بسم الله الرّحمن الرّحيم [به «١» الإعانة بدءا وختما، وصلّى الله على سيّدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلّم.
حدّثنا أبو منصور نصر مولى أحمد بن رسته، قال: حدّثنا أبو الفضل يعقوب بن يوسف بن معقل النّيسابورىّ، سنه إحدى وسبعين ومائتين، قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن الجهم بن هارون السّمّرىّ «٢»، سنة ثمان وستين ومائتين، قال] :
الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله وبارك وسلّم على محمد خاتم النبيين، وعلى آله، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين. وإياه نسأل التوفيق والصواب، وحسن الثواب، والعصمة من الخطايا والزّلل، فى القول والعمل. قال:
هذا كتاب فيه معانى القرآن، أملاه علينا أبو زكريا يحيى بن زياد الفرّاء- يرحمه الله- عن حفظه من غير نسخة، فى مجالسه أوّل النهار من أيام الثّلاثاوات والجمع فى شهر رمضان، وما بعده من سنة اثنتين، وفى شهور سنة ثلاث، وشهور من سنة أربع ومائتين. [قال «٣» ] :
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْجَهْمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ، قال:
تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه
أمّ الكتاب
قال: فأول ذلك اجتماع القراء وكُتّابِ المصاحف «٤» على حذف الألف من «بسم الله الرحمن الرّحيم»، [وفى فواتح الكتب، وإثباتهم الألف
وتشديد ثانيه وفتحه-: بلد بين واسط والبصرة.
ابن الجهم، وهو أبو الفصل يعقوب بن يوسف.
(٢) هذه النسبة إلى «سمر» - بكسر أوّله.
(٣) سقط فى أ. والقائل هو الراوي عن محمد.
(٤) بهامش نسخة أ: «الكتب».
وقد رأيت بعض الكتّاب تدعوه معرفته بهذا الموضع إلى أن يحذف الألف والسين من «اسم» لمعرفته بذلك، ولعلمه بأن القارئ لا يحتاج إلى علم ذلك. فلا تَحذِفنّ ألف «اسم» إذا أضفته إلى غير الله تبارك وتعالى، ولا تَحذِفَنّها مع غير الباء من الصفات «٤» وإن كانت تلك الصفةُ حرفًا واحدا، مثل اللام والكاف. فتقول: لاسم الله حلاوة في القلوب، وليس اسم كاسم الله فتثبت الألف في اللام وفي الكاف لانهما لم يستعملا كما استعملت الباء في اسم اللَّه. ومما كثر فِي كلام العرب فحذفوا منه أكثر من ذا قولهم: أيش عندك فحذفوا إعراب «٥» «أي» وإحدى ياءيه، وحذفت الهمزة من «شيء»، وكُسرت الشين وكانت مفتوحة في كثير من الكلام لا أُحْصِيه.
فإن قال قائل: إنما حذفنا الألف من «بسم الله» لأن الباء لا يُسكت عليها، فيجوز ابتداء الاسم بعدها. قيل له: فقد كتبت العرب في المصاحف وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا «٦» بالألف والواو لا يُسكت عليها في كثير من أشباهه. فهذا يبطل «٧» ما ادّعى.
(٢) آخر سورة الحاقة، وآية ٧٤ من الواقعة.
(٣) مابين المربعين فى أ.
(٤) الصفة عند الكوفيين حرف الجرّ والظرف.
(٥) يريد بإعراب الحرف حركته.
(٦) آية ٣٢ سورة الكهف، و ١٣ سورة يس. [.....]
(٧) فى ش: «تبطيل» ويبدو أنه تصحيف عما أثبتناه.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ... (٢)اجتمع القراء على رفع «الْحَمْدُ». وأما أهل البدو فمنهم من يقول: «الْحَمْدُ لِلَّهِ».
ومنهم من يقول: «الْحَمْدُ لِلَّهِ». ومنهم من يقول: «الْحَمْدُ لِلَّهِ» فيرفع الدال واللام.
فأما من نصب فإنه يقول: «الْحَمْدُ» ليس باسم إنما هو مصدر يجوز لقائله أن يقول: أحمد الله، فإذا صلح مكان المصدر (فعل أو يَفْعل) «١» جاز فيه النصب من ذلك قول الله تبارك وتعالى: «فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ» «٢» يصلح مكانها في مثله من الكلام أن يقول: فاضربوا الرقاب. ومن ذلك قوله:
«مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ» «٣» يصلح أن تقول في مثله من الكلام: نعوذ بالله. ومنه قول العرب: سَقْيًا لك، ورَعْيًا لك يجوز مكانه:
سقاك الله، ورعاك الله.
وأما من خفض الدال من «الْحَمْدُ» فإنه قال: هذه كلمة «٤» كثرت على ألسن العرب حتى صارت كالاسم الواحد فثقُل عليهم أن يجتمع في اسم واحد من كلامهم ضَمَّةٌ بعدها كسرة، أو كَسْرة بعدها ضمة، ووجدوا الكسرتين قد تجتمعان في الاسم الواحد مثل إِبِلٍ فكسروا الدال ليكون على المثال من أسمائهم.
(٢) آية ٤ سورة محمد.
(٣) آية ٧٩ سورة يوسف.
(٤) يريد جملة الحمدلة. وإطلاق الكلمة على الجملة مجاز.
ولا تُنْكرن أن يجعل الكلمتان كالواحدة إذا كثر بهما الكلام. ومن ذلك قول العرب: «بأَبَا» إنما هو «بِأَبِي» الْيَاءُ من المتكلم ليست من الأب فلما كثر بهما الكلام توهموا أنهما حرف واحد فصيروها ألفا ليكون على مثال:
حُبْلَى وسَكْرى وما أشبهه من كلام العرب. أنشدني أبو ثَرْوان:
قال الجواري ما ذَهَبْتَ مَذْهَبَا | وعِبْننِي ولم أكنُ مُعَيَّبَا |
هل أنت إلا ذاهب لتلعبا | أريت إن أعطيت نَهْدًا كَعْثَبَا «٢» |
أذاك أم نُعطيكَ هَيْدًا هَيْدَبَا «٣» | أَبْرَدَ في الظَّلماء من مَسِّ الصّبا |
لا، بل ذاكما يا بِيبا «٤» | أجدرُ «٥» ألا تَفْضَحَا وتَحْرَبَا |
(٢) يصف الركب (أي الفرج). والنهد: المرتفع المشرف ومنه نهد الثدي (كمنع ونصر) نهودا إذا كعب وارتفع وأشرف. وكعثب نهد: ناتى مرتفع فإن كان لا صقا فهو هيدب. والكعثب والكثعب: الكرب الضخم الممتلى الشاخص المكتنز الناتئ. والكعثب أيضا صاحبته يقال: امرأة كعثب وكثعب أي ضخمة الركب.
(٣) الهيد الهيدب: الذي فيه رخاوة مثل ركب العجائز المسترخى لكبرها.
(٤) «يا بيبا» أصله: يا بأبى، و «يا» للنداء المراد منه التنبيه، وقد تستعمل فى موضعه «وا» كقول الراجز:
وا بأبى أنت وفوك الأشنب
(٥) فى الأصول: «أحذر» وهو تصحيف. «وتحربا» : أي تغضبا. وحرب كفرح:
اشتدّ غضبه.
(٦) أعاد هذا الشطر ليتكلم على شىء فيه. يريد أن الغرض من الاستفهام النفي كقوله تعالى: «هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ».
فأما من رفع الهاء فإنه يقول: أصلها رفعٌ في نصبها وخفضها ورفعها فأما الرفع فقولهم: «هُم قالوا ذاك»، في الابتداء ألا ترى أنها مرفوعة لا يجوز فتحها ولا كسرها. والنصب في قولك: «ضربهم» مرفوعة «١» لا يجوز فتحها ولا كسرها فتركت في «عَلَيْهِمْ» على جهتها الأولى.
وأما من قال: «عَلَيْهِمْ» فإنه استثقل الضمة في الهاء وقبلها ياء ساكنة، فقال:
«عَلَيْهِمْ» لكثرة دور المكنى «٢» في الكلام. وكذلك يفعلون بها إذا اتصلت بحرف مكسور مثل «بهم» و «بهم»، يجوز فيه الوجهان مع الكسرة والياء «٣» الساكنة.
ولا تبال أن تكون الياء مفتوحا ما قبلها أو مكسورا فإذا انفتح ما قبل الياء فصارت ألفًا في اللفظ لم يُجْز في «هم» إلا الرفع مثل قوله تبارك وتعالى:
«وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ» «٤» ولا يجوز: «مولاهم الحق»، وقوله «فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ» «٥» لا يجوز: «فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ».
ومثله مما قالوا فيه بالوجهين إذا وليته «٦» ياء ساكنة أو كسرة، قوله:
«وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ» «٧» و «حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا» «٨» يجوز رفع الألف من «أم» و «أمها» وكسرها في الحرفين جميعا لمكان الياء. والكسرة مثل قوله تبارك وتعالى: «فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ» «٩»، وقول من رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أُوصى امْرَأً بأمه). فمن رفع قال: الرفع هو الأصل فى الأمّ
(٢) يريد بالمكنى: الضمير.
(٣) أي فى «عليهم». [.....]
(٤) آية ٣٠ سورة يونس.
(٥) آية ٩٠ سورة الأنعام.
(٦) كذا فى الأصول. والولي: القرب والاتصال من قبل ومن بعد، وإن اشتهر فيما يجىء بعد. فقوله: «وليته» أي اتصلت به، والمقام يقضى أنها اتصلت به قبله.
(٧) آية ٤ من سورة الزخرف.
(٨) آية ٥٩ سورة القصص.
(٩) آية ١١ سورة النساء.
وكذلك إذا كان ما قبلها حرفا مجزوما لم يكن في الأم إلا ضم الألف كقولك:
من أمه، وعن أمه. ألا ترى أنك تقول: عنهم ومنهم [واضربهم] «٢». ولا تقول:
عنهم ولا منهم، ولا اضربهم. فكل موضع حسن فيه كسر الهاء مثل قولهم: فيهم وأشباهها، جاز فيه كسر الألف من «أم» وهي قياسها. ولا يجوز أن تقول:
كتب إلى إِمه ولا على إِمه لأن الذي قبلها ألف في اللفظ وإنما هي ياء في الكتاب: «إلى» «٣» و «على». وكذلك: قد طالت يدا أُمه بالخير. ولا يجوز أن تقول: يدا إِمه. فإن قلت: جلس بين يدي أمِّه جاز كسرها وضمها لأن الذي قبلها ياء. ومن ذلك أن تقول: هم ضاربو أُمّهاتهم برفع الألف لا يكون غيره. وتقول: ما هم بضاربي أمهاتهم وإمهاتهم يجوز الوجهان جميعا «٤» لمكان الياء. ولا تُبال «٥» أن يكون ما قبل ألف «أم» موصولا بها «٦» أو منقطعا منها الوجهان يجوزان فيه تقول: هذه أم زيد وإِمُّ زيد. وإذا ابتدأتها لم تكن إلا مرفوعة، كما كانت «هُم» لا تكون إلا مرفوعة في الابتداء، فأما «هم» فلا تكسر إلا مع حرف يتصل بها لا يفرق بينه وبينها مثل «بهم».
(٢) زيادة اقتضاها السياق.
وقوله بعد: «ولا اضربهم».
(٣) فى أ: «مثل إلى».
(٤) «جميعا» ساقط من أ.
(٥) فى ج، ش: «يقال». وهو تحريف عما أثبت.
(٦) يريد الوصل والانقطاع فى الرسم والخط.
بخفض «غَيْرِ» لأنها نعت للذين، لا للهاء والميم من «عَلَيْهِمْ». وإنما جاز أن تكون «غَيْرِ» نعتًا لمعرفة لأنها قد أضيفت إلى اسم فيه ألف ولام، وليس بمصمودٍ «١» له ولا الأول أيضا بمصمود له، وهي في الكلام بمنزلة قولك: لا أمرّ إلا بالصادق غيرِ الكاذب كأنك تريد بمن يصدق ولا يكذب. ولا يجوز أن تقول: مررت بعبد الله غير الظريف إلا على التكرير لأن عبد الله موقّت «٢»، و «غَيْرِ» في مذهب «٣» نكرةٍ غير موقتة، ولا تكون نعتا إلا لمعرفة غير موقتة. «٤» والنصب جائز فى «غَيْرِ»، تجعله قطعا «٥» من «عَلَيْهِمْ». وقد يجوز أن تجعل «الَّذِينَ» قبلها في موضع توقيت، وتخفض «غَيْرِ» على التكرير: «صراط غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ».
(٢) يعنى كونه علما معينا معرّفا بالعلمية. [.....]
(٣) المذهب: مكان الذهاب يراد به الطريق. أي أن «غَيْرِ» فى طريق النكرة، وهذا كناية عن أنها نكرة.
(٤) قال المبرد: والفراء يأبى أن يكون «غَيْرِ» نعتا إلا للذين لأنها بمنزلة النكرة، وقال الأخفش: «غَيْرِ» بدل قال ثعلب: وليس بممتنع ما قال، ومعناه التكرير، كأنه أراد صراط غير المغضوب عليهم.
(٥) يريد بالقطع أنه منصوب حالا من الهاء فى «عَلَيْهِمْ» كأنه قيل:
أنعمت عليهم لا مغضوبا عليهم. وجوز أن يكون منصوبا بالاستثناء من «الَّذِينَ» أو من الضمير فى «عَلَيْهِمْ» أي إلا المغضوب عليهم.
فلان غير محسن ولا مُجْمِلٍ فإذا كانت «غَيْرِ» بمعنى سوى لم يجز أن تُكَرَّ عليها «لَا» ألا ترى أنه لا يجوز: عندي سوى عبد الله ولا زيد.
وقد قال بعض من «١» لا يعرف العربية: إن معنى «غَيْرِ» في «الْحَمْدُ» «٢» معنى «سوى»، وإن «لَا» صلة في الكلام، واحتَّج بقول الشاعر «٣» :
في بئرِ لا حُورٍ سرى وما شعر
وهذا [غير] جائز لأن المعنى وقع على ما لا يتبين فيه عمله، فهو جحد محض. وإنما يجوز أن تجعل «لَا» صلة إذا اتصلت بجَحْد قبلها مثل قوله:
ما كان يرضى رسول الله دينهم | والطيبان أبو بكر ولا عمر «٤» |
(٢) أي سورة الفاتحة. والحمد من أسمائها.
(٣) هو العجاج، من أرجوزة له طويلة يمدح بها عمر بن عبيد الله بن معمر، وكان عبد الملك بن مروان وجهه لقتال أبى فديك الحروري فأوقع به وبأصحابه. ومطلعها:
قد جبر الدين الإله فجبر | وعور الرحمن من ولى العور |
ويقال: فلان يعمل فى حور أي فى نقصان. وهذا على ما يرى أبو عبيدة. ويرى الفرّاء أن الحور الرجوع ولا للنفى، أي سرى فى بئر غير رجوع، أي بئر منسوبة إلى عدم الرجوع لأنها لا ترجع عليه بخير. والحور يأتى فى معنى النقصان ومعنى الرجوع، فأخذ أبو عبيدة بالأول، والفرّاء بالثاني. وانظر الخزانة ٢/ ٩٥ والبيت محرف فى الأصل والتصويب من ديوان العجاج.
(٤) من قصيدة لجرير فى هجو الأخطل. وانظر الديوان طبعة الصاوى ٢٦٣.
(٥) أي ما ردت شيئا من الدقيق، والمراد أنه لم يتبين لها أثر عمل كما قال المؤلف.