تفسير سورة الشمس

البسيط للواحدي
تفسير سورة سورة الشمس من كتاب التفسير البسيط المعروف بـالبسيط للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ

تفسير سورة الشمس (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

١ - ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾ هذه الآية، والتي بعدها أقسام كلها إلى قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾ وهو جواب القسم.
قال الزجاج: المعنى لقد أفلح، ولكن اللام حذفت، لأن الكلام طال فصَار طوله عوضًا منها (٢).
وأما تفسير: "ضحاها".
فقال الليث: الضَحْو ارتفاع النهار، والضُّحَى فُوَيْقَ ذلك، والضُحَاءُ (٣)
(١) مكية بقول الجميع.
انظر: "تفسير مقاتل" ٢٤٠ أ، و"جامع البيان" ٣٠/ ٢٠٧، و"بحر العلوم" ٣/ ٤٨٢، و"الكشف والبيان" ١٣/ ٩٩ ب، و"الكشاف" ٤/ ٢١٤، و"زاد المسير" ٨/ ٢٥٦، "الجامع لأحكام القرآن" ٢٠/ ٧٢ وغيرها.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٣٣١.
(٣) في (أ): (الضحى).
43
ممدود إذا امتد النهار، وكَرَبَ (١) أن ينتصف (٢).
وقال أبو الهيثم: الضُحى: على فُعَل حين تطلع الشمس، فيصفو ضَوْؤهَا (٣).
وذكر المفسرون في "ضحاها" ثلاثة أقوال: قال مجاهد: ضوؤها (٤)، (وهو قول الكلبي (٥)) (٦)، وقال قتادة: هو النهار كله (٧)، وهو اختيار الفراء (٨)، وابن قتيبة (٩).
وذكر أبو إسحاق القولين (١٠)، والقول الثالث مَا ذكره مقاتل قال:
(١) كرب: أي كاد. مختار "الصحاح" ٥٦٦، مادة: (كرب).
(٢) "تهذيب اللغة" ٥/ ١٥٠ (ضحا) بنصه.
(٣) المرجع السابق ٥/ ١٥١، ١٥٢ (ضحا).
(٤) "جامع البيان" ٣٠/ ٢٠٨، "الكشف والبيان" ١٣/ ٩٩ ب، "معالم التنزيل" ٤/ ٤٩١، "المحرر الوجيز" ٥/ ٤٨٧ بمعناه، "زاد المسير" ٨/ ٢٥٦، "التفسير الكبير" ٣١/ ١٩٠، "الجامع لأحكام القرآن" ٢٠/ ٧٢، "البحر المحيط" ٨/ ٤٧٨ بمعناه، "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٥٥٠، "فتح القدير" ٥/ ٤٤٨.
(٥) "معالم التنزيل" ٤/ ٤٩١، "التفسير الكبير" ٣١/ ١٩٠، "فتح القدير" ٥/ ٤٢٨.
(٦) ما بين القوسين ساقط من (أ).
(٧) "جامع البيان" ٣٠/ ٢٠٧، "الكشف والبيان" ١٣/ ٩٩ ب، "النكت والعيون" ٦/ ٢٨١، "معالم التنزيل" ٤/ ٤٩١، "المحرر الوجيز" ٥/ ٤٨٧، "زاد المسير" ٨/ ٢٥٦، "التفسير الكبير" ٣١/ ١٩٠، "البحر المحيط" ٨/ ٤٧٨، "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٥٥٠.
(٨) "معاني القرآن" ٣/ ٢٦٦.
(٩) "تفسير غريب القرآن" ص ٥٢٩.
(١٠) "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٣٣١.
44
أقسم الله بالشمس وحرها (١)، وهو قول ابن عباس في رواية عطاء (٢).
قال المبرد: أصله فيما يقول النحويون من الضح، هو نور الشمس، والألف مقلوبة عن الحاء الثانية، يقال (٣): ضحو وضحوات، وضحى (٤)، فعلي ما ذكر "الواو" في ضحوة مقلوبة عن الحاء الثانية، والألف مقلوبة عن "الواو".
وقال (٥) أبو الهيثم: الضَّحُّ (٦) نقيض الظل، وهو نور الشمس على وجه الأرض، قال: وأصله الضّحْىُ فاستثقلوا "الياء" مع سكون الحاء فثقّلوها.
وقالوا: ضحّ. ومثله العبد: القِن أصله من القِنية (٧)، وهذا ضد مَا
(١) "تفسير مقاتل" ٢٤١ أ، "الكشف والبيان" ١٣/ ٩٩ ب، "معالم التنزيل" ٤/ ٤٩١، "المحرر الوجيز" ٥/ ٤٨٧، "زاد المسير" ٨/ ٢٥٦، "التفسير الكبير" ٣١/ ١٩٠، "لباب التأويل" ٤/ ٣٨١، "البحر المحيط" ٨/ ٤٧٨، "روح المعاني" ٣٠/ ١٤٠، وكلها برواية: حرها.
وقد ضعف الفخر هذا القول بحرها "التفسير الكبير" ٣١/ ١٩٠.
(٢) ورد معنى قوله من ذكر طريق عطاء في: "الجامع لأحكام القرآن" ٢٠/ ٧٢.
(٣) في (ع): (يقول).
(٤) لم أعثر على نص المبرد فيما بين يدي من كتبه. وقد ورد قوله في: "الجامع لأحكام القرآن" ٢٠/ ٧٣، و"البحر المحيط" ٨/ ٤٧٨، و"الدر المصون" للسمين الحلبي ٦/ ٥٢٨، وقال أبو حيان معقبًا على ما قاله المبرد: لعله مختلف عليه؛ لأن المبرد أجل من أن يذهب إلى هذا، وهذان مادتان مختلفتان، لا تشتق إحداهما من الأخرى. ٨/ ٤٧٨، وانظر: "الدر المصون" ٦/ ٥٢٨.
(٥) في (ع): (قال).
(٦) في (أ): (الصحيح).
(٧) ورد قوله في "تهذيب اللغة" ٣٩٨/ ٣ (ضح)، وانظر أيضًا: "التفسير الكبير" ٣١/ ١٩٠، و"الجامع لأحكام القرآن" ٢٠/ ٧٣.
45
ذَكَره المبرد، وكيف ما كان الأمر سواء جعلت الضحى من الضح، أو الضح من الضحى، فالضحى في الأصل على ما ذكرا: ضوء الشمس ونورها، ثم سمي (به) (١) الوقت الذي تشرق فيه الشمس، فمن قال من المفسرين: وضحاها ضوؤها، فهو على الأصل.
وكذلك من قال: النهار كله، لأن جميع النهار هو من نور الشمس وإشراقه، ألا ترى أنه إذا فقد نور الشمس [اسود النهار] (٢).
ومن قال في الضحى: إنه حر الشمس؛ فلأن نورها شيئان: ضياء، وحرارة، ولا ينفك أحدهما عن الآخر، وهذا أضعف الأقوال، وإن كان له وجه (٣).
والقراء مختلفون في فواصل هذه السورة، وما أشبهها نحو ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾ [الليل: ١]، ﴿وَالضُّحَى (١) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾ [الضحى: ٢].
فقرؤوا (٤) بالإماله (٥) والتفخيم (٦)
(١) ساقط من (أ).
(٢) يوجد سقط في الكلام. قلت ولعل ما أثبته هو المراد. والله أعلم.
(٣) من قوله: (فمن قال من المفسرين...) إلى: (وإن كان له وجه) نقله الفخر في: "التفسير الكبير" ٣١/ ١٩٠.
(٤) في (أ): (فقرأوا).
(٥) إن العلل التي توجب الإمالة، ثلاث، وهي: الكسرة، وما أميل ليدل على أصله، والإمالة للإمالة.
ولتفصيله يراجع ذلك في: "المبسوط" ١٠٣، ١١٠، و"الكشف" ١/ ١٧٠، ١٧٩، ج ٢/ ٣٧٨.
(٦) قرأ حمزة: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾ و ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾ كسرًا، ويفتح: "تلاها" وطحاها. وفي سورة الضحى: (سجى)، وفي النازعات: ﴿دَحَاهَا﴾ هو ويكسر سائر ذلك. وقرأ نافع، وأبو عمرو ذلك كله بين الفتح والكسر. =
46
وبعضها بالإمالة (١) وبعضها بالتفخيم (٢).
قال الفراء: تكسر ضحاها (٣)، والآيات التي بعدها، وإن كان أصل بعضها "الواو".
ونحو: ﴿تَلَاهَا﴾، و ﴿ضُحَاهَا﴾، و ﴿دَحَاهَا﴾ (٤) [لنازعات: ٣٠]، لما ابتدئت السورة بحرف "الياء" أتبعها ما هو من "الواو"، ولو كان الابتداء "للواو"، لجاز فتح ذلك كله قال: وكان حمزة يفتح ما كان من "الواو"، ويكسر ما كان من "الياء"، وذلك من قلة البصر بمجاري الكلام، فإذا انفرد جنس "الواو" فتحته، وإذا انفرد جنس "الياء" فأنت فيه بالخيار: إن فتحت وإن كسرت فصواب (٥). انتهى كلامه.
وقال أبو إسحاق: من كسر من هذه الحروف مَا كان من ذوات "الياء" أراد الدلالة على أنه من ذوات الياء، ومن فتح: "تلاها"، و"طحاها" فلأنه من ذوات "الواو"، ومن كسر، فلأن ذوات "الواو"، كلها إذا رُدَّ إلى مَا لم يُسَمَّ فاعِله (٦) انتقل إلى "الياء" نحو "تُلِىَ" و"دُحِىَ"، و"طُحِىَ" (٧).
= انظر: "كتاب السبعة في القراءات" ص ٦٨٨، و"القراءات وعلل النحويين فيها" ٢/ ٧٧٩، و"الحجة" ٦/ ٤١٨.
(١) قر الكسائي بالكسر في ذلك كله. المراجع السابقة.
(٢) قرأ ابن كثير، وعاصم، وابن عامر بفتح أواخر آي هذه السورة، والليل، والضحى. المراجع السابقة.
(٣) (وضحها) في كلا النسختين.
(٤) في (أ): (دحيها).
(٥) "معاني القرآن" ٣/ ٢٦٦ بيسير من التصرف.
(٦) أي المبني للمجهول.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٣٣١ بتصرف.
47
وقال أبو علي الفارسي: وجه قول من ترك الإمالة في هذه الحروف أن كثيرًا من العرب لا يميلون هذه الألفات، ولا ينحون فيها نحو "الياء"، ويقوى ترك الإمَالة للألف أن "الواو" في "مؤسى" منقلبة عن "الياء"، و"الياء" في ميقات، وميزان منقلبة عن الواو، ولم يلزم شيئًا من ذلك ما يدل على ما انقلب عنه، فكذلك الألف (ينبغي أن تترك غير ممالة، ولا متنحى بها نحو"الياء"، وكذلك الألف) (١) في آدم وآخر منقلبة عن "الهمزة"، ولم يلزم ما يدل على أنه من الهمزة، وأما من أمَال فإنه نحا بها نحو الكسرة ليدل على ما انقلبت عنه، ويدلك على أنه لهذا المعنى أميلت أن ما لم يكن منقلبًا نحو الألفات في الحروف لم يمل، وأما فصل حمزة بين هذه الحروف بالإمالة في بعضها، وتركها في بعضها فحسن، وذلك أن الألف إنما (تمال نحو الياء لتدل على الياء إذا كان انقلابها [عن] (٢) الياء ولم يكن في "تلاها"، و"طحاها"، و"دحاها"، ألف منقلبة عن الياء؛ إنما) (٣) هي منقلبة عن "الواو" بدلالة "تلوت"، و"دحوت".
وأما من لم يفصل بينهم؛ كأبي عمرو، والكسائي فإنما لم يفصلا؛ لأن الألف المنقلبة عن "الواو" قد توافق المنقلبة عن "الياء"، ألا ترى أن تلوت وطحوت ونحوها قد يجوز في أفعالها وهي على العدة التي هي عليها أن تنقلب إلى "الياء" نحو "تلى" إذ بني الفعل للمفعول، (فلما وافقت في هذا ما كان الياء استجازوا إمالته) (٤) كما استجازوا إمالة ما كان من "الياء"،
(١) ما بين القوسين ساقط من (أ).
(٢) في كلا النسختين (على). وأثبت ما رأيته أنسب للمقال.
(٣) ما بين القوسين ساقط من (أ).
(٤) ما بين القوسين ساقط من (أ).
48
ومع ذلك فإن "الياء" تقلب عن (١) "الواو" (٢) ألا ترى أنها إذا كانت رابعة في الفعل لزم البدل بـ"الياء" نحو "اغزيت"، وكذلك إذا كان في اسم نحو "المغزى"، و"المدعى"، ثني (٣) بـ"الياء"، وكذلك في نحو "مَسْنِي"، و"معدي" تقلب إلى "الياء"، ولا تجد "الياء" تقلب إلى "الواو" في (٤) هذا (٥) النحو، فلما كانت هذه في حكم الانقلاب عن "الياء" أجْرَوُا الألف مجرى الألف المنقلبة عن الياء، ويدل على أنهم لهذا (المعنى) (٦) استجازوا الإمالة في باب "دحا"، و"طحا"، و"تلا"، و"سجا"، إن ما كان من الأسماء ألفُهُ منقلبة عن الواو، ونحو (٧) "العصا، والقضاء (٨) لم يجيزوا فيه الإمالة لما لم تكن تنقلب واوها إلى "الياء" كما انقلبت إليها في الفعل.
وأما من فتح "تلا" وأمال غيرها، كما رُوي عن نافع فقوله حسن، لأخذه بشيئين كل واحد منهما مسموع مأخوذٌ به، فأخذ بأحدهما مرة،
(١) في (ع): (على).
(٢) من قوله: لا يميلون هذه الألفات.. إلى قوله: بأن الياء تقلب عن الواو، لم أجده في "الحجة"، وقد ذكر في حاشية "الحجة" أن هناك سقطًا في الأصل الخطي وقع في تتابع الصفحات: ٦/ ٤١٩.
قلت: ولعله يكون ما نص هنا ما بين القوسين هو من الساقط في الكلام، وذلك لأن الكلام الذي يسبق ما كان بين القوسين، والذي يليه ذكر في "الحجة"، والله أعلم.
(٣) في (أ): (ثنا).
(٤) في (أ): (وفي).
(٥) ورد في نسخة الألف عبارة: (نحو المغزا والمدعا)، وهو مكرر في الكلام، وليس هنا موضعه.
(٦) ساقط من (أ).
(٧) في (أ): (نحو) بغير واو.
(٨) في (ع): (العطا).
49
وبالأخرى (١) أخرى (٢).
٢ - قوله: ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا﴾ قال المفسرون: تبعها (٣).
قال الليث: تلا يَتْلُو (٤) إذا تبع شيئًا، فهو تالٍ، ولمَتَاِلي الأمهات إذا تلاهن أولادهن (٥) الواحدة مُتْلية (٦).
ويقال الذي مصدره: "التُلُو" بضم التاء واللام والتشديد، والتَلْو بفتح التاء وسكون اللام. ذكر ذلك الكسائي (٧).
واختلفوا في معنى: تلو القمر الشمس، فقال عطاء عن ابن عباس: يريد إقبالها بعد مغيبها (٨).
قال المفسرون (٩): وذلك في النصف الأول من الشهر إذا غربت
(١) في (ع): (بالآخر).
(٢) "الحجة" ٦/ ٤١٩ - ٤٢٠ بتصرف.
(٣) قال بذلك ابن عباس، ومجاهد، وبمعناه: قتادة، وابن زيد، ومقاتل.
"تفسير مقاتل" ٢٤١ أ، "جامع البيان" ٣٠/ ٢٠٨، "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٥٥٠، وبه قال أيضًا الثعلبي في: "الكشف والبيان" ١٣/ ٩٩ ب، وانظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٤٩١، و"المحرر الوجيز" ٥/ ٤٨٧، و"الجامع لأحكام القرآن" ٢٠/ ٧٣، و"لباب التأويل" ٤/ ٣٨١، و"فتح القدير" ٥/ ٤٤٨.
(٤) (يتلوا) في كلا النسختين.
(٥) في (ع): (أولاد).
(٦) "تهذيب اللغة" ١٤/ ٣١٦ (تلا) بشيء من الاختصار، وانظر: "اللسان" ١٤/ ١٠٣.
(٧) ورد معنى قوله في: المرجع السابق ١٤/ ٣١٧ (تلا)، وكلامه: قال: (هي التُّلاوة أيضًا، وقد تتلَّيْتُ حقي عنده، أي تركت منه بقية، وتَلَّيت حَّقي تَتَبّعته حتى يسوفيه).
(٨) لم أعثر على مصدر لقوله.
(٩) قال بذلك ابن زيد، وابن عباس، انظر: "جامع البيان" ٣٠/ ٢٠٩، و"التفسير الكبير" ٣١/ ١٩٠، وإليه ذهب الطبري في "جامع البيان" ٣٠/ ٢٠٨، والثعلبي في =
50
الشمس تلاها القمر في الإضاءة وخلفها في النور.
وقال قتادة (١)، والكلبي (٢): تلاهَا القمر ليلة الهلال، لأن الشمس إذا غربت ظهر الهلال بعدها يتلوهَا في الغروب.
وجعل الفراء معنى تلو القمر الشمس الأخذ من ضوئها، كما تقول في الكلام: اتبعت قول فلان، وأخذت بقول فلان، فاتباعه والأخذ منه سواء (٣). ويقال: فلان يتبع فلانًا في كذا أي يأخذ منه. ونور القمر من نور الشمس على مَا يقال إنه يأخذ النور من الشمس، وهو معروف عند الناس، ومنه قول من قال:
كما تكسب منها نوره القمر (٤)
وقال الزجاج: تلاها حين استدار كما يتلو الشمس في الضياء والنور (٥) يعني إذا كمل ضوؤه فصَار تابعًا للشمس في الإنارة، وذلك في الليالي البيض.
= "الكشف والبيان" ١٣/ ٩٩ ب. وانظر: "معالم التنزيل" ٤/ ٤٩١، و"المحرر الوجيز" ٥/ ٤٨٧، و"الجامع لأحكام القرآن" ٢٠/ ٧٣، و"لباب التأويل" ٤/ ٣٨١، و"فتح القدير" ٥/ ٤٤٨.
وهناك أقوال أخرى في اتباعه لها، انظر: "النكت والعيون" ٦/ ٢٨٢.
(١) "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٣٧٦، "جامع البيان" ٣٠/ ٢٠٨، "الرازي" ٣١/ ١٩٠.
(٢) " التفسير الكبير" ٣١/ ١٩٠.
(٣) "معاني القرآن" ٣/ ٢٦٦ بتصرف.
(٤) لم أتوصل إلى معرفة القائل، وقد ورد تحت (بهج) في "تهذيب اللغة" ٦/ ٦٤، و"لسان العرب" ٢/ ٢١٦، و"تاج العروس" ٢/ ١٠، وجميعها برواية: (نواره) بدلاً من (نوارها) والبيت للمتنبي في "ديوانه".
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٣٣٢.
51
٣ - قوله تعالى: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا﴾ معنى التجلية: الإظهار والكشف، وذكرنا ذلك عند قوله: ﴿لا يجليها﴾ [الأعراف: ١٨٧].
قال الكلبي: جلاها جلى الظلمة (١).
قال الفراء: وجازت (٢) الكناية عن الظلمة، ولم تذكر؛ لأن المعنى معروف ألا ترى أنك تقول: أصبحت باردة، وأمست باردة، وهبت شمالاً، [فكنى] (٣) عن مؤنث لم يجر لها ذكر، لأن المعنى معروف (٤).
ونحو هذا قال الزجاج، وزاد فيها وجهًا آخر فقال: وقيل: والنهار إذا [جلاها] (٥) إذ بين الشمس؛ لأنها تتبين إذا انبسط النهار (٦).
وفاعل التجلية على القولين جميعًا النهار.
٤ - وقوله تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا﴾ قال الكلبي: يعني الشمس فيذهب بضوئها، فتغيب وتظلم الآفاق (٧).
وهذه الآية تقوي الآية الثانية في الآية التي قبلها، وذلك أنه لما جعل الليل يغشى الشمس فيذهب بضوئها حسن أن يقال: النهار ويجليها على ضد ما ذكر في الليل، وأيضًا فإن الضمير في "يغشاها" للشمس بلا خلاف، كذلك في "جلاها" يجب أن يكون للشمس، فيكون الضمير في الفواصل
(١) ورد معنى قوله في: "بحر العلوم" ٣/ ٤٨٢.
(٢) في (أ): (جازت).
(٣) يعني: هكذا ورد في كلا النسختين، وأثبت ما جاء في أصل الكلام، وهو "معاني القرآن" لانتظام الكلام. والله أعلم.
(٤) "معاني القرآن" ٣/ ٢٦٦.
(٥) (جليها) في كلا النسختين، وأثبت ما جاء في مصدر أصل الكلام لانتظامه.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٣٣٢.
(٧) ورد معنى قوله في: "معالم التنزيل" ٤/ ٤٩١، و"زاد المسير" ٨/ ٢٥٧.
من أول السورة إلى هنا للشمس (١).
٥ - قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا﴾ قال أبو عبيدة: ومن بناها (٢)، وهو مذهب المفسرين، قال عطاء: يريد والذي بناها (٣).
قال (٤) الكلبي: من بناها؟! الله بناها (٥)، ونحو هذا قال مقاتل: والذي خلقها (٦).
وذكر الفراء (٧)، والزجاج (٨) وجهًا آخر، وهو أن تكون "مَا" بمعنى المصدر (٩) بتقدير: وبناها، ونحو هذا كثير (١٠).
٦ - قوله تعالى: ﴿وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا﴾ في "ما" وجهين كما ذكرنا "وطحاهَا" قال أبو عبيدة: بسطها من كل جانب (١١).
قال الليث: الطَّحْوُ كالدّحو، وهو البَسْطُ، وفيه لغتان: طحا
(١) "التفسير الكبير" ٣١/ ١٩١.
(٢) "مجاز القرآن" ٢/ ٣٠٠ مختصرًا.
(٣) "معالم التنزيل" ٤/ ٤٩٢.
(٤) في (ع): (وقال).
(٥) المرجع السابق بمعناه.
(٦) بمعناه في "تفسيره" ٢٤١ أقال: (وبالذي بناها، يعني الرب نفسه).
(٧) "معالم التنزيل" ٤/ ٤٩٢.
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٣٣٢.
(٩) في (أ): (المصد).
(١٠) نحو قوله تعالى: ﴿بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي﴾ [يس: ٢٧].
انظر: كتاب "معاني الحروف" للرُماني ص ٨٦، وما بعدها في معنى (ما)، ومتى تكون اسمًا، ومتى تكون حرفًا، وشروط ذلك، فليراجع في موضعه.
(١١) "مجاز القرآن" ٢/ ٣٠٠ مختصرًا.
يَطْحُو (١)، وطحَا يَطْحا (٢)، وقال شمر: طحاها، ودحَاهَا، واحد، فأبدل "الطاء" من الدال، والمعنى: وسَّعَها (٣).
قال عطاء (٤)، (والكلبي (٥)) (٦): بسطها على الماء.
٧ - ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾ المفسرون يقولون: والذي سواها، أي خلقها، وسوى أعضاهَا (٧)، وأهل المعاني يقولون: وتسويتها أي خلقها (٨). كما قال: ﴿الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ﴾ [الانفطار: ٧].
قال عطاء عن ابن عباس (في رواية علي بن أبي طلحة) بين لها الخير والشر (٩). وهذا كقوله: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد: ١٠].
(١) (يطحوا) في كلا النسختين.
(٢) (يطحى) هكذا ورد في "التهذيب" ٥/ ١٨٢ (طحا).
(٣) "تهذيب اللغة" ٥/ ١٨٢، وانظر: "لسان العرب" ١٥/ ٤ (طحا)، ونسبه إلى الأزهري.
(٤) "التفسير الكبير" ٣١/ ١٩٢.
(٥) المرجع السابق.
(٦) ساقط من (أ).
(٧) إلى هذا القول ذهب الطبري في "جامع البيان" ٣٠/ ٢١٠، والسمرقندي في "بحر العلوم" ٣/ ٣١٠، والثعلبي في "الكشف والبيان" ١٣/ ١٠٠ أ، وانظر: "الكشاف" ٤/ ٢١٥.
(٨) ذكر الزجاج في: "معاني القرآن وإعرابه" القولين في (ما) ٥/ ٣٣٢.
(٩) ورد من طريق الوالبي في: "الكشف والبيان" ١٣/ ١٠٠ أو"صحيفة علي بن أبي طلحة" ص ٥٣٤، ومن طريق عطية عند قوله: (فألهمها فجورها) في: "جامع البيان" ٣٠/ ٢١٠، كما وردت هذه الرواية عنه من غير ذكر طريق علي في: "النكت والعيون" ٦/ ٨٣، و"معالم التنزيل" ٤٠/ ٤٩٢، و"زاد المسير" ٨/ ٢٥٨ في حاشيته رقم: ١، و"لباب التأويل" ٤/ ٣٨٢، و"الدر المنثور" ٨/ ٥٢٨.
54
وقال الذي رواية عطية: علمها الطاعة والمعصية (١).
وقال رواية أبي صالح: عَلَمها وعَرفها ما تأتي، وما تتقي (٢).
وقال رواية عطاء: ألهم المؤمن المتقي تقواه، وألهم الفاجر فجوره (٣).
وقال سعيد بن جبير: ألزمها فجورها وتقواها (٤).
وقال ابن زيد: جعل فيها ذلك بتوفيقه إياه (٥) للتقوى، وخذلانه إياه للفجور (٦).
واختار أبو إسحاق هذا الوجه، وحمل الإلهام فيهما على التوفيق والخذلان (٧).
وقال مقاتل: عرفها الضلالة والهدى (٨).
والاختيار قول ابن زيد، وسعيد بن جبير، وهو الموافق لمعنى
(١) "جامع البيان" ٣٠/ ٢١٠، " الكشف والبيان" ١٣/ ١٠٠ أ، "معالم التنزيل" ٤/ ٤٩٢، "زاد المسير" ٨/ ٢٥٨ في حاشيته رقم ١، "لباب التأويل" ٤/ ٣٨٢، "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٥٥١، "الدر المنثور" ٨/ ٥٢٨.
(٢) "معالم التنزيل" ٤/ ٤٩٢، "الكشف والبيان" ١٣/ ١٠٠ أمعزوًا إلى الكلبي.
(٣) لم أعثر على مصدر لقوله.
(٤) "معالم التنزيل" ٤/ ٤٩٢، "زاد المسير" ٨/ ٢٥٨، "التفسير الكبير" ٣١/ ١٩٣، وبمعناه في: "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٥٥١، و"الدر المنثور" ٨/ ٥٣٠، وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم و"تفسير سعيد بن جبير" ص ٣٧٦.
(٥) في (أ): (اياهما).
(٦) "معالم التنزيل" ٤/ ٤٩٢، "زاد المسير" ٨/ ٢٥٨، "التفسير الكبير" ٣١/ ١٩٣، "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٥٥١. وانظر أيضًا: "فتح القدير" ٥/ ٤٤٩.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٣٣٢.
(٨) "تفسير مقاتل" ٢٤١ أ.
55
الإلهام، فإن التبيين، والتعريف، والتعليم (١) دون الإلهام، والإلهام أن يوقع في قلبه، ويجعل فيه، كما ذكر ابن زيد: إذا أوقع الله في قلب عبده شيئًا فقد ألزمه إياه، وأصل معنى الإلهام من قولهم: لهم الشيء، والتهَمَهُ إذا ابتلعه، وألهمته ذلك الشيء إذا أبلغته. هذا هو الأصل (٢).
ثم استعمل ذلك فيما يقذفه الله في قلب العبد، لأنه كالإبلاغ، والتفسير الموافق لهذا الأصل قول ابن زيد: وهذا صريح في أن الله تعالى خلق في المؤمن تقواه، وفي الكافر فجوره (٣).
والذي يؤكد هذا ويبينه قوله:
٩ - ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ وقال ابن عباس (في رواية عطاء (٤)، والكلبي (٥)) (٦): قد أفلحت نفس زكاها الله وأصلحها، وهو قول:
(١) في (أ): (التعليم والتعريف).
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" ٦/ ٣٠٨ (لهم)، و"مقاييس اللغة" ٥/ ٢١٧، و"الصحاح" ٥/ ٢٠٣٦ - ٢٠٣٧.
(٣) وهذا ما يؤيده الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي الأسود الدِّئِليِّ قال: قال لي عمران بن حصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قضي عليهم، ومضى عليهم من قدر ما سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبت "الحجة" عليهم.. ؟ فقال: لا بل شيء قضي عليهم، ومضى فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾. كتاب القدر: باب ١: ج ٤/ ٢٠٤١، ٤٠٤٢: ح ١٠، وانظر: "مسند الإمام أحمد" ٤/ ٤٣٨.
(٤) ورد قوله من غير ذكر أحد الطريقين إليه في: "زاد المسير" ٨/ ٢٠٨، و"الدر المنثور" ٨/ ٥٣١، وعزاه إلى حسين في الاستقامة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. كما ورد معنى قوله في "جامع البيان" ٣٠/ ٢١١ من طريق علي الوالبي.
(٥) المراجع السابقة.
(٦) ما بين القوسين ساقط من (أ).
مجاهد (١)، وعكرمة (٢) (وسعيد بن جبير (٣)، ومقاتل (٤)) قالوا: سعدت وأفلحت نفس أصلحها وطهرها.
والمعني: وفقها للطاعة حتى عمل بها.
١٠ - ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ (٥) قالوا (٦): خابت، وخسرت نفس أضلها الله، وأغواها، وأبطلها، وأهلكها، وأثمها، وأفجرها. هذه ألفاظهم في تفسير: "دسَّاها"، والأصل: دسّسَها من التدسيس، وهو إخفاء الشيء في الشيء، فأبدلت من إحدى السينات (٧) "ياء" كما قالوا: لبيت، والأصل: لببت، وملبي، والأصل: ملبب، وكذلك:
* تَظَنَّيْت * (٨)
(١) "جامع البيان" ٣٠/ ٢١١، قال: (من أصلحها).
(٢) المرجع السابق بنفس العبارة.
(٣) المرجع السابق، وانظر: "النكت والعيون" ٦/ ٢٨٤.
(٤) "تفسير مقاتل" ٢٤١ أ، "زاد المسير" ٨/ ٢٥٨. وما بين القوسين ساقط من (أ).
(٥) في (أ): (دسيسها).
(٦) أي المفسرين، عن قتادة قال: أي أثمها، وأفجرها.
"تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٣٧٦، "جامع البيان" ٣٠/ ٢١٣.
وعن ابن عباس قال: قد خاب من دس الله نفسه فأضله. وعنه أيضًا: تكذيبها. وعنه أيضًا: أبطلهًا وأهلكها. "جامع البيان" ٣٠/ ٢١٢، "الكشف والبيان" ١٣/ ١٠٠ ب.
عن مجاهد: أغواها، وعن سعيد: أضلها. المرجعان السابقان.
وقال ابن زيد: قد خاب من دس الله نفسه. "جامع البيان" ٣٠/ ٢١٣.
وعن عكرمة: خسرها، وعن ابن سلام: أشقاها، وعن الضحاك: جبنها في الخير، وعن ابن عيسى قال: أخفاها وأخملها بالبخل. "النكت والعيون" ٦/ ٢٨٥.
(٧) في (أ): (الشينات).
(٨) ظنيت، وإنما هو: تظننت. وهذا اللفظ من جزء جاء فيه: =
57
و* تَقَضَّيَ البْازِىِ (١) *
ذكر ذلك الفراء (٢)، وأبو عبيدة (٣) (٤)، وجميع أهل المعاني (٥)، وذكر الفراء من نظائر هذا: الدينار (٦)، والقيراط (٧)، والديباج (٨)، والديوان (٩) (١٠).
قال أبو إسحاق: معنى دسَاهَا: جعلها قليلة خسيسة (١١).
وذكرنا معنى الدس عند قوله: ﴿أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ﴾ (١٢).
= فإن شيطاني أمير الجن يأخذني في الشعر كل فن حتى يرد عني التظن انظر: كتاب "الإبدال": لابن السكيت ص ١٣٣.
(١) أصله بيت شعر للعجَّاج، وقد أورده أبو عبيدة في "مجازه" ٢/ ٣٠٠، وابن السكيت في كتاب "الإبدال" ص ١٣٣، والزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٣٣٢، والطبري في: "جامع البيان" ٣٠/ ٢١٢.
وقد سبق تخريجه. الشاهد: تقضى يتقضى، والأصل: تقضض. والعرب تقلب حروف المضاعف إلى ياء. "الإبدال" ص ١٣٣.
(٢) "معاني القرآن" ٣/ ٢٦٧ والنص له.
(٣) "مجاز القرآن" ٢/ ٣٠٠.
(٤) في (أ): (أبو عبيد).
(٥) لم أعثر على مصدر لقولهم، وقد ورد عن ابن قتيبة مثل ذلك في "تأويل مشكل القرآن" ٣٤٤، وانظر: "تهذيب اللغة" ١٢/ ٢٨١ (دس).
(٦) الدينار: أصله من دِنّار، يدل على ذلك جمعهم إياه: دنانير. "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٢٦٧.
(٧) جمعه قراريط، كأنه كان قراطًا. المرجع السابق.
(٨) جمعه ديابيج. المرجع السابق.
(٩) ديوان كان أصله دِوان لجمعهم إياه: دواوين. المرجع السابق.
(١٠) "معاني القرآن" ٣/ ١٦٧.
(١١) "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٣٣٢.
(١٢) سورة النحل: ٥٩، ومما جاء في تفسير معنى الدس، قوله: ﴿أَمْ يَدُسُّهُ﴾: أى =
58
والتدسيس تفعيل منه، ومعنى "دَسَاها" هاهنا: أخملها (١)، وخذلها، وأخفى محلها، ولم يشهر مكانًا بالطاعة والعمل الصالح.
وهو معنى قول المفسرين: أضلها، وأغواها، وأبطلها كما ذكرنا.
وقد أقسم الله تعالى بهذه الأشياء التي ذكرها من خلقه، لأنها تدل علي وحدانيته على فلاح من طهره، وخسارة من خذله، حتى لا يظن أحد أنه هو الذي يتولى تطهير نفسه، وإهلاكها بالمعصية من غير قدر، وقضاء سَابق، ويدل على هذه الجملة مَا روي عن (سعيد بن أبي هلال (٢) أن) (٣) النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا قرأ: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ وقف، ثم قال: "اللهم أئت نفسي تقوها، أنت وليها، ومولاها، وزكها، أنت خير من زكلاها" (٤).
يدل على صحة هذا ما أخبرنا الإمام أبو منصور عبد القاهر بن طاهر (التميمي رحمه الله) (٥) بقراءتي عليه، قلت (له) (٦): أخبركم أبو
= يخفيه، والدس إخفاء الشيء، وهذا على ها كانوا يفعلونه من الوأد في الجاهلية.
(١) أخملها: الخامل الساقط الذي لا نباهة له، وقد خَمَلَ يخْمُل خمولاً، وأخملته أنا.
"الصحاح" ٤/ ١٦٩٠ (خمل).
(٢) سعيد بن أبي هلال الليثي، أبو العلاء المصري، مولى عروة بن شيَيْم الليثي، روى عن أنس بن هالك يقال مرسل، وجابر بن عبد الله، لم يروِ عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولد بمصر سنة ٥٧٠، ونشأ بالمدينة، ثم رجع إلى مصر، مات سنة ١٣٥ هـ، وحُكي عن أحمد أنه اختلط، روى له الجماعة.
انظر: كتاب "المراسيل" ص ٦٧ ت ١١٩، "تهذيب الكمال" ١١/ ٩٤ ت ٢٣٧٢، "تقريب التهذيب" ١/ ٣٠٧ ت ٢٧٤.
(٣) ما بين القوسين ساقط من (أ).
(٤) وردت مثل هذه الرواية عن ابن عباس مرفوعة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد رواه الطبراني، وإسناده حسن. قاله الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٧/ ١٣٨ سورة الشمس.
(٥) ما بين القوسين ساقط من (أ).
(٦) ساقط من (ع).
59
عمرو؛ محمد بن جعفر بن مطر (١)، أخبرنا (٢) جعفر بن محمد المستفاض (٣)، حدثنا (٤) سليمان بن عبد الرحمن (٥)، حدثنا (٦) راود بن الجراح (٧)، حدثنا (٨) نافع بن عمر (٩)، عن عبد الله بن أبي مليكة،
(١) محمد بن جعفر بن محمد بن مطر النيسابوري؛ أبو عمرو، روى عن أبي عمرو، وأحمد المبارك المُستملي، ومحمد بن أيوب الرازي، وطبقتهما، كان متعففًا قانعًا، توفي في جمادى الآخرة وله ٩٥ سنة.
انظر: "المنتظم" ١٤/ ٢٠٨ ت ٢٦٩٧، "سير أعلام النبلاء" ١٦/ ١٦٢ ت ١١٧، "العبر في خبر عن غير" ٢/ ١٠٦.
(٢) في (ع): (اثنا).
(٣) جعفر بن محمد بن الحسن بن المستفاض، أبو بكر الفريابي القاضي، تقدم.
(٤) في (ع): (نا).
(٥) سليمان بن عبد الرحمن بن عيسى بن ميمون بن عبد الله التميمي الدمشقي، وجده هو شرحبيل بن مسلم الخولاني، حدث عنه جعفر الفريابي، قال عنه ابن حجر: صدوق، يخطئ، مات سنة ٢٣٣ هـ.
انظر: "تهذيب الكمال" ١٢/ ٢٦ ت ٢٥٤٤، و"سير أعلام النبلاء" ١١/ ١٣٦ ت ٥٠، و"تقريب التهذيب" ١/ ٣٢٧: ت ٤٦٧. وسلسلة الإسناد إلى سليمان بن عبد الرحمن متصلة، أما تحديث سليمان بن عبد الرحمن عن رواد فيه انقطاع؛ إذ إن روادًا ليس من شيوخه، ولا ابن بنت شرحبيل من تلاميذ رواد. والله أعلم.
(٦) في (ع): (نا).
(٧) راود بن الجراح الشامي؛ أبو عصام العسقلاني، والد عصام بن رواد، كان من أهل خراسان، قال ابن حجر عنه: اختلط بأخرة فترك، وفي حديثه عن الثوري ضعف شديد. انظر: "تهذيب الكمال" ٩/ ٢٢٧ ت ١٩٢٧، و"تهذيب التهذيب" ٣/ ٢٨٨، و"تقريب التهذيب" ١/ ٢٥٣ ت ١١٠، وتحديث رواد عن نافع فيه انقطاع، فنافع ليس من شيوخه، ورواد من التاسعة، ونافع من كبار السابعة.
(٨) في (ع): (نا).
(٩) نافع بن عمر بن عبد الله بن جميل بن عامر بن جمح القرشي، ثقة ثبت من كبار السابعة، مات سنة ١٦٩ هـ أمه أم ولد. =
60
قال: قالت عائشة، رحمها الله (١): انتبهت ليلة، فوجدت رسوله الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: "رب أعط نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها" (٢).
والضمير في قوله: ﴿زَكَّاهَا﴾ و ﴿مولاها﴾ هو يعود إلى: ﴿مَن﴾، وهو بمعنى النفس.
قال الفراء (٣)، والزجاج (٤): يقول قد أفلحت نفس زكاها الله، وقد خابت نفس دسَاهَا الله.
وذُكر في الآيتين قول آخر، قال الحسن: قد أفلح من زكى (٥) نفسه فأصلحها، وحملها على طاعة الله، وقد خاب من أهلكها وحملها على
= انظر: "الطبقات الكبرى" ٥/ ٤٩٤، "تهذيب الكمال" ٢٩/ ٢٨٧ ت ٦٣٦٧، "تقريب التهذيب" ٢/ ٢٩٦ ت ٢٤.
(١) في (ع): (رضي الله عنها).
(٢) أخرجه الإمام أحمد في "المسند" ٦/ ٢٠٩ من طريق سعيد عن عائشة، وقد وردت رواية عن طريق زيد بن أرقم في "صحيح مسلم" ٤/ ٢٠٨٨: ح: ٧٣: باب ١٨، والحديث كما هو عنده عن زيد بن أرقم قال: "لا أقول إلا كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول، كان يقول: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها...).
كما أخرجه النسائي ٨/ ٦٥٣ ح ٥٤٧٣، ٥٥٥٣، كتاب الاستعاذة، باب ١٣، ٦٥ من طريق زيد بن أرقم.
وطريق زيد أخرجه الإمام أحمد في المسند: ٤/ ٣٧١.
(٣) "معاني القرآن" ٣/ ٢٦٧ واللفظ له.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٣٣٣.
(٥) في (أ): (زكا).
61
معصية الله (١)
ونحو هذا القول يروى عن قتادة (٢)، وذكره (٣) الفراء فقال: ويقال (٤): قد (٥) أفلح من زكى نفسه (٦) بالصدقة وبالطاعة، وقد خاب من دسى (٧) نفسه فأخملها بترك الصدقة والطاعة.
وذكر وجهًا آخر على هذا القول في قوله: "دسَاهَا" فقال: إن البخيل يخفى منزله وماله، وإن المعطي يُبرز منزله، فينزل على الأشراف والروابي (٨)؛ [لئلا] (٩) يستتر عن الضِّيفان، ومن أراده (١٠).
وشرحه ابن قتيبة فقال: يريد قد أفلح من زكى (١١) نفسه، أي أنماها، وأعلاها بالطاعة، والبرّ، والصدقة، واصطناع المعروف، وقد
(١) "الكشف والبيان" ١٣/ ١٠١ أ، "معالم التنزيل" ٤/ ٤٩٣، "الدر المنثور" ٨/ ٥٣٠، وعزاه إلى عبد بن حميد، و"تفسير الحسن البصري" ٢/ ٤٢٤.
(٢) "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٣٧٦، "جامع البيان" ٣٠/ ٢١٣، "الكشف والبيان" ١٣/ ١٠٠ ب، "النكت والعيون" ٦/ ٢٨٤.
(٣) في (ع): (ذكر).
(٤) في (أ): (يقال).
(٥) في (أ): (وقد).
(٦) في (أ): (زكا).
(٧) في (أ): (دسا).
(٨) الروابي: ما أشرف من الرَّمل مثل الدّكدَاكة؛ غير أنها أشد منها إشرافًا. "لسان العرب" ١٤/ ٣٠٦ (ربا).
(٩) في: النسختين (لأن لا)، وما أثبته من المعاني.
(١٠) "معاني القرآن" ٣/ ٢٦٧.
(١١) في (أ): (زكا).
62
خاب من دساها، أي نقصها وأخفاها بترك عمل البر، وركوب المعَاصي، والفاجر أبدًا خَفىُّ المكان زَمِرُ (١) المروءة، غامض الشخص، ناكِسُ الرأس، وكأن النَّطِف (٢) بارتكاب الفواحش دسَّ نفسه وقُمَعَها، ومُصْطَنِع المعروف شهر نفسه ورفعها، وكانت أجواد العرب تنزل الرُبَى (٣)، وأيفاع (٤) الأرض لتشهر أماكنها للمُعْتفين، وتُوقد النيران في الليل للطارقين، وكانت اللئام تنزل الأولاج (٥)، والأطراف والأهضام (٦) لتخفي أماكنها على الطالبين، فأولئك أعلَوْا أنفسهم وزكوها، وهؤلاء أخفَوْ أنفسهم ودسوهَا، وأنشد (٧):
وبَوَّأْتَ بيتَكَ في مَعْلَمٍ رَحِيبِ المَبَاءَةِ والمُسْرَح
كَفَيْتَ العُفَاةَ طلابَ القِرى ونَبْحَ الكِلاب لِمُسْتَنْبح (٨) (٩)
(١) زمِرُ المروءة: أي قليل المروءة. "لسان العرب" ٤/ ٣٢٨.
(٢) النَّطِف: المتهم: "لسان العرب" ١١/ ٤٨ (نطف).
(٣) الرُبى: مفرده الرَّبوة، وكل ما ارتفع عن الأرض ورَبا. "لسان العرب" ١٤/ ٣٠٦ (ربا).
(٤) اليفاع: المُشْرف من الأرض والجبل. "لسان العرب" ٨/ ٤١٤ (يفع)، وفي "الصحاح" ما ارتفع من الأرض ٣/ ١٣١٠ (يفع).
(٥) الأولاج جمع الوَلَجة بالتحريك: موضع أو كَهْفّ تستتر فيه المارة من مطر وغيره، والجمع: وَلَج وأولاج. "الصحاح" ١/ ٣٤٧ (ولج).
(٦) الأهضام: مفرده الهُضْمُ، والهضْمَ، وهو المطمئن من الأرض، والجمع أهْضام، وهُضوم. "لسان العرب" ١٢/ ٦١٥ (هضم).
(٧) غير منسوب في المعاني الكبير ١/ ٤٠٩، وذكر البيت الأول.
(٨) "الحيوان" ١/ ٣٨١، ٥/ ١٣٤ - ١٣٥.
(٩) "تأويل مشكل القرآن" ص ٣٤٤ - ٣٤٥. باختصار.
63
وذكر وجهًا آخر في قوله: ﴿دَسَّاهَا﴾.
قال أبو العباس: سألت ابن الأعرابي عن قوله:
١٠ - ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ فقال: معناه: من دس نفسه مع الصالحين، وليس هو منهم (١)، وهو منطوٍ على غير مَا ينطوي عليه الصَالحون (٢).
١١ - قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا﴾ قال الليث: الطغيان و [الطُغْوان] (٣) لغة فيه، والفعل طَغَيْتَ، وطَغَوْتَ (٤) والاسم: الطغوى (٥) (٦).
قال الفراء: أراد بطغيانها، وهما مصدران إلا أن الطغوى أشكل برؤوس الآيات فاختير لذلك، وهو كالدعوى من الدعاء (٧) (٨).
وقال أبو إسحاق: أصل طغواها طغياها، وفَعْلى إذا كانت من ذوات "الياء" أبدلت في الاسم "واوًا"، لتفصل بين الاسم والصفة، تقول: هي
(١) ورد قوله في "تهذيب اللغة" ١٢/ ٢٨١ بنصه، وانظر: "لسان العرب" ٦/ ٧٢ (دس).
(٢) في (ع): (الصالحين).
(٣) الطغيان: هكذا ورد في النسختين، وأثبت ما جاء في أصل الكلام.
(٤) في (أ): (طغوت وطغيت).
(٥) في (أ): (للطغوى).
(٦) "تهذيب اللغة" ٨/ ١٦٧ (طغو)، وانظر: "لسان العرب" ١٥/ ٦ (طغى).
(٧) أي كقوله تعالى: ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ ومعناه: آخر دعائهم. "معاني القرآن" للفراء ٣/ ٢٦٧.
(٨) المرجع السابق بتصرف.
64
التقوى، [وإنما هي من أيقنت، وهي التقوى، وإنما هي من يقنت] (١)، والدعوى (٢)، وقالوا: امرأة خزي لأنه (٣) صفة (٤).
قال المفسرون: كذبت ثمود بنبيهم بطَغيانهم، أي الطغيان حملهم على التكذيب به (٥).
(هذا قول جماعتهم) (٦)، وقد روى عطاء (الخرساني) (٧) عن ابن عباس أن الطغوى اسم لعذابهم الذي أهلكوا به (٨).
(١) ما بين القوسين ساقط من النسختين، وأثبت ما جاء في أصل الكلام لاستقامته وانتظام الكلام به.
(٢) لم ترد عند الزجاج.
(٣) امرأة خزيًا، هكذا روت عند أبي إسحاق في المعاني.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٣٣٣.
(٥) قال بذلك ابن زيد، قال: بطغيانهم وبمعصيتهم، وكذلك قال به مجاهد، وقتادة. انظر: "جامع البيان" ٣٠/ ٢١٣، "النكت والعيون" ٦/ ٢٨٥.
كما عزاه ابن عطية إلى جمهور المتأولين في "المحرر الوجيز" ٥/ ٤٨٨، وقال الفخر عنه: هذا هو القول المشهور. "التفسير الكبير" ٣١/ ١٩٥، كما قال ابن كثير عنه: وهو الأولى. "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٥٥٢، وإلى هذا القول ذهب: ابن قتيبة في: "تفسير غريب القرآن" ص ٥٣٠، والسجستاني في "نزهة القلوب" ص ٣١٥. وانظر أيضًا "نفس الصباح" ص ٧٨٤، و"تحفة الأريب" ص ٢١٤، و"تفسير غريب القرآن" لابن الملقن ص ٥٦٠، وقال به أيضًا السمرقندي في "بحر العلوم" ٣/ ٤٨٣، والثعلبي في: "الكشف والبيان" ١٣/ ١٠١ أ، وانظر أيضًا: "معالم التنزيل" ٤/ ٤٩٣، و"زاد المسير" ٨/ ٢٥٩، و"لباب التأويل" ٤/ ٣٨٢.
(٦) ما بين القوسين ساقط من (أ).
(٧) ساقط من (أ).
(٨) "جامع البيان" ٣٠/ ٢١٣، "الكشف والبيان" ج ١٣/ ١٠١/ أمختصرًا، "النكت والعيون" ٦/ ٢٨٥، "المحرر الوجيز" ٥/ ٤٨٨، "الجامع لأحكام القرآن" ٢٠/ ٧٨.=
65
والمعنى: كذبت بعذابها، أي لم يصدقوا رسولهم فيما أنذرهم به من العذاب، وهذا لا يبعد، لأن معنى الطغيان في اللغة مجاوزة [القدر] (١) (٢).
فيجوز أن يسمى ذلك العذاب الذي جاءهم طغوى؛ لأنه كان صيحة مجاوزة القدر المعتاد يؤكد هذا التأويل.
١٢ - وقوله: ﴿إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا﴾ أي كذبوا بالعذاب (٣) لما انبعث الأشقى للعقر (٤) (٥)، والتكذيب بالعذاب حمله على ذلك. ويجوز أن يكون تكذيب صَالح حمله على ذلك، وهذا القول الأول في الطغوى.
وانبعث مطاوع، يقال: بعثت فلانًا على الأمر فانبعث له، أي انتدب وقام (٦).
= وقال الآخرون: بطغواها أي بأجمعها. وقال مجاهد: أي معصيتها. "جامع البيان" ٣٠/ ٢١٥.
(١) انظر: "تهذيب اللغة" ٨/ ١٦٧، وهو قول الليث.
(٢) (القدرة) في كلا النسختين.
(٣) في (ع): (بالعذاب) مكرر.
(٤) في (أ): (العقر).
(٥) العَقْر: شبيه بالخز، عَقَرَ يَعْقِره عَقَرًا، وعَقَّره، والعَقير: المعقور، والجمع: عَقْرى الذكر والأنثى فيه سواء، وعَقَر الفرس والبعير بالسيف عَقَرًا: قطع قوائمه، "لسان العرب" ٤/ ٥٩٢ (عقر).
وأصل العَقْر: ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسيف وهو قائم. "تاج العروس" ٣/ ٤١٤ (عقر).
وقال الأزهري: والعَقَر عند العرب كَسْف عرقوب البعير، ثم جُعِل النَّحر عقرًا، لان العَقر سبب لنحره، وناحِر البعير يعِقره ثم ينحره. "تهذيب اللغة" ١/ ٢١٥ (عقر).
(٦) قال الليث: بعثت البعير فانبعث إذا حللت عقاله وأرسلته لو كان باركًا فأثرته قال بعثته من نومه فانبعث. =
وأراد بالأشقى: عاقر الناقة، وهو أشقى الأولين على لسان نبينا -صلى الله عليه وسلم- (١).
١٣ - ﴿فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ﴾ صالح.
﴿نَاقَةَ اللَّهِ﴾ قال أبو إسحاق: ناقة الله منصوب على معنى ذروا ناقة الله، كما قال: ﴿هذه ناقة الله لكم آية فذروها﴾ [الأعراف: ٧٣] (٢).
= وقال الأزهري: والبعث في كلام العرب على وجهين أحدهما: الإرسال والبعث: إثارة بارك أو قاعد. "تهذيب اللغة" ٢/ ٣٣٤ - ٣٣٥، وقال ابن قتيبة: ﴿إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا﴾ أي الشقي منها، أي نهض لعقر الناقة. "تفسير غريب القرآن" ٥٣٠.
(١) عن عثمان بن صهيب عن أبيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال يومًا لعلي: (من أشقى الأولين؟ قال: الذي عقر الناقة يا رسول الله، قال: صدقت، قال فمن أشقى الآخرين؟ قال: لاعلم لي يا رسول الله، قال: الذي يضربك على هذه، وأشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى يافوخه). رواه الطبراني: ٨/ ٤٥: ح ٧٣١١، وأبو يعلى، وفيه رشدين بن سعد وقد وثق، وبقية رجاله ثقات. "مجمع الزوائد" ٩/ ٣٦، كتاب المناقب: باب وفاة سيدنا علي رضي الله عنه، "كنز العمال" ٢/ ١٤: ح: ٢٩٤٥.
وجاءت رواية أخرى من طريق عمار بن ياسر: قال: كنت أنا وعلي رفيقين في غزوة ذات العشيرة. فيومئذ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعلي: يا أبا تراب لما يرى عليه من التراب قال: ألا أحدثكما بأشقى الناس رجلين، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: أحيمر ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا علي على هذه، يعني قرنه، حتى تبل منه هذه، يعني لحيته.
قال الهيثمي: ورواه أحمد، والطبراني، والبزار باختصار، ورجال الجميع موثقون إلا أن التابعي لم يسمع من عمار. "مجمع الزوائد" ٩/ ١٣٦. "مسند الإمام أحمد" ٤/ ٢٦٣، وانظر: "حلية الأولياء" ١/ ١٤١، "الدر المنثور" ٨/ ٥٣ أو عزاه إلى ابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبغوي، وأبو نعيم في الدلائل. "دلائل النبوة" للبيهقي ٣/ ١٢ - ١٣، "سيرة ابن هشام" ٢/ ٢٣٦ - ٢٣٧.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٣٣٣ بنصه.
وقال الفراء: حذرهم إياها، وكل تحذير (١) فهو نصب (٢).
وقوله: ﴿وَسُقْيَاهَا﴾ عطف على ناقة الله، وهو اسم من السقي، ﴿وَسُقْيَاهَا﴾ شربها من الماء وما يسقاها (٣).
قال الكلبي (٤)، ومقاتل (٥): قال لهم صالح: ذروا ناقة الله، فلا تعقروها، وذروا أيضًا سقياها، وهي شربها من النهر، فلا تعرضوا للماء يوم شربها، فإنكم معذبون، فكذبوا صالحًا بالعذاب أنه غير كائن، وهو قوله:
١٤ - ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ أي بتحذيره إياهم العذاب بعقرها، وذلك أن قوله: ﴿نَاقَةَ اللَّهِ﴾ يدل انتصابه على التحذير، فعقروها وتفسير العقر قد تقدم في هذه القصة.
﴿فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا﴾ قال عطاء عن ابن عباس: فدمر عليهم ربهم (٦) (٧)، ونحو هذا قال مقاتل (٨).
(١) في (أ): (تحرير).
(٢) "معاني القرآن" ٣/ ٢٦٨.
(٣) في (أ): (وساقها).
(٤) "فتح القدير" ٥/ ٤٥٠.
(٥) "تفسير مقاتل" ٢٤١ أ، "فتح القدير" ٥/ ٤٥٠، وانظر معنى هذا القول في: "جامع البيان" ٣٠/ ٢١٤، و"معالم التنزيل" ٤/ ٤٩٣، و"لباب التأويل" ٤/ ٣٨٣، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٥٥٢.
(٦) ساقط من (ع).
(٧) "تفسير مقاتل" ٢٤١ ب، كما ورد قوله من طريق الضحاك عنه في: "الجامع لأحكام القرآن" ٢٠/ ٧٩، كما ورد منسوبًا إلى عطاء في: "معالم التنزيل" ٤/ ٤٩٤.
(٨) "معالم التنزيل" ٤/ ٤٩٤.
68
وقال المؤرج: الدمدمة: إهلاك باستئصال (١).
وقال ابن الأعرابي: دمدم: إذا عَذَّب عذابًا تامًا (٢).
وذكر الزجاج: أصل هذا الحرف، فقال: معنى دمدم: أطبق عليهم العذاب، ، يقال: دمدمته على الشيء إذا أطبقت عليه، وكذلك دمدمت عليه القبر وما أشبهه، ويقال: ناقة الله مَدْمُومة أي قد ألْبَسَها الشحم، فإذا كررت الأطباق قلت: دمدمت عليه (٣). هذا كلامه، ومعنى الدم في اللغة: اللطخ، يقال للشيء السمين كأنها دمَّ بالشحم دمًا (٤)، فجعل أبو إسحاق "دمدم" من هذا الحرف على التضعيف نحو: ﴿فَكُبْكِبُوا﴾ (٥) فيجوز أن يكون معنى "فدمدم عليهم" سوي عليهم الأرض (٦) بأن أهلكهم، فجعلهم تحت التراب، يدل على هذا قوله: "فسواها".
قال عطاء عن ابن عباس: يريد فسوي عليهم الأرض (٧).
ويجوز أن يكون المعنى: ﴿فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ﴾ أطبق عليهم العذاب، وعمهم (٨) به كالشيء الذي يلطخ، فيعم ما يلطخ به، ويكون على هذا معنى
(١) "الكشف والبيان" ١٣/ ١٠١ ب، "معالم التنزيل" ٤/ ٤٩٤ وعزاه إلى المؤرج، ولعله خطأ، "زاد المسير" ٨/ ٢٥٩، "الجامع لأحكام القرآن" ٢٠/ ٧٩، "فتح القدير" ٥/ ٤٥٠.
(٢) "تهذيب اللغة" ١٤/ ٨٣ (دمم).
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٣٣٣ بنحوه.
(٤) "تهذيب اللغة" ١٤/ ٨١ (دمم).
(٥) سورة الشعراء: ٩٤، قال تعالى: ﴿فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ﴾.
(٦) ويجوز أن يكون في (أ)، وهو مكرر، وفي غير موضعه.
(٧) لم أعثر على مصدر لقوله.
(٨) في (ع): (وعمقهم).
69
﴿فَسَوَّاهَا﴾ فسوى الدمدمة عليهم، وعمهم بها، وذلك أن هلاكهم كان بصيحة جبريل، وتلك الصيحة أهلكتهم جميعًا فاستوت على صغيرهم، وكبيرهم، (قاله مقاتل (١)) (٢).
وقال ابن الأنباري: دمدم: غضب قال وتكون الدمدمة الكلام الذي يُزْعج الرجل. وأكثر (٣) (٤) المفسرين قالوا في: ﴿فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ﴾: أرجف الأرض بهم (٥). هذا كلامه.
ونحو ذلك روى ثعلب عن ابن الأعرابي في هذه الآية قال: دمدم: أرجف (٦)، (وهو قول الفراء: أرجف بهم (٧)) (٨). (٩)
وقوله: ﴿فَسَوَّاهَا﴾ قال الفراء: سوّى الأمة أنزل العذاب بصغيرها وكبيرهَا، بمعنى: سوَّى بينهم (١٠)، وهذا قول ثالث سوى القولين ذكرنا
(١) ورد معنى قوله في "تفسيره" ٢٤١ ب، "زاد المسير" ٨/ ٢٥٩ - ٢٦٠.
(٢) ساقط من (أ).
(٣) في (أ): (أكثر) بغير واو.
(٤) ممن قال بذلك: السجستاني في "نزهة القلوب" ص ٢٣٠، والفراء في "معاني القرآن" ٢/ ٢٦٩.
(٥) لم أعثر على نصه فيما بين يدي من كتب، وقد ورد في "تهذيب اللغة" ١٤/ ٨١ حاشية من نسخة م، أما الذي ورد عنه في متن "التهذيب" قال: أطبق عليهم العذاب، وانظر: "لسان العرب" ١٢/ ٢٠٩ (دمم).
(٦) "التفسير الكبير" ٣١/ ١٩٦.
(٧) "معاني القرآن" ٣/ ٢٦٩.
(٨) ما بين القوسين ساقط من (أ).
(٩) من قوله: (ومعنى الدم في اللغة..) إلى: (أرجف لهم)، قد أورده الفخر في: "التفسير الكبير" ٣١/ ١٩٦ بنصه نقلاً عن الواحدي.
(١٠) "معاني القرآن" ٣/ ٢٦٩.
70
هما في قوله: ﴿فَسَوَّاهَا﴾.
١٥ - قوله تعالى: ﴿وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾ قال ابن عباس (في رواية الوالبي) (١): لا يخاف الله من أحد تَبِعَةً في إهلاكهم (٢)، وهو قول الحسن، قال: ذلك الرب صنع بهم، ولا يخاف تَبِعَةَ (٣).
(وعلى هذا "الواو" في "ولا يخاف" في موضع حال.
المعنى: فسواها غير خائف عقباها، أي غير خائف أن يتعقب عليه في شيء مما فعله، وفاعل يخاف: الضمير العَائد إلى قولهم "ربهم") (٤)
وقال مقاتل: يعني لا يخاف عَاقر الناقة العقوبة من الله في عقرها (٥)، وهو قول الضحاك (٦)، والسدي (٧)،
(١) ما بين القوسين ساقط من (أ).
(٢) ورد قوله في "جامع البيان" ٣٠/ ٢١٥، "الكشف والبيان" ١٣/ ١٠١ ب، وبمعناه في "النكت والعيون" ٦/ ٢٨٥، و"معالم التنزيل" ٤/ ٤٩٤، و"المحرر الوجيز" ٥/ ٤٨٩، و"زاد المسير" ٨/ ٢٦٠، و"الجامع لأحكام القرآن" ٢٠/ ٧٩، "لباب التأويل" ٤/ ٣٨٣، و"البحر المحيط" ٨/ ٤٨٢، و"تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٥٥٣، و"صحيفة علي بن أبي طلحة" ص ٥٣٤.
(٣) المراجع السابقة، انظر: "الدر المنثور" ٥٣١، وعزاه إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، و"تفسير الحسن البصري" ٢/ ٤٢٤.
قال ابن عطية: وفي هذا المعنى احتقار للقوم وتعقبه لأثرهم، كما رجح هذا القول ابن كثير، والشوكاني في "فتح القدير" ٥/ ٤٥٠.
(٤) ما بين القوسين نقله الإمام الواحدي عن "الحجة" ٦/ ٤٢٠.
(٥) ورد معنى قوله في "تفسيره" ٢٤١ ب، "المحرر الوجيز" ٥/ ٤٨٩، "البحر المحيط" ٨/ ٤٨٢.
(٦) ورد معنى قوله في المرجعين السابقين، وأيضًا "جامع البيان" ٣٠/ ٢١٥، و"الكشف والبيان" ١٣/ ١٠١ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٤٩٤، و"زاد المسير" ٨/ ٢٦٠، "الجامع لأحكام القرآن" ٢٠/ ٨٠، "البحر المحيط" ٨/ ٤٨٢، "تفسير القرآن العظيم" ٤/ ٥٥٣، "الدر المنثور" ٨/ ٥٣١، "فتح القدير" ٥/ ٤٥٠.
(٧) ورد معنى قوله في المراجع السابقة، وانظر: "تفسير السدي" ص ٤٧٨.
71
(والكلبي (١)) (٢).
(وعلى هذا القول الآية منتظمة بقوله: "إذا انبعث اشقاها * ولا يخاف عقباها" أي لا يخاف من إقدامه على مَا أتاه مما نُهي عنه، ففاعل يخاف: العاقر) (٣).
والمعنى: عقبى عقرها، فحذف المضاف.
قال الفراء: حتى عقرها، ولم يخف عَاقبه عقرها، وفي مصاحف الشام والحجاز: "فلا يخاف" بالفاء (٤).
قال الفراء: وكلٌ صواب، قال و"الفاء" أجود في القول الأول، يعني أن يكون منتظمًا بقوله: ﴿فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ﴾ (٥).
(١) ورد معنى قوله في "الكشف والبيان" ١٣/ ١٠١ ب، و"معالم التنزيل" ٤/ ٤٩٤، و"زاد المسير" ٨/ ٢٦٠، و"الجامع لأحكام القرآن" ٢٠/ ٨٠، و"فتح القدير" ٥/ ٤٥٠.
(٢) ساقط من (أ).
(٣) ما بين القوسين نقله عن "الحجة" ٦/ ٤٢٠ بيسير من التصرف، وانظر التعليل في: "القراءات وعلل النحويين فيها" ٢/ ٧٨٠.
(٤) قرأ أبو جعفر، ونافع، وابن عامر: (فلا يخاف عُقباها) بالفاء، وكذلك في مصاحف أهل المدينة والشام، وقرأ الباقون: ﴿وَلَا يَخَافُ﴾ بالواو، وكذلك في مصاحفهم وهذا منتظم مع قول مقاتل، والضحاك، والسدي، والكلبي.
انظر: "كتاب السبعة في القراءات" ص ٦٨٩، و"القراءات وعلل النحويين فيها" ٢/ ٧٨٠، و"الحجة" ٦/ ٤٢٠، و"المبسوط" ٤١١، "حجة القراءات" ص ٧٦٦.
(٥) "معاني القرآن" ٣/ ٢٦٩ - ٢٧٠ بتصرف.
72
سورة الليل
73
Icon