على عظمة ذاته المثبتة لعموم مواعيده ووعيداته فَتَعْرِفُونَها حينئذ وتسمعونها سمع قبول ورضا ولا يجديكم قبولها حينئذ نفعا وفائدة إذ قد مضى وقت الإرشاد والامتثال بها والعمل بمقتضاها وَبعد ما قد بلغت لهم يا أكمل الرسل ما بلغت لا تبال باعراضهم وانكارهم إذ ما رَبُّكَ المطلع على عموم السرائر والخفايا بِغافِلٍ غائب ذاهل عَمَّا تَعْمَلُونَ من الرد والقبول سيما بعد ما سمعوا منك وفهموا معناه يجازيهم بمقتضى اطلاعه وعلمه وخبرته. ربنا اشرح لنا صدورنا بتأمل آياتك المنزلة من عندك ويسر لنا أمورنا بان نمتثل بمقتضاها بفضلك وجودك.
خاتمة سورة النمل
عليك ايها المحمدي المواظب على تلاوة كتاب الله الملازم للاسترشاد والاستهداء منه ان تلاحظ أولا منطوقات الألفاظ المفردة ثم مفهومات الكلام المركب منها ثم التأمل والتدبر في رعاية المطابقة بمقتضيات الأحوال المورد لأجلها ثم التعمق في الاساليب والأغراض المصوغ المسوق لها الكلام ثم سرائر الأوامر والنواهي الموردة فيه ورموز العبر والأمثال المشتمل عليها الكلام ثم الحكم والمصالح الباعثة لا يراد الكلام على وجهها ثم التفطن والتنبه من النظم المتلو المقرو على المعارف والحقائق والتجليات والمكاشفات والمشاهدات التي هي العلل الغائية لإنشائه والأسرار الباعثة لنظم كلماته وتأليف حروفه وعليك ايها الفطن اللبيب الخبير ان تدرك ان للقرآن ظهرا وبطنا ولبطنه بطنا الى سبعة ابطن على ما نطق به الحديث الصحيح صلوات الله على قائله وسلامه وإياك إياك ان تقنع منه بألفاظه ومنطوقاته التي تعرفها عوام العرب او تقنع عنه بمجرد الخواص والمزايا التي تعرفها ارباب اللسن منهم بل لك ان تلاحظ على الوجه المذكور الى ان يصير علمك المتعلق به لدنيا ذوقيا حاليا شهوديا وجدانيا شوقيا حضوريا بحيث تسمعه أنت من قلبك وتفهمه أنت منك بقلبك بلا وسائل الألفاظ والحروف الجارية على لسانك إذ الألفاظ والحروف انما هي من جملة القشور الكثيفة والحجب الغليظة