بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الممتحنة مدنية، وتسمى " الممتحنة " - بكسر الحاء- أي : المختبرة، وأضيف الفعل إليها مجازا، كما سميت سورة " براءة " المبعثرة والفاضحة والكاشفة لما كشفت من عيوب المنافقين.ومن قال " بفتح الحاء " فإنه أضافها إلى المرأة التي نزلت فيها، وهي أم كلثوم بنت عقبة أبي معيط١، قال تعالى :﴿ فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن ﴾ [ الممتحنة : ١٠ ].
وهي ثلاث عشرة آية، وثلاث مائة وثمان وأربعون كلمة، وألف وخمسمائة وعشرة أحرف.
ﰡ
وجه تعلق أول هذه السورة بآخر ما قبلها، هو أن آخر تلك السورة تشتمل على الصفات الجميلة [اللائقة بحضرة الله - تعالى - من الوحدانية وغيرها]، وأول هذه السورة يشتمل على حرمة الاختلاط مع من لم يعترف بتلك الصفات.
قوله: ﴿عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ﴾.
هذان مفعولا الاتخاذ.
وأضاف العدو لنفسه تغليظاً في جرمهم.
روى مسلم عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «بعثنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنا والزبير والمقداد، فقال:» ائْتُوا روضة «خَاخٍ» فإنَّ بِهَا ظعينةً معها كتابٌ فخذُوهُ مِنْهَا «فانطلقنا تُعادي بنا خيلنَا، فإذا نحن بالمرأة، وهي امرأة عبد الرحمن بن عوف ولدت إبراهيم بن عبد الرحمن، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي كتاب، فقلنا: لتُخرجنَّ الكتاب أو لنلقينَّ الثياب فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل» مكة «يخبرهم ببعض أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: يا حاطب ما هذا؟ فقال: لا تَعْجَلْ عليَّ يا رسول الله، إني كنت أمرأً ملصقاً في قريش - قال سفيان: يقول: كنت حليفاً - ولم أكن من أنفسها، وكان ممن معك من المهاجرين من له قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النَّسَب أن أتخذ عندهم يداً يحمون قرابتي، ولم أفعله كفراً ولا ارتداداً عن ديني، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» أمَا إنَّهُ قَدْ صَدقَكُمْ «، فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: إنَّهُ شهد بَدْراً، ومَا يُدْريك لعلَّ اللَّه اطلع على مَنْ شَهِدَ بَدْراً، فقال: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ»، فأنزل الله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ﴾ إلى قوله: ﴿سَوَآءَ السبيل﴾.
قيل: اسم المرأة سارة من موالي قريش، وكان في الكتاب: «أما بعد، فإن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل، وأقسم بالله لو لم يسر إليكم إلا وحده لأظفره الله بكم، وأنجز له وعده فيكم، فإن الله وليه وناصره».
وقيل: «إن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف أتت [المدينة من مكة ورسول الله] يتجهز لفتح مكة. قيل: كان هذا زمن الحديبية، فقال لها رسول
فصل في النهي عن موالاة الكفار
هذه السورة أصل في النهي عن موالاة الكُفَّار، وقد تقدم نظيره، كقوله: ﴿لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ﴾ [آل عمران: ٢٨]. وقوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ﴾ [آل عمران: ١١٨] ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ﴾ [المائدة: ٥١].
روي أن حاطباً لما سمع ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ﴾ غشي من الفرح بخطاب الإيمان.
قوله: «تُلقُون». فيه أربعة أوجه:
أحدها: أنه تفسير لموالاتهم إياها.
الثاني: أنه استئناف إخبار بذلك، فلا يكون للجملة على هذين الوجهين محلّ من الإعراب.
الرابع: أنها صفة لأولياء.
قال الزمخشري: «فإن قلت: إذا جعلته صفة وقد جرى على غير من هو له، فأين الضمير البارز، وهو قولك: تلقون إليهم أنتم بالمودّة؟.
قلت: ذاك إنما اشترطوه في الأسماء دون الأفعال ولو قيل: أولياء ملقين إليهم بالمودة على الوصف لما كان بُدّ من الضمير البارز».
وقد تقدمت هذه المسألة مستوفاة، وفيها كلام مكي وغيره.
إلا أن أبا حيّان اعترض على كونها صفة أو حالاً، بأنهم نهوا عن اتخاذهم أولياء مطلقاً في قوله: ﴿لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ﴾ [المائدة: ٥١]، والتقييد بالحال والوصف يوهم جواز اتخاذهم أولياء إذا انتفى الحال أو الوصف.
قال شهاب الدين: «ولا يلزم ما قال، لأنه معلوم من القواعد الشرعية، فلا مفهوم لها ألبتة».
وقال الفرَّاء: «تلقون» من صلة «أولياء».
وهذا على أصولهم من أن النكرة توصل لغيرها من الموصولات.
قوله: «بِالمَودَّةِ». في الباء ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الباء مزيدة في المفعول به، كقوله: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٥]، وقوله: ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ﴾ [الحج: ٢٥].
والثاني: أنها غير مزيدة، والمفعول محذوف، ويكون معنى الباء: السببية، كأنه قيل: تلقون إليهم أسرار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأخباره بسبب المودة التي بينكم وبينهم. قاله الزجاج.
الثالث: أنها متعلقةٌ بالمصدر الدال عليه «تلقون» أي: إلقاؤهم بالمودة.
نقله الحوفي عن البصريين [وجعل القول بزيادة الباء قول الكوفيين.
إلا أنَّ هذا الذي نقله عن البصريين] لا يوافق أصولهم، إذ يلزم منه حذف المصدر وإبقاء معموله، وهو لا يجوز عندهم، وأيضاً فإن فيه حذف الجملة برأسها، فإن «إلقاءهم» مبتدأ، و «بالمَودَّةِ» متعلق به، والخبر أيضاً محذوف، وهذا إجحاف.
فصل في الكلام على الآية
قال ابن الخطيب: في الآية مباحث.
الأول: اتخاذ العدو أولياء، كيف يمكن، والعداوة منافية للمحبة؟.
والجواب: لا يبعد أن تكون العداوة بالنسبة إلى أمر آخر، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ [الأنفال: ٢٨].
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أوْلادُنَا أكْبَادُنَا»
الثاني: لم قال: ﴿عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ﴾ ولم يقل بالعكس؟.
والجواب: أنَّ العداوة بين المؤمن والكافر بسبب محبّة الله ومحبَّة رسوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فتكون محبة العبد من أصل الإيمان بحضرة الله تعالى لعلةٍ، ومحبة حضرة الله - تعالى - للعبد لا لعلة، والذي لا لعلة مقدم على الذي لعلة؛ ولأن الشيء إذا كانت له نسبة إلى الطرفين، فالطرف الأعلى مقدم على الأدنى.
الثالث: قال: «أولياء»، ولم يقل: ولي العدو أو العدو معرفاً؟.
فالجواب: أن المعرف بحرف التعريف يتناول كل فرد، فكذلك المعرف بالإضافة.
فصل
قال القرطبي: قوله: ﴿تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة﴾ يعني بالظَّاهر، لأن قلب حاطب كان سليماً بدليل أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لهم: «أمَّا صَاحبُكمْ فقدْ صَدَقَ»، وهذا نصٌّ في سلامة فؤاده، وخلوص اعتقاده.
فصل فيمن تطلع على عورات المسلمين
قال القرطبي: من كثر تطلّعه على عورات المسلمين، وينبه عليهم، ويعرف عدوهم بأخبارهم لم يكن بذلك كافراً إذا كان فعله ذلك لغرض دنيوي، واعتقاده على ذلك سليم، كما فعل حاطب حين قصد بذلك اتخاذ اليد، ولم ينو الردة عن الدين.
وإذا قيل: بأنه لا يكون كافراً بذلك فهل يقتل حدًّا أم لا؟ فقال مالك وابن القاسم وأشهب: يجتهد الحاكم الإمام في ذلك.
وقد روي عن عليٍّ بن أبي طالبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أتي بعين للمشركين اسمه: فُرات بن حيَّان، فأمر به أن يقتل، فصاح: يا معشر الأنصار، أقتل وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؟ فأمر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فخلي سبيله، ثم قال:» إنَّ مِنكُمْ من أكِلُهُ إلى إيمانِهِ، مِنْهُمْ فُراتُ بنُ حيَّانَ «
قوله:» وقَدْ كَفرُوا «. فيه أوجه:
أحدها: الاستئناف.
الثاني: حال من فاعل» تتخذوا «.
الثالث: حال من فاعل» تلقون «، أي: لا تتولَّوهم أو لا توادوهم وهذه حالهم.
وقرأ العامة:» بما «- بالباء -، والجحدري وعاصم في رواية:» لما «- باللام - أي: لأجل ما جاءكم من الحق، فعلى هذا الشيء المكفور به غير مذكور، وتقديره: كفروا بالله ورسوله.
قوله: ﴿يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ﴾.
يجوز أن يكون مستأنفاً، وأن يكون تفسيراً لكفرهم، فلا محلَّ لها على هذين، وأن يكون حالاً من فاعل» كَفَرُوا «.
قوله:» وإيَّاكُمْ «. عطف على» الرَّسُول «وقدّم عليهم تشريفاً له.
وقد استدل به من يجوز انفصال الضمير مع القدرة على اتصاله، إذ كان يجوز أن يقال: يخرجونكم والرسول، فيجوز: يخرجون إياكم والرسول في غير القرآن.
وهو ضعيف، لأن حالة تقديم الرسول دلالة على شرفه، لا نسلم أنه يقدر على اتصاله.
وقد تقدم الكلام على هذه الآية عند قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتقوا الله﴾ في سورة النساء [١٣١].
فصل
قال القرطبي: ﴿أن تؤمنوا بالله﴾ تعليل ل» يخرجون «والمعنى: يخرجون الرسول، ويخرجونكم من» مكة «لأن تؤمنوا بالله، أي: لأجل إيمانكم بالله.
قال ابن عباس: وكان حاطب ممن أخرج مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: إن الكلام فيه تقديم وتأخير، والتقدير: لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي.
وقيل: في الكلام حذف، والمعنى: إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي، وابتغاء مرضاتي [فلا تلقوا إليهم بالمودة.
وقيل: ﴿إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وابتغآء مَرْضَاتِي﴾ ] شرط وجوابه مقدم، والمعنى: إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي فلا تتَّخذوا عدوي وعدوكم أولياء.
قال أبو حيان: ﴿إِن كُنتُم خَرَجْتُمْ﴾ جوابه محذوف عند الجمهور لتقدم «لا تتخذوا» وتقدم، وهو «لا تتخذوا» عند الكوفيين ومن تابعهم.
قال الزمخشري: و ﴿إن كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ﴾ متعلق ب «لا تتخذوا» يعني: لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي، وقول النحويين في مثله: هو جواب شرط، جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه انتهى.
يريد: أنه متعلق به من حيث المعنى، وأما من حيث الإعراب، فكما قال جمهور النحويين.
قوله: ﴿جِهَاداً فِي سَبِيلِي﴾ ﴿وابتغآء مَرْضَاتِي﴾ يجوز أن ينتصبا على المفعول له، أي: خرجتم لأجل هذين، أو على المصدر بفعل مقدر أي: تجاهدون وتبتغون، أو على أنهما في موضع الحال.
قوله: «تُسِرُّونَ».
يجوز أن يكون مستأنفاً، ولم يذكر الزمخشري غيره.
ويجوز أن يكون بدلاً من «تلقون». قاله ابن عطية.
والأشبه أن يكون بدل اشتمال، لأن إلقاء المودة يكون سرًّا وجهراً، فأبدل منه هذا للبيان بأيّ نوع وقع الإلقاء.
قال القرطبي: «تُسِرُّونَ» بدل من «تُلْقُونَ» ومبين عنه، والأفعال تبدل من الأفعال كما قال تعالى: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب﴾ [الفرقان: ٦٨، ٦٩].
وأنشد سيبويه: [الطويل]
٤٧٥٩ - مَتَى تَأتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا | تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً ونَاراً تَضرَّمَا |
ولا يخرج عن معنى الاستئناف.
وقال أبو البقاء: «هو توكيد ل» تلقون «بتكرير معناه».
قال شهاب الدين: «وفيه نظر، لأن الإلقاء أعم من أن يكون سرًّا وجهراً».
وتقدم الكلام على الباء في قوله: «بالمودَّة».
قوله: ﴿وَأَنَاْ أَعْلَمُ﴾.
هذه الجملة حال من فاعل «تُسِرُّونَ»، أي: وأيُّ طائلٍ لكم في إسراركم، وقد علمتم أن الإسرار والإعلان سيان في علمي.
و «أعْلَمُ»، يجوز أن يكون أفعل تفضيل، وهو الظاهر، أي: أنا أعلم من كل أحد بما يخفون، وما يعلنون.
وأن يكون فعلاً مضارعاً.
قاله ابن عطية، وعُدِّي بالباء، لأنك تقول: علمت بكذا، وعلمت كذا فتكون زائدة.
وقيل: وأنا أعلم من كل أحد كما يقال: فلان أعلم وأفضل من غيره.
فالجواب هذا بالنسبة إلى علمنا، لا بالنسبة إلى علمه - تعالى - إذ هما سيّان في علمه تعالى؛ لأن المقصود بيان ما هو الإخفاء، وهو الكفر، فيكون مقدماً.
فإن قيل: لم لم يقل: بما أسررتم، ثم وما أعلنتم، مع أنه أليق بما سبق في قوله: «تُسِرُّونَ؟» فالجواب: أن فيه من المبالغة ما ليس في ذلك، فإنَّ الإخفاء أبلغ من الإسرار بدليل قوله: ﴿يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى﴾ [طه: ٧]، أي: أخفى من السِّر].
فصل في معاتبة حاطب
قال القرطبي: وهذا كله معاتبة لحاطب، وهو يدل على فضله وكرامته، ونصيحته للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصدق إيمانه؛ فإن المعاتبة لا تكون إلا من محبٍّ لحبيب؛ كما قال: [الوافر]
٤٧٦٠ - إذَا ذَهَبَ العِتَابُ فليْسَ وُدٌّ | ويَبْقَى الودُّ مَا بَقِيَ العِتَابُ |
فصل في المراد بالمودة
والمراد بالمودّة في الآية النصيحة.
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: وأنا أعلم بما أخفيتم في صدوركم، وما أظهرتم بألسنتكم من الإقرار والتوحيد.
﴿وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ﴾ أي: من يسر إليهم ويكاتبهم ﴿فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل﴾ أي: أخطأ طريق الهدى.
قوله: «ومَن يفعلهُ». في الضمير وجهان:
أظهرهما: أنه يعود على الإسرار؛ لأنه أقرب مذكور.
والثاني: يعود على الاتِّخاذ. قاله ابن عطية.
قوله: ﴿سَوَآءَ السبيل﴾.
يجوز أن يكون منصوباً على الظرف، إن قلنا: ضلَّ قاصر.
وأن يكون مفعولاً به، إن قلنا: هو متعد.
فالجواب: إن كان المراد من قوله: «مِنْكُمْ» هم المؤمنون فظاهر، لأن من يفعل ذلك لا يلزم أن يكون مؤمناً].
وقيل: «يثقفوكم» : يظفروا بكم ويتمكنوا منكم ﴿يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً ويبسطوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسواء﴾ أي: بالضَّرب والشَّتم.
قوله: ﴿وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ﴾.
في «ودوا» وجهان:
أحدهما: أنه معطوفٌ على جواب الشرط، وهو قوله: «يَكُونُوا» و «يَبْسطُوا» قاله الزمخشري.
ثم رتب عليه سؤالاً وجواباً، فقال: «فإن قلت: كيف أورد جواب الشَّرط مضارعاً مثله، ثم قال:» ودوا «بلفظ الماضي؟.
قلت: الماضي وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع في علم الإعراب، فإن فيه نكتة، كأنه قيل: ودوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم، يعني أنهم يريدون أن يلحقوا مضار الدنيا والآخرة جميعاً».
والثاني: أنه معطوف على جملة الشَّرط والجزاء، ويكون تعالى قد أخبر بخبرين بما تضمنته الجملة الشرطية، وموادتهم كفر المؤمنين.
ورجح أبو حيان هذا، وأسقط به سؤال الزمخشري وجوابه، فقال: «وكأن الزمخشري فهم من قوله:» ووَدُّوا «أنه معطوف على جواب الشرط، والذي يظهر أنه ليس معطوفاً عليه؛ لأن ودادتهم كفرهم ليست مرتبة على الظفر بهم والتسليط عليهم، بل هم
قال شهاب الدين: «والظَّاهر أنه عطف على الجواب، وقوله: هم وادُّون ذلك مطلقاً مسلم، لكن ودَادَتَهُم له عند الظَّفر والتسليط أقرب وأطمع لهم فيهم».
وقوله: ﴿لَوْ تَكْفُرُونَ﴾.
يجوز أن يكون لما سيقع لوقوع، وأن تكون المصدرية عند من يرى ذلك.
وتقدم تحريرهما في البقرة.
فصل في معنى الآية
والمعنى: ودوا لو تكفرون بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلا تناصحوهم، فإنهم لا يناصحونكم.
لما اعتذر حاطب بأن له أرحاماً وأولاداً فيما بينهم بيَّن الله - تعالى - أن الأهل والأولاد لا ينفعون شيئاً يوم القيامة إن عصى من أجل ذلك.
﴿يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ﴾ فيدخل المؤمنين الجنة، ويدخل الكافرين النار ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
قوله: ﴿يَوْمَ القيامة﴾ يجوز فيه وجهان.
أحدهما: أن يتعلق بما قبله، أي: لن ينفعكم يوم القيامة، فيوقف عليه، ويبتدأ ﴿يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ﴾.
والثاني: أن يتعلق بما بعده، أي: يفصل بينكم يوم القيامة، فيوقف على «أولادكم» ويبتدأ ﴿يَوْمَ القيامة﴾.
والقراء في ﴿يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ﴾ على أربع مراتب:
الأولى: لابن عامر: بضم الياء وفتح الفاء والصاد مثقلة.
الثالثة: بفتح الياء وسكون الفاء وكسر الصاد مخففة لعاصم.
الرابعة: بضم الياء وسكون الفاء وفتح الصاد مخففة للباقين، وهم نافع وابن كثير، وأبو عمرو، وهذا في السبعة.
وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة: بضم الياء وكسر الصاد مخففة وسكون الفاء مخففة من «أفْصَلَ».
وأبو حيوة أيضاً: «نُفْصِلُ» بضم النون، من «أفصل».
والنخعي وطلحة: «نُفَصِّلُ» بضم النون وفتح الفاء وكسر الصَّاد مشددة.
وقرأ أيضاً وزيد بن علي: «نَفْصِلُ» بفتح النون وسكون الفاء وكسر الصاد مخففة فهذه أربع، فصارت ثماني قراءات.
فمن بناه للمفعول، فالقائم مقام الفاعل إما ضمير المصدر، أي: يفصل الفصل، أو الظرف، وبني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن، كقوله: ﴿لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: ٩٤] في أحد الأوجه، أو الظرف وهو باقٍ على نصبه كقولك: جُلِسَ عندك. ثم قال: ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، وفيه سؤال، وهو أنه لِمَ لَمْ يَقُلْ: خبير مع أنه أبلغ في العلم بالشيء؟
والجواب: أنَّ الخبير أبلغ في العلم، والبصير أشهر منه فيه، فإنه يجعله كالمحسُوس بحس البصر.
والأسْوَةُ والإسوةُ ما يتأسّى به مثل القُدوة والقِدوة، ويقال: هو أسوتك أي مثلك وأنت مثله وتقدم قراءة «أسوة» في سورة «الأحزاب» والكلام على مادتها.
قوله: ﴿في إِبْرَاهِيمَ﴾. في أوجه:
أحدها: أنه متعلق ب «أسوة»، تقول: لي أسوة في فلان، ومنع أبو البقاء أن يتعلق بها لأنها قد وصفت.
وهذا لا يبالى به لأنه يغتفر في الظرف ما لا يغتفر في غيره.
الثاني: أنه متعلق ب «حسنة» تعلق الظرف بالعامل.
الثالث: أنه نعتٌ ثانٍ ل «أسوة».
الرابع: أنه حال من الضمير المستتر في «حسنة».
الخامس: أن يكون خبر «كَانَ» و «لَكُمْ» تبيين.
قوله: ﴿والذين مَعَهُ﴾ يعني أصحاب إبراهيم من المؤمنين.
وقال ابن زيدٍ: هم الأنبياء.
قوله: ﴿إِذْ قَالُواْ﴾. فيه وجهان:
أحدهما: أنه خبر «كان».
والثاني: أنه متعلق بخبرها.
قالهما أبو البقاء.
ومن جوز في «كان» أن تعمل في الظرف علقه بها، والمراد بقومهم: الكفار.
قوله: ﴿إِنَّا بُرَءآؤ﴾.
هذه قراءة العامة - بضم الباء وفتح الراء وألف بين همزتين - جمع «بريء»، نحو «كرماء» في نحو «كريم».
وعيسى أيضاً وأبو جعفر بضم الباء وهمزة بعد ألف.
وفيه أوجه:
الثاني: أنه جمع «بريء» أيضاً وأصله: «برآء» كالقراءة المشهورة إلاَّ أنه حذف الهمزة الأولى تخفيفاً. قاله أبو البقاء.
الثالث: أنه اسم جمع ل «بريء» نحو: «تؤام، وظؤار» اسمي جمع ل «توأم، وظِئْر».
وقرأ عيسى أيضاً بفتح الباء وهمزة بعد ألف، كالتي في «الزخرف»، وصح ذلك لأنه مصدر، والمصدر يقع على الجمع كوقوعه على الواحد.
قال الزمخشري: «والبراء والبراءة كالظماء والظماءة».
وقال مكي: وأجاز أبو عمرو وعيسى بن عمر: «بِراء» - بكسر الباء - جعلاه ك «كريم وكرام».
قال القرطبي: هو على وزن «فِعَال» مثل: «قِصَار وقصير»، و «طِوَال وطويل» و «ظراف وظريف» ويجوز ترك الهمزة حتى تقول برآ وتنون.
وأجاز الفراء: بفتح الباء، ثم قال: «وبراءُ» في الأصل مصدر.
كأنه لم يطلع على أنها قراءة منقولة.
فصل في الاقتداء بسيدنا إبراهيم.
قال القرطبي: «الآية نصّ في الأمر بالاقتداء بإبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في فعله، وذلك يدلّ على أن شرع من قبلنا شرع لنا فيما أخبر الله ورسوله».
قوله: ﴿كَفَرْنَا بِكُمْ﴾، أي بما آمنتم به من الأوثان.
وقيل: بأفعالكم وكذبناها وأنكرنا أن يكونوا على حق، ﴿وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء أَبَداً﴾ أي: هذا دأبنا معكم ما دمتم على كفركم حتى تؤمنوا بالله وحده، فحينئذ تنقلب المعاداةُ موالاة.
فإن قيل: ما الفائدة في قوله: ﴿تُؤْمِنُواْ بالله وَحْدَهُ﴾، والإيمان إنما هو باللَّهِ وبغيره كقوله: ﴿كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ [البقرة: ٢٨٥].
قوله: ﴿إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ﴾ فيه أوجه:
أحدها: أنه استثناء متصل من قوله: «في إبراهيم» ولكن لا بد من حذف مضاف ليصح الكلام، تقديره: في مقالات إبراهيم إلا قوله كيت وكيت.
الثاني: أنه مستثنى من ﴿أًسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ وجاز ذلك؛ لأن القول أيضاً من جملة الأسوة؛ لأن الأسوة الاقتداء بالشخص في أقواله وأفعاله، فكأنه قيل: لكم فيه أسوة في جميع أحواله من قول وفعل إلا قوله كذا.
وهذا واضح؛ لأنه غير مُحوجٍ إلى تقدير مضاف وغير مخرجٍ للاستثناء من الاتصال الذي هو أصله إلى الانقطاع، ولذلك لم يذكر الزمخشري غيره.
قال: فإن قلت: ممَّ استثني قوله: ﴿إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ﴾
قلت: من قوله «أسْوةٌ حسَنةٌ» ؛ لأنه أراد بالأسوة الحسنة قولهم الذي حق عليهم أن يتأسَّوا به، ويتخذوه سنة يستنون بها.
فإن قلت: فإن كان قوله «لأسْتغفِرنَّ لَكَ» مستثنى من القول الذي هو «أسْوةٌ حَسَنةٌ» فما بال قوله: ﴿وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْءٍ﴾ وهو غير حقيق بالاستثناء، ألا ترى إلى قوله: ﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً﴾ [الفتح: ١١].
قلت: أراد استثناء جملة قوله: «لأبيهِ» والقصد إلى موعد الاستغفار له، وما بعده مبني عليه وتابع له، كأنه قال: أنا أستغفر لك، وما في طاقتي إلاَّ الاستغفار.
الثالث: قال ابن عطية: «ويحتمل أن يكون الاستثناء من التَّبري والقطيعة التي ذكرت أي: لم تبق صلة إلا كذا، والله أعلم».
الرابع: أنه استثناء منقطع، أي: لكن قول إبراهيم.
وهذا بناء من قائليه على أنَّ القول لم يندرج تحت قوله: «أسْوَةٌ»، وهو ممنوع.
فصل
قال القرطبي: معنى قوله: ﴿إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾ أي: فلا تتأسَّوا به في الاستغفار، فتستغفرون للمشركين، فإنه كان عن موعدة منه له.
قاله قتادة ومجاهد وغيرهما.
﴿وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا﴾ [الحشر: ٧]، وحين أمرنا بالاقتداء بإبراهيم عليه السلام استثني بعض أفعاله، وذلك إنما جرى؛ لأنه ظن أنه أسلم، فلما بان أنه لم يسلم تبرَّأ منه، وعلى هذا يجوز الاستغفار لمن يظن أنه أسلم، وأنتم لم تجدوا مثل هذا الظَّن فلم توالوهم؟.
قوله: ﴿وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْءٍ﴾ هذا من قول إبراهيم لأبيه، أي: ما أدفع عنك من عذاب الله شيئاً إن أشركت به.
قوله: ﴿رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا﴾.
يجوز أن يكون من مقول إبراهيم والذين معه، فهو من جملة الأسوة الحسنة، وفصل بينهما بالاستثناء، ويجوز أن يكون منقطعاً مما قبله على إضمار قول، وهو تعليم من الله تعالى لعباده، كأنه قال لهم: قولوا: ﴿رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا﴾ أي: اعتمدنا ﴿وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا﴾ أي: رجعنا ﴿وَإِلَيْكَ المصير﴾ أي: الرجوع في الآخرة.
﴿رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾. أي: ولا تظهر عدوَّنا علينا، فيظنوا أنهم على حقّ. فيفتنوا بذلك وقيل: لا تسلّطهم علينا، فيقتلوننا ويعذبوننا.
وقال مجاهد: لا تعذبنا بأيديهم، ولا بعذاب من عندك، فيقولوا لو كان هؤلاء على الحق لما أصابهم ذلك.
وقيل: لا تبسط [عليهم] الرزق دوننا، فإن ذلك فتنة لهم.
وقيل: ﴿لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً﴾ أي: عذاباً أي: سبباً يعذب به الكفرة، وعلى هذا ليست الآية من قول إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ﴿واغفر لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم﴾.
قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ﴾ أي: في إبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء «أسْوةٌ حَسَنةٌ» أي: في التَّبرِّي من الكُفَّار.
وقيل: كرر للتأكيد.
وقيل: نزل الثاني بعد الأول بمدة.
قال القرطبي: وما أكثر المكررات في القرآن على هذا الوجه.
قوله: ﴿لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله﴾.
والضمير في «فيهم» عائد على «إبراهيم» ومن معه، وكررت «الأسوة» تأكيداً.
وفيه بيان أن هذه الأسوة لمن يخاف الله، ويخاف عذاب الآخرة، ﴿وَمَن يَتَوَلَّ﴾ أي: يعرض عن الإيمان ويتول الكُفَّار ﴿فَإِنَّ الله هُوَ الغني﴾ عن خلقه، أي: لم يتعبدهم لحاجته إليهم ﴿الحميد﴾ إلى أوليائه وأهل طاعته.
وقيل: الحميد في نفسه وصفاته.
قوله تعالى: ﴿عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً﴾.
قال المفسرون: لمَّا نزلت الآية الأولى عادى المسلمين أقرباؤهم من المشركين، فعلم الله شدّة وجد المسلمين في ذلك فنزلت: ﴿عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً﴾ أي: من كفار «مكة»، وقد فعل الله ذلك؛ لأن «عَسَى» من الله وعد، ولا يخلف الله وعدهُ، وهذا بأن يسلم الكافر، وقد أسلم قوم منهم بعد فتح «مكة»، وخالطهم المسلمون كأبي سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وحكيم بن حزام.
وقيل: المودة تزويج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أم حبيبة بنت أبي سفيان فلانت عندئذ عريكة أبي سفيان.
قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: كانت المودّة بعد الفتح تزويج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمَّ حبيبة بنت أبي سفيان قال ابن عباس: وكانت تحت عبد الله بن جحشٍ، وكانت هي وزوجها من مهاجرة الحبشة، فأما زوجها فتنصَّر، وسألها أن تتابعه على دينه، فأبت وصبرت على دينها، ومات زوجها على النصرانية، فبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى النجاشي فخطبها، فقال النجاشي لأصحابه: من أولاكم بها؟ قالوا: خالد بن سعيد بن العاص، قال: فزوجها من نبيكم ففعل وأمهرها النجاشي من عنده أربعمائة دينار.
وقيل: خطبها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى عثمان بن عفَّان، فلما زوجه إياها بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى النجاشي فيها، فساق عنه المهر، وبعث بها إليه، فقال أبو سفيان وهو مشرك لما بلغه تزويج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ابنته: وذلك الفحل لا يقدع أنفه.
قال ابن الأثير: «يقال: قدعت الفحل وهو أن يكون غير كريم، فإذا أراد ركوب
وقال مجاهد : لا تعذبنا بأيديهم، ولا بعذاب من عندك، فيقولوا لو كان هؤلاء على الحق لما أصابهم ذلك.
وقيل : لا تبسط [ عليهم ]٢ الرزق دوننا، فإن ذلك فتنة لهم.
وقيل :﴿ لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً ﴾ أي : عذاباً أي : سبباً يعذب به الكفرة، وعلى هذا ليست الآية من قول إبراهيم - عليه الصلاة والسلام٣ :﴿ واغفر لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم ﴾.
٢ في أ: لهم..
٣ ينظر: التفسير الكبير ٢٩/٢٦٢..
وقيل : كرر للتأكيد.
وقيل : نزل الثاني بعد الأول بمدة.
قال القرطبي١ : وما أكثر المكررات في القرآن على هذا الوجه.
قوله :﴿ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله ﴾.
بدل من الضمير في «لكُمْ » بدل بعض من كل، وقد تقدَّم مثله في «الأحزاب »٢.
والضمير في «فيهم » عائد على «إبراهيم » ومن معه، وكررت «الأسوة » تأكيداً٣.
وفيه بيان أن هذه الأسوة لمن يخاف الله، ويخاف عذاب الآخرة٤، ﴿ وَمَن يَتَوَلَّ ﴾ أي : يعرض عن الإيمان ويتول الكُفَّار، ﴿ فَإِنَّ الله هُوَ الغني ﴾ عن خلقه، أي : لم يتعبدهم لحاجته إليهم ﴿ الحميد ﴾ إلى أوليائه وأهل طاعته.
وقيل : الحميد في نفسه وصفاته٥.
٢ آية رقم (٢١)..
٣ ينظر: الدر المصون ٦/٣٠٥..
٤ ينظر: الرازي ٢٩/٢٦٢..
٥ ينظر: القرطبي ١٨/٣٩..
قال المفسرون١ : لمَّا نزلت الآية الأولى عادى المسلمين أقرباؤهم من المشركين، فعلم الله شدّة وجد المسلمين في ذلك فنزلت :﴿ عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ﴾ أي : من كفار «مكة »، وقد فعل الله ذلك ؛ لأن «عَسَى » من الله وعد، ولا يخلف الله وعدهُ، وهذا بأن يسلم الكافر، وقد أسلم قوم منهم بعد فتح «مكة »، وخالطهم المسلمون كأبي سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وحكيم بن حزام. وقيل : المودة تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان فلانت عندئذ عريكة أبي سفيان، قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما : كانت المودّة بعد الفتح تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أمَّ حبيبة بنت أبي سفيان قال ابن عباس : وكانت تحت عبد الله بن جحشٍ، وكانت هي وزوجها من مهاجرة الحبشة، فأما زوجها فتنصَّر، وسألها أن تتابعه على دينه، فأبت وصبرت على دينها، ومات زوجها على النصرانية، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فخطبها، فقال النجاشي لأصحابه : من أولاكم بها ؟ قالوا : خالد بن سعيد بن العاص، قال : فزوجها من نبيكم ففعل وأمهرها النجاشي من عنده أربعمائة دينار٢.
وقيل : خطبها النبي صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن عفَّان، فلما زوجه إياها بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فيها، فساق عنه المهر، وبعث بها إليه، فقال أبو سفيان وهو مشرك لما بلغه تزويج النبي صلى الله عليه وسلم ابنته : وذلك الفحل لا يقدع أنفه. قال ابن الأثير٣ :«يقال : قدعت الفحل وهو أن يكون غير كريم، فإذا أراد ركوب الناقة الكريمة ضرب أنفه بالرمح وغيره حتى يرتدع وينكبّ، ويروق بالراء ».
٢ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/٣٦) عن ابن عباس..
٣ ينظر: النهاية ٤/٢٤..
هذه الآية رخصة من الله - تعالى - في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم.
قال ابن زيد: كان هذا في أول الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال ثم نسخ.
قال قتادة: نسختها: ﴿فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥].
وقيل: كان هذا الحكم لعلة، وهي الصلح فلما زال الصُّلح بفتح «مكة» نسخ الحكم، وبقي الرسم يتلى.
وقيل: هي مخصوصة في خلفاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومن بينه وبينه عهد لم ينقضه. قاله الحسن.
قال الكلبي: هم خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناف، وهو قول أبي صالح.
وقال مجاهد: هي مخصوصة في الذين آمنوا، ولم يهاجروا.
وقيل: يعني به النساء والصبيان؛ لأنهم ممن لا يقاتل، فأذن الله في برهم.
وقال أكثر أهل التأويل: هي محكمة، «واحتجُّوا بأن أسماء بن أبي بكر سألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: هَلْ تَصِلُ أمَّهَا حين قدِمتْ عليْهَا مُشْرِكةً؟ قال:» نَعَمْ «» خرجه البخاري ومسلم.
وقيل: إن الآية نزلت فيها.
وروى عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه: أن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - طلق امرأته قتيلة في الجاهلية، وهي أم أسماء بنت أبي بكر، فقدمت عليهم في المدة التي
قوله: ﴿أَن تَبَرُّوهُمْ﴾ وقوله: ﴿أَن تَوَلَّوْهُمْ﴾ بدلان من الذين قبلهما بدل اشتمال، فيكون في موضع جرّ.
والمعنى: لا ينهاكم الله عن أن تبروا هؤلاء الذين لم يقاتلوكم، إنما ينهاكم عن تولي هؤلاء وهم خزاعة، صالحوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على ألاَّ يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحداً، فأمر ببرهم والوفاء لهم إلى أجلهم. حكاه الفرَّاء.
وقوله: ﴿وتقسطوا إِلَيْهِمْ﴾. أي: تعطوهم قسطاً من أموالكم على وجه الصلة، وليس يريد به من العدل، فإن العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل، قاله ابن العربي.
فصل في نفقة الابن المسلم على أبيه الكافر.
نقل القرطبي عن القاضي أبي بكر في كتاب «الأحكام» له: أن بعض العلماء استدلّ بهذه الآية على وجوب نفقة الابن المسلم على أبيه الكافر، قال: وهذه وهلة عظيمة، إذ الإذن في الشيء، أو ترك النهي عنه لا يدل على وجوب، وإنما يعطي الإباحة خاصة؛ وقد بيَّنَّا أنَّ القاضي إسماعيل بن إسحاق دخل عليه ذمي فأكرمه، فأخذ عليه الحاضرون في ذلك، فتلا هذه الآية عليهم «.
قوله
تعالى
: ﴿يا
أيها
الذين آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ﴾ الآية لما أمر المسلمين بترك موالاة [المشركين] اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة، فبين أحكام مهاجرة النساء.
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: جرى الصُّلح مع مشركي قريش عام الحديبية على أن من أتاه من أهل «مكة» رده إليهم، فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالحديبية بعد، فأقبل زوجها - وكان كافراً - وهو صيفي بن راهب.
وقيل: مسافر المخزومي، فقال: يا محمد، اردد عليّ امرأتي فإنك شرطت ذلك، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية.
وقيل: «جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، فجاء أهلها يسألون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يردها.
وقيل: هربت من زوجها عمرو بن العاص، ومعها أخواها عمارة والوليد، فرد رسول الله إخوتها، وحبسها فقالوا للنبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ردها علينا للشرط، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: كان الشَّرط في الرجال لا في النساء»، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية.
وعن عروة قال: كان مما اشترط سهيل بن عمرو على النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الحديبية ألاَّ يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، وخليت بيننا وبينه فكرهَ المؤمنون ذلك، وأبى سهيل إلا ذلك، فكاتبه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على ذلك، فردّ يومئذ أبا جندل إلى أبيه
وقيل: إن التي جاءت أميمة بنت بشر كانت عند ثابت بن الشمراخ، ففرت منه، وهو يومئذ كافرٌ، فتزوَّجها سهيل بن حنيف، فولدت له عبد الله. قاله زيد بن حبيب، نقله الماورديّ.
وأكثر أهل العلم أنها أم كلثوم بنت عقبة.
قوله: ﴿المؤمنات﴾. تسمية للشيء بما يدلي إليه ويقاربه ويشارفه؛ أو في الظاهر.
وقرىء «مُهَاجِرَاتٌ» - بالرفع - وخرجت على البدل.
فصل في دخول النساء عقد المهادنة لفظاً أو عموماً
اختلفوا هل دخل النساء في عقد المهادنة لفظاً أو عموماً؟
فقالت طائفة: كان شرط ردهن في عقد الهُدنة صريحاً، فنسخ الله ردّهن من العقد ومنع منه، وبقاه في الرجال على ما كان، وهذا يدل على أن للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يجتهد رأيه في الأحكام، ولكن لا يقرّه الله على خطأ.
وقالت طائفة: لم يشترط ردّهن في العقد لفظاً، وإنما أطلق العقد في ردِّهن أسلم، فكان ظاهر العموم اشتماله عليهن مع الرجال، فبين الله تعالى خروجهن عن عمومه، وفرق بينهن وبين الرجال لأمرين:
أحدهما: أنهن ذوات فروج يحرمن عليهم.
الثاني: أنهن أرقّ قلوباً، وأسرع تقلباً منهم، فأما المقيمة منهن على شركها فمردودة عليهم. ومن أسلمت فلا تردوها.
قوله: ﴿فامتحنوهن﴾.
قيل: إنه كان من أرادت منهن إضرار زوجها، قالت: سأهاجر إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلذلك أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بامتحانهن، واختلفوا فيما كان يمتحنهن به.
فقال ابن عباس: كان يمتحنهن بأن يُسْتَخْلَفْنَ بالله أنها ما خرجت من بغض زوجها،
وروي عن ابن عباس أيضاً: أن المحنة كانت أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
وروى معمر عن الزهري عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قالت: ما كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يمتحنهن إلا بالآية التي قال الله تعالى: ﴿إِذَا جَآءَكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً﴾.
خرجه الترمذي. وقال حديث حسن صحيح.
فصل
قال أكثر العلماء على أن هذا ناسخ لما كان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عاهد عليه قريشاً من أنه يرد عليهم من جاءه منهم مسلماً، فنسخ من ذلك النساء. وهذا مذهب من يرى نسخ السنة بالقرآن.
فصل
قال القرطبي: ولا يجوز أن يهادن الإمام العدو على أن يرد عليهم من جاءه مسلماً؛ لأن إقامة المسلم بأرض الشرك لا تجوز، وهذا مذهب الكوفيين، وأجاز مالك عقد الصلح على ذلك.
واحتج الكوفيون «بأنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعث خالد بن الوليد إلى قوم خثعم، فاعتصموا بالسجود فقتلهم، فوداهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ [بنصف الدية] وقال:» أنَا بَريءٌ مِن كُلِّ مسلمٍ
قال الشافعي: وليس لأحد هذا العقد إلا الخليفة أو [رجل] يأمره، فمن عقد غير الخليفة هذا العقد فهو مردود.
قوله: ﴿الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ﴾.
هذه الجملة فائدتها بيان أنه لا سبيل لكم إلى ما تطمئن به النفس ويثلج الصدر من الإحاطة بحقيقة إيمانهن، فإن ذلك مما استأثر الله به.
قاله الزمخشري.
أي: هذا الامتحان لكم، والله أعلم بإيمانهن، لأنه متولي السرائر، وسمَّى الظن الغالب في قوله: ﴿عَلِمْتُمُوهُنَّ﴾ علماً لما بينهما من القرب كما يقع الظَّن موقعه، وتقدم ذلك في البقرة.
قوله: ﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ﴾.
أي: بما يظهرن من الإيمان.
وقيل: أي: علمتموهن مؤمنات قبل الامتحان ﴿فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ﴾ وقوله: ﴿وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾ تأكيد للأول لتلازمهما.
وقيل: أراد استمرار الحكم بينهم فيما يستقبل كما هو في الحال ما داموا مشركين وهن مؤمنات.
فصل في معنى الآية
معنى الآية: لم يحل الله مؤمنة لكافر، وهذا أول دليل على أنَّ الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها الكافر إسلامها لا هجرتها.
وقال أبو حنيفة: الذي فرق بينهما هو اختلاف الدَّارين.
والصحيح الأول؛ لأن الله - تعالى - بين العلّة، وهو عدم الحل بالإسلام لا باختلاف الدار.
قوله: ﴿وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ﴾.
فصل في استحقاق الغرم بالمنع
ولا غرم إلا إذا طالب الزوج الكافر، فإذا حضر وطالب منعناها وغرمنا، فإن كانت ماتت قبل حضور الزوج لم نغرم المهر إذ لم يتحقق المنع، وإن كان المسمى خمراً وخنزيراً لم نغرم شيئاً؛ لانه لا قيمة له.
وللشافعي في هذه الآية قولان:
أحدهما: أن هذا منسوخ.
قال الشافعي: وإذا جاءتنا المرأة الحرة من أهل الهُدْنة مسلمة مهاجرة من الحرب إلى الإمام في دار الإسلام أو دار الحرب، فمن طلبها من ولي سوى زوجها منع منها بلا عوض، وإذا طلبها زوجها لنفسه أو غيره بوكالة، ففيه [قولان] :
أحدهما: أن يعطى [زوجها] العوض لهذه الآية.
والثاني: لا يعطى الزوج المشرك الذي جاءت امرأته مسلمة العوضَ، فإن شرط الإمام ردّ النساء كان الشرط باطلاً منسوخاً، وليس عليه عوض، لأنه لا عوض للباطل.
فصل
أمر الله تعالى برد مثل ما أنفقوا إلى الأزواج، وأن المخاطب بهذا الإمام، ينفذ من بيت المالِ الذي لا يتعين له مصرف.
وقال مقاتل: يرد المهر الذي يتزوجها من المسلمين، وليس لزوجها الكافر شيء.
وقال قتادة: الحكم في رد الصداق إنما هو في نساء أهل العهد فأما [من] لا عهد بينه وبين المسلمين، فلا يُرَدُّ عليهم الصداق.
قال القرطبي: «والأمر كما قال».
قوله: ﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ﴾. أي: في أن تنكحوهن.
يدوز أن يكون ظرفاً محضاً، وأن يكون شرطاً، جوابه مقدَّر، أي: فلا جناح عليكم.
فصل
ومعنى الآية: ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن أي: مهورهن، فأباح الله نكاحهن للمسلمين؛ وإن كان لهن أزواج في دار الكفر؛ لأن الإسلام فرق بينهن وبين أزواجهن الكُفَّار.
قال القرطبي: أباح نكاحهنَّ إذا أسلمن، وانقضت عدتهن لما ثبت في تحريم نكاح المشركة المعتدة، فإن أسلمت قبل الدخول ثبت النكاح في الحال.
قوله: ﴿وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر﴾.
قرأ أبو عمرو في آخرين بضم التاء وفتح الميم وتشديد السين، وباقي السبعة - بتخفيفها - من «مسَك، وأمسك» بمعنى واحد.
يقال: أمسكت الحبل إمساكاً، ومسَّكته تمسيكاً، وفي التشديد مبالغة، والمخفف صالح لها أيضاً.
وقرأ الحسن، وابن أبي ليلى، وأبو عمرو، وابن عامر في رواية عنهما: «تَمَسَّكُوا» - بالفتح في الجميع وتشديد السين - والأصل: «تَتمسَّكُوا» - بتاءين - فحذفت إحداهما.
وعن الحسن أيضاً: «تَمْسِكُوا» مضارع «مَسَك» ثلاثياً.
والعِصَم: جمع عِصْمَة، والعِصْمَة هاهنا: النِّكاح، يقول: من كانت له كافرة بمكة فلا يعقد بها فقد انقطعت عصمتها.
و «الكوافر» جمع «كافرة»، ك «ضوارب» في «ضاربة» و «صواحب».
ويحكى عن الكرخي الفقيه المعتزلي أنه قال: «الكوافر» يشمل الرجال والنساء.
قال الفارسي: فقلت له: النحويون لا يرون هذا إلاَّ في النساء جمع كافرة.
قال أبو عليٍّ: فبهت، وقلت: هذا تأييد إلهي.
قال شهاب الدين: وإنما أعجب بقوله لكونه معتزلياً، والحق أنه لا يجوز كافرة وصفاً للرجال إلا أن يكون الموصوف مذكوراً، نحو: هذه طائفة كافرة، أو في قوّة المذكور، أما أن يقال: طائفة باعتبار الطائفة غير المذكورة، ولا في قوة المذكورة بل لمجرد الاحتمال، ويجتمع جمع «فَاعِلَة» فهذا لا يجوز، وقول الفارسي: «لا يَرَونَ هذا إلا في النِّساءِ» فهذ يصح ولكنه الغالب، وقد يجمع «فاعل» وصف المذكر العاقل على «فواعل» وهو محفوظ نحو: «فوارس ونواكس».
فصل في المراد بالآية
قال النخعي: المراد بالآية: المرأة المسلمة تلحق بدار الحرب، فتكفر، وكان الكفار يتزوجون المسلمات، والمسلمون يتزوجون المشركات، ثم نسخ ذلك بهذه الآية، فطلق عمر بن الخطاب حينئذ امرأتين ب «مكة» مشركتين: قريبة بنت أبي أمية، فتزوجها معاوية بن أبي سفيان، وهما على شركهما ب «مكة»، وأم كلثوم بنت عمرو الخزاعية أم عبد الله بن المغيرة، فتزوجها أبو جهم بن حذافة، وهما على شركهما، فلما ولي عمر، قال أبو سفيان لمعاوية: طلق قريبة، لئلا يرى عمر صلبه في بيتك، فأبى معاوية، وكانت عند طلحة بن عبيد الله أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، ففرق الإسلام بينهما، ثم تزوَّجها في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص، وكانت ممن فرت إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من نساء الكفار فحبسها، وتزوجها خالد بن سعيد بن العاص بن أمية.
وقال الشعبيُّ: كانت زينب بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، امرأة أبي العاص بن الربيع، أسلمت ولحقت بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأقام أبو العاصِ ب «مكة» مشركاً، ثم أتى «المدينة»، فأسلم، فردها عليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وروى أبو داود عن عكرمة عن ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: رد رسول الله ابنته زينب على أبي العاص بالنكاح الأول، لم يحدث شيئاً.
قال محمد بن عمر في حديثه: بعد ست سنين.
وقال الحسنُ بن عليٍّ: بعد سنتين.
قال أبو عمر: فإن صح هذا، فلا يخلو من وجهين:
قال الزهريُّ في قصة زينب هذه: كانت قبل أن تنزل الفرائض.
وقال قتادةُ: كان هذا قبل أن تنزل سورة براءة، بقطع العهود بينهم وبين المشركين.
فصل في المراد بالكوافر
المراد بالكوافر هنا: عبدة الأوثان، ومن لا يجوز ابتداء نكاحها.
وقيل: هي عامَّة، نسخ منها نساء أهل الكتاب، فعلى الأول إذا أسلم وثَنِيّ، أو مجُوسِيّ ولم تسلم امرأته فرق بينهما، وهو قول بعض أهل العلم، منهم مالك والحسن وطاووس ومجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة والحكم، لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر﴾.
وقال بعضهم: ينتظر بها تمام العدة، وهو قول الزهري والشافعي وأحمد، واحتجوا بأن أبا سفيان بن حرب، أسلم قبل هند بنت عتبة امرأته، وكان إسلامه ب «مر الظهران»، ثم رجع إلى «مكة» وهند بها كافرة مقيمة على كفرها، فأخذت بلحيته، وقالت: [اقتلوا] الشيخ الضَّال، ثم أسلمت بعده بأيام، فاستقر على نكاحها، لأن عدتها لم تكن انقضت.
قالوا: ومثله حكيم بن حزام أسلم قبل امرأته، ثم أسلمت بعده، فكانا على نكاحها.
قال الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ: ولا حجة لمن احتج بقوله تعالى: ﴿وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر﴾ ؛ لأن نساء المسلمين محرمات على الكفار، كما أن المسلمين، لا تحل لهم الكوافر والوثنيات والمجوسيات لقوله تعالى: ﴿لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾، ثم بينت السُّنَّة أن مراد الله من قوله هذا: أنه لا يحل بعضهم لبعض إلا أن يسلم الثاني منهما في العدة.
وقال أبو حنيفة وأصحابه في الكافر من الذميين: إذا أسلمت المرأة، عرض على الزوج الإسلام، فإن أسلم وإلا فرق بينهما.
قالوا: ولو كانا حربيين، فهي امرأته، حتى تحيض ثلاث حيض، إذا كانا جميعاً في
وقد تقدم أن اعتبار الدار ليس بشيء، وهذ الخلاف إنما هو في المدخول بها.
وأما غير المدخول بها، فلا نعلم خلافاً في انقطاع العصمة بينهما، ولا عدة عليها، هكذا يقول مالك رَحِمَهُ اللَّهُ في المرأة ترتد وزوجها مسلم: تنقطع العصمة بينهما لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر﴾، وهو قول الحسن البصري والحسن بن صالح.
وقال الشافعي وأحمد: [ينظر إلى تمام] العدة.
[فإن كان الزوجان نصرانيين فأسلمت الزوجة، فمذهب مالك والشافعي، وأحمد توقف إلى تمام العدة، وهو قول مجاهد].
وكذلك الوثني تسلم زوجته، إن أسلم في عدَّتها، فهو أحق بها، كما كان صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل أحق بزوجتيهما لما أسلما في عدتيهما، لما ذكر مالك في «الموطأ».
[قال ابن شهاب: كان بين إسلام صفوان وبين إسلام امرأته نحو شهر].
قال ابن شهاب: ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وزوجها كافر مقيم بدار الحرب، إلاَّ فرقت هِجْرتُهَا بينها وبين زوجها إلى أن يقدم زوجها مهاجراً قبل أن تنقضي عدتها، وقال بعضهم: ينفسخ النكاح بينهما، لما روى يزيد بن علقمة قال: أسلم جدي، ولم تسلم جدتي، ففرق بينهما عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وهو قول طاوس والحسن وعطاء وعكرمة، قالوا: لا سبيل له عليها إلا بخطبة.
قوله: ﴿وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ﴾.
قال المفسرون: كان من ذهب من المسلمات مرتدات إلى الكفار من أهل العهد، يقال للكفار: هاتوا مهرها، ويقال للمسلمين، إذا جاء أحد من الكافرات معلمة مهاجرة: ردوا إلى الكفار مهرها، وكان ذلك إنصافاً وعدلاً بين الحالتين.
قال ابن العربي رَحِمَهُ اللَّهُ: كان هذا حكم الله، مخصوصاً بذلك الزمان في تلك النازلة خاصة.
قال الزهريُّ: ولولا هذه الهدنة، والعهد الذي كان بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبين قريش
قوله: ﴿ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ أي بما ذكر في هذه الآية، ﴿والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾.
قوله: ﴿يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾. فيه وجهان:
أحدهما: أنه مستأنف لا محلَّ له من الإعراب.
والثاني: أنه حال من: «حكم الله»، والراجع إما مستتر أي: يحكم هو، أي: الحكم على المبالغة، وإما محذوف، أي: يحكمه، وهو الظاهر.
قوله: ﴿مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ﴾.
يجوز أن يتعلق ب «فاتكم» أي: من جهة أزواجكم، يراد بالشيء المهر الذي غرمه الزوج، كما تقدم.
ويجوز أن يتعلق بمحذوف، على أنه صفة ل «شيء».
ثم يجوز في «شيء»، أن يراد به: المهر، ولكن على هذا، فلا بد من حذف مضاف، أي: من مهور أزواجكم ليتطابق الموصوف وصفته.
ويجوز أن يراد ب «شيء» [النساء، أي: بشيء من النساء، أي: نوع وصف منهن، وهو ظاهر وصفه بقوله: ﴿مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ﴾.
وقد صرَّح الزمخشري بذلك، فإنَّه قال: وإن سبقكم وانفلت منكم شيء من أزواجكم أحد منهن إلى الكُفَّار، وفي قراء أبي مسعود: «أحد».
فهذا تصريح بأن المراد ب «شيء» : النساء الفارات]، ثم قال: فإن قلت: هل لإيقاع شيء في هذا الموضع فائدة؟ قلت: نعم، الفائدة فيه ألا يغادر شيء من هذا الجنس، وإن قلَّ وحقر غير معوض عنه، تغليظاً في هذا الحكم وتشديداً فيه، ولولا نصّه على أنَّ المراد ب «شيء» : أحد، كما تقدم، لكان قوله: «إلا أن يغادر شيء من هذا الجنس وإن قل وحقر»، ظاهراً في أن المراد ب «شيء» : المهر؛ لأنه يوصف بالقلة والحقارة وصفاً سائغاً وقوله: «تغليظاً» فيه نظر؛ لأن المسلمين ليس لهم تسبب في فرار النساء إلى الكفار، حتى يغلظ عليهم الحكم بذلك.
قوله: ﴿فَعَاقَبْتُمْ﴾، عطف على «فاتكم».
وقرأ العامة: «عاقبتم». وفيه وجهان:
أحدهما: أنه من العقوبة، قال الزجاج: «فعَاقَبْتُم» فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم.
والثاني: أنَّه من العُقْبة، وهي التوبة، شبه ما حكم به على المسلمين، والكافرين من أداء هؤلاء مهور النساء أولئك تارة، وأولئك مهور نساء هؤلاء أخرى، بأمر يتعاقبون فيه، كما يتعاقب في الركوب وغيره، ومعناه: فجاءت عقبتكم من أداء المهر. انتهى.
وقرأ مجاهد والأعرج والزهري وأبو حيوة وعكرمة وحميد: بتشديد القاف دون ألف.
ففسرها الزمخشري على أصله يعقبه: إذا قفاه؛ لأن كل واحد من المتعاقبين، يقفي صاحبه، وكذلك عقبتم - بالتخفيف - يقال: عقبه يعقبه انتهى.
والذي قرأه بالتخفيف وفتح القاف: النخعي، وابن وثاب، والزهري، والأعرج أيضاً. وبالتخفيف، وكسر القاف: مسروق، والزهري، والنخعي أيضاً.
وعن مجاهد: أعقبتم.
قال الزمخشري: معناه: دخلتم في العقبة.
قال البغوي: «معناه: أي: صنعتم بهم، كما صنعوا بكم».
وفسَّر الزجاج القراءات الباقية: فكانت العقبى: أي: كانت الغلبة لكم حتى غنمتم.
والظَّاهر أنه كما قال الزمخشريُّ: من المعاقبة بمعنى المناوبة.
يقال: عاقب الرجل صاحبه في كذا، أي: جاء فعل كل واحد منهما يعقب فعل الآخر، ويقال: أعقب - أيضاً. وأنشد بعضهم رَحِمَهُ اللَّهُ: [الطويل]
٤٧٦١ - وحَارَدَتِ النُّكْدُ الجِلادُ ولَمْ يَكُنْ | لِعُقبَةِ قِدْرِ المُستعيرِينَ مُعْقِبُ |
وقيل: التعقيب: غزوة بعد غزوة.
فصل
روي أن المسلمين قالوا: رضينا بما حكم الله، وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا، فنزل قوله تعالى: ﴿وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكفار فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ﴾.
روى الزُّهري عن عروة عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وعنهم - قالت: حكم الله عَزَّ وَجَلَّ بينهم، فقال - جل ثناؤه -: ﴿وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ﴾، فكتب إليهم المسلمون: قد حكم الله - عَزَّ وَجَلَّ - بيننا بأنه إذا جاءتكم امرأة منا، أن توجهوا إلينا بصداقها، وإن جاءتنا امرأة منكم، وجهنا إليكم بصداقها، فكتبوا إليهم: أما نحن، فلا نعلم لكم عندنا شيئاً، فإن كان لنا عندكم شيء، فوجهوا به، فأنزل الله تعالى: ﴿وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكفار فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ﴾. الآية.
وقال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما في قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ أي: بين المسلمين والكفار من أهل العهد من أهل مكة، يرد بعضهم على بعض.
قال الزهريُّ: ولولا العهد، لأمسك النساء، ولم يرد إليهم صداقاً.
وقال قتادة ومجاهدٌ: إنَّما أمروا أن يعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة، وقالا: هي فيما بيننا وبينه عهد وليس بيننا وبينه عهد، وقالا: ومعنى ﴿فَعَاقَبْتُمْ﴾ فاقتصصتم.
﴿فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا﴾ يعني: الصفات، فهي عامة في جميع الكفار.
وقال قتادة أيضاً: وإن فاتكم شيء من أزواجكم، إلى الكفار، الذين ليس بينكم وبينهم عهد، فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا، ثم نسخ هذا في سورة براءة.
وقال الزهريُّ: انقطع هذا يوم الفتح.
وقال سفيان الثوري: لا يعمل به اليوم.
وقال قوم: هو ثابت الحكم الآن أيضاً. حكاه القشيري.
فصل
قال القرطبي: الآية نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان، ارتدت وتركت زوجها عياض بن غنم الفهري، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها، ثم عادت إلى الإسلام.
وقال البغويُّ: روي عن ابن عبَّاسٍ قال: لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرات، ست نسوة: أم الحكم بنت أبي سفيان، وكانت تحت عياض بن شداد الفهري، وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة، كانت تحت عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، فلما أراد عمر أن يهاجر أبت وارتدت، وبروعُ بنت عقبة، وكانت تحت شماس بن عثمان، وغرة بنت عبد العزيز بن نضلة، وزوجها عمرو بن عبد ودّ، وهند بنت أبي جهل بن هشام كانت تحت هشام بن العاص بن وائل، وأم كلثوم بنت جرول، وكانت تحت عمر بن الخطاب، فلما رجعن إلى الإسلام، أعطى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أزواجهن مهور نسائهم من الغنيمة.
فصل في رد مهر من أسلمت
اختلفوا في رد مهر من أسلمت من النساء إلى أزواجهن، هل كان واجباً، أو مندوباً؟ وأصله أن الصلح هل كان قد وقع على رد النساء؟ على قولين:
أحدهما: أنه وقع على رد الرجال، والنساء جميعاً، لما روي من قولهم: لا يأتيك منا أحد، إلا رددته، ثم صار الحكم في رد النساء منسوخاً بقوله: ﴿فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار﴾، فعلى هذا كان رد المهر واجباً.
والثاني: أن الصلح لم يقع على ردّ النساء؛ لأنه روي أنه لا يأتيك منَّا رجل، وإن كان على دينك إلا رددته، وذلك؛ لأن الرجل لا يخشى عليه من الفتنة في الرد ما يخشى على المرأة من إصابة المشرك إياها، وأنه لا يؤمن عليها الردة إذا خوفت، وأكرهت
يجوز أن يتعلق ب «فاتكم » أي : من جهة أزواجكم، يراد بالشيء المهر الذي غرمه الزوج، كما تقدم.
ويجوز أن يتعلق بمحذوف، على أنه صفة ل «شيء ».
ثم يجوز في «شيء »، أن يراد به : المهر، ولكن على هذا، فلا بد من حذف مضاف، أي : من مهور أزواجكم ليتطابق الموصوف وصفته.
ويجوز أن يراد ب «شيء » [ النساء، أي : بشيء من النساء، أي : نوع وصف منهن، وهو ظاهر وصفه بقوله :﴿ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ ﴾.
وقد صرَّح الزمخشري بذلك، فإنَّه قال : وإن سبقكم وانفلت منكم شيء من أزواجكم أحد منهن إلى الكُفَّار، وفي قراء أبي مسعود :«أحد ».
فهذا تصريح بأن المراد ب «شيء » : النساء الفارات ]١، ثم قال٢ : فإن قلت : هل لإيقاع شيء في هذا الموضع فائدة ؟ قلت : نعم، الفائدة فيه ألا يغادر شيء من هذا الجنس، وإن قلَّ وحقر غير معوض عنه، تغليظاً في هذا الحكم وتشديداً فيه، ولولا نصّه على أنَّ المراد ب «شيء » : أحد، كما تقدم، لكان قوله :«إلا أن يغادر شيء من هذا الجنس وإن قل وحقر »، ظاهراً في أن المراد ب «شيء » : المهر ؛ لأنه يوصف بالقلة والحقارة وصفاً سائغاً وقوله :«تغليظاً » فيه نظر ؛ لأن المسلمين ليس لهم تسبب في فرار النساء إلى الكفار، حتى يغلظ عليهم
الحكم بذلك.
وعدي :«فات » ب «إلى » ؛ لأنه ضمن معنى الفرار والذهاب والسبق ونحو ذلك٣.
قوله :﴿ فَعَاقَبْتُمْ ﴾، عطف على «فاتكم ».
وقرأ العامة :«عاقبتم ». وفيه وجهان٤ :
أحدهما : أنه من العقوبة، قال الزجاج٥ :«فعَاقَبْتُم » فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم.
والثاني : أنَّه من العُقْبة، وهي التوبة، شبه ما حكم به على المسلمين، والكافرين من أداء هؤلاء مهور النساء أولئك تارة، وأولئك مهور نساء هؤلاء أخرى، بأمر يتعاقبون فيه، كما يتعاقب في الركوب وغيره، ومعناه : فجاءت عقبتكم من أداء المهر. انتهى.
وقرأ مجاهد والأعرج والزهري وأبو حيوة وعكرمة٦ وحميد : بتشديد القاف دون ألف.
ففسرها الزمخشري على أصله يعقبه : إذا قفاه ؛ لأن كل واحد من المتعاقبين، يقفي صاحبه، وكذلك عقبتم - بالتخفيف - يقال : عقبه يعقبه انتهى.
والذي قرأه بالتخفيف وفتح القاف : النخعي، وابن وثاب، والزهري، والأعرج أيضاً. وبالتخفيف٧، وكسر القاف : مسروق، والزهري، والنخعي أيضاً.
وعن مجاهد٨ : أعقبتم.
قال الزمخشري : معناه : دخلتم في العقبة٩.
قال البغوي :«معناه : أي : صنعتم بهم، كما صنعوا بكم »١٠.
وفسَّر الزجاج القراءات الباقية : فكانت العقبى : أي : كانت الغلبة لكم حتى غنمتم١١.
والظَّاهر أنه كما قال الزمخشريُّ : من المعاقبة بمعنى المناوبة.
يقال : عاقب الرجل صاحبه في كذا، أي : جاء فعل كل واحد منهما يعقب فعل الآخر، ويقال : أعقب - أيضاً. وأنشد بعضهم رحمه الله :[ الطويل ]
٤٧٦١ - وحَارَدَتِ النُّكْدُ الجِلادُ ولَمْ يَكُنْ***لِعُقبَةِ قِدْرِ المُستعيرِينَ مُعْقِبُ١٢
قال البغوي١٣ :«وكلها لغات بمعنى واحد، يقال : عَاقَبَ وأعقَبَ وتعقَّب وتعَاقَبَ واعتقَبَ، إذا غنم ».
وقيل : التعقيب : غزوة بعد غزوة١٤.
فصل :
روي أن المسلمين قالوا : رضينا بما حكم الله، وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا١٥، فنزل قوله تعالى :﴿ وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكفار فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَا أَنفَقُواْ ﴾.
روى الزُّهري عن عروة عن عائشة - رضي الله عنها وعنهم - قالت : حكم الله عز وجل بينهم، فقال - جل ثناؤه - :﴿ وَاسْأَلُواْ مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَا أَنفَقُواْ ﴾، فكتب إليهم المسلمون : قد حكم الله - عز وجل - بيننا بأنه إذا جاءتكم امرأة منا، أن توجهوا إلينا بصداقها، وإن جاءتنا امرأة منكم، وجهنا إليكم بصداقها، فكتبوا إليهم : أما نحن، فلا نعلم لكم عندنا شيئاً، فإن كان لنا عندكم شيء، فوجهوا به، فأنزل الله تعالى :﴿ وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكفار فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَا أَنفَقُواْ ﴾١٦. الآية.
وقال ابن عبَّاس رضي الله عنهما في قوله تعالى :﴿ ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ﴾ أي : بين المسلمين والكفار من أهل العهد من أهل مكة، يرد بعضهم على بعض١٧.
قال الزهريُّ : ولولا العهد، لأمسك النساء، ولم يرد إليهم صداقاً١٨.
وقال قتادة ومجاهدٌ : إنَّما أمروا أن يعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة، وقالا : هي فيما بيننا وبينه عهد وليس بيننا وبينه عهد، وقالا : ومعنى ﴿ فَعَاقَبْتُمْ ﴾ فاقتصصتم١٩.
﴿ فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا ﴾ يعني : الصفات، فهي عامة في جميع الكفار. وقيل : فعاقبتم المرتدة بالقتل.
وقال قتادة أيضاً : وإن فاتكم شيء من أزواجكم، إلى الكفار، الذين ليس بينكم وبينهم عهد، فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا، ثم نسخ هذا في سورة براءة٢٠.
وقال الزهريُّ : انقطع هذا يوم الفتح. وقال سفيان الثوري : لا يعمل به اليوم. وقال قوم : هو ثابت الحكم الآن أيضاً. حكاه القشيري.
فصل :
قال القرطبي٢١ : الآية نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان، ارتدت وتركت زوجها عياض بن غنم الفهري، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها، ثم عادت إلى الإسلام.
وقال البغويُّ٢٢ : روي عن ابن عبَّاسٍ قال : لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرات، ست نسوة : أم الحكم بنت أبي سفيان، وكانت تحت عياض بن شداد الفهري، وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة، كانت تحت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما أراد عمر أن يهاجر أبت وارتدت، وبروعُ بنت عقبة، وكانت تحت شماس بن عثمان، وغرة بنت عبد العزيز بن نضلة، وزوجها عمرو بن عبد ودّ، وهند بنت أبي جهل بن هشام كانت تحت هشام بن العاص بن وائل، وأم كلثوم بنت جرول، وكانت تحت عمر بن الخطاب، فلما رجعن إلى الإسلام، أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجهن مهور نسائهم من الغنيمة.
فصل في رد مهر من أسلمت :
اختلفوا في رد مهر من أسلمت من النساء إلى أزواجهن، هل كان واجباً، أو مندوباً ؟ وأصله أن الصلح هل كان قد وقع على رد النساء ؟ على قولين :
أحدهما : أنه وقع على رد الرجال، والنساء جميعاً، لما روي من قولهم : لا يأتيك منا أحد، إلا رددته، ثم صار الحكم في رد النساء منسوخاً بقوله :﴿ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار ﴾، فعلى هذا كان رد المهر واجباً.
والثاني : أن الصلح لم يقع على ردّ النساء ؛ لأنه روي أنه لا يأتيك منَّا رجل، وإن كان على دينك إلا رددته، وذلك ؛ لأن الرجل لا يخشى عليه من الفتنة في الرد ما يخشى على المرأة من إصابة المشرك إياها، وأنه لا يؤمن عليها الردة إذا خوفت، وأكرهت عليها ؛ لضعف قلبها، وقلة هدايتها إلى المخرج منه، بإظهار كلمة الكفر مع التورية، وإضمار الإيمان، ولا يخشى ذلك على الرجل لقوته، وهدايته إلى التقية، فعلى هذا كان رد المهر مندوباً.
واختلفوا في أنه يجب به العمل اليوم في رد المال٢٣ إذا اشترط في معاقدة الكفار فقال عطاء ومجاهد وقتادة : لا يجب، وزعموا أن الآية منسوخة٢٤.
وقيل : هي غير منسوخة، ويرد إليهم ما أنفقوا.
فصل في معنى الآية :
معنى الآية٢٥ : إن لحقت امرأة مؤمنة بكفار أهل «مكة »، وليس بينكم وبينهم عهد، ولها زوج مسلم قبلكم، فغنمتم فأعطوا هذا الزَّوج المسلم مهره من الغنيمة قبل أن تخمس٢٦، [ وهو قول ابن عبَّاس رضي الله عنهما ]٢٧. وقال الزهري : يعطى من الفيء، وعنه : يعطى من صداق من لحق منا.
وقيل : إن امتنعوا من أن يغرموا مهر هذه المرأة التي ذهبت إليهم، فانبذوا العهد إليهم حتى إذا ظفرتم، فخذوا ذلك منهم ﴿ واتقوا الله ﴾، أي : احذروا أن تتعدوا ما أمرتم به.
٢ ينظر: الكشاف ٤/٥١٩، والدر المصون ٦/٣٠٧..
٣ الدر المصون ٦/٣٠٧..
٤ ينظر السابق..
٥ ينظر: معاني القرآن ٥/١٦٠..
٦ ينظر: الكشاف ٦/٥١٩، والمحرر الوجيز ٥/٢٩٨، والبحر المحيط ٨/٢٥٥، والدر المصون ٦/٣٠٧..
٧ ينظر السابق..
٨ السابق..
٩ ينظر: الكشاف ٤/٥١٩..
١٠ ينظر: معالم التنزيل ٤/٣٣٤..
١١ ينظر معاني القرآن للزجاج ٥/١٦٠..
١٢ قائله الكميت بن زيد الأسدي.
ينظر: الأمالي للقالي ١/٩١، وسمط اللالىء ١/٣٤، واللسان (عقب) و(نكد)، والكميت وقصائده الهاشميات ص١٢٦، والبحر ٨/٢٥٥ والدر المصون ٦/٣٠٧..
١٣ ينظر: معالم التنزيل ٤/٣٣٤..
١٤ ينظر: تفسير الرازي ٢٩/٢٦٦..
١٥ ينظر القرطبي ١٨/٤٦..
١٦ ينظر القرطبي في "تفسيره" (١٨/٤٤)..
١٧ ينظر المصدر السابق..
١٨ ينظر المصدر السابق..
١٩ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٧١-٧٢) عن مجاهد..
٢٠ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٨/٤٦)..
٢١ ينظر: القرطبي (١٨/٤٧)..
٢٢ ينظر: معالم التنزيل ٤/٣٣٤..
٢٣ في أ: المال الذي..
٢٤ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٩/٣١١) عن ابن جريج قال: سألت عطاء عن هذه الآية تعلمها قال: لا. وعزاه إلى أبي داود في "ناسخه" وابن المنذر..
٢٥ في أ: قال ابن عباس رضي الله عنهما..
٢٦ ينظر: القرطبي ١٨/٤٦..
٢٧ سقط من أ..
واختلفوا في أنه يجب به العمل اليوم في رد المال إذا اشترط في معاقدة الكفار فقال عطاء ومجاهد وقتادة: لا يجب، وزعموا أن الآية منسوخة.
وقيل: هي غير منسوخة، ويرد إليهم ما أنفقوا.
فصل في معنى الآية.
معنى الآية: إن لحقت امرأة مؤمنة بكفار أهل «مكة»، وليس بينكم وبينهم عهد، ولها زوج مسلم قبلكم، فغنمتم فأعطوا هذا الزَّوج المسلم مهره من الغنيمة قبل أن تخمس، [وهو قول ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما].
وقال الزهري: يعطى من الفيء.
وعنه: يعطى من صداق من لحق منا.
وقيل: إن امتنعوا من أن يغرموا مهر هذه المرأة التي ذهبت إليهم، فانبذوا العهد إليهم حتى إذا ظفرتم، فخذوا ذلك منهم ﴿واتقوا الله﴾، أي: احذروا أن تتعدوا ما أمرتم به.
قوله
تعالى
: ﴿يا
أيها
النبي إِذَا جَآءَكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ﴾ الآية.
لما فتح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مكة»، جاءه نساء أهل «مكة» يبايعنه، فأمر أن يأخذ عليهن أن لا يشركن.
قالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: «والله ما أخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قط إلا بما أمر الله - عَزَّ وَجَلَّ - وما مست كف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كف امرأة قط، وكان يقول إذا أخذ عليهن:» قَدْ بايعْتُكنَّ «كلاماً»
وقيل: لما فرغ من بيعة الرجال جلس على الصفا، ومعه عمر بن الخطَّاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أسفل منه، فجعل يشترط على النساء البيعة، وعمر يصافحهن.
وروي أنَّه كلف امرأة وقفت على الصفا، وكلفها أن تبايعهن، ففعلت.
قال ابن العربي: وذلك ضعيف، وإنما التعويل على ما في صحيح مسلم من حديث عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه المتقدم. قالت: كانت المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يمتحنهن بقول الله تعالى: ﴿يا أيها النبي إِذَا جَآءَكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ﴾ إلى آخر الآية، قالت عائشة: «فمن أقر بهذا من المؤمنات، فقد أقر بالمحنة، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا أقررن بذلك من قولهن، قال لهن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» انْطَلقْنَ فَقَدْ بَايَعْتُكُنَّ «، لا والله ما مَسَّتُ يد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يد امرأة قط، غير أنه بايعهن بالكلام»
وقالت أمُّ عطيَّة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: «لما قدم رسول الله المدينة جمع نساء الأنصار في بيت، ثم أرسل إلينا عمر بن الخطاب، فقام على الباب فسلَّم فرددن عليه السلام فقال: أنا رسول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إليكن:» ألا تشركن بالله شيئاً «الآية، فقلن: نعم، فمد يده من خارج البيت، ومددنا أيدينا من داخل البيت، ثم قال: اللَّهُمَّ اشْهَدْ»
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه، ثم أمر النساء فغمسن أيديهن فيه.
فصل
روي «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما فرغ من بيعة الرجال يوم فتح» مكة «، وهو على الصفا، وعمر بن الخطَّاب أسفل منه يبايع النساء بأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يبلغهن عنه، على ألاَّ يشركن بالله شيئاً، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان منتقبة متنكرة مع النساء خوفاً من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
فقال أبو سفيان: ما أًصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر، فهو لك حلال، فضحك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال لها: وإنَّك لهِنْدُ بِنْتُ عتبة؟ قالت: نعم، فاعف عني ما سلف، فقال عَفَا اللَّهُ عنكِ، ثم قال: ﴿وَلاَ يَزْنِينَ﴾ فقالت هند: أو تزنِي الحُرَّة؟ فقال: ﴿وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ﴾، أي: لا يئدن الموءودات ولا يسقطن الأجنة، فقالت هند: ربَّيناهُمْ صغاراً وقتلتهم كباراً يوم بدر، وأنت أعلم وهم أعلم، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان - وهو بكرها - قتل يوم بدر، فضحك عمر حتى استلقى، وتبسَّم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثم قال: ﴿وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ﴾ »
قال أكثر المفسرين: معناه لا يلحقن بأزواجهن ولداً من غيرهم، وكانت المرأة تلتقط ولداً، فتلحقه بزوجها وتقول: هذا ولدي منك، فكان هذا من البهتان والافتراء؛ لأن النهي عن الزنا قد تقدم.
وقال بعض المفسرين: المرأة إذا التقطت ولداً، كأنَّما التقطت بيدها ومشت برجلها إلى أخذه، فإذا أضافته إلى زوجها، فقد أتت ببهتان تفتريه بين يديها ورجليها.
وقيل: يفترينه على أنفسهن حيث يقلن: هذا ولدنا، وليس كذلك، إذ الولد ولد الزنا.
وقيل: ما بين يديها ورجليها كناية عن الولد؛ لأن البطن التي تحمل فيه الولد بين يديها، وفرجها الذي تلد منه بين رجليها، وهذا عام في الإتيان بولد، وإلحاقه بالزوج، وإن سبق النهي عن الزنا.
وقيل: معنى «بين أيديهن» : ألسنتهن بالنميمة، و «بين أرجلهن» : فروجهن.
وقيل: ما بين أيديهن من قبلة أو جسة، وبين أرجلهن الجماع.
وروي أن هنداً لما سمعت ذلك قالت: والله إن البهتان لأمر قبيح ما تأمر إلا بالأرشد، ومكارم الأخلاق، ثم قال: ﴿وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ﴾ أي: في كل أمر وافق طاعة الله.
قال بكر بن عبد الله المزنيُّ: في كل أمر فيه رشدهن.
وقال سعيدُ بنُ المسيِّب والكلبيُّ وعبدُ الرحمنِ بن زيدٍ: هو النهي عن النوح، والدعاء بالويلِ، وتمزيق الثوب، وحلق الشعر، ونتفه، وخمش الوجه، ولا تحدِّث المرأة الرجال إلا ذا محرم، ولا تخلو برجل غير ذي محرم، ولا تسافر إلا مع ذي محرم.
وروت أم عطيَّة عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إن ذلك في النوح، وهو قول ابن عباس.
وروى شهر بن حوشب عن أم سلمة «عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿ولا يَعْصِينكَ فِي مَعْرُوفٍ﴾، قال:» هُوَ النَّوحُ «
وفي صحيح مسلم عن أمِّ عطيَّة:» لما نزل قوله: «يُبَايِعْنَك»، إلى قوله: ﴿وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ﴾، قالت: كان منه النياحة، قالت: فقلت: يا رسول الله، إلا آل بني فلان، فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية، فلا بد لي من أن أسعدهم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إلا آل بني فلان»
قوله: «يُبَايعْنكَ» : حال، و «شَيْئاً» : مصدر، أي شيئاً من الإشراك.
وقرأ علي والسلمي والحسن: «يُقَتِّلْنَ» بالتشديد.
و «يفترينه» : صفة ل «بهتان»، أو حال من فاعل: «يأتين».
فصل
ذكر الله - عَزَّ وَجَلَّ - في هذه الآية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في صفة البيعة خصالاً شتى، صرح فيهن بأركان النهي في الدين، ولم يذكر أركان الأمر، وهي ستة أيضاً: الشهادة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والاغتسال من الجنابة، وذلك لأن النهي دائم في كل الأزمان، وكل الأحوال، فكان التنبيه على اشتراط الدائم آكد.
وقيل: إن هذه المناهي كان في النساء كثير من يرتكبها، ولا يحجزهن [عنها] شرف النسب، فخصت بالذكر لهذا، ونحو منه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لوفد عبد القيس: «» وأنْهَاكُم عن الدُّبَّاء والحنتمِ والنَّقيرِ والمزفَّتِ «
فصل
» لما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في البيعة: « ﴿وَلا يَسْرِقْنَ﴾ ﴿وَلاَ يَزْنِينَ﴾، قالت هند: يا رسول الله إنَّ أبا سفيان رجل مسِّيك، فهل عليَّ حرج إن أخذت ما يكفيني وولدي؟ فقال:» لا، إلاَّ بالمعرُوفِ «، فخشيت هند أن تقتصر على ما يعطيها، فتضيع، أو تأخذ أكثر من ذلك، فتكون سارقة ناكثة للبيعة المذكورة، فقال لها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك»، أي: لا حرج عليك فيما أخذت بالمعروف، يعني: من غير استطالة إلى أكثر من الحاجة.
قال ابن العربي رَحِمَهُ اللَّهُ: «وهذا إنما هو فيما لا يخزنه عنها في حجاب، ولا يضبط عليه بقفل، فإنه إذا هتكته الزوجة وأخذت منه [كانت] سارقة تعصي بها، وتقطع يدها».
فصل في الكلام على الآية
فإن قيل: هلاَّ قيل: إذا جاءك المؤمنات فامتحنوهن، كما قال في المهاجرات؟.
فالجواب من وجهين: أحدهما: أن الامتحان حاصل بقوله تعالى: ﴿على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ﴾ إلى آخره.
وثانيهما: أن المهاجرات يأتين من دار الحرب فلا اطلاع للمبايع على ما في قلبها، فلا بد من الامتحان، وأما المؤمنات، فهن في دار الإسلام، وعلمن الشرائع، فلا حاجة إلى الامتحان مع ظاهر حالها.
فإن قيل: ما الفائدة في تقديم البعض في الآية على البعض وترتيبها؟.
فالجواب: قدم الأقبح على ما هو الأدنى منه في القبح، ثم كذلك إلى آخره، وقدم في الأشياء المذكورة على ما هو الأظهر فيما بينهم.
فصل
قال عبادةُ بن الصامت: «أخذ علينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما أخذ على النساء: أنْ لا تُشرِكُوا باللَّه شَيْئاً ولا تَسْرقُوا ولا تزْنُوا ولا تقتلُوا أوْلادكُمْ، ولا يعضه بعضُكُمْ بعضاً، ولا تَعْصُوا في مَعْرُوفٍ آمُرُكمْ بِهِ».
ولهذا قال ابن بحر وغيره في قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ﴾ إنه: السحر.
وقال الضحاكُ: هذا نهي عن البهتان، أن لا يعضه رجل ولا امرأة «بِبُهتَانٍ» أي: بسحر، والجمهور على أن معنى «ببهتان» : بولد، يفترينه «بين أيديهن» : ما أخذته لقيطاً، «وأرجلهن» : ما ولدته من زنا كما تقدم.
فصل في هذا الأمر
قال المهدويُّ: أجمع المسلمون على أنه ليس للإمام أن يشترط عليهن هذا، والأمر بذلك ندب لا إلزام.
وقال بعض العلماء: إذا احتيج إلى المِحْنَةِ من أجل تباعد الدَّار كان على إمام المسلمين إقامة المحنة.
قوله: ﴿فَبَايِعْهُنَّ واستغفر لَهُنَّ الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
قالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يبايع النساء بالكلام بهذه الآية: ﴿أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً﴾ قالت: وما مسَّتْ يَدُ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا يد امرأة يملكها.
وقالت [أميمة] بنت رقيقة: «بايعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في نسوة، فقالت:» فِيْمَا اسْتطعْتُنَّ وأطَعْتُنَّ «، فقلت: يا رسول الله صافحنا، فقال:» إنِّي لا أصَافِحُ النِّساءَ، إنَّما قَوْلِي لامرأةٍ كَقوْلِي لمِائةِ امرأة «
«مِنْ» لابتداء الغاية، أيضاً كالأولى أي: أنهم لا يوقنون [بالآخرة ألبتة].
و ﴿مِنْ أَصْحَابِ القبور﴾. فيه وجهان:
[أحدهما: أنها لابتداء الغاية أيضاً كالأولى، والمعنى: أنهم لا يوقنون ببعث الموتى ألبتة، فيأسهم من الآخرة من موتاهم] لاعتقادهم عدم بعثهم.
والثاني: أنها لبيان الجنس، يعني: أن الكفار هم أصحاب القبور.
والمعنى: أنَّ هؤلاء يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار الذين هم أصحاب القبور من خير الآخرة، فيكون متعلق «يئس» الثاني محذوفاً.
وقرأ ابن أبي الزِّناد: «الكافر» ب «الإفراد».
فصل في نزول الآية
قال ابنُ زيدٍ: إنَّ ناساً من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود بأخبار المؤمنين، ويواصلونهم، فيصيبون بذلك من ثمارهم، فنهوا عن ذلك، ﴿قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخرة﴾ يعني: اليهود قد يئسوا من الآخرة بأن يكون لهم فيها ثواب وخير، ﴿كَمَا يَئِسَ الكفار مِنْ أَصْحَابِ القبور﴾ أي: يئس الكفار الذين ماتوا وصاروا إلى القبور من أن يكون لهم ثواب وحظ في الآخرة.
وقال مجاهد: الكفار حين دخلوا قبورهم يئسوا من رحمة الله.
وقيل: هم المنافقون.
وقال الحسن وقتادة: هم اليهود والنصارى.
وقال ابن مسعودٍ: معناه: أنهم تركوا العمل للآخرة، وآثروا الدنيا.
وقال الحسنُ وقتادةُ: معناه: أن الكُفَّار الذين هم أحياء، يئسوا من الكفار ومن أصحاب القبور أن يرجعوا إليهم.
وقيل: إن الله - تعالى - ختم السورة بما بدأها من ترك موالاة الكفار، وهي خطاب لحاطب بن أبي بلتعةَ وغيره.
روى الثَّعلبيُّ في تفسيره عن أبيِّ بن كعب قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورةَ المُمتحنةِ كَانَ المُؤمِنُونَ والمُؤمِنَاتُ لَهُ شُفَعَاء يَوْمَ القِيَامَةِ» والله سبحانه وتعالى أعلم.