تفسير سورة الممتحنة

تفسير النسفي
تفسير سورة سورة الممتحنة من كتاب مدارك التنزيل وحقائق التأويل المعروف بـتفسير النسفي .
لمؤلفه أبو البركات النسفي . المتوفي سنة 710 هـ
روي أن مولاة لأبي عمرو بن صيفي بن هاشم يقال لها سارة، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يتجهز للفتح فقال لها : أمسلمة جئت ؟ قالت : لا. قال : أفمهاجرة جئت ؟ قالت : لا. قال : فما جاء بك ؟ قالت : احتجت حاجة شديدة فحث عليها بني عبد المطلب فكسوها وحملوها وزودوها فأتاها حاطب بن أبي بلتعة وأعطاها عشرة دنانير وكساها برداً واستحملها كتاباً إلى أهل مكة نسخته : من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة اعلموا أن رسول الله يريدكم فخذوا حذركم. فخرجت سارة ونزل جبريل بالخبر فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وعماراً وعمر وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد وكانوا فرساناً وقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى أهل مكة فخذوه منها وخلوها، فإن أبت فاضربوا عنقها، فأدركوها فجحدت وحلفت فهموا بالرجوع فقال علي : والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلّ سيفه وقال : أخرجي الكتاب أو تضعي رأسك، فأخرجته من عقاص شعرها. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمن جميع الناس يوم الفتح إلا أربعة هي أحدهم، فاستحضر برسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً وقال : ما حملك عليه ؟ فقال : يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكني كنت أمرأ ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسها، وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم غيري، فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يداً وقد علمت أن الله ينزل عليهم بأسه وأن كتابي لا يغني عنهم شيئاً فصدقه وقبل عذره. فقال عمر رضي الله عنه : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال صلى الله عليه وسلم : وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ففاضت عينا عمر رضي الله عنه فنزل.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (١)
روي أن مولاة لأبي عمرو بن صيفي بن هاشم يقال لها سارة أتت رسول الله ﷺ بالمدينة وهو يتجهز للفتح فقال لها أمسلمة جئت قالت لا قال أفمها جرة جئت قالت لاقال فما جاء بك قالت احتجت حاجة شديدة فحث عليها بني عبد المطلب فكسوها وحملوها وزودوها فأتاها حاطب ابن أبي بلتعة وأعطاها عشرة دنانير وكساها برداً واستحملها كتاباً إلى أهل مكة نسخته من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة اعملوا أن رسول الله يريدكم فخذوا حذركم فخرجت سارة ونزل جبريل بالخبر فبعث رسول الله ﷺ عليا وعمارا وعمرو وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرئد وكانوا فرساناً وقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى أهل مكة فخذوه منها وخلوها فإن أبت فاضربوا عنقها فأدركوها فجحدت وحلفت فهموا بالرجوع فقال علي والله ما كذبنا
ولا كذب رسول الله ﷺ وسلّ سيفه وقال أخرجي الكتاب أو تضعي رأسك فأخرجه من مقاص شعرها وروى أن رسول الله ﷺ أمن جميع الناس يوم الفتح إلا أربعة هي أحدهم فاستحضر رسول الله ﷺ حاطباً وقال ما حملك
465
عليه فقال يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولا أحببتهم منذ فارقتهم ولكني كنت أمرأ ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسها وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم غيري فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يداً وقد علمت أن الله ينزل عليهم بأسه وأن كتابي لا يغني عنهم شيئا فصدقه وقبل عذره فقال عمر رضي الله عنه دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال ﷺ ما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ففاضت عينا عمر رضي الله عنه فنزل ﴿يا أيها الذين آمنوا لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء﴾ عدي اتخذ إلى مفعوليه وهما عدوي وأولياء والعدوّ فعول من عدا كعفوّ من عفا ولكنه على زنة المصدر أوقع على الجمع إيقاعه على الواحد وفيه دليل على أن الكبيرة لا نسلب اسم الإيمان ﴿تُلْقُونَ﴾ حال من الضمير في لا نتخذوا التقدير لا تتخذوهم أولياء ملقين ﴿إِلَيْهِمْ بالمودة﴾ أو متسأنف بعد وقف على التوبيخ والا لقاء عبارة عن إيصال المودة والإفضاء بها إليهم والباء في المودة زائدة مؤكدة للتعدي كقوله وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إلى التهلكة أو ثابتة على أن مفعول تُلْقُونَ محذوف معناه تلقون اليهم اخبار رسول الله ﷺ بسبب المودة التي بينكم وبينهم ﴿وَقَدْ كَفَرُواْ﴾ حال من لاَ تَتَّخِذُواْ أو من تُلْقُونَ أي لا تتولهم أو توادونهم وهذه حالهم ﴿بِمَا جَاءكُمْ مّنَ الحق﴾ دين الإسلام والقرآن ﴿يُخْرِجُونَ الرسول وإياكم﴾ استئناف كالتفسير لكفرهم وعتوهم أو حال من كفروا ﴿أن تؤمنوا﴾ تعليل ليخرجون أي يخرجونكم من مكة لإيمانكم ﴿بالله رَبّكُمْ إن كنتم خرجتم﴾ متعلق بلا تَتَّخِذُواْ أي لا تتولوا أعدائي إن كنتم
466
أوليائي وقول النحويين في مثله وشرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه ﴿جِهَاداً فِى سَبِيلِى﴾ مصدر في موضع الحال أي إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي ﴿وابتغاء مَرْضَاتِى﴾ ومبتغين مرضاتي ﴿تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بالمودة﴾ أي تفضون إليهم بمودتكم سراً أو تسرون إليهم أسرار رسول الله
صلى الله عليه وسلم بسبب المودة وهو استئناف ﴿وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ﴾ والمعنى أي طائل لكم في أسراركم وقد علمتم أن الإخفاء والإعلان سيان في علمي وأن مطلع رسولي على ما تسرون ﴿وَمَن يَفْعَلْهُ﴾
أي هذا الإسرار ﴿مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل﴾ فقد أخطأ طريق الحق والصواب
467
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢)
﴿إِن يَثْقَفُوكُمْ﴾ إن يظفروا بكم ويتمكنوا منكم ﴿يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَاء﴾ خالصي العداوة ولا يكونوا لكم أولياء كما أنتم ﴿وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسوء﴾ بالقتل والشتم ﴿وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ﴾ وتمنوا لو ترتدون عن دينكم فإذاً موادة أمثالهم خطأ عظيم منكم والماضي وإن كان يجري في باب اشرط مجرى المضارع ففيه نكتة كأنه قيل ودّوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم يعني أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين من قتل الأنفس وتمزيق الأعراض وردكم كفاراً أسبق المضار عندهم وأولها لعلهم أن الذين أعز عليكم من ارواحكم لأنكم بذالون هادونه والعدو أهم شيء عنده انيقصد أهم شيء عند صاحبه
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣)
﴿لَن تَنفَعَكُمْ أرحامكم﴾ قراباتكم ﴿وَلاَ أولادكم﴾ الذين توالون الكفار من اجلهم وتتقربن اليهم محاماة عليم ثا قال ﴿يَوْمَ القيامة يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ﴾ وبين أقاربكم وأولادكم يوم يفر المرء من أخيه الآية فما لكم
467
ترفضون حق الله مراعاة لحتى من يفرّ منكم غداً يُفَصّلُ عاصم يُفَصّلُ حمزة وعلي والقائل هو الله عز وجل يفضل ابن ذكوان غيرهم يُفَصّلُ ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فيجازيكم على أعمالكم
468
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤)
﴿قد كانت لكم أسوة﴾ قدوة في التبرئ من الأهل ﴿حَسَنَةٌ فِى إبراهيم﴾ أي في اقواله ولهذا استثنى منها إلى قول إبراهيم ﴿والذين مَعَهُ﴾ من المؤمنين وقيل كانوا أنبياء ﴿إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم﴾ جمع برئ كظريف وظرفاء ﴿وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العداوة﴾ بالأفعال ﴿والبغضاء﴾ بالقلوب ﴿أَبَداً حتى تُؤْمِنُواْ بالله وَحْدَهُ﴾ فحينئذ نترك عداوتك ﴿إِلاَّ قَوْلَ إبراهيم لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ﴾ وذلك لموعدة وعدها إياه أي افتدوا به في أقواله ولا تأتسوا به في الاستغفار لأبيه الكافر ﴿وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَىْء﴾ أي من هداية ومغفرة وتوفيق وهذه الجملة لاتليق بالاستثناء ألا ترى إلى قوله قُلْ فَمَن يملك لكم من الله شيئا ولكن المراد استثناء جملة قوله لأبيه والقصد إلى موعد الاستغفار له وما بعده تابع له كأنه قال أستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار
﴿رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا﴾ متصل بما قبل الاستثناء وهو من جملة الأسوة الحسنة وقيل معناه قولوا ربنا فهو ابتداء أر من الله للمؤمنين بأن يقولوه ﴿وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا﴾ أقبلنا ﴿وَإِلَيْكَ المصير﴾ المرجع
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥)
﴿رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ أي لا تسلطهم علينا فيفتنونا بعذاب ﴿واغفر لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم﴾ أي الغالب الحاكم
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦)
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الأخر﴾ ثم كرر الحث على الاثتساء بإبراهيم عليه السلام وقومه تقريراً وتأكيداً عليهم وذا جاء به مصدراً بالقسم لأنه الغاية في التأكيد وأبدل من قوله لَكُمْ قوله لّمَن كَانَ يَرْجُو الله أي ثوابه أي يخشى الله وعقبه بقوله ﴿وَمَن يَتَوَلَّ﴾ يعرض عن أمرنا ويوال الكفار ﴿فَإِنَّ الله هُوَ الغنى﴾ عن الخلق ﴿الحميد﴾ المستحق للحمد فلم يترك نوعاً من التأكيد إلا جاء به ولما أنزلت هذه الآيات وتشدد المؤمنون في عداوة آبائهم وأبنائهم وجميع اقربائهم من المشركين اطعمهم في تحول الحال إلى خلافة فقال
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧)
﴿عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مّنْهُم﴾ أي من أهل مكة من أقربائكم ﴿مودة﴾ بان يوافقهم للإيمان فلما يسر فتح مكة أظفرهم الله بأمنيتهم فأسمل قومهم وتم بينهم التحاب وعسى وعد من الله على عادات الملوك حيث يقولون في بعض الحوائج عسى أو لعل فلا تبقى شبهة للمحتاج في تمام ذلك وأريد به إطماع المؤمنين ﴿والله قَدِيرٌ﴾ على تقليب القلوب وتحويل الأحوال وتسهيل أسباب المودة ﴿والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ لمن أسلم من المشركين
لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨)
﴿لاَّ ينهاكم الله عَنِ الذين لَمْ يقاتلوكم فِى الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دياركم أَن تَبَرُّوهُمْ﴾ تكرموهم وتحسنوا إليهم قولاً وفعلاً ومحل أن تبرهم جر على البدل من الذين لَمْ يقاتلوكم وهو بدل اشتمال والتقدير عن بر الدين ﴿وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ﴾ وتقضوا إليهم بالقسط ولا تظلموهم وإذا نهى عن الظلم في حق المشرك فكيف في حق المسلم ﴿إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين﴾
إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩)
{إِنَّمَا ينهاكم الله عَنِ الذين قاتلوكم فِى الدين وَأَخْرَجُوكُم مّن دياركم وظاهروا على إخراجكم
469
أن تولوهم}
هو بدل من الذين قاتلوكم لا ينهاكم عن مبرة هؤلاء وإنما ينهاكم عن تولي هؤلاء ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُمْ﴾ منكم ﴿فَأُوْلَئِكَ هم الظالمون﴾ حيث وضعوا التوالي غير موضعه
470
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠)
﴿يا أيها الذين آمنوا إِذَا جَاءكُمُ المؤمنات﴾ سماهن مؤمنات لنطقهن بكلمة الشهادة أو لأنهن مشارفات لثبات إيمانهن بالامتحان ﴿مهاجرات﴾ نصب على الحال ﴿فامتحنوهن﴾ فابتلوهن بالنظر في الإمرات ليغلب على ظنونكم صدق إيمانهن وعن ابن عباس امتحانها أن تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ﴿الله أَعْلَمُ بإيمانهن﴾ منكم فإنكم وإن رزتم أحوالهن لا تعلمون ذلك حقيقة وعند الله حقيقة العلم به ﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مؤمنات﴾ العلم الذي تبلغه طاقتكم وهو الظن الغالب بظهور الامارت وتسمية الظن علماً يؤذن بأن الظن الغالب وما يفضي إليه القياس جارٍ مجرى العلم وصاحبه غير داخل في قوله وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴿فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار﴾ فلا تردوهن إلى أزواجهن المشركين ﴿لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾ أي لا حل بين المؤمنة والمشكر لوقوع الفرقة بينهما بخروجها مسلمة ﴿وآتوهم مَّا أَنفَقُواْ﴾ وأعطوا أزواجهن مثل ما دفعوا إليهن من المهور نزلت الآية بعد صلح الحديبية وكان الصلح قد وقع على أن يرد على أهل مكة من جاء مؤمناً منهم فانزل الله هذه الآية الحكم الأول ﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ﴾ ثم نفى عنهم الجناح في تزوج هؤلاء المهاجرات ﴿إذا آتيتموهن أُجُورَهُنَّ﴾ أي مهورهن لأن المهر أجر البضع وبه احتج أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه على أن لا عدة على المهاجرة ﴿وَلاَ تُمْسِكُواْ﴾ وَلاَ تُمْسِكُواْ بصري ﴿بِعِصَمِ الكوافر﴾ العصمة ما يعتصم به من عقد وسبب الكوافر جمع كافرة وهي التي بقيت
470
في دار الحرب أو لحقت بدار الحرب مرتدة أي لا يكن بينكم وبينهن عصمة ولا علقة زوجية قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من كانت له امرأة بمكة فلا يعتدّنّ بها من نسائه لأن اختلاف الدارين قطع عصمتها منه ﴿واسألوا مَا أَنفَقْتُم﴾ من مهور أزواجكم اللاحقات بالكفار ممن تزوجها ﴿وليسألوا مَا أَنفَقُواْ﴾ من مهور نسائهم المهاجرات ممن تزوجها منا ﴿ذَلِكُمْ حُكْمُ الله﴾ أي جميع ما ذكر في هذه الآية ﴿يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ﴾ كلام مستأنف أو حال من حكم الله على حذف الضمير أي يحكم الله أو جعل الحكم حاكماً على المبالغة وهو منسوخ فلم يبق سؤال المهر لا منا ولا منهم ﴿والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾
471
وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١)
﴿وَإِن فَاتَكُمْ شَىْء مّنْ أزواجكم إِلَى الكفار﴾
وإن انفلت أحد منهن إلى الكفار وهو في قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أحد ﴿فعاقبتم﴾ فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم عن الزجاج ﴿فَأَتُواْ الذين ذَهَبَتْ أزواجهم مّثْلَ مَا أَنفَقُواْ﴾ فأعطوا المسلمين الذين ارتدت زوجاتهم وألحقن بدار الحرب مهور زوجاتهم من هذه الغنيمة ﴿واتقوا الله الذى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾ وقيل هذا الحكم منسوخ أيضا
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢)
﴿يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك﴾ هو حال ﴿على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أولادهن﴾ يرد وأد البنات ﴿وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أيديهن وأرجلهن﴾ كانت المرا تلتقط المولود فتقول لزوجها هو ولدي منك كنى بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذباً لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين وفرجها الذي تلد به بين الرجلين
471
﴿وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ﴾ طاعة الله ورسوله ﴿فَبَايِعْهُنَّ واستغفر لَهُنَّ الله﴾ عما مضى ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ﴾ بتمحيق ما سلف ﴿رَّحِيمٌ﴾ بتوفيق ما ائتنف وروي أن رسول الله ﷺ لما فرغ يوم فتح مكة من بيعة الرجال أخذ في بيعة النساء وهو على الصفا وعمر قاعد أسفل منه يبايعهن عنه بأمره ويبلغهن عنه وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متقنعة متنكرة خوفا من رسول الله ﷺ أن يعرفها لما صنعت بحمزة فقال عليه السلام أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئاً فبايع عمر النساء على أن لا يشركن بالله شيئاً فقال عليه السلام ولا يسرقن فقالت هند إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصبت من ماله هنات فقال أبو سفيان ما أصبت فهو لك حلال فضحك رسول الله ﷺ وعرفها فقال لها إنك لهند قالت نعم فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك فقال ولا يزنين فقالت أو تزني الحرة فقال ولا يقتلن أولادهن فقالت ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً فأنتم وهم أعلم وكان ابنها حنظلة قد قتل يوم بدر فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله ﷺ فقال ولا يأتين ببهتان فقالت والله إن البهتان لأمر قبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق فقال ولا يعصينك في معروف فقالت والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء وهو يشير إلى أن طاعة الولاة لا تجب في المنكر
472
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (١٣)
﴿يا أيها الذين آمنوا لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ﴾
ختم السورة بما بدأ به قيل هم المشركون ﴿قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الأخرة﴾ من ثوابها لأنهم ينكرون البعث
472
﴿كَمَا يَئِسَ الكفار﴾ أي يئسوا إلا أنه وضع الظاهر موضع الضمير ﴿من أصحاب القبور﴾ ان يرجعوا اليه أو كما يئس أسلافهم الذين هم في القبور من الآخرة أي هؤلاء كسلفهم وقيل هم اليهود أي لا تتولوا قوماً مغضوباً عليهم قد يئسوا من أن يكون لهم حظ في الآخرة لعنادهم رسول الله ﷺ وهم يعلمون أنه الرسول في التوراة كما يئس الكفار من موتاهم أن يبعثوا ويرجعوا أحياء وقيل من أصحاب القبور بيان للكفار أي كما يئس الكفار الذين قبروا من خير الآخرة لأنهم تبينوا قبح حالهم وسوء منقلبهم والله اعلم
473
سورة الصف مدنية وهي أربع عشرة آية

بسم الله الرحمن الرحيم

474
Icon