تفسير سورة السجدة

التفسير الشامل
تفسير سورة سورة السجدة من كتاب التفسير الشامل .
لمؤلفه أمير عبد العزيز . المتوفي سنة 2005 هـ
بيان إجمالي للسورة
هذه السورة مكية كلها. وهي ثلاثون آية، مبدوءة بالتأكيد على أن هذا الكتاب منزل من رب العالمين.
وتتضمن السورة أخبارا عن كثير من الحقائق التي تدل على أن الله حق، وأنه البارئ المقتدر، موجد السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام قبل أن يخلق عرشه الهائل المديد.
وفي السورة بيان مقتضب عن أحوال الخاسرين يوم القيامة وما يغشاهم يومئذ من الذل والخزي والعذاب.
وفي السورة تنديد ووعيد للفاسقين الذين خسروا أنفسهم يوم القيامة فكان عاقبتهم أنهم في النار. إلى غير ذلك من الدلائل والبينات وصور الوعيد والتذكير.

قوله تعالى :﴿ الم ( ١ ) تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ( ٢ ) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ﴾.
﴿ الم ﴾، في وموضع رفع، مبتدأ، وخبره ﴿ تَنزِيلُ ﴾. أو ﴿ تَنزِيلُ ﴾، خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو. و ﴿ الكتاب ﴾، يراد به القرآن العظيم، فهو منزل من رب العالمين. وهذه حقيقة قاطعة لا ريب فيها، يدل عليها أن هذا الكتاب معجز، وأنه لا يضاهيه في العالمين أيما كلام. وقد بينا سابقا كثيرا من وجوه الإعجاز في القرآن مما يدل دلالة جازمة لا ريب فيها على أن القرآن كلام الله وأنه يعلو على آفاق البشر.
﴿ الم ﴾، في وموضع رفع، مبتدأ، وخبره ﴿ تَنزِيلُ ﴾. أو ﴿ تَنزِيلُ ﴾، خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو. و ﴿ الكتاب ﴾، يراد به القرآن العظيم، فهو منزل من رب العالمين. وهذه حقيقة قاطعة لا ريب فيها، يدل عليها أن هذا الكتاب معجز، وأنه لا يضاهيه في العالمين أيما كلام. وقد بينا سابقا كثيرا من وجوه الإعجاز في القرآن مما يدل دلالة جازمة لا ريب فيها على أن القرآن كلام الله وأنه يعلو على آفاق البشر.
قوله :﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ﴾ ﴿ أم ﴾، المنقطعة، بمعنى بل والهمزة للاستفهام ؛ أي بل أيقولون افتراه. وذلك على سبيل الإنكار لزعمهم، والتعجيب من جحودهم وتكذيبهم، وهم موقنون في قرارة نفوسهم أن هذا القرآن فذ وأنه متميز في نظمه وأسلوبه ومستواه، وأنه ليس له في الكلام نظير، وقد تحداهم أن يأتوا ببعض من مثله فما استطاعوا.
قوله :﴿ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ﴾ أضرب عن إنكارهم وزعمهم الفاسد، إلى الإعلان الجازم بأنه الحق المنزل من عند الله، فهو ليس من لدن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، ولا في مقدور بشر أن يضاهيه أو يصطنع مثله.
قوله :﴿ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ ﴾ ﴿ نَّذِيرٍ ﴾، من الإنذار وهو التحذير والتخويف في الإبلاغ١.
يعني أنزل الله إليك هذا القرآن لتبلغ هؤلاء الذين لم يأتهم قبل ذلك أحد من الرسل، وهم أهل الفترة، فتحذرهم بأس الله وتخوفهم من عذابه الأليم.
قوله :﴿ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ أي يثوبون إلى ربهم فيعبدونه وحده، ويحجمون عن عبادة غيره من الأصنام ومختلف الأنداد. والمراد بقوله :﴿ لَعَلَّهُمْ ﴾ الترجي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فهو يرجو راغبا بشدة أن يهتدي قومه إلى سواء السبيل٢.
١ القاموس المحيط ص ٦١٩..
٢ تفسير النسفي ج ٣ ص ٢٨٧..
قوله تعالى :﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ( ٤ ) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ( ٥ ) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( ٦ ) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ( ٧ ) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ ( ٨ ) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ ﴾.
يخبر الله عن بالغ قدرته وعظيم سلطانه ومشيئته ؛ إذ خلق السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما من الكائنات والأجرام وما يربط ذلك كله من قوانين كونية في غاية الدقة والإحكام. وذلكم هو خلق الله الواسع الهائل المديد الذي تعجز الأذهان عن تصور مداه ؛ لفرط عظمته وسعته، وكثرة ما فيه من عجائب وأحداث وأشياء.
لقد خلق الله ذلك كله في ستة أيام ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ ﴿ اسْتَوَى ﴾ بمعنى قصد : وقيل : استولى ١ أي استولى على العرش بإحداثه.
قوله :﴿ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ ﴾ ينذر الله عباده ؛ إذ يحذرهم عصيانه ومخالفة أمره ؛ فهم إن كذبوا رسوله ونكلوا عن عبادة الله وحده وعن اتباع منهجه الحكيم فلن يجدوا من دونه ﴿ ولي ﴾ أي ناصرا ينصرهم من دونه ﴿ وَلا شَفِيعٍ ﴾ من الشفع، بمعنى الضم٢ أي ليس من أحد يضم جاهه ومكانته إليكم لينفعكم أو يدفع عنكم البلاء والشدة وأنتم مجموعون ليوم القيامة. وإنما الله وحده الخالق المدبر المقتدر، وهو الناصر والقاهر والمعز، وليس من أحد يشفع عنده يوم القيامة إلا بإذنه.
قوله :﴿ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ﴾ أفلا تتدبرون ما أنزل الله إليكم من الحجج والبينات فتتعظوا وتزدجروا عن الإشراك بالله واتخاذ الآلهة المصطنعة من دونه.
١ القاموس المحيط ص ١٦٧٣..
٢ القاموس المحيط ص ٩٤٨..
قوله :﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ﴾ أي يدبر أمر خلقه من السماء إلى الأرض. وقيل : الأمر ما أمر به من الأعمال فإنه ينزل ذلك مدبرا من السماء إلى الأرض، أو ينزل أمره من أعلى السماوات إلى أقصى الأرض ﴿ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ﴾ أي أن نزول الأمر من السماء إلى الأرض ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد مقداره ألف سنة مما يعده الناس، لأن ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام مما تعدون من أيام الدنيا.
قوله :﴿ ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ الإشارة عائدة إلى الموصوف بما ذكر وهو الخلق والتدبير للأمر. فالله الخالق المدبر يعلم ما يخفى على العباد وما ظهر لهم فشاهدوه أو عاينوه، وهو سبحانه الغالب في أمره، القوي الذي لا يقهر، وهو الرءوف بالعباد، اللطيف بهم بما شرعه لهم من ميسور الأحكام من غير تعسير ولا تضييق.
قوله :﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ﴾ يصف الله نفسه بأنه أحسنَ خَلق كل شيء بإتقانه وإحكامه وجعله على أفضل هيئة اقتضتها حكمته سبحانه.
قوله :﴿ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ﴾ بعد أن خلق الله السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما من خلائق وأحداث، وبثّ فيهما قوانين كونية مطردة ثابتة لا تفنى قبل يوم القيامة، ﴿ يوم تُبدّل الأرض غير الأرض والسماوات ﴾ بعد ذلك كله بدأ الله خلق الإنسان من طين ﴿ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ ﴾.
﴿ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ ﴾ المراد بنسله ذريته الذين ينسلون منه ؛ فقد خلقهم الله من ماء ممتهن مستهجن ﴿ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ﴾.
﴿ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ﴾ أي عقب خلقه من طين جعله سويا مستقيما على ما ينبغي من حسن الهيئة والصورة ثم نفخ فيه بعد ذلك من روحه تشريفا له، وتعريفا بقدره، وإشعارا بأنه مخلوق عجيب مميز ومفضل على كثير من الخلائق.
قوله :﴿ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ﴾ ﴿ وَالْأَفْئِدَةَ ﴾، بمعنى القلوب، فالله يمنّ على عباده بما أنعم به عليهم من عجيب النعم وهي كثيرة. ومن جملتها السمع ؛ فهو يعي بسمعه المواعظ والعبر، وينتفع بما يطرقه من كلمات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويلين قلبه وحسه وجوارحه إذا تدبر القرآن وهو يتلى على مسمعه بنظمه الخارق الباهر، وإيقاعه المثير المذهل.
وكذلك الأبصار ليرى بعينيه ما خلق الله من عجائب المشاهد ة المنظورة في الطبيعة من سهول ووهاد وبحار وأنهار، وأشجار وأزهار. كذلك الأفئدة، وهي العقول، قد جعلها الله للإنسان، ليتفكر بها ويميز بها الحق من الباطل، والصواب من الاعوجاج.
قوله :﴿ قليلا ما تشكرون ﴾ أي تشكرون شكرا قليلا، بدلا من دوام الشكر منكم لله على ما منّ به عليكم من جزيل النعم١.
١ تفسير النسفي ج ٣ ص ٢٨٧، وتفسير ابن كثير ج٣ ص ٤٥٧..
قوله تعالى :﴿ وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ( ١٠ ) قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ﴾.
يتساءل المشركون الضالون، على سبيل التكذيب والاستبعاد قائلين : أئذا متنا، وتمزقت أجسادنا، وصرنا ترابا، واختلطت أعضاؤنا وأجزاؤنا بتراب الأرض فغبنا فيها متفرقين ﴿ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ يعني أنبعث خلقا جديدا بعد أن تبعثرت أجسادنا وصرنا ترابا ؟ ! وهذه مقالة المشركين المرتابين يرددونها في كل زمان، سواء في الزمن الغابر، إذ الجهالة والضلالة والسفه يغشى عقول الجاحدين ويضلهم ضلالا. أو في الأزمنة المتعاقبة الأخرى ؛ إذ اللهو والغرور والانغماس في الشهوات والملذات والانشداد اللهوي الذي أفسد الفطرة، واستحوذ على القلوب والعقول جميعا. أولئك جميعا ينظرون إلى الساعة بمنظار الريبة والإهمال ليبوءوا أخيرا بالويل والخسران في الدارين، دار الدنيا ودار الآخرة.
قوله :﴿ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ﴾ أضرب عن ذكر كفرهم بالبعث إلى ما هو أفظع وأشد وهو كفرهم بكل أحداث العاقبة وليس البعث وحده.
قوله :﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ﴾ ﴿ يَتَوَفَّاكُم ﴾، من التوفي وهو استيفاء النفس وهي الروح ؛ أي يتولى ملك الموت قبض أرواحكم جميعا فلا يستبقي منكم أحدا. وملك الموت، واحد من أعاظم الملائكة. وهو هائل ومَخُوف، وقد سمي في بعض الآثار بعزرائيل. وقيل : له أعوان من الملائكة ينتزعون الأرواح من أجساد البشر إذا حضرهم الموت، حتى إذا بلغت الروح الحلقوم قام ملك الموت بتناولها فهو موكل بقبض أرواح بني آدم جميعا.
قوله :﴿ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ﴾.
أي تردون إلى الله يوم القيامة ؛ إذ تقومون من قبوركم منتشرين لتلاقوا الحساب والجزاء١.
١ تفسير النسفي ج ٣ ص ٢٨٧، وتفسير البيضاوي ص ٥٤٩..
قوله تعالى :﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ( ١٢ ) وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( ١٣ ) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾
المخاطب بقوله :﴿ وَلَوْ تَرَى ﴾ رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل أحد من الناس. ولو أداة امتناع لامتناع. والجواب محذوف وتقديره : لرأيت أمرا عظيما، وذلك حين ترى المجرمين ناكسي رؤوسهم ذليلين خزايا بين يدي ربهم، لفرط ما يجدون في أنفسهم من العار والحياء واليأس، وحينئذ يبادرون القول ﴿ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا ﴾ يقرون بإبصار ما وعدهم الله وما توعدهم به من العذاب، وبأنهم الآن يسمعون قوله ويطيعون أمره بعد أن كانوا من قبل صُمّا وعميانا ﴿ فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ﴾ أي أعِدْنا إلى الدنيا نجيب دعوتك ونطع أمرك ونصدق الرسل، فقد صدقنا بالبعث والحساب وأيقنا أن وعدك حق وأن ما جاء به المرسلون حق وصدق.
قوله :﴿ وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ﴾ أي لو شاء الله لأعطى كل نفس ما تهتدي به إلى الإيمان وصالح الأعمال بالتوفيق لذلك، ولكنهم لم يُعطوا ذلك لما يعلمه الله منهم أنهم جاحدون ولا يختارون غير الباطل ولا يؤثرون إلا الكفر على الحق والإيمان. ولذلك قال :﴿ وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ أي ثبت الحكم أو القضاء من الله في قديم علمه، أن يملأ جهنم من الجنة والناس ؛ فكلا الصنفين من الجنة والناس يملأ النار والعياذ بالله. وهو سبحانه المستعان المستجار. نسأله النجاة والسلامة في هذه العاجلة ويوم يقوم الأشهاد لرب العالمين.
قوله :﴿ فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا ﴾ يقال لهم ذلك على سبيل التوبيخ والتقريع زيادة في التنكيل. أي ذوقوا العذاب في النار بسبب غفلتكم عن يوم الوعيد ونسيانكم لقاء هذا اليوم الموعود ﴿ إِنَّا نَسِينَاكُمْ ﴾ أي قابلناكم بالنسيان والإهمال لتبوءوا بالعذاب الأليم فلا يصلنكم بعد ذلك منا رحمة أو تخفيف من العذاب.
قوله :﴿ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ كرر الأمر بذوق العذاب زيادة لهم في التنكيل والإيلام ؛ إذ يصلون النار الحامية خالدين لا يبرحون وذلك بسبب تكذيبهم وجحودهم وبما كانوا يعملون من الخطايا والذنوب١
١ تفسير النسفي ج٣ ص ٢٨٩، وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٥٨..
قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ( ١٥ ) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ( ١٦ ) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
ذلك إطراء من الله لعباده الصالحين، أولي الطبائع السليمة والفِطَر المستقيمة الذين يصدقون بآيات ربهم، وإذا وُعظوا بها لانت قلوبهم لذكر الله وآياته، وأجهشوا في الخشوع والانفعال، وبادروا الخرور ساجدين لله، ونزهوه سبحانه عما لا يليق به من النقائص ومعيب الصفات، وأثنوا عليه حامدين له ﴿ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ أي عن الإيمان بالله وعن طاعته والتزام شرعه وأوامره، بل إنهم يستجيبون لله طائعين مخبتين، لا يثنون ولا يترددون.
قوله :﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ ﴾ التجافي، عدم لزوم المكان١ وذلك وصف من الله للمؤمنين العابدين فإنهم تترفع جنوبهم وتتنحى عن الفرش ومضاجع النوم حيث الدعة والاسترخاء والدفء، مبادرين القيام في همة من أجل الصلاة. فهم بذلك يؤثرون الصلاة والعبادة والدعاء على الفراش والركون للنوم والراحة. والمراد بذلك قيام الليل. وقيل الصلاة ما بين العشاءين، أي المغرب والعشاء الآخرة.
قوله :﴿ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾ أي يعبدون الله في الليل قياما ودعاء وتسبيحا خوفا من عقاب الله الوبيل وطمعا منهم في جزيل ثوابه ورضوانه.
قوله :﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ وهذه صفة أخرى يصف الله بها عباده المؤمنين الصالحين وهي إنفاقهم مما رزقهم الله من المال في وجوه البر والخير والطاعة. وفي هذا الصدد روى الإمام أحمد عن معاذ بن جبل قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفره فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير، فقلت : يا نبي الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار. قال : " لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت " ثم قال : " ألا أدلك على أبواب الخير ؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجل في جوف الليل " ثم قرأ ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ ﴾ حتى بلغ ﴿ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ ثم قال : " ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه ؟ " فقلت : بلى يا رسول الله فقال : " رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله " ثم قال : " ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ " فقلت : بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه ثم قال : " كف عليك هذا " فقلت : يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال : " ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكبُّ الناسَ في النار على وجوههم – أو قال على مناخرهم – إلا حصائد ألسنتهم ؟ ! " قال الترمذي عنه : حسن صحيح.
١ القاموس المحيط ص ١٦٤٠..
قوله :﴿ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ﴾ أي لا يعلم أحد من الخلْق، من نبي مرسل أو ملك مقرّب ما أعده الله لهؤلاء المؤمنين الطائعين مما تقرّ به عيونهم من كريم العطاء وعظيم الجزاء ﴿ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ ﴿ جَزَاءً ﴾، منصوب على المصدر. أي جوزوا جزاء يعني جزاهم ربهم أحسن الجزاء في الآخرة بسبب ما قدموه في الدنيا من صالح الأعمال والطاعات والقربات. لقد أعد الله لهم من عظيم الجزاء ما لا يتصوره الذهن والخيال، ولم تتوقعه الظنون والآمال. وفي هذا روى الإمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تعالى قال : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر " ١.
١ تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٥٩-٤٦٠، وتفسير النسفي ج ٣ ص ٢٨٩..
قوله تعالى :﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَ يَسْتَوُونَ ( ١٨ ) أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ١٩ ) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ( ٢٠ ) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( ٢١ ) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ( ٢٢ ) ﴾.
ذلك إخبار من الله، يصف فيه عدله المطلق في قضائه بين العباد ؛ فإنه سبحانه لا يساوي في حكمه يوم القيامة مَن آمن به وصدق بآياته وأيقن بأحقيّة ما أنزله من منهج حكيم قويم، بمن كان في دنياه فاسقا أي خارجا عن طاعته عاصيا لأمره ؛ مكذبا بما أنزل على رسوله. وهو قوله :﴿ لاَ يَسْتَوُونَ ﴾ لا يستوي المؤمن والفاسق في الجزاء والشرف والمصير.
وقد قيل : إن هذه الآيات نزلت في الصحابي الأجلِّ، صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارث الشرف والعلم والتُّقى، علي بن أبي طالب، وفي عدو الله، الشقي الخصيم، والعاتي اللئيم، عقبة بن أبي معيط. لا جرم أنها لا يستويان. فأولهما مؤمن صدوق كريم، وثانيهما خبيث وعتلٌّ وأثيم.
على أن الآية تنسحب في معناها ومقتضاها على الصنفين من الناس في كل زمان، وهما صنفان متباينان مفترقان ؛ فصنف مؤمن موقن بحقيقة ما أنزل الله على النبيين، والآخر فاسق عن أمر الله، منقلب على وجهه انقلاب التاعسين الخاسرين الهلكى.
قوله :﴿ أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى ﴾ أعدَّ الله للمؤمنين الطائعين خير المنازل في الجنات يوم القيامة. وهي مأواهم الأبدي الدائم الذي لا يظعنون عنه ولا يرتضون بغيره بديلا عنه ﴿ نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ النُّزُل، العطاء، أو ما يُعد للضيف من حسن الضيافة وبالغ التكريم. وذلك بسبب ما علموه في حياتهم الدنيا من الطاعات وفعل الصالحات.
قوله :﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ﴾ أي الذين خرجوا عن طاعة الله وعصوا أمره ولجوا في جحودهم وعصيانهم، فأولئك صائرون إلى مأواهم وهو مكان إقامتهم المستديمة في النار.
قوله :﴿ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا ﴾ يجهد المجرمون وهم في النار يحترقون – بالغ الجهد ليخرجوا من النار لشدة ما يجدونه من فظاعة العذاب والتحريق حيث النار الحامية المتسعِّرة التي تحرق فيهم الأبدان والجسوم جميعا.
لكنهم يعادون إلى النار مزجورين مدفوعين بغلظة. وهو قوله :﴿ أُعِيدُوا فِيهَا ﴾ ؛ إذ تضربهم الملائكة بالمقامع لتعيدهم إلى النار مكبوتين مقهورين ﴿ وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴾ تقول لهم خزنة جهنم هذا الكلام على سبيل التقريع والتوبيخ، وزيادة لهم في التنكيل والإيلام بسبب تكذبيهم بهذا اليوم الموعود وما فيه من شديد الحساب والجزاء.
قوله :﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ العذاب الأدنى يراد به مصائب الدنيا، وأسقامها، وآفاتها، وما يحل بأهلها من وجوه البلاء على اختلاف أشكاله مما يبتلي الله به عباده. وهو قول ابن عباس. وقيل : المراد به عذاب القبر. والمعنى الأول أظهر. أما العذاب الأكبر فهو الخلود في النار يوم القيامة حيث التحريق والتنكيل والويل الدائم الذي لا يزول. وقوله :﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ أي لعل المعذبين بالعذاب الأدنى من الأسقام والهموم ومختلف الآلام في هذه الدنيا ﴿ يَرْجِعُونَ ﴾ أي يتوبون إلى ربهم فيبادرون التصديق والطاعة ومجانبة الشرك والباطل.
قوله :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ﴾ أي ليس أحد أشد تلبسا بالظلم ممن وُعظ بآيات القرآن الكريم وما فيه من البينات والدلالات الواضحات التي تشهد بأن هذا الكتاب حق، وأنه منزل من عند الله، وأن فيه خير الدنيا والآخرة ﴿ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ﴾ بالرغم مما في آيات الله من وضوح البينات، ومن قاطع الحجج والبراهين، فقد أعرض هذا الخاسر عن آيات الله فلم يؤمن.
قوله :﴿ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ﴾ الله منتقم من هؤلاء المجرمين المعرضين عن دين الله، الذين لم يتعظوا، ولم يؤثر فيهم التذكير بل لجوا مجرمين معاندين١.
١ تفسير النسفي ج ٣ ص ٢٩٠. وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٦٢
.

قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ( ٢٣ ) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ ( ٢٤ ) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾
أخبر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أنه أتى نبيه وكليمه موسى عليه السلام ﴿ الْكِتَابَ ﴾ وهو التوراة، ليكون ذلك هداية لبني إسرائيل. ثم قال سبحانه مخاطبا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم :﴿ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ ﴾ نهاه عن الشك في لقاء موسى التوراة، أو من لقائك موسى ليلة المعراج ؛ فقد روي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أرأيت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجلا آدم طوالا جعدا كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى رجلا مربوع الخلْق إلى الحمرة والبياض سبط الرأس، ورأيت مالكا خازن النار والدجال " وهي آيات من آيات الله أراهن الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل : المراد لقاؤه يوم القيامة.
قوله :﴿ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ الهاء في ﴿ وَجَعَلْنَاهُ ﴾ راجع إلى ﴿ الكتاب ﴾ وهي التوراة، فقد أنزلها الله على كليمه موسى هداية لقومه بني إسرائيل. وذلك بما تضمنته من آيات وبصائر لاستنقاذهم من الضلال والتخبط إلى نور الهداية والاستقامة.
قوله :﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ أي لما صبر المؤمنون من بني إسرائيل على أوامر الله والابتعاد عن زواجره ونواهيه، وصدّقوا رسله، واتبعوهم فيما جاءوهم به من عند ربهم، وكانوا موقنين بآيات الله على أنها حق وصدق، جعل الله منهم أئمة في العلم والتقوى، يهدون الناس إلى الحق بأمر الله ويدعونهم إلى ما تضمنته التوراة من البينات والشرائع والحكمة فيدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر. لكنهم لما بدلوا وزيفوا ما أنزل إلهم وحرفوه تحريفا، سلبهم الله مقام الإمامة للناس، وحيل بينهم وبين صلوحهم أن يُقتدى بهم ؛ فهم أجدر أن لا يُقتدى بهم بعد التحريف وأن لا يكونوا موضع ثقة وائتمان في إمامة ولا ريادة ولا قيادة لأمة من الأمم. وذلك لفرط ما تلبسوا به من تحريف وتزييف لآيات الله، وتلاعب في كتابهم التوراة.
قوله :﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ هو ضمير فصل، لأن ( يفصل ) فعل مضارع١ والمعنى : أن الله يقضي بين العباد يوم القيامة فيما اختلفوا فيه من الاعتقادات والأفعال في دنياهم، فيميز الحق من الباطل، وحينئذ يجازي كلاّ منهم بما يستحق٢.
١ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٢٦١.
٢ تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٤٦٣، وتفسير الطبري ج ٢١ ص ٧٠-٧١.
قوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ ( ٢٦ ) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ ﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري، والواو للعطف. ﴿ يَهْدِ ﴾، بالياء، والفاعل مقدر وهو المصدر. وتقديره : أو لم يهدِ الهُدى لهم. وقيل : الفاعل هو الله تعالى. والتقدير : أو لم يهدِ اللهُ لهم١.
والمعنى : أو لم نبين لهؤلاء المكذبين كثرة إهلاكنا الذين من قبلهم بسبب كفرهم وظلمهم، إذ دمّر الله عليهم ولم يبق منهم باقية.
قوله :﴿ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ﴾ أي يمشي هؤلاء المشركون المكذبون في مساكن السابقين من الأمم التي جحدت دين الحق وكذبت رسل الله، فهم يرون ما حل بهم من الإبادة والإفناء، لكنهم لم يتعظوا ولم يعتبروا.
قوله :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ ﴾ الإشارة عائدة إلى ما حل بالأمم الغابرة من هلاك بسبب كفرهم وتكذيبهم. والمعنى : أن فيما حاق بالسابقين من دمار وإبادة لمواعظ وعبرا يزدجر بها المعتبرون المتدبرون.
قوله :﴿ أَفَلا يَسْمَعُونَ ﴾ استفهام يراد به التوبيخ لهؤلاء المكذبين يعني أفلا يسمعون آيات الله وعظاته، فينتهوا عن ضلالهم وباطلهم ويبادروا إلى التصديق والتيقن ؟
١ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٢٦١
.

قوله :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ ﴾ ﴿ الأرْضِ الْجُرُزِ ﴾ التي لا نبات فيها. أو المفازة الجدبة١. والمعنى : أو لم ير هؤلاء الضالون المكذبون الذي ينكرون البعث والمعاد بعد الممات أن الله يحيي الأرض بعد أن كانت يابسة ميتة، إذ يسوق الماء بقدرته وإرادته إلى الأرض ﴿ الْجُرُزِ ﴾ وهي المجدبة القفر التي لا نبات فيها ﴿ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ ﴾ أي نخرج بسبب الماء الذي نسوقه إلى هذه الأرض اليابسة، زرعا تأكل منه المواشي ويتغذون هم مما تنبته الأرض من الثمار والفاكهة.
قوله :﴿ أَفَلا يُبْصِرُونَ ﴾ أفلا يرون بذلك أن الله القادر على إحياء الأرض بعد موتها لقادر على إحياء الموتى، وبعثهم من قبورهم، وأن ذلك ليس على الله بمتعذر ولا عزيز٢.
١ مختار الصحاح ص ٩٩، وأساس البلاغة ص ٨٩..
٢ تفسير الطبري ج ٢١ ص ٧٣، وتفسير القرطبي ج ١٤ ص ١١٠.
قوله تعالى :﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( ٢٨ ) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ ( ٢٩ ) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ ﴾ ﴿ هذا ﴾، في موضع رفع على أنه مبتدأ، و ﴿ الفتح ﴾ صفته.
و ﴿ متى ﴾، خبره١ والمراد بالفتح القضاء، وذلك يوم القيامة. فقد ذكر أن المؤمنين قالوا : للمشركين : سيحكم الله بيننا وبينكم يوم القيامة فيجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته فقال لهم المشركون ساخرين مستهزئين :﴿ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ أي متى هذا القضاء أو الحكم الذي تزعمون أنه آت إن كنتم تصدُقون فيما تقولون. وقيل : المراد بالفتح الغلبة والنصر للمسلمين على الكافرين في الدنيا فقد استعجلهم الكافرون على سبيل السخرية والصواب القول الأول وقد دل عليه قوله سبحانه :﴿ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ ﴾
١ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٢٦٢..
﴿ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ ﴾
المراد بالفتح القضاء، وذلك يوم القيامة. فقد ذكر أن المؤمنين قالوا : للمشركين : سيحكم الله بيننا وبينكم يوم القيامة فيجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته فقال لهم المشركون ساخرين مستهزئين :﴿ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ أي متى هذا القضاء أو الحكم الذي تزعمون أنه آت إن كنتم تصدُقون فيما تقولون. وقيل : المراد بالفتح الغلبة والنصر للمسلمين على الكافرين في الدنيا فقد استعجلهم الكافرون على سبيل السخرية والصواب القول الأول وقد دل عليه قوله سبحانه :﴿ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ ﴾ يعني إذا قامت الساعة وسيق المكذبون للحساب لا ينفعهم حينئذ إيمان ولا توبة، إذ لا قيمة للتوبة والندم يوم القيامة.
قوله :﴿ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ ﴾ أي لا يؤَخَّرون أو يُمهلون لكي يتوبوا وإنما يساقون للحساب ليلاقوا نصيبهم من سوء الجزاء.
قوله :﴿ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ ﴾ أي انتظر يا محمد ما الله صانع بهؤلاء المشركين المكذبين، وهم منتظرون ما نعدهم من العذاب أو مجيء الساعة١ وحينئذ يستيئس الظالمون المجرمون وقد عاينوا العذاب وأهوال الساعة، ووجدوا أنهم ما تلبَّثوا في الدنيا إلا قليلا.
١ تفسير الطبري ج ٢١ ص ٧٣، وتفسير القرطبي ج ١٤ ص ١١١-١١٢.
.

Icon