تفسير سورة سورة الإنسان من كتاب التفسير المظهري
.
لمؤلفه
المظهري
.
المتوفي سنة 1216 هـ
سورة الدهر
مكية وهي إحدى وثلاثون آية
قال قتادة ومجاهد مدنية
ﰡ
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ هل أتى ﴾ استفهام تقرير ومعناه قد أتى ومضى ﴿ على الإنسان ﴾ المراد به الجنس أو آدم عليه السلام ﴿ حين ﴾ قال البيضاوي أي طائفة محدودة من الزمان، وفي القاموس الحين وقت مبهم يصلح لجميع الأزمان طال أو قصر وقيل يختص بأربعين سنة أو ستين سنة أو شهر أو شهرين ﴿ من الدهر ﴾ أي من الممتد الغير المحدودة، وفي القاموس الدهر الزمان الطويل أو ألف سنة، قلت : هو مدة عمر آدم عليه السلام وفي الصحاح الدهر في الأصل اسم لمدة العالم من مبتدأ وجوده إلى انقضائه وعلى ذلك قوله :﴿ هل أتى على الإنسان حين من الدهر ﴾ الآية ثم يعبر به عن كل مدة كثيرة دهر فلان مدة حياته ﴿ لم يكن شيئا مذكورا ﴾ حال من الإنسان أي حال كونه لا يذكر ولا يعرف ولا يدري ما اسمه ولا ما يراد أو صفة لحين والعائد محذوف أي لم يكن فيه شيئا مذكورا أو هذا الكلام يقتضي كونه شيئا وإلا لم يوصف بأنه قد أتى عليه ويقتضي كونه غير مذكور بل منسيا فيه فقال المفسرون وذلك إن أريد به آدم عليه السلام فذلك الحين حين صوره الله تعالى من الطين فكان ملقى بين مكة والطائف أربعين سنة قبل أن ينفخ فيه الروح، وقال ابن عباس ثم خلقه الله تعالى بعد عشرين ومائة سنة وإن أريد به الجنس فذلك الحين أربعة أشهر حين كان نطفة أو علقة أو مضغة إلى نفخ الروح وستة أشهر أقل مدة الحمل وسنتين أكثرها وقيل : أكثر مدة الحمل سبع سنين، وعلى التقديرين لا يخلو الكلام عن التسامح لأن ذلك الحين لم يأت على الإنسان بل على الطين المصور النطفة ونحوها والظاهر أن الكلام يقتضي كونه إنسانا لأن عقد الوضع قبل عقد الحمل فالأولى أن يحتمل ذلك الكون على كونه في مرتبة الأعيان الثابتة التي اهتدى إليها الصوفية ويدل على هذا التأويل تنكير حين فإنه للتكثير روي عن ابن عمر أنه سمع رجلا يقرأ هذه الآية ﴿ لم يكن شيئا مذكورا ﴾ فقال : ليتها تمت يريد ليته بقي- على ما كان غير مذكور أبدا وهذا القول أولى بالتأويل الأخير دون ما سبق، وللصوفية ههنا تأويل آخر هل أتى على الإنسان أي على الصوفي حين من الدهر لم يكن لا شيئا مذكورا بعدما كان مذكورا بالإنسانية وغيرها من الصفات وذلك حين الاستهلاك والفناء الأتم بحيث لا يبقى في علمه شيئا مذكورا، قال المجدد نعم رب قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا لا عينا ولا أثرا ولا شهودا ولا وجودا ثم يصير بعد ذلك إن شئت حيا بحياتك وباقيا ببقائك ومتخلقا بأخلاقك بل صار باقيا بك وبفضلك في عين الفناء وما ينافيك في عين البقاء، قلت : وقول المجدد ثم يصير بعد ذلك الخ كأنه تفسير لقوله تعالى، فمن ابتدائية والدهر يعد من أسماء الله تعالى الحسنى كذا في القاموس، وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( قال الله تعالى يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار ).
﴿ إنا خلقنا الإنسان ﴾ أي ذريته إن كان المراد بالإنسان الأول آدم عليه السلام وإلا فالمراد فيهما الجنس ﴿ من نطفة أمشاج ﴾ جمع شيئج أو شيج من الشجب الشيء إذا خلطته وصف النطفة بالجمع لأن المراد به مجموع مني الرجل والمرأة وكل منها مختلفة الأجزاء والأوصاف في الرقة والقوام والخواص، وقيل : أمشاج مفرد بمعنى مختلطة يختلط فيه مني الرجل والمرأة فهو حينئذ على وزن أعشار يقال برمة أعشار بمعنى يحمله عشرة، يقال يمان كل يومين اختلطا فهو أمشاج وقال قتادة معناه أطوار أي ذات أطوار فإن النطفة تصير علقة ثم مضغة أي تمام الخلق ﴿ نبتليه ﴾ حال من الإنسان ذكر الابتلاء وأراد به نقله من حال إلى حال مجازا أو حال مقدرة أي مقدرين ابتلائه ﴿ فجعلناه سميعا بصيرا ﴾ لتمكن من استماع الدلائل ومشاهدة الآيات فهو كالمسبب للابتلاء ولذا عطف على ما قيد به.
﴿ إنا هديناه ﴾ أي بيناه أي الإنسان ﴿ السبيل ﴾ إلى الله وإلى مرضياته وجنته بنصب الدلائل وبعث الرسل وإنزال الكتب والمراد بالهداية ههنا إراءة الطريق دون إيصال بخلاف قوله تعالى :﴿ اهدنا الصراط المستقيم ٦ ﴾ ﴿ إما شاكرا وإما كفورا ﴾ حالان من الهاء أي هديناه السبيل مقدرين منه أحد الأمرين أمر الشكر على الهداية وقبولها أو الكفر والإنكار، وقيل حال من السبيل يعني هديناه السبيل حال كون السبيل سبيل الشكر أو الكفران وصف السبيل بالشكر والكفر مجازا، والترديد إنما هو حالتي السبيل من الشكر والكفران دون الإراءة تعلقت بقسمي السبيل وحالتيه معا فلا يجوز يقال إن هذا التأويل غير مستحسن فإن إراءة طريق الحق حقا وطريق الباطل باطلا مستلزم أحدهما الآخر فلا يتصور هناك الترديد فالترديد يقتضي أن يكون معناه أريناه أحد الطريقين دون الآخر أرينه الحق أو الباطل حقا فسلك تلك الطريق وحينئذ يلزم كون الإنسان مقدورا على سلوك طريق الباطل وقيل معنى الكلام الشرط والجزاء فإما مركبا أن الشرطية وما الزائدة فمعناه إن كان شاكرا أو كفورا فقد هديناه السبيل ولم نترك عذرا. وقال كفورا ولم يقل كافرا حتى طابقت قسميه لرعاية الفواصل ولأن الشاكر قلما يخلو عن نوع من الكفران فقسمه هو المبالغ في الكفران، وجملة إنا هديناه السبيل مستأنفة فكأنه في جواب من قال فما فعل بالإنسان وما فعل هو بعد ما خلق وجعل له السمع والبصر.
﴿ إنا أعتدنا للكافرين ﴾ في جهنم ﴿ وأغلالا ﴾ قرأ نافع والكسائي وأبو بكر وهشام سلاسلا بالتنوين للمناسبة وصلا وقفوا بالألف عوضا منه وقرأ الباقون بغير تنوين وصلا وقف حمزة وقنبل وحفص بغير ألف وكذا روى عن البزي وابن ذكوان وقف الباقون بالألف صلة للفتحة ﴿ وأغلالا ﴾ في أيديهم تغل إلى عنقهم ﴿ وسعيرا ﴾ وقودا شديد أو هذه الجملة والتي بعدها مستأنفين كأنهما في جواب ما نصيب الشاكرين وما نصيب الكافرين وقدم وعيد الكافرين مع تأخر ذكرهم لأن إنذارهم أنفع وتصدير الكلام وختمه بذكر المؤمنين أحسن ﴿ إن الأبرار ﴾.
﴿ إن الأبرار ﴾ جمع بر بفتح الباء كأرباب أو بار كالشهادة يعني المؤمنين الصادقين في إيمانهم والمطيعين لربهم ومصدره البر كسر الباء بمعنى الصلة والخير والاتساع في الإحسان والصدق في الطاعة كذا في القاموس وكل ذلك صفات المؤمنين ﴿ يشربون من كأس ﴾ قال في الصحاح الكاس الإناء بما فيه من الشراب ويسمى كل واحد منهما بانفراده كأسا يقال كأس خال ويقال شربت كأسا وكاسا طيبة، وفي القاموس الكأس الإناء يشرب فيه أو دام الشراب فيه ولا تخصيص في الشراب بخمر أو لبن أو عسل أو ماء وههنا يحتمل أن يكون الإنار أو من للابتداء والمعنى يشربون مشروبا خمرا ولبنا وماء وعسلا من كأس أي من ظرفه، ويحتمل أن يكون بمعنى المشروب إما حقيقة أو مجازا تسمية الحال باسم المحل نحو جرى النهر ومن حينئذ إما زائدة أو للتبعيض أو للبيان ويحتمل أن يكون الإناء بما فيه ويكون من للابتداء ﴿ كان مزاجها ﴾ ما تمزج الضمير عائد إلى كأس حقيقة إن كان بمعنى الشرب ومجازا على طريقة إذا نزل السماء بأرض قوم وعينا إن كان بمعنى الإناء يعني كان مزاج ما فيها ﴿ كافورا ﴾ قال قتادة يمزج بهم بالكافور ويختم بالمسك، وقال عكرمة مزاجها طعمها كافورا ككافور في طيب الطعم والريح كما في قوله تعالى :﴿ حتى إذا جعله نارا ﴾ أي كنار، وقال عطاء والكلبي الكافور اسم لعين الماء في الجنة ونظيره قوله تعالى :﴿ ومزاجه من تسنيم ٢٧ ﴾.
﴿ عينا ﴾ بدل من كافور إن جعل اسم ماء أو بدل من محل من كأس على تقدير مضاف أي ماء عين أو منصوب على الاختصاص أو المدح أو بفعل يفسره ما بعده ﴿ يشرب بها ﴾ الباء زائدة أي يشربها أو صلة على تضمين يعني ملتذا بها أو ممزوجا بها أو بمعنى من الابتداء ﴿ عباد الله ﴾ الذين عبدوا الله وحده مخلصين له الدين ﴿ يفجرونها تفجيرا ﴾ أي يقودون تلك العين ويجرونها إجراء سهلا حيث شاؤوا من منازلهم وقصورهم، أخرج عبد الله بن أحمد في رواية الزهد عن ابن شوذب قال فهم قضيان من ذهب يفجرونها بها بتبع قضائها.
﴿ يوفون بالنذر ﴾ جملة مستأنفة في جواب ما بالهم يثابون كذلك أو في جواب الأبرار ما هم فهو تعريف للأبرار بأنهم يؤدون الواجبات ويخافون الله فيجتنبون المكروهات ويرحمون العباد ويفعلون الحسنات خالصا لله تعالى ابتغاء مرضاته هذا شأن الأبرار ويحصل ذلك المراتب بعد فناء النفس وزوال رذائله وأما المقربون فشأنهم أرفع من ذلك أو تعليل لما سبق يعني أن الأبرار يشربون الخ لأنهم يوفون النذر في الدنيا والنذر في اللغة أن توجب على نفسك ما ليس بواجب كذا في الصحاح وإيفائهم ما يوجبوا على أنفسهم ما ليس بواجب عليه يدل بالطريق الأولى على إيفائهم ما فرض الله عليهم من الصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة والجهاد وغيرها، فلعله هو المراد بما قال قتادة يوفون بما فرض الله عليهم من الصلاة والزكاة والحج والعمرة وغيرها من الواجبات للإيجاب.
فصل : ولما كان النذر عبارة عن إيجابه على نفس ما ليس بواجب ظهر أنه لا بد لانعقاده من شرطين أحدهما أن يكون طاعة فإن ما ليس بطاعة لا يصلح للإيجاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إنما النذر ما ابتغي به وجه الله ) رواه أحمد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص والثاني أن لا يكون واجبا بإيجاب الله تعالى وقال أبو حنيفة ولا بد أيضا أن يكون العبادة مقصودة بنفسها وأن يكون من جنسها واجب بإيجاب الله وعند الجمهور لا يشترط ذينك الشرطين والإجماع على وجوب الاعتكاف بالنذر يقتضي انتفاء هذين الشرطين فإنه عبادة لأجل انتظار الصلاة لا بنفسه وليس منه عينه واجب ومن ثم قال الشافعي يجب بالنذر كل قربة لا تجب ابتداء كعيادة المريض وتشييع الجنازة والسلام ويدل على التعميم حديث عائشة ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ) رواه البخاري، وزاد الطحاوي وفي هذه الوجه وليكفر عنه عن يمينه قال ابن العطاء عند الشك في رفع هذه الزيادة.
مسألة :
من نذر بطاعة وقيده بقيود للطاعة فيها يغلو تلك القيود وينعقد النذر بالطاعة كمن نذر بالصلاة في مكان معين وبالصوم قائما ونحو ذلك فيجب الصلاة والصوم ويتأدى بكل مكان وعلى كل حال إجماعا، إلا أن أبا يوسف والشافعي وغيرهما قالوا لو نذر أن يصلي في المسجد الحرام لم يجزه في غيره ولو نذر في المسجد الأقصى أو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يجوز له الأداء في المسجد الحرام ولم يجزه فيما هو أقل منه فضلا وقال أبو حنيفة في جميع الصور يجوز الأداء في كل مكان، وفي حديث جابر أن رجلا قال يوم الفتح يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في البيت المقدس فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :( صل ههنا ) فأعادها على النبي صلى الله عليه وسلم مرتين أو ثلاثا فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( شأنك إذا ) رواه أبو داود والدارمي فبهذا الحديث ألغى أبو حنيفة تقييده بالمسجد الأقصى، قال أبو يوسف والشافعي تقييده الصلاة بمسجد من هذا المساجد الثلاثة كثرة الثواب والمعنى الطاعة فلا يلغى عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ) متفق عليه، وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( صلاة الرجل في بيته بصلاة وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه بخمسمائة صلاة وصلاته في المسجد الأقصى بألف صلاة وصلاته في مسجدي بخمسين ألف صلاة وصلاته في المسجد الحرام مائة ألف صلاة ) رواه ابن ماجه، وقال : إنما ذلك على الصلاة المكتوبات لا على النوافل عن زيد بن ثابت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة ) رواه أبو داود والترمذي، وما يدل على إلغاء قيود لا طاعة وفيها حديث ابن عباس قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس فسأل عنه فقال : أبو إسرائيل نذر أن يكون ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ولا يصوم فقال : مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه ) رواه أبو داود وابن ماجه وابن حبان ورواه البخاري وليس فيه في الشمس ورواه مالك في الموطأ مرسلا وفيه فأمره بإتمام ما كان لله طاعة وتترك ما كان معصية قال مالك ولم يبلغني أنه أمر بكفارة وأخرجه الشافعي وفي آخره ولم يأمره بكفارة ورواه البيهقي من حديث محمد بن كريب عن أبيه عن ابن عباس وفيه الأمر بالكفارة، ومحمد بن كرب ضعيف.
مسألة : من فاته ما وجب عليه بالنذر يجب قضاءه بمثله حقيقة أو حكما فيقتضي الصلاة بالصلاة والصوم بالصوم والشيخ الفاني يطعم بكل صوم مسكينا ومن نذر الحج ماشيا فركب بعذر يهدي هديا وبه، قال الجمهور وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة وفي رواية الأصل عن أبي حنيفة لا يجب عليه المشي في الحج بالنذر فلا يجب عليه الهدي لحديث عقبة بن عامر الجهني قال : نذرت أختي أن تمشي إلى الكعبة حافية حاسرة فأتى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما بال هذه ؟ قالوا : نذرت أن تمشي إلى الكعبة حافية حاسرة قال ( مروها فلتركب ولتخمر ) متفق عليه، وحديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شيخا يهادى بين ابنين له فسأل عنه فقال : نذر أن يمشي فقال إن الله لغني عن تعذيب هذا وأمره بأن يركب ) متفق عليه، قلنا : أما حديث عقبة بن عامر فقد رواه أبو داود بسند جيد نذرت أختي أن تمش إلى البيت فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تركب وتهدي هديا وروى داود من حديث زيد بن عباس بلفظ أن أخت عقبة بن عامر نذرت إن تحج ماشية وأن لا تطيق ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( إن الله غني عن مشي أختك فلتركب ولتهد بدنة )، وروى الطحاوي من حديث عقبة بن عامر نحوه بسند حسن فظهر أن ما في الصحيحين فيه اختصار على ذكر بعض المروي وما ذكرنا من الروايات يقتضي تخصيص البدنة بالهدي وروى عبد الرزاق عن علي بسند صحيح فيمن نذر أن يمشي إلى البيت قال : يمشي فإن عيي ركب وأهدى جزورا وأخرج نحوه عن ابن عمر وابن عباس وقتادة والحسن.
مسألة : ومن نذر بمعصية أو بأمر مباح لا يصلح للطاعة لا يجب ولا ينعقد النذر إجماعا فيلغو عند أبي حنيفة وعند الجمهور يتعقد يمينا للتحرز عن إلغاء كلام العاقل وصيغته أكيد يصلح لكونه يمينا لفظا لاشتماله على ذكر اسم الله تعالى ومعنى لأن فيه تحريم ضد المنذور فعندهم يجب أن يحنث ويكفر في المعصية وفي المباح يخير بين أن يفعل أو يكفر والحجة لهم أحاديث، حديث عقبة بن عامر ( كفارة النذر كفارة اليمين ) رواه مسلم وحديث عمران بن حصين مرفوعا ( لا نذر في معصية الله وكفرة اليمين ) رواه النسائي والحاكم والبيهقي ومداره على محمد بن زبير الحنظلي، وهو ليس بالقوي وقال الحافظ ابن حجر له طريق أخر إسنادها صحيح إلا أنه معلول ورواه أحمد وأصحاب السنن والبيهقي من رواية الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وهو منقطع لم يسمع أبو سلمة عن أبي هريرة ورواه أصحاب السنن عن عائشة وفيه سليمان بن أرقم متروك، ورواه الدارقطني عن عائشة مرفوعا :( من جعل عليه نذرا في معصية الله فكفارته كفارة اليمين ) وفيه غالب بن عبد الله متروك وروى أبو داود من حديث كريب عن ابن عباس وإسناده حسن قال النووي حديث لا نذر في معصية الله فكفارته كفارة يمين ضعيف باتفاق المحدثين، وقال الحافظ قد صححه الطحاوث وأبو علي بن السكن وحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا أطاقه فليف به ) رواه أبو داود وابن ماجه، وحديث ثابت بن الضحاك أن رجلا نذر أن ينحر إبلا في موضع وفي رواية ببوانة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هل كان فيه وثن من الأوثان الجاهلية تعبد ؟ قالوا : لا، قال : هل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ قالوا : لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أوف بنذرك ) رواه أبو داود وسنده صحيح وروى من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ونحوه روى ابن ماجه عن ابن عباس، وهذا الحديث يدل على جواز وفاء النذر بما ليس بطاعة ولا معصية وكذا حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة قالت يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف تعني عند قدومك قال : أوفي بنذرك رواه أبو داود، ولعل ذلك قبل تحريم الضرب بالدف والنذر المعلق عند وجود الشرط حكمه حكم المنجز مطلقا عند أبي حنيفة في ظاهر الرواية وعند أبي يوسف وهي رواية عن الشافعي، وبه قال مالك غير أنه قال في صدقة جميع المال يلزمه التصدق بالثلث وفيما سوى ذلك فعنده يجب عليه الوفاء بما أوجب لا غير وروي عن أبي حنيفة أنه رجع عن هذا القول وقال : أجزأه عن المعلق كفارة يمين ويخرج عن العهدة بفعله وبه قال محمد واختار صاحب الهداية والمحققون عن علماء الحنفية أن المراد بالشرط الذي يجزء عنه الكفارة عند أبي حنيفة الشرط الذي لا يريد وجوده نحو إن دخلت الدار وكلمت فلانا أو فعلت كذا فعلي حج أو صوم سنة ويسمى هذا النذر الحاج وأما الشرط الذي يريد وجوده نحو إن شعبت أو قدم غائبي أو مات عدوي أو ولدت امرأتي ابنا فعلي كذا، قالوا وجب عليه الوفاء لا غير ويسمى هذا النذر نذر تبرر ولهذا التفصيل قال أحمد وهي الأظهر من الروايات عن الشافعي والرواية الثالث عن الشافعي أن الواجب في النذر الحاج الكفارة لا غير وهي رواية عن أحمد عن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحب القسمة، فقال : إن عدت بشأنهما القسمة فكل ما لي في رباح الكعبة فقال له عمر إن الكعبة غنية عن مالك كفر عن يمينك وكلم أخاك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطعة الرحم ولا فيما لا يملك ) رواه أبو داود.
مسألة : ومن نذر بعبادة لا يطيقها جاز له أن يكفر عنه وقال أبو حنيفة يستغفر الله ولا كفارة عليه لنا ما مر من حديث ابن عباس ( من نذر نذر لا يطيقه فكفارته كفارة يمين ) وحديث في قصة أخت عقبة قال النبي صلى الله عليه وسلم :( إن الله لا يصنع بشقاء أختك مشيا فلتركب ولتحج راكبة وتكفر يمينها ) رواه أبو داود، وعن عبد الله بن مالك عن عقبة بن عامر قال : نذرت أختي أن أحج لله ماشية غير مختمرة فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قل لأختك فلتخمر ولتركب ولتصم ثلاثة ) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي وروى الطحاوي نحوه، ووجه الجمع أن النبي صلى الله عليه وسلم لعله أمره الكفارة بعد ما علم عجزها عن هذا والله تعالى أعلم ﴿ ويخافون يوما كان شره ﴾ أي مكروه في الصحاح الشر الذي يرغب عنه ﴿ مستطيرا ﴾ تنتشر غاية الانتشار من استطار الحريق والفجر، قال مقاتل كان شره فاشيا في السماوات فانشقت وتناثر كواكبها وكورت الشمس والقمر وفزعت الملائكة وفي الأرض فنسفت الجبال وغار المياه فكسر كل شيء على الأرض من جبال وبناء فيه إشعار إلى حسن عقيدتهم واجتابهم بهم عن المعاصي كما أن في يوفون بالنذر دلالة على إتيانهم الواجبات.
وقوله تعالى :﴿ ويطعمون الطعام ﴾ إلى آخره إشارة إلى ترحمهم على عباد الله وإتيانهم الحسنات النافلات خالصا لله تعالى ابتغاء مرضاته ﴿ على حبه ﴾ أي على حب الله تعالى أو على حبهم الإطعام وحاجتهم إليه ﴿ مسكينا ويتيما وأسيرا ﴾ أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يأسر أهل الإسلام ولكنها نزلت في أهل الشرك كانوا يأسرونهم في الله فنزلت فيهم فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالإحسان إليهم كذا قال قتادة وقال مجاهد وسعيد بن جبير هو المسجون من أهل القبلة والأول أظهر، وقيل : الأسير المملوك وقيل : المرأة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( اتقوا الله سبحانه في الضعيفين المملوك والمرأة )، رواه ابن عساكر عن أبي عمر وعن أم سلمة ( اتقوا الله في الصلاة وما ملكت ) رواه الخطيب وروى البخاري في الأدب عن علي مرفوعا ( اتقوا الله في ما ملكت أيمانكم ) وروى البغوي ( اتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان ) قال البغوي اختلفوا في سبب نزول هذه الآية ؟ قال مقاتل نزلت في رجل من الأنصار أطعم في يوم واحد مسكينا ويتيما وأسيرا، وروى مجاهد وعطاء عن ابن عباس أنها نزلت في علي بن أبي طالب وذلك أنه عمل لليهودي بشيء من شعير فقبض الشعير فطحن منه ثلاثة، فأصلحوا منه شيئا ليأكلوه فلما تم انضاجه أتى مسكين فسأله فأخرجوا إليه الطعام ثم عمل الثلث الثاني فلما تم إنضاجه أتى يتيم فسأل فأطعموه ثم عمل الثلث الباقي فلما تم إنضاجه أتى أسير من المشركين فسأل فأطعموه وطووا ليومهم ذلك وروى الثعلبي عن ابن عباس أن الحسن والحسين مرضا فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك فنذر علي وفاطمة وقضة جاريته لهما أن يصوموا ثلاثة أيام إن برأ فشفيا وما معهم طعام فاستقرض على من سمعون الخيبري ثلاث أصوع من الشعير فطحنت فاطمة رضي الله عنها صاعا وخبزت خمسة أقراص فوضعوا بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم مسكين فآثروه وباتوا ولم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صياما فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم فوقف عليهم في الثالثة أسير ففعلوا مثل ذلك، فنزل جبرائيل بهذه السورة وقال : خذها يا محمد هنأك الله في أهل بيتك. قال : الحكيم الترمذي هذا حديث معضل لا يروح إلا على أحمق وجاهل وأورده ابن الجوزي في الموضوعات، وقال هذا لا يشك في وضعه قال السيوطي لأن السورة مكية ودخول علي على فاطمة بعد الهجرة بسنتين، قلت : وهذا الاعتراض ملحق بما قال مقاتل وما قال مجاهد وعطاء أيضا فإن نزول الآية في رجل من الأنصار يقتضي كون الآية مدنية وكذا عمل علي لليهودي بشيء من الشعير أيضا لا يتصور إلا في المدينة لأن اليهود لم يكونوا بمكة بل نفس الآية يقتضي كونها مدنية لأن الأسارى لم تكن إلا بالمدينة لم يكن بمكة جهاد ولا أسر فالظاهر أن بعض هذه السورة مدنية وإن كانت بعضها مكية وعلى كون كلها مكية ففي الآية إخبار بالغيب عن حال المسلمين بعد الهجرة.
﴿ إنما نطعمكم ﴾ حال من يطعمون بتقدير القول أي قائلين نطعم لهم هذا القول إما تحقيقا أو تقدير القول بلسان الحال، قال مجاهد وسعيد بن جبير أنهم لم يتكلموا به ولكن علم الله ذلك من قلوبهم فأثنى عليهم ﴿ لوجه الله ﴾ لفظ الوجه مقحم أي لله وطلب مرضاته ثوابه ﴿ لا نريد منكم جزاء ﴾ عوضا بدنيا ولا ماليا ﴿ ولا شكورا ﴾ مصدر كالدخول والجروح والقبول روى عن عائشة أنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت ثم تسأل المبعوث، قالوا فإن ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى صواب الصدقة لها خالصا عند الله.
﴿ إنا نخاف من ربنا ﴾ تعليل للإطعام بعد تعليل كأنه معطوف على لوجه الله بحذف العاطفة وحذف حرف الجر يعني نطعمكم طمعا وخوفا من الله المطلوب مرضاته وثوابه للخوف من غضبه وعذابه، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الصدقة لتطفئ غضب الرب وتدفع عنه السوء ) رواه الترمذي ﴿ يوما ﴾ ظرف لمقدر أي نخاف من عذاب ربنا ﴿ عبوسا ﴾ العبوس الذي يجمع ما بين عينيه حزنا وصف اليوم به مجازا على طريقة نهارك صايم ﴿ قمطريرا ﴾ شديد العبوس كذا قال الكلبي وقال أخفش قمطريرا أشد ما يكون من الأيام وأطوله في بلاء وفي القاموس القمطرير الشديد وأقمطر اشتد نفسه ترقي من الأدنى إلى الأعلى.
﴿ فوقاهم الله ﴾ ذكر المستقبل بلفظ الماضي إشهارا لقطع وقوعه الفاء للسببية أي لأجل خوفهم واجتنابا بموجب العذاب في ذلك اليوم وقاهم الله ﴿ شر ﴾ أي مكاره ﴿ ذلك اليوم ولقاهم ﴾ أعطاهم بدل العبوسة ﴿ نضرة ﴾ حسنا في الوجه ﴿ وسرورا ﴾ في القلب.
﴿ وجزاهم ﴾ الله حيث لم يطلب الجزاء عن غيره ﴿ بما صبروا ﴾ على طاعات الله عن معاصية وعلى الجوع عند الطعام المسكين، وعلى القتل في الجهاد وعلى المعصية عند الصدقة ﴿ جنة ﴾ دخولها ﴿ وحريرا ﴾ ألبسوه.
﴿ متكئين ﴾حال من الضمير المنصوب في جزاء أو من المرفوع في أدخلوا المقدر ﴿ فيها ﴾ في الجنة ﴿ على الأرائك ﴾ أي السرر في الحجال، أخرج البيهقي عن ابن عباس قال : لا يكون الأرائك حتى يكون السرير في الحجلة فإن كان سرير بغير حجلة لا يكون أرائكة وإن كان حجلته بغير سرير لا يكون أرائكة فإذا اجتمعا كان أرائكة ﴿ لا يرون ﴾ حال من فاعل متكئين أو من ذي حاله ﴿ فيها شمسا ولا زمهريرا ﴾ قال في القاموس الزمهرير شدة البرد القمر وازمهرت الكواكب أي لمعت فالمراد بالزمهرير إما شدة البرد وبالشمس لازمه أي الحر فالمعنى لا حر فيها ولا برد ليدوم فيها هواء معتدل، أخرج ابن المبارك وعبد الله بن أحمد في زوائده وابن مسعود قال : الجنة سجيح لا حر فيها ولا قرأ والمراد بالزمهرير القمر أو لامع من الكواكب فالمعنى الجنة مضيئة بنفسها ومشرقة بنور ربها لا يحتاج إلى شمس ولا إلى قمر أخرج البيهقي عن شعيب بن الجيحان قال : خرجت أنا وأبو عالية الرباحي قبل طلوع الشمس فقال : ينسب أن الجنة هكذا ثم تلا ﴿ وظل ممدود ٣٠ ﴾ قلت : ليس معنى قول أبي العالية الجنة هكذا تشبيه بنور الصبح فإنه نور ضعيف متلط بالظلمة كما لا يخفى بل تشبيه في انبساط نوره بل انقطاع.
﴿ ودانية ﴾ أي قريبة عطف على متكئين أو على محل لا يرون ويرون دانية أو على جنة بتقدير الموصوف أي وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها فيكون نظيرا لقوله تعالى :﴿ ولمن خاف مقام ربه جنتان ٤٦ ﴾ لكن لهذا التأويل ضعف لاقتضائه أن لا يكون الجنة الأولى دانية الظلال إذا القسمة تنافي الشركة ﴿ عليهم ﴾ أي منهم ﴿ ظلالها ﴾ فاعل دانية ﴿ وذللت ﴾ حال من ظلالها بتقدير قد أو عطف على دانية على طريقة ﴿ فالق الإصباح وجعل الليل سكنا ﴾ أو حال من ذي حال دانية والعائد محذوف أي ذللت لهم ﴿ قطوفها ﴾ أي ثمارا ﴿ تذليلا ﴾ أي جعلت سهل التناول لا يمتنع على قطوفها كيف شاؤوا، أخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن البراء بن عازب أن أهل الجنة يأكلون من ثمار الجنة قياما وقعودا مضطجعين على أي حال شاؤوا.
﴿ ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب ﴾ أي أباريق بلا عرى، كذا أخرج هناد عن مجاهد ﴿ كانت ﴾ أي الكواكب الجملة صفة بها ﴿ قواريرا ﴾ حال من فاعل كانت على تقدير كونها تامة أي تكونت أكواب حال كونها قوارير أي مثل قوارير وخبرها على تقدير كونها ناقصة أي تكون مثلها في الصفاء، أخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس قال : آنية من فضة صفائها كصفاء القوارير وأخرج سعيد بن مسعود بن عيد الرزاق والبيهقي عن ابن عباس لو أخذت فضة من فضة الدنيا فضربتها حتى تجعلها مثل جناح الذبابة لم يرى الماء من ورائها لكن من أواني الجنة بياض الفضة في صفاء القوارير.
﴿ قواريرا من فضة ﴾ بدل من الأول، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : ليس في الجنة شيء إلا قد أعطيتم في الدنيا شبه القوارير من فضة قال الكلبي إن الله جعل قوارير كل قوم من تراب أرضهم وإن أرض الجنة من فضة فعل منها قوارير يشربون فيها قرأ ابن كثير قوارير الأول بالتنوين لتناسب رؤوس الآي والثاني بلا تنوين بعدم الانصراف، وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر كلاهما بالألف تبعا للخط لا حمراة فيغير الألف من نون الثاني أيضا بالألف عوضا من التنوين ومن لم ينون وقف بغير ألف على القياس إلا هشام فبالألف صلة للفتحة على الرواية ﴿ قدروها تقديرا ﴾ صفة ثانية لأكواب أو حال بتقدير قد والمعنى قدرها لهم لا سقاة والخدم الذين يطوفون عليهم على قدر ربهم لا يزيد ولا ينقص، وكذا أخرج الفريابي في نفسه عن ابن عباس قال : الشيخ الأجل يعقوب الكرخي رضي الله عنه : لعل هذا إشارة إلى أن مقادير الأكواب يكون على حسب مقادير استعدادات الأرواح في المعارف الإلهية وأخرج هنا عن مجاهد تقديرها أنها ليست بالملآن التي تفيضه لا ناقصة بقدر أو المعنى قدرها أهل الجنة في أنفسهم فجاءت مقاديرها وأشكالها لما تمنوه أو قدروه بأعمالهم الصالحة فجاءت على حسبها.
﴿ ويسقون فيها ﴾ معطوف على يطاف عليهم ﴿ كأسا ﴾ المراد بالكأس ههنا المشروب إما حقيقة أو على طريق جرى النهر ﴿ كان مزاجها زنجبيلا ﴾ صفة لكأس كانت العرب يستلذون الشراب الممزوج بالزنجبيل فواعد الله بذلك قال ابن عباس ما ذكر الله في القرآن بما في الجنة وسماه ليس له في الدنيا مثل، وقيل عين في الجنة يوجد منها طعم الزنجبيل وقال قتادة : يشربها المقربون صرفا ويمزج لسائر أجل الجنة قلت ذكر الله تعالى في الجنة كأسا كان مزاجها كافورا وكأسا مزاجها زنجبيلا ذلك على اختلاف رغبة الشاربين فإن محرور الطبيعة يعجبه التبريد فيرغب إلى كأس كان مزاجها كافورا والمبرود يعجبه التسخين فيرغب إلى كأس كان مزاجها زنجبيلا ولكل يرغب فيه.
﴿ عينا ﴾ بدل من زنجبيلا إن كان الزنجبيل اسما لعين وإلا فهو بدل من كأس على حذف المضاف أي كأس عين ﴿ فيها تسمى ﴾ تلك العين ﴿ سلسبيلا ﴾ أخرج سعيد بن منصور وهناد والبيهقي عن مجاهد قال : هي حديدة الحربة انتهى، ويقال شراب سهل الانحدار في الحلق والمساغ سلسل سلسالا وسلسبيلا فقيل الباء زائدة، وقال الزجاج سميت بذلك لأنها منقادة لهم يصرفونها حيث شاؤوا، وقال مقاتل وأبو العالية سميت به لأنها تسيل عليهم في الطريق. . . . وفي منازلهم ينبع من أصل العرش من جنة عدن إلى أهل الجنان وشراب الجنة على برد الكافور وطعم الزنجبيل وريح المسك.
﴿ ويطوف عليهم ﴾ عطف على الجملة السابقة ﴿ ولدان ﴾ ينشئهم الله لخدمة المؤمنين وولدان الكفرة يجعلهم الله خدما لأهل الجنة ﴿ مخلدون ﴾ أي لا يموتون ولا يهرمون ﴿ إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا ﴾ لا يموتون ولا يهرمون إذا رأيتهم لانتثارهم في الخدمة ولو كانوا صفا شبهوا بالمنظوم والجملة الشرطية صفة ثانية للولدان. أخرج ابن المبارك وهناد والبيهقي عن ابن عمر قال : إن أدنى أهل الجنة من يسعى عليه ألف خادم على عمل ليس معه صاحبه وتلى هذه الآية وأخرج ابن أبي الدنيا عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن أسفل أهل الجنة أجمعين درجة من يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم ) وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة إن أدنى أهل الجنة منزلا من يغدوا ويروح عليه خمسة آلاف خادم ليس منهم خادم إلا ومعه ظرف ليس مع صاحبه والله تعالى أعلم.
أخرج ابن المنذر عن عكرمة قال دخل عمر بن الخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم وهو راقد على حصير من جريد فأثر في جنبه فبكى عمر فقال : ما يبكيك ؟ قال : ذكرت كسرى وملكه وهرمز وملكه وصاحب الحبشة وملكه وأنت رسول الله على حصير من جريد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أما ترضى أن لهم الدنيا ولنا الآخرة ) فأنزل الله تعالى ﴿ وإذا رأيت ﴾ حذف مفعوله ونزل منزلة اللازم ﴿ ثم ﴾ ظرف لرأيت أي في الجنة ﴿ رأيت نعيما ﴾ كثيرا ﴿ وملكا كبيرا ﴾ الجملة الشرطية معترضة في الجنة وقد مر فيما سبق عن ابن عمر مرفوعا ( أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جناته وأزواجه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة ) وفي رواية ( مسيرة ألفي عام يرى أقصاه كما يرى أدناه ) وقيل : ملك لا يزول ويسلم عليهم الملائكة ويستأذنهم في الدخول ولهم فيها ما يشاؤون ويرون الرب الجليل.
﴿ عليهم ﴾ قرأ نافع وحمزة بإسكان الياء على أنه مبتدأ وما بعده خبره من جملته حال من ضمير عليهم في يطوف عليهم أو من المنصوب في حسبتهم أو ملكا كبيرا بحذف المضاف أي أهل ملك كبير والباقون بالنصب على أنه ظرف مستقر بمعنى فوقهم خبر لما بعده أو حال مما ذكرنا وما بعده فاعل الظرف ﴿ ثياب سندس ﴾ بالإضافة مبتدأ أو خبر أو فاعل لما قبله والسندس معرب ضرب من رقيق الديباج كذا في القاموس ﴿ خضر ﴾ أخضر قرأ نافع وحفص وأبو عمر وابن عامر بالرفع على أنه صفة ثياب والباقون بالجر على أنه صفة سندس ﴿ وإستبرق ﴾ أي الديباج الغلظ معرب استبره أو ديباج يعمل بالذهب أو ثياب حرير صفاق نحو الديباج كذا في القاموس قرأ نافع وابن كثير وعاصم بالرفع عطفا على ثياب والباقون بالجر عطفا على سندس. عن ابن عمر قال : قال رجل : يا رسول الله أخبرنا عن ثياب أهل الجنة أخلق يخلق أم نسج ينسج ؟ فقال :( بل ينشق عنها ثمر الجنة ) رواه النسائي والبزار والبيهقي بسند جيد وعن جابر قال ( في الجنة شجرة ينبت السندس يكون ثياب أهل الجنة ) رواه البزار والطبراني وأبو يعلى بسند صحيح وعن عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ) متفق عليه وروى النسائي والحاكم وعن أبي هريرة نحوه وزاد ( ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربه في الآخرة ومن شرب من آنية الذهب والفضة في الدنيا لم يشرب بهما في الآخرة ) وفي الصحيحين عن أنس والزبير نحو حديث عمر وعن أبي سعيد الخدري أيضا نحو حديث عمر وزاد ( وإن دخل الجنة لم يلبسه ) رواه الطيالسي بسند صحيح والنسائي وابن حبان والحاكم ﴿ وحلوا ﴾ عطف على ويطوف عليهم أو حال من الضمير في عاليهم بإضمار قد ﴿ أساور ﴾ منصوب بنزع الخافض ﴿ من فضة ﴾ من بيانية وهذا لا يخالف قوله تعالى :﴿ أساور من ذهب ﴾ لإمكان الجمع والعاقبة والتبعيض وعلى تقدير كون الجملة حالا من ضمير للخدم فيجوز أن يكون أساور من فضة للخدم ومن ذهب وسوار من فضة وسوار من لؤلؤ وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن كعب الأحبار قال : إن الله تعالى ملكا يصوغ على أهل الجنة من أول خلقه إلى أن تقوم الساعة ولو أن حليا يخرج من حلي أهل الجنة لذهب بضوء الشمس وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( يبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء ) وأخرج النسائي والحاكم عن عقبة بن عامر قوله صلى الله عليه وسلم :( إن كنتم تحبون حلية الجنة وحريرها فلا تلبسوها في الدنيا ) ﴿ وسقاهم ربهم ﴾ معطوف على الجمل السابقة ﴿ شرابا طهورا ﴾ من الأقذار لم تمسه الأيدي كخمر الدنيا، وقال أبو قلابة وإبراهيم : إنه لا يصير بولا نجسا ولكن يصير رشحا في أبدانهم كريح المسك وذلك أنهم يؤتون بالطعام وإذا كان آخر ذلك أتوا بالشراب الطهور فيشربون فيطهر بذلك بطونهم ويصير ما أكلوا رشحا يخرج من جلودهم أطيب من المسك الأذفر تعود شهوتهم، وقال مقاتل هو عين ماء على باب الجنة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غل أوحسد، قال البيضاوي ولنعم ما قال هو أن الله سبحانه يريد نوعا آخر من الشراب يفوق على النوعين المتقدمين ولذلك أسند إلى نفسه ووصفه بالطهورية فإنه يطهر شاربه عن الميل إلى الذات الحسنة والركون إلى ما سوى الحق فتجرد لمعاينة جماله متلذذا بلقائه وهي منتهى درجة الصديقين ذلك ختم به ثواب الأبرار وختم ثوابهم ومبدأ ثواب الصديقين وأدنى درجتهم، قال في المدارك : قيل إن الملائكة تعرضون عليهم الشراب فيأبون قبوله منه ويقولون لقد طال أخذنا من الوسائط فإذا هم بكأسات تلاقي أفواههم بغير أكف من غيب إلى عبد ويؤيد هذا القول ما أخرج ابن أبي الدنيا بسند جيد عن أمامة قال : إن الرجل من أهل الجنة يشتهي الشراب من شراب الجنة فيقع في يده فيشرب ثم يعود إلى مكانه، قال الشيخ الأجل يعقوب الكرخي إن السابقين المقربين يعطون الكاسات من تحت العرش بلا واسطة والمقتصدين يعني الأبرار يعطيهم الملائكة وغيرهم من أهل الجنة يعني الذين دخلوها بعد المغفرة أو العذاب يعطيهم الولدان انتهى، قلت : وهذه الآيات إخبار عن شأن الأبرار فلعلهم يعطون الكاسات تارة بتوسط الولدان وتارة بتوسط الملائكة وتارة بلا توسط وأما المقربون لعلهم يعطون بلا توسط غالبا.
﴿ إن هذا ﴾ النعيم ﴿ كان لكم جزاء ﴾ لأعمالكم ﴿ وكان سعيكم مشكورا ﴾ محمودا مقبولا مرضيا عندنا مجازا فقال : فهذا قول لهم من الله تعالى كأنهم شكر لهم من الله تعالى حيث لم يريدوا مشكورا من غيره تعالى من المسكين واليتيم، قلت : جعل الله سبحانه نعيم الجنة جزاء لأعمالهم تفضلا لهم وإلا فأي عمل يتصور أن يكون جزاءه كذلك.
﴿ إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا ٢٣ ﴾ قال ابن عباس يعني متفرقا آية بعد آية ولم ينزل جملة واحدة وتأكيد الجملة بتقديم المسند إليه على الجزاء الفعلي وتصديرها بأن وتكرير الضمير لإشعار بأن الحكمة والصواب منحصر في هذا النوع من التنزيل كأنه كرر الإسناد إلى نفسه وجعله مختصا به والحكيم لا يفعل إلا ما هو حكمته.
﴿ فاصبر لحكم ربك ﴾ الفاء للسببية، يعني إذا عرفت حال الأبرار والفجار وتأخير جزاء الفريقين أي دار القرار فاصبر على أذى الكفار ولا تعجل في عقوبتهم ولا تحزن بتأخير نصرك عليهم وإذا علمت أن تنزيل القرآن مختص به تعالى فاصبر نفسك على ما أمر به وعما نهى عنه ﴿ ولا تطع منهم ﴾ أي من الكفار للضجر من تأخير الظفر ﴿ آثما ﴾ أي مرتكبا لإثم داعيا لك إليه وإن لم يكن ذلك كفرا ﴿ أو كفورا ﴾ مرتكبا للكفر داعيا لك إن الكفر فأولا حد الأمرين منكر وقعت في حيز النفي فأفادت العموم أي لا تطع أحدا دعاك إلى إثم أو دعاك إلى كفر أو إليهما جميعا فإنه داع إلى كل واحد منهما ولو وقعت هناك الواو لكان المعنى لا تطع من دعاك إلى الكفر والإثم جميعا ولا يستفاد منه عدم إطاعة الداعي إلى الإثم فقط، ومقتضى هذه الآية أنه لا بأس في إطاعة كافر فيما ليس بإثم ولا كفر وقيل : أو ها هنا بمعنى الواو والمراد بالآثم الكفور أبو جهل لعنه الله تعالى وذلك أنه لما فرضت الصلاة نهى أبو جهل النبي صلى الله عليه وسلم عنها، وقال لئن رأيت محمدا يصلي لأطأن عنقه فأنزل الله هذه الآية كذا روى عبد الرزاق وابن المنذر وابن جرير عن قتادة، وقال مقاتل أراد بالآثم عتبة بن ربيعة وبالكفور وليد بن المغيرة قالا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن صنعت ما صنعت لأجل النساء والمال فارجع عن هذه الأمر وقال عتبة فأنا أزوجك ابنتي وأسوقها إليك بغير مهر، وقال الوليد أنا أعطيك من المال ما ترضى فأرجه من هذه الأمر فأنزل الله تعالى هذه الآية ﴿ واذكر اسم ربك ﴾.
﴿ واذكر اسم ربك ﴾ أي صل شبه عن الصلاة بذكر اسم الله تعالى تسمية الشيء باسم جزئه فإن التحريمة ركن من أركان الصلاة أو يقال أفعال الصلاة وأقوالها كلها ذكر قال رسول الله صلى اله عليه وسلم :( إن هذه الصلاة ليس فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ) رواه المسلم من حديث معاوية بن حكم ﴿ بكرة ﴾ أي وأول النهار عني به صلاة الفجر منصوب على الظرفية وكذا ﴿ وأصيلا ﴾ أي آخر النهار عنى به صلاة الظهر والعصر.
﴿ ومن الليل فاسجد له ﴾ عبر ههنا عن الصلاة بالسجود وأراد به صلاة المغرب والعشاء ولما كان في صلاة الليل زيادة كلفة أكده بتقديم الظرف وزيادة الفاء في فاسجد على تقدير أما أي وأما من الليل فاسجد ﴿ وسبحه ليلا ﴾ عبر هاهنا عن صلاة بالتسبيح والمراد به قيام الليل ﴿ طويلا ﴾ صفة لمصدر محذوف أي تسبيحا طويلا نصف الليل أو أقل أو أكثر منه.
﴿ إن هؤلاء ﴾ يعني كفار مكة ﴿ يحبون ﴾ الدار ﴿ العاجلة ﴾ في الدنيا ﴿ ويذرون وراءهم ﴾ أي قدامهم وخلف ظهورهم ﴿ يوما ثقيلا ﴾ شديدا مستعار من الشغل البالغ في المشقة على الحال وجمله إن هؤلاء تعليل لقوله تعالى :﴿ ولا تطع منهم آثما أو كفورا ﴾ يعني أنهم آثمون لا يعملون ما يعلمون في الدنيا ولا يعبأون بالآخرة فلا تطعهم.
﴿ نحن خلقناهم وشددنا أسرهم ﴾ أحكمنا أسرهم خلقهم وأرحالهم وربط مفاصلهم ﴿ وإذا شئنا بدلنا أمثالهم ﴾ في الخلق وشدة الأسر ﴿ تبديلا ﴾ مصدر للتأكيد وجملة الشرطية معطوفة على شددنا، وجملة نحن خلقناهم مع ما عطف عليه لبيان تشنيع الكفار على مفرهم في مقابلة النعم وذكر نعمة إيجادهم وتمكينهم لأنها أصل النعمة كلها وفي جملة إذا شئنا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم في احتمال الأذية منهم ووعد لهم بإهلاكهم وتبديلهم بقوم مطيع في الخلق وقد أهلكهم يوم بدر وقيل إذا ها هنا بمعنى أن يعني أن يشاء الله لكن لم يشاء.
﴿ إن هذه ﴾ السورة أو الآيات ﴿ تذكرة ﴾ وموعظة وتذكرة توضح السبيل إلى الله سبحانه وإلى مرضاته ﴿ فمن شاء ﴾ التقرب إلى الله وسلوك السبيل ﴿ اتخذ إلى ربه سبيلا ﴾ بالطاعة ودوام الذكر والإخلاص، وتقليد النبي صلى الله عليه وسلم.
﴿ وما تشاءون ﴾ قرأ نافع والكوفيون بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة ﴿ إلا أن يشاء الله ﴾ لا توجد مشيئتكم أيها الناس أو مشيئة الكفار باتخاذ السبيل إلى الله وبشيء من الأشياء في وقت من الأوقات إلا وقت مشيئة الله تلك المشيئة عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمان كقلب واحد يصرفه كيف يشاء ) ثم قال رسول الله صلى الله عله وسلم :( مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك ) رواه مسلم فلما وجد مشيئة الله بهداية المؤمنين شاء اتخذ السبيل إلى الله ولما لم وجد مشيئة الله بهداية الكفار لم يشاء ذلك ﴿ إن الله كان عليما ﴾ بما يستأهل كل أحد فيفعل به ما هو أهل له وذلك يستدعي سبق استعدادهم الخير والشر، وإنما هو يكون المبادي تعينات المؤمنين ماشية من اسم الله ومبادي تعينات الكفار من اسم المضل ﴿ حكيما ﴾ لا يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة.
﴿ يدخل ﴾ الله سبحانه ﴿ من يشاء ﴾ من عباده ورحمته ﴿ في رحمته ﴾ أي في جنته فإنها محل الرحمة يقذف الإيمان والتصديق في قلبه ومحبة الله في سره وتوفيقه للطاعة وحفظه تنفيره عن الكفر والمعصية ﴿ والظالمين ﴾ منصوب بفعل محذوف تفسيره بعده ويعذب الظالمين ﴿ أعد لهم عذابا أليما ﴾ جملة والظالمين معطوف على يدخل والجملتين يقرران مضمون ما يشاؤون إلا أن يشاء الله، والله تعالى أعلم، تمت سورة الدهر.