ﰡ
مدنيّةٌ بدريَّةٌ، وآيها خمسٌ وسبعونَ آيةً، وحروفها خمسة آلافٍ ومئتانِ وأربعةٌ وتسعونَ حرفًا، وكَلِمُها ألفٌ ومئتانِ وإحدى وثلاثونَ كلمةً.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١)﴾.[١] لما خرجَ رسولُ الله - ﷺ - إلى بدرٍ، ولَقُوا العدوَّ، افترقَ أصحابُ رسولِ اللهِ - ﷺ - ثلاثَ فِرَقٍ: فرقة أقامتْ معَ رسولِ اللهِ - ﷺ - في العريشِ الّذي صُنِعَ له وحَمَتْهُ وآنَسَتْهُ، وفرقةٌ أحاطتْ بعسكرِ العدوِّ لما انكشفوا، وفرقةٌ اتّبَعوا العدوَّ، فقتلوا وأَسَروا، وكانتِ الواقعةُ صبيحةَ الجمعةِ لسبعَ عشرةَ ليلةً خلتْ من شهرِ رمضانَ من السنَّةِ الثّانيةِ من الهجرةِ الشريفةِ، وتقدم ملخَّصُ القِصَّةِ في سورةِ آلِ عمرانَ عندَ تفسيرِ قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ﴾ [آل عمران: ١٢٣]، وكانَ رسولُ اللهِ - ﷺ - قد حَرَّضَ الناسَ قبلَ ذلكَ وقالَ: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا أَوْ أَسَرَ أَسِيرًا فَلَهُ كَذَا"، فسارعَ الشبانُ وبقيَ الشيوخُ عندَ الراياتِ، فلما انجلتِ الحروبُ، واجتمعَ النّاسُ، رأتْ كلُّ فرقةٍ الفضلَ
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ﴾ (١) الغنائِمِ، واحدُها نَفَلٌ بتحريكِ الفاءِ، وهو الزيادةُ؛ لأنّها عَطِيَّةٌ من اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لهذهِ الأمةِ.
﴿قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ أمرُها له، فيقسِمُها الرسولُ على ما يأمرُه اللهُ به، فقسمَها رسولُ الله - ﷺ - بينَهم على السَّواء.
واختلفوا فيما إذا قالَ الإمامُ: من فعلَ كذا، فله كذا، ومن جاء بكذا، فله كذا، فقال أبو حنيفةَ: يجوزُ ذلكَ قبلَ إحرازِ الغنيمةِ، وقبلَ أن تضعَ الحربُ أوزارَها؛ لما فيه من التحريضِ على القتال، واستدلَّ بما قال عليه السّلام يوم بدرٍ، وأمّا بعدَ الإحرازِ، يُنَفَّلُ من الخمس.
وقال مالكٌ: يُكره؛ لئلَّا يشوبَ قصدَ المجاهدين إرادةُ الدنيا؛ فإن شَرَطَه، كانَ من الخمس، لا من أصلِ الغنيمةِ.
وقال الشّافعيُّ: يجوزُ، ويكون من المصالحِ المرصَدَةِ ببيتِ المال. وقال أحمد: يجوزُ ما لم يجاوزْ ثلثَ الغنيمةِ بعدَ الخمس.
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ ولا تختلفوا بسببِ حُطام الدنيا ﴿وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ الحالَ الّتي بينكم بتركِ الاختلافِ.
﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ فيه (٢) ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ كاملي الإيمان.
(٢) قوله: " ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ فيه" سقط من "ت".
[٢] ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ﴾ والإيمانِ، و (إنّما) لفظٌ لا تفارقُه المبالغةُ والتأكيدُ حيثُ وقعَ.
﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ استِعْظامًا له.
﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ يقينًا وتصديقًا.
﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ يفوِّضونَ أمرَهم إليه.
* * *
﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)﴾.
[٣] ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾ سُجودًا ورُكوعًا وقِيامًا.
﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ يتصدَّقون.
* * *
﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)﴾.
[٤] ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ يقينًا، لا شك في إيمانهم.
﴿لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ منازِلُ وشرفٌ في الجنَّة.
﴿وَمَغْفِرَةٌ﴾ لذنوبهم ﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ حَسَنٌ أُعِدَّ لهم في الجنةِ.
* * *
[٥] ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ﴾ أي: كما أمرَكَ بالخروجِ.
﴿مِنْ بَيْتِكَ﴾ أي: من المدينةِ إلى بدرٍ إخراجًا.
﴿بِالْحَقِّ﴾ بالوحي خبرٌ مبتدؤُه محذوفٌ، تقديرُه: هذهِ الحالُ في كراهتِهم إياها كحالِ إخراجِكَ للحربِ على كراهتهم له.
﴿وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ﴾ أي: أخرجَكَ في حالِ كراهتهم، وذلك أن عيرَ قريشٍ أقبلتْ من الشامِ مع أبي سفيانَ، ومعها أربعون راكبًا، فأعلمَ جبريلُ النبيَّ - ﷺ - بها، فأعلمَ أصحابه، فَسُرُّوا وأحبوا الخروجَ إليها لكثرةِ المالِ وقلةِ الرجال، فأُعْلِمَتْ قريشٌ بذلك، فخرج أبو جهل ومعه مقاتِلَةُ مكةَ ذابًّا عنها، وهم النَّفْيرُ، فعلم أبو سفيانَ ذلك، فأخذ بها طريق الساحل فنجت، فقيل لأبي جهلٍ: ارجعْ بالناس، فقد نجتِ العيرُ، فأبى، وسارَ بمن معه إلى بدرٍ، فشاورَ - ﷺ - أصحابَهُ في لقاء العيرِ أو النَّفْيرِ، فقال أبو بكرٍ فأحسنَ، وقال عمرُ فأحسنَ، وقال المقدادُ بن عمرو: "امضِ بنا يا رسولَ الله، فنحن معكَ، واللهِ ما نقولُ لكَ كما قالتْ بنو إسرائيل لموسى: اذهبْ أنتَ وربُّك فقاتِلا إِنَّا هاهنا قاعدون، ولكنِ اذهبْ أنتَ وربُّك فقاتِلا إِنَّا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق! لو سرتَ بنا إلى بَرْكِ الغِماد؛ يعني: مدينة الحبشة، لجالَدْنا معكَ من دونِه حتّى تبلُغَه"، فدعا له - ﷺ -، ثمّ قال: "أَشِيرُوا عَلَيَّ" يريدُ: الأنصار، فقال سعدُ بنُ معاذٍ: "لَكأنَّكَ تريدُنا يا رسول الله؟ فقال: "أَجَلْ"، فقال: امضِ يا رسول الله لما أردْتَ، والذي بعثَكَ بالحق! لو استعرضْتَ بنا هذا البحرَ فَخُضته لَخُضناهُ
* * *
﴿يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦)﴾.
[٦] ﴿يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ﴾ وذلكَ أنّهم قالوا لرسول الله - ﷺ -: ما خرجْنا إِلَّا للعير، هَلَّا قلتَ لنا فنستعدَّ للقتال.
﴿بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ﴾ لهم أنّهم يُنصرون بإعلامِ اللهِ ورسوله.
﴿كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ﴾ أي: حينَ يُدْعون إلى القتال.
﴿وَهُمْ يَنْظُرُونَ﴾ يشاهِدونَ أسبابَه، وقيلَ: هؤلاءِ المشركونَ جادلوه في الحقِّ كأنما يُساقون إلى الموت حينَ يُدْعون إلى الإسلامِ؛ لكراهتهم إياه.
* * *
﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (٧)﴾.
﴿إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ﴾ العيرَ أو النَّفْيرَ ﴿أَنَّهَا لَكُمْ﴾ أي: إحداهما.
﴿وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ﴾ يعني: العيرَ الّتي ليسَ فيها قتال، والشوكةُ: شدةُ البأس.
﴿تَكُونُ لَكُمْ﴾ وكان أبو سفيانَ مع العير، وأبو جهل مع النَّفْير. قرأ أبو عمرٍو: (الشَّوْكَة تكُونُ) بإدغامِ التاءِ في التاء (١).
﴿وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ﴾ يظهرُه ﴿بِكَلِمَاتِهِ﴾ بأمرِه إياكم بالقتال.
﴿وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ﴾ أي: إنّما تَوَدُّون لقاءَ العير، والله يودُّ لقاءَ النَّفْير؛ ليعزَّ الإسلامَ، ويستأصلَ الكفَّارَ بالهلاك.
* * *
﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨)﴾.
[٨] ﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ﴾ ليثبتَ الإسلامَ ﴿وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ﴾ يمحقَ الكفر.
﴿وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ المشركون.
* * *
﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩)﴾.
[٩] ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ﴾ أي: اذكر إذ تستغيثون ﴿رَبَّكُمْ﴾ واستغاثَتُهم
وعن عمرَ رضي الله عنه: لما نظرَ رسولُ اللهِ - ﷺ - إلى المشركينَ وهم ألفٌ، وأصحابُه ثلاثُ مئةٍ وبضعةَ عشرَ، دخل العريشَ هو وأبو بكرٍ، واستقبلَ القبلةَ، ومدَّ يديه يدعو: "اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الإِسْلَامِ لا تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ" وما زالَ كذلكَ حتّى سقطَ رداؤُه عن منكبيه، فأخذه أبو بكرٍ فألقاه على مَنْكِبيه، ثمّ التزمه من ورائه وقال: "يا نبيَّ الله! كفاكَ مُناشَدَتَكَ رَبَّكَ؛ فإنه سينجزُ لكَ ما وعدكَ" (١).
﴿فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي﴾ أي: بأني ﴿مُمِدُّكُمْ﴾ مُعينكم.
﴿بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾ قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ: (مُرْدَفِينَ) بفتح الدال؛ أي: أردفَ الله المسلمين، وجاء بهم مَدَدًا، وقرأ الباقون: بكسر الدال؛ أي: متتابعين بعضُهم في إثرِ بعض (٢).
وروي أنّه نزلَ جبريلُ في خمس مئةٍ، وميكائيلُ في خمس مئةٍ في صورة الرجالِ على خيلٍ بُلْقٍ عليهم ثيابٌ بِيض، وعلى رؤوسهم عمائمُ بيضٌ قد أَرْخَوا أطرافَها بين أكتافِهم (٣).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٠٤)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٦)، و"تفسير البغوي" (٢/ ١٩٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٤٣٩).
(٣) انظر: "تفسير الطّبريّ" (٤/ ٨٣)، و"الطبقات الكبرى" لابن سعد (٣/ ١٠٢ - ١٠٣)، و"الدر المنثور" للسيوطي (٢/ ٣١٠).
وقالَ ابنُ عباسٍ: "كانتْ سيما الملائكةِ يومَ بدرٍ عمائمُ بيضٌ، ويومَ حُنينٍ عمائمُ حمر، ولم تقاتل الملائكةُ في يوم سوى يومِ بدرٍ، وكانوا يكونون فيما سواه عَدَدًا ومَدَدًا" (٢).
وتقدم في سورةِ آلِ عمران أنَّ جبريلَ كان يومَ بدرٍ بعمامةٍ صفراءَ على مثالِ عمامةِ الزبيرِ بن العوَّام.
* * *
﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠)﴾.
[١٠] ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ﴾ أي: الإمدادَ بالملائكة.
﴿إِلَّا بُشْرَى﴾ أي: بشارة لكم بالنصر.
﴿وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ﴾ فيزولَ ما بها من الوَجَل.
﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ وإمددُ الملائكةِ وكثرةُ العدد لا تأثيرَ لها، فلا تحسبوا النصرَ منها.
* * *
(٢) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (١٢٠٨٥).
[١١] ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو: (يَغْشاكُمُ) بفتح الياء فعلًا.
﴿النُّعَاسَ﴾ فاعلُه، وقرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (يُغْشِيكُمُ) بضم الياء وكسر الشين خفيفةً (النعاسَ) نصبٌ، وقرأ الباقون: بضم الياء وكسر الشين مشدَّدًا و (النعاسَ) نصبٌ، وهو مفعول، والفاعلُ مضمَرٌ يرجع إلى الله تعالى (١).
﴿أَمَنَةً﴾ أمنًا ﴿مِنْهُ﴾ أي: من الله، قال عبدُ الله بنُ مسعود: "النعاسُ في الحرب أمنةٌ من الله، وفي الصّلاةِ وسوسةٌ من الشيطان" (٢).
﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ﴾ من الأحداث والجنابة، وذلك أن المسلمين نزلوا يومَ بدر على كثيبٍ أعفرَ تسوخُ فيه الأقدام، وسبقَهم المشركون إلى ماءِ (٣) بدر، وأصبح المسلمون وقد أجنبَ بعضُهم، وأحدثَ بعضُهم، وعطشوا، فوسوس إليهم الشيطانُ وقال: لو كنتم على الحقِّ، ما كنتم كذا، والمشركون على ماء بدر، فجاء المطرُ فارتووا هم وركابُهم، وتطهروا من الأحداث.
(٢) رواه عبد الرزّاق في "المصنِّف" (٤٢١٩)، وابن أبي شيبة في "المصنِّف" (١٩٣٩٤)، والطبراني في "المعجم الكبير" (٩٤٥١).
(٣) "ماء" زيادة من "ظ".
﴿وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ﴾ أي: يشدَّ عليها بالصبرِ واليقين.
﴿وَيُثَبِّتَ بِهِ﴾ أي: بالماء ﴿الْأَقْدَام﴾ لئلا تسوخَ في الرمل؛ فإنّه لَبَّدَ الأرضَ.
* * *
﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (١٢)﴾.
[١٢] ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ﴾ الذين أمدَّ بهم المؤمنين.
﴿أَنِّي مَعَكُمْ﴾ بالعونِ والنصرِ.
﴿فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بقتالِكم معهم، وبشارتِكم لهم بالنصر، فكان الملَكُ يمشي بين الصفين في صورةِ الرجلِ يقول للمؤمنين: أَبْشِروا بالنصر؛ فإن الله ناصرُكم.
﴿سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ﴾ أي: الخوفَ من أوليائي. قرأ أبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، والكسائيُّ، ويعقوبُ: (الرُّعُبَ) بضم العين، والباقون: بالإسكان (١).
﴿وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ هي المفاصلُ والأطرافُ، قال ابنُ الأنباري: ما كانت الملائكةُ تعلم (١) كيفَ تقتلُ الآدميين، فعلَّمهم اللهُ تعالى.
* * *
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (١٣)﴾.
[١٣] فلما التقى الصفان، انهزم المشركون، وقُتل منهم سبعون، وأُسر منهم سبعون، منهم العباسُ رضي الله عنه.
﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأٌ، وخبرُه:
﴿بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ أي: جادلوه وجانبوا دينَهُ، والكافُ لخطابِ النَّبيِّ - ﷺ - أي: ذلكَ العذابُ الواقعُ بهم بسببِ مشاقَّتِهم اللهَ ورسولَه.
﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ والمشاقَّةُ: المخالفةُ.
﴿فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ وعيدٌ بما أعدَّ لهم في الآخرة بعدَ ما حاق بهم في الدنيا.
* * *
﴿ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (١٤)﴾.
[١٤] ﴿ذَلِكُمْ﴾ خطابٌ للكفارِ على سبيل الالتفات؛ أي: ذلكم العقابُ.
﴿وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ﴾ أي: واعلموا أن للكافرين آجِلًا في المعادِ.
﴿عَذَابَ النَّارِ﴾.
عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- قال: قيلَ لرسولِ - ﷺ - حينَ فرغَ من بدرٍ: عليكَ بالعيرِ ليس دونَها شيء، فناداهم العباسُ وهو أسير (١) في وَثاقه: لا يصلحُ، فقال رسول الله: "لمه؟ " قال: لأنّ الله وعدَك إحدى الطائفتين، وقد أعطاك ما وعدَك (٢)، فكره بعضُهم قوله.
* * *
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (١٥)﴾.
[١٥] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا﴾ والتزاحُفُ: تقارُبُ القوم إلى القوم في القتال ببطء، والمعنى: إذا لقيتُم الكافرين وهم في غايةِ الكثرة.
﴿فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ﴾ أي: لا تولُّوهم ظهورَكم مُنْهزمينَ.
* * *
﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦)﴾.
(٢) رواه الترمذي (٣٠٨٠)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة الأنفال، وقال: حسن صحيح، والإمام أحمد في "المسند" (١/ ٣١٤).
﴿إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ﴾ بأنْ يريَهم الفَرَّةَ وهو يريدُ الكَرَّةَ.
﴿أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ﴾ منضَمًّا إلى جماعة يريدون العودَ إلى القتال؛ أي: من انهزمَ إِلَّا على هذه النية.
﴿فَقَدْ بَاءَ﴾ رجعَ ﴿بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ﴾ أي: مُقامُه.
﴿وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ هذا إذا لم يزدِ العدوُّ على الضَّعْفِ؛ لقوله: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ﴾ الآية [٦٦].
واختلفوا في حكم الآية، فقال قومٌ: هو خاصٌّ بأهلِ بدر، واحتجوا بقوله: (يَوْمَئِذٍ)، قالوا: وهو إشارة إلى يومِ بدرٍ، وأنّه نُسخ حكمُ الآيةِ بآيةِ الضعيف، وبقي الفرارُ من الزحفِ ليسَ كبيرةً، وقد فرَّ النّاسُ يومَ أحد، فعفا الله عنهم، وقال يومَ حنين: ﴿ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ [التوبة: ٢٥]، ولم يعنِّفْ على ذلك، وإليه ذهبَ أبو حنيفةَ، وقال آخرون: حكمُ الآية باقٍ إلى يوم القيامة، فلا يجوزُ الفرارُ إِلَّا إذا زادَ الكفارُ على ضعفِ المسلمينِ، وليس في الآية نسخٌ، والدّليل عليه أنّها نزلت بعدَ القتالِ وانقضاءِ الحرب، وذهابِ اليوم بما فيه، وأمّا يومَ أحد، فإنّما فر النَّاس من أكثرَ من ضعفِهم، ومع ذلك عُنِّفوا، وأمّا يومَ حنين، فكذلك، وإلى هذا ذهب مالكٌ والشّافعيُّ وأحمدُ.
* * *
﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧)﴾.
[١٧] ولما التقى الجمعان ببدر، أخذ - ﷺ - كَفًّا من حصباءِ الوادي معه
﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ﴾ (٢) بقوَّتكم؛ لضعفِكم عنهم.
﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾ بنصرِه إياكم.
﴿وَمَا رَمَيْتَ﴾ يا محمدُ رميًا توصلُه إلى أعينِهم، ولم تقدرْ عيه.
﴿إِذْ رَمَيْتَ﴾ أتيتَ بصورةِ الرميِ.
﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ أي: بلغَ التراب أعينَهم، إذ ليس في وُسع أحدٍ من البشر أن يرميَ كفًّا من الحصى إلى وجوه جيش فلا يبقى فيهم عينٌ إِلَّا ويصيبُها منه شيء. قرأ ابنُ عامرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (وَلَكِنِ) في الحرفين خفيفةَ النون (اللهُ) رفعٌ، والباقون: (وَلَكِنَّ) مشددةَ النون (اللهَ) نصبٌ (٣)، ومعنى (لكن) نفيُ الخبرِ الماضي وإثباتُ المستقبل، وقرأ ورشٌ عن نافعٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ، وخلفٌ: (رَمَى) بالإمالة (٤).
﴿وَلِيُبْلِيَ﴾ اللهُ ﴿الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا﴾ أي: لينعمَ عليهم نعمةً
(٢) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٢٩).
(٣) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٧٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٧٦)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٤٤، ٢٣٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٤٤٣).
(٤) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٣٣)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٣٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٤٤٣).
﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ﴾ لدعائِكم ﴿عَلِيمٌ﴾ بنياتِكم.
* * *
﴿ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (١٨)﴾.
[١٨] ﴿ذَلِكُمْ﴾ أي: القتلُ والإبلاءُ الحسنُ.
﴿وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ﴾ مُضْعِفُ.
﴿كَيْدِ الْكَافِرِينَ﴾ أي: المقصودُ إبلاءُ المؤمنين، وإبطالُ حيلِ الكافرين. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو: (مُوَهِّنٌ) بفتح الواو وتشديد الهاء وبالتنوين ونصب (كَيْدَ)، وروى حفصٌ عن عاصمٍ: بالتخفيف من غير تنوين وخفضِ (كَيْدِ) على الإضافة، والباقون: بالتخفيف والتّنوين ونصب (كَيْدَ) (١).
* * *
﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩)﴾.
[١٩] ﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا﴾ تستنصِروا، الخطابُ للكفارِ على سبيلِ التهكُّمِ
﴿فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ﴾ (١) النصرُ.
﴿وَإِنْ تَنْتَهُوا﴾ عن الكفرِ وحربِ الرسول - ﷺ -.
﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ من ذلكَ، فلم ينتهوا، فقُتل أبو جهل وغيرُه من المشركين.
﴿وَإِنْ تَعُودُوا﴾ لحربِه ﴿نَعُدْ﴾ لنصرِه.
﴿وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ﴾ جماعتُكم ﴿شَيْئًا﴾ من الإغناء.
﴿وَلَوْ كَثُرَتْ﴾ فئتكم.
﴿وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ بالنصرِ والمعونة. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (وَأَنَّ الله) بفتح الهمزة؛ أي: ولأن الله، وقرأ الباقون: بالكسر على الابتداء (٢).
* * *
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠)﴾.
[٢٠] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ﴾ أي:
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٠٥)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٦)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٢٠٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٤٤٥).
﴿وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ﴾ مواعظَ القرآنِ.
* * *
﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (٢١)﴾.
[٢١] ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا﴾ بآذانِنا.
﴿وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾ بقلوبِهم؛ لأنّهم غيرُ مصدِّقين، نزلت في المنافقين.
* * *
﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (٢٢)﴾.
[٢٢] ثمّ قَبَّحَ حالَ المكذِّبين فقال: أي: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ﴾ أي: جميعِ ما دبَّ على الأرض.
﴿الصُّمُّ﴾ عن الحقِّ ﴿الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾ أَمْرَ الله، سُمُّوا بالدوابِّ؛ لقلةِ انتفاعِهم بعقولهم كما قال: ﴿أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ [الأعراف: ١٧٩].
قال ابنُ عبّاس: "هُمْ نَفَرٌ من بني عبدِ الدَّارِ بن قصيٍّ، كانوا يقولون: نحن صُمٌّ بكمٌ عميٌ عما جاءَ به محمدٌ فقُتلوا جميعًا بأُحد، وكانوا أصحابَ
* * *
﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)﴾.
[٢٣] ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ﴾ سماعَ التفهُّم والقبولِ.
﴿وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ﴾ بعدَ أن علمَ أن لا خيرَ فيهم، ما انتفعوا بذلك، و ﴿لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ عن الإيمان عنادًا.
* * *
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤)﴾.
[٢٤] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ﴾ الرسولُ.
﴿لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ من العلمِ والدينِ، كان - ﷺ - دعا أُبيًّا وهو في صلاتِه، فلم يُجبه، ثمّ أتاه فقال: "ما مَنَعَكَ أَنْ تُجِيبنَي؟! "، فقالَ: كنتُ في الصّلاةِ، فقال: "ألم تسمعْ ﴿اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ﴾ الآيةَ؟ "، فقال أبي: لا جرمَ لا تدعوني إِلَّا أجبتُ (١)، وهذا من خصائِصه - ﷺ - أنّه إذا دعا إنسانًا في الصّلاةِ يجبُ عليه قطعُها وإجابتُه.
* * *
﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢٥)﴾.
[٢٥] ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً﴾ عذابًا.
﴿لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ يعني: لا تَختصُّ الظالمين، بل تعمُّ، قيل: نزلتْ في عليٍّ وعمارٍ وطلحةَ والزبيرِ، والفتنةُ يومَ الجمل، رُوي أن الزبيرَ بنَ العوامِ قال يومَ الجمل: "ما علمتُ أنا أُرِدْنا بهذهِ الآية إِلَّا اليومَ، وما كنتُ أظنُّها إِلَّا فيمن خوطبَ بها ذلكَ الوقت"، قال - ﷺ -: "إِنَّ اللهَ لَا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِفِعْلِ الْخَاصَّةِ حَتَّى يَرَوُا الْمُنْكَرَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَنْ يُنْكِروهُ فَلَا يُنْكِرُونَهُ، فَإذَا فَعَلُوا ذَلِك، عَذَّبَ اللهُ الْعَامَّةَ وَالْخَاصَّةَ".
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ وعيدٌ.
* * *
﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦)﴾.
[٢٦] ﴿وَاذْكُرُوا﴾ يا معشرَ المهاجرين.
﴿إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ أرضِ مكةَ قبلَ الهجرةِ.
﴿فَآوَاكُمْ﴾ إلى المدينةِ ﴿وَأَيَّدَكُمْ﴾ قَوَّاكم.
﴿بِنَصْرِهِ﴾ إياكم بالأنصارِ وبملائكتِه يومَ بدرٍ.
﴿وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ الغنائمِ؛ لأنّها لم تحلَّ لأحدٍ قبلَكم.
﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ هذه النعمَ.
* * *
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧)﴾.
[٢٧] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾ نزلت في أبي لُبابةَ هارونَ بنِ عبدِ المنذرِ الأنصاريِّ من بني عوفِ بنِ مالكٍ، رُوي: أنَّ رسولَ الله - ﷺ - حاصرَ يهودَ بني قريظةَ خمسًا وعشرينَ ليلةً، فسألوا: الصلحَ كما صالحَ إخوانَهم بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم بأذرعات وأريحا من الشّام، فأبى وقالَ لهم: تنزلون على حكمي، فأَبَوا، فقال: على حكمِ سعدِ بنِ معاذٍ، فرضُوا به، وقالوا: أرسلْ إلينا أبا لبابةَ، وكان مناصِحًا لهم؛ لأنّ عيالَه ومالَه كانت عندَهم، فبعثَه إليهم، فقالوا: ما تَرَى هل ننزلُ على حكمِ محمدٍ؟ فأشارَ أبو لبابةَ إلى حلقِه أنّه الذبحُ، قالَ أبو لبابة: فما زالتْ قدمايَ حتّى علمتُ أني خُنتُ اللهَ ورسولَه، فنزلَتْ، فَشدَّ نفسَهُ على ساريةٍ في المسجد، وقال: واللهِ لا أذوقُ طعامًا ولا شرابًا حتّى أموتَ، أو يتوبَ الله عليَّ، فمكثَ سبعةَ أيّام حتّى خَرَّ مغشِيًّا عليه، ثمّ تابَ الله عليه، فقيلَ له: قد تيبَ عليك، فَحُلَّ نفسَكَ، فقال: واللهِ لا أحُلُّها حتّى يكونَ
﴿وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ﴾ أي: ولا تخونوا أماناتِكم فيما بينكم.
﴿وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ قبحَ الخيانة.
* * *
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨)﴾.
[٢٨] ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ لأنهم سببُ الوقوع في الإثم والعقابِ، قيل: هذا في أبي لبابة أيضًا؛ لأنّ أموالَه وأولاده كانوا في بني قريظة، فقالَ ما قالَ خوفًا عليهم.
﴿وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ لمن آثر رضا الله عليهم.
* * *
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)﴾.
[٢٩] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ﴾ بطاعتِه.
﴿يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾ فتحًا ونصرًا وتفرقًا بين الحقِّ والباطلِ.
﴿وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ يمحو ما سلَفَ من ذنوبِكم.
﴿وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ تنبيهٌ على أن ما وعده لهم على التقوى تفضلٌ منه وإحسانٌ، وأنّه ليس ممّا يوجبُ تَقَوِّيَهُمْ عليه؛ كالسيدِ إذا وعدَ عبدَه إنعامًا على عمل.
* * *
﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (٣٠)﴾.
[٣٠] ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ تذكارٌ لما مكرَ قريشٌ به حين كان بمكةَ؛ ليشكرَ نعمةَ الله في خلاصِه من مكرِهم، واستيلائِه عليهم، والمعنى: واذكرْ إذ يمكرون بكَ، وكان ذلك المكرُ أن أكابرَ قريش اجتمعوا في دارِ الندوة بمكةَ مشاورين في الفتك برسول الله - ﷺ - بعد إسلامِ الأنصار، فاعترضهم إبليسُ في صورة شيخٍ، فلما رأوه قالوا: من أنت؟ قال: شيخٌ من نَجْدٍ، سمعتُ باجتماعِكم، فأردت أن أحضرَ معكم، ولن تعدموا مني رأيًا ونصحًا، فقالوا: ادخلْ، فدخلَ، فقال أبو البختريِّ: أرى أن تُوثقوه وتحبسوه في بيتٍ وتسدُّوا عليه غيرَ كَوَّةٍ تكونُ منها طعامه وشرابه حتّى يهلكَ، فقال عدوُّ اللهِ إبليسُ: بئسَ الرأيُ ذلكم، يأتيكم من يخليه من أيديكم، وقال هشامُ بنُ عمرٍو من بني عامرِ بنِ لؤيٍّ: أرى أن تُخرجوه من بين أظهُرِكم، فقال عدوُّ الله إبليسُ: بئسَ الرأيُ ذلكم، يذهبُ إلى قوم فيستميلُ قلوبهم، ويسير بهم إليكم، ويخرجُكم من بلادكم، وقال أبو جهلٍ: أرى أن تأخذوا من كلِّ بطنٍ من قريش شابًّا، فَيُعْطى سيفًا صارمًا، فيضربوه ضربةَ رجلٍ واحدٍ حتّى يُقتل، فإذا تفرَّقَ دمُه في القبائل،
﴿لِيُثْبِتُوكَ﴾ ليحبسوك في بيت ﴿أَوْ يَقْتُلُوكَ﴾ بسيوفِهم ﴿أَوْ يُخْرِجُوكَ﴾ من مكةَ ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ﴾ يجازيهم جزاءَ مكرِهم.
﴿وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ لأنّ مكرَهُ حَقٌّ.
* * *
[٣١] ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا﴾ يعني: النضرُ بنُ الحارثِ.
﴿قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا﴾ لأنّه كان يختلفُ تاجرًا إلى الحيرةِ وفارس والروم، ويسمعُ أخبار رستم وإسفنديار، وأحاديثَ العجم، ويتحدث بها، ويمرُّ باليهود والنصارى، فيراهم يقرؤون التوراة والإنجيل ويركعون ويسجدون، فجاء مكةَ فوجد محمدًا - ﷺ - يصلِّي ويقرأ القرآن، ويذكر في قراءته أخبارَ القرون الماضيةِ، فقال النضرُ: ﴿قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا﴾ (١) ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ أخبارُ الأممِ الماضية وما سَطَروا في كتبِهم، والأساطيرُ جمعُ أسطورة، وهي المكتوبةُ.
* * *
﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٣٢)﴾.
[٣٢] ﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا﴾ أي: ما جاء به محمدٌ.
﴿هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ﴾ نزلت في النَّضْرِ حينَ قال: لو شئتُ، لقلتُ مثلَ هذا، إنَّ هذا إِلَّا ما سطرَ الأولون في كتبِهم، فقال له النّبيّ - صلى الله عليه وسلم-: "وَيْلَكَ! إِنَّهُ كَلَامُ اللهِ"، فقال استهزاء: اللهمَّ إنَّ كان هذا هو الحقَّ من عندِك.
﴿فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾ عقوبةً على إنكاره، يقال في
﴿أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ سِواهُ، فقُتل يومَ بدرٍ صبرًا. واختلافُ القراء في الهمزتين من قوله: (مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا) كاختلافِهم فيها (مِنْ خِطْبَةِ النساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ) في سورة البقرة.
* * *
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣)﴾.
[٣٣] ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ﴾ أي: المشركينَ عذابَ استئصالٍ، جوابُ سؤالِهم نزولَ الحجارةِ أو العذابِ الأليم.
﴿وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾ لأنَّ العذابَ إذا نزلَ، عَمَّ، ولهذا كان العذابُ إذا نزلَ بقومٍ يؤمرُ نبيُّهم بالخروجِ بالمؤمنين منهم من بينِهم، واللامُ في (لِيُعَذِّبَهُمْ) لتأكيدِ النَّفْي؛ أي: لولا وجودُك بين ظَهْرانَيْهم، لَعُذِّبوا.
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ أي: وفيهم من سبقَ له من اللهِ أنّه يصيرُ من أتباعِ محمدٍ - ﷺ - مثلَ أبي سفيانَ، وصفوانَ بنِ أميةَ وعكرمةَ بنِ أبي جهلٍ، وغيرِهم، وقيلَ غيرُ ذلكَ، قال - ﷺ -: "أَنْزَلَ اللهُ عَلَيَّ أَمَانَيْنِ لأُمَّتِي: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ فَإِذَا مَضَيْتُ، تَرَكْتُ فِيهِمُ الِاسْتِغْفَارَ" (١).
* * *
[٣٤] ثمّ تَوَعَّدهم بعذابِ الدنيا فقال: ﴿وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ﴾ أي: وكيف لا يُعَذَّبون.
﴿وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ أي: عن الطّواف؛ لأنّهم كانوا
يقولون: نحنُ أولياءُ البيتِ، فنصدُّ من نشاءُ، ونترك من نشاءُ، فنزل: ﴿وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ﴾ أي: أولياءَ البيت ﴿إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ﴾ أي: ليس أولياءَ البيتِ.
﴿إِلَّا الْمُتَّقُونَ﴾ الذين يتقونَ الشركَ.
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُون﴾ أنْ لا ولايةَ لهم عليه.
* * *
﴿وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥)﴾.
[٣٥] ﴿وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ﴾ أي: دعاؤهم، أو ما يسمونه صلاة.
﴿إِلَّا مُكَاءً﴾ إِلَّا صفيرًا بالأفواه، وهو أن يشبكَ الأصابعَ وينفخَ فيها.
﴿وَتَصْدِيَةً﴾ تصفيقًا بإحدى اليدين على الأخرى، وكان - ﷺ - إذا صلَّى، صَفَّروا وصفَّقوا عن يمينه وشماله؛ ليخلِطوا عليه قراءتَه، ويرون أنّهم يصلُّون أيضًا.
﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ يعني: القتلَ والأسرَ يومَ بدرٍ.
﴿بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ اعتقادًا وعملًا.
[٣٦] ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾.
أي: ليصرفوا عن دين الله، نزلَتْ في المطعِمين يومَ بدرٍ، وكانوا اثني عشرَ رجلًا من قريش، وهم أبو جهلِ بنُ هشام، وعتبةُ وشيبةُ ابنا ربيعةَ بنِ عبدِ شمس، ونبيهٌ ومنبهٌ ابنا الحجاج، وأبو البختريِّ بنُ هشام، والنضرُ بنُ الحارثِ، وحكيمُ بنُ حزام، وأُبيُّ بنُ خلف، وزمعةُ بنُ الأسود، والحارثُ بنُ عامرِ بنِ نوفلٍ، والعباسُ بنُ عبدِ المطلب، وكان يطعم كلُّ واحد منهم كلّ يومٍ عشر جُزُر (١).
﴿فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ﴾ عاقبةُ النفقةِ على حربِ رسولِ الله - ﷺ - ببدرٍ يومَ القيامةِ.
﴿عَلَيْهِمْ حَسْرَةً﴾ أي: يتحَسَّرون على ذلك.
﴿ثُمَّ يُغْلَبُونَ﴾ ولا يظفرون.
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ منهم.
﴿إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾ لأنّ منهم من أسلمَ.
* * *
[٣٧] ﴿لِيَمِيزَ﴾ ليبينَ ﴿اللَّهُ الْخَبِيثَ﴾ الكافرَ ﴿مِنَ الطَّيِّبِ﴾ المؤمن، قرأ يعقوبُ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (لِيُمَيِّزَ) بضم الياء الأولى وفتح الميم وتشديد الياء الثّانية، والباقون: بفتح الأولى وكسر الميم وإسكان الثّانية (١).
﴿وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ﴾ أى: فوقَ بعضٍ.
﴿فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا﴾ فيجمَعَه متراكبًا، ومنه السحاب المركومُ، وهو المجتمعُ الكثيفُ.
﴿فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ﴾ كلَّه.
﴿أُولَئِكَ﴾ الذين أنفقوا أموالهم.
﴿هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ لأنّهم خسروا أنفسَهم وأموالَهم.
* * *
﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨)﴾.
[٣٨] ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا﴾ عن الكفر.
﴿يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ من ذنوبهم قبلَ الإسلام.
* * *
﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩)﴾.
[٣٩] ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ شِرْكٌ ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ أي: جميعُ الأديان ﴿لِلَّهِ﴾ خالصًا لا شريكَ له.
﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ عن الكفرِ.
﴿فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فيجازي كلًّا بعمله. قرأ رُويسٌ عن يعقوبَ: (تَعْمَلُونَ) بالخطاب، والباقون: بالغيب (٢).
* * *
﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠)﴾.
[٤٠] ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ عن الإيمانِ، وعادوا إلى قتالِ أهلِه.
﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ﴾ حافظُكم وناصرُكم عليهم.
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (١/ ٢٢١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٧٦)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٣٧)، و"معجم القراءات القرآنيّة" (٢/ ٤٤٩).
﴿وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ ولا يُغْلَب من ينصرُه.
* * *
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١)﴾.
[٤١] ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ﴾ أخذْتُم من مالِ حربي قهرًا بقتال.
﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ ممَّا يقعُ عليه اسمُ الشيء، حتّى الخيط.
﴿فَأَنَّ﴾ فتحًا خبرُ مبتدأ؛ أي: فالحكم أن ﴿لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ﴾ وأُضيفَ المالُ إلى اسمِ اللهِ تشريفًا، ليسَ المرادُ منه أن سهمًا من الغنيمة لله مفردًا، فإن الدنيا والآخرة كلَّها لله -عَزَّ وَجَلَّ-.
﴿وَلِذِي الْقُرْبَى﴾ قسمٌ، والمراد: أقاربه - ﷺ - بنو هاشم، وبنو المطلب، دون بني عبد شمس وبني نوفل، قال - ﷺ -: "أَمَّا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ فَشَيْءٌ وَاحِدٌ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، مَا فَارَقُونَا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ" (١).
﴿وَالْيَتَامَى﴾ جمعُ يتيمٍ، وهو صغيرٌ فقيرٌ مسلمٌ لا أبَ له.
﴿وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ هو المسافرُ البعيدُ عن مالِه، فكأنّه قال: فإن للهِ خمسَهُ يُصرفُ إلى هؤلاء الأَخَصِّينَ به.
﴿إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ﴾ متعلّقٌ بمحذوفٍ دلَّ عليه (واعلموا)؛ أي: إنَّ كنتم آمنتم بالله، فاعلموا أنّه جُعل الخمسُ لهؤلاء، فسلموه إليهم، واقنعوا بالأخماسِ الأربعةِ الباقية، فإن العلّمَ العمليَّ إذا أُمر به، فالمراد به العملُ، وليس المراد منه العلمَ المجردَ.
﴿وَمَا أَنْزَلْنَا﴾ أي: وبما أنزلنا ﴿عَلَى عَبْدِنَا﴾ محمدٍ - ﷺ - من الآياتِ والملائكةِ والنصرِ.
﴿يَوْمَ الْفُرْقَانِ﴾ يومَ بدرٍ، فإنّه فرقَ فيه بين الحقِّ والباطل.
﴿يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ المسلمون والكفارُ.
﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ من نصرِ القليل على الكثيرِ.
واتفق الأئمةُ على أن الغنيمةَ تقسَمُ خمسةَ أخماس، أربعةُ أخماسٍ منها لمن قاتلَ عليها على ما يأتي بيانُه، واختلفوا في الخمس الباقي فيمن يقسم؟ فقال أبو حنيفة: يقسمُ على ثلاثةِ أسهمٍ: سهمٌ لليتامى، وسهمٌ للمساكين، وسهمٌ لأبناء السبيل، يدخلُ فقراءُ ذوي القربى فيهم دونَ أغنيائهم، فأمّا سهمُ النبيِّ - ﷺ -، فهو خمسُ اللهِ ورسوله، وقد سقطَ بموتِ النبيِّ - ﷺ -، كما سقط الصَّفِيُّ المختَصُّ به، وهو ما كانَ يختارُ قبلَ القسمةِ؛ كجاريةٍ وعبدٍ وثوبٍ وسيفٍ ونحوِه، وسهمُ ذوي القربى كانوا يستحقونه في زمنِه عليه السّلام بالنصرة، وبعدَه فلا سهمَ لهم، وإنّما يستحقونه بالفقر خاصةً، ويستوي فيه ذكرُهم وأنثاهم، وقال مالك: هذا الخمسُ لا يستحَقُّ بالتعيينِ
واختلفوا في قسمه، فقال أبو حنيفةَ، للفارسِ سهمان، وللراجل سهمٌ، وقال الثلاثةُ وأبو يوسفَ ومحمدٌ: للفارسِ ثلاثةُ أسهمٍ، وللراجلِ سهمٌ، وقال أبو حنيفة ومالكٌ والشّافعيُّ: لا يُسهَمُ لأكثر من فرسٍ واحدٍ، وقال أحمدُ وأبو يوسفَ: يُسْهَمُ لفرسينِ، ولا يُسهم لغيرِ الخيل بالاتفاق، واختار الخرقيُّ من أصحابِ أحمدَ: أنَّ من غزا علي بعير لا يقدرُ غيره، قُسمَ له ولبعيرِه سهمان.
واختلفوا في السَّلَبِ، فقال أبو حنيفة: هو غنيمةٌ للكلِّ إِلَّا أن يجعلَه الإمامُ للقاتل، فينقطع حقُّ الباقين عنه بالتنفيل، وقال مالك: إذا نفله ذلك الإمام بضرب من الاجتهاد، فيكونُ له من الخمسِ دونَ جملةِ الغنيمة، وقال الشافعيُّ وأحمدُ: السَّلَبُ حقُّ القاتلِ يستحقُّه من رأسِ الغنيمةِ، سواءٌ قاله الإمامٌ أو لم يقلْه، فتخرجُ الأسلابُ من الغنيمةِ، ومنها الدابةُ وآلتها (٢)،
(٢) في "ن": "وآلاتها".
واختلفوا في النَّفَلِ، وهو الزيادةُ على السهمِ للمصلحةِ، من أين يعطى؟ فقالَ أبو حنيفةَ ومالكٌ: النفلُ مواهبُ الإمامِ من الخمسِ على ما يرى من الاجتهاد، وليس في الأربعة أخماسٍ نفلٌ، وقال الشّافعيُّ: النفلُ من خمسِ الخمسِ المرصَدِ للمصالح، وقال أحمدُ: يخرج الخمس، ثمّ ينفلُ الإمامُ من الأربعةِ أخماسٍ، ثمّ يقسمُ الباقيَ بينَ النَّاس.
واختلفوا في حكم الأرضين المغنومةِ، فقال أبو حنيفةَ: الإمامُ بالخيارِ، إن شاءَ قسمها بينَ الغانمين، وإن شاء أَقرَّ أهلَها عليها، ووضعَ عليهم وعلى أراضيهم الخراجَ، وإن شاءَ صرفَ أهلَها عنها، وأقرَّ غيرَهم فيها، وضربَ عليه الخراجَ، وقال مالك: حكمُها كالفيء تصيرُ وقفًا لمصالحِ المسلمينِ بنفسِ الظهور عليها، وقال الشافعي: حكمُها حكمُ المنقول على ما تقدَّمَ من التخميسِ والقسمةِ بينَ الغانمين، وقال أحمدُ: يُخير الإمامُ بين قسمِها كالمنقول، وبينَ وقفِها للمسلمين، ويضربُ عليها خراجًا يؤخَذُ ممّن هي في يدِه من مسلمٍ وذميٍّ، ويلزُمه فعلُ الأصلحِ.
واختلفوا في مصرِفِ الفيءِ، وهو ما أُخذ من مالِ كافرٍ بحقٍّ بلا قتالٍ، كالجزيةِ والخراجِ، وما تركوه فزعًا، ومالُ من ماتَ منهم ولا وارثَ له، ولو مرتدًا، فقال الشّافعيُّ: يخمَّسُ كالغنيمةِ، والأربعةُ أخماسٍ للمقاتلةِ الذين أُثبتت أسماؤهم في ديوانِ الجهاد، ويصرَفُ بعضه في إصلاح الثغورِ والسلاحِ، وقال الثلاثةُ: لا يخمَّسُ، وجميعُه لمصالح المسلمين.
[٤٢] ﴿إِذْ أَنْتُمْ﴾ (يوم الفرقان)، أي: إذ أنتم نُزولٌ يا معشرَ المسلمين.
﴿بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا﴾ أي: بشاطئ الوادي الأدنى؛ أي: الأقربِ إلى جهةِ المدينةِ، و (الدنيا) تأنيثُ الأدنى.
﴿وَهُمْ﴾ يعني: المشركينَ.
﴿بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى﴾ البُعْدَى عن المدينة ممّا يلي مكةَ، تأنيثُ الأقصى.
قراْ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ: بالمدِّ في الحرفينِ بكسرِ العين، والباقون: بضمِّها، وهما لغتانِ كالكُسوةِ والكِسوةِ (١).
﴿وَالرَّكْبُ﴾ هم الذين كانوا مع العير: أبو سفيانَ وأصحابُه.
﴿أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾ بالساحلِ على ثلاثة أميالٍ من بدرٍ.
﴿وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ﴾ أنتم وأهلُ مكةَ على موعدٍ تلتقونَ فيه للقتال.
﴿لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ﴾ لأنّهم خرجوا في طلبِ العير، فصادفوا النَّفْيرَ من غيرِ ميعادٍ؛ لأنّ الكفارَ خرجوا ليذُبُّوا عنها.
﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ﴾ أي: ليموتَ مَنْ ماتَ.
﴿عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ عن حُجَّةٍ قامتْ عليه.
﴿وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ﴾ ويعيشَ من عاشَ.
﴿عَنْ بَيِّنَةٍ﴾ عن حجَّةٍ واضحةٍ شاهدَها؛ فكان وقعةَ بدرٍ من الآياتِ الواضحة، وقيل: المرادُ بالهلاكِ والحياةِ: الكفرُ والإيمانُ. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ، وخلفٌ، والبزيُّ عن ابنِ كثيرٍ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ (مَنْ حَيِيَ) بياءين الأولى مكسورة، والثانية مفتوحة، واختلِف عن قنبل راوى ابن كثيرٍ، والباقون: بواحدة مفتوحة مشددة (١).
﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ﴾ لدعائِكم ﴿عَلِيمٌ﴾ بنياتِكم.
* * *
﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٤٣)﴾.
[٤٣] ﴿إِذْ﴾ أي: واذكر إذ ﴿يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ﴾ في نومِك؛ لأنه - ﷺ - رآهم في نومه ﴿قَلِيلًا﴾ ليقدموا عليهم.
﴿لَفَشِلْتُمْ﴾ جَبُنْتُم ﴿وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ أي: اختلفتم في أمرِ حربِهم.
﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ﴾ من الفشلِ والتنازعِ.
﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ يعلمُ ما سيكون فيها، وما تغيرَ من أحوالها.
* * *
﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤)﴾.
[٤٤] ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ﴾ أي: يبصِّرُكُم إياهم.
﴿إِذِ الْتَقَيْتُمْ﴾ أي: وقتَ اللقاءِ.
﴿فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا﴾ حال؛ لتقدموا عليهم.
﴿وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ﴾ ليقدموا عليكم.
﴿لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا﴾ كائنًا من إعزازِ الإسلامِ وأهلِه (٢)، وإذلالِ الشركِ وحزبِه.
وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} قرأ ابنُ عامرٍ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ،
(٢) في "ش": "وأهل مكّة".
* * *
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥)﴾.
[٤٥] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً﴾ جماعةً محاربين. قرأ أبو جعفر: (فِيَةً) بفتح الياء من غير همزٍ (٢) ﴿فَاثْبُتُوا﴾ لقتالِهم.
﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا﴾ وادعوه بالنصرِ.
﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ لكي تظفروا بمرادِكم.
* * *
﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦)﴾.
[٤٦] ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا﴾ باختلافِ الآراء. قرأ البزيُّ عن ابنِ كثيرٍ: (وَلَا تنازَعُوا) بالمدِّ وتشديدِ التاء (٣).
(٢) في "ت": "همزة". وانظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٣٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (١/ ٤٥٣).
(٣) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٨٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري =
﴿وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ دولتُكم، والريحُ هنا كنايةٌ عن نفاذِ الأمرِ، تقول العربُ: هَبَّتْ ريحُ فلانٍ: إذا أقبلَ أمرُه على ما يريد.
﴿وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ قال - ﷺ -: "لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ، وَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ" (١).
* * *
﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧)﴾.
[٤٧] ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ هم النفيرُ، خرجوا لنصرِ العيرِ، وكانت قد نجتْ مع أبي سفيانَ عن طريقِ الساحلِ، فلم يرجِعوا.
﴿بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ﴾ لِيُثْنوا عليهم بالشجاعةِ والسماحةِ؛ لأنّهم قالوا: لا نرجع حتّى نشربَ الخمورَ، وننحرَ الجزورَ، وتعزفَ علينا القَيْناتُ، وتسمعَ بنا العربُ، فلا يزالون يهابوننا أبدًا، فوافَوا بدرًا، فَسُقُوا كؤوسَ المنايا مكانَ الخمْرِ، وناحت عليهم النوائحُ مكانَ القَيْنَاتِ، فنهى الله سبحانَه عن التشبُّهِ بهم في الخيلاءِ، وأمرَ بإخلاصِ النيةِ.
(١) رواه البخاريّ (٢٨٦١)، كتاب: الجهاد والسير، باب: لا تمنوا لقاء العدو، ومسلم (١٧٤٢)، كتاب: الجهاد والسير، باب: كراهة تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللِّقاء، عن عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه-.
﴿وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ وعيدٌ وتهديدٌ لمن بقيَ من الكفارِ، ونفوذ القدرِ فيمن مضى بالقتل.
* * *
﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٤٨)﴾.
[٤٨] ﴿وَإِذْ﴾ أي: واذكر إذ ﴿زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ بأن شَجَّعهم على لقاءِ المسلمين، لأنّ إبليسَ جاءهم في صورة سُراقةَ بنِ مالكٍ الكِنانيِّ، وهو سيدٌ من ساداتهم. قرأ أبو عمرٍو، وهشامٌ، والكسائيُّ، وخلادٌ: (وَإِذ زيَّنَ) وشبهَه بإدغامِ الذالِ في الزاي، والباقون: بالإفراد (٢).
﴿وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ﴾ أي: مُجيرٌ.
﴿فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ﴾ التقى الجمعان، ورأى الملائكةَ.
﴿نَكَصَ﴾ رجعَ القَهْقَرى.
﴿عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ على قَفاه هاربًا، فلزمَهُ الحارثُ بنُ هشام وقالَ: أتخذلُنا؟ فضربَ صدرَه وانهزمَ.
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٣٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٣٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٤٥٤).
﴿إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ﴾ رأى الملائكةَ وجبريلَ يقودُ فرسَ النبيِّ - ﷺ - به.
﴿إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ﴾ أن يُهلكني ﴿وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ قيل: انقطعَ الكلامُ عند قوله: ﴿أَخَافُ اللَّهَ﴾، ثمّ يقول الله (١): ﴿وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾. قرأ الكوفيونَ، وابن عامرٍ، ويعقوبُ: (إِنِّي أَرَى) (إِنِّي أَخَافُ) بإسكان: الياء فيهما، والباقون: بفتحها (٢).
* * *
﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩)﴾.
[٤٩] ﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ﴾ في المدينةِ ﴿وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ هم المشركون: ﴿غَرَّ هَؤُلَاءِ﴾ يعنون (٣): المؤمنينَ.
﴿دِينُهُمْ﴾ أي: توهَّموا أن يُنْصروا بسببِ ديِنهم، فخرجوا وهم ثلاثُ مئةٍ وبضعةَ عشرَ إلى زهاءِ ألفٍ.
﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ جوابٌ لهم ﴿فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾ غالبٌ لا يذلُّ من استجاره ﴿حَكِيمٌ﴾ يفعلُ بحكمتِه ما يستبعدُه العقلُ.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣١٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٧٧)، و"معجم القراءات القرآنيّة" (٢/ ٤٥٤ - ٤٥٥).
(٣) في "ت": "يعني".
[٥٠] ﴿وَلَوْ تَرَى﴾ يا محمدُ ﴿إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ﴾ ببدرٍ.
قرأ ابنُ عامرٍ: (تَتَوَفَّى) بالتاء على التأنيث، والباقون: بالياء على التذكير (١).
﴿يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ ظهورَهم بالسِّياطِ عندَ الموت.
﴿وَذُوقُوا﴾ أي: وتقول لهم الملائكة: ذوقوا ﴿عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾، وهذا مقدمةٌ لعذابِ النارِ؛ أي: لو رأيتَ ذلكَ، لرأيتَ أمرًا عظيمًا.
* * *
﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٥١)﴾.
[٥١] ﴿ذَلِكَ﴾ الضربُ والعذابُ.
﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ أي بسببِ ما كَسَبتم من الكفر.
﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ ظَلَّامٌ للتكثيرِ لأجلِ العبيدِ.
* * *
﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٥٢)﴾.
[٥٢] ﴿كَدَأْبِ﴾ أي: دأبُ هؤلاء ﴿آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ تفسيرًا لدأبِهم.
* * *
﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣)﴾.
[٥٣] ﴿ذَلِكَ﴾ إشارةٌ إلى ما حلَّ بهم ﴿بِأَنَّ اللَّهَ﴾ أي: بسببِ أن الله.
﴿لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ﴾ مُبدلًا إياها بالنقمةِ.
﴿حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ يبدلوا ما بهم من الحالِ إلى حالٍ أسوأَ؛ كالتلبُّسِ بالمعاصي أو الكفرِ الّذي يوجبُ عقابَهم، فإذا فعلوا ذلك، غَيَّرَ اللهُ نعمتَه عليهم بنقمتِهِ منهم، كما أنعمَ على قريشٍ بمحمدٍ - ﷺ -، فكفروا، فغير الله تلكَ النعمةَ بأن نقلَها إلى غيرهم من الأنصارِ، وأحلَّ بهم عقوبتَه.
﴿وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ﴾ لما يقولون ﴿عَلِيمٌ﴾ بما يفعلون.
* * *
﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (٥٤)﴾.
[٥٤] ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ أي: كصُنْعِهم.
﴿وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ من كفارِ الأممِ.
﴿كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ﴾ أهلكنا بعضَهم بالرجفة، وبعضَهم بالخسف، وبعضَهم بالمسخ، وبعضَهم بالريح، وبعضَهم بالغرق، فكذلك أهلَكْنا كفارَ بدرٍ بالسيفِ لما كذَّبوا بآياتِ ربهم.
* * *
﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٥٥)﴾.
[٥٥] ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أصرُّوا على الكفر.
﴿فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ فلا يُتَوَقَّعُ منهم إيمان.
* * *
﴿الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (٥٦)﴾.
[٥٦] ﴿الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ﴾ بدلٌ من الذين كفروا، وهم بنو قريظةَ: كعبُ بنُ الأشرفِ وأصحابُه؛ أي: أخذتَ منهم العهدَ.
﴿ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ﴾ عاهدوا فيها؛ لأنّهم عاهدوه - ﷺ - ألَّا يُعينوا عليه، فأعانوا المشركينَ بالسلاح على قتالِه، وقالوا: نَسينا وأخطأنا، ثمّ عاهدوا ثانيةً، فأعانوا الكفارَ يومَ الخندق، وسارَ ابن الأشرفِ إلى مكةَ، فعاهدَ الكفارَ.
﴿وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ﴾ اللهَ.
* * *
﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧)﴾.
[٥٧] ﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ﴾ تظفرن بهم.
﴿فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ﴾ المعنى: افعلْ بهم فِعْلًا من القتل
﴿لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ يَتَّعظون فلا يحاربونكَ.
* * *
﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (٥٨)﴾.
[٥٨] ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً﴾ بنقضِ عهدٍ.
﴿فَانْبِذْ﴾: اطرحْ عهدهم.
﴿إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ﴾ أي: بحيث تستوون أنت وهم في العلم بنقضِه، لئلا تُتَّهَم بخيانة.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾ قالَ - ﷺ -: "مَنْ كَانَ بَينَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ، فَلَا يَشُدَّ عُقْدَةً وَلَا يَحُلَّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُها، أَوْ يُنْبَذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ" (١).
* * *
﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (٥٩)﴾.
[٥٩] ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا﴾ أي: فاتوا، الخطابُ للنبيِّ - ﷺ - في الذين انهزموا من المشركين ببدر. قرأ أبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، وحمزةُ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (يَحْسَبَنَّ) بالغيبِ وفتحِ السين؛ أي لا يحسبنَّ الذين
﴿إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ﴾ لا يجدون طالبَهم عاجزًا عن إدراكِهم. قرأ ابنُ عامرٍ: (أَنَّهُمْ) بفتح الألف؛ بمعنى: لأنّهم، أي: لا يحسبن عليهم النجاة؛ لأنّهم لا ينجون، والباقون: بكسر الألفِ على الابتداء (٢).
* * *
﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (٦٠)﴾.
[٦٠] ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ﴾ أي: اتخذوا أيها المؤمنون لنِاقِضي العهد.
﴿مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ كل ما يُتَقَوَّى به من آلةِ الحربِ.
﴿وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ أي: اقتناؤها وربطُها في الثغورِ للغزوِ (٣).
﴿تُرْهِبُونَ﴾ تُخيفونَ ﴿بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ كفارَ مكةَ. قرأ رُويسٌ
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٠٨)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٢٣٤)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٧٧)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٣٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٤٥٨).
(٣) "للغزو" ساقطة من "ت".
﴿وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ﴾ من غيرهم من الكفرةِ، قيل: هم المنافقون، وقيل: هم اليهودُ، وقيل: الفرسُ ﴿لَا تَعْلَمُونَهُمُ﴾ لا تعرفون أعيانَهم و ﴿اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾ أجرُه.
﴿وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ بنقصِ أُجورِكم.
* * *
﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١)﴾.
[٦١] ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ﴾ مالُوا للصلح. قرأ أبو بكرٍ عن عاصمٍ: بكسر (السِّلْم)، والباقون: بالفتح، وهما لغتاِن بمعنًى واحد (٢).
﴿فَاجْنَحْ لَهَا﴾ أي: إن صالحوا، فصالحهم، وتأنيثُ الضمير، لأنَّ السلمَ بمعنى المسالمةِ ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ ثِقْ به.
﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ﴾ لأقوالِك ﴿الْعَلِيمُ﴾ بأحوالك.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٠٨)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٧)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ١٥٦، ٢٣٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٤٦٠ - ٤٦١).
[٦٢] ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ﴾ يكيدوك بالمصالحةِ.
﴿فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ﴾ كافيكَ من خدعهم.
﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ﴾ قَوَاكَ.
﴿بِنَصْرِهِ﴾ إياكَ بالملائكةِ.
﴿وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾ الأنصارِ.
* * *
﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣)﴾.
[٦٣] ﴿وَأَلَّفَ﴾ جمعَ ﴿بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ أي: بينَ الأوسِ والخزرجِ، معَ ما كان بين الفريقين من العداوةِ، فألَّفَ الله تعالى قلوبَهم على الإسلام، ورَدَّهم متحابين في الله، وهذا من معجزاته - ﷺ -.
﴿لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾ بقدرتِه البالغةِ ﴿إِنَّهُ عَزِيزٌ﴾ تامُّ القدرةِ ﴿حَكِيمٌ﴾ فَعَّالٌ لما يريدُ.
* * *
﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤)﴾.
[٦٤] ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ﴾ كافيكَ.
﴿وَمَنِ اتَّبَعَكَ﴾ أي: وحسبُ منِ اتَّبَعَكَ.
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ نزلتْ في البيداءِ في غزوةِ بدرٍ.
[٦٥] ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: حُثَّهم.
﴿عَلَى الْقِتَالِ﴾ أبلغَ حَثٍّ.
﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ﴾ رجلًا ﴿صَابِرُونَ﴾ محتسبون.
﴿يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ من عدوِّهم ويَقْهَروهم.
﴿وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ﴾ صابرة محتسبة. قرأ الكوفيون، والبصريان: (يَكُنْ) بالياءِ على التذكير، والباقون: بالتاء على التأنيث (١).
﴿يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ دينَ الله، ولا ثبَاتَكُمْ، لفظُهُ شرطٌ، ومعناهُ أمرٌ؛ أي: ليقاتلِ العشرونَ منكم مئتين، والمئةُ ألفًا.
* * *
﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦)﴾.
[٦٦] وكان هذا يومَ بدرٍ، فرضَ اللهُ على الرجلِ الواحدِ من المؤمنين قتال عشرةٍ: عن الكافرين، فثقلَتْ على المؤمنين، فخفَّفَ الله عنهم، فنزل:
﴿فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ من الكفار. وقرأ الكوفيون: (يَكُنْ) بالياء، والباقون: بالتاء على التأنيث (٢).
﴿وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِين﴾ بالنصرِ والمعونةِ فردَّ من العشرةِ إلى الاثنين، فلا يجوزُ للواحدِ الفرارُ من اثنين إِلَّا متحرِّفًا لقتال، أو متحَيِّزًا إلى فئةٍ، كما تقدَّم ذكرُ الحكمِ فيه عقبَ تفسيرِ قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ﴾ [الأنفال: ١٥].
* * *
﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧)﴾.
[٦٧] ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى﴾ قرأ أبو جعفرٍ، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ: (تَكُونَ) بالتاء مؤنثًا؛ لتأنيثِ الجماعة، وأبو جعفرٍ وحدَه قرأ: (أُسَارَى) بضم الهمزة وبألف بعد السين، والباقون: بالياء مذكرًا لتذكير
(٢) المصادر السابقة.
﴿حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾ يبالغَ في قتلِ المشركينَ وأسرِهم حتّى يُذلَّ الكفرُ ويُعَزَّ الإسلامُ ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا﴾ حُطامَها بأخذِكم الفداءَ.
﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ يريدُ لكم ثوابَها.
﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ﴾ يُغْلِبُ أولياءه على أعدائِه.
﴿حَكِيمٌ﴾ يعلمُ ما يليقُ بكلِّ حالٍ ويخصُّه بها، كما أمر بالإثخانِ، ومنعَ عن الفداء حين كانت الشوكةُ للمشركين، وخَيَّرَ بينه وبين المنِّ لما تحولتِ الحالُ، وصارت الغلبةُ للمؤمنين.
روي أنّه عليه الصّلاة والسلام أتي يومَ بدرٍ بسبعين أسيرًا، فيهم العباسُ، وعقيلُ بنُ أبي طالب، فاستشارهم فيهم، فقال أبو بكر رضي الله عنه: "قومُكَ وأهلكَ، استَبْقِهم لعلَّ اللهَ يتوبُ عليهم، وخذْ منهم فديةً تقَوِّي بها أصحابَكَ"، فقال عمرَ رضي الله عنه: "اضربْ أعناقَهم؛ فإنهم أئمةُ الكفر، وإن الله أغناكَ عن الفداء، فمكنِّي من فلان، نسيبٍ له، ومكِّنْ عليًّا وحمزةَ من أَخَويهما فلنضربْ أعناقَهم"، فلم يهوَ ذلك النبيُّ - ﷺ - وقال:
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٣٥)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٣٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٢/ ٤٦٣).
* * *
﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٦٨)﴾.
[٦٨] فدخلَ عمرُ رضي الله عنه على رسولِ الله - ﷺ -، فإذا هو وأبو بكرٍ رضي الله عنه يبكيان، فقال: يا رسولَ الله! أخبرني، فإنْ أجد بكاءً بكيتُ، وإلَّا تباكَيْتُ، فقال: أَبْكِي عَلَى أَصْحَابِكَ فِي أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ، وَلَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ؛ شَجَرَةٍ قَريبَةٍ منهُ (٢).
﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ﴾ أي: حكمٌ سبقَ في اللوحِ المحفوظِ أنه لا يؤاخذُ على خطأٍ.
(٢) رواه مسلم (١٧٦٣)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم، عن عمر بن الخطّاب -رضي الله عنه-.
* * *
﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩)﴾.
[٦٩] رُوي أنّه - ﷺ - قال: "لَوْ نَزَلَ عَذَابٌ مِنَ السَّمَاءِ، مَا نَجَا مِنهُ غَيرُ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ" (١) فلما نزلت هذه الآية، أمسكوا عما أخذوه من الفدية، فنزل: ﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ﴾ من الفدية؛ فإنها من جملة الغنائم.
﴿حَلَالًا﴾ أي: أكلًا حلالًا، وفائدتُه إزاحةُ ما وقعَ في نفوسهم منه بسببِ تلكَ المعاتبةِ، ولذلك وصفَه بقولِه: ﴿طَيِّبًا﴾ قال - ﷺ -: "أُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأحَدٍ قَبْلِي" (٢).
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ في مِخالفتِه.
﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ لما صدرَ منكم ﴿رَحِيمٌ﴾ بتوبتِه عليكم.
* * *
﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠)﴾.
[٧٠] ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى﴾ قرأ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ؛ (الأُسَارَى) بضمِّ الهمزةِ وفتح السين وبعدَها ألفٌ على وزنِ فُعالى، وقرأ الباقون: (الأَسْرَى) بفتحِ الهمزة وإسكانِ السين من غيرِ ألفٍ بعدَها على وزن فَعْلَى (٣)، وهم على أصولِهم في الإمالة كما تقدَّمَ
(٢) تقدّم تخريجه.
(٣) وقد تقدّم هذا عنهم قريبًا.
﴿إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا﴾ خلوصَ إيمان.
﴿يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ﴾ من الفداءِ بأن يُضَعِّفَه لكم في الدنيا، ويثيبَكم عليه في الأخرى.
﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ رُوي أنّها نزلَتْ في العباس رضي الله عنه، كلَّفَه رسولُ الله - ﷺ - أن يفديَ نفسَه وابني أَخَويه عقيلَ بنَ أبي طالب ونوفلَ بنَ الحارث، فقال: يا محمدُ! تركتَني أَتَكَفَّفُ قريشًا ما بقيتُ، فقال: فَأَيْنَ الذَّهَبُ الَّذِي دَفَعْتَهُ إِلَى أُمِّ الْفَضْلِ وَقْتَ خُرُوجِكَ، وَقُلْتَ لَهَا: إِنِّي لَا أَدْرِي مَا يُصِيبُنِي فِي وَجْهِي هَذَا، فَإِنْ حَدَثَ لِي حَدَثٌ، فَهُوَ لَكِ وَلِعَبْدِ اللهِ وَعُبَيْدِ اللهِ وَالْفَضلِ وَقُثَمَ" فقال: وما يدريكَ؟ فقال: "أَخْبَرَنِي بِهِ رَبِّي تَعَالَى"، فقال: فأشهدُ أنَّك صادقٌ، وأَنْ لا إلهَ إِلَّا الله، وأنكَ رسولُه، واللهِ! لم يطلعْ عليه أحدٌ إِلا اللهُ، ولقد دفعتُه إليها في سوادِ اللّيلِ، قال العباسُ: فأبدلني الله منها عشرينَ عبدًا كلُّهم تاجرٌ يضربُ بمالٍ كثير، وأدناهُم يضربُ بعشرينَ ألفَ درهمٍ مكانَ العشرينَ أوقيةً، وأعطاني زمزمَ، وما أحبُّ أن لي بها جميعَ أموال أهلِ مكةَ، وأنا أنتظرُ المغفرة من ربي (٢).
* * *
﴿وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١)﴾.
[٧١] ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا﴾ أي: الأسرى ﴿خِيَانَتَكَ﴾ نقضَ ما عاهدوكَ.
(٢) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٣٥)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٢٤١).
﴿فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ﴾ ببدرٍ قتلًا وأسرًا.
﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ أي: فإنْ عادوا، فسيمكِنُكَ منهم.
* * *
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢)﴾.
[٧٢] ونزلَ في المهاجرين: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا﴾ أي: هَجَروا قومَهم وديارَهم ﴿وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ ونزلَ في الأنصار: ﴿وَالَّذِينَ آوَوْا﴾ رسول الله - ﷺ - والمهاجرين معه؛ أي: أسكنوهم منازلَهم.
﴿وَنَصَرُوا﴾ أي: ونصروهم على أعدائِهم.
﴿أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ دونَ قراباتهم من الكفارِ في الدينِ والحلفِ والنُّصرةِ والميراثِ، وكان المهاجرون والأنصارُ يتوارثونَ بالهجرة حتّى كان فتحُ مكةَ، وانقطعتِ الهجرةُ، نُسِخَ بقوله: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾ [الأنفال: ٧٥].
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾ أي: لا توارثَ بينَهم حتّى يُهاجروا إليكم. قرأ حمزةٌ: ﴿وِلَايَتِهِمْ﴾ بكسر
﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾ أي: المؤمنون الذين لم يُهاجروا.
﴿فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾ أي: فواجبٌ عليكم أن تنصروهم على المشركين.
﴿إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ أي: عهدٌ، فلا تنصروهم عليهم ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
* * *
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (٧٣)﴾.
[٧٣] ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ الموارثةِ والنُّصرةِ، فلا توالوهم أنتم.
﴿إِلَّا تَفْعَلُوهُ﴾ أي: إن لم تفعلوا ما أُمرتم به من النصرة على الكفار والتواصلِ.
﴿تَكُنْ﴾ تحصُلْ ﴿فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ﴾ بقوةِ الكفرِ.
﴿وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ بضعفِ الإسلام.
* * *
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤)﴾.
﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيم﴾ لا تبعةَ ولا مِنَّةَ فيه، وهو طعامُ الجنة، وكُرِّرَتْ هذه الآيةُ؛ لأنّ بعضَهم هاجرَ قبلَ الحُدَيبية، وبعضهم بعدَها، وبعضهم ذو هجرتين: هجرةٍ إلى الحبشة، وهجرةٍ إلى المدينة، فالآية الأولى لأصحابِ الهجرة الأولى، والثّانية للثانية.
* * *
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥)﴾.
[٧٥] ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ﴾ أي: بعد السابقينَ إلى الهجرةِ الأولى.
﴿وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ﴾ أي: من جملتكم، لطفَ تعالى باللاحقين، فجعلَهم من السابقين.
﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ اللوحِ المحفوظِ، فنسخَ التوارثَ بالهجرة، وردَّ الميراثَ إلى أولي الأرحامِ.
﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ صفة مناسبة لنفوذِ هذه الأحكام.
واختلف الأئمةُ في توريثِ ذوي الأرحام ممّن لا سهمَ له في القرآن، وهم كلُّ ذي قرابة ليسَ بذي فرضٍ ولا عَصَبَةٍ، وهم أحدَ عشر صنفًا: أولادُ البناتِ الذكورُ منهم والإناث، وولدُ الأخواتِ، وبناتُ الإخوة، وبناتُ الأعمام، وبنو الإخوة من الأم، والعماتُ، والأخوالُ، والخالاتُ، والجدُّ
وذهب أبو حنيفةَ وأحمدُ: إلى أنّهم يورَّثون، استدلالًا بالآية الشريفة، وبقوله - ﷺ -: "الْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ" (١)، ويقدَّمُ الردُّ عليهم، فإن كان للميتِ (٢) ذو فرضٍ لم يستغرقِ المالَ، وفضلَتْ منه فضلةٌ، ولم يكنْ عصبةٌ، فالفاضلُ مردودٌ عليهم على قدرِ سِهامهم؛ للآية الشريفة، ولقوله - ﷺ -: "مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِلْوَارِثِ" (٣)، ولا يُرَدُّ على الزوجِ والزوجةِ؛ لأنّهما ليسا من أولي الأرحام، وإذا لم يكنْ للميتِ عصبةٌ، ولا ذو فرضٍ من أهلِ الردِّ، فالميراثُ لذوي الأرحامِ ممّن ذُكر من الأصناف. واختلفَ مورِّثاهم في كيفيةِ توريثهم، فقال أبو حنيفةَ: يورَّثون على ترتيب العصباتِ، الأقربُ فالأقرب؛ كمن له بنتُ بنتِ بنتٍ (٤) وأَبُ أمٍّ، فهو أولى؛ لأنّه أقربُ، وإن كانَ أبَ أبِ أُمٍّ، وعمةٌ؛ أو خالةٌ، فهي أولى؛ لأنّها أقربُ، ونحو ذلك، فإن استووا في القربِ والإدلاءِ، فإن اتفقتِ الآباءُ والأمهاتُ، فالمال بينَهما على السواء إنَّ كانوا ذكورًا أو إناثًا، وإن كانوا
(٢) في "ت": "الميِّت".
(٣) رواه الإمام أحمد في "المسند" (٢/ ٤٦٤)، والطيالسي في "مسنده" (٢٣٣٨)، وابن حبّان في "صحيحه" (٣٠٦٣)، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(٤) في "ت": "بنت بنت" بدل "بنت بنت بنت".
وقال أحمد: يُوَرَّثون بالتنزيل، وهو أن يُجعل كُلُّ شخصٍ بمنزلةِ مَنْ أدلى به، فتجعلُ ولدَ البناتِ والأخواتِ كأمهاتهم، وبناتِ الإخوةِ والأعمامِ وأولادَ الإخوة من الأمِّ كآبائِهم، والأخوالَ والخالاتِ وآباءَ الأمِّ كالأمِّ، والعماتِ والعمَّ من الأمِّ كالأب، ثمّ تجعلُ نصيبَ كلِّ وارثٍ لمن أدلى به، فإن أدلى جماعةٌ بواحدٍ، واستوتْ منازلُهم منه، فإن كانَ أبوهم واحدًا، وأُمُّهم واحدةً، فنصيبُه بينَهم بالسويَّة، ذكرُهم وأنثاهم سواء، لأنّهم يورَّثون بالرَّحِمِ المجرَّدِ، فاستوى ذكورُهم وإناثهم؛ كولدِ الأمِّ، وإذا كانَ ابنٌ وبنتُ أختٍ وبنتُ أختٍ أُخرى، فلبنتِ الأختِ وحدَها النصفُ، وللأخرى وأخيها النصفُ بينَهما، وإن اختلفتْ منازلُهم من المدلي بهِ، جعلته كالميِّتِ،
واتفقَ الأربعةُ على أنَّ من ماتَ ولا وارثَ له من ذوي فرضٍ ولا تعصيبٍ ولا رحمٍ، فإن مالَه لبيتِ مالِ المسلمين.
ثمّ اختلفوا في صرفِ التركةِ إلى بيتِ المال، فقالَ الشافعيُّ ومالكٌ: تصرَفُ إِرثًا، وقال أبو حنيفةَ وأحمدُ: ليسَ بيتُ المالِ وارثًا، وإنما يحفظُ المالَ الضائعَ وغيرَهُ، فهو جهةٌ ومصلحةٌ، واللهُ أعلمُ.
* * *
مدنية وآيها مئة وتسع وعشرون آية، وحروفُها عشرة آلافٍ وثمانُ مئةٍ وسبعة وثمانون حرفًا، وكلمُها ألفان وأربع مئة وسبع وتسعون كلمة.
قال سعيدُ بنُ جبير: قلت لابنِ عباسٍ رضي الله عنها: "سورةُ التوبةِ؟ فقالَ: تلكَ الفاضِحَةُ، ما زالتْ تنزلُ: ومنهم، ومنهم، حتّى خَشينا ألَّا تدعَ أحدًا" (١).
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: "إنكم تُسمون هذهِ السورةَ سورةَ التوبَةِ، وإِنَّها سورةُ العذابِ، واللهِ ما تركَتْ أحدًا إِلَّا نالَت منه" (٢).
أهلُ المدينةِ يسمونها: التوبةَ، وأهلُ مكةَ يسمونها: الفاضحةَ، وسميت التوبةَ؛ لأنّ فيها التوبةَ على المؤمنين، والفاضحةَ؛ لأنها تفضحُ المنافقين، ومن أسمائها: المخزيةُ؛ لأنّها تخزيهم، والمقشقشةُ؛ لأنّها تقشقش من النفاق؛ أي: تبرئ منه، والمبعثرةُ، لأنّها تبعثرُ أسرارَ المنافقين،
(٢) رواه ابن أبي شيبة في "المصنِّف" (٣٠٢٦٩)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (١٣٣٠)، والحاكم في "المستدرك" (٣٢٧٤).
واختلِفَ في سقوطِ البسملةِ من أولها، فقيل: كان من شأن العربِ في زمنِ الجاهلية إذا كانَ بينَهم وبينَ قومٍ عهدٌ، فإذا أرادوا نقضَه، كتبوا إليهم كتابًا لم يكتبوا فيه البسملةَ، فلما نزلَتْ براءةُ بنقضِ العهدِ الّذي كانَ بينَ النبيِّ - ﷺ - والمشركين، بعثَ بها النبيُّ علَيَّ بنَ أبي طالبٍ رضي الله عنه، فقرأها عليهم في الموسم، ولم يتسهَّلْ في ذلكَ على ما جرتْ عادتُهم في نقضِ العهدِ من تركِ البسملة.
وقال ابنُ عباسٍ لعثمان رضي الله عنه: ما حملَكُم على أَنْ عمدتُم إلى الأنفال، وهي من المثاني، وإلى براءة، وهي من المئين، فقرنتم بينَهما، ولم تكتبوا بينَهما سطرَ: بسم الله الرّحمن الرحيم، ووضعتموها في السبع الطوال؟ فقال: عثمان رضي الله عنه: إِن رسولَ الله - ﷺ - كان إذا نزلَ عليه الشيءُ، يدعو بعضَ من يكتبُ عندَه، فيقول: "ضَعُوا هَذِهِ الآيةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فيها كَذَا وَكَذَا"، وكانت الأنفال ممّا نزلَ بالمدينة، وبراءةُ من آخرِ ما نزلَ، وكانت قصَّتُها شبيهةً بقصتها، وقُبضَ رسولُ الله - ﷺ - ولم يبين لنا أنّها منها، فظننتُ أنّها منها، فمن ثَمَّ قرنتُ بينَهما، ولم أكتبْ بينهما سطر: بسم الله الرّحمن الرحيم (٢).
(٢) رواه أبو داود (٧٨٦)، كتاب: الصّلاة، باب: من جهر بها، والنسائي في "السنن الكبرى" (٨٠٠٧)، والترمذي (٣٠٨٦)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة =
وقيل: سورةُ الأنفالِ وبراءةَ سورةٌ واحدةٌ، كلتاهما نزلتْ في القتال، تعدان السابعةَ من الطوال، وهي سبعٌ، وما بعدَها المئون؛ لأنّهما معًا مئتان وأربعُ آيات، فهما بمنزلة إحدى الطِّوال. وقد اختلفَ أصحابُ رسولِ الله - ﷺ - لما كتبوا المصحفَ في خلافةِ عثمانَ، فقالَ بعضهُم: الأنفالُ وبراءةُ سورةٌ واحدةٌ، وقالَ بعضهم: هما سورتان، فتركَتْ بينهما فُرْجَةٌ لقولِ من قالَ: هما سورتان، وتركت بسم الله لقولِ مَنْ قالَ هما سورةٌ واحدةٌ، فرضيَ الفريقانِ معًا.
وسُئل عليٌّ رضي الله عنه عن تركِه البسملةَ في براءةَ، فقالَ: "بسمِ اللهِ الرّحمنِ الرحيمِ أمانٌ، وبراءةُ نزلَتْ بالسيفِ ليسَ فيها أمانٌ" (٢).
قال القرطبيّ: والصحيحُ أن التسميةَ لم تكتبْ لأنَّ جبريلَ -عليه السّلام- ما نزلَ بها في هذهِ السورةِ (٣). وتقدَّمَ ذكرُ اختلافِ العلماءِ والقراءِ مستوفًى
(١) انظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (٢/ ٤٤٦).
(٢) رواه الحاكم في "المستدرك" (٣٢٧٣). وانظر: "الدر المنثور" للسيوطي (٤/ ١٢٢).
(٣) انظر: "تفسير القرطبي" (٨/ ٦٣).