ﰡ
[ ١ ] حكم الأنفال في الإسلام
التحليل اللفظي
﴿ الأنفال ﴾ : جمع نفل بالتحريك والمراد به هنا الغنيمة، قال لبيد :
إن تقوى ربنا خير نَفَل... وقال عنترة :
إنّا إذا احمرّ الوغى نرَوى القَنَا | ونَعِفُّ عند مقاسم الأنفال |
﴿ فاتقوا الله ﴾ : بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وأصل التقوى أن يجعل الرجل بينه وبين الشيء الذي يخافه وقاية والمراد أن يتقي عذاب الله بطاعته، ويتقي غضبه بامتثال أوامره قال ابن الوردي :
واتقِ الله فتَقوى الله ما | جاورتْ قلبَ امريءٍ إلاّ وصل |
ليس من يقطعُ طرقاً بطلاً | إنما من يتقي الله البَطل |
فوالله لولا البيْنُ لم يكن الهَوَى | ولولا الهَوَى ما حنّ للبيْنِ آلفُ |
﴿ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً ﴾ : أي زادتهم ثباتاً في الإيمان. وقوة في الاطمئنان، ونشاطاً في الأعمال الصالحة، وقد استدل الجمهور بهذه وأشباهها على زيادة الإيمان، فالإيمان يزيد وينتقص، يزيد بالطاعات وينتقص بالمعاصي كما نبه عليه البخاري.
﴿ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ : أي يعتمدون عليه والتوكل على الله شعار المؤمنين المتقين قال الله تعالى :﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ ﴾ [ الفرقان : ٥٨ ].
﴿ يُقِيمُونَ الصلاة ﴾ : أي يؤدونها كاملة مقوّمة تامة الأركان والشروط ولم يقل يؤدون الصلاة أو يصلون لأنه ليس المراد أداء الصلاة فحسب بل المراد الإتيان بها على الوجه الكامل من الاطمئنان والخشوع وأداء الأركان التي أوجبها الله وهذا هو السر في التعبير في كثير من الآيات الكريمة بقوله تعالى :﴿ أَقَامُواْ الصلاة ﴾ [ الحج : ٤١ ] أو ﴿ وَيُقِيمُونَ الصلاوة ﴾ [ البقرة : ٣ ] فافهم رعاك الله.
﴿ دَرَجَاتٌ ﴾ : أي منازل ومقامات عاليات في الجنة.
﴿ وَمَغْفِرَةٌ ﴾ : أي تجاوز عن سيئاتهم.
﴿ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ : وهو ما أعدلهم من نعيم الجنة. والعرب يصفون الذي لا قبح فيه ولا ضرر بأنه كريم.
المعنى الإجمالي
يقول الله تعالى مخاطباً رسوله الكريم : يسألك أصحابك يا محمد عن هذه الغنائم التي غنمتها في أول معركة وقعت بينك وبين المشركين وهي « غنائم بدر » لمن هي؟ وما حكمها؟ وكيف تقسم؟ فقل لهم : هي لله وللرسول يحكم فيها الله تعالى بحكمه ويقسمها الرسول ﷺ على حسب تشريع الله تعالى، فاتقوا الله ولا تختلفوا ولا تتنازعوا في شأنها، لأن ذلك يوجب سخط الله وغضبه عليكم، ويضعفكم أمام عدوكم، وربما كان اختلافكم سبباً لتحريمها عليكم، كما كانت حراماً على من كان قبلكم.
سبب النزول
أولاً : عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال :« نزلت فينا معشر أصحاب بدر حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا فجعله لرسول الله ﷺ، فقسمه رسول الله ﷺ بين المسلمين على السواء، وكان في ذلك تقوى الله، وطاعة رسوله، وإصلاح ذات البين ».
ثانياً : وروى « أبو داود » عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال « » لما كان يوم بدر قال رسول الله ﷺ : من صنع كذا وكذا فله من النفل كذا وكذا فتسارع في ذلك شبان القوم وبقي الشيوخ تحت الرايات فلما كانت المغانم جاءوا يطلبون الذي جعل لهم فقال الشيوخ : لا تستأثروا علينا فإنا كنا رِدْءاً لكم لو انكشفتم لثُبْتم إلينا فتنازعوا « فأنزل الله تعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال ﴾ الآية.
ثالثاً : وروى الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال : لما كان يوم بدر قتل أخي » عمير « وقتلت ( سعيد بن العاص ) وأخذت سيفه - وكان يسمى ذا الكتيفة - فأتيت النبي ﷺ فقال اذهب فاطرحه في القبض قال : فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي قال فما جاوزت يسيراً حتى نزلت سورة الأنفال فقال لي رسول الله ﷺ : إذهب فخذ سلبك.
اللطيفة الأولى : ذكرُ اسم الجلالة في الأمرين ﴿ اتقوا الله ﴾ و ﴿ وَأَطِيعُواْ الله ﴾ لتربية المهابة والروعة في قلوب المؤمنين، وذكرُ اسم الرسول مع الله تعالى أولاً وأخيراً لتعظيم شأنه، وإظهار شرفه، وللإيذان بأن في طاعة الرسول طاعة الله تعالى كما قال عزّ شأنه :﴿ مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله ﴾ [ النساء : ٨٠ ].
اللطيفة الثانية : توسيطُ الأمر بإصلاح ذات البين ﴿ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ ﴾ بين الأمر بالتقوى، والأمر بالطاعة، لإظهار كمال العناية بشأن الإصلاح بحسب المقام، وليندرج الأمر به بعينه تحت الأمر بالطاعة، فإنّ الإصلاح بين المسلمين من أعظم الطاعات والقربات إلى الله.
اللطيفة الثالثة : قوله تعالى :﴿ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ الشرط متعلق بالأوامر الثلاثة، والجواب محذوف دلّ عليه ما قبله، والمعنى : إن كنتم مؤمنين فاتقوا الله، وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله، وليس الغرض التشكيك في إيمانهم، وإنما هو للإلهاب وتحريك الهمة.
قال الزمخشري :« جعل التقوى، وإصلاح ذات البين، وإطاعة الله ورسوله، من لوازم الإيمان وموجباته، ليعلمهم أن كمال الإيمان موقوف على التوفر عليها ».
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : الغنائم وحكمها وكيفية تقسيمها :
وضحت هذه الآية الكريمة حكم الأنفال ( الغنائم ) وذكرت أن أمرها مفوضٌ إلى الله تعالى ورسوله وليس لأحد دخل في قسمتها فالله وحده هو الذي يحكم بما شاء والرسول ﷺ يقسمها بحسب حكم اله تعالى. وقد اختلف العلماء هل هذه الآية محكمة أم منسوخة؟
فذهب الجمهور إلى أنها محكمة لم ينسخها شيء وأن هذه الآية بينت إجمالاً حكم الغنائم ثم وردت الآية الثانية ﴿ واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ﴾ [ الأنفال : ٤١ ] فوضحت هذا الإجمال، وبينت بالتفصيل قسمة الغنائم ومصارفها فالخمس يصرف في المصارف التي بينتها الآية الكريمة، والباقي وهو أربعة أخماس يوزع على الغانمين وهذا الرأي الراجح.
وقال بعضهم : إن الآية الكريمة منسوخة بقوله تعالى :﴿ واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ﴾ [ الأنفال : ٤١ ] وهذا الرأي ضعيف والصحيح ما ذكرنا من أنه لا نسخ في الآية وإنما هو بيان للإجمال المذكور.
قال ابن كثير : والصواب أنها مجملة محكمة بيّن مصارفها في آية الخمس.
الحكم الثاني : تنفيل بعض المجاهدين من الغنيمة.
التنفيل : إعطاء بعض المجاهدين من الغنيمة قبل قسمتها فاللإمام أن يُنفل من شاء من الجيش قبل التخميس لقصة « سعد بن أبي وقاص » المتقدمة في سبب النزول. ولما روى عن النبي ﷺ أنه قال في غزوة بدر « من قتل قتيلاً فله كذا ومن أسر أسيراً فله كذا » وهذا هو رأي الجمهور وهو الصحيح لظاهر الآية الكريمة.
وقد نقل عن الإمام ( مالك ) رحمه الله أنه كره ذلك وقال هو قتال على الدنيا.
« قال علماؤنا النفل على قسمين : جائز، ومكروه - فالجائز بعد القتال كما قال النبي ﷺ يوم حنين : من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلَبُه، والمكروه أن يقال قبل القتل : من فعل كذا وكذا فله كذا.. وإنما كره هذا لأنه يكون القتال فيه للغنيمة. » قال رجل للنبي ﷺ : الرجل يقاتل للمغنم ويقاتل ليرى مكانهُ أيُّ ذلك في سبيل الله؟ قال :« من قاتل لتكن كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله » ثم قال : ويحق للرجل أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا وإن نوى في ذلك الغنيمة وإنما المكروه في الحديث أن يكون مقصده المغنم خاصة « انتهى.
الحكم الثالث : هو التنفيل من أصل الغنيمة أم من الخمس؟
١ - ذهب مالك وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى إلى أن النفل يكون من الخمس لا من رأس الغنيمة، وحجتهم في ذلك قوله ﷺ :» ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم «.
٢ - وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن النفل يكون في أصل الغنيمة لا من الخمس... لما روي » أن النبي ﷺ قضى بسلب أبي جهل « لمعاذ بن عمرو » وقال يوم حنين : من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه «.
قال ابن العربي : هذه الأخبار ليس فيها أكثر من إعطاء السلب للقاتل، وهل إعطاء ذلك له من رأس المال مال الغنيمة، أو من الخمس؟
ذلك إنما يؤخذ من دليل آخر وقد قسم الله الغنيمة قسمة حق على الأخماس فجعلها خمسها لرسوله وأربعة أخماسها لسائر المسلمين، والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه ما » روي أن ( عوف بن مالك ) قال : قتل رجل من حمير رجلاً من العدو فأراد سلبه فمنعه خالد - وكان والياً عليهم - فأخبر عوفٌ رسول الله ﷺ فقال لخالد : ما منعك أن تعطيه سلبه؟ قال : استكثرته يا رسول الله! قال : ادفعه إليه، فلقي « عوف » خالداً فجرّ بردائه وقال هل أنجزت ما ذكرت لك عند رسول الله ﷺ فسمعه رسول الله ﷺ فاستغضِب فقال : لا تعطه يا خالد، هل أنتم تاركوا لي إمْرَتي «
قال : فلو كان السلب حقاً له من رأس الغنيمة لما رده رسول الله ﷺ لأنها عقوبة في الأموال وذلك لا يجوز بحال، وقد ثبت أن - ابن المسيب - قال : ما كان الناس ينفلون إلا من الخمس.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً - حرص الصحابة على السؤال عما يهمهم من أمور الدين.
ثانياً - الأحكام كلها مرجعها إلى الله تعالى وإلى رسوله الكريم.
ثالثاً - اهتمام الشارع الحكيم بإصلاح ذات البين حفظاً لوحدة المسلمين.
رابعاً - الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها المؤمنون الصادقون ليصلوا إلى حقيقة الإيمان.
خامساً - امتثال أوامر الله وطاعته في ما أمر ونهى سبب لسعادة الإنسان في الدارين.
التحليل اللفظي
﴿ زَحْفاً ﴾ : زحف الرجل إذا مشى على بطنه كالحية، أو دبّ على مقعده كالصبي، وشبّه به هنا مشي الجيش الكثير للقتال بزحف الصبيان، لأنه لكثرته يرى كأنه يزحف زحفاً.
﴿ الأدبار ﴾ : جمع دُبُر وهو الخَلْف ويقابله ( القُبُل ) وهو الأمام، ويطلق القُبُل والدّبُر على سوأتي الإنسان، وأمّا إطلاقه على الأمام والخلف فمشهور في اللغة قال تعالى :﴿ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ ﴾ [ يوسف : ٢٥ ].
﴿ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ ﴾ : يقال : تحرّف وانحرف إذا مال وعدل من طَرَف إلى طرف، مأخوذ من الحَرْف وهو الطرف أي الجانب، والتحرف للقتال الفرّ للكرّ أي يتظاهر بالفرار ليغرّ عدوه حتّى يُخيّل له أنه انهزم، ثم يكر عليه فيقتله، وهذا من باب مكايد الحرب ( والحرب خدعة ).
﴿ مُتَحَيِّزاً ﴾ : أي منظماً، والفئة : الجماعة قال تعالى :﴿ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا ﴾ [ الأنفال : ٤٥ ] والمراد أن ينهزم لينضمّ إلى جماعة أُخرى يعينهم أو يستعين بهم.
﴿ بَآءَ بِغَضَبٍ ﴾ : أي رجع بغضب وسخط من الله.
﴿ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ﴾ : أي مسكنه وملجأه جهنم وبئس هذا الملجأ والمصير.
﴿ مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين ﴾ : أي مضعف بأس الكافرين بخذلانهم ونصر المؤمنين عليهم.
قال ابن كثير : هذه بشارة أخرى مع ما حصل من النصر فإنه تبارك وتعالى أعلمهم بأنه مضعف كيد الكافرين فيما يستقبل ومصغرّ أمرهم، وأنهم في تبار ودمار وقد وُجد المخبرُ وفق الخبر فصار معجزاً للنبي ﷺ فللَّه الحمد والمنة.
المعنى الإجمالي
هذه الآيات الكريمة نزلت لتثبيت قلوب المؤمنين في أول غزوة وقعت بينهم وبين المشركين ألا وهي « غزوة بدر » وقد كانت هذه المعركة هي الفارقة بين عهدين عهد الكفر، وعهد الإيمان ولذلك سمي يومها بيوم الفرقان قال تعالى :﴿ وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان ﴾ [ الأنفال : ٤١ ] لأنها فرقت بين الظلام والنور وبين الكفر والإيمان وفي هذه الآيات يأمر الله عباده المؤمنين أن يصمدوا أمام أعدائهم، وألا ينهزموا مهما كان جيش الكفر عظيماً وكبيراً، فإن الغلبة ليست بالكثرة، والمؤمنون أولى بالثبات والشجاعة من الكافرين، لأنهم يطلبون إحدى الحسنيين : إما العزة في الدنيا والنصر على الأعداء، وإما الشهادة في سبيل الله التي لا يعادلها شيء من الأشياء وقد حذرهم من الفرار والهزيمة لأن فيه كسراً لجيش المسلمين والقاءً للرغب في قلوب المجاهدين وبين تعالى أن الفرار يجوز في حالتين اثنتين.
الأولى : إذا كان بقصد خداع العدو والتغرير به، لأن الحرب خدعة، والعاقل من عرف كيف يبطش بعدوه ويستدرجه.
والثانية : إذا بقي هذا المسلم وحيداً فريداً فانضم إلى جماعة أخرى ليتقوى بها أو رأى أنها بحاجة إليه ليشد أزرهم ويقوي عزمهم.
وما عدا ذلك فالفرار من الزحف جريمة نهى الله تعالى عنه وتوعد عليه أشد التوعيد وهو أن يرجع بغضب من الله وأن مقره في جهنم وبئس ذلك المقر والمصير.
تنبيه وفائدة : ذكر المفسرون عند قوله تبارك وتعالى ﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى ﴾ « أن النبي ﷺ صفّ الصفوف يوم بدر ثم أخذ قبضة من تراب وحصباء ثم استقبل بها قريشاً فقال : شاهت الوجوه ثم رمى بها المشركين فلم يبق أحد منهم إلا وقد أصابه ذلك اليوم منها فدخلت في عيونهم ثم أمر ﷺ أصحابه أن يشدوا عليهم فكانت الهزيمة وقتل من قتل من صناديد قريش وأُسر من أُسر من أشرافهم ».
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : الفرار من الزحف من الكبائر.
تدل ظواهر النصوص الشرعية على حرمة الفرار من الزحف إلا في حالتين اثنتين وهما : حالة الفر من أجل الكرّ خدعة للعدو - وحالة الالتحاق إلى جماعة المسلمين والانضمام إلى صفوفهم ليتقوى بهم وقد بينت السنة النبوية أن الفرار من الزحف من الكبائر فقد قال ﷺ « اجتنبوا السبع الموبِقات » قالوا وما هن يا رسول الله؟ قال : الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حمر الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات «.
الحكم الثاني : كم عدد العدو الذي يحرم الفرار منه؟
هذه الآية حرمت الفرار من القتال، وأما عدد العدو الذي يحرم الفرار منه فقد بينته الآية في آخر سورة الأنفال وهي قوله تعالى :﴿ الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يغلبوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين ﴾ [ الأنفال : ٦٦ ] فقد أوجبت هذه الآية على المسلمين أن يثبتوا أمام أعدائهم إذا كان العدو ضعفهم وقد كانوا من قبل مكلفين بملاقاة العدو والصمود حتى ولو كانوا عشرة أضعافهم فنسخ الله ذلك وخفف عن عباده رحمة بهم وتيسيراً عليهم، فإذا كان جيش الكفار يزيد أضعافاً مضاعفة على جيش المسلمين فإنه لا يجب عليهم ملاقاته إلا إذا كان هناك خطر جسيم كهجوم المشركين على ديار المسلمين فإنه يجب حينئذٍ الدفاع عليهم، ويفترض القتال على الرجل والمرأة والصغير والكبير.
وأما المغامرة في الحرب فقد قال بعض العلماء : لا يقتحم الواحد على العشرة ولا القليل على الكثير لأن في ذلك إلقاء إلى التهلكة.
والصحيح كما قال ( ابن العربي ) : إنه تجوز المغامرة لكسر شوكة المشركين وإضعاف نفوسهم فإنهم إذا رأوا هذه الشجاعة النادرة من شخص واحد دبّ الرعب في قلوبهم وأيقنوا بعدم قدرتهم على مقاومة المسلمين وفي ذلك إعزاز لدين الله وقهر للمشركين والله أعلم.
يجوز الفرار عند الضرورة في غير الحالتين السابقتين التي أشارت إليهما الآية وذلك كأن يحيط العدو بالجيش أو يقطعوا على المجاهدين طريق المؤنة والغذاء فقد « روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال :» كنا في غزاة فحاص الناس حيَصةً « أي » فروا أمام العدو « قلنا كيف نلقى النبي ﷺ وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب، فأتينا النبي ﷺ قبل صلاة الفجر فخرج فقال : من القوم؟ فقلنا : نحن الفرّارون. فقال : لا بل أنتم العكّارون فقبلنا يده. فقال : أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين » ثم قرأ ﴿ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ ﴾.
العكارون : أي الكرارون العطافون.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً - المؤمن يجاهد لإعلاء كلمة الله فعليه أن يتحمل الشدائد لأن العمر بيد الله.
ثانياً - الفرار من الزحف كبيرة من الكبائر لأنه يعرض جيش المسلمين للتدهور والخطر.
ثالثاً - لا يجوز الفرار إلا في الحالات الضرورية.
رابعاً - النصر بيد الله، فعلى المؤمن أن يعتمد على الله مع الأخذ بالأسباب.
التحليل اللفظي
﴿ غَنِمْتُمْ ﴾ : الغنيمة.. ما أخذ من الكفار قهراً بطريق القتال والغلبة، أما ما أخذ منهم بغير حرب أو قتال فهو « فيء » كما مر سابقاً. قال الشاعر :
وقد طوّفت في الآفاق حتى | رضيت من الغنيمة بالإياب |
قال القرطبي : لما بين الله تعالى حكم الخمس وسكت عن الباقي دل ذلك على أنه ملك للغانمين.
﴿ وَلِذِي القربى ﴾ : هم قرابة الرسول ﷺ وهم :« بنو هاشم، وبنو المطلب » على الصحيح من الأقوال كما سيأتي إن شاء الله.
﴿ واليتامى ﴾ : هم أولاد المسلمين الذين هلك آباؤهم في سن الصغر قبل البلوغ، لأنه لا يتم بعد البلوغ.
﴿ والمساكين ﴾ : هم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين.
﴿ وابن السبيل ﴾ : هو المنقطع في سفره مع شدة حاجته وإنما قيل « ابن السبيل » لأنه لما انقطع في سفره أصبح الطريق كأنه أبٌ له.
﴿ يَوْمَ الفرقان ﴾ : هو يوم بدر لأن الله سبحانه وتعالى فرق فيه بين الحق والباطل وبين الإيمان والكفر وهذه الغزوة كانت في السنة الثانية من الهجرة وفي السابع عشر من رمضان وهي أول معركة وقعت بين المسلمين والمشركين.
﴿ الجمعان ﴾ : المرد به جمع المؤمنين وجمع المشركين.
المعنى الإجمالي
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : اعلموا أيها المؤمنون أن كل ما غنمتموه من الكفار المحاربين أياً كان قليلاً أو كثيراً حق ثابت لكم. وحكمه : أن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل فاقسموه - خمسة أقسام - واجعلوا خمسة لله، ينفق في مصالح الدين، وإقامة الشعائر، وعمارة الكعبة وكسوتها، ثم اعطوا الرسول ﷺ منه كفايته لنفسه ولنسائه، ثم أعطوا منه ذي القربى من أهله وعشيرته، ثم المحتاجين من سائر المسلمين وهم اليتامى والمساكين وابن السبيل ثم بين سبحانه وتعالى أن هذا هو مقتضى الإيمان وهو الإذعان. والخضوع لأوامره وأحكامه وعدم الخلاف والنزاع فيما بينهم لأن الله تعالى هو الذي قسم فأعطى كلَّ ذي حق حقه كما راعى مصالح العباد جميعاً فما على المؤمنين إلا الرضى والتسليم لحكم الله العلي الكبير.
وجه الارتباط بالآيات السابقة
لما أمر سبحانه وتعالى في الآيات السابقة بقتال الكفرة المعتدين، الذين كانوا يفتنون المؤمنون، ويقفون في وجه الدعوة الإسلامية، ووعد المؤمنين بالنصر عليهم، وكان ذلك مستلزماً لكسب الغنائم منهم، بيّن جل وعلا هنا حكم قسمة هذه الغنائم، وأوضح وجوه المصارف فيها حتى لا يكون ثمة نزاع ولا خلاف بين الغانمين، فهذا هو وجه الارتباط.
اللطيفة الأولى : التنكير في قوله تعالى :﴿ مِّن شَيْءٍ ﴾ يفيد التقليل أي أي شيء كان، سواء كان هذا الشيء قليلاً أو كثيراً، عظيماً أو حقيراً، حتى الخيط والمخيط ( الإبرة ).
اللطيفة الثانية : ذكرُ الله تعالى في القسمة في قوله تعالى :﴿ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ ﴾ لتعليمنا التبرك بذكر اسم الله المعظم، واستفتاح الأمور باسمه تعالى، ولا يقصد منه أن الخمس يقسم على ستة منها ( الله ) فإنّ الله الدنيا والآخرة، والله هو الغني الحميد، أو يراد منه إنفاقه في سبيل الله فيكون الكلام على ( حذف مضاف ).
اللطيفة الثالثة : قوله تعالى :﴿ وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا ﴾ المراد به محمد ﷺ وإنما لم يذكره باسمه تعظيماً له وتكريماً، لأن أعظم وأشرف أوصاف الرسول ﷺ وصفه بالعبودية، وهذا هو السر في ذكره في سورة الإسراء بهذا الوصف الجليل ﴿ سُبْحَانَ الذى أسرى بِعَبْدِهِ ﴾ [ الإسراء : ١ ] وإضافة العبد إليه تعالى تشعر بكمال العناية والتكريم كما قال أحد العارفين :
وممّا زادني شرفاً وتيهاً | وكدتُ بأخمصي أطَأ الثُريّا |
دخولي تحت قولك « يا عبادي » | وإنْ صيّرْتَ « أحمد » لي نبياً |
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل الغنيمة والفيء شيء واحد؟!
بينا فيما سبق التعريف لكلٍ من الغنيمة والفيء. وقد اختلف العلماء فيهما :
فقال بعضهم : الغنيمة ما أخذ عَنوة من الكفار في الحرب. والفيء ما أخذ عن صلح.. وهذا قول الشافعي.
وقال بعضهم : الغنيمة ما أخذ من مال منقول. والفيء هو مال غير المنقول كالأرضين والعقارات وغيرها.. وهذا قول مجاهد.
وقيل : الغنيمة والفيء بمعنى واحد. والصحيح الأول وهو ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله.
قال القرطبي : واعلم أن الاتفاق حاصل على أن المراد بقوله تعالى :﴿ غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ ﴾ مال الكفار إذا ظفر به المسلمون على وجه الغلبة والقهر، ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص على ما بينا، ولكنْ عُرْفُ الشرع قيّد اللفظ بهذا النوع. وسمّى الشرع المال الواصل إلينا من الكفار باسمين :( غنيمة ) و ( فيء ) فالشيء الذي يناله المسلمون من عدوهم بالسعي وإيجاف الخيل والركاب « غنيمة » ولزم هذا الاسم هذا المعنى حتى صار عرفاً، والفيء مأخوذ من فاء يفيء إذا رجع وهو كل مال دخل على المسلمين من غير حرب ولا إيجاف كخراج الأرضين.
ذكرت الآية الكريمة أن خمس الغنائم يوزع لمن سمّاهم الله تعالى في كتابه العزيز وهم ستة ( الله، الرسول، ذو القربى، اليتامى، المساكين، ابن السبيل ) وسكتت عن الباقي فدل ذلك على أنه يوزع على الغانمين.
سهم الله : أما سهم « الله » تعالى فقد اختلف المفسرون فيه على قولين :
أ - إنه يصرف على الكعبة لأن قوله ( لله ) أي لبيت الله فهو على ( حذف مضاف ).
ب - وقال الجمهور إن قوله ( لله ) استفتاح كلام يقصد به التبرك فللَّه الدنيا والآخرة وهو المالك لكل ما في السماوات والأرض فليس سبحانه بحاجة إلى سهم من هذه السهام لأنه هو الغني وإنما ذكر تبارك وتعالى اسمه ليعلمنا التبرك بذكره وافتتاح الأمور باسمه وعلى هذا الرأي يكون الخمس بين خمسة ( الرسول، ذي القربى، اليتامى، المساكين، ابن السبيل ).
سهم الرسول : أما سهم الرسول ﷺ فإنه حق له ﷺ يأخذه من الغنيمة ويضعه حيث شاء لأهل بيته أو في مصالح المسلمين، يدل على ذلك قوله ﷺ « ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم ».
وقال آخرون إن لفظ ( الرسول ) في الآية استفتاح كلام كما قالوا في قوله ( لله ) وأن الخمس يقسم على أربعة أسهم ( ذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل ).
سهم ذي القربى : والمراد قرابة الرسول ﷺ وقد اختلف في ( ذي القربى ) على ثلاثة أقوال :
أ - قيل إنهم قريش جميعاً.
ب - وقيل إنهم بنو هاشم فقط.
ج - وقيل إنهم ( بنو هاشم وبنو المطلب ) وهذا هو الرأي الصحيح والراجح.
ومما يدل عليه ما رواه البخاري عن ( مطعم بن جبير ) من بني نوفل قال : مشيتُ أنا وعثمان بن عفان - من بني عبد شمس - إلى رسول الله ﷺ :« إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد، إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام » فدلّ الحديث على أن المراد بذي القربى ( بنو المطلب وبنو هاشم ) ويرى بعضهم أن القرابة لا يعطون إلا أن يكونوا فقراء وهذا الحكم ثابت للرسول ﷺ ولذي قرباه في حياته وأما بعد وفاته يرجع إلى بيت مال المسلمين.
قال أبو حنيفة : يقسم الخمس على ثلاثة ( اليتامى، والمساكين، وابن السبيل ) لأنه قد ارتفع سهم الرسول ﷺ بموته كما ارتفع سهم أقربائه بموته وهذا منقول عن الشافعي أيضاً. قالوا : ويبدأ من الخمس بإصلاح القناطر، وبناء المساجد، وأرزاق القضاة والجند.
ويصرف في مصالح المسلمين.
سهم اليتامى : وهذا السهم يصرف على أطفال المسلمين الذين هلك آباؤهم وهم في سن الصغر وأما بعد البلوغ فيزول عنهم وصف اليتم.
سهم ابن السبيل : وهو الغريب الذي انقطع في سفره فإنه يعطى من الخمس حتى ولو كان غنياً في بلده. ذلك لأننا نعتبر حالته التي هو عليها الآن.
مذهب المالكية : وقد خالف المالكية هذه الأقوال المتقدمة جميعاً ورأوا أن الخمس - خمس الغنيمة - يجعل في بيت المال ينفق منه على ما ذكر في الآية وعلى غيرهم بحسب ما يراه الإمام من المصلحة وقالوا : إن ذكر هذه الأصناف في الآية الكريمة إنما هو على سبيل المثال لا على سبيل التمليك وهو من باب إطلاق ( الخاص وأريد به العام ).
أدلة المالكية :
وقد استدل المالكية لمذهبهم ببضعة أدلة ثبتت في المغازي والسير جعلتهم يذهبون إلى هذا الرأي وقد ذكرها ابن العربي في « أحكام القرآن » وهي :
أولاً : روي في الصحيح « أن النبي ﷺ بعث سرية قبل نجد فأصابوا في سهمانهم اثني عشر بعيراً ونفلوا بعيراً بعيراً ».
ثانياً : ثتب عنه ﷺ أنه قال في أساري بدر :( لو كان المطعم بن عدي حياً وكلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له ) والمراد بالنتنى ( الأسرى من المشركين ) والمطعم بن عدي هو الذي أجار النبي ﷺ حين رجع من الطائف وهو الذي قام بنقض الصحيفة، فقال ذلك النبي ﷺ مكافأة له على جميلة وإحسانه.
ثالثاً : ثبت أن النبي ﷺ ردّ سبي هوازن وفيه الخمس.
رابعاً : روي في الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال :« آثر النبي ﷺ يوم حنين أناساً من الغنيمة فأعطى ( الأقرع بن حابس ) مائة من الإبل وأعطى ( عيينة ) مائة من الإبل، وأعطى أناساً من أشراف العرب وآثرهم يومئذٍ في القسمة فقال رجل : والله إن هذه القسمة ما عدل فيها. أو ما أريد بها وجه الله!! فقلت : والله لأخبرنّ النبي ﷺ فأخبرته : فقال :» يرحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر « ».
خامساً : روي في الصحيح أيضاً أن النبي ﷺ قال :« ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمسُ والخمس مردود عليكم ».
فمن هذه الأحاديث يتبين أن الخمس من حق الإمام يتصرف به كيف يشاء، ويجعله في مصالح المؤمنين وأن ذكر هذه الأصناف في الآية إنما هو على سبيل ( التمثيل ) لا على سبيل ( التمليك ) إذ لو كان ملكاً واستحقاقاً لهم لما جعله الرسول ﷺ في بعض الأحيان في غيرهم وهذا الرأي للماليكة سديد ووجيه.
ظاهر الآية يدل على أن توزيع الغنيمة يكون بين المحاربين على السوية، من دون تفضيل أو زيادة أو نقص، وقد وردت السنة النبوية تشير إلى التفضيل، فقد روي أن النبي ﷺ « جعل للفارس سهمين وللراجل سهماً » وفي « البخاري » عن ابن عمر أنّ رسول الله ﷺ « جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهماً ».
ورأي الجمهور من العلماء أن يعطى الفارسُ سهمين ويُعطى الراجلُ سهماً واحداً وذلك لأن الذي يركب الفرس يحتاج إلى نفقةٍ لفرسه ويكون بلاؤه في الحرب أعظم ولذلك فإن الشارع الحكيم راعى هذه الناحية فزاده في القسمة فأعطى سهماً له وسهماً لفرسه.
الحكم الرابع : هل الآية هذه ناسخة للآية السابقة؟
يذهب بضع العلاء إلى أن هذه الآية ناسخة لأول السورة لأن الآية الأولى ذكرت أن الأنفال لله والرسول. وهذه الآية بينت أنّ للغانمين أربعة أخماس الغنيمة فتكون هذه الآية ناسخة لتلك، والصحيح أنه لا نسخ كما وضحنا ذلك في السابق والله أعلم.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً - التشريع لله سبحانه وليس لأحدٍ أن يشرّع من تلقاء نفسه.
ثانياً - الخمس يصرف في سبيل الله وفي المصارف التي أشارت إليها الآية الكريمة.
ثالثاً : الغنائم توزع بين المجاهدين حسب ما شرع الله وفصله الرسول ﷺ.
رابعاً : على المؤمن أن يمتثل أمر الله ويطيع رسوله في كل شؤون الحياة.
خامساً : يوم بدر هو يوم الفرقان الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل وبين الكفر والإيمان.