تفسير سورة سبأ

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
تفسير سورة سورة سبأ من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد .
لمؤلفه ابن عجيبة . المتوفي سنة 1224 هـ
سورة سبأ
مكية، إلا قوله :﴿ ويرى الذين أوتوا العلم. . . ﴾ الآية، فاختلف فيه، مكي أو مدني ؟ وهي خمس وخمسون آية. ومناسبتها لما قبلها : قوله :﴿ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض ﴾ [ الأحزاب : ٧٢ ] مع قوله :﴿ الحمد لله الذي له ما في السماوات والأرض ﴾ وكأنه يشير إلى أنه تعالى غني عمن حمل الأمانة، ومن لم يحملها، فمن حملها فلنفسه، ومن تركها فعليها، وإن الله لغني عن العالمين.

ولذلك افتتح بالثناء عليه، فقال :
﴿ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ * ﴿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ الحمدُ لله ﴾ إن أُجري على المعهود فهو بما حمد به نفسه محمود، وإن أجرى على الاستغراق فله لكل المحامد الاستحقاق. واللام في ( لله ) للتمليك ؛ لأنه خالقُ ناطقِ الحمد أصلاً، فكان بملكه مالك للحمد، وللتحميد أهلاً، ﴿ الذي له ما في السماوات وما في الأرض ﴾ خلقاً، وملكاً، وقهراً، فكان حقيقياً بأن يُحمد سرًّا وجهراً، ﴿ وله الحمدُ في الآخرة ﴾ كما له الحمد في الدنيا ؛ إذ النعم في الدارين هو مُوليها والمُنعم بها. غير أن الحمد هنا واجب ؛ لأن الدنيا دار التكليف. وثمَّ لا ؛ لأن الدار دار التعريف، لا دار التكليف. وإنما يحمد أهل الجنة سروراً بالنعيم، وتلذذاً بما نالوا من الفوز العظيم، كقوله :﴿ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ. . . ﴾ [ الزمر : ٧٤ ] و﴿ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ. . . ﴾ [ فاطر : ٣٤ ] فأشار إلى استحقاقه الحمد في الدنيا بقوله :﴿ الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ﴾ وأشار إلى استحقاقه في الآخرة بقوله :﴿ وله الحمدُ في الآخرة وهو الحكيمُ ﴾ بتدبير ما في السماوات والأرض، ﴿ الخبيرُ ﴾ بضمير مَن يحمده ليوم الجزاء والعَرْض.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : المستحق للحمد هو الذي بيده ما في سماوات الأرواح ؛ من الكشوفات وأنواع الترقيات، إلى ما لا نهاية له، من عظمة الذات، وبيده ما في أرض النفوس ؛ من القيام بالطاعات وآداب العبودية وتحسين الحالات، وما يلحق ذلك من المجاهدات والمكابدات، وبيده ما يتحفهم به في الآخرة، من التعريفات الجمالية، والفتوحات الربانية، والترقي في الكشوفات السرمدية. فله الحمد في هذه العوالم الثلاثة ؛ إذ كلها بيده، يخص بها مَن يشاء من عباده، مع غناه عن الكل، وإحاطته بالكل، ورحمته للكل. يعلم ما يلج في أرض النفوس من الهواجس والخواطر، وما يعرج منها من الصغائر والكبائر، أو من الطاعة والإحسان من ذوي البصائر، وما ينزل من سماء الملكوت من العلوم والأسرار، وما يعرج فيها من الطاعات والأذكار، وهو الرحيم بالتقريب والإقبال، الغفور لمساوئ الضمائر والأفعال.
﴿ يعلمُ ما يَلِجُ ﴾ ما يدخل ﴿ في الأرض ﴾ من الأموات والدفائن، ﴿ وما يخرج منها ﴾ من النبات وجواهر المعادن، ﴿ وما ينزلُ من السماء ﴾ من الأمطار وأنواع البركات، ﴿ وما يعرجُ ﴾ يصعد ﴿ فيها ﴾ من الملائكة والدعوات، ﴿ وهو الرحيمُ ﴾ بإنزال ما يحتاجون إليه، ﴿ الغفورُ ﴾ بما يجترئون عليه. قاله النسفي.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : المستحق للحمد هو الذي بيده ما في سماوات الأرواح ؛ من الكشوفات وأنواع الترقيات، إلى ما لا نهاية له، من عظمة الذات، وبيده ما في أرض النفوس ؛ من القيام بالطاعات وآداب العبودية وتحسين الحالات، وما يلحق ذلك من المجاهدات والمكابدات، وبيده ما يتحفهم به في الآخرة، من التعريفات الجمالية، والفتوحات الربانية، والترقي في الكشوفات السرمدية. فله الحمد في هذه العوالم الثلاثة ؛ إذ كلها بيده، يخص بها مَن يشاء من عباده، مع غناه عن الكل، وإحاطته بالكل، ورحمته للكل. يعلم ما يلج في أرض النفوس من الهواجس والخواطر، وما يعرج منها من الصغائر والكبائر، أو من الطاعة والإحسان من ذوي البصائر، وما ينزل من سماء الملكوت من العلوم والأسرار، وما يعرج فيها من الطاعات والأذكار، وهو الرحيم بالتقريب والإقبال، الغفور لمساوئ الضمائر والأفعال.
ثم رد على من أنكر الآخرة، التي تقدم ذكرها، فقال :
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ * ﴿ لِّيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ * ﴿ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِيا آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ ﴾.
قلت :﴿ ولا أصغر ﴾ و﴿ لا أكبر ﴾ : عطف على ﴿ مِثْقال ﴾، أو : مبتدأ، وخبره : ما بعد الاستثناء. و﴿ ليجزي ﴾ : متعلق بقوله :﴿ لَتَأتينكم ﴾، وتجويز ابن جزي تعلقه بيعزب بعيد ؛ لأن الإحاطة بعلمه تعالى ذاتية، والذاتي لا يُعلل، وإنما تعلل الأفعال ؛ لجوازها، ويصح تعلقه بما تعلق به ﴿ في كتاب ﴾ أي : أحصى في كتاب مبين للجزاء.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ وقال الذين كفروا ﴾ أي : منكرو البعث. والناطق بهذه المقالة أبو سفيان بن حرب، ووافق عليها غيره، وقد أسلم هو. قالوا :﴿ لا تأتينَا الساعةُ ﴾ وإنما هي أرحام تدفع، وأرض تبلع. قبَّح الله رأيهم، وأخلى الأرض منهم. ﴿ قلْ ﴾ لهم :﴿ بلى ﴾ أبطل مقالتهم الفاسدة ببلى، التي للإضراب، وأوجب ما بعدها، أي : ليس الأمر إلا إتيانها، ثم أعيد إيجابه، مؤكداً بما هو الغاية في التوكيد والتشديد، وهو التوكيد باليمين بالله عزّ وجل، فقال :﴿ وربي لَتأتينَّكم ﴾.
ولمَّا كان قيام الساعة من الغيوب المستقبلية الحقية أتبعه بقوله :﴿ عالم الغيبِ ﴾، وقرأ حمزة والكسائي :" علاّم الغيب "، بالمبالغة، يعلم ما غاب في عالم ملكه وملكوته، ﴿ لا يَعْزُبُ عنه ﴾ : لا يغيب عن علمه ﴿ مثقالُ ذرة ﴾ : مقدار أصغر نملة ﴿ في السماواتِ ولا في الأرض، ولا أصغرُ من ذلك ﴾ أي : من مثقال ذرة ﴿ ولا أكبرُ إِلا في كتاب مبين ﴾ في اللوح المحفوظ، أو في علمه القديم، وكنَّى عنه بالكتاب ؛ لأن الكتاب يحصي ما فيه.
قال الغزالي، في عقيدة أهل السنة : وأنه تعالى عالم بجميع المعلومات، محيط بما يجري من تخوم الأرض إلى أعلى السماوات، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، يعلم دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، ويُدرك حركة الذر في جو السماء، ويعلم السر وأخفى، ويطّلع على هواجس الضمائر، وحركات الخواطر، وخفيات السرائر، بعلم قديم أزلي، لم يزل موصوفاً به في أزل الأزل. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : بقدر ما يربو الإيمان في القلب يعظم الإيمان بالبعث وما بعده، حتى يكون نُصب عين المؤمن، لا يغيب عنه ساعة، فإذا دخل مقام العيان، استغرق في شهود الذات، فغاب عن الدارين، ولم يبقَ له إلا وجود واحد، يتلون بهيئة الدنيا والآخرة. وفي الحقيقة ما ثَمَّ إلا واحد أحد، الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته. كان الله ولا شيء معه، وهو الآن كما كان، ويكون في المآل كما هو الآن. والله تعالى أعلم.
قلت :﴿ ولا أصغر ﴾ و﴿ لا أكبر ﴾ : عطف على ﴿ مِثْقال ﴾، أو : مبتدأ، وخبره : ما بعد الاستثناء. و﴿ ليجزي ﴾ : متعلق بقوله :﴿ لَتَأتينكم ﴾، وتجويز ابن جزي تعلقه بيعزب بعيد ؛ لأن الإحاطة بعلمه تعالى ذاتية، والذاتي لا يُعلل، وإنما تعلل الأفعال ؛ لجوازها، ويصح تعلقه بما تعلق به ﴿ في كتاب ﴾ أي : أحصى في كتاب مبين للجزاء.
ثم علل إتيان الساعة بقوله :﴿ ليجزيَ الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أولئك لهم مغفرةٌ ﴾ لِما اقترفوا من العصيان، وما قصروا فيه من مدارج الإيمان، ﴿ ورِزق كريم ﴾ لِمَا صبروا عليه من مناهج الإحسان.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : بقدر ما يربو الإيمان في القلب يعظم الإيمان بالبعث وما بعده، حتى يكون نُصب عين المؤمن، لا يغيب عنه ساعة، فإذا دخل مقام العيان، استغرق في شهود الذات، فغاب عن الدارين، ولم يبقَ له إلا وجود واحد، يتلون بهيئة الدنيا والآخرة. وفي الحقيقة ما ثَمَّ إلا واحد أحد، الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته. كان الله ولا شيء معه، وهو الآن كما كان، ويكون في المآل كما هو الآن. والله تعالى أعلم.
﴿ والذين سَعَوْا في آياتنا مُعَاجِزين ﴾ بالإبطال وتعويق الناس عنها، ﴿ أولئك لهم عذابٌ من رِجْزٍ أليم ﴾ أي : لهم عذاب من أقبح العذاب مؤلم. ورفع " أليم " مكي وحفص ويعقوب، نعت لعذاب، وغيرهم بالجر نعت لرجز. قال قتادة : الرجز : سُوء العذاب.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : بقدر ما يربو الإيمان في القلب يعظم الإيمان بالبعث وما بعده، حتى يكون نُصب عين المؤمن، لا يغيب عنه ساعة، فإذا دخل مقام العيان، استغرق في شهود الذات، فغاب عن الدارين، ولم يبقَ له إلا وجود واحد، يتلون بهيئة الدنيا والآخرة. وفي الحقيقة ما ثَمَّ إلا واحد أحد، الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته. كان الله ولا شيء معه، وهو الآن كما كان، ويكون في المآل كما هو الآن. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر ضدهم، فقال :
﴿ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾.
قلت :﴿ ويرى ﴾ : مرفوع، استئناف، أو منصوب، عطف على ﴿ ليجزي ﴾. و﴿ الحق ﴾ : مفعول ثان ليرى العلمية. والمفعول الأول :﴿ الذي أُنزل ﴾ وهو ضمير فصل.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ ويَرَى الذين أُوتوا العلم ﴾ من الصحابة، وممن شايعهم من علماء الأمة ومن ضاهاهم، أو علماء أهل الكتاب الذين أسلموا، كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، أي : يعلمون ﴿ الذي أُنزل إِليك من ربك ﴾ يعني القرآن ﴿ هو الحق ﴾ لا يرتابون في حقيّته ؛ لِما نطوى عليه من الإعجاز، وبموافقته للكتب السالفة، على يد مَن تحققت أميته. أو : ليجزي المؤمنين، وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق، علماً لا يزاد عليه في الإيقان، لكونه محل العيان، كما علموه في الدنيا من طريق البرهان. ﴿ ويهدي إِلى صراط العزيز الحميد ﴾ وهو دينُ الله، من التوحيد، وما يتبعه من الاستقامة.
الإشارة : أول ما يرتفع الحجاب عن العبد بينه وبين كلام سيده، فيسمع كلامه منه، لكن من وراء رداء الكبرياء، وهو رداء الحس والوهم، فيجد حلاوة الكلام ويتمتع بتلاوته، فيلزمه الخشوع والبكاء والرِقة عند تلاوته. قال جعفر الصادق :" لقد تجلّى الحق تعالى في كلامه ولكن لا تشعرون ". ثم يرتفع الحجاب بينه وبين الحق تعالى، فيسمع كلامه بلا واسطة ولا حجاب، فتغيب حلاوة الكلام في حلاوة شهود المتكلم، فينقلب البكاء سروراً، والقبض بسطاً. وعن هذا المعنى عبّر الصدِّيق عند رؤيته قوماً يبكون عند التلاوة، فقال :" كذلك كنا ولكن قست القلوب " فعبّر عن حال التمكُّن والتصلُّب بالقسوة ؛ لأن القلب قبل تمكُّن صاحبه يكون سريعَ التأثُّر للواردات، فإذا تمكّن واشتد لم يتأثر بشيء. وصراط العزيز الحميد هو طريق السلوك إلى حضرة ملك الملوك. وبالله التوفيق.
ثم ذكر مقالة أخرى للكفرة، فقال :
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ * ﴿ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلاَلِ الْبَعِيدِ ﴾ * ﴿ أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ﴾
قلت :﴿ إذا ﴾ : العامل فيه محذوف، دلّ عليه :﴿ لفي خلق جديد ﴾. و﴿ مُمَزَّقٍ ﴾ : مصدر، أي : تجددون إذا مزقتم كل تمزيق، و﴿ جديد ﴾ : فعيل بمعنى فاعل، عند البصريين. تقول : جَدَّ الثوب فهو جديد، أو بمعنى مفعول، كقتيل، من جد النساج الثوب : قطعه. ولا يجوز فتح ﴿ إنكم ﴾ للاّم في خبره.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ وقال الذين كفروا ﴾ من منكري البعث :﴿ هل نَدلُّكم على رجلٍ ﴾ يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم، وإنما نكّروه مع أنه كان مشهوراً عَلَماً في قريش، وكان إنباؤه بالبعث شائعاً عندهم تجاهلاً به وبأمره. وباب التجاهل في البلاغة معلوم، دال على سِحْرها، ﴿ يُنَبئُكم إِذا مُزِّقْتمْ كلَّ مُمزَّقٍ إِنكم لفي خلقٍ جديدٍ ﴾ أي : يحدثكم بأعجوبة من الأعاجيب، إنكم تُبعثون وتنشئون خلقاً جديداً، بعد أن تكونوا رفاتاً وتراباً، وتمزق أجسادكم بالبلى، كل تمزيق، وتفرقون كل تفريق.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يقول شيوخ التربية : بقدر ما يمزق الظاهر بالتخريب والإهمال ؛ يحيى الباطن ويعمر بنور الله، وبقدر ما يعمر الظاهر يخرب الباطن، فيقع الإنكار عليهم، ويقول الجهلة : هل ندلكم على رجل يُنبئكم إذا مُزقتم في الظاهر كل مُمَزقٍ، يُجدد الإيمان والإحسان في بواطنكم، أَفْترى على الله كذباً أم به جِنة ؟ بل الذين لا يؤمنون بالنشأة الآخرة ـ وهي حياة الروح بمعرفة الله ـ في عذاب الحجاب والضلال، عن معرفة العيان بعيد، ما داموا على ذلك الاعتقاد، ثم يهددون بما يُهدد به منكرو البعث. والله تعالى أعلم.
و﴿ أَفْترى ﴾ : الهمزة للاستفهام، وحذفت همزة الوصل للاستغناء عنها.
﴿ أفْترَى على الله كذباً ﴾ أي : أهو مفترٍ على الله كذباً فيما يُنسب إليه من ذلك ؟ ﴿ أم به جِنَّة ﴾ جنون توهمه ذلك، وتلقيه على لسانه. واستدلت المعتزلة بالآية على أن بين الصدق والكذب واسطة، وهو كل خبر لا يكون عن بصيرة بالمخبر عنه، وأجيب : بأن الافتراء أخص من الكذب، لاختصاص الافتراء بالتعمُّد، والكذب أعم. وكأنه قيل : أتعمّد الكذب أو لم يتعمّد بل به جنون.
قال تعالى :﴿ بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلالِ البعيدِ ﴾ أي : ليس محمد من الافتراء والجنون في شيء، وهو منزّه عنهما، بل هؤلاء الكفرة، المنكرون للبعث، واقعون في عذاب النار، وفيما يؤديهم إليه من الضلال البعيد عن الحق، بحيث لا يرجى لهم الخلاص منه، وهم لا يشعرون بذلك، وذلك أحق بالجنون. جُعل وقوعهم في العذاب رسيلاً لوقوعهم في الضلال، مبالغة في استحقاقهم له، كأنهما كائنان في وقتٍ واحد ؛ لأن الضلال، لمّا كان العذاب من لوازمه، جُعلا كأنهما مقترنان. ووَصْف الضلال بالبعيد من الإسناد المجازي ؛ لأنَّ البعيد في صفة الضالّ إذا بَعُدَ عن الجادة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يقول شيوخ التربية : بقدر ما يمزق الظاهر بالتخريب والإهمال ؛ يحيى الباطن ويعمر بنور الله، وبقدر ما يعمر الظاهر يخرب الباطن، فيقع الإنكار عليهم، ويقول الجهلة : هل ندلكم على رجل يُنبئكم إذا مُزقتم في الظاهر كل مُمَزقٍ، يُجدد الإيمان والإحسان في بواطنكم، أَفْترى على الله كذباً أم به جِنة ؟ بل الذين لا يؤمنون بالنشأة الآخرة ـ وهي حياة الروح بمعرفة الله ـ في عذاب الحجاب والضلال، عن معرفة العيان بعيد، ما داموا على ذلك الاعتقاد، ثم يهددون بما يُهدد به منكرو البعث. والله تعالى أعلم.
﴿ أفلم يَرَوا إِلى ما بين أيديهم وما خلفَهُم من السماءِ والأرض إِن نشأ نَخْسِفُ بهم الأرضَ أو نُسْقِطْ عليهم كِسَفاً من السماء ﴾ أي : أعموا فلم ينظروا إلى السماء والأرض، وأنهما أينما كانوا، وحيثما ساروا، وجدوهما أمامهم وخلفهم، محيطتان بهم، لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما، وأن يخرجوا عما هم فيه، من ملكوت الله، ولم يخافوا أن يخسفَ الله بهم في الأرض، أو يسقط عليهم ﴿ كِسفاً ﴾ قطعة، أو قطعاً من السماء بتكذيبهم الآيات، وكفرهم بما جاء به الرسول، كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة.
وقرأ حمزة والكسائي " يخسف "، و " يسقط " بالياء ؛ لعود الضمير على ( الله ) في قوله :﴿ أَفترى على الله ﴾، وقرأ حفص :" كَسَفاً " بالتحريك، جمعاً. ﴿ إِن في ذلك لآيةً ﴾ إن في النظر إلى السماء والأرض والتفكُّر فيهما، وما يدلان عليه من كمال قدرته تعالى لدلالةً ظاهرة على البعث والإنشاء من بعد التفريق، ﴿ لكل عبدٍ مُّنِيب ﴾ راجع بقلبه إلى ربه، مطيع له تعالى، إذ المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله، فيعتبر، ويعلم أن مَن قدر على إنشاء هذه الأجرام العظام، قادر على إحياء الأموات وبعثها، وحسابها وعقابها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يقول شيوخ التربية : بقدر ما يمزق الظاهر بالتخريب والإهمال ؛ يحيى الباطن ويعمر بنور الله، وبقدر ما يعمر الظاهر يخرب الباطن، فيقع الإنكار عليهم، ويقول الجهلة : هل ندلكم على رجل يُنبئكم إذا مُزقتم في الظاهر كل مُمَزقٍ، يُجدد الإيمان والإحسان في بواطنكم، أَفْترى على الله كذباً أم به جِنة ؟ بل الذين لا يؤمنون بالنشأة الآخرة ـ وهي حياة الروح بمعرفة الله ـ في عذاب الحجاب والضلال، عن معرفة العيان بعيد، ما داموا على ذلك الاعتقاد، ثم يهددون بما يُهدد به منكرو البعث. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر تعالى نعمته على داود وسليمان، احتجاجاً على ما منح محمد عليه الصلاة والسلام من الرسالة والوحي، ردًّا لقولهم :﴿ أَفترى على الله كذباً ﴾، ودلالة على قدرته تعالى على البعث وغيره، فقال :
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ﴾ * ﴿ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾.
قلت :﴿ يا جبال ﴾ : بدل من ﴿ فضلاً ﴾، أو يقدر : وقلنا. و﴿ الطير ﴾ : عطف على محل الجبال، ومَن رفعه فعلى لفظه.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولقد آتينا داودَ منا فضلاً ﴾ أي : مزية خُصّ بها على سائر الأنبياء، وهو ما جمع له من النبوة، والمُلك، والصوت الحسن، وإلانة الحديد، وتعلم صنعة الزرد، وغير ذلك مما خُص به، أو : فضلاً على سائر الناس بما ذكر، وقلنا :﴿ يا جبالُ أوّبي معه ﴾ رَجّعي معه التسبيح. ومعنى تسبيح الجبال معه : أن الله تعالى يخلق فيها تسبيحاً، فيسمع منها كما يسمع من المسبّح، معجزة لداود عليه السلام، فكان إذا تخلّل الجبال وسبّح ؛ جاوبته الجبال بالتسبيح، نحو ما سبّح به. وهو من التأويب، أي : الترجيع، وقيل : من الإياب بمعنى الرجوع، أي : ارجعي معه بالتسبيح. ﴿ والطيرَ ﴾ أي : أوبي معه، أو : وسخرنا له الطير تؤوب معه. قال وهب : فكان داود إذا نادى بالنياحة على نفسه، من أجل زلته، أجابته الجبال بصداها، وعكفت الطير عليه من فوقه، فصدى الجبال الذي يسمعه الناس منها هو من ذلك اليوم.
قال القشيري : يُقال أوحى الله إلى داود عليه السلام : كانت تلك الزلة مباركة عليك، فقال : يا رب ؛ وكيف تكون الزلة مباركة ؟ فقال : كُنتَ تجيء بأقدار المطيعين، والآن تجيء بانكسار المذنبين، يا داود أنين المذنبين أحب إليّ من صراخ العابدين. ه. مختصراً. وفي هذا اللفظ من قوله :﴿ يا جبال أوبي معه ﴾ من الفخامة ما لا يخفى، حيث جُعلت الجبال بمنزلة العقلاء ؛ الذين إذا أمرهم بالطاعة أطاعوا، وإذا دعاهم أجابوا، إشعاراً بأنه ما من حيوان وجماد إلا وهو منقادٌ لقدرة الله تعالى ومشيئته. ولو قال : آتينا داود منا فضلاً تأويب الجبال معه والطير ؛ لم يكن فيه هذه الفخامة.
﴿ وألنّا له الحديدَ ﴾ أي : جعلناه له ليناً، كالطين المعجون، يصرفه بيده كيف يشاء، من غير نار ولا ضرب بمطرقة، قيل : سبب لينه له : أنه لما مَلك بني إسرائيل، وكان من عادته أن يخرج متنكراً، ويسأل كل مَن لقيه : ما يقول الناس في داود ؟ فيثنون خيراً، فلقي ملكاً في صورة آدمي، فسأله، فقال : نِعْمَ الرجل، لولا خصلة فيه : يأكل ويطعم عياله من بيت المال، فتنبّه، وسأل الله تعالى أن يسبب له سبباً يُغنيه عن بيت المال، فألان له الحديد مثل الشمع، وعلّمه صنعة الدروع، وهو أول مَن اتخذها. وكانت قبل ذلك صفائح.
ويقال : كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف، فيأكل ويُطعم عياله، ويتصدّق على الفقراء والمساكين. وقيل : كان يلين له ولمَن اشتغل معه له، قُلت : ذكر ابن حجر في شرح الهمزية أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان إذا وطئ على صخرة أثر فيها قدمه، وهذا أبلغ من إلانة الحديد ؛ لأن لين الحجارة لا يعرف بنار، ولا بغيرها، بخلاف الحديد. ه. وقيل : لأن لين الحديد في يد داود عليه السلام لِما أُولي من شدة القوة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الفضل الذي أُوتيه داود عليه السلام هو كشف الحجاب بينه وبين الكون، فلما شهد المكون، كانت الأكوان معه. " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدت المكون كانت الأكوان معك ". ولا يلزم من كونها معه في المعنى، بحيث تتعشّق له وتهواه، أي : تنقاد كلها له في الحس، بل ينقاد إليه منها ما يحتاج إليه، حسبما تقتضيه الحكمة، وتسبق به المشيئة، فسوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار. وقوله تعالى :﴿ وأَلَنَّا له الحديدَ ﴾ في الظاهر : الحديد الحسي، وفي الباطن : القلوب الصلبة كالحديد، فتلين لوعظه بالإيمان والمعرفة. وكذا في حق كل عارف تلين لوعظه القلوب، وتقشعر من كلامه الجلود. وهو أعظم نفعاً من لين الحديد الحسي. ويقال له : أن اعمل سابغاتٍ، أي : دروعاً تامة، يتحصّن بها من الشيطان والهوى، وهو ذكر الله، يستعمله ويأمر به، ذكراً متوسطاً، من غير إفراط ممل، ولا تفريط مخل. فإذا انتعش الناس على يده كَبُرَ قدره عند ربه، فيؤمر بالشكر، وهو قوله :﴿ واعملوا صالحاً إِني بما تعملون بصير ﴾ والله تعالى أعلم.
وأمرناه ﴿ أنِ اعمل سَابِغاتٍ ﴾ أي : دروعاً واسعةً تامة، من : السبوغ، بمعنى الإطالة، ﴿ وقدِّر في السَّردِ ﴾ لا تجعل المسامير دقاقاً فيقلق، ولا غلاظاً فتنكسر الحلَق، أو تؤذي لابسها. والتقدير : التوسُّط في الشيء، والسرد : صنعة الدروع، ومنه قيل لصانعه : السراد والزراد. ﴿ واعملوا صالحاً ﴾ شكراً لما أسدي إليكم. والضمير لداود وأهله. والعمل الصالح : ما يصلح للقبول ؛ لإخلاصه وإتقانه، ﴿ إِنِّي بما تعملون بصير ﴾ فأجازيكم عليه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الفضل الذي أُوتيه داود عليه السلام هو كشف الحجاب بينه وبين الكون، فلما شهد المكون، كانت الأكوان معه. " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدت المكون كانت الأكوان معك ". ولا يلزم من كونها معه في المعنى، بحيث تتعشّق له وتهواه، أي : تنقاد كلها له في الحس، بل ينقاد إليه منها ما يحتاج إليه، حسبما تقتضيه الحكمة، وتسبق به المشيئة، فسوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار. وقوله تعالى :﴿ وأَلَنَّا له الحديدَ ﴾ في الظاهر : الحديد الحسي، وفي الباطن : القلوب الصلبة كالحديد، فتلين لوعظه بالإيمان والمعرفة. وكذا في حق كل عارف تلين لوعظه القلوب، وتقشعر من كلامه الجلود. وهو أعظم نفعاً من لين الحديد الحسي. ويقال له : أن اعمل سابغاتٍ، أي : دروعاً تامة، يتحصّن بها من الشيطان والهوى، وهو ذكر الله، يستعمله ويأمر به، ذكراً متوسطاً، من غير إفراط ممل، ولا تفريط مخل. فإذا انتعش الناس على يده كَبُرَ قدره عند ربه، فيؤمر بالشكر، وهو قوله :﴿ واعملوا صالحاً إِني بما تعملون بصير ﴾ والله تعالى أعلم.
ثم ذكر سليمان عليه السلام فقال :
﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ * ﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُواْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾.
قلت :" الريح " : مفعول بمحذوف، أي : وسخرنا له الريح، ومَن رفعه ؛ فمبتدأ تقدّم خبره.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ و ﴾ سخرنا ﴿ لسليمانَ الريحَ ﴾ وهي الصبا، ﴿ غُدُوُّها شهرٌ ورَوَاحُهَا شهرٌ ﴾ أي : جريها بالغد مسيرة شهر، إلى نصف النهار، وجريها بالعشي كذلك. فتسير في يوم واحد مسيرة شهرين. وكان يغدو من دمشق، مكان داره، فيقيل بإصطخر فارس، وبينهما مسيرة شهر، ويروح من إصطخر فيبيت بكابُل، وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع. وقيل : كان يتغذّى بالريّ، ويتعشّى بسمرقند. وعن الحسن : لَمَّا عقر سليمان الخيل، غضباً لله تعالى، أبدله الله خيراً منها الريح، تجري بأمره حيث شاء، غدوها شهر ورواحها شهر. ه.
قال ابن زيد : كان لسليمان مركب من خشب، وكان فيه ألف ركن، في كل ركن ألف بيت معه، فيه الجن والإنس، تحت كل ركن ألف شيطان، يرفعون ذلك المركب، فإذا ارتفع أتت الريح الرخاء فتسير به وبهم. قلت : وقد تقدّم أن العاصفة هي التي ترفعه، والرخاء تسير به، وهو أصح. ثم قال : فتقيل عند قوم، وتُمسي عند قوم، وبينهما شهر، فلا يدري القوم إلا وقد أظلّهم، معه الجيوش.
ويُروى أن سليمان سار من أرض العراق، فقال بمدينة مرو، وصلّى العصر بمدينة بلخ، تحمله الريح، وتظله الطير، ثم سار من بلخ متخللاً بلاد الترك، ثم سار به إلى أرض الصين، ثم عطف يُمنة على مطلع الشمس، على ساحل البحر، حتى أتى أرض فارس، فنزلها أياماً، وغدا منها فقال بكسكر، ثم راح إلى اليمن، وكان مستقره بها بمدينة تدْمُر، وقد كان أمر الشياطين قبل شخوصه من الشام إلى العراق، فبنوها له بالصفاح، والعُمد، والرخام الأبيض والأصفر. ه.
قلت : وذكر أبو السعود في سورة " ص " أنه غزا بلاد المغرب الأندلسي وطنجة وغيرهما، والله تعالى أعلم. ووُجدت هذه الأبيات منقورة في صخرة بأرض كسكر، أنشأها بعض أصحاب سليمان عليه السلام١ :
وَنَحْنُ ولا حَوْلَ سِوََى حَوْلِ رَبّنا نَرُوحُ إلى الأَوْطَانِ من أرضِ كسْكَر
إذ نَحْنُ رُحْنا كان رَيْثُ رَوَاحنا مسِيرة شهرٍ والغدو لآخرِ
أُناسٌ أعزَّ اللهُ طوعاً نفوسَهُم بنصر ابن داودَ النبيِّ المُطَهَّر
لَهُمْ في مَعَالِي الدِّين فَضْلٌ ورفعةٌ وإن نُسِبُوا يوماً فَمِنْ خَيْر مَعْشَر
متى يركب الريحَ المُطِيعةَ أسرَعَتْ مُبَادِرةً عن شهرهَا لم تُقَصِّر
تُظِلُّهُم طيْرٌ صُفُوفٌ عَلَيْهِمُ مَتى رَفْرَفَتْ مِن فوقِهِمْ لمْ تُنْفرِ
قال القشيري : وفي القصة أنه لاحظ يوماً مُلْكَه، فمال الريحُ، فقال له : استوِ، فقال له ما دمت أنت مستوياً بقلبك كنتُ مستوياً لك، فحيث مِلْتَ مِلتُ. ه.
ثم قال :﴿ وأسَلْنَا له عينَ القِطْرِ ﴾ أي : معدن النحاس. والقطر : النحاس، وهو الصُفر، ولكنه أذابه له، وكان يسيل في الشهر ثلاثة أيام، كما يسيل الماء. وكان قبل سليمان لا يذوب. قال ابن عباس : كانت تسيل له باليمن عين من نحاس، يصنع منها ما أحب. وقيل : القطر : النحاس والحديد، وما جرى مجرى ذلك، كان يسيل له منه عيون. وقيل : ألانه كما ألان الحديد لأبيه، وإنما ينتفع الناسُ اليوم بما أجرى الله تعالى لسليمان، كما قيل.
﴿ و ﴾ سخرنا له ﴿ من الجنِّ من يعملُ بين يديه ﴾ ما يشاء ﴿ بإِذنِ ربه ﴾ أي : بأمر ربه، ﴿ ومن يزغْ منهم عن أمرنا ﴾ أي : ومَن يعدل منهم عن أمرنا الذي أمرنا به من طاعة سليمان ﴿ نُذقه من عذاب السعير ﴾ عذاب الآخرة. وقيل : كان معه ملك بيده سوط من نار، فمَن زاغ عن طاعة سليمان ضربه بذلك ضربة أحرقته.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : وسخرنا لسليمان ريح الهداية، تهب بين يديه، يُهتدى به مسيرة شهر وأكثر، وأسلنا لوعظه وتذكيره العيون الجامدة، فقطرت بالدموع خُشوعاً وخضوعاً. وكل مَن أقبل على الله بكليته سخرت له الكائنات، جنها وإنسها، يتصرف بهمته فيها. فحينئذ يقال له ما قيل لآل داود : اعملوا آل داود شكراً. قال الجنيد : الشكر : بذل المجهود بين يدي المعبود. وقال أيضاً : الشكر ألا يُعصى الله بنعمه.
والشكر على ثلاثة أوجه : شكر بالقلب، وشكر باللسان، وشكر بسائر الأركان. فشكر القلب : أن يعتقد أن النعم كلها من الله، وشكر اللسان : الثناء على الله وكثرة المدح له، وشكر الجوارح : أن يعمل العمل الصالح. وسئل أبو حازم : ما شكر العينين ؟ قال : إذا رأيت بهما خيراً أعلنته، وإذا رأيت بهما شرًّا سترته، قيل : فما شكر الأذنين ؟ قال : إذا سمعت بهما خيراً وعيته، وإذا سمعت بهما شرًّا دفنته، قيل : فما شكر اليدين ؟ قال : ألا تأخذ بهما ما ليس لك، ولا تمنع حقًّا هو لله فيهما، قيل : فما شكر البطن ؟ قال : أن يكون أسفلُه صبراً، وأعلاه علماً، قيل : فما شكر الفرج ؟ قال : كما قال الله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٥ ] الآية، قيل : فما شكر الرجلين ؟ قال : إن رأيت شيئاً غبطته استعملتهما، وإن رأيت شيئاً مقته كفقتهما. هـ.
والناس في الشكر درجات : عوام، وخواص، وخواص الخواص. فدرجة العوام : الشكر على النِّعم، ودرجة الخواص : الشكر على النِّعم والنقم، وعلى كل حال، ودرجة خواص الخواص : أن يغيب عن النِعم بمشاهدة المُنعم. قال رجل لإبراهيم بن أدهم : إن الفقراء إذا أُعطوا شكروا، وإذا مُنعوا صبروا، فقال : هذه أخلاق الكلاب عندنا، ولكن الفقراء إذا مُنعوا شكروا، وإذا أُعطوا آثروا. هـ.
وهذان الآخران يصدق عليهما قوله تعالى :﴿ وقليل من عبادي الشكور ﴾، وخصه القشيري بالقسم الثالث، فقال : فكان الشاكر يشكر على البَذْلِ، والشكور على المنع، فكيف بالبذل ؟ ثم قال : ويقال في ﴿ قليل من عبادي الشكور ﴾ : قليل مَن يأخذ النعمة مني، فلا يحملها على الأسباب، فيشكر الوسائط ولا يشكرني. وفي الحِكَم :" مَن لم يشكر النعم فقد تعرّض لزوالها، ومَن شكرها فقد قيّدها بعقالها ". فالشكر قيد الموجود، وصيد المفقود. والله تعالى أعلم.


١ انظر الأبيات في تفسير البحر المحيط ٧/٢٥٤..
﴿ يعملون له ما يشاءُ من محَاريبَ ﴾ أي : مساجد، أو مساكن وقصور، والمحراب : مقدم كل مسجد ومجلس وبيت. ﴿ وتماثيلَ ﴾ صور الملائكة والأنبياء، على ما اعتادوا من العبادات، ليراها الناس، فيعبدوا نحو عبادتهم. صنعوا له ذلك في المساجد، ليجتهد الناس في العبادة. أو : صور السباع والطيور، رُوي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كُرسيه، ونسْريْن فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسطَ الأسدان له ذرَاعيهما، وإذا قعد أظلّه النسران بأجنحتهما. وكان التصوير مباحاً. ﴿ وجِفانٍ ﴾ وصحاف، جمع : جفنة، وهي القصعة، ﴿ كالجَوَاب ﴾ جمع جابية، وهي الحياض الكبار. قيل : كان يقعد على الجفنة ألف رجل، يأكلون بين يديه، ﴿ وقدور راسياتٍ ﴾ ثابتات على الأثافي، لا تنزل ؛ لِعظمها، ولا تعطل ؛ لدوام طبخها. وقيل : كان قوائمها من الجبال، يصعد إليها بالسلالم، وقيل : باقية باليمن.
وقلنا :﴿ اعملوا آلَ داودَ شُكراً ﴾ أي : اعملوا بطاعة الله، واجهدوا أنفسكم في عبادته، شكراً لِما أولاكم من نعمه. قال ثابت : كان داود جزأ ساعات الليل والنهار على أهله، فلم تكن تأتي ساعة من ساعات الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يُصلّي. ه.
وقال سعيد بن المسيب : لما فرغ سليمان من بيت المقدس انغلقت أبوابه، فعالجها، فلم تنفتح، حتى قال : بصلوات آل داود إلا فُتحت الأبواب، ففتحت، ففرغ له سليمان عشرة آلاف من قراء بني إسرائيل ؛ خمسة آلاف بالليل، وخمسة آلاف بالنهار، فلا تأتي ساعة من ليل ولا نهار إلا والله عزّ وجل يُعبد فيها. ه. وعن الفضيل :﴿ اعملوا آل داود ﴾ أي : ارحموا أهل البلاء، وسلوا ربكم العافية.
و﴿ شكراً ﴾ : مفعول له، أو حال، أي : شاكرين، أو مصدر، أي : اشكروا شكراً ؛ لأن " اعملوا " فيه معنى اشكروا، من حيث إن العمل للنعم شكرٌ، أو : مفعول به، أي : إنَّا سخرنا لكم الجن يعملون لكم ما شئتم، فاعملوا أنتم شكراً.
﴿ وقليل من عباديَ الشكورُ ﴾ يحتمل أن يكون من تمام الخطاب لداود عليه السلام، أو خطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم. والشكور : القائم بحق الشكر، الباذل وسعه فيه، قد شُغل به بقلبه ولسانه وجوارحه في أكثر أوقاته، اعتقاداً واعترافاً وكدحاً. وعن ابن عباس : هو مَن يشكر على أحواله كلها. وقيل : مَن شكر على الشكر، ومَن يرى عجزه عن الشكر. قال البيضاوي : لأن توفيقه للشكر نعمة، فتقتضي شكراً آخر، لا إلى نهاية، ولذلك قيل : الشكور مَن يرى عجزه عن الشكر. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : وسخرنا لسليمان ريح الهداية، تهب بين يديه، يُهتدى به مسيرة شهر وأكثر، وأسلنا لوعظه وتذكيره العيون الجامدة، فقطرت بالدموع خُشوعاً وخضوعاً. وكل مَن أقبل على الله بكليته سخرت له الكائنات، جنها وإنسها، يتصرف بهمته فيها. فحينئذ يقال له ما قيل لآل داود : اعملوا آل داود شكراً. قال الجنيد : الشكر : بذل المجهود بين يدي المعبود. وقال أيضاً : الشكر ألا يُعصى الله بنعمه.
والشكر على ثلاثة أوجه : شكر بالقلب، وشكر باللسان، وشكر بسائر الأركان. فشكر القلب : أن يعتقد أن النعم كلها من الله، وشكر اللسان : الثناء على الله وكثرة المدح له، وشكر الجوارح : أن يعمل العمل الصالح. وسئل أبو حازم : ما شكر العينين ؟ قال : إذا رأيت بهما خيراً أعلنته، وإذا رأيت بهما شرًّا سترته، قيل : فما شكر الأذنين ؟ قال : إذا سمعت بهما خيراً وعيته، وإذا سمعت بهما شرًّا دفنته، قيل : فما شكر اليدين ؟ قال : ألا تأخذ بهما ما ليس لك، ولا تمنع حقًّا هو لله فيهما، قيل : فما شكر البطن ؟ قال : أن يكون أسفلُه صبراً، وأعلاه علماً، قيل : فما شكر الفرج ؟ قال : كما قال الله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٥ ] الآية، قيل : فما شكر الرجلين ؟ قال : إن رأيت شيئاً غبطته استعملتهما، وإن رأيت شيئاً مقته كفقتهما. هـ.
والناس في الشكر درجات : عوام، وخواص، وخواص الخواص. فدرجة العوام : الشكر على النِّعم، ودرجة الخواص : الشكر على النِّعم والنقم، وعلى كل حال، ودرجة خواص الخواص : أن يغيب عن النِعم بمشاهدة المُنعم. قال رجل لإبراهيم بن أدهم : إن الفقراء إذا أُعطوا شكروا، وإذا مُنعوا صبروا، فقال : هذه أخلاق الكلاب عندنا، ولكن الفقراء إذا مُنعوا شكروا، وإذا أُعطوا آثروا. هـ.
وهذان الآخران يصدق عليهما قوله تعالى :﴿ وقليل من عبادي الشكور ﴾، وخصه القشيري بالقسم الثالث، فقال : فكان الشاكر يشكر على البَذْلِ، والشكور على المنع، فكيف بالبذل ؟ ثم قال : ويقال في ﴿ قليل من عبادي الشكور ﴾ : قليل مَن يأخذ النعمة مني، فلا يحملها على الأسباب، فيشكر الوسائط ولا يشكرني. وفي الحِكَم :" مَن لم يشكر النعم فقد تعرّض لزوالها، ومَن شكرها فقد قيّدها بعقالها ". فالشكر قيد الموجود، وصيد المفقود. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر موت سليمان عليه السلام، فقال :
﴿ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ فلما قَضَيْنَا عليه ﴾ على سليمان ﴿ الموتَ ما دلّهم ﴾ أي : الجن وآل داود ﴿ على موته إِلا دابةُ الأرض ﴾ أي : الأرضة، وهي دويبة تأكل الخشب، ويقال : لها، سُرْفةَ والقادح. والأرض هنا مصدر : أرَضَتِ الخشبة، بالبناء للمفعول، أرَضَّا : أكلتها الأرضة. فأضيفت إلى فعلها وهو الأرض، أي : الأكل. ﴿ تأكل مِنْسَأَتَهُ ﴾ أي : عصاه، سميت منسأة ؛ لأنها تنسى، أي : تطرح ويُرْمى بها. وفيها لغتان ؛ الهمز وعدمه، فقرأ نافع وأبو عمرو بترك الهمز، وعليه قول الشاعر١ :
إِذا دَبَبْتُ على المِنسَاةِ مِن كِبَرٍ فَقَد تَبَاعَدَ عَنْكَ اللهْوُ والغَزلُ
وقرأ غيرهما بالهمز، وهو أشهر.
﴿ فلما خرّ ﴾ سقط سليمانُ ﴿ تبينتِ الجنُّ ﴾ أي : تحققت وعلمت علماً يقيناً، بعد التباس الأمر على عامتهم وضعفتهم، ﴿ أن لو كانوا يعلمون الغيبَ ما لبثوا ﴾ بعد موت سليمان ﴿ في العذاب المهين ﴾ في العمل الشاق له، لظنهم حياته، فلو كانوا يعلمون الغيب كما زعموا لعلموا موته.
وذلك أن داود عليه السلام أسس بيت المقدس، في موضع فسطاط مُوسى عليه السلام، فمات قبل أن يتمه، فوصّى به إلى سليمان، فأمر الشياطين بإتمامه. فلما بقي من عمره سنة، سأل الله تعالى أن يعمّي عليهم موته حتى يفرغوا، ولتبطل دعواهم علم الغيب. وكان عمر سليمان ثلاثاً وخمسين سنة. وملك وهو ابنُ ثلاث عشرة سنة. فبقي في ملكه أربعين سنة، وابتدأ بناء بيت المقدس لأربع مضين من ملكه. قال الثعلبي : فبنى سليمان المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر، وعمَّره بأساطين المها الصافي، وسقفه بأنواع الجواهر، وفضض سقوفه وحيطانه باللآلئ، وسائر أنواع الجواهر، وبسط أرضه بألواح الفيروزج، فلم يكن في الأرض أبهى ولا أنور من ذلك المسجد. كان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر. ومن أعاجيب ما اتخذ في بيت القدس، أن بنى بيتاً وطيّن حائطه بالخضرة، وصقله، فإذا دخله الوَرعُ البار استبان فيه خياله أبيض، وإذا دخله الفاجر استبان فيه خياله أسود، فارتدع كثير من الناس عن الفجور.
قال صلى الله عليه وسلم :" لما فرغ سليمانُ من بناء بيت المقدس سأل ربه ثلاثاً، فأعطاه اثنتين، وأن أرجو أن يكون قد أعطاه الثالثة، سأله حُكماً يُصادفُ حُكْمَه، فأعطاه إياه، وسأله مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعده، فأعطاه إياه، وسأله ألا يأتي أحد هذا البيت يُصلي فيه ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه ذلك٢ " ه.
فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان عليه السلام حتى خرّبه بخت نصر، وأخذ ما كان فيه من الذهب والفضة واليواقيت، وحمله إلى دار مملكته من العراق.
ثم قال : قال المفسرون : كان سليمان ينفرد في بيت المقدس السنة والسنتين، والشهر والشهرين، يدخل فيه طعامه وشرابه، فدخله في المرة التي مات فيها. وكان بدء ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه إلا نبتت في بيت المقدس شجرة، فيسألها : ما اسمك ؟ فتقول الشجرة : اسمي كذا، فيأمر بها فنقطع، فإن كانت لغرس غرسها، وإن كانت لدواء كُتبت. فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه، فقال لها : ما اسمك ؟ قالت : الخروبة، قال لها : ولأي شيء نَبَتِّ ؟ قالت : لخراب هذا المسجد، فقال : ما كان الله ليخربه وأنا حيّ، أنت التي على وجهك هلاكي، وهلاك بيت المقدس، فنزعها وغرسها في حائط، ثم قال : اللهم أعم عن الجن موتي، حتى يعلم الإنسُ أن الجن لا يعلمون الغيب. وكانت الجن تُخبر الإنس أنهم يعلمون أشياء من علم الغيب، ثم دخل المحراب، وقام يصلي على عصاه، فمات.
وقيل : إن سليمان قال لأصحابه ذات يوم : قد آتاني الله ما ترون، وما مرّ عليَّ يوم في ملكي بحيث صفا لي من الكدر، وقد أحببتُ أن يكون لي يوم واحد يصفو لي من الكدر، فدخل قصره من الغد، وأمر بغلق أبوابه، ومنع الناس من الدخول عليه، ورفْعِ الأخبار إليه. ثم اتكأ على عصاه ينظر في ممالكه، إذ نظر إلى شاب حسن الوجه، عليه ثياب بيض، قد خرج عليه من جوانب قصره، فقال : السلام عليك يا سليمان، فقال : عليك السلام، كيف دخلت قصري ؟ فقال : أنا الذي لا يحجبني حاجب، ولا يدفعني بوّاب، ولا أهاب الملوك، ولا أقبل الرشا، وما كنتُ لأدخل هذا القصر من غير إذن. فقال سليمان : فمَن أَذِنَ لك في دخوله ؟ قال : ربه، فارتعد سليمان، وعَلِمَ أنه ملك الموت، فقال : يا ملك الموت هذا اليوم الذي أردتُ أن يصفو لي، قال : يا سليمان ذلك اليوم لم يخلق في أيام الدنيا، فقبض روحه وهو متكئ على عصاه. ه.
وفي رواية : أنه دعا الشياطين، فبنوا له صرحاً من قوارير، ليس له باب، فقام يُصلي، واتكأ على عصاه، فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه. والله تعالى أعلم أيّ ذلك كان. وبقي سليمان ميتاً، وهو قائم على عصاه سنة، حتى أكلت الأَرَضةَ عصاه. ولم يعلموا منذ كم مات، فوضعوا الأرضة على العصا، فأكلت منها يوماً وليلة، ثم حسبوا على ذلك النحو، فوجدوه قد مات منذ سنة. سبحان الحي الذي لا يموت، ولا ينقضي ملكه.
الإشارة : كل دولة في الدنيا تحول، وكل عز فيها عن قريب يزول، فالعاقل مَن صرف دولته في طاعة مولاه، وبذل جهده في محبته ورضاه، فإن كانت قسمته في الأغنياء كان من الشاكرين، وإن كانت في الفقراء كان من الصابرين، والفقير الصابر أحظى من الغني الشاكر، ولذلك ورد أن سليمان عليه السلام آخر مَن يدخل الجنة من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وعبد الرحمان بن عوف آخر مَن يدخلها من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. والغني الشاكر هو الذي يُعطي ولا يُبالي، ويتواضع للكبير والصغير، والوجيه والحقير، والفقير الصابر هو الذي يغتبط بفقره، ويكتمه عن غيره. وبالله التوفيق.
١ البيت بلا نسبة في لسان العرب (نسأ)، (نسا)، وتاج العروس (نسأ)، (نسي)..
٢ أخرجه ابن ماجه في الإقامة حديث ١٤٠٨..
ثم ذكر حال من لم يشكر النعم، فقال :
﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴾ * ﴿ فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ﴾ * ﴿ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ ﴾.
قلت :﴿ لسبأ ﴾ فيه الصرف، بتأويل الحي، وعدمه، بتأويل القبيلة. و﴿ مسكنهم ﴾، مَن قرأ بالإفراد وفتح الكاف على القياس في الاسم والمصدر، كمدخَل، ومَن كسره فلغة، والسماع في المصدر كمسجِد. و﴿ جنتان ﴾ بدل من ﴿ آية ﴾ أو : خبر عن مضمر، أي : هي جنتان.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ لقد كان لسبأٍ ﴾ سُئل صلى الله عليه وسلم أرجلاً كان أو امرأة، أو أرضاً أو جبلاً أو وادياً، فقال صلى الله عليه وسلم :" هو رجل من العرب، ولد عشرة من الولد، فتيامن ستةٌ، وتشاءم أربعةٌ : فالذين تيامنوا كثرة، فكندة، والأشعريون، والأزد، ومذحج، وأنمارُ، وحميرُ، فقال رجل : مَن أنمار يا رسول الله ؟ قال منهم خَثْعَمُ وبَجِيلَةُ. والذين تشاءموا : عاملة، وجذام، ولخم، وغسان١ ".
قلت : وسبأ هو ابن يشخب بن يعرب بن قحطان. واختلف في قحطان، فقيل : هو ابن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح. وقيل : هو أخو هود عليه السلام. وقيل : هو هود، بنفسه، وإن هوداً هو ابن عبد الله بن رباح، لا ابن عابر، على الأصح. فهو على هذا القول ابن أرم بن سام. وقيل : قحطان من ولد إسماعيل، فهو ابن أيمن بن قيذر بن إسماعيل. وقيل : هو ابنُ الهميسع بن أيمن. وبأيمن سميت اليمن، وقيل : لأنها عن يمين الكعبة. هذا والعربُ كلها يجمعها أصلان : عدنان وقحطان، فلا عربي في الأرض إلا وهو ينتهي إلى أحدهما، فيقال : عدناني أو قحطاني.
ومَن جعل العرب كلها من ولد إسماعيل مرّ على أن قحطان من ذرية إسماعيل، كما تقدّم، واختلف في خزاعة، فقيل : قحطانية، وقيل : عدنانية، وأن جدهم عمرو بن لحي، وأما الأوس والخزرج فهما من ذرية سبأ، نزلت يثرب، بعد سيل العرم، كما يأتي.
قال تعالى :﴿ لقد كان لسبأٍ في مسكنهم ﴾ أي : في بلدهم، أو أرضهم، التي كانوا مقيمين فيها باليمن، ﴿ آيةٌ ﴾ دالة على وحدانيته تعالى، وباهر قدرته، وإحسانه، ووجوب شكر نعمه، وهي :﴿ جنتانِ ﴾ أي : جماعة من البساتين، ﴿ عن يمينٍ ﴾ واديهم، ﴿ وَشِمَالٍ ﴾ وعن شماله. وكل واحدة من الجماعتين في تقاربها وتصافها كأنها جنة واحدة، كما يكون في بساتين البلاد العامرة. قيل : كان الناس يتعاطون ذلك على جَنْبتي الوادي، مسيرة أربعين يوماً، وكلها تُسقى من ذلك الوادي ؛ لارتفاع سده. أو : أراد بُسْتانين، لكل رجل بستان عن يمين داره، وبستان عن شماله. ومعنى كونهما آية : أن أهلها لَمّا أعرضوا عن شكر النعم سلبهم الله النعمة، ليعتبروا ويتَعظوا، فلا يعودوا لِمَا كانوا عليه من الكفر وغمط النعم، فلما أثمرت البساتين ؛ قلنا لهم على لسان الرسل المبعوثين إليهم، أو بلسان الحال، أو هم أحقاء بأن يقال لهم ذلك :﴿ كُلُوا من رزق ربكم واشكرُوا له ﴾ بالإيمان والعمل الصالح، ﴿ بلدةٌ طيبةٌ ﴾ أي : هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة، ﴿ وربُّ غفور ﴾ أي : وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم ربٌّ غفور لمَن شكره.
قال ابن عباس : كانت سبأ على ثلاثة فراسخ من صنعاء، وكانت أخصب البلاد، فتخرج المرأة على رأسها المكتل، وتسير بين تلك الشجر، فيمتلئ المِكْتَل مما يتساقط فيه من الشجر ولقد كان الرجل يخرج لزيارة أقاربه، وعلى رأسه مكتل، أو قُفة، أو طبق فارغ، فلا يصل إلى حيث يريد إلا والطبق قد امتلأ فاكهة، مما تسقطه الرياح، دون أن يمد يده إلى شيء من ثمرها. ومن طيبها : أنها لم تُرَ في بلدهم بعوضة قط، ولا ذباب، ولا برغوث، ولا عقرب، ولا حية. وإذا جاءهم الركب في ثيابهم القمل والدواب ؛ ماتت الدواب والقمل ؛ لطيب هواها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : لكل مريد وعارف جنتان عن يمين وشمال، يقطف من ثمارهما ما يشاء ؛ جنة العبودية، وجنة الربوبية، جنة العبودية للقيام بآداب الشريعة، وجنة الربوبية للقيام بشهود الحقيقة، فيتفنّن في جنة العبودية بعلوم الحكمة، ويتفنّن في جنة الربوبية بعلوم القدرة، وهي أسرار الذات وأنوار الصفات. كُلوا من رزق ربكم حلاوةَ المعاملة في جنة العبودية، وحلاوةَ المشاهدة في جنة الربوبية ؛ بلدة طيبة هي جنة الربوبية ؛ إذ لا أطيب من شهود الحبيب، ورب غفور لتقصير القيام بآداب العبودية ؛ إذ لا يقدر أحد أن يحصيها، ولا جزءاً منها. فأعرض أهل الغفلة عن القيام بحقهما، ولم يعرفوهما، فأرسلنا على قلوبهم سيل العرم، وهو سيل الخواطر والوساوس، وخوض القلب في حِس الأكوان، فبدلناهم بجنتيهم جنتين ؛ مرارة الحرص والتعب، والهم والشغب. ذلك جزيناهم بكفرهم بطريق الخصوص من أهل التربية، وهل يُجازى إلا الكفور.
قال القشيري :﴿ وبدلناهم بجنتيهم جنتين... ﴾ الآية، كذلك من الناس مَن يكون في رَغَدٍ من الحال، واتصالٍ من التوفيق، وطيب من القلب، ومساعدة من الوقت، فيرتكبُ زَلَّةً، أو يتبع شهوةً، ولا يعرف قَدْرَ ما يفوته فيفتر عليه الحالُ، فلا وقتَ ولا حالَ، ولا قُربَ ولا وصالَ، يُظْلِمُ عليه النهارُ، بعد أن كانت لياليه مضيئة. وأنشدوا :
ما زلتُ أختال في زَماني حتى أَمِنتُ الزمانَ مَكْرَه
طال علينا الصدودُ حتى لم يبق مما شَهِدْت ذَرَّه
﴿ ذلك جزيناهم بما كفروا... ﴾ الآية : ما عوقبوا إلاَّ بما استوجبوا، وما سُقُوا إلاَّ ما أفيضوا، ولا وقعوا إلاَّ في الوَهْدَةِ التي حَفَرُوا، وما قُتِلُوا إلا بالسيف الذي صَنَعُوا. هـ.


١ أخرجه أبو داود في الحروف حديث ٣٩٨٨، والترمذي في تفسير سورة ٣٤، حديث ٣٢٢٢..
و﴿ أُكل خَمْطٍ ﴾، فمَن أضافه فإضافة الشيء إلى جنسه، كثوب خز، ومَن نوّنه قطعه عن الإضافة، وجعله عطف بيان. أو صفة، بتأويل خمطٍ ببشيع.
﴿ فأَعْرَضوا ﴾ عن الشكر، بتكذيب أنبيائهم، وكفر نعمة الله عليهم. وقالوا : ما نعرف لله علينا من نعمة، عائذاً بالله. قال وهب : بعث الله إلى سبأ ثلاثة عشر نبيًّا، يدعونهم إلى الله تعالى، فكذّبوهم، ﴿ فأرسلنا عليهم سيلَ العَرِم ﴾ أي : سيل الأمر العرم، أي : الصعب. من : عرَم الرجل فهو عارم، وعَرِمَ : إذا شَرِسَ خُلقه وصعب، أي : أرسلنا عليهم سيلاً شديداً، مزَّق سدهم، وغرق بساتينهم. قيل : جمع عَرمة، وهي السد الذي يمسك الماء إلى وقت حاجته.
قال ابن عباس رضي الله عنه : كان هذا السد يسقي جنتها، وبنته بلقيس ؛ لأنه لَمّا ملَكت جعل قومها يقتتلون على ماء مواشيهم، فنهتهم، فأبَوا، فنزلت عن ملكها، فلما كثر الشرُّ بينهم أرادوها أن ترجع إلى مُلكها، فأبت، فقالوا : لترجعي أو لنَقتلنك، فجاءت، وأمرت بواديهم فسُد أعلاه بالعرم، وهو المُسنّاة بلغة حِمْير فسدت ما بين الجبلين بالصخر والنار، وجعلت له أبواباً ثلاثة، بعضها فوق بعض، وبنت من دونه بركة عظيمة، وجعلت فيها اثني عشر مخرجاً، على عدة أنهارهم. فلما جاء المطر اجتمع ماء الصخر وأودية اليمن، فاحتبس السيل من وراء السدّ، ففتحت الباب الأعلى، وجرى ماؤه في البركة، وألقت البقر فيها، فخرج بعض البقر أسرع من بعض، فلم تزل تضيق تلك الأنهار، وترسل البقر في الماء، حتى خرجت جميعاً معاً، فكانت تقسمه بينهم على ذلك، حتى كان من شأنها وشأن سليمان ما كان. فكانوا يسْقُون من الباب الأعلى، ثم من الثاني، ثم من الأسفل، فلا ينفد حتى يثوب الماء من السنة المقبلة. فلما كفروا وطغوا، سلّط الله عليهم جُرذاً، يُسمى الخلد وهو الفأر فنقبه من أسفله، فغرَّق الماء جنتهم، وخرّب أرضهم. ه.
قال وهب : وكانوا يزعمون أنهم يجدون في عِلْمِهم وكهانتهم أنهم يُخرب سدهم فأرة، فلم يتركوا فرجة بين صخرتين إلا ربطوا عندها هِرًّا، فلما حان ما أراد الله بهم، أقبلت فأرة حمراء، إلى بعض الهِرَر، فساورتها أي : حاربتها، حتى استأخرت عنها أي : عن تلك الفرجة الهرة، فدخلت في الفرجة التي كانت عندها، ونقبت السد، حتى أوهنته للسيل، وهم لا يدرون، فلما جاء السيل دخل في تلك الخلل، حتى بلغ السد، فخربه، وفاض على أموالهم، فغرقتها، ودفن بيوتهم، ومُزقوا، حتى صاروا مثلاً عند العرب، فقالوا : تفرّقوا أياديَ سبأ. ه.
﴿ وبدلناهم بجنتيهم ﴾ المذكورتين ﴿ جنتين ﴾ أخريَيْن. وتسمية المبدلتين جنتين للمشاكلة وازدواج الكلام، كقوله :﴿ وجَزَآؤُاْ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ﴾ [ الشورى : ٤٠ ]. ﴿ ذواتي أُكُل خَمْطٍ ﴾ الأُكل : الثمر المأكول، يخفف ويثقل. والخمط، قال ابن عباس : شجر الأراك، وقال أبو عبيد : كل شجر مؤذ مشوِّك. وقال الزجاج : كل شجر مُر. ه. وفي القاموس : الخمط : الحامض المر من كل شيء، وكل نبت أخذ طعماً من مرارة وحموضة، وشجر كالسدر، وشجر قاتل، أو كل شجر لا شوك له. ه. وقرأ البصريان بالإضافة، من إضافة الشيء إلى جنسه، كثوب خز ؛ لأن المراد بالأكل المأكول، أي : ذواتي ثمر شجر بشيع. والباقون : بالتنوين، عطف بيان، أو صفة، بتأويل خمط ببشيع، أي : مأكول بشيع. ﴿ وأثْلٍ ﴾ هو شجر يشبه الطرفاء، أعظم منه، وأجود عوداً. ﴿ وشيءٍ من سِدْرٍ قليل ﴾ والحاصل أن الله تعالى أهلك أشجارهم المثمرة، وأنبت مكانها الطرفاء والسدر. وإنما قال : السدر، لأنه أكرمُ ما بُدلوا به ؛ لأنه يكون في الجنان.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : لكل مريد وعارف جنتان عن يمين وشمال، يقطف من ثمارهما ما يشاء ؛ جنة العبودية، وجنة الربوبية، جنة العبودية للقيام بآداب الشريعة، وجنة الربوبية للقيام بشهود الحقيقة، فيتفنّن في جنة العبودية بعلوم الحكمة، ويتفنّن في جنة الربوبية بعلوم القدرة، وهي أسرار الذات وأنوار الصفات. كُلوا من رزق ربكم حلاوةَ المعاملة في جنة العبودية، وحلاوةَ المشاهدة في جنة الربوبية ؛ بلدة طيبة هي جنة الربوبية ؛ إذ لا أطيب من شهود الحبيب، ورب غفور لتقصير القيام بآداب العبودية ؛ إذ لا يقدر أحد أن يحصيها، ولا جزءاً منها. فأعرض أهل الغفلة عن القيام بحقهما، ولم يعرفوهما، فأرسلنا على قلوبهم سيل العرم، وهو سيل الخواطر والوساوس، وخوض القلب في حِس الأكوان، فبدلناهم بجنتيهم جنتين ؛ مرارة الحرص والتعب، والهم والشغب. ذلك جزيناهم بكفرهم بطريق الخصوص من أهل التربية، وهل يُجازى إلا الكفور.
قال القشيري :﴿ وبدلناهم بجنتيهم جنتين... ﴾ الآية، كذلك من الناس مَن يكون في رَغَدٍ من الحال، واتصالٍ من التوفيق، وطيب من القلب، ومساعدة من الوقت، فيرتكبُ زَلَّةً، أو يتبع شهوةً، ولا يعرف قَدْرَ ما يفوته فيفتر عليه الحالُ، فلا وقتَ ولا حالَ، ولا قُربَ ولا وصالَ، يُظْلِمُ عليه النهارُ، بعد أن كانت لياليه مضيئة. وأنشدوا :
ما زلتُ أختال في زَماني حتى أَمِنتُ الزمانَ مَكْرَه
طال علينا الصدودُ حتى لم يبق مما شَهِدْت ذَرَّه
﴿ ذلك جزيناهم بما كفروا... ﴾ الآية : ما عوقبوا إلاَّ بما استوجبوا، وما سُقُوا إلاَّ ما أفيضوا، ولا وقعوا إلاَّ في الوَهْدَةِ التي حَفَرُوا، وما قُتِلُوا إلا بالسيف الذي صَنَعُوا. هـ.

﴿ ذلك جزيناهم بما كفروا ﴾ أي : جزيناهم ذلك بكفرهم، فذلك مفعول مطلق بجزينا، ﴿ وهل يُجازى ﴾ هذا الجزاء الكلي ﴿ إِلا الكفورُ ﴾ أي : لا يجازى بمثل هذا الجزاء إلا مَن كفر النعمة ولم يشكرها، أو : كفر بالله، أو هل يعاقب ؛ لأن الجزاء وإن كان عامًّا يستعمل في معنى المعاقبة، وفي معنى الإثابة لكن المراد الخاص، وهو المعاقبة. قال الواحدي : وذلك لأن المؤمن يكفر عنه سيئاته، والكافر يجازى بكل سوء عمله. قلت : بل الظاهر المجازاة الدنيوية بسلب النعم، ولا تسلب إلا للكفور، دون الشكور. قاله في الحاشية.
وعن الضحاك : كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما السلام. ه. قلت : ولعلهم استمروا من زمن سليمان إلى أن جاوزوا زمن عيسى عليه السلام.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : لكل مريد وعارف جنتان عن يمين وشمال، يقطف من ثمارهما ما يشاء ؛ جنة العبودية، وجنة الربوبية، جنة العبودية للقيام بآداب الشريعة، وجنة الربوبية للقيام بشهود الحقيقة، فيتفنّن في جنة العبودية بعلوم الحكمة، ويتفنّن في جنة الربوبية بعلوم القدرة، وهي أسرار الذات وأنوار الصفات. كُلوا من رزق ربكم حلاوةَ المعاملة في جنة العبودية، وحلاوةَ المشاهدة في جنة الربوبية ؛ بلدة طيبة هي جنة الربوبية ؛ إذ لا أطيب من شهود الحبيب، ورب غفور لتقصير القيام بآداب العبودية ؛ إذ لا يقدر أحد أن يحصيها، ولا جزءاً منها. فأعرض أهل الغفلة عن القيام بحقهما، ولم يعرفوهما، فأرسلنا على قلوبهم سيل العرم، وهو سيل الخواطر والوساوس، وخوض القلب في حِس الأكوان، فبدلناهم بجنتيهم جنتين ؛ مرارة الحرص والتعب، والهم والشغب. ذلك جزيناهم بكفرهم بطريق الخصوص من أهل التربية، وهل يُجازى إلا الكفور.
قال القشيري :﴿ وبدلناهم بجنتيهم جنتين... ﴾ الآية، كذلك من الناس مَن يكون في رَغَدٍ من الحال، واتصالٍ من التوفيق، وطيب من القلب، ومساعدة من الوقت، فيرتكبُ زَلَّةً، أو يتبع شهوةً، ولا يعرف قَدْرَ ما يفوته فيفتر عليه الحالُ، فلا وقتَ ولا حالَ، ولا قُربَ ولا وصالَ، يُظْلِمُ عليه النهارُ، بعد أن كانت لياليه مضيئة. وأنشدوا :
ما زلتُ أختال في زَماني حتى أَمِنتُ الزمانَ مَكْرَه
طال علينا الصدودُ حتى لم يبق مما شَهِدْت ذَرَّه
﴿ ذلك جزيناهم بما كفروا... ﴾ الآية : ما عوقبوا إلاَّ بما استوجبوا، وما سُقُوا إلاَّ ما أفيضوا، ولا وقعوا إلاَّ في الوَهْدَةِ التي حَفَرُوا، وما قُتِلُوا إلا بالسيف الذي صَنَعُوا. هـ.

ثم ذكر سبب تمزيقهم، فقال :
﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ ﴾ * ﴿ فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ وجعلنا بينهم ﴾ أي : بين سبأ ﴿ وبين القرى التي باركنا فيها ﴾ بالتوسعة على أهلها بالنعم والمياه، وهي قرى الشام، ﴿ قُرىً ظاهرةً ﴾ متواصلة يُرى بعضها من بعض ؛ لتقاربها، فهي ظاهرة لأعين الناظرين، أو : ظاهرة للسَّابلة، لم تبعد عن مسالكهم حتى تخفى عليهم، وهي أربعة آلاف وسبعمائة قرية متصلة، من سبأ إلى الشام، ﴿ وقدَّرنا فيها السيْرَ ﴾ أي : جعلنا هذه القرى على مقدار معلوم، يقيل المسافر في قرية، ويروح إلى أخرى، إلى أن يبلغ الشام. وقلنا لهم :﴿ سِيرُوا فيها ﴾ ولا قول هناك، ولكنهم لَمَّا تمكنوا من السير، ويُسّرت لهم أسبابه، فكأنهم أُمروا بذلك، فقيل لهم : سيروا في تلك القرى ﴿ لياليَ وأياماً آمنينَ ﴾ أي : سيروا فيها إن شئتم بالليل، وإن شئتم بالنهار، فإن الأمن فيها لا يختلف باختلاف الأوقات، أو : سيروا فيها آمنين لا تخافوا عدواً، ولا جوعاً، ولا عطشاً، وإن تطاولت مدة سيركم، وامتدت أياماً وليالي. فبطروا النعمة، وسئموا العافية، وطلبوا الكدر والتعب.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : وجعلنا بين السائرين وبين منازل الحضرة المقدسة منازلَ ظاهرة، ينزلوها، ويرحلون عنها، آمنين من الرجوع، إن صَدَقوا في الطلب، وهي منازل كثيرة، وأهمها اثنا عشر مقاماً : التوبة، والخوف، والرجاء، والزهد، والصبر، والشكر، والتوكُّل، والرضا، والتسليم، والمراقبة، والمشاهدة. ومنازل الحضرة هي الفناء، والبقاء، وبقاء البقاء، والترقِّي في معاريج الأسرار والكشوفات، أبداً سرمداً. يقال للسائرين : سيروا فيها، وأقيموا في كل منزل منها، ليالي وأياماً، حتى يتحقق به نازله، ثم يرحل عنه إلى ما بعده. ثم إن قوماً سئموا من السير وادَّعوا القوة، فقالوا : ربَّنا باعد بين أسفارنا حتى يظهر عزمنا وقوتنا، وظلموا أنفسهم بذلك، ففرقناهم عنا كل تفريق، وعوّقناهم عن السير كل تعويق، ليكون ذلك آية وعبرة لمَن بعدهم، فلا يخرجون عن مقام الاستضعاف والمسكنة، والانكسار والذلة، " أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي ".
﴿ فقالوا ربَّنا باعِدْ بين أسفارِنَا ﴾ قالوا : يا ليتها كانت بعيدة، نسير على نجائبنا، ونتخذ الزاد، ونختص بالربح في تجاراتنا، أرادوا أن يتطاولوا على الفقراء بالركوب على الرواحل، ويختصوا بالأرباح. وقرأ يعقوب " ربُّنا " بالرفع " باعَدَ " بفتح العين، فربنا : مبتدأ، والجملة : خبر، على أنه شكوى منهم ببُعد سفرهم، إفراطاً في الترفيه وعدم الاعتداد بالنعمة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بشد العين، من " بعِّد " المضعف. والباقون بالألف والتخفيف، من : باعد، بمعنى " بعد " المشددة. ﴿ وظلموا أنفسَهم ﴾ بما قالوا، وما طلبوا، ففرّق الله شملهم، كما قال تعالى :﴿ فجعلناهم أحاديثَ ﴾ يتحدث الناس بهم، ويتعجبون من أحوالهم، ويضرب بهم الأمثال، يقال : تفرقوا أيادي سبأ، وأيدي سبأ، يقال بالوجهين. وفي الصحاح : ذهبوا أيادي سبأ، أي : متفرقين، فهو من المُركّب تركيب مزج.
﴿ ومزَّقناهم كل مُمزّقٍ ﴾ أي : فرقناهم كل تفريق، فتيامن منهم ست قبائل، وتشاءمت أربعة، حسبما تقدم في الحديث. قال الشعبي : أما غسان فلحقوا بالشام، وأما أنمار فلحقوا بيثرب، وأما خزاعة فلحقوا بتهامة، والأزد بنعمان. ه. قلت : وفيه مخالفة لظاهر الحديث، فإن أنمار جد خثعم وبجيلة، ولم يكونوا في المدينة.
والذي هو المشهور أن الأوس والخزرج هما اللذان قدما المدينة، فوجدوا فيها طائفة من بني إسرائيل، بعد قتلهم للعماليق. وسبب نزولهم بها : أن حَبْرين منهم مَرَّا بيثرب مع تُبع، فقالا له : نجد في علمنا أن هذه المدينة مهاجرَ نبي، يخرج في آخر الزمان، يكون سنه كذا وكذا، فاستوطناها، يترصَّدان خروجه صلى الله عليه وسلم، فمن نسلهما بقيت اليهود في المدينة، والأوس والخزرج هما ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأسد بن الغوث ابن بنت مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ. وولد مازن بن الأسد هم غسان، سموا بماء اليمن، شربوا منه. ويقال : غسان : ماء بالشمال شربوا منه، نُسبوا إليه. قال حسان١ :
أما سألت فإنا معشرٌ نجبٌ الأسْدُ نسبتُنا والماء غسان
﴿ إنَّ في ذلك لآيَاتٍ لكل صبَّارٍ ﴾ عن المعاصي ﴿ شكورٍ ﴾ للنعم، أو : لكل مؤمن ؛ لأن الإيمان نصفان ؛ نصفه صبر، ونصفه شكر.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : وجعلنا بين السائرين وبين منازل الحضرة المقدسة منازلَ ظاهرة، ينزلوها، ويرحلون عنها، آمنين من الرجوع، إن صَدَقوا في الطلب، وهي منازل كثيرة، وأهمها اثنا عشر مقاماً : التوبة، والخوف، والرجاء، والزهد، والصبر، والشكر، والتوكُّل، والرضا، والتسليم، والمراقبة، والمشاهدة. ومنازل الحضرة هي الفناء، والبقاء، وبقاء البقاء، والترقِّي في معاريج الأسرار والكشوفات، أبداً سرمداً. يقال للسائرين : سيروا فيها، وأقيموا في كل منزل منها، ليالي وأياماً، حتى يتحقق به نازله، ثم يرحل عنه إلى ما بعده. ثم إن قوماً سئموا من السير وادَّعوا القوة، فقالوا : ربَّنا باعد بين أسفارنا حتى يظهر عزمنا وقوتنا، وظلموا أنفسهم بذلك، ففرقناهم عنا كل تفريق، وعوّقناهم عن السير كل تعويق، ليكون ذلك آية وعبرة لمَن بعدهم، فلا يخرجون عن مقام الاستضعاف والمسكنة، والانكسار والذلة، " أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي ".

١ البيت في ديوان حسان بن ثابت ص ٢٧٩، ولسان العرب (غسس)، (غسن)، وجمهرة اللغة ص ٨٤٦، وتاج العروس (أزر)، (غسس).
وسبب الحرمان هو إبليس، كما قال تعالى :
﴿ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ * ﴿ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ وقد صدق عليهم إبليسُ ظَنَّه ﴾ الضمير في " عليهم " لكفار سبأ وغيرهم. وكأن إبليسَ أضمر في نفسه حين أقسم :﴿ لأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ ص : ٨٢ ] أنه يسلط عليهم، وظن أنه يتمكن منهم، فلما أغواهم وكفروا صدق ظنه فيهم. فمَن قرأ بالتخفيف ف " ظنه " : ظرف، أي : صَدق في ظنه. ومَن قرأ بالتشديد فظنه مفعول به، أي : وجد ظنه صادقاً عليهم حين كفروا ﴿ فاتَّبَعوه ﴾ أي : أهل سبأ ومَن دان دينهم، ﴿ إِلا فريقاً من المؤمنين ﴾ قللهم بالإضافة إلى الكفار، قال تعالى :﴿ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾
[ الأعراف : ١٧ ] وفي الحديث :" ما أنتم في أهل الشرك إلا كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود١ ".
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل مَن لم يصل إلى حضرة العيان صدق عليه بعض ظن الشيطان ؛ لأنه لما رأى بشرية آدم مجوفة، ظن أنه يجري معه مجرى الدم، فكل مَن لم يسد مجاريه بذكر الله، حتى يستولي الذكر على بشريته، فيصير قطعة من نور، فلا بد أن يدخل معه بعض وساوسه، ولا يزال يتسلّط على قلب ابن آدم، حتى يدخل حضرة القدس، فحينئذ يحرس منه، لقوله تعالى :﴿ إِنَّ عَبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾ [ الحجر : ٤٢ ]. وعباده الحقيقيون هم الذين تحرّروا مما سواه، فلم يبقَ لهم في هذا العالم علقة، وهم المرادون بقوله تعالى :﴿ إِلا فريقاً من المؤمنين ﴾ وما سلَّطه عليهم إلا ليتميز الخواص من العوام، فلولا ميادين النفوس، ومجاهدة إبليس، ما تحقق سير السائرين، أي : وما كان له عليهم من تسلُّط إلا لنعلم علم ظهور مَن يؤمن بالخصلة الآخرة، وهي الشهود، ممن هو منها في شك، ﴿ وربك على كل شيء حفيظ ﴾ يحفظ قلوب أوليائه من استيلاء غيره عليها. وبالله التوفيق.

١ أخرجه البخاري في الرقاق حديث ٦٥٢٨، ومسلم في الإيمان حديث ٣٧٦.
﴿ وما كان له عليهم من سلطانٍ ﴾ أي : ما كان لإبليس على مَن صدق ظنه عليهم من تسلُّط واستيلاء بالوسوسة، ﴿ إِلا لِنَعْلَم ﴾ موجوداً ما علمناه معدوماً ﴿ من يؤمنُ بالآخرةِ ممن هو منها في شكٍّ ﴾ أي : إِلا ليتعلق علمنا بذلك تعلُّقاً تنجيزيًّا، يترتب عليه الجزاء، أو : ليتميز المؤمن من الشاك، أو : ليؤمن مَن قُدّر إيمانُه، ويشك من قُدر ضلالُه. ﴿ وربك على كل شيءٍ حفيظٌ ﴾ محافظ رقيب، وفعيل ومفاعل أخوان.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل مَن لم يصل إلى حضرة العيان صدق عليه بعض ظن الشيطان ؛ لأنه لما رأى بشرية آدم مجوفة، ظن أنه يجري معه مجرى الدم، فكل مَن لم يسد مجاريه بذكر الله، حتى يستولي الذكر على بشريته، فيصير قطعة من نور، فلا بد أن يدخل معه بعض وساوسه، ولا يزال يتسلّط على قلب ابن آدم، حتى يدخل حضرة القدس، فحينئذ يحرس منه، لقوله تعالى :﴿ إِنَّ عَبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾ [ الحجر : ٤٢ ]. وعباده الحقيقيون هم الذين تحرّروا مما سواه، فلم يبقَ لهم في هذا العالم علقة، وهم المرادون بقوله تعالى :﴿ إِلا فريقاً من المؤمنين ﴾ وما سلَّطه عليهم إلا ليتميز الخواص من العوام، فلولا ميادين النفوس، ومجاهدة إبليس، ما تحقق سير السائرين، أي : وما كان له عليهم من تسلُّط إلا لنعلم علم ظهور مَن يؤمن بالخصلة الآخرة، وهي الشهود، ممن هو منها في شك، ﴿ وربك على كل شيء حفيظ ﴾ يحفظ قلوب أوليائه من استيلاء غيره عليها. وبالله التوفيق.
ولما كان تسلط إبليس جله من الشرك، الذي زين لهم، رده بقوله :
﴿ قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ ﴾ * ﴿ وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾.
قلت : حذف مفعولي زعم، أي : زعمتموهم آلهة تعبدونهم من دون الله، بدلالة السياق عليهما.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ قُلْ ﴾ لهم ﴿ ادعوا الذين زعمتم من دون الله ﴾ أي : زعمتموهم آلهة، فعبدتموهم من دون الله، من الأصنام والملائكة، وسميتموهم باسْمِهِ، فالتجئوا إليهم فيما يعروكم، كما تلتجئون إليه في اقتحام الشدائد الكبرى. وانتظروا استجابتهم لدعائكم كما تنتظرون استجابته. وهذا تعجيز وإقامة حجة على بطلان عبادتها. ويُروى أنها نزلت عند الجوع الذي أصاب قريشاً. ثم ذكر عجزهم فقال :﴿ لا يملكون مثقال ذرةٍ ﴾ من خير أو شر، ونفع أو ضر ﴿ في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شِرْكٍ ﴾ أي : وما لهم في هذين العالَمين ؛ العلوي والسفلي، من شرك في الخلق، ولا في المُلك، ﴿ وما له ﴾ تعالى ﴿ منهم ﴾ من آلهتهم ﴿ من ظهيرٍ ﴾ معين يعينه على تدبير خلقه. يريد أنه على هذه الصفة من العجز، فكيف يصحُّ أن يُدْعَوا كما يدعى تعالى، أو يُرْجَوا كما يُرجى سبحانه ؟
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل مَن آثر شيئاً أو أحبّه سوى الله، أو خافه، يقال له : ادعوا الذين زعمتم أنهم ينفعونكم أو يضرونكم، من دون الله، ﴿ لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض... ﴾ الآية. وأما محبة الأنبياء والأولياء والعلماء الأتقياء فهي محبة الله، لأنهم يُوصلون إليه، فلم يحبهم أحد إلا لأجل الله، فتنفع شفاعتهم بإذن الله. وقوله :﴿ حتى إذا فُزع عن قلوبهم... ﴾ الخ، قال الورتجبي : وصف سبحانه أهل الوجد، من الملائكة المقربين، وذلك من صولة الخطاب، فإذا سمعوا كلام الحق، من نفس العظمة، وقعوا في بحار هيبته وإجلاله، حتى فنوا تحت سلطان كبريائه، ولم يعرفوا معنى الخطاب في أول وارد السلطنة. فإذا فاقوا سألوا معنى الخطاب من جبريل عليه السلام، فهو من أهل الصحو والتمكين في المعرفة. هـ.
ثم أبطل قولهم :﴿ هَؤُلآَءِ شُفَعَآؤُنَا عِندَ اللهِ ﴾ [ يونس : ١٨ ] بقوله :﴿ ولا تنفعُ الشفاعةُ عنده إِلا لمن أَذِنَ له ﴾ تعالى في الشفاعة، ممن له جاه عنده، كالأنبياء، والملائكة، والأولياء، والعلماء الأتقياء، وغيرهم ممن له مزية عند الله. وقرأ أبو عمرو والأخوان بالبناء للمفعول، أي : إلا مَن وقع الإذن للشفيع لأجله. ثم ردّ على مَن زعم من الكفار أن الملائكة تشفع، قطعاً ؛ لمكانها من الله، فقال :﴿ حتى إِذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق ﴾ فحتى : غاية لمحذوف، أي : وكيف تشفع قبل الإذن، وهي في غاية الخوف والهيبة من الله، إذا سمعوا الوحي صعقوا، ﴿ حتى إِذا فُزِّع عن قلوبهم ﴾ أي : كشف الفزع عن قلوبهم ﴿ قالوا ماذا قال ربكم ﴾ من الوحي ؟ ﴿ قالوا الحقَّ ﴾ فمَن كان هذا وصفه لا يجترئ على الشفاعة إلا بإذن خاص. قال الكواشي : إنه يفزع عن قلوبهم حين سمعوا كلام الله لجبريل بالوحي، قال صلى الله عليه وسلم :" إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر لأهل السماء أخذت السماوات منه رَجْفةٌ أو قال : رَعْدَةٌ شديدةٌ خوفاً من ذلك، فإذا سمع أهل السماوات صَعِقُوا، وخَرُّوا سُجداً، فيكون أول مَن يرفع رأسه جبريل، فيُكلمه من وَحْيِه بما أراد، ثم يَمُرُّ على سماءٍ سماء، إلى أن ينزل بالوحي، فإذا مَرَّ على الملائكة سألوه، ثم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ فيقول جبريل : قال الحقَّ ". نصب المفعول بقالوا، وجمع الضمير تعظيماً لله تعالى.
ثم قال : وفي الحديث :" إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء صلصلة، كجر السلسلة على الصفا، فيصعقون، حتى يأتيهم جبريل، فيفزع عن قلوبهم أي : يكشف ويخبرهم الخبر " ثم قال : وقيل المعنى : أنه لا يشفع أحد إلا بعد الإذن، ولا يشعر به إلا المقربون ؛ لِما غشي عليهم من هول ذلك اليوم، فإذا ذهب الفزع عن قلوبهم، قالوا : ماذا قال ربكم في الشفاعة ؟ قالوا الحق، أي : أذن فيها. ه. ومثل هذا لابن عطية، وتبعه ابن جزي، قال : الضمير في " قلوبهم "، وفي " قالوا " للملائكة. فإن قيل : كيف ذلك، ولم يتقدم لهم ذكر ؟ فالجواب : أنه قد وقعت إليهم إشارة بقوله :﴿ وَلا تنفع الشفاعة عنده إلا لمَن أذن له ﴾ لأن بعض العرب كانوا يعبدون الملائكة، ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فذكر الشفاعة يقتضي ذكر الشافعين، فعاد الضمير على الشفعاء، الذين دلَّ عليهم ذكر الشفاعة. ه.
وقرأ يعقوب وابن عامر " فَزع " بفتح الفاء بالبناء للفاعل. والتضعيف للسلب والإزالة، أي : سلب الفزع وأزاله عن قلوبهم، مِثل قردت البعير : إذا أزلت قراده، ومَن بناه للمفعول فالجار نائب. ﴿ وهو العليُّ الكبيرُ ﴾ أي : المتعالي عن سمة الحدوث، وإدراك العقول، الكبير الشأن، فلا يقدر أحد على شفاعة بلا إذنه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل مَن آثر شيئاً أو أحبّه سوى الله، أو خافه، يقال له : ادعوا الذين زعمتم أنهم ينفعونكم أو يضرونكم، من دون الله، ﴿ لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض... ﴾ الآية. وأما محبة الأنبياء والأولياء والعلماء الأتقياء فهي محبة الله، لأنهم يُوصلون إليه، فلم يحبهم أحد إلا لأجل الله، فتنفع شفاعتهم بإذن الله. وقوله :﴿ حتى إذا فُزع عن قلوبهم... ﴾ الخ، قال الورتجبي : وصف سبحانه أهل الوجد، من الملائكة المقربين، وذلك من صولة الخطاب، فإذا سمعوا كلام الحق، من نفس العظمة، وقعوا في بحار هيبته وإجلاله، حتى فنوا تحت سلطان كبريائه، ولم يعرفوا معنى الخطاب في أول وارد السلطنة. فإذا فاقوا سألوا معنى الخطاب من جبريل عليه السلام، فهو من أهل الصحو والتمكين في المعرفة. هـ.
ثم تمم قوله :﴿ لا يملكون مثقال ذرة ﴾ أي : لا من رزق ولا غيره، فقال :
﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ * ﴿ قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ * ﴿ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ﴾ * ﴿ قُلْ أَرُونِيَ الَّذيِنَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَآءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحْكِيمُ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ قلْ ﴾ لهم :﴿ من يرزقكم من السماوات والأرض ﴾ أي : بأسباب سماوية وأرضية ؟ ﴿ قل اللهُ ﴾ وحده. أمره أن يقرّرهم، ثم أمره بأن يتولى الإجابة والإقرار عنهم، أي : يرزقكم الله لا غيره، وذلك للإشعار بأنهم مقرُّون به بقلوبهم، إلا أنهم ربما أبَوا أن يتكلموا به، لأنهم إن تفوّهوا بأن الله رازقهم لزمهم أن يقال لهم : فما لكم لا تعبدون مَن يرزقكم، وتؤثرون عليه مَن لا يقدر على شيء ؟
ثم أمره أن يقول لهم بعد الإلزام والإحجاج :﴿ وإِنا وإِياكم لعلى هُدىً أو في ضلالٍ مبين ﴾ أي : ما نحن وأنتم على حالة واحدة، بلى على حالين متضادين، واحدنا مهتد، وهو مَن اتضحت حجته، والآخر ضال، وهو مَن قامت عليه الحجة. ومعناه : أن أحد الفريقين من الموحدين ومن المشركين لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال. وهذا من كلام المنصف، الذي كل مَن سمعه، من مُوالٍ ومعاند، قال لمَن خوطب به : قد أنصفك صاحبك. وفي ذكره بعد تقديم ما قدّم من التقرير : دلالة واضحة على مَن هو من الفريقين على الهدى، ومَن هو في الضلال المبين، ولكن التعريض أوصل بالمجادل إلى الغرض، ونحوه قولك لمَن تحقق كذبه : إن أحدنا لكاذب، ويحتمل أن يكون من تجاهل العارف.
قال الكواشي : وهذا من المعاريض، وقد ثبت أن مَن اتبع محمداً على الهدى، ومَن لم يتبعه على الضلال. ه ويحتمل أن يكون من اللف والنشر المرتّب. وفيه ضعف. وخولف بين حرفي الجار، الداخلين على الهدى والضلال ؛ لأن صاحب الهدى كأنه مستعلٍ على فرس جواد، يركضُه حيث شاء، والضال كأنه منغمس في ظلام، لا يدري أين يتوجّه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : أرزاق الأرواح والأشباح بيد الله، فأهل القلوب من أهل التجريد اشتغلوا بطلب أرزاق الأرواح، وغابوا عن طلب أرزاق الأشباح، مع كونهم مفتقرين إليه، أي : غابوا عن أسبابه. وأهل الظاهر اشتغلوا بطلب أرزاق الأشباح، وغابوا عن التوجُّه إلى أرزاق الأرواح، مع كونهم أحوج الناس إليه. وكل فريق يرجح ما هو فيه، فأهل الأسباب يعترضون على أهل التجريد، ويرجحون تعاطي الأسباب، وأهل التجريد يرجحون مقام التجريد، فيقولون لهم : وإنا أو إياكم لعلى هُدىً أو في ضلال مبين. قل : لا تُسألون عما أجرمنا، بزعمكم، من ترك الأسباب، ولا نُسأل عما تعملون. وسيجمع الله بيننا، ويحكم بما هو الحق، فإن كنتم تعتمدون على الأسباب، وتركنون إليها، فهو شرك، أروني الذين ألحقتم به شركاء، كلا، بل هو الله العزيز الحكيم، يُعز أولياءه، المتوجهين إليه، الحكيم في إسقاط مَن أعرض عنه إلى غيره.
قال القشيري :﴿ قل يجمع بيننا ربنا ﴾ أخبر سبحانه أنه يجمع بين عباده، ثم يعاملهم في حال اجتماعهم، بغير ما يعاملهم في حال افتراقهم، وللاجتماع أثرٌ كبيرٌ في الشريعة، وللصلاة في الجماعة أثر مخصوص. ثم قال : وللشيوخ في الاجتماع زوائد، ويستروحون إلى هذه الآية :﴿ قل يجمع بينا ربنا ثم يفتح... ﴾. هـ.

﴿ قل لا تُسألون عمّا أجرمنا ولا نُسأل عما تعملون ﴾ أي : ليس القصد بدعائي إياكم خوفاً من ضرر كفركم، وإنما القصد بما أدعوكم إليه الخير لكم، فلا يُسأل أحد عن عمل الآخر، وإنما يُسأل كل واحد عن عمله. وهذا أيضاً أدخل في الإنصاف، حيث أسند الإجرام إلى أنفسهم، وهو محظورٌ، والعمل إلى المخَاطبين، وهو مأمورٌ به مشكورٌ.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : أرزاق الأرواح والأشباح بيد الله، فأهل القلوب من أهل التجريد اشتغلوا بطلب أرزاق الأرواح، وغابوا عن طلب أرزاق الأشباح، مع كونهم مفتقرين إليه، أي : غابوا عن أسبابه. وأهل الظاهر اشتغلوا بطلب أرزاق الأشباح، وغابوا عن التوجُّه إلى أرزاق الأرواح، مع كونهم أحوج الناس إليه. وكل فريق يرجح ما هو فيه، فأهل الأسباب يعترضون على أهل التجريد، ويرجحون تعاطي الأسباب، وأهل التجريد يرجحون مقام التجريد، فيقولون لهم : وإنا أو إياكم لعلى هُدىً أو في ضلال مبين. قل : لا تُسألون عما أجرمنا، بزعمكم، من ترك الأسباب، ولا نُسأل عما تعملون. وسيجمع الله بيننا، ويحكم بما هو الحق، فإن كنتم تعتمدون على الأسباب، وتركنون إليها، فهو شرك، أروني الذين ألحقتم به شركاء، كلا، بل هو الله العزيز الحكيم، يُعز أولياءه، المتوجهين إليه، الحكيم في إسقاط مَن أعرض عنه إلى غيره.
قال القشيري :﴿ قل يجمع بيننا ربنا ﴾ أخبر سبحانه أنه يجمع بين عباده، ثم يعاملهم في حال اجتماعهم، بغير ما يعاملهم في حال افتراقهم، وللاجتماع أثرٌ كبيرٌ في الشريعة، وللصلاة في الجماعة أثر مخصوص. ثم قال : وللشيوخ في الاجتماع زوائد، ويستروحون إلى هذه الآية :﴿ قل يجمع بينا ربنا ثم يفتح... ﴾. هـ.

﴿ قل يجمع بيننا ربنا ﴾ يوم القيامة، ﴿ ثم يَفتحُ ﴾ أي : يحكم ﴿ بيننا بالحق ﴾ بلا جور ولا ميل، فيدخل المحقّين الجنة، والمبطلين النار، ﴿ وهو الفتاحُ ﴾ الحاكم ﴿ العليمُ ﴾ بما ينبغي أن يحكم به.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : أرزاق الأرواح والأشباح بيد الله، فأهل القلوب من أهل التجريد اشتغلوا بطلب أرزاق الأرواح، وغابوا عن طلب أرزاق الأشباح، مع كونهم مفتقرين إليه، أي : غابوا عن أسبابه. وأهل الظاهر اشتغلوا بطلب أرزاق الأشباح، وغابوا عن التوجُّه إلى أرزاق الأرواح، مع كونهم أحوج الناس إليه. وكل فريق يرجح ما هو فيه، فأهل الأسباب يعترضون على أهل التجريد، ويرجحون تعاطي الأسباب، وأهل التجريد يرجحون مقام التجريد، فيقولون لهم : وإنا أو إياكم لعلى هُدىً أو في ضلال مبين. قل : لا تُسألون عما أجرمنا، بزعمكم، من ترك الأسباب، ولا نُسأل عما تعملون. وسيجمع الله بيننا، ويحكم بما هو الحق، فإن كنتم تعتمدون على الأسباب، وتركنون إليها، فهو شرك، أروني الذين ألحقتم به شركاء، كلا، بل هو الله العزيز الحكيم، يُعز أولياءه، المتوجهين إليه، الحكيم في إسقاط مَن أعرض عنه إلى غيره.
قال القشيري :﴿ قل يجمع بيننا ربنا ﴾ أخبر سبحانه أنه يجمع بين عباده، ثم يعاملهم في حال اجتماعهم، بغير ما يعاملهم في حال افتراقهم، وللاجتماع أثرٌ كبيرٌ في الشريعة، وللصلاة في الجماعة أثر مخصوص. ثم قال : وللشيوخ في الاجتماع زوائد، ويستروحون إلى هذه الآية :﴿ قل يجمع بينا ربنا ثم يفتح... ﴾. هـ.

﴿ قل أَرونيَ الذي ألحقتم ﴾ أي : ألحقتموهم ﴿ به شركاءَ ﴾ في العبادة معه، بأي صفة ألحقتموهم به شركاء في استحقاق العبادة، وهم أعجز شيء. قال القشيري : كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك ؛ لانهماكهم في ضلالهم، مع تحققهم بأنها جمادات لا تفقه ولا تعقل، ولا تسمع ولا تبصر، ولا شبهة لهم غير تقليد أسلافهم. ه. والمعنى قوله :﴿ أَروني ﴾ مع كونه يراهم : أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله، وأن يطلعهم على حالة الإشراك به، ولذلك زجرهم بقوله :﴿ كلا ﴾ أي : ارتدعوا عن هذه المقالة الشنعاء، وتنبّهوا عن ضلالكم. ﴿ بل هو الله العزيزُ ﴾ أي : الغالب القاهر، فلا يشاركه أحد، و " هو " : ضمير الشأن، ﴿ الحكيمُ ﴾ في تدبيره وصنعه. والمعنى : بل الوحدانية لله وحده ؛ لأن الكلام إنما وقع في الشركة، ولا نزاع في إثبات الله ووجوده، وإنما النزاع في وحدانيته. أي : بل هو الله وحده العزيز الحكيم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : أرزاق الأرواح والأشباح بيد الله، فأهل القلوب من أهل التجريد اشتغلوا بطلب أرزاق الأرواح، وغابوا عن طلب أرزاق الأشباح، مع كونهم مفتقرين إليه، أي : غابوا عن أسبابه. وأهل الظاهر اشتغلوا بطلب أرزاق الأشباح، وغابوا عن التوجُّه إلى أرزاق الأرواح، مع كونهم أحوج الناس إليه. وكل فريق يرجح ما هو فيه، فأهل الأسباب يعترضون على أهل التجريد، ويرجحون تعاطي الأسباب، وأهل التجريد يرجحون مقام التجريد، فيقولون لهم : وإنا أو إياكم لعلى هُدىً أو في ضلال مبين. قل : لا تُسألون عما أجرمنا، بزعمكم، من ترك الأسباب، ولا نُسأل عما تعملون. وسيجمع الله بيننا، ويحكم بما هو الحق، فإن كنتم تعتمدون على الأسباب، وتركنون إليها، فهو شرك، أروني الذين ألحقتم به شركاء، كلا، بل هو الله العزيز الحكيم، يُعز أولياءه، المتوجهين إليه، الحكيم في إسقاط مَن أعرض عنه إلى غيره.
قال القشيري :﴿ قل يجمع بيننا ربنا ﴾ أخبر سبحانه أنه يجمع بين عباده، ثم يعاملهم في حال اجتماعهم، بغير ما يعاملهم في حال افتراقهم، وللاجتماع أثرٌ كبيرٌ في الشريعة، وللصلاة في الجماعة أثر مخصوص. ثم قال : وللشيوخ في الاجتماع زوائد، ويستروحون إلى هذه الآية :﴿ قل يجمع بينا ربنا ثم يفتح... ﴾. هـ.

ولمَّا ذكر ما منّ به على داود وسليمان، وذكر وبال مَن لم يشكر النعم، ذكر ما منّ به على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من عموم الرسالة والدعوة، فقال :
﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ * ﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ * ﴿ قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لاَّ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ ﴾.
قلت :" كافة " : حال من " الناس "، على قول الفارسي وابن جني وابن كيسان، واختاره ابن مالك. وقال الأكثر : إنه حال من الكاف، والتاء للمبالغة، وما قاله ابن مالك أحسن. انظر الأزهري.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ وما أرسلناك إلا كافةً للناس ﴾ أي : جميعاً، إنسهم وجِنّهم، عَربيهم وعجميهم، أحمرهم وأسودهم. وقدّم الحال للاهتمام. قال صلى الله عليه وسلم :" أُعطيتُ خمساً لم يُعطهنّ أحدٌ قبلي : بُعثتُ إلى الأحمر والأسود، وجُعلتْ لي الأرضُ مسجداً وطهوراً، وأُحلّت لي الغنائمُ، ولم تُحل لأحدٍ قبلي، ونُصِرْتُ بالرُّعْبِ مسيرة شهر، وأُعطيتُ الشفاعة، فادخرتها لأمتي يوم القيامة، وهي إن شاء الله نائلة مَن لا يشرك بالله شيئاً١ ".
أو : وما أرسلناك إلا رسالة عامة لهم، محيطة بهم ؛ لأنها إذا عمتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد. وقال الزجاج : معنى الكافة في اللغة : الإحاطة، والمعنى : أرسلناك جامعاً للناس في الإنذار والإبلاغ، على أنه حال من الكاف، والتاء للمبالغة، كالراوية والعلاّمة. حال كونك ﴿ بشيراً ﴾ بالفضل العظيم لمن أقر، ﴿ ونذيراً ﴾ بالعذاب لمن أصرّ، ﴿ ولكنَّ أكثرَ الناس ﴾ أي : الكفرة، ﴿ لا يعلمون ﴾ ذلك، فيحملهم جهلهم على مخالفتك.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الداعون إلى الله على فرقتين : فرقة تدعو إلى معرفة أحكام الله، وهم العلماء، وفرقة تدعو إلى معرفة ذات الله بالعيان، وهم الأولياء العارفون بالله، فالأولون دعوتُهم خاصة بمَن في مذهبهم، والآخرون دعوتهم عامة ؛ إذ معرفة الله تعالى الذوقية لم يقع فيها اختلاف مذاهب، فأهل المشرق والمغرب كلهم متفقون عليها، فشيخ واحد يربي جميع أهل المذاهب، إن خضعوا له، وفي ذلك يقول صاحب المباحث :
مذاهبُ الناس على اختلاف ومذهب القوم على ائتلاف

وقال الشاعر :
عبارتنا شتى وحُسنُك واحد وكلٌّ إلى ذاك الجَمَال يُشير
ويقول مَن استبعد الفتح : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ؟ قل : لكم ميعاد يوم عيّنه للفتح، لا يتقدّم ولا يتأخر. فالأدب : الخدمة وعدم الاستعجال.


١ أخرجه البخاري في التيمم حديث ٣٣٥، ومسلم في المساجد حديث ٣..
﴿ ويقولون ﴾ من فرط جهلهم :﴿ متى هذا الوعدُ ﴾ أي : القيامة، المشار إليها بقوله :﴿ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ﴾ [ سبأ : ٢٦ ] أو : الوعد بالعذاب الذي أنذرتَ به. وأطلق الوعد على الموعود به ؛ لأنه من متعلقاته، ﴿ إِن كنتم صادقين ﴾ في إتيانه ؟ ﴿ قل لكم ميعادُ يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الداعون إلى الله على فرقتين : فرقة تدعو إلى معرفة أحكام الله، وهم العلماء، وفرقة تدعو إلى معرفة ذات الله بالعيان، وهم الأولياء العارفون بالله، فالأولون دعوتُهم خاصة بمَن في مذهبهم، والآخرون دعوتهم عامة ؛ إذ معرفة الله تعالى الذوقية لم يقع فيها اختلاف مذاهب، فأهل المشرق والمغرب كلهم متفقون عليها، فشيخ واحد يربي جميع أهل المذاهب، إن خضعوا له، وفي ذلك يقول صاحب المباحث :
مذاهبُ الناس على اختلاف ومذهب القوم على ائتلاف

وقال الشاعر :
عبارتنا شتى وحُسنُك واحد وكلٌّ إلى ذاك الجَمَال يُشير
ويقول مَن استبعد الفتح : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ؟ قل : لكم ميعاد يوم عيّنه للفتح، لا يتقدّم ولا يتأخر. فالأدب : الخدمة وعدم الاستعجال.

﴿ قل لكم ميعادُ يوم ﴾ " الميعاد " : ظرف الوعد، من مكان، أو زمان. وهو هنا الزمان، بدليل مَن قرأ " ميعادٌ يومٌ " فأبدل منه " اليوم ". وأما الإضافة فإضافة تبيين، كما تقول : بعير سائبة، أي : قد وقت لعذابكم يوماً ﴿ لا تستأخرون عنه ساعةً ولا تستقدمون ﴾ أي : لا يمكنكم التأخُّر عنه بالإمهال، ولا التقدُّم عليه بالاستعجال. ووجه انطباق هذا الجواب على سؤالهم : أنهم سألوا عن ذلك، وهم منكرون به، تعنُّتاً لا استرشاداً، فجاء الجوابُ على طريق التهديد مطابقاً للسؤال، على وجه الإنكار والتعنُّت، وأنهم مُرْصَدون له، يفاجئهم، فلا يستطيعون تأخُّراً، ولا تقدُّماً عليه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الداعون إلى الله على فرقتين : فرقة تدعو إلى معرفة أحكام الله، وهم العلماء، وفرقة تدعو إلى معرفة ذات الله بالعيان، وهم الأولياء العارفون بالله، فالأولون دعوتُهم خاصة بمَن في مذهبهم، والآخرون دعوتهم عامة ؛ إذ معرفة الله تعالى الذوقية لم يقع فيها اختلاف مذاهب، فأهل المشرق والمغرب كلهم متفقون عليها، فشيخ واحد يربي جميع أهل المذاهب، إن خضعوا له، وفي ذلك يقول صاحب المباحث :
مذاهبُ الناس على اختلاف ومذهب القوم على ائتلاف

وقال الشاعر :
عبارتنا شتى وحُسنُك واحد وكلٌّ إلى ذاك الجَمَال يُشير
ويقول مَن استبعد الفتح : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ؟ قل : لكم ميعاد يوم عيّنه للفتح، لا يتقدّم ولا يتأخر. فالأدب : الخدمة وعدم الاستعجال.

ثم ذكر ما يلقون في ذلك الميعاد على كفرهم، فقال :
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ﴾ * ﴿ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ ﴾ * ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ اْلَعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلاَلَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾.
قلت : أتى بالعاطف في قوله :﴿ وقال ﴾ الأخيرة، وترَك في الأولى ؛ لأن قول الرؤساء جواب لقول المستضعفين، فحسن ترك العاطف، ثم جيء بكلام آخر للمستضعفين، فعطفه على كلامهم الأول.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ وقال الذين كفروا ﴾ كأبي جهل وأضرابه :﴿ لن نُؤمن بهذا القرآنِ ولا بالذي بين يديه ﴾ أي : ما نزل قبل القرآن، من كُتب الله تعالى، الدالة على البعث. وقيل : إن كفار قريش سألوا أهل الكتاب عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخبروهم أنهم يجدون نعته في كتبهم، فغضبوا، وقالوا ذلك. وقيل :﴿ الذين بين يديه ﴾ : القيامة والجنة والنار، فكأنهم جحدوا أن يكون القرآنُ من عند الله، وأن يكون ما دلّ عليه من الإعادة للجزاء حقيقة.
﴿ ولو ترى ﴾ يا محمد، أو مَن تصح منه الرؤية، ﴿ إِذِ الظالمون موقوفُون ﴾ محبوسون ﴿ عند ربهم ﴾ في موقف الحسابِ ﴿ يَرجِعُ ﴾ يردّ ﴿ بعضُهم إِلى بعضٍ القولَ ﴾ في الجدال والمحاورة. أخبر عن عاقبتهم ومآلهم في الآخرة، فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم، أو للمخاطب : ولو ترى في الآخرة موقفهم، وهم يتجاذبُون أطراف المحاورة، ويتراجعونها بينهم، لرأيت أمراً فظيعاً، فحذف الجواب ؛ لأن العبارة لا تفي به. ثم بيّن بعض محاورتهم بقوله :﴿ يقول الذين استُضْعِفوا ﴾ أي : الأتباع السفلة ﴿ للذين استكبروا ﴾ أي : الرؤساء المقدّمين :﴿ لولا أنتم لكنا مؤمنين ﴾ لولا دعاؤكم إيّانا إلى الكفر لكنا مؤمنين بالله ورسوله.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل مَن له رئاسة وجاه، عالماً كان أو جاهلاً، وصدّ الناس عن طريق التربية على يد المشايخ، يقع له هذا الخصام، مع مَن صدّهم من ضعفاء الناس، حيث يرتفع المقربون، ويسقط الغافلون من تلك المراتب، فيقع الندم والتحسُّر، ويتبرأ الرؤساء من المرؤوسين من عامة أهل اليمين. قال القشيري : وهكذا أصحابُ الزلاتِ، الأخلاء في الفساد ـ أي : يتبرأ بعضهم من بعض ـ وكذلك الجوارحُ والأعضاء، يشهد بعضها على بعض، اليدُ تقول للجملة : أخذت، العين تقول : أبْصرت، والاختلاف في الجملة عقوبة. ومَنْ عمل بالمعاصي أخرج الله عليه مَن كان أطوع له، ولكنهم لا يعلمون ذلك. ولو علموا لاعتذروا، ولو اعتذروا لتابوا وتوقفوا، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً. هـ.
﴿ قال الذين استكبروا للذين استُضْعِفوا أَنحنُ صَدَدْناكم ﴾ رددناكم ﴿ عن الهُدى بعد إِذ جاءكم بل كنتم مجرمين ﴾ أي : بل أنتم صددتم باختباركم، ولم نقهركم على الكفر. أنكروا أنهم كانوا صادّين لهم عن الإيمان، وأثبتوا أنهم هم الذين صدُّوا أنفسهم، حيث أعرضوا عن الهدى، وآثروا التقليد عليه. وإنما وقعت " إذ " مضافاً إليها، وإن كانت " إذ " و " إذا " من الظروف اللازمة للظرفية ؛ لأنه قد اتّسع في الزمان ما لم يتَسع في غيره.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل مَن له رئاسة وجاه، عالماً كان أو جاهلاً، وصدّ الناس عن طريق التربية على يد المشايخ، يقع له هذا الخصام، مع مَن صدّهم من ضعفاء الناس، حيث يرتفع المقربون، ويسقط الغافلون من تلك المراتب، فيقع الندم والتحسُّر، ويتبرأ الرؤساء من المرؤوسين من عامة أهل اليمين. قال القشيري : وهكذا أصحابُ الزلاتِ، الأخلاء في الفساد ـ أي : يتبرأ بعضهم من بعض ـ وكذلك الجوارحُ والأعضاء، يشهد بعضها على بعض، اليدُ تقول للجملة : أخذت، العين تقول : أبْصرت، والاختلاف في الجملة عقوبة. ومَنْ عمل بالمعاصي أخرج الله عليه مَن كان أطوع له، ولكنهم لا يعلمون ذلك. ولو علموا لاعتذروا، ولو اعتذروا لتابوا وتوقفوا، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً. هـ.
و﴿ مكر الليل ﴾ : الإضافة على معنى " في "، وإضافة المكر إلى الليل على الاتساع، بإجراء الثاني مجرى المفعول به، وإضافة المكر إليه، أو : جعل الليل والنهار ماكرين بهم مجازاً.
﴿ وقال الذين استُضعفوا للذين استكبروا بل مكرُ الليلِ والنهارِ ﴾ أي : بل مكركم بنا بالليل والنهار هو الذي صدّنا عن الهدى. أو : مَكَرَ بنا الليل والنهار، وطولُ السلامة، حتى ظننا أنكم على حق فقلدناكم. ﴿ إِذ تأمروننا أن نكفرَ بالله ونَجْعَلَ له أنداداً ﴾ أشباهاً، نعبدها معه. والحاصل : أن المستكبرين لَمَّا أنكروا أن يكونوا هم السبب في كفر المستضعفين، وأثبتوا أن ذلك بسبب اختيارهم، كرّ عليهم المستضعفون بقولهم :﴿ بل مكر الليل والنهار ﴾ فأبطلوا إضرابهم بإضرابهم، كأنهم قالوا : ما كان الإجرامُ من جهتنا، بل من جهة مكركم بنا دائماً، ليلاً ونهاراً، وحملُكم إيّانا على الشرك واتخاذ الأنداد.
ثم حصل الندم حيث لم ينفع، كما قال تعالى :﴿ وأسَرُّوا الندامةَ لَمَّا رَأَوُا العذابَ ﴾ أي : أضمرَ الندم كِلاَ الفريقين، وأخفاه عن رفيقه، مخافة التعيير، لَمّا رأوا العذاب، وتحققوا لحوقه بهم، فندم المستكبرون على إضلالهم وضلالهم، والمستضعفون على ضلالهم واتباعهم. وقيل : معنى أسروا : أظهروا، فهو من الأضداد. ﴿ وجعلنا الأغلالَ في أعناق الذين كفروا ﴾ أي : في أعناقهم. فأظهر في محل الإضمار ؛ للدلالة على ما استوجبوا به الأغلال، وهو كفرهم. ﴿ هل يُجزون إِلا ما كانوا يعملون ﴾ أي : لا يفعل بهم إلا ما استوجبته أعمالُهم الخبيثة في الدنيا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل مَن له رئاسة وجاه، عالماً كان أو جاهلاً، وصدّ الناس عن طريق التربية على يد المشايخ، يقع له هذا الخصام، مع مَن صدّهم من ضعفاء الناس، حيث يرتفع المقربون، ويسقط الغافلون من تلك المراتب، فيقع الندم والتحسُّر، ويتبرأ الرؤساء من المرؤوسين من عامة أهل اليمين. قال القشيري : وهكذا أصحابُ الزلاتِ، الأخلاء في الفساد ـ أي : يتبرأ بعضهم من بعض ـ وكذلك الجوارحُ والأعضاء، يشهد بعضها على بعض، اليدُ تقول للجملة : أخذت، العين تقول : أبْصرت، والاختلاف في الجملة عقوبة. ومَنْ عمل بالمعاصي أخرج الله عليه مَن كان أطوع له، ولكنهم لا يعلمون ذلك. ولو علموا لاعتذروا، ولو اعتذروا لتابوا وتوقفوا، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً. هـ.
ثم سلى رسوله، فقال :
﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾ * ﴿ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾ * ﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ وما أرسلنا في قريةٍ من نذيرٍ ﴾ رسول ﴿ إِلا قال مُتْرَفُوهَا ﴾ : متنعّموها، ورؤساؤها :﴿ إِنا بما أُرسلتم به كافرون ﴾ فهذه تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما لقي من رؤساء قومه من التكذيب، والكفر بما جاء به، وأنه لم يرسل قطّ إلى أهل قرية من نذير إلا قالوا له مثل ما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أهلُ مكة. وتخصيص المتنعمين بالتكذيب ؛ لأن الداعي إلى التكبُّر، وعدم الخضوع للغير ؛ هو الانهماك في الشهوات، والاستهانة بمَن لم يحظَ بها، جهلاً، ولذلك افتخروا بالأموال الفانية، كما قال تعالى :﴿ وقالوا نحن أكثرُ أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذَّبين ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ما حاز الخصوصية وتبع أهلها إلا ضعفاء المال والجاه، الذين هم أتباع الرسل، فهم الذين حَطُّوا رؤوسهم، وباعوا نفوسهم وأموالهم لله، وبذلوها لمن يُعرّفهم به، فعوّضهم جنة المعارف، يتبوؤون منها حيث شاؤوا، وأما مَن له جاه أو مال فقلّ مَن يحط رأسه منهم، إلا مَن سبقت له العناية الكبرى. قال القشيري : بعد كلام : ولكنها أقسام سبقت، وأحكامُ حقت، ثم الله غالبٌ على أمره. ﴿ وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً ﴾ وليس هذا بكثرة الأموال والأولاد، وإنما هي ببصائر مفتوحة لقوم، ومسدودة لقوم. هـ.
﴿ وقالوا نحن أكثرُ أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذَّبين ﴾ رأوا من فرط جهلهم أنهم أكرم على الله من أن يعذّبهم. نظروا إلى أحوالهم في الدنيا، وظنوا أنهم لو لم يُكرموا على الله لَمَا رزقهم ذلك. ولولا أن المؤمنين هانوا عليه لما حرمهم ذلك، فأبطل الله رأيهم الفاسد بقوله :﴿ قل إِن ربي يَبْسُطُ الرزقَ لمن يشاءُ ويقدرُ ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ما حاز الخصوصية وتبع أهلها إلا ضعفاء المال والجاه، الذين هم أتباع الرسل، فهم الذين حَطُّوا رؤوسهم، وباعوا نفوسهم وأموالهم لله، وبذلوها لمن يُعرّفهم به، فعوّضهم جنة المعارف، يتبوؤون منها حيث شاؤوا، وأما مَن له جاه أو مال فقلّ مَن يحط رأسه منهم، إلا مَن سبقت له العناية الكبرى. قال القشيري : بعد كلام : ولكنها أقسام سبقت، وأحكامُ حقت، ثم الله غالبٌ على أمره. ﴿ وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً ﴾ وليس هذا بكثرة الأموال والأولاد، وإنما هي ببصائر مفتوحة لقوم، ومسدودة لقوم. هـ.
﴿ قل إِن ربي يَبْسُطُ الرزقَ لمن يشاءُ ويقدرُ ﴾ أي : يُضيقه على مَن يشاء، فإن الرزق بيد الله، يقسمه كيف يشاء. فربما وسّع على العاصي، استدراجاً، وضيَّق على المطيع، تمحيصاً وتطهيراً، فيوسع على المطيع، ويضيق على العاصي، وربما وسّع عليهما على حسب مشيئته، فلا يُقاسُ عليهما أمر الثواب، ولو كان ذلك لكرامة وهوان يُوجبانه لم يكن بمشيئته. ﴿ ولكن أكثرَ الناس لا يعلمون ﴾ فيظنون أن كثرة الأموال والأولاد للشرف والكرامة عند الله. وقد تكون للاستدراج، وصاحبها لا يشعر.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ما حاز الخصوصية وتبع أهلها إلا ضعفاء المال والجاه، الذين هم أتباع الرسل، فهم الذين حَطُّوا رؤوسهم، وباعوا نفوسهم وأموالهم لله، وبذلوها لمن يُعرّفهم به، فعوّضهم جنة المعارف، يتبوؤون منها حيث شاؤوا، وأما مَن له جاه أو مال فقلّ مَن يحط رأسه منهم، إلا مَن سبقت له العناية الكبرى. قال القشيري : بعد كلام : ولكنها أقسام سبقت، وأحكامُ حقت، ثم الله غالبٌ على أمره. ﴿ وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً ﴾ وليس هذا بكثرة الأموال والأولاد، وإنما هي ببصائر مفتوحة لقوم، ومسدودة لقوم. هـ.
ثم قال تعالى :
﴿ وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ﴾ * ﴿ وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ﴾.
قلت : جمع التكسير يُذكّر ويؤنث للعقلاء وغيرهم، ولذلك قال :﴿ بالتي ﴾. و﴿ زلفى ﴾ : مفعول مطلق، أي : وما جماعة أموالكم ولا جماعة أولادكم، و﴿ إلا من آمن ﴾ : مستثنى من الكاف في " تُقربكم "، متصل، وقيل : منقطع. و﴿ من ﴾ : شرط، جوابه :﴿ فأولئك ﴾. وعلى الاتصال ف " مَن " منصوبة بتُقرب.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ وما أموالُكم ولا أولادُكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ﴾ أي : قُربة، ﴿ إِلا مَن آمن وعمل صالحاً ﴾ يعني أن الآمال لا تُقرب أحداً إلا المؤمن الصالح، الذي يُنفقها في سبيل الله. والأولاد لا تُقرب أحداً من الله إلا مَن علَّمهم الخير، وفقَّههم في الدين، وأرشدهم للصلاح والطاعة، فإنَّ علمهم يجري عليه بعد موته لقوله صلى الله عليه وسلم :" إذا مات ابن آدم انقطع عملُهُ إلا من ثلاثٍ : صدقة جاريةٍ، وعلمٍ بثه في صدور الرجال، وولدٍ صالح يدعو له بعد موته١ ".
﴿ فأولئك لهم جزاءُ الضِّعْفِ ﴾ أي : تضاعف لهم حسناتهم، الواحدة عشراً إلى سبعمائة، على قدر النية والإخلاص. وهو من إضافة المصدر إلى المفعول. والأصل : يجازون الضعفَ، ثم جزاءٌ الضعفَ، ثم أضيف. وقرأ يعقوب بالنصب على التمييز، أي : فأولئك لهم الضعف لأعمالهم جزاءُ ﴿ بما عَمِلُوا ﴾ أي : بأعمالهم ﴿ وهم في الغرفاتِ آمنون ﴾ أي : في غرفات الجنان آمنون من كل هائل وشاغل. وقرأ حمزة :" في الغرفة " إرادة الجنس.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الأموال والأولاد لا تُقرب ولا تُبعده، إنما يقربه سابق العناية، ويبدعه سابق الشقاء، فمَن العناية قرّبته أمواله، بإنفاق المال في سبيل الله، وإرشاد الأولاد إلى طاعة الله، ومَن سبق له الشقاء صرف أمواله في الهوى، وأولادَه في جمع الدنيا. قال القشيري : لا تستحقّ الزّلفى عند الله بالمال، ولا بالأولاد، ولكن بالأعمال الصالحة الخالصة، والأحوال الصافية، والأنفس الزاكية، بل بالعناية السابقة، والهداية اللاحقة، والرعاية الصادقة. هـ. وقال في قوله :﴿ والذين يسعون في آياتنا معاجزين ﴾ : هم الذين لا يحترمون الأولياء، ولا يراعون حقَّ الله في السِّر، فهم في عذاب الاعتراض على أولياء الله، وعذاب الوقوع بشؤم ذلك في ارتكاب محارم الله، ثم في عذاب السقوط من عين الله تعالى. هـ.

١ أخرجه مسلم في الوصية حديث ١٤..
﴿ والذين يَسْعَون في آياتنا ﴾ في إبطالها، بالرد والطعن ﴿ مُعَاجِزين ﴾ مغالبين لأنبيائنا، أو : سابقين، ظانين أنهم يفوتوننا، ﴿ أُولئك في العذاب مُحْضَرُون ﴾ يحضرونه فيحيط بهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الأموال والأولاد لا تُقرب ولا تُبعده، إنما يقربه سابق العناية، ويبدعه سابق الشقاء، فمَن العناية قرّبته أمواله، بإنفاق المال في سبيل الله، وإرشاد الأولاد إلى طاعة الله، ومَن سبق له الشقاء صرف أمواله في الهوى، وأولادَه في جمع الدنيا. قال القشيري : لا تستحقّ الزّلفى عند الله بالمال، ولا بالأولاد، ولكن بالأعمال الصالحة الخالصة، والأحوال الصافية، والأنفس الزاكية، بل بالعناية السابقة، والهداية اللاحقة، والرعاية الصادقة. هـ. وقال في قوله :﴿ والذين يسعون في آياتنا معاجزين ﴾ : هم الذين لا يحترمون الأولياء، ولا يراعون حقَّ الله في السِّر، فهم في عذاب الاعتراض على أولياء الله، وعذاب الوقوع بشؤم ذلك في ارتكاب محارم الله، ثم في عذاب السقوط من عين الله تعالى. هـ.
ثم حض على الصدقة، فقال :
﴿ قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده، ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين ﴾.
يقول الحق جل جلاله :﴿ قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له ﴾ إنما كرره تزهيدا في المال، وحضا على إنفاقه في سبيل الله. ولذلك عقبه بقوله :﴿ وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه ﴾ إما عاجلا في الدنيا إذا شاء، أو آجلا في الآخرة، ما لم يكن إسرافا، كنزهة لهو، أو في بنيان، أو معصية. وذكر الكواشي هنا أحاديث منها :" كل معروف صدقة، وكل ما أنفق الرجل على نفسه وأهله صدقة، وما وقى به الرجل عرضه كتبت له بها صدقة – وهو ما أعطى لشاعر، أو لذي اللسان المتقى – وما أنفق المؤمن صدقة فعلى الله خلفها ضامنا، إلا ما كان من نفقة في بنيان أو معصية " ١. قلت : يقيد النفقة في البنيان بما زاد على الحاجة والضرورة، وإلا فهو مأمور به، فيؤجر عليه. والله تعالى أعلم.
﴿ وهو خير الرازقين ﴾ المطعمين، لأن كل من رزق غيره من سلطان، أو سيد، أو زوج، أو غيره، فهو من رزق الله، أجراه على يد هؤلاء، وهو خالق الرزق، والأسباب التي بها ينتفع المرزوق بالرزق. وعن بعضهم ؛ قال : الحمد لله الذي أوجده، وجعلني مما يشتهي، فكم من مشته لا يجد، وواجد لا يشتهي !.
الإشارة : في الآية إشارة إلى منقبة السخاء، وإطلاق اليد بالعطاء وهو من علامة اليقين، وخروج الدنيا من القلب، وذكر الترمذي الحكيم حديثا طويلا عن الزبير رضي الله عنه رأيت أن أذكره لكثرة فوائده مع مناسبته لهذا المعنى. قال : جئت حتى جلست بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بطرف عمامتي من ورائي، ثم قال :" يا زبير إني رسول الله إليك خاصة، وإلى الناس عامة، أتدرون ما قال ربكم ؟ قلت : الله ورسوله أعلم. قال : قال ربكم حين استوى على عرشه ونظر إلى خلقه : عبادي أنتم خلقي وأنا ربكم، أرزاقكم بيدي، فلا تتعبوا فيما تكفلت لكم به، فاطلبوا مني أرزاقكم، وإلي فارفعوا حوائجكم، انصبوا إلي أنفسكم أصب عليكم أرزاقكم. أتدرون ما قال ربكم ؟ قال الله تبارك وتعالى : يا ابن آدم ؛ أنفق أنفق عليك، وأوسع أوسع عليك، ولا تضيق فأضيق عليك، ولا تصر فأصر عليك، ولا تخزن فأخزن عليك، إن باب الرزق مفتوح من فوق سبع سماوات، متواصل إلى العرش، لا يغلق ليلا ونهارا، ينزل الله منه الرزق، على كل امرئ بقدر نيته، وعطيته، وصدقته، ونفقته، من أكثر أكثر عليه، ومن أقل أقل عليه، ومن أمسك أمسك عليه، يا زبير فكل وأطعم، ولا توك فيوك عليك٢، ولا تحص فيحص عليك، ولا تقتر فيقتر عليك، ولا تعسر فيعسر عليك. يا زبير، إن الله يحب الإنفاق، ويبغض الإقتار، وإن السخاء من اليقين، والبخل من الشك، فلا يدخل النار من أيقن، ولا يدخل الجنة من شك. يا زبير ؛ إن الله يحب السخاوة، ولو بفلق تمرة، والشجاعة، ولو بقتل عقرب أو حية. يا زبير ؛ إن الله يحب الصبر عند زلزلة الزلازل، واليقين النفاذ عند مجيء الشهوات، والعقل الكامل عند نزول الشبهات. والورع الصادق عند الحرام والخبيثات. يا زبير عظم الإخوان، وأجل الأبرار، ووقر الأخيار، وصل الجار، ولا تماش الفجار، تدخل الجنة بلا حساب ولا عقاب، هذه وصية الله إلي، ووصيتي إليك ".
١ أخرجه الحاكم في المستدرك ٢/٥٠..
٢ ولا توك فيوك عليك: الوكاء: الخيط الذي تشد به الصرة والكيس وغيرهما: أي لا تدخر وتشد ما عندك، وتمنع ما في يديك، فتنقطع مادة الرزق عنك..
ثم ذكر توبيخه على الشرك، فقال :
﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ﴾ * ﴿ قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ﴾ * ﴿ فَالْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ و ﴾ اذكر ﴿ يوم نحشرهم جميعاً ﴾ العابدين والمعبودين، ﴿ ثم نقول للملائكة أهؤلاء إِياكم كانوا يعبدون ﴾ ؟ هو خطاب للملائكة، وتقريع للكفرة، وارد على المثل السائر من قول العامة : الخطاب للسارية وافهمي يا جارية. ونحوه قوله :
﴿ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُوني. . . ﴾ [ المائدة : ١١٦ ] الآية. وتخصيص الملائكة ؛ لأنهم أشرف شركائهم، والصالحون للخطاب منهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ما أحببت شيئاً إلا وكنت له عبداً، ولا يُحب أن تكون لغيره عبداً، فإذا تحققت الحقائق، التحق كل عابد بمعبوده، وكل حبيب بمحبوبه، فيرتفع الحق بأهله، ويهوي الباطلُ بأهله. وكل ما سوى الله باطل، فارفع همتك أيها العبد عن هذه الدار وما فيها، وتعلق بالباقي، دون الفاني، ولا تتعلق بشيء سوى المتكبر المتعالي.
قال القشيري : قوله تعالى :﴿ فاليوم لا يملك بعضكم... ﴾ الخ، الإشارة في هذا : أنَّ مَن علّقَ قلبه بالأغيار، وظنّ صلاحَ حاله في الاختيار، والاستعانة بالأمثال والأشكال، نزع اللهُ الرحمة من قلوبهم، وتركهم، وتشوش أحوالهم، فلا لهم من الأشكال والأمثال معونة، ولا لهم في عقولهم استبصار، ولا إلى الله رجوع، فإنْ رجعوا لا يرحمهم ولا يحبهم، ويقول : ذوقوا وبالَ ما به استوجبتم هذه العقوبة. هـ. قلت : قوله :" فإن رجعوا لا يرحمهم " يعني أنهم فزعوا أولاً إلى المخلوق، فلما لم ينجح مسعاهم، رجعوا إلى الله، فلم ينفعهم، ولو تابوا في المستقبل لقبل توبتهم. وقال أيضاً : ومن تشديد العقوبة الافتضاح في السؤال. وفي بعض الأخبار : أن عبيداً يسألهم الحق غداً، فيقع عليهم من الخجل ما يقولون : يا ربنا لو عذبتنا بما شئت من ألوان العقوبة، ولا تعذبنا بهذا السؤال. هـ. وبالله التوفيق.

﴿ قالوا سبحانك ﴾ تنزيهاً لك أن يعبد معك غيرك. ﴿ أنت وليُّنا من دونهم ﴾ أنت الذي نُواليه من دونهم، لا موالاة بيننا وبينهم. والموالاة خلاف المعاداة، وهي مفاعلة من الولْي، وهو القرب. والوليّ يقع على المُوالِي والمُوالَى جميعاً. فبينوا بإثبات موالاةِ الله تعالى ومعاداة الكفار : براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم ؛ فإنَّ مَن كان على هذه الصفة، كانت حالُه منافية لذلك.
ثم قالوا :﴿ بل كانوا يعبدون الجنَّ ﴾ أي : الشياطين، حيث أطاعوهم في عبادة غير الله، أو : كانوا يدخلون في أجواف الأصنام، إذ عُبِدَت، فيُعْبَدون بعبادتها، أو : صَوَّرت لهم الشياطين صور قوم من الجن، وقالوا : هذه صور الملائكة فاعبدوها. ﴿ أكثرُهُم بهم مؤمنون ﴾ أي : أكثر الإنس، أو : الكفار، ﴿ بهم ﴾ بالجن ﴿ مؤمنون ﴾ مصدقون لهم فيما يأمرونهم به. والأكثر هنا بمعنى الكل.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ما أحببت شيئاً إلا وكنت له عبداً، ولا يُحب أن تكون لغيره عبداً، فإذا تحققت الحقائق، التحق كل عابد بمعبوده، وكل حبيب بمحبوبه، فيرتفع الحق بأهله، ويهوي الباطلُ بأهله. وكل ما سوى الله باطل، فارفع همتك أيها العبد عن هذه الدار وما فيها، وتعلق بالباقي، دون الفاني، ولا تتعلق بشيء سوى المتكبر المتعالي.
قال القشيري : قوله تعالى :﴿ فاليوم لا يملك بعضكم... ﴾ الخ، الإشارة في هذا : أنَّ مَن علّقَ قلبه بالأغيار، وظنّ صلاحَ حاله في الاختيار، والاستعانة بالأمثال والأشكال، نزع اللهُ الرحمة من قلوبهم، وتركهم، وتشوش أحوالهم، فلا لهم من الأشكال والأمثال معونة، ولا لهم في عقولهم استبصار، ولا إلى الله رجوع، فإنْ رجعوا لا يرحمهم ولا يحبهم، ويقول : ذوقوا وبالَ ما به استوجبتم هذه العقوبة. هـ. قلت : قوله :" فإن رجعوا لا يرحمهم " يعني أنهم فزعوا أولاً إلى المخلوق، فلما لم ينجح مسعاهم، رجعوا إلى الله، فلم ينفعهم، ولو تابوا في المستقبل لقبل توبتهم. وقال أيضاً : ومن تشديد العقوبة الافتضاح في السؤال. وفي بعض الأخبار : أن عبيداً يسألهم الحق غداً، فيقع عليهم من الخجل ما يقولون : يا ربنا لو عذبتنا بما شئت من ألوان العقوبة، ولا تعذبنا بهذا السؤال. هـ. وبالله التوفيق.

قال تعالى :﴿ فاليومَ لا يملكُ بعضُكم لبعضٍ نفعاً ولا ضرًّا ﴾ لأن الأمر في ذلك اليوم إليه وحده، لا يملك أحد فيه منفعة ولا مضرة لأحد ؛ لأن الدار دار ثواب وعقاب، والمثيب والمعاقبُ هو الله، فكانت حالها خلاف حال الدنيا، التي هي دار تكليف، والناس فيها مخلَّى بينهم، يتضارون، ويتنافعون، وأما يوم القيامة فلا فعل لأحد قط. ثم ذكر معاقبة الظالمين بقوله :﴿ ونقول للذين ظلموا ﴾ بوضع العبادة في غير موضعها :﴿ ذُوقوا عذابَ النار التي كنتم بها تُكذِّبون ﴾ في الدنيا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ما أحببت شيئاً إلا وكنت له عبداً، ولا يُحب أن تكون لغيره عبداً، فإذا تحققت الحقائق، التحق كل عابد بمعبوده، وكل حبيب بمحبوبه، فيرتفع الحق بأهله، ويهوي الباطلُ بأهله. وكل ما سوى الله باطل، فارفع همتك أيها العبد عن هذه الدار وما فيها، وتعلق بالباقي، دون الفاني، ولا تتعلق بشيء سوى المتكبر المتعالي.
قال القشيري : قوله تعالى :﴿ فاليوم لا يملك بعضكم... ﴾ الخ، الإشارة في هذا : أنَّ مَن علّقَ قلبه بالأغيار، وظنّ صلاحَ حاله في الاختيار، والاستعانة بالأمثال والأشكال، نزع اللهُ الرحمة من قلوبهم، وتركهم، وتشوش أحوالهم، فلا لهم من الأشكال والأمثال معونة، ولا لهم في عقولهم استبصار، ولا إلى الله رجوع، فإنْ رجعوا لا يرحمهم ولا يحبهم، ويقول : ذوقوا وبالَ ما به استوجبتم هذه العقوبة. هـ. قلت : قوله :" فإن رجعوا لا يرحمهم " يعني أنهم فزعوا أولاً إلى المخلوق، فلما لم ينجح مسعاهم، رجعوا إلى الله، فلم ينفعهم، ولو تابوا في المستقبل لقبل توبتهم. وقال أيضاً : ومن تشديد العقوبة الافتضاح في السؤال. وفي بعض الأخبار : أن عبيداً يسألهم الحق غداً، فيقع عليهم من الخجل ما يقولون : يا ربنا لو عذبتنا بما شئت من ألوان العقوبة، ولا تعذبنا بهذا السؤال. هـ. وبالله التوفيق.

ثم ذكر حال أهل الغفلة، فقال :
﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ وَقَالُواْ مَا هَذَآ إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ * ﴿ وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ ﴾ * ﴿ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ وإِذا تُتلى عليهم آياتنا ﴾ أي : إذا قُرئت عليهم آيات القرآن، ﴿ بيناتٍ ﴾ واضحات، ﴿ قالوا ﴾ أي : المشركون ﴿ ما هذا ﴾ ؟ يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم ﴿ إِلا رَجُل يُريد أن يَصُدَّكُم ﴾ : يصرفكم ﴿ عما كان يعبد آباؤُكم ﴾ من الأصنام. ﴿ وقالوا ما هذا ﴾ أي : القرآن ﴿ إِلا إِفْكٌ ﴾ : كذب ﴿ مُّفترىً ﴾ بإضافته إلى الله تعالى. ﴿ وقال الذين كفروا ﴾ أي : وقالوا. والعدول عنه دليلٌ على إنكار عظيم، وغضب شديد، حيث سجّل عليهم بالكفر والجحد، ﴿ للحقِّ لَمَّا جاءهم ﴾ أي : للقرآن، أو لأمر النبوة كله، لما عجزوا عن معارضته، قالوا :﴿ إِن هذا إِلا سحر مبين ﴾ أي : ما هذا إلا سحر ظاهر سِحريتُه. وإنكارهم أولاً باعتبار معناه، وثانياً باعتبار لفظه وإعجازه، ولذلك سمُّوه سحراً.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : تكذيب الصادقين سُنَّة ماضية، وكل مَن ظهر بخصوصية يجذب الناس إلى الله، ويخرجهم من عوائدهم، قالوا : ما هذا إلا سحر مفترى، وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، فحين كذَّبوا أولياء زمانهم حُرموا بركتهم، فبقوا في عذاب الحرص والتعب، والهلع والنصب. قال القشيري : إن الحكماء والأولياء ـ الذين هم الأئمة في هذه الطريقة ـ إذا دَلوا الناسَ على الله، قال إخوانهم من إخوان السوء ـ وربما كان من الأقارب وأبناء الدنيا : مَن ذا الذي يطيق هذا ؟ ولا بُد من الدنيا ما دمت تعيش !.. وأمثال هذا كثير، حتى يميل ذلك المسكين من قِبل النصح، فيهلك ويضل. هـ. باختصار. وقال في قوله تعالى :﴿ وما آتيناهم من كُتُب يدرسونها.. ﴾ ما حاصله : إن أرباب القلوب إذا تكلموا بالحقائق، على سبيل الإلهام والفيض، لا يطلب منهم البرهان على ما نطقوا به، فإذا طالبهم أهل القبلة بذلك، فسبيلهم السكوت عنهم، حتى يجيب عنهم الحق تعالى. هـ. وبالله التوفيق.
قال تعالى :﴿ وما آتيناهم من كُتُبٍ يَدْرُسُونها ﴾ أي : ما أعطينا مشركي مكة كُتباً يدرسونها، فيها برهان على صحة الشكر. ﴿ وما أرسلنا إِليهم قبلك من نذيرٍ ﴾ أي : ولا أرسلنا إليهم نذيراً يُنذرهم بالعقاب إن لم يشركوا، ويدعوهم إليه، إذ لا وجه له، فمن أين وقع لهم هذه الشبهة ؟ وهذا في غاية التجهيل لهم، والتسفيه لرأيهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : تكذيب الصادقين سُنَّة ماضية، وكل مَن ظهر بخصوصية يجذب الناس إلى الله، ويخرجهم من عوائدهم، قالوا : ما هذا إلا سحر مفترى، وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، فحين كذَّبوا أولياء زمانهم حُرموا بركتهم، فبقوا في عذاب الحرص والتعب، والهلع والنصب. قال القشيري : إن الحكماء والأولياء ـ الذين هم الأئمة في هذه الطريقة ـ إذا دَلوا الناسَ على الله، قال إخوانهم من إخوان السوء ـ وربما كان من الأقارب وأبناء الدنيا : مَن ذا الذي يطيق هذا ؟ ولا بُد من الدنيا ما دمت تعيش !.. وأمثال هذا كثير، حتى يميل ذلك المسكين من قِبل النصح، فيهلك ويضل. هـ. باختصار. وقال في قوله تعالى :﴿ وما آتيناهم من كُتُب يدرسونها.. ﴾ ما حاصله : إن أرباب القلوب إذا تكلموا بالحقائق، على سبيل الإلهام والفيض، لا يطلب منهم البرهان على ما نطقوا به، فإذا طالبهم أهل القبلة بذلك، فسبيلهم السكوت عنهم، حتى يجيب عنهم الحق تعالى. هـ. وبالله التوفيق.
ثم هدّدهم بقوله :﴿ وكذّب الذين من قبلهم ﴾ أي : وكذّب الذين تقدّموا من الأمم الماضية، والقرون الخالية، الرسل، كما كذّب هؤلاء. ﴿ وما بَلَغُوا مِعْشَارَ ما آتيناهم ﴾ أي : وما بلغ أهل مكة عُشر ما أُوتي الأولون، من طول الأعمار، وقوة الأجرام، وكثرة الأموال والأولاد، وتوالي النعم، والظهور في البلاد. والمِعشار : مِفعال، من : العشر، ولم يأتِ هذا البناء إلا في العشرة والأربعة. قالوا : معشار ومرباع. وقال في القوت : المعشار : عشر العشر. ﴿ فكذَّبوا رسلي ﴾ أي : فكذبت تلك الأمم رسلي، ﴿ فكيف كان نكيرِ ﴾ أي : فانظر كيف كان إنكاري عليهم بالهلاك والتدمير. فالنكير : مصدر، كالإنكار معنى، وكالنذير وزناً. و( كيف ) للتعظيم، لا لمجرد الاستفهام، أي : فحين كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير والاستئصال، ولم تغن عنهم تلك الأموال والأولاد، وما كانوا مستظهرين به من الرئاسة والجاه، فليحذر هؤلاء أن يحل بهم مثل ما حل بأولئك ؛ لمشاركتهم لهم في الكفر والعدوان.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : تكذيب الصادقين سُنَّة ماضية، وكل مَن ظهر بخصوصية يجذب الناس إلى الله، ويخرجهم من عوائدهم، قالوا : ما هذا إلا سحر مفترى، وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، فحين كذَّبوا أولياء زمانهم حُرموا بركتهم، فبقوا في عذاب الحرص والتعب، والهلع والنصب. قال القشيري : إن الحكماء والأولياء ـ الذين هم الأئمة في هذه الطريقة ـ إذا دَلوا الناسَ على الله، قال إخوانهم من إخوان السوء ـ وربما كان من الأقارب وأبناء الدنيا : مَن ذا الذي يطيق هذا ؟ ولا بُد من الدنيا ما دمت تعيش !.. وأمثال هذا كثير، حتى يميل ذلك المسكين من قِبل النصح، فيهلك ويضل. هـ. باختصار. وقال في قوله تعالى :﴿ وما آتيناهم من كُتُب يدرسونها.. ﴾ ما حاصله : إن أرباب القلوب إذا تكلموا بالحقائق، على سبيل الإلهام والفيض، لا يطلب منهم البرهان على ما نطقوا به، فإذا طالبهم أهل القبلة بذلك، فسبيلهم السكوت عنهم، حتى يجيب عنهم الحق تعالى. هـ. وبالله التوفيق.
ثم أمر بالتفكر والاعتبار، فقال :
﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾.
قلت :" أن تقوموا " : بدل من " واحدة "، أو خبر عن مضمر.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ قلْ ﴾ لهم :﴿ إِنما أَعِظُكُم بواحدةٍ ﴾ بخصلة واحدة، وهي :﴿ أن تقوموا لله ﴾ أي : لوجه الله خالصاً، لا لحمية، ولا عصبية، بل لطلب الحق والاسترشاد. فالقيام على هذا معنوي، وهو القصد والتوجُّه بالقلب، وقيل : حسي، وهو قيامهم وتفرقهم عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقوم كل واحد منفرداً بنفسه، يتفكر، أو مع صاحبه. وهذا معنى قوله :﴿ مَثْنَى وفُرَادَى ﴾ أي : اثنين اثنين، أو فرداً فرداً. والمعنى : أعظكم بواحدة أن تعملوا ما أصبتم الحق، وتخلصتم من الجهل. وهي أن تقوموا وتنهضوا لله، معرضين عن المِراء والتقليد، متفرقين اثنين اثنين، أو واحداً واحداً ؛ فإنَّ الازدحام يُشوّش الخاطر، ويخلط القول، ويمنع من الرويّة، ويقلّ فيه الإنصاف، ويكثر الاعتساف.
﴿ ثم تتفكروا ﴾ في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به، حتى تعلموا أنه حق، أما الاثنان فيتفكران ويعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه، وينظران فيه نظر الصدق والإنصاف، حتى يؤديهما النظرُ الصحيح إلى الحق، وكذلك المفرد، يتفكر في نفسه ويعرض فكره على عقله. فإذا تفكرتم بالإنصاف عرفتم أن ﴿ ما بصَاحِبِكم ﴾ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ﴿ مِن جِنَّةٍ ﴾ من جنون، وهذا كقوله :
﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ ﴾ [ الأعراف : ١٨٤ ]. ومنهم مَن يقف على " تتفكروا " ثم يستأنف النفي. قال القشيري : يقول : إذا سَوَّلَتْ لكم أنفسكم تكذيبَ الرسل، فأمعنوا النظرَ، هل تَرَوْنَ فيهم آثار ما رميتموهم به هذا محمد صلى الله عليه وسلم قُلْتُم ساحر، فأين آثار السحر في أحواله وأفعاله وأقواله ؟ قلتم : فأيّ قسم من أقسام الشعر كلامه ؟ قُلْتُم مجنون، فأيُّ جنون ظهر منه ؟ وإذا عجزتم فهلاَّ اعترفتم به أنه صادق ؟ !. ه.
﴿ إِن هو إِلا نذير لكم بين يَديْ عذابٍ شديدٍ ﴾ أي : قُدَّام عذاب شديد، وهو عذاب الآخرة، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم :" بُعثتُ بين يَديِ الساعة١ ".
الإشارة : فكرة الاعتبار تشد عروة الإيمان، وفكرة الاستبصار تشد عروة الإحسان، فأول ما يتفكر فيه الإنسان في أمره صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من العلوم اللدنية، والأسرار الربانية، مع ما أخبر به من قصص القرون الماضية، والشرائع المتباينة، مع كونه أُميًّا، لم يقرأ، ولم يطالع كتاباً قط، وما أخبر به من أمر الغيب، فوقع كما أخبر، وما ظهر على يديه من المعجزات، وما اتصف به عليه الصلاة والسلام ؛ من الأخلاق الحسنة، والشيم الزكية، وما كان عليه من سياسة الخلق، مع مشاهدة الحق. وهذا لا يطاق إلا بأمر رباني، وتأييد إلهي. فإذا أشرقت على قلبه أنوار النبوة، ترقى بها إلى أنوار الربوبية، فيتفكر في عجائب السماوات والأرض، فيعرف عظمة صانعها، فإذا سقط على شيخ عارف بالله أدخله فكرة العيان، فيغيب عن نظرة الأكوان، ويبقى المُكوّن وحده. كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان.
١ أخرجه بهذا اللفظ أحمد في المسند ٢/٥٠ وأخرجه بلفظ: "بعثت أنا والساعة كهاتين" البخاري في الرقاق حديث ٦٥٠٤، ومسلم في الفتن حديث ١٣٣..
ثم بين أنه لا يطلب أجرا على الإنذار ؛ إزاحة للتهمة عنه، فقال :
﴿ قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ قل ما سألتكم عليه ﴾ أي : على إنذاري وتبليغ الرسالة ﴿ من أَجْرٍ ﴾ إذ لو كنتُ كذلك لاتهمتموني أني أطمع في أموالكم. وما طلبتُ من ذلك ﴿ فهو لكم ﴾ ومعناه : نفي سؤاله الأجر رأساً. نحو : ما لي في هذا فهو لك، وما تعطني تصدق به على نفسك. ﴿ إِنْ أَجْريَ ﴾ في ذلك ﴿ إِلا على الله وهو على كل شيءٍ شهيدٌ ﴾ فيعلم أني لا أطلب الأجر في نصيحتكم، ودعائكم إليه، إلا منه تعالى.
الإشارة : تقدم مراراً أن الدعاة إلى الله ينبغي لهم أن يتنزّهوا عن الطمع في الناس جهدهم، ولو اضطروا إلى ذلك ؛ إذ لا يقع النفع العام على أيديهم إلا بعد الزهد التام، والتعفُّف التام عما في أيدي الناس، فإذا تحققوا بهذا الأمر جعلهم الله حُجةً، يدمغ بهم على الباطل، كما قال تعالى :﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ﴾ * ﴿ قُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ﴾ * ﴿ قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ قُلْ إِنَّ ربي يَقْذِفُ بالحق ﴾ أي : بالوحي، فيرمي به على الباطل، من الكفر وشبهه، فيدمغه، أو : يرمي به إلى أقطار الآفاق، فيكون وعداً بإظهار الإسلام، أو : يلقيه وينزله إلى أنبيائه. والقذف : رمي السهم ونحوه بدفع واعتمادٍ، ويستعار لمطلق الإلقاء، ومنه :﴿ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ﴾ [ الأحزاب : ٢٦ ]. تمّ وصف الرب بقوله :﴿ علاّمُ الغيوب ﴾ أي : هو علام الغيوب.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الحق هو العلم بالله، والباطل الجهل بالله، أو : ما سوى الله، فإذا حصل للعبد العلم بالله غاب عنه كل ما سواه، وما بقي في الوجود إلا الله، وفي ذلك يقول الشاعر :
فلم يبقَ إلا الله لم يبق كائن فما ثم موصول ولا ثم بائن
بذا جاء برهان العيان فما أرى بعيني إلا عينه إذ أعاين
وفي القوت في تفسير الآية : أي : لما جاء الحق أبطل الباطل وأعاده، فأظهر حقيقة الأمر بدءاً وعوداً، أي : كشف ما يبدئ الباطل للابتداء، وما يعيد على العبد من الأحكام، يعني : أن نور الحق يكشف حقيقةَ الباطل وضررَ عاقبته، وقُبحه في ذاته. والله أعلم. هـ. ومَن رُمي بباطل أو بدعة، وهو محقق بالحق، متمسك بالسنة النبوية، فليقل لمَن رماه :﴿ إِن ضللتُ فإنما أضل على نفسي.. ﴾ الآية.

﴿ قل جاء الحقُّ ﴾ أي : الإسلام : أو : القرآن، ﴿ وما يُبْدِئُ الباطلُ وما يُعيدُ ﴾ أي : زال الباطل وهلك، لأن الإبداء والإعادة من صفات الحي، فعدمهما عين الهلاك، والمعنى : جاء الحق وهلك الباطل، كقوله :﴿ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ﴾ [ الإسراء : ٨١ ] قال الكواشي : المعنى : ذهب الباطل لمجيء الحق، فلم يبقَ له بقية حتى يبدئ شيئاً أو يعيده. ثم قال : وهذا مثلٌ، يقال : فلان لا يبدئ ولا يعيد، إذا كان لا يلتفت إليه ولا يعتمد عليه. وقال الهروي : الباطل : إبليس، ما يبدئ ولا يعيد : لا يخلق ولا يبعث، والله تعالى هو المبدئ المعيد، ومعناهما : الخالق الباعث. وقال في الصحاح : وفلان ما يبدئ وما يعيد، أي : ما يتكلم ببادية ولا عائدة، ومثله في القاموس.
والحاصل : أنه عبارة عن زهوق الباطل، حتى لا يبقى له ظهور. وعن ابن مسعود رضي الله عنه دخل النبيُّ صلى الله عليه وسلم مكةَ يوم الفتح، وحول الكعبة أصنام، فجعل يطعنُها بعودٍ، فتقطع لقفاها، ويقول :" ﴿ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ﴾ [ الإسراء : ٨١ ] قل جاء الحق وما يُبدئُ الباطلُ وما يُعيد١ ".
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الحق هو العلم بالله، والباطل الجهل بالله، أو : ما سوى الله، فإذا حصل للعبد العلم بالله غاب عنه كل ما سواه، وما بقي في الوجود إلا الله، وفي ذلك يقول الشاعر :
فلم يبقَ إلا الله لم يبق كائن فما ثم موصول ولا ثم بائن
بذا جاء برهان العيان فما أرى بعيني إلا عينه إذ أعاين
وفي القوت في تفسير الآية : أي : لما جاء الحق أبطل الباطل وأعاده، فأظهر حقيقة الأمر بدءاً وعوداً، أي : كشف ما يبدئ الباطل للابتداء، وما يعيد على العبد من الأحكام، يعني : أن نور الحق يكشف حقيقةَ الباطل وضررَ عاقبته، وقُبحه في ذاته. والله أعلم. هـ. ومَن رُمي بباطل أو بدعة، وهو محقق بالحق، متمسك بالسنة النبوية، فليقل لمَن رماه :﴿ إِن ضللتُ فإنما أضل على نفسي.. ﴾ الآية.


١ أخرجه البخاري في المظالم حديث ٢٤٧٨، ومسلم في الجهاد حديث ٨٧..
ولما قالوا له صلى الله عليه وسلم : قد ضللت بترك دين آبائك قال الله تعالى :﴿ قل إِن ضللتُ ﴾ عن الحق ﴿ فإِنما أَضلُّ على نفسي ﴾ فإن وبال ضلالي عليها، ﴿ وإِن اهتديتُ فبما يُوحي إِليّ ربي ﴾ أي : فبتسديده بالوحي إِليّ. وكان قياس المقابلة أن يقال : وإن اهتديتُ فإنما أهتدي لها، كقوله :﴿ فَمِنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ﴾
[ الزمر : ٤١ ]، ولكن هما متقابلان معنًى ؛ لأنّ النفس كلّ ما يضرها فهو بسببها، وما لها مما ينفعها، فهو بهداية ربها وتوفيقه، وهذا حكم عمل لكل مكلّف. وإنما أمر رسولَه أن ينسبه إلى نفسه ؛ تشريعاً لغيره ؛ لأنه إذا كان هذا له مع جلالة قدره فما باله بغيره ؟. ﴿ إِنه سميع ﴾ لما أقوله لكم، ﴿ قريبٌ ﴾ مني ومنكم، فيجازيني ويجازيكم على ما أخفيتم وما أعلنتم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الحق هو العلم بالله، والباطل الجهل بالله، أو : ما سوى الله، فإذا حصل للعبد العلم بالله غاب عنه كل ما سواه، وما بقي في الوجود إلا الله، وفي ذلك يقول الشاعر :
فلم يبقَ إلا الله لم يبق كائن فما ثم موصول ولا ثم بائن
بذا جاء برهان العيان فما أرى بعيني إلا عينه إذ أعاين
وفي القوت في تفسير الآية : أي : لما جاء الحق أبطل الباطل وأعاده، فأظهر حقيقة الأمر بدءاً وعوداً، أي : كشف ما يبدئ الباطل للابتداء، وما يعيد على العبد من الأحكام، يعني : أن نور الحق يكشف حقيقةَ الباطل وضررَ عاقبته، وقُبحه في ذاته. والله أعلم. هـ. ومَن رُمي بباطل أو بدعة، وهو محقق بالحق، متمسك بالسنة النبوية، فليقل لمَن رماه :﴿ إِن ضللتُ فإنما أضل على نفسي.. ﴾ الآية.

ثم ذكر حسرة من فاته الإيمان في إبانه، فقال :
﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ﴾ * ﴿ وَقَالُواْ آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ * ﴿ وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ * ﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكٍّ مَّرِيبٍ ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله :﴿ ولو ترى ﴾ يا محمد، أو : يا مَن تصح منه الرؤية، الكفرةَ. ﴿ إِذ فَزِعُوا ﴾ حين فزعوا عند صيحة البعث، لرأيت أمراً فظيعاً هائلاً، ﴿ فلا فَوْتَ ﴾ أي : لا مهرب لهم، أو : فلا يفوتون الله ولا يسبقونه. ﴿ وأُخذوا ﴾ إلى النار ﴿ من مكان قريبٍ ﴾ من المحشر إلى قعر جنهم. أو : ولو ترى إذ فزعوا عند الموت فلا فوت منه، وأُخذوا من ظهر الأرض إلى بطنها، أو : إذا فزعوا يوم بدر، وأُخذوا من صحراء بدر إلى القليب.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قوم غفلوا عن تحقيق الإيمان، وتربيته، بصحبة أهل الإيقان، حتى إذا كُشف ـ بعد الموت ـ عن مقامهم القصير، ومكانهم البعيد، قالوا : آمنا وتيقَّنَّا، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد. وقوم اشتغلوا بالبطالة والتقصير، وصرفوا في الشهوات والحظوظ عمرهم القصير، وتوغلوا في أشغال الدنيا وزخارفها، فذهلوا عن الجد والتشمير، فإذا انقضت عنهم أيام الدنيا حيل بينهم وبين ما يشتهون، من اغتنام الأوقات، وتعمير الساعات، لنيل المراتب والدرجات، وهنالك يقع الندم حين لم ينفع، ويُطلب الرجوع فلا يُسْمَع.
قال القشيري : إذا تابوا ـ وقد أُغْلِقَت الأبواب، وندمُوا ـ وقد تقطعت بهم الأسباب، فليس إلا الحسرات مع الندم، ولات حين ندامة ! كذلك مَن استهان بتفاصيل فترته، ولم يَسْتَفِقْ من غَفْلَتِه فتجاوز حده، ويُعْفَى عنه كَرَّه. فإذا استمكن في القسوة، وتجاوز في سوء الأدب حدَّ القلة، وزاد على مقدار الكثرة، فيحصل لهم من الحق رَدّ، ويستقبلهم حجاب البُعد. فعند ذلك لا يُسمع لهم دعاء، ولا يُرْحَمُ لهم بكاء، كما قيل، وأنشد :
فخل سبيلَ العينِ بعدك للبُكَا فليس لأيام الصفاءِ رجوعُ. هـ
وقوم شمروا عن سابق الجد والتشمير، ولم يقنعوا من مولاهم بقليل ولا كثير، قد انتهزوا فرصة الأعمار، ولم يشغلهم عن الله ربع ولا ديار، عمّروا أوقاتهم بالذكر والتذكار، وفكرة الاعتبار والاستبصار، حتى وردوا دار القرار، أولئك المصطفون الأخيار، يدفع الله تعالى بهم عن أهل الدنيا الأنكاد والأغيار، ويكشف عن قلوبهم الحُجب والأستار. وقوم حققوا مقام الإيمان، واشتغلوا بتربيته، بصحبة أهل الإيقان، حتى أفضوا إلى مقام العيان، فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين. جعلنا الله من خواصهم بمنِّه وكرمه، وبمحمد نبيه وحبه صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه.

﴿ وقالوا ﴾ حين عاينوا العذاب :﴿ آمنَّا به ﴾ أي : بمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ لمرور ذكره في قوله :﴿ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّنْ جِنَّةٍ ﴾ [ سبأ : ٤٦ ] أو : بالله، أو : بالقرآن المذكور في قوله :﴿ فبما يُوحي إليَّ ربي ﴾ ﴿ وأَنَّى لهم التناوشُ ﴾ أي : التناول. من قرأه بالواو فوجهه : أنه مصدر : ناش، ينوش، نوشاً، أي : تناول، وهي لغة حجازية، ومنه : تناوش القوم في الحرب : إذا تدانوا، وتناول بعضهم بعضاً، أي : ومن أين لهم تناول التوبة وقد بَعدت عنهم، يعني أن التوبة كانت منهم قريبة، تُقبل منهم في الدنيا، وقد ذهبت الدنيا وبَعُدت عن الآخرة. وقيل : هو تمثيل لطلبهم ما لا يكون، وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت، كما نفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا، فمُثِّلت حالهم بحال مَن يريد أن يتناول الشيء من غَلْوة كما يتناوله الآخر من ألف ذراع. ووجه مَن قرأه بالهمز : أنه مصدر : تناءش، بمعنى أبطأ، أو : بعُد، يقال : تناءشت الشيء : أخذته من بُعْدٍ. والنئيش : الشيء البطيء، كما قال الشاعر١ :
وجئْتَ نئيشاً بَعْدَما فَاتَكَ الخير ***. . .
أي : جئت بطيئاً. وقيل : الهمز بدل الواو، كالصائم، والقائم، وأقتت. والمعنى : ومن أين لهم حصول الإيمان المتعذر بعد حصول البعد عن وقته.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قوم غفلوا عن تحقيق الإيمان، وتربيته، بصحبة أهل الإيقان، حتى إذا كُشف ـ بعد الموت ـ عن مقامهم القصير، ومكانهم البعيد، قالوا : آمنا وتيقَّنَّا، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد. وقوم اشتغلوا بالبطالة والتقصير، وصرفوا في الشهوات والحظوظ عمرهم القصير، وتوغلوا في أشغال الدنيا وزخارفها، فذهلوا عن الجد والتشمير، فإذا انقضت عنهم أيام الدنيا حيل بينهم وبين ما يشتهون، من اغتنام الأوقات، وتعمير الساعات، لنيل المراتب والدرجات، وهنالك يقع الندم حين لم ينفع، ويُطلب الرجوع فلا يُسْمَع.
قال القشيري : إذا تابوا ـ وقد أُغْلِقَت الأبواب، وندمُوا ـ وقد تقطعت بهم الأسباب، فليس إلا الحسرات مع الندم، ولات حين ندامة ! كذلك مَن استهان بتفاصيل فترته، ولم يَسْتَفِقْ من غَفْلَتِه فتجاوز حده، ويُعْفَى عنه كَرَّه. فإذا استمكن في القسوة، وتجاوز في سوء الأدب حدَّ القلة، وزاد على مقدار الكثرة، فيحصل لهم من الحق رَدّ، ويستقبلهم حجاب البُعد. فعند ذلك لا يُسمع لهم دعاء، ولا يُرْحَمُ لهم بكاء، كما قيل، وأنشد :
فخل سبيلَ العينِ بعدك للبُكَا فليس لأيام الصفاءِ رجوعُ. هـ
وقوم شمروا عن سابق الجد والتشمير، ولم يقنعوا من مولاهم بقليل ولا كثير، قد انتهزوا فرصة الأعمار، ولم يشغلهم عن الله ربع ولا ديار، عمّروا أوقاتهم بالذكر والتذكار، وفكرة الاعتبار والاستبصار، حتى وردوا دار القرار، أولئك المصطفون الأخيار، يدفع الله تعالى بهم عن أهل الدنيا الأنكاد والأغيار، ويكشف عن قلوبهم الحُجب والأستار. وقوم حققوا مقام الإيمان، واشتغلوا بتربيته، بصحبة أهل الإيقان، حتى أفضوا إلى مقام العيان، فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين. جعلنا الله من خواصهم بمنِّه وكرمه، وبمحمد نبيه وحبه صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه.


١ لفظ البيت بتمامه:
قعدت زمانا عن طلابك للعلا *** وجئت نئيشا بعدما فاتك الخبر
والبيت بلا نسبة في تفسير القرطبي ٦/٥٥٥٣..

﴿ وقد كفروا به من قبل ﴾ حصول العذاب، أو : قبل الموت في الدنيا، ﴿ ويُقْذَفُون بالغيب من مكان بعيدٍ ﴾ هو عطف على " كفروا " على حكاية الحال الماضية، أي : وقد كفروا في الدنيا، ورَموا بظنونهم في الأمور المغيبة، فقالوا : لا بعث ولا حساب، ولا جنة ولا نار. ﴿ من مكان بعيد ﴾ عن الحق والصواب، أو : هو قولهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم، شاعر، ساحر، كذاب، وهو رجم بالغيب ؛ إذ لم يشاهدوا منه سحراً ولا شعراً ولا كذباً. وقد أتوا بهذا الأمر من جهة بعيدة من حاله صلى الله عليه وسلم ؛ إذ لم يعرفوه إلا بالصدق، والأمانة، ورجاحة العقل.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قوم غفلوا عن تحقيق الإيمان، وتربيته، بصحبة أهل الإيقان، حتى إذا كُشف ـ بعد الموت ـ عن مقامهم القصير، ومكانهم البعيد، قالوا : آمنا وتيقَّنَّا، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد. وقوم اشتغلوا بالبطالة والتقصير، وصرفوا في الشهوات والحظوظ عمرهم القصير، وتوغلوا في أشغال الدنيا وزخارفها، فذهلوا عن الجد والتشمير، فإذا انقضت عنهم أيام الدنيا حيل بينهم وبين ما يشتهون، من اغتنام الأوقات، وتعمير الساعات، لنيل المراتب والدرجات، وهنالك يقع الندم حين لم ينفع، ويُطلب الرجوع فلا يُسْمَع.
قال القشيري : إذا تابوا ـ وقد أُغْلِقَت الأبواب، وندمُوا ـ وقد تقطعت بهم الأسباب، فليس إلا الحسرات مع الندم، ولات حين ندامة ! كذلك مَن استهان بتفاصيل فترته، ولم يَسْتَفِقْ من غَفْلَتِه فتجاوز حده، ويُعْفَى عنه كَرَّه. فإذا استمكن في القسوة، وتجاوز في سوء الأدب حدَّ القلة، وزاد على مقدار الكثرة، فيحصل لهم من الحق رَدّ، ويستقبلهم حجاب البُعد. فعند ذلك لا يُسمع لهم دعاء، ولا يُرْحَمُ لهم بكاء، كما قيل، وأنشد :
فخل سبيلَ العينِ بعدك للبُكَا فليس لأيام الصفاءِ رجوعُ. هـ
وقوم شمروا عن سابق الجد والتشمير، ولم يقنعوا من مولاهم بقليل ولا كثير، قد انتهزوا فرصة الأعمار، ولم يشغلهم عن الله ربع ولا ديار، عمّروا أوقاتهم بالذكر والتذكار، وفكرة الاعتبار والاستبصار، حتى وردوا دار القرار، أولئك المصطفون الأخيار، يدفع الله تعالى بهم عن أهل الدنيا الأنكاد والأغيار، ويكشف عن قلوبهم الحُجب والأستار. وقوم حققوا مقام الإيمان، واشتغلوا بتربيته، بصحبة أهل الإيقان، حتى أفضوا إلى مقام العيان، فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين. جعلنا الله من خواصهم بمنِّه وكرمه، وبمحمد نبيه وحبه صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه.

قلت :" مُرِيب " : اسم فاعل، من أراب، أي : أتى بريبة، وأربته : أوقعته في الريبة. ونسبة الإرابة إلى الشك مجاز. والمراد : وصفه بالشدة والإظلام، بحيث إنه يوقع في شك آخر.
﴿ وحِيلَ بينهم وبين ما يشتهون ﴾ من نفع الإيمان يومئذ، والنجاة به من النيران، والفوز بنعيم الجنان، أو بين الرد إلى الدنيا، كما حُكِيَ عنهم بقوله :﴿ فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً ﴾
[ السجدة : ١٢ ] ﴿ كما فُعل بأشياعهم من قبلُ ﴾ أي : بأشباههم من الكفرة الدارجة مِن قبلهم، فإنه قد حيل بينهم وبين ما يشتهون من الإيمان والعمل الصالح بالموت، وهذه الأفعال كلها تقع في المستقبل، عبَّر عنها بالماضي لتحقُّق وقوعها. ﴿ إِنهم كانوا في شكٍّ ﴾ في أمر الرسول والبعث، ﴿ مُريب ﴾ موقع للريبة، أو : ذي ريبة، نعت به للمبالغة. وفيه رد على مَن زعم أن الله لا يُعذّب على الشك، قاله النسفي.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قوم غفلوا عن تحقيق الإيمان، وتربيته، بصحبة أهل الإيقان، حتى إذا كُشف ـ بعد الموت ـ عن مقامهم القصير، ومكانهم البعيد، قالوا : آمنا وتيقَّنَّا، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد. وقوم اشتغلوا بالبطالة والتقصير، وصرفوا في الشهوات والحظوظ عمرهم القصير، وتوغلوا في أشغال الدنيا وزخارفها، فذهلوا عن الجد والتشمير، فإذا انقضت عنهم أيام الدنيا حيل بينهم وبين ما يشتهون، من اغتنام الأوقات، وتعمير الساعات، لنيل المراتب والدرجات، وهنالك يقع الندم حين لم ينفع، ويُطلب الرجوع فلا يُسْمَع.
قال القشيري : إذا تابوا ـ وقد أُغْلِقَت الأبواب، وندمُوا ـ وقد تقطعت بهم الأسباب، فليس إلا الحسرات مع الندم، ولات حين ندامة ! كذلك مَن استهان بتفاصيل فترته، ولم يَسْتَفِقْ من غَفْلَتِه فتجاوز حده، ويُعْفَى عنه كَرَّه. فإذا استمكن في القسوة، وتجاوز في سوء الأدب حدَّ القلة، وزاد على مقدار الكثرة، فيحصل لهم من الحق رَدّ، ويستقبلهم حجاب البُعد. فعند ذلك لا يُسمع لهم دعاء، ولا يُرْحَمُ لهم بكاء، كما قيل، وأنشد :
فخل سبيلَ العينِ بعدك للبُكَا فليس لأيام الصفاءِ رجوعُ. هـ
وقوم شمروا عن سابق الجد والتشمير، ولم يقنعوا من مولاهم بقليل ولا كثير، قد انتهزوا فرصة الأعمار، ولم يشغلهم عن الله ربع ولا ديار، عمّروا أوقاتهم بالذكر والتذكار، وفكرة الاعتبار والاستبصار، حتى وردوا دار القرار، أولئك المصطفون الأخيار، يدفع الله تعالى بهم عن أهل الدنيا الأنكاد والأغيار، ويكشف عن قلوبهم الحُجب والأستار. وقوم حققوا مقام الإيمان، واشتغلوا بتربيته، بصحبة أهل الإيقان، حتى أفضوا إلى مقام العيان، فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين. جعلنا الله من خواصهم بمنِّه وكرمه، وبمحمد نبيه وحبه صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه.

Icon