تفسير سورة يونس

تفسير المنار
تفسير سورة سورة يونس من كتاب تفسير المنار المعروف بـتفسير المنار .
لمؤلفه محمد رشيد رضا . المتوفي سنة 1354 هـ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ).
(الر) تُقْرَأُ هَذِهِ الْحُرُوفُ الثَّلَاثَةُ بِأَسْمَائِهَا سَاكِنَةً غَيْرَ مُعْرَبَةٍ هَكَذَا: أَلِفْ، لَامْ، رَا.
وَالْحَرْفُ الْأَخِيرُ غَيْرُ مَهْمُوزٍ. وَفَائِدَةُ النُّطْقِ بِهَا وَبِأَمْثَالِهَا هَكَذَا تَنْبِيهُ الَّذِينَ تُتْلَى عَلَيْهِمُ السُّورَةُ لِمَا بَعْدَهَا لِأَجْلِ الْعِنَايَةِ بِفَهْمِهِ حَتَّى لَا يَفُوتَهُمْ مِنْ سَمَاعِهِ شَيْءٌ، وَهِيَ أَقْوَى فِي هَذَا التَّنْبِيهِ مِنْ حَرْفِ الْهَاءِ الْمَوْضُوعِ لَهُ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ، وَمِنْ كَلِمَةِ ((أَلَا)) الِافْتِتَاحِيَّةِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
(تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) أَيْ تِلْكَ الْآيَاتُ الْبَعِيدَةُ الشَّأْوِ، الرَّفِيعَةُ الشَّأْنِ الَّتِي تَأَلَّفَتْ مِنْهَا هَذِهِ السُّورَةُ، أَوِ الْقُرْآنُ كُلُّهُ، هِيَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمَوْصُوفِ بِالْحِكْمَةِ فِي مَعَانِيهِ، وَالْأَحْكَامِ فِي مَبَانِيهِ، الْحَقِيقِ بِهِدَايَةِ مُتَدَبِّرِهِ وَوَاعِيهِ.
(أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ) الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعَجُّبِ مِنْ عَجَبِ الْكُفَّارِ وَاسْتِنْكَارِ إِنْكَارِهِمْ لِلْوَحْيِ إِلَى رَجُلٍ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَالْوَحْيُ الْإِعْلَامُ الْخَفِيُّ
الْخَاصُّ لِامْرِئٍ بِمَا يَخْفَى عَلَى غَيْرِهِ. أَيْ أَكَانَ إِيحَاؤُنَا إِلَى رَجُلٍ مِنَ النَّاسِ أَمْرًا نُكْرًا اتَّخَذُوهُ أُعْجُوبَةً بَيْنَهُمْ يَتَفَكَّهُونَ بِاسْتِغْرَابِهَا؟ كَأَنَّ مُشَارَكَتَهُمْ لَهُ فِي الْبَشَرِيَّةِ يَمْنَعُ اخْتِصَاصَ اللهِ إِيَّاهُ بِمَا شَاءَ مِنَ الْعِلْمِ.
وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ كُفَّارُ مَكَّةَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ فِي إِنْكَارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِالنَّاسِ لِأَنَّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ عَلَى الرِّسَالَةِ قَدْ سَبَقَتْهُمْ إِلَيْهَا أَقْوَامُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ نُوحٍ
وَهُوَ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ) (٧: ٦٣ و٦٩) وَهَذَا الْمَعْنَى مُكَرَّرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَقَدْ دَحَضْنَا هَذِهِ الشُّبْهَةَ فِي آخِرِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) ((أَنْ)) هَذِهِ مُفَسِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَالْإِنْذَارُ الْإِعْلَامُ بِالتَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ وَسَائِرِ مَقَاصِدِ الدِّينِ الْمُقْتَرِنِ بِالتَّخْوِيفِ مِنْ عَاقِبَةِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، أَيْ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ بِأَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ كَافَّةً (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) التَّبْشِيرُ مُقَابِلُ الْإِنْذَارِ، أَيِ الْإِعْلَامُ الْمُقْتَرِنُ بِالْبِشَارَةِ بِحُسْنِ الْجَزَاءِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَالْمَعْنَى وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ خَاصَّةً (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) يَجْزِيهِمْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ - وَالصِّدْقُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ ضِدُّ الْكَذِبِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْإِيمَانِ وَصِدْقِ النِّيَّةِ وَالْوَفَاءِ وَسَائِرِ مَوَاقِفِ الْفَضَائِلِ، وَمِنْهُ فِي التَّنْزِيلِ (مَقْعَدِ صِدْقٍ) (٥٤: ٥٥) وَ (مُدْخَلَ صِدْقٍ) (١٧: ٨٠) وَ (مُخْرَجَ صِدْقٍ) (١٧: ٨٠) وَ (قَدَمَ صِدْقٍ) وَالْقَدَمُ هَاهُنَا السَّابِقَةُ وَالتَّقَدُّمُ. قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ: سَابِقَةٌ وَمَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ سُمِّيَتْ قَدَمًا لِأَنَّ السَّبْقَ بِهَا كَمَا سُمِّيَتِ النِّعْمَةُ يَدًا لِأَنَّهَا تُعْطَى بِالْيَدِ، وَإِضَافَتُهَا إِلَى الصِّدْقِ لِتَحَقُّقِهَا، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَنَالُونَهَا بِصِدْقِ الْقَوْلِ وَالنِّيَّةِ (قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ) قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْكُوفِيُّونَ (لَسَاحِرٌ) يَعْنُونَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْبَاقُونَ (لَسِحْرٌ) وَيَعْنُونَ بِهِ الْقُرْآنَ، وَكُلًّا مِنَ الْقَوْلَيْنِ قَدْ قَالُوا، وَكُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ يُشِيرُ إِلَى إِثْبَاتِ رِسَالَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; فَإِنَّ قَوْلَهُمْ إِنَّ الْقُرْآنَ سِحْرٌ جَاءَ بِهِ سَاحِرٌ يَتَضَمَّنُ اعْتِرَافَهُمْ بِأَنَّهُمَا فَوْقَ الْمَعْهُودِ وَالْمَعْلُومِ لِلْبَشَرِ فِي عَالَمِ الْأَسْبَابِ الْمَقْدُورَةِ لَهُمْ، وَتَأْكِيدُ قَوْلِهِمْ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَإِنَّ وَاللَّامِ، وَبِوَصْفِ السِّحْرِ أَوِ
السَّاحِرِ بِالْمُبِينِ الظَّاهِرِ يُفِيدُ الْحَصْرَ كَقَوْلِ الْوَلِيدِ (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) يَعْنِي الْقُرْآنَ. وَسَمَّوْهُ سِحْرًا لِأَنَّهُ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ بِقُوَّةِ تَأْثِيرِهِ فِي الْقُلُوبِ وَجَذْبِهِ لِلنُّفُوسِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَحَمْلِهَا عَلَى احْتِقَارِ الْحَيَاةِ وَلَذَّاتِهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، حَتَّى إِنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَأَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَزَوْجِهِ وَبَنِيهِ، وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ، وَتَمْنَعُهُ وَتَحْمِيهِ. وَإِنَّمَا السِّحْرُ مَا كَانَ بِأَسْبَابٍ خَفِيَّةٍ خَاصَّةٍ بِبَعْضِ النَّاسِ يَتَعَلَّمُهَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَهِيَ إِمَّا حِيَلٌ وَشَعْوَذَةٌ، وَإِمَّا خَوَاصُّ طَبِيعِيَّةٌ عِلْمِيَّةٌ مَجْهُولَةٌ لِلْجَمَاهِيرِ، وَإِمَّا تَأْثِيرُ قُوَى النَّفْسِ وَتَوْجِيهُ الْإِرَادَةِ، وَكُلُّهَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْكَثِيرِينَ مِنَ الْعَارِفِينَ بِهَا وَقَدِ اسْتَبَانَ لِعَامَّةِ الْعَرَبِ ثُمَّ لِغَيْرِهِمْ مِنْ شُعُوبِ الْعَجَمِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِسِحْرٍ يُؤْثَرُ بِالتَّعْلِيمِ وَالصِّنَاعَةِ، بَلْ هُوَ مَجْمُوعَةُ عُلُومٍ عَالِيَةٍ فِي الْعَقَائِدِ وَالْآدَابِ وَالتَّشْرِيعِ وَالِاجْتِمَاعِ مُرَقِّيَةٌ لِلْعُقُولِ، مُزَكِّيَةٌ لِلْأَنْفُسِ، مُصْلِحَةٌ لِلنَّاسِ، وَأَنَّهُ مُعْجِزٌ لِلْبَشَرِ فِي أُسْلُوبِهِ وَنَظْمِهِ وَمَعَانِيهِ وَهِدَايَتِهِ وَتَشْرِيعِهِ وَإِخْبَارِهِ
119
بِالْغَيْبِ (١) وَأَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُبَلِّغٌ لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِيَقْدِرَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْهُ غَيْرُهُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ نَبِيُّ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ وَحْيٌ مِنْهُ تَعَالَى.
وَقَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ الْوَحْيِ لُغَةً وَشَرْعًا، وَإِثْبَاتَهُ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَوَاضِعَ: مِنْهَا مَا فِي بَحْثِ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِي (ص ١٨١ - ١٨٢ ج ١ ط الْهَيْئَةِ) وَمِنْهَا تَفْسِيرُ (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ) (٤: ١٦٣) الْآيَةَ. وَهُوَ فِي (ص ٥٥ وَمَا بَعْدَهَا ج ٦ ط الْهَيْئَةِ). وَمِنْهَا رَدُّ شُبَهَاتِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ (ص ٢٥٨ - ٢٦٧ ج ٧ ط الْهَيْئَةِ) وَمِنْهَا فِي خُلَاصَتِهِمَا (ص ٢٤٢ - ٢٤٧ ج ٨ ط الْهَيْئَةِ) وَمِنْهَا تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ بِمُنَاسَبَةِ تَكْلِيمِ اللهِ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ (ص ١٥٤ وَمَا بَعْدَهَا ج ٩ ط الْهَيْئَةِ) وَبَقِيَ عَلَيْنَا بَسْطُ الْقَوْلِ فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ مَعَ مُثْبِتِي الْوَحْيِ وَنُفَاتِهِ، وَشُبْهَةُ النُّفَاةِ لِعَالَمِ الْغَيْبِ عَلَيْهَا وَتَصْوِيرُهُمْ لِلْوَحْيِ إِلَيْهِ بِغَيْرِ صُورَتِهِ، فَنَعْقِدُ لَهُ الْفَصْلَ التَّالِيَ:
فَصْلٌ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى مُثْبِتِي الْوَحْيِ وَنُفَاتِهِ
(فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)
الْكَلَامُ فِي الْوَحْيِ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ مُثْبِتِي الْوَحْيِ:
أَمَّا الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ فَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَإِنَّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى كُتُبِهِمُ الْمُقَدَّسَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِكُتُبِ الْعَهْدَيْنِ الْعَتِيقِ وَالْجَدِيدِ، وَعَلَى الْقُرْآنِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ وَالسِّيرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَلِمَ عِلْمًا عَقْلِيًّا وِجْدَانِيًّا أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُؤْمِنَ إِيمَانًا عِلْمِيًّا بِأَنَّ تِلْكَ كُتُبُ وَحْيٍ مِنَ اللهِ، وَأَنَّ الَّذِينَ كَتَبُوهَا أَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ فِيمَا كَتَبُوهُ، ثُمَّ لَا يُؤْمِنُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنَ اللهِ وَأَنَّ مُحَمَّدًا نَبِيٌّ مَعْصُومٌ فِيمَا بَلَّغَهُ عَنِ اللهِ تَعَالَى، كَمَا لَا يَسْتَطِيعُ فَقِيهٌ أَنْ يُنْكِرَ فِقْهَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ، وَلَا نَحْوِيٌّ أَنْ يَجْحَدَ نَحْوَ سِيبَوَيْهِ وَابْنِ جِنِّيٍّ، وَلَا شَاعِرٌ أَنْ يَنْفِيَ شَاعِرِيَّةَ الرَّضِيِّ وَالْبُحْتُرِيِّ، بَلْ كَمَا لَا يَسْتَطِيعُ بَصِيرٌ أَنْ يُكَابِرَ حِسَّهُ فَيُفَضِّلَ نُورَ الْقَمَرِ وَالْكَوْكَبِ عَلَى ضَوْءِ الشَّمْسِ، أَوْ نُورَ السِّرَاجِ عَلَى نُورِ النَّهَارِ، وَلِلَّهِ دَرُّ الْبُوصِيرِيِّ حَيْثُ قَالَ:
اللهُ أَكْبَرُ إِنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ وَكِتَابَهُ أَقْوَى وَأَقْوَمُ قِيلًا
لَا تَذْكُرُوا الْكُتُبَ السَّوَالِفَ عِنْدَهُ
طَلَعَ الصَّبَاحُ فَأَطْفِئِ الْقِنْدِيلَا
وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَعْنَى عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ الَّذِينَ نَشَئُوا فِي النَّصْرَانِيَّةِ وَأَحَاطُوا بِهَا عِلْمًا وَخَبَرًا، ثُمَّ عَرَفُوا الْإِسْلَامَ مَعْرِفَةً صَحِيحَةً وَلَوْ غَيْرَ تَامَّةٍ. وَهَاكَ شَهَادَةً حَدِيثَةً لِعَالِمٍ مُسْتَشْرِقٍ مِنْهُمْ.
120
كَتَبَ الْأُسْتَاذُ إِدْوَارْ مُونْتِيهِ الْمُسْتَشْرِقُ مُدَرِّسُ اللُّغَاتِ الشَّرْقِيَّةِ فِي مَدْرَسَةِ جِنِيفَ الْجَامِعَةِ فِي مُقَدِّمَةِ تَرْجَمَتِهِ الْفَرَنْسِيَّةِ لِلْقُرْآنِ مَا تَرْجَمْتُهُ بِالْعَرَبِيَّةِ.
((كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا صَادِقًا كَمَا كَانَ أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْقَدِيمِ، كَانَ مِثْلُهُمْ يُؤْتَى رُؤْيَا وَيُوحَى إِلَيْهِ، وَكَانَتِ الْعَقِيدَةُ الدِّينِيَّةُ وَفِكْرَةُ وُجُودِ الْأُلُوهِيَّةِ مُتَمَكِّنَتَيْنِ فِيهِ كَمَا كَانَتَا مُتَمَكِّنَتَيْنِ فِي أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ أَسْلَافِهِ، فَتُحْدِثُ فِيهِ كَمَا كَانَتْ تُحْدِثُ فِيهِمْ
ذَلِكَ الْإِلْهَامَ النَّفْسِيَّ، وَهَذَا التَّضَاعُفُ فِي الشَّخْصِيَّةِ اللَّذَيْنِ يُحْدِثَانِ فِي الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ الْمَرَائِيَ، وَالتَّجَلِّيَاتِ، وَالْوَحْيَ، وَالْأَحْوَالَ الرُّوحِيَّةَ الَّتِي مِنْ بَابِهَا)) اهـ.
فَهَذَا الْعَالِمُ الْأُورُبِّيُّ الْمُسْتَقِلُّ الْفِكْرِ يَقُولُ: إِنَّ كُلَّ مَا كَانَ بِهِ أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْبِيَاءَ كَانَ ثَابِتًا لِمُحَمَّدٍ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ جَمِيعَ خَصَائِصِ النُّبُوَّةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ هِيَ أَكْمَلُ شَكْلًا وَمَوْضُوعًا وَأَصَحُّ رِوَايَةً وَأَبْعَدُ عَنِ الشُّبَهَاتِ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ، وَأَمَّا مَا فُسِّرَ بِهِ هَذِهِ الْخَصَائِصُ فَهُوَ التَّعْلِيلُ الَّذِي يُعَلِّلُ بِهِ الْمَادِّيُّونَ الْوَحْيَ الْمُطْلَقَ، وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْفَصْلِ.
وَقَدْ لَخَّصَ هَذَا الْعَالِمُ خَبَرَ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ كُتُبٍ إِسْلَامِيَّةٍ مُذْعِنًا لِصِحَّةِ رِوَايَتِهَا وَفَصَّلَهَا بَعْدَهُ الْعَالِمُ الْمُسْتَشْرِقُ الْفَرَنْسِيُّ إِمِيلْ دِرِمْنِغَامْ فِي كِتَابِهِ (حَيَاةُ مُحَمَّدٍ) مُذْعِنًا لِصِحَّةِ الرِّوَايَةِ وَلِمَوْضُوعِهَا مُفَصِّلًا نُبُوَّتَهُ فِي إِصْلَاحِ الْبَشَرِ، مُتَمَنِّيًا الِاتِّفَاقَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالنَّصَارَى، آسِفًا لِلشِّقَاقِ بَيْنَهُمْ.
وَإِنَّنَا نَنْقُلُ هُنَا تَعْرِيفَ الْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْآيَاتِ (الْعَجَائِبِ) عَنْ أَحَدِ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْجَامِعِينَ بَيْنَ الْعُلُومِ الْعَصْرِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ وَالتَّوَارِيخِ وَهُوَ الدُّكْتُورُ جُورْجُ بُوسْتِ الشَّهِيرُ مُؤَلِّفُ كِتَابِ (قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ) بِالْعَرَبِيَّةِ ; لِيَبْنِيَ عَلَيْهَا الْبَاحِثُ الْمُسْتَقِلُّ الْعَقْلِ حُكْمَهُ فِي نُبُوَّةِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَوُحْيِهِمْ، وَنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَالْوَحْيِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ.
تَعْرِيفُ الْوَحْيِ عِنْدَهُمْ
جَاءَ فِي تَفْسِيرِ كَلِمَةِ ((وَحْيٍ)) مِنْ قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ مَا نَصُّهُ مَعَ حَذْفِ رُمُوزِ الشَّوَاهِدِ:
((تُسْتَعْمَلُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى نُبُوَّةٍ خَاصَّةٍ بِمَدِينَةٍ أَوْ شَعْبٍ، وَجَاءَ فِي (حَزَّ ١٢: ١) وَهَذَا الْوَحْيُ هُوَ الرَّئِيسُ)) أَيْ أَنَّهُ آيَةٌ لِلشَّعْبِ. وَعَلَى الْعُمُومِ يُرَادُ بِالْوَحْيِ الْإِلْهَامُ. وَعَلَى ذَلِكَ
121
يُقَالُ: ((إِنَّ كُلَّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ)) وَالْوَحْيُ بِهَذَا الْمَعْنَى هُوَ حُلُولُ رُوحِ
اللهِ فِي رُوحِ الْكُتَّابِ الْمُلْهَمِينَ وَذَلِكَ عَلَى أَنْوَاعٍ.
(١) إِفَادَتُهُمْ بِحَقَائِقَ رُوحِيَّةٍ أَوْ حَوَادِثَ مُسْتَقْبَلَةٍ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُهُمُ التَّوَصُّلُ إِلَيْهَا إِلَّا بِهِ.
(٢) إِرْشَادُهُمْ إِلَى تَأْلِيفِ حَوَادِثَ مَعْرُوفَةٍ أَوْ حَقَائِقَ مُقَرَّرَةٍ، وَالتَّفَوُّهُ بِهَا شِفَاهًا أَوْ تَدْوِينُهَا كِتَابَةً بِحَيْثُ يُعْصَمُونَ مِنَ الْخَطَأِ فَيُقَالُ ((تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ)) وَهُنَا لَا يَفْقِدُ الْمُتَكَلِّمُ أَوِ الْكَاتِبُ شَيْئًا مِنْ شَخْصِيَّتِهِ وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الرُّوحُ الْإِلَهِيُّ بِحَيْثُ يَسْتَعْمِلُ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْقُوَى وَالصِّفَاتِ وَفْقَ إِرْشَادِهِ تَعَالَى. وَلِهَذَا تَرَى فِي كُلِّ مُؤَلِّفٍ مِنَ الْكُتَّابِ الْكِرَامِ مَا امْتَازَ بِهِ مِنَ الْمَوَاهِبِ الطَّبِيعِيَّةِ وَنَمَطِ التَّأْلِيفِ وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ، وَفِي شَرْحِ هَذَا التَّعْلِيمِ دِقَّةٌ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا أَوْرَدُوهُ مِنْ شَرْحِهِ، غَيْرَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَسِيحِيِّينَ يَتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللهَ قَدْ أَوْحَى لِأُولَئِكَ الْكُتَّابِ لِيُدَوِّنُوا إِرَادَتَهُ وَيُفِيدُوا الْإِنْسَانَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ لِكَيْ يَنَالَ الْخَلَاصَ الْأَبَدِيَّ)) اهـ.
تَعْرِيفُ النُّبُوَّةِ وَالْأَنْبِيَاءِ عِنْدَهُمْ
وَجَاءَ فِي تَفْسِيرِ ((نَبِيٍّ. أَنْبِيَاءَ. نُبُوَّةٍ)) مِنْهُ مَا نَصُّهُ:
((النُّبُوَّةُ لَفْظَةٌ تُفِيدُ مَعْنَى الْإِخْبَارِ عَنِ اللهِ وَعَنِ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَلَا سِيَّمَا عَمَّا سَيَحْدُثُ فِيمَا بَعْدُ.
وَسُمِّي هَارُونُ نَبِيًّا ; لِأَنَّهُ كَانَ الْمُخْبِرَ وَالْمُتَكَلِّمَ عَنْ مُوسَى نَظَرًا لِفَصَاحَتِهِ. أَمَّا أَنْبِيَاءُ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ فَكَانُوا يُنَادُونَ بِالشَّرِيعَةِ الْمُوسَوِيَّةِ، وَيُنَبِّئُونَ بِمَجِيءِ الْمَسِيحِ. وَلَمَّا قَلَّتْ رَغْبَةُ الْكَهَنَةِ وَقَلَّ اهْتِمَامُهُمْ بِالتَّعْلِيمِ وَالْعِلْمِ فِي أَيَّامِ صَمُوئِيلَ أَقَامَ مَدْرَسَةً فِي الرَّامَّةِ وَأَطْلَقَ عَلَى تَلَامِذَتِهَا اسْمَ بَنِي الْأَنْبِيَاءِ فَاشْتُهِرَ مِنْ ثَمَّ صَمُوئِيلُ بِإِحْيَاءِ الشَّرِيعَةِ وَقُرِنَ اسْمُهُ بَاسِمِ مُوسَى وَهَارُونَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْكِتَابِ، وَتَأَسَّسَتْ أَيْضًا مَدَارِسُ أُخْرَى لِلْأَنْبِيَاءِ فِي بَيْتِ أُبَلَّ وَأَرِيحَا وَالْجَلْجَالِ وَأَمَاكِنَ أُخْرَى. وَكَانَ رَئِيسُ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ يُدْعَى أَبًا أَوْ سَيِّدًا، وَكَانَ يُعَلِّمُ فِي هَذِهِ الْمَدَارِسِ تَفْسِيرَ التَّوْرَاةِ وَالْمُوسِيقَى وَالشِّعْرَ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْأَنْبِيَاءُ شُعَرَاءَ وَأَغْلَبُهُمْ كَانُوا يُرَنِّمُونَ وَيَلْعَبُونَ عَلَى آلَاتِ الطَّرَبِ. وَكَانَتِ الْغَايَةُ مِنْ هَذِهِ الْمَدَارِسِ أَنْ يُرَشَّحَ الطَّلَبَةُ فِيهَا لِتَعْلِيمِ الشَّعْبِ.
أَمَّا مَعِيشَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَبَنِي الْأَنْبِيَاءِ فَكَانَتْ سَاذَجَةً لِلْغَايَةِ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ كَانُوا مُتَنَسِّكِينَ أَوْ طَوَّافِينَ يُضَافُونَ عِنْدَ الْأَتْقِيَاءِ.
((وَيَظْهَرُ أَنَّ كَثِيرِينَ مِنَ الَّذِينَ تَعَلَّمُوا فِي تِلْكَ الْمَدَارِسِ لَمْ يُعْطُوا قُوَّةً عَلَى الْإِنْبَاءِ بِمَا سَيَأْتِي، إِنَّمَا اخْتُصَّ بِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ أُنَاسٌ مِنْهُمْ كَانَ اللهُ يُقَيِّمُهُمْ وَقْتًا دُونَ آخَرَ حَسَبَ مَشِيئَتِهِ، وَيَعِدُهُمْ بِتَرْبِيَةٍ فَوْقَ الْعَادَةِ لِوَاجِبَاتِهِمُ الْخَطِيرَةِ. عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُلْهَمِينَ كَانَ يَخُصُّهُمُ اللهُ بِوَحْيِهِ وَلَمْ يَتَعَلَّمُوا مِنْ قَبْلُ وَلَا دَخَلُوا تِلْكَ الْمَدَارِسَ كَعَامُوسَ مَثَلًا فَإِنَّهُ كَانَ رَاعِيًا وَجَانِيَ
122
جُمَّيْزٍ. أَمَّا النُّبُوَّةُ فَكَانَتْ عَلَى أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ كَالْأَحْلَامِ وَالرُّؤَى وَالتَّبْلِيغِ، وَأَحْيَانًا كَثِيرَةً كَانَ الْأَنْبِيَاءُ يَرَوْنَ الْأُمُورَ الْمُسْتَقْبَلَةَ بِدُونِ تَمْيِيزِ أَزْمِنَتِهَا، فَكَانَتْ تَقْتَرِنُ فِي رُؤَاهُمُ الْحَوَادِثُ الْقَرِيبَةُ الْعَهْدِ مَعَ الْبَعِيدَةِ كَاقْتِرَانِ نَجَاةِ الْيَهُودِ مِنَ الْآشُورِيِّينَ بِخَلَاصِ الْعَالِمِ بِوَاسِطَةِ الْمَسِيحِ، وَكَانْتِصَارِ إِسْكَنْدَرَ ذِي الْقَرْنَيْنِ بِإِتْيَانِ الْمَسِيحِ، وَكَاقْتِرَانِ انْسِكَابِ الرُّوحِ الْقُدُسِ يَوْمَ الْخَمِيسِ بِيَوْمِ الْحَشْرِ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ اقْتِرَانُ خَرَابِ أُورْشَلِيمَ بِحَوَادِثِ يَوْمِ الدَّيْنُونَةِ.
((وَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ الْأَنْبِيَاءَ الْمُلْهَمِينَ لِيُعْلِنُوا مَشِيئَتَهُ وَلِيُصْلِحُوا الشُّئُونَ الدِّينِيَّةَ، وَعَلَى الْأَخَصِّ لِيُخْبِرُوا بِالْمَسِيحِ الْآتِي لِتَخْلِيصِ الْعَالَمِ، وَكَانُوا الْقُوَّةَ الْعَظِيمَةَ الْفَعَّالَةَ فِي تَعْلِيمِ الشَّعْبِ وَتَنْبِيهِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ، وَكَانَ لَهُمْ دَخْلٌ عَظِيمٌ فِي الْأُمُورِ السِّيَاسِيَّةِ انْتَهَى بِنَصِّهِ.
مَا يَرِدُ عَلَى نُبُوَّتِهِمْ مِنْ تَعْرِيفِهَا:
أَمَّا تَفْسِيرُ الْإِلْهَامِ بِحُلُولِ رُوحِ اللهِ فِي رُوحِ الْمُلْهَمِ فَهُوَ تَحَكُّمٌ لِلنَّصَارَى لَا يَعْرِفُهُ وَلَا يَعْتَرِفُ بِهِ أَنْبِيَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا عُلَمَاؤُهُمْ. وَلَا يُمْكِنُهُمْ إِثْبَاتُهُ وَلَا دَفْعُ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ وُقُوعِ التَّعَارُضِ وَالتَّنَاقُضِ وَالْخُلْفِ فِيمَا كَتَبَهُ أُولَئِكَ الْمُلْهَمُونَ وَمَا خَالَفُوا فِيهِ الْوَاقِعَ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ فَى شَرْحِ ذَلِكَ التَّعْلِيمِ دِقَّةً وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي شَرْحِهِ إِلَخْ، وَمَنْ حَلَّ فِيهِ رُوحُ اللهِ صَارَ إِلَهًا ; إِذًا الْمَسِيحُ لَمْ يَكُنْ إِلَهًا عِنْدَ النَّصَارَى إِلَّا بِهَذَا الْحُلُولِ، فَكَيْفَ يَقَعُ فِي مِثْلِ مَا ذُكِرَ وَيَتَخَلَّفُ وَحْيُهُ أَوْ يُخَالِفُ الْوَاقِعَ؟
وَأَمَّا كَلَامُهُ فِي النُّبُوَّةِ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَا يَأْتِي:
(١) إِنَّ أَكْثَرَ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا يَتَخَرَّجُونَ فِي مَدَارِسَ خَاصَّةٍ بِهِمْ يَتَعَلَّمُونَ فِيهَا تَفْسِيرَ شَرِيعَتِهِمُ التَّوْرَاةَ وَالْمُوسِيقَى وَالشِّعْرَ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا شُعَرَاءَ وَمُغَنِّينَ وَعَزَّافِينَ عَلَى آلَاتِ الطَّرَبِ، وَبَارِعِينَ فِي كُلِّ مَا يُؤَثِّرُ فِي الْأَنْفُسِ وَيُحَرِّكُ الشُّعُورَ
وَالْوِجْدَانَ، وَيُثِيرُ رَوَاكِدَ الْخَيَالِ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يَكُونَ عِزْرَا وَنَحْمِيَا مِنْ أَعْظَمِ أَنْبِيَائِهِمْ سَاقِيَيْنِ مِنْ سُقَاةِ الْخَمْرِ لِمَلِكِ بَابِلَ (أَرْتَحْشَشْتَا) وَمُغَنِّيَيْنِ لَهُ، وَأَنْ يَكُونَا قَدِ اسْتَعَانَا بِتَأْثِيرِ غِنَائِهِمَا فِي نَفْسِهِ عَلَى سَمَاحِهِ لَهُمَا بِالْعَوْدَةِ بِقَوْمِهِمَا إِلَى وَطَنِهِمَا وَإِقَامَةِ دِينِهِمَا فِيهِ.
فَالنُّبُوَّةُ عَلَى هَذَا كَانَتْ صِنَاعَةً تُعَلَّمُ مَوَادُّهَا فِي الْمَدَارِسِ وَيُسْتَعَانُ عَلَى الْإِقْنَاعِ بِهَا بِالتَّخْيِيلَاتِ الشِّعْرِيَّةِ وَالْإِلْهَامَاتِ الْكَلَامِيَّةِ، وَالْمُؤَثِّرَاتِ الْغِنَائِيَّةِ وَالْمُوسِيقِيَّةِ. وَالْمَعْلُومَاتِ الْمُكْتَسَبَةِ فَأَيْنَ هِيَ مِنْ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ الْأُمِّيِّ الَّذِي لَمْ يَتَعَلَّمْ شَيْئًا وَلَمْ يَقُلْ شِعْرًا، وَقَدْ جَاءَ بِأَعْظَمِ مِمَّا جَاءُوا بِهِ كُلُّهُمْ؟
(٢) إِنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَوْلَادِهِمْ كَانُوا مُتَنَسِّكِينَ أَوْ طَوَّافِينَ عَلَى النَّاسِ يَعِيشُونَ ضُيُوفًا عِنْدَ الْأَتْقِيَاءِ الْمُحِبِّينَ لِرِجَالِ الدِّينِ كَمَا هُوَ مِنْ دَرَاوِيشِ الْمُتَصَوِّفَةِ أَهْلِ
123
الطُّرُقِ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَقْبَلُونَ مِنْ رِجَالِ التَّنَسُّكِ كُلَّ مَا يَقُولُونَ، وَيُسَلِّمُونَ لَهُمْ مَا يَدَّعُونَ، وَيُذِيعُونَ عَنْهُمْ كُلَّ مَا يَقْبَلُونَ مِنْهُمْ، وَمِنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ الْكَثِيرِينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ نَقَلَتْ عَنْهُمْ كُتُبُهُمُ الْمُقَدَّسَةُ بَعْضَ كَبَائِرِ الْمَعَاصِي، وَإِنَّ مِنْ أَخْبَارِ الصُّوفِيَّةِ وَالنُّسَّاكِ وَالسُّيَّاحِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ تَفْضُلُ سِيرَتُهُمْ سِيرَةَ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ فِي كُتُبِهِمْ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَرْتَفِعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَى دَرَجَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَشْأَتِهِ الْفِطْرِيَّةِ وَمَعِيشَتِهِ مِنْ كَسْبِهِ، وَكَوْنِهِ لَمْ يَكُنْ عَالَةً عَلَى النَّاسِ فِي شَيْءٍ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَلَا بَعْدَهَا.
(٣) أَشْهَرُ أَنْوَاعِ نَبُّوتِهِمُ الْأَحْلَامُ وَالرُّؤَى الْمَنَامِيَّةُ وَالتَّخَيُّلَاتُ الْمُبْهَمَةُ وَكُلُّهَا تَقَعُ لِغَيْرِهِمْ، وَقَدْ كَانَتِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ مَبْدَأَ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ وَحْيِ التَّشْرِيعِ الَّذِي كَانَ لَهُ صُوَرٌ أَعْلَى مِنْهَا سَنُبَيِّنُهَا بَعْدُ. وَالرُّؤَى: صُوَرٌ حِسِّيَّةٌ فِي الْخَيَالِ تَذْهَبُ الْآرَاءُ وَالْأَفْكَارُ فِي تَعْبِيرِهَا مَذَاهِبَ شَتَّى قَلَّمَا يَعْرِفُ تَأْوِيلَ الصَّادِقِ مِنْهَا غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ كَرُؤْيَا مَلِكِ مِصْرَ الَّتِي عَبَرَهَا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَرُؤْيَاهُ هُوَ فِي صِغَرِهِ.
(٤) إِنَّ نُبُوَّةَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَهِيَ الَّتِي يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى كَوْنِهِمْ مُخْبَرِينَ عَنِ اللهِ تَعَالَى كَانَتْ أَحْيَانًا كَثِيرَةً بِدُونِ تَمْيِيزِ أَزْمِنَتِهَا وَلَا حَوَادِثِهَا: فَكَانَ بَعْضُهَا يَخْتَلِطُ بِبَعْضٍ فَلَا يَكَادُ يَظْهَرُ الْمُرَادُ مِنْهَا إِلَّا بَعْدَ حَمْلِهَا عَلَى شَيْءٍ وَاضِحٍ بَعْدَ وُقُوعِهِ كَمَا يُعْهَدُ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنْ أَخْبَارِ الْعَرَّافِينَ وَالْمُنَجِّمِينَ، بَلْهَ الرُّوحَانِيِّينَ الْمُكَاشِفِينَ،
وَمِنْهَا مَا ظَهَرَ خِلَافُهُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ وَلَمْ يَشْرَحْهُ وَلَكِنَّ التَّارِيخَ شَرَحَهُ. وَكَانَ أَعْظَمُ نُبُوَّاتِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ إِخْبَارَهُمْ عَنِ الْمَسِيحِ (مِسْيَا) وَمُلْكِ إِسْرَائِيلَ ثُمَّ إِخْبَارَ الْمَسِيحِ نَفْسِهِ عَنْ خَرَابِ الْعَالَمِ وَمَجِيءِ الْمَلَكُوتِ لِأَجْلِ دَيْنُونِيَّةِ الْعَالَمِ، وَأَنَّهُ لَا يَنْقَضِي الْجِيلُ الَّذِي خَاطَبَهُ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ كُلُّهُ. وَقَدْ مَرَّ أَجْيَالٌ كَثِيرَةٌ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ.
امْتِيَازُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَى نُبُوَّةٍ مَنْ قَبْلَهُ:
فَأَنَّى تُضَاهِئُ هَذِهِ الْأَخْبَارَ (النُّبُوَّاتِ)، وَهِيَ كَمَا عَلِمْتَ - أَنْبَاءُ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةُ بِالْمُغَيَّبَاتِ كَالَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي خُلَاصَةِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ السَّابِقَةِ مِمَّا وَقَعَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَمَا هُوَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرُّومِ (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) الْآيَاتِ (١ - ٤) وَقَوْلُهُ: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) (٢٤: ٥٥) وَأَيْنَ هِيَ مِنْ إِنْبَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ بِأَنَّهُمْ سَيَفْتَحُونَ بَعْدَهُ بِلَادَ الشَّامِ وَبِلَادَ الْفُرْسِ وَمِصْرَ وَسَيَسْتَوْلُونَ عَلَى مُلْكِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ حَتَّى إِنَّهُ سَمَّى كِسْرَى عَصْرَهُ بِاسْمِهِ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ إِلَخْ؟
هَذَا مَا يُقَالُ بِالْإِجْمَالِ عَلَى أَحَدِ مَوْضُوعَيِ النُّبُوَّةِ وَهُوَ الْإِخْبَارُ عَمَّا سَيَكُونُ فِي مُسْتَقْبَلِ
124
الزَّمَانِ، فَمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهَا فِي وَحْيِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ أَظْهَرُ وَأَوْضَحُ وَأَبْعَدُ عَنِ احْتِمَالِ التَّأْوِيلِ، وَأَعْصَى عَلَى إِنْكَارِ الْمُرْتَابِينَ، وَيَزِيدُ عَلَيْهِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ الْمَاضِيَةِ، وَسَأَذْكُرُ مَا يَتَأَوَّلُهُ بِهِ الْجَاحِدُونَ لِلنُّبُوَّةِ وَالْوَحْيِ فِي بَيَانِ بُطْلَانِ شُبْهَتِهِمْ.
وَأَمَّا الْمَوْضُوعُ الثَّانِي لِلنُّبُوَّةِ وَهُوَ الْأَهَمُّ الْأَعْظَمُ أَيْ عَقَائِدُ الدِّينِ وَعِبَادَاتُهُ وَآدَابُهُ وَأَحْكَامُهُ فَالنَّظَرُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ (أَحَدُهُمَا) مَا ذَكَرُوهُ مَنْ كَوْنِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ عَقْلُ مَنْ جَاءَ بِهِ وَفِكْرُهُ وَلَا عُلُومُهُ وَمَعَارِفُهُ الْكَسْبِيَّةُ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ (وَثَانِيهِمَا) أَنْ يَكُونَ مَا فِيهِ مِنْ هِدَايَةِ النَّاسِ وَصَلَاحِ أُمُورِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ أَعْلَى فِي نَفْسِهِ مِنْ مَعَارِفِ الْبَشَرِ فِي عَصْرِهِ، فَيَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ وَحْيًا.
فَأَمَّا الْأَوَّلُ الْخَاصُّ بِشَخْصِ الرَّسُولِ فَإِنَّ الْعَاقِلَ الْمُسْتَقِلَّ الْمُفَكِّرَ إِذَا عَرَفَ تَارِيخَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَارِيخَ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَشَأَ أُمِّيًّا لَمْ يَتَعَلَّمِ الْقِرَاءَةَ وَلَا الْكِتَابَةَ، وَأَنَّ قَوْمَهُ الَّذِينَ نَشَأَ فِيهِمْ كَانُوا أُمِّيِّينَ وَثَنِيِّينَ جَاهِلِينَ بِعَقَائِدِ الْمِلَلِ وَتَوَارِيخِ الْأُمَمِ وَعُلُومِ التَّشْرِيعِ وَالْفَلْسَفَةِ، حَتَّى إِنَّ مَكَّةَ عَاصِمَةَ بِلَادِهِمْ، وَقَاعِدَةَ
دِينِهِمْ، وَمَثْوَى كُبَرَائِهِمْ وَرُؤَسَائِهِمْ، وَمَثَابَةَ الشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ لِلْحَجِّ وَالتِّجَارَةِ فِيهَا، وَالْمُفَاخَرَةِ بِالْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ فِي أَسْوَاقِهَا التَّابِعَةِ لَهَا، لَمْ يَكُنْ يُوجَدُ فِيهَا مَدْرَسَةٌ وَلَا كِتَابٌ مُدَوَّنٌ قَطُّ، فَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الدِّينِ التَّامِّ الْكَامِلِ، وَالشَّرْعِ الْعَامِّ الْعَادِلِ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُكْتَسَبًا وَلَا أَنْ يَكُونَ مُسْتَنْبَطًا بِعَقْلِهِ وَفِكْرِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ. وَسَنَدْفَعُ مَا يَرُدُّ مِنَ الشُّبْهَةِ عَلَيْهِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْفَصْلِ.
وَيُرَى تُجَاهَ هَذَا أَنَّ مُوسَى أَعْظَمَ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ فِي عَمَلِهِ وَفِي شَرِيعَتِهِ وَفِي هِدَايَتِهِ - قَدْ نَشَأَ فِي أَعْظَمِ بُيُوتِ الْمَلِكِ لِأَعْظَمِ شَعْبٍ فِي الْأَرْضِ وَأَرْقَاهُ تَشْرِيعًا وَعِلْمًا وَحِكْمَةً وَفَنًّا وَصِنَاعَةً، وَهُوَ بَيْتُ فِرْعَوْنِ مِصْرَ، وَرَأَى قَوْمَهُ فِي حُكْمِ هَذَا الْمَلِكِ الْقَوِيِّ الْقَاهِرِ مُسْتَعْبَدِينَ مُسْتَذَلِّينَ، تُذَبَّحُ أَبْنَاؤُهُمْ وَتُسْتَحْيَا نِسَاؤُهُمْ، تَمْهِيدًا لِفَنَائِهِمْ وَمَحْوِهِمْ مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ إِنَّهُ مَكَثَ بِضْعَ سِنِينَ عِنْدَ حَمِيهِ فِي مَدْيَنَ وَكَانَ نَبِيًّا - أَوْ كَاهِنًا كَمَا يَقُولُونَ - فَمِنْ ثَمَّ يَرَى مُنْكِرُو الْوَحْيِ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى مِنَ الشَّرِيعَةِ الْخَاصَّةِ بِشَعْبِهِ لَيْسَ بِكَثِيرٍ عَلَى رَجُلٍ كَبِيرِ الْعَقْلِ عَظِيمِ الْهِمَّةِ، نَاشِئٍ فِي بَيْتِ الْمُلْكِ وَالتَّشْرِيعِ وَالْحِكْمَةِ إِلَخْ.
ثُمَّ ظَهَرَ فِي أَوَائِلِ هَذَا الْقَرْنِ الْمِيلَادِيِّ أَنَّ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ مُوَافِقَةٌ فِي أَكْثَرِ أَحْكَامِهَا لِشَرِيعَةِ حَمُورَابِي الْعَرَبِيِّ مَلِكِ الْكَلْدَانِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ مُوسَى وَقَدْ قَالَ الَّذِينَ عَثَرُوا عَلَى هَذِهِ الشَّرِيعَةِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَلْمَانِ فِي حَفَائِرِ الْعِرَاقِ أَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ شَرِيعَةَ مُوسَى مُسْتَمَدَّةٌ مِنْهَا لَا وَحْيَ مِنَ اللهِ تَعَالَى كَمَا شَرَحْنَا فِي مُجَلَّدِ الْمَنَارِ السَّادِسِ وَذَكَرْنَا خُلَاصَتَهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ (٩: ٣٠) وَهُوَ فِي (ص ٣٠٥ ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ) وَأَقَلُّ مَا يَقُولُهُ مُسْتَقِلُّ الْفِكْرِ فِي ذَلِكَ: إِنَّهُ إِنْ لَمْ تَكُنِ التَّوْرَاةُ
125
مُسْتَمَدَّةً مِنْهَا فَلَا تُعَدُّ أَحَقَّ مِنْهَا بِأَنْ تَكُونَ وَحْيًا مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ حَمُورَابِيَ ادَّعَى أَنَّ شَرِيعَتَهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى.
ثُمَّ يَرَى النَّاظِرُ سَائِرَ أَنْبِيَاءِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ أَنَّهُمْ كَانُوا تَابِعِينَ لِلتَّوْرَاةِ مُتَعَبِّدِينَ بِهَا، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَدَارَسُونَ تَفْسِيرَهَا فِي مَدَارِسَ خَاصَّةٍ بِهِمْ وَبِأَبْنَائِهِمْ مَعَ عُلُومٍ أُخْرَى، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُذْكَرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَعَ مُحَمَّدٍ، وَيَرَى أَيْضًا أَنَّ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ الَّذِي شَهِدَ الْمَسِيحَ بِتَفْضِيلِهِ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ وَلَمْ يَأْتِ بِشَرْعٍ وَلَا بِنَبَأٍ غَيْبِيٍّ - بَلْ إِنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ أَعْظَمُهُمْ قَدْرًا وَأَعْلَاهُمْ ذِكْرًا، وَأَجَلُّهُمْ أَثَرًا، لَمْ يَأْتِ بِشَرِيعَةٍ جَدِيدَةٍ بَلْ كَانَ تَابِعًا لِشَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ مَعَ نَسْخِ قَلِيلٍ مِنْ أَحْكَامِهَا، وَإِصْلَاحٍ رُوحِيٍّ أَدَبِيٍّ لِجُمُودِ الْيَهُودِ الْمَادِّيِّ عَلَى ظَوَاهِرِ أَلْفَاظِهَا، فَأَمْكَنَ لِجَاحِدِي الْوَحْيِ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّهُ لَا يَكْثُرُ عَلَى رَجُلٍ مِثْلِهِ زَكِيِّ
الْفِطْرَةِ ذَكِيِّ الْعَقْلِ نَاشِئٍ فِي حِجْرِ الشَّرِيعَةِ الْيَهُودِيَّةِ، وَالْمَدَنِيَّةِ الرُّومَانِيَّةِ. وَالْحِكْمَةِ الْيُونَانِيَّةِ، غَلَبَ عَلَيْهِ الزُّهْدُ وَالرُّوحَانِيَّةُ، أَنْ يَأْتِيَ بِتِلْكَ الْوَصَايَا الْأَدَبِيَّةِ، وَنَحْنُ الْمُسْلِمِينَ لَا نَقُولُ هَذَا وَإِنَّمَا يَقُولُهُ الْمَادِّيُّونَ وَالْمُلْحِدُونَ وَالْعَقْلِيُّونَ، وَأُلُوفٌ مِنْهُمْ يُنْسَبُونَ إِلَى الْمَذَاهِبِ النَّصْرَانِيَّةِ.
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ عَقَائِدُ الدِّينِ وَعِبَادَاتُهُ وَآدَابُهُ وَأَحْكَامُهُ فَلَا يَرْتَابُ الْعَقْلُ الْمُسْتَقِلُّ الْمُفَكِّرُ غَيْرُ الْمُقَلِّدِ لِدِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ فِي أَنَّ عَقَائِدَ الْإِسْلَامِ: مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ، وَوَصْفِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ الْكَوْنِيَّةِ، وَمِنْ بَيَانِ هِدَايَةِ رُسُلِهِ، وَمِنْ عِبَادَاتِهِ وَآدَابِهِ الْمُزَكِّيَةِ لِلنَّفْسِ الْمُرَقِّيَةِ لِلْعَقْلِ، وَمِنْ تَشْرِيعِهِ الْعَادِلِ وَحُكْمِهِ الشُّورِيِّ الْمُرَقِّي لِلِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ - كُلُّ ذَلِكَ أَرْقَى مِمَّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْأَنَاجِيلِ وَسَائِرِ كُتُبِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، بَلْ هُوَ الْإِصْلَاحُ الَّذِي بَلَغَ بِهِ دِينُ اللهِ أَعْلَى الْكَمَالِ، وَيَشْهَدُ بِهَذَا عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ، وَقَدْ شَرَحْنَاهُ مِنْ وِجْهَةِ نَظَرِنَا وَوِجْهَةِ نَظَرِهِمْ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْمَنَارِ التَّفْسِيرِ (آخِرُهَا ص ٣١٣ وَمَا بَعْدَهَا ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ).
وَمَنْ نَظَرَ فِي قِصَّةِ آدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَيُوسُفَ مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ، وَسِيرَةِ مُوسَى وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي سَائِرِ أَسْفَارِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْقِصَصَ فِي الْقُرْآنِ يَرَى الْفَرْقَ الْعَظِيمَ فِي الِاهْتِدَاءِ بِسِيرَةِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ الْعِظَامِ ; فَفِي أَسْفَارِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ يَرَى وَصْفَ اللهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْجَهْلِ وَالنَّدَمِ عَلَى خَلْقِ الْبَشَرِ وَالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَوَصْفَ الْأَنْبِيَاءِ أَيْضًا بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِمْ مِنَ الْمَعَاصِي مِمَّا هُوَ قُدْوَةٌ سُوأَى، مِنْ حَيْثُ يَجِدُ فِي قَصَصِ الْقُرْآنِ مِنْ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ وَعَدْلِهِ وَفَضْلِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَمِنْ وَصْفِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ بِالْكَمَالِ وَأَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، مَا هُوَ قُدْوَةٌ صَالِحَةٌ وَأُسْوَةٌ حَسَنَةٌ تَزِيدُ قَارِئَهَا إِيمَانًا وَهُدًى، فَأَخْبَارُ الْأَنْبِيَاءِ فِي كُتُبِ الْعَهْدَيْنِ تُشْبِهُ بُسْتَانًا فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الشَّجَرِ وَالْعُشْبِ وَالشَّوْكِ، وَالثِّمَارِ وَالْأَزْهَارِ
126
وَالْحَشَرَاتِ، وَأَخْبَارُهُمْ فِي الْقُرْآنِ تُشْبِهُ الْعِطْرَ الْمُسْتَخْرَجَ مِنْ تِلْكَ الْأَزْهَارِ، وَالْعَسَلَ الْمُشْتَارَ مِنْ تِلْكَ الثِّمَارِ، وَيَرَى فِيهِ رِيَاضًا أُخْرَى جَمَعَتْ جَمَالَ الْكَوْنِ كُلِّهِ.
وَنَدَعُ هُنَا ذِكْرَ مَا كَتَبَهُ عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ الْأَحْرَارُ فِي نَقْدِ هَذِهِ الْكُتُبِ وَالطَّعْنِ فِيهَا، وَمِنْ أَخْصَرِهَا وَأَغْرَبِهَا كِتَابُ (أَضْرَارِ تَعْلِيمِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) لِأَحَدِ عُلَمَاءِ الْإِنْكِلِيزِ، وَمَا فِيهَا مِنْ مُخَالَفَةِ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالتَّارِيخِ، وَالْقُرْآنُ خَالٍ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ.
(صَدُّ الْكَنِيسَةِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَبَغْيُهُ عِوَجًا)
إِنَّ رِجَالَ الْكَنِيسَةِ لَمْ يَجِدُوا مَا يَصُدُّونَ بِهِ أَتْبَاعَهَا عَنِ الْإِسْلَامِ - بَعْدَ أَنْ رَأَوْهُ قَدْ قَضَى عَلَى الْوَثَنِيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ، وَكَادَ يَقْضِي عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ فِي الشَّرْقِ، ثُمَّ امْتَدَّ نُورُهُ إِلَى الْغَرْبِ - إِلَّا تَأْلِيفَ الْكُتُبِ، وَنَظْمَ الْأَشْعَارِ وَالْأَغَانِي فِي ذَمِّ الْإِسْلَامِ وَنَبِيِّهِ وَكِتَابِهِ بِالْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ، وَفُحْشِ الْكَلَامِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَدَيِّنِينَ أَكْذَبُ الْبَشَرِ وَأَشَدُّهُمْ عَدَاوَةً لِلْحَقِّ وَالْفَضِيلَةِ، فِي سَبِيلِ رِيَاسَتِهِمُ الَّتِي يَتَبَرَّأُ مِنْهَا الْمَسِيحُ عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ.
وَقَدْ كَانَ أَتْبَاعُهُمْ يُصَدِّقُونَ مَا يَقُولُونَ وَيَكْتُبُونَ. وَيَتَهَيَّجُونَ بِمَا يَنْظُمُونَ وَيُنْشِدُونَ، حَتَّى إِذَا مَا اطَّلَعَ بَعْضُهُمْ عَلَى كُتُبِ الْإِسْلَامِ وَرَأَوُا الْمُسْلِمِينَ وَعَاشَرُوهُمْ فَضَحُوهُمْ أَقْبَحَ الْفَضَائِحِ، كَمَا تَرَى فِي كِتَابِ (الْإِسْلَامِ خَوَاطِرُ وَسَوَانِحُ) لِلْكُونْتِ دِي كَاسْتِرِي، وَكَمَا تَرَى فِي الْكِتَابِ الْفَرَنْسِيِّ الَّذِي ظَهَرَ فِي هَذَا الْعَهْدِ بَاسِمِ (حَيَاةِ مُحَمَّدٍ) لِلْمُوسِيُو دِرِمِنْغَامْ وَهَذَانِ الْكِتَابَانِ فَرَنْسِيَّانِ مِنْ طَائِفَةِ الْكَاثُولِيكِ اللَّاتِينِ، وَقَدْ صَرَّحَا كَغَيْرِهِمَا بِأَنَّ كَنِيسَتَهُمْ هِيَ الْبَادِئَةُ بِالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَالْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ، وَبِأَدَبِ الْمُسْلِمِينَ فِي الدِّفَاعِ.
127
وَلَمَّا ظَهَرَتْ طَائِفَةُ الْبُرُوتُسْتَانِ وَغَلَبَ مَذْهَبُهَا فِي شُعُوبِ الْأَنْجُلُوسَكْسُونِ وَالْجِرْمَانِ، وَكَانَ الْفَضْلُ فِي دَعْوَتِهِمُ الْإِصْلَاحِيَّةِ لِمَا انْعَكَسَ عَلَى أُورُبَّةَ مِنْ نُورِ الْإِسْلَامِ، لَمْ يَتَعَفَّفْ قُسُوسُهُمْ وَدُعَاتُهُمْ (الْمُبَشِّرُونَ) عَنِ افْتِرَاءِ الْكَذِبِ، وَلَا تَجَمَّلُوا فِيهِ بِشَيْءٍ مِنَ النَّزَاهَةِ وَالْأَدَبِ، وَالَّذِي نَرَاهُ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ مَطَاعِنِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ وَسُوءِ أَدَبِهِمْ أَشَدَّ مِمَّا نَرَاهُ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَكِنِ الَّذِينَ أَنْصَفُوا الْإِسْلَامَ مِنْ أَحْرَارِ عُلَمَائِهِمْ أَصْرَحُ قَوْلًا، وَلَعَلَّهُمْ أَكْثَرُ مِنَ اللَّاتِينِ عَدَدًا، وَكَذَلِكَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِهِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَالِاسْتِقْلَالَ فِي تَرْبِيَتِهِمْ أَقْوَى، وَسَيَكُونُونَ هُمُ الَّذِينَ يَنْشُرُونَ الْإِسْلَامَ فِي أُورُبَّةَ وَالْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ الْأَمِيرْكَانِيَّةِ، ثُمَّ فِي سَائِرِ الْعَالَمِ كَمَا جَزَمَ الْعَلَّامَةُ بِرْنَارْدُ شُو الْإِنْكِلِيزِيُّ فِي كِتَابِهِ (الْحَيَاةُ الزَّوْجِيَّةُ).
مَسْأَلَةُ الْآيَاتِ وَالْعَجَائِبِ أَيِ الْخَوَارِقِ:
بَقِيَ الْكَلَامُ فِي مَسْأَلَةِ الْعَجَائِبِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَى أَسَاسِهَا الْكَنَائِسُ النَّصْرَانِيَّةُ عَلَى اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهَا. وَفِيمَا يَدَّعُونَهُ مَنْ تَجَرُّدِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ لِبَاسِهَا، وَهِيَ قَدْ أَصْبَحَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ حُجَّةً عَلَى دِينِهِمْ لَا لَهُ، وَصَادَّةً لِلْعُلَمَاءِ وَالْعُقَلَاءِ عَنْهُ لَا مُقْنِعَةً بِهِ، وَلَوْلَا حِكَايَةُ الْقُرْآنِ لِآيَاتِ اللهِ الَّتِي أَيَّدَ بِهَا مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَكَانَ إِقْبَالُ أَحْرَارِ الْإِفْرِنْجِ عَلَيْهِ أَكْثَرَ، وَاهْتِدَاؤُهُمْ بِهِ أَعَمَّ وَأَسْرَعَ ; لِأَنَّ أَسَاسَهُ قَدْ بُنِيَ عَلَى الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ، وَمُوَافَقَةِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ، وَتَزْكِيَةِ أَنْفُسِ الْأَفْرَادِ، وَتَرْقِيَةِ مَصَالِحِ الِاجْتِمَاعِ، وَأَمَّا آيَتُهُ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى هِيَ الْقُرْآنُ، وَأُمِّيَّةُ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَهِيَ آيَةٌ عِلْمِيَّةٌ تُدْرَكُ بِالْعَقْلِ وَالْحِسِّ وَالْوِجْدَانِ.
كَفَاكَ بِالْعِلْمِ فِي الْأُمِّيِّ مُعْجِزَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالتَّأْدِيبِ فِي الْيُتْمِ
وَأَمَّا تِلْكَ الْعَجَائِبُ الْكَوْنِيَّةُ فَهِيَ مَثَارُ شُبَهَاتٍ وَتَأْوِيلَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي رِوَايَتِهَا وَفِي صِحَّتِهَا وَفِي دَلَالَتِهَا وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأُمُورِ تَقَعُ مِنْ أُنَاسٍ كَثِيرِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَالْمَنْقُولُ مِنْهَا عَنْ صُوفِيَّةِ الْهُنُودِ وَالْمُسْلِمِينَ أَكْثَرُ مِنَ الْمَنْقُولِ عَنِ الْعَهْدَيْنِ: الْعَتِيقِ وَالْجَدِيدِ، وَعَنْ مَنَاقِبِ الْقِدِّيسِينَ ; وَهِيَ مِنْ مُنَفِّرَاتِ الْعُلَمَاءِ عَنِ الدِّينِ فِي هَذَا الْعَصْرِ. وَسَنُبَيِّنُ مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ فِيهَا مِنَ الْفَصْلِ.
الْعَجَائِبُ وَمَا لِلْمَسِيحِ مِنْهَا:
جَاءَ فِي تَعْرِيفِ الْعَجَائِبِ وَأَنْوَاعِهَا مِنْ قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ مَا نَصُّهُ:
((عَجِيبَةٌ: حَادِثَةٌ تَحْدُثُ بِقُوَّةٍ إِلَهِيَّةٍ خَارِقَةٍ مَجْرَى الْعَادَةِ الطَّبِيعِيَّةِ لِإِثْبَاتِ إِرْسَالِيَّةِ مَنْ جَرَتْ
128
عَلَى يَدِهِ أَوْ فِيهِ. وَالْعَجِيبَةُ الْحَقِيقِيَّةُ هِيَ فَوْقَ الطَّبِيعَةِ لَا ضِدُّهَا تَحْدُثُ بِتَوْقِيفِ نَوَامِيسِ الطَّبِيعَةِ لَا بِمُعَاكَسَتِهَا، وَهِيَ إِظْهَارُ نِظَامٍ أَعْلَى مِنَ الطَّبِيعَةِ يَخْضَعُ لَهُ النِّظَامُ الطَّبِيعِيُّ، وَلَنَا فِي فِعْلِ الْإِرَادَةِ مِثَالٌ يُظْهِرُ لَنَا حَقِيقَةَ أَمْرِ الْعَجَائِبِ إِذْ بِهَا نَرْفَعُ الْيَدَ وَبِذَلِكَ نُوقِفُ نَامُوسَ الثِّقَلِ وَيَتَسَلَّطُ اللهُ عَلَى قُوَى الطَّبِيعَةِ، وَيُرْشِدُهَا، وَيَمُدُّ مَدَارَهَا أَوْ يَحْصُرُهُ ; لِأَنَّهَا عَوَامِلُ لِمَشِيئَتِهِ وَيُنَاطُ فِعْلُ الْعَجَائِبِ بِاللهِ وَحْدَهُ أَوْ بِمَنْ سَمَحَ لَهُ بِذَلِكَ.
وَإِذَا آمَنَّا بِالْإِلَهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ لَمْ يَعْسُرْ عَلَيْنَا التَّسْلِيمُ بِإِمْكَانِ الْعَجَائِبِ. وَكَانَتِ الْعَجِيبَةُ الْأَوْلَى خَلِيقَةَ الْكَوْنِ مِنَ الْعَدَمِ بِإِرَادَتِهِ تَعَالَى. أَمَّا الْمَسِيحُ فَأُقْنُومُهُ عَجِيبَةٌ أَدَبِيَّةٌ عَظِيمَةٌ وَعَجَائِبُهُ لَمْ تَكُنْ إِلَّا إِظْهَارَ هَذَا الْأُقْنُومِ وَأَعْمَالِهِ، وَإِذَا آمَنَّا بِالْمَسِيحِ ابْنِ اللهِ الْعَدِيمِ الْخَطِيَّةِ لَمْ يَعْسُرْ عَلَيْنَا تَصْدِيقُ عَجَائِبِهِ. أَمَّا الشَّيْطَانُ فَعَجَائِبُهُ كَذَّابَةٌ.
وَلَابُدَّ مِنَ الْعَجَائِبِ لِتَعْزِيزِ الدِّيَانَةِ، فَكَثِيرًا مَا يَسْتَشْهِدُ الْمَسِيحُ بِعَجَائِبِهِ لِإِثْبَاتِ هُوَّتِهِ وَكَوْنِهِ الْمَسِيحَ، وَكَانَ يَفْعَلُهَا لِتَمْجِيدِ اللهِ وَلِمَنْفَعَةِ نُفُوسِ النَّاسِ وَأَبْدَانِهِمْ، كَانَ يَفْعَلُهَا ظَاهِرًا أَمَامَ جَمَاهِيرِ أَصْحَابِهِ وَأَعْدَائِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْهَا أَعْدَاؤُهُ غَيْرَ أَنَّهُمْ نَسَبُوهَا لِبَعْلَزْبُولَ، وَسَوَاءٌ امْتَحَنَّاهَا بِالشَّهَادَةِ مِنَ الْخَارِجِ، وَبِمُنَاسَبَتِهَا إِلَى إِرْسَالِيَّتِهِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي ظَهَرَتْ لِكُلِّ مَنْ كَانَ خَالِيًا مِنَ الْغَرَضِ صَحِيحَةً. فَإِذَا لَمْ نُسَلِّمْ بِصِحَّتِهَا الْتَزَمْنَا أَنْ نَقُولَ بِأَنَّ مُقَرِّرِيهَا كَذَّابُونَ ; الْأَمْرُ الَّذِي لَا يَسُوغُ ظَنُّهُ بِالْمَسِيحِ وَالرُّسُلِ.
وَبَقِيَتْ قُوَّةُ الْعَجَائِبِ فِي عَصْرِ الرُّسُلِ، وَلَمَّا امْتَدَّتِ الدِّيَانَةُ الْمَسِيحِيَّةُ زَالَ الِاضْطِرَارُ إِلَيْهَا وَلَا يَلْزَمُنَا الْآنَ سِوَى الْعَجَائِبِ الْأَدَبِيَّةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ هَذِهِ الدِّيَانَةِ مَعَ الشَّوَاهِدِ الدَّاخِلِيَّةِ عَلَى صِحَّتِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ يُمْكِنُ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُجَدِّدَهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ)) اهـ.
ثُمَّ وَضَعَ الْمُؤَلِّفُ حُلُولًا أَحْصَى فِيهِ عَجَائِبَ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ مِنْ خَرَابِ سَدُومَ
وَعَمُّورَةَ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ إِلَى ((خَلَاصِ يُونَانَ (يُونُسَ) بِوَاسِطَةِ حُوتٍ)) فَبَلَغَتْ ٦٧ عَجِيبَةً، وَقَفَّى عَلَيْهِ بِجَدْوَلِ الْعَجَائِبِ الْمَقْرُونَةِ بِحَيَاةِ الْمَسِيحِ مِنَ الْحَبَلِ بِهِ ((بِفِعْلِ الرُّوحِ الْقُدُسِ)) إِلَى ((الصُّعُودِ إِلَى السَّمَاءِ)) فَبَلَغَتْ ٣٧، وَعَزَّزَ الْجَدْوَلَيْنِ بِثَالِثٍ فِي ((الْعَجَائِبِ الَّتِي جَرَتْ فِي عَصْرِ الرُّسُلِ)) أَيِ الَّذِينَ بَثُّوا دَعْوَةَ الْمَسِيحِ مِنْ تَلَامِيذِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ ((انْسِكَابِ الرُّوحِ الْقُدُسِ يَوْمَ الْخَمِيسِ)) إِلَى ((شِفَاءِ أَبِي بُوبْلِيُوسَ وَغَيْرِهِ)) فَكَانَتْ عِشْرِينَ. وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ صَنَعَ عَجَائِبَ.
129
بَحْثٌ فِي عَجَائِبِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ
أَقُولُ: إِنَّ ٢٧ مِنْ عَجَائِبِ الْمَسِيحِ الْمَذْكُورَةِ شِفَاءُ مَرْضَى وَمَجَانِينَ لَابَسَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ، وَثَلَاثٌ مِنْهَا إِقَامَةُ مَوْتَى عَقِبَ مَوْتِهِمْ، وَمَا بَقِيَ فَمَسْأَلَةُ الْحَبَلِ بِهِ وَتَحْوِيلُهُ الْمَاءَ إِلَى خَمْرٍ وَسَحْبِ الشَّبَكَةِ فِي بَحْرِ الْجَلِيلِ، وَإِشْبَاعِ خَمْسَةِ آلَافٍ مَرَّةً وَأَرْبَعَةِ آلَافٍ مَرَّةً أُخْرَى، وَضَرْبُ التِّينَةِ الْعَقِيمَةِ بِمَا أَيْبَسَهَا، وَقِيَامَةُ الْمَسِيحِ، وَصَيْدُ السَّمَكِ وَالصُّعُودِ.
وَإِنَّنَا نُلَخِّصُ رِوَايَةَ الْأَنَاجِيلِ لِأَهَمِّهَا وَهُوَ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى، وَنَذْكُرُ مَا يَقُولُهُ فِيهَا مُنْكِرُو الْعَجَائِبِ
الْمَيِّتُ الْأَوَّلُ شَابٌّ مِنْ مَدِينَةِ نَابِينَ كَانَ مَحْمُولًا فِي جَنَازَةٍ وَأُمُّهُ تَبْكِي فَاسْتَوْقَفَ النَّعْشَ، وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الشَّابُّ لَكَ أَقُولُ قُمْ ; فَجَلَسَ وَابْتَدَأَ يَتَكَلَّمُ، فَدَفَعَهُ إِلَى أُمِّهِ، فَأَخَذَ الْجَمِيعَ خَوْفٌ وَمَجَّدُوا اللهَ قَائِلِينَ: قَدْ قَامَ فِينَا نَبِيٌّ عَظِيمٌ وَافْتَقَدَ اللهُ شَعْبَهُ (لُوقَا ٧: ١١ - ١٦)
الثَّانِي: صَبِيَّةٌ مَاتَتْ فَقَالَ لَهُ أَبُوهَا وَكَانَ رَئِيسًا: ابْنَتِي الْآنَ مَاتَتْ لَكِنْ تَعَالَ فَضَعْ يَدَكَ عَلَيْهَا فَتَحْيَا. فَجَاءَ بَيْتَ الرَّئِيسِ وَوَجَدَ الْمُزَمِّرِينَ وَالْجَمْعَ يَضِجُّونَ فَقَالَ لَهُمْ ((تَنَحَّوْا فَإِنَّ الصَّبِيَّةَ لَمْ تَمُتْ لَكِنَّهَا نَائِمَةٌ)) فَضَحِكُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَخْرَجَ الْجَمْعَ دَخَلَ وَأَمْسَكَ بِيَدِهَا فَقَامَتِ الصَّبِيَّةُ (مَتَّ ٩: ١٨ - ٢٤).
فَمُنْكِرُو الْعَجَائِبِ يَقُولُونَ إِنَّ كُلًّا مِنَ الشَّابِّ وَالشَّابَّةِ لَمْ يَكُونَا قَدْ مَاتَا بِالْفِعْلِ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فِي كُلِّ زَمَانٍ قَدْ قَامُوا مِنْ نُعُوشِهِمْ، بَلْ مِنْ قُبُورِهِمْ بَعْدَ أَنْ ظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُمْ مَاتُوا، وَلِذَلِكَ تَمْنَعُ الْحُكُومَاتُ الْمَدَنِيَّةُ دَفْنَ الْمَيِّتِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَكْتُبَ أَحَدُ الْأَطِبَّاءِ شَهَادَةً بِمَوْتِهِ.
وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِالْآيَاتِ أَنْ يَجْزِمُوا أَيْضًا بِأَنَّ الصَّبِيَّةَ لَمْ تَكُنْ مَيِّتَةً أَخْذًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَهُوَ ((لِيعَازِرُ)) حَبِيبُهُ وَأَخُو مَرْثَا وَمَرْيَمَ حَبِيبَتِهِ: مَرِضَ فِي قَرْيَتِهِمْ ((بَيْتِ عَنَيَا)) فَأَرْسَلَتَا إِلَى الْمَسِيحِ قَائِلَتَيْنِ: ((هُوَ ذَا الَّذِي تُحِبُّهُ مَرِيضٌ)) فَمَكَثَ يَوْمَيْنِ وَحَضَرَ فَوَجَدَ أَنَّهُ مَاتَ مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَلَاقَتْهُ مَرْثَا وَقَالَتْ: يَا سَيِّدُ لَوْ كُنْتَ هُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي، ثُمَّ دَعَتْ أُخْتَهَا مَرْيَمَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ خَرَّتْ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَائِلَةً كَمَا قَالَتْ مَرْثَا، وَكَانُوا قَدْ ذَهَبُوا إِلَى عِنْدِ الْقَبْرِ لِلْبُكَاءِ، فَلَمَّا رَآهَا تَبْكِي وَالْيَهُودُ الَّذِينَ جَاءُوا مَعَهَا يَبْكُونَ ((انْزَعَجَ بِالرُّوحِ وَاضْطَرَبَ)) وَقَالَ: ((أَيْنَ وَضَعْتُمُوهُ؟)) فَدَلُّوهُ عَلَيْهِ فَبَكَى وَانْزَعَجَ فِي نَفْسِهِ وَجَاءَ إِلَى الْقَبْرِ وَكَانَ مَغَارَةً وَقَدْ وُضِعَ عَلَيْهِ حَجَرٌ، فَأَمَرَ بِرَفْعِ الْحَجَرِ فَرَفَعُوهُ ((وَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ إِلَى فَوْقُ وَقَالَ: أَيُّهَا الْأَبُ أَشْكُرُكَ لِأَنَّكَ سَمِعْتَ لِي، وَأَنَا عَلِمْتُ أَنَّكَ فِي كُلِّ حِينٍ تَسْمَعُ لِي، وَلَكِنْ لِأَجْلِ هَذَا الْجَمْعِ الْوَاقِفِ لِيُؤْمِنُوا أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي)) وَلَمَّا قَالَ هَذَا صَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ ((لِعَازِرَ! هَلُمَّ خَارِجًا)) فَخَرَجَ الْمَيِّتُ وَيَدَاهُ وَرِجْلَاهُ مَرْبُوطَتَانِ بِأَقْمِطَةٍ وَوَجْهُهُ مَلْفُوفٌ بِمِنْدِيلٍ، فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: حُلُّوهُ وَدَعُوهُ يَذْهَبْ. انْتَهَى. مُلَخَّصًا مِنَ الْفَصْلِ ١١ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا.
130
أَتَدْرِي أَيُّهَا الْقَارِئُ مَا يَقُولُ مُنْكِرُو الْعَجَائِبِ وَالْآيَاتِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الرِّوَايَةِ؟ إِنَّنِي سَمِعْتُ طَبِيبًا سُورِيًّا بُرُوتُسْتَنْتِيًّا يَقُولُ: إِنَّهَا كَانَتْ بِتَوَاطُؤٍ بَيْنِهِ وَبَيْنَ حَبِيبَتَيْهِ وَحَبِيبِهِ لِإِقْنَاعِ الْيَهُودِ بِنُبُوَّتِهِ. وَحَاشَاهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَإِنَّمَا نَنْقُلُ هَذَا لِنُبَيِّنَ أَنَّ النَّصَارَى لَا يَسْتَطِيعُونَ إِقَامَةَ الْبُرْهَانِ فِي هَذَا الْعَصْرِ عَلَى نُبُوَّةِ الْمَسِيحِ فَضْلًا عَنْ أُلُوهِيَّتِهِ بِهَذِهِ الرِّوَايَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى النُّبُوَّةِ وَتَنْفِي الْأُلُوهِيَّةَ، كَمَا فَهِمَ الَّذِينَ شَاهَدُوهَا ; لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَسَانِيدُ مُتَّصِلَةٌ إِلَى كَاتِبِيهَا، وَلَا دَلِيلَ عَلَى عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْخَطَأِ فِي رِوَايَتِهَا، دَعْ قَوْلَ الْمُنْكِرِينَ بِاحْتِمَالِ الِاحْتِيَالِ وَالتَّلْبِيسِ أَوِ الْمُصَادَقَةِ فِيهَا، أَوْ عَدَّهُمْ إِيَّاهَا عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا مِنْ فَلَتَاتِ الطَّبِيعَةِ.
وَإِذَا كَانَ أَعْظَمُهَا وَهُوَ إِحْيَاءُ الْمَيِّتِ يَحْتِمَلُ مَا ذَكَرُوا مِنَ التَّأْوِيلِ فَمَا الْقَوْلُ فِي شِفَاءِ الْمَرْضَى وَإِخْرَاجِ الشَّيَاطِينِ الَّذِي يَكْثُرُ وُقُوعُ مِثْلِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَالْأَطِبَّاءُ كُلُّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ مَا يَدَّعِي الْعَوَّامُ مِنْ دُخُولِ الشَّيَاطِينِ فِي أَجْسَادِ النَّاسِ مَا هُوَ إِلَّا أَمْرَاضٌ عَصَبِيَّةٌ تُشْفَى بِالْمُعَالَجَةِ أَوْ بِالْوَهْمِ وَالِاعْتِقَادِ وَدُونَهَا مَسْأَلَةُ الْخَمْرِ وَالسَّمَكِ وَيُبْسِ التِّينَةِ.
آيَةُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَقْلِيَّةٌ عِلْمِيَّةٌ وَسَائِرُ آيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ:
هَذَا وَإِنَّ مَا رَوَاهُ الْمُحَدِّثُونَ بِالْأَسَانِيدِ الْمُتَّصِلَةِ تَارَةً وَبِالْمُرْسَلَةِ أُخْرَى مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي أَكْرَمَ اللهُ تَعَالَى بِهَا رَسُولَهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هِيَ أَكْثَرُ مِنْ كُلِّ مَا رَوَاهُ الْإِنْجِيلِيُّونَ وَأَبْعَدُ عَنِ التَّأْوِيلِ. وَلَمْ يَجْعَلْهَا بُرْهَانًا عَلَى صِحَّةِ الدِّينِ وَلَا أَمَرَ بِتَلْقِينِهَا لِلنَّاسِ.
ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ وَرِسَالَتَهُ قَائِمَةً عَلَى قَوَاعِدِ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ فِي ثُبُوتِهَا وَفِي مَوْضُوعِهَا ; لِأَنَّ الْبَشَرَ قَدْ بَدَءُوا يَدْخُلُونَ فِي سِنِّ الرُّشْدِ وَالِاسْتِقْلَالِ النَّوْعِيِّ الَّذِي لَا يَخْضَعُ عَقْلُ صَاحِبِهِ فِيهِ لِاتِّبَاعِ مَنْ تَصْدُرُ عَنْهُمْ أُمُورٌ عَجِيبَةٌ مُخَالِفَةٌ لِلنِّظَامِ الْمَأْلُوفِ فِي سُنَنِ الْكَوْنِ، بَلْ لَا يَكْمُلُ ارْتِقَاؤُهُمْ وَاسْتِعْدَادُهُمْ بِذَلِكَ، بَلْ هُوَ مِنْ مَوَانِعِهِ، فَجَعَلَ حُجَّةَ نُبُوَّةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ عَيْنَ مَوْضُوعِ نُبُوَّتِهِ وَهُوَ كِتَابُهُ الْمُعْجِزُ لِلْبَشَرِ بِهِدَايَتِهِ وَعُلُومِهِ وَإِعْجَازِهِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ: كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لِيُرَبِّيَ الْبَشَرَ عَلَى التَّرَقِّي فِي هَذَا الِاسْتِقْلَالِ، إِلَى مَا هُمْ مُسْتَعِدُّونَ لَهُ مِنَ الْكَمَالِ.
هَذَا الْفَصْلُ بَيْنَ النُّبُوَّاتِ الْخَاصَّةِ الْمَاضِيَةِ، وَالنُّبُوَّةِ الْعَامَّةِ الْبَاقِيَةِ، قَدْ عَبَّرَ عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: ((مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ أُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ. وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -.
وَقَصَّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْنَا فِي كِتَابِهِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ اقْتَرَحُوا الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةَ (الْعَجَائِبَ) عَلَى رَسُولِهِ فَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ فِي جُمْلَتِهِ وَبِمَا فِيهِ مِنْ أَخْبَارِ الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ السَّابِقَةِ الَّتِي
131
لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا هُوَ وَلَا قَوْمُهُ، وَبِهِدَايَتِهِ وَبِعُلُومِهِ وَبِإِعْجَازِهِ، وَعَدَمِ اسْتِطَاعَةِ أَحَدٍ وَلَا جَمَاعَةٍ وَلَا الْعَالَمِ كُلِّهِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) (١٧: ٨٨).
وَأَمَّا مَا أَكْرَمَهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَرِسَالَتِهِ، بَلْ كَانَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى وَعِنَايَتِهِ بِهِ وَبِأَصْحَابِهِ فِي الشَّدَائِدِ: كَنَصْرِهِمْ عَلَى الْمُعْتَدِينَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَفُوقُونَهُمْ عَدَدًا وَعُدَدًا وَاسْتِعْدَادًا بِالسِّلَاحِ وَالطَّعَامِ، وَنَاهِيكَ بِغَزْوَةِ بَدْرٍ وَالنَّصْرِ فِيهَا، ثُمَّ بِغَزْوَةِ الْأَحْزَابِ إِذْ تَأَلَّبَ الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَحَاطُوا بِمَدِينَتِهِمْ فَرَدَّهُمُ اللهُ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ.
مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ شِفَاءُ الْمَرْضَى وَإِبْصَارُ الْأَعْمَى وَإِشْبَاعُ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنَ الطَّعَامِ الْقَلِيلِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَفِي غَزْوَةِ تَبُوكَ كَمَا وَقَعَ لِلْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمِنْهُ تَسْخِيرُ اللهِ السَّحَابَ لِإِسْقَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَثْبِيتُ أَقْدَامِهِمُ الَّتِي كَانَتْ تَسِيخُ فِي الرَّمْلِ بِبَدْرٍ، وَلَمْ يُصِبِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ غَيْثِهَا شَيْءٌ، وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ إِذْ نَفِدَ مَاءُ الْجَيْشِ فِي الصَّحْرَاءِ وَالْحَرُّ شَدِيدٌ حَتَّى كَانُوا يَذْبَحُونَ الْبَعِيرَ وَيُخْرِجُونَ الْفَرْثَ مِنْ كَرِشِهِ لِيَعْتَصِرُوهُ وَيَبِلُّوا بِهِ أَلْسِنَتَهُمْ عَلَى قِلَّةِ الرَّوَاحِلِ مَعَهُمْ، وَكَانَ يَقِلُّ مَنْ يَجِدُ مِنْ عُصَارَتِهِ مَا يَشْرَبُهُ شُرْبًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ اللهَ عَوَّدَكَ فِي الدُّعَاءِ خَيْرًا فَادْعُ لَنَا فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَدَعَا فَلَمْ يُرْجِعْهُمَا حَتَّى كَانَتِ السَّمَاءُ قَدْ سَكَبَتْ لَهُمْ مَاءً مَلَئُوا مَا مَعَهُمْ مِنَ الرَّوَايَا وَلَمْ تَتَجَاوَزْ عَسْكَرَهُمْ.
تَأْثِيرُ الْعَجَائِبِ فِي الْأَفْرَادِ وَالْأُمَمِ.
لَقَدْ كَانَتْ آيَاتُ الْمُرْسَلِينَ حُجَّةً عَلَى الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ اسْتَحَقُّوا بِجُحُودِهَا عَذَابَ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهَا مِمَّنْ شَاهَدُوهَا إِلَّا الْمُسْتَعِدُّونَ لِلْإِيمَانِ بِهَا، إِنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ لَمْ يُؤْمِنُوا بِآيَاتِ مُوسَى، وَإِنَّ أَكْثَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَعْقِلُوهَا، وَقَدِ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ وَعَبَدُوهُ بَعْدَ رُؤْيَتِهَا. وَقَالَ الْيَهُودُ فِي الْمَسِيحِ: لَوْلَا أَنَّهُ رَئِيسُ الشَّيَاطِينِ لَمَا أَخْرَجَ الشَّيْطَانَ مِنَ الْإِنْسَانِ وَقَالُوا: إِنَّ إِبْلِيسَ أَوْ بَعْلَزْبُولَ يَفْعَلُ أَكْبَرَ مِنْ فِعْلِهِ، وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ. وَقَالَ الْمُنَافِقُونَ وَقَدْ رَأَوْا بِأَعْيُنِهِمْ سَحَابَةً وَاحِدَةً فِي إِبَّانِ الْقَيْظِ قَدْ مَطَرَتْ عَسْكَرَ الْمُؤْمِنِينَ وَحْدَهُ عِنْدَ دُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّنَا مُطِرْنَا بِتَأْثِيرِ النَّوْءِ لَا بِدُعَائِهِ.
وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ مَنْ آمَنَ بِتِلْكَ الْآيَاتِ إِنَّمَا خَضَعَتْ أَعْنَاقُهُمْ وَاسْتَخْذَتْ أَنْفُسُهُمْ لِمَا لَا يَعْقِلُونَ لَهُ سَبَبًا، وَقَدِ انْطَوَتِ الْفِطْرَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ فَالْآتِي بِهِ مَظْهَرٌ لِلْخَالِقِ سُبْحَانَهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْخَالِقَ نَفْسَهُ وَكَانَ أَضْعَافُ أَضْعَافِهِمْ يَخْضَعُ مِثْلَ هَذَا الْخُضُوعِ نَفْسِهِ لِلسَّحَرَةِ وَالْمُشَعْوِذِينَ وَالدَّجَّالِينَ وَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ.
132
وَقَدْ نَقَلُوا عَنِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ سَيَأْتِي بَعْدَهُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وَأَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ
وَيُعْطَوْنَ آيَاتٍ عَظِيمَةً وَعَجَائِبَ حَتَّى يَضِلُّوا لَوْ أَمْكَنَ الْمُخْتَارِينَ أَيْضًا (مَتَّى ٢٤: ٢٤) وَقَدْ ذَكَرَ فِي قَامُوسِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ عَدَدًا كَثِيرًا مِنْهُمْ وَأَسْمَاءَ بَعْضِهِمْ. وَأَقُولُ: إِنَّ مِنْهُمُ الْقَادْيَانِيُّ الَّذِي ظَهَرَ مِنْ مُسْلِمِي الْهِنْدِ، وَتَذْكُرُ صُحُفُ الْأَخْبَارِ ظُهُورَ هِنْدِيٍّ آخَرَ يُرِيدُ إِظْهَارَ عَجَائِبِهِ فِي أَمْرِيكَا فِي هَذَا الْعَامِ وَنَقَلُوا عَنِ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَالَ: ((الْحَقُّ أَقُولُ لَكُمْ لَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ مَقْبُولًا فِي وَطَنِهِ)) وَجَعَلَ الْقَاعِدَةَ لِمَعْرِفَةِ النَّبِيِّ الصَّادِقِ تَأْثِيرَ هِدَايَتِهِ فِي النَّاسِ لَا الْآيَاتِ وَالْعَجَائِبَ فَقَالَ: ((مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ)) وَلَمْ يَظْهَرْ بَعْدَهُ - وَلَا قَبْلَهُ - نَبِيٌّ كَانَتْ ثِمَارُهُ الطَّيِّبَةُ فِي هِدَايَةِ الْبَشَرِ كَثِمَارِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَحَدَ يَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا (١٦: ١٢ إِنَّ لِي أُمُورًا كَثِيرَةً أَيْضًا وَلَكِنْ لَا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَحْتَمِلُوا الْآنَ، وَأَمَّا مَتَّى جَاءَ ذَلِكَ (أَيِ الْبَارْقَلِيطُ رُوحُ الْحَقِّ فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ) إِلَخْ وَمَا جَاءَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ أَرْشَدَ النَّاسَ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ فِي الدِّينِ مِنْ تَوْحِيدٍ وَتَشْرِيعٍ وَحِكْمَةٍ وَتَأْدِيبٍ غَيْرَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ.
وَمَنِ اسْتَقْرَأَ تَوَارِيخَ الْأُمَمِ عَلِمَ أَنَّ أَهْلَ الْمِلَلِ الْوَثَنِيَّةِ أَكْثَرُ اعْتِمَادًا عَلَى الْعَجَائِبِ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ السَّمَاوِيَّةِ، وَرَأَى الْجَمِيعَ يَنْقُلُونَ مِنْهَا عَنْ مُعْتَقِدِيهِمْ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْقِدِّيسِينَ أَكْثَرَ مِمَّا نَقَلُوا عَنِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَنَّ أَكْثَرَ الْمُصَدِّقِينَ بِهَا مِنَ الْخُرَافِيِّينَ.
ثُبُوتُ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ بِنَفْسِهَا وَإِثْبَاتِهَا لِغَيْرِهَا:
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ ثَبَتَتْ بِنَفْسِهَا، أَيْ بِالْبُرْهَانِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَقْلِيِّ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ لَا بِالْآيَاتِ وَالْعَجَائِبِ الْكَوْنِيَّةِ، وَأَنَّ هَذَا الْبُرْهَانَ قَائِمٌ مَاثِلٌ لِلْعُقُولِ وَالْحَوَاسِّ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ آيَاتِ النَّبِيِّينَ السَّابِقِينَ إِلَّا بِثُبُوتِ نُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي جَاءَ بِهِ، فَالْحُجَّةُ الْوَحِيدَةُ عَلَيْهَا فِي هَذَا الطَّوْرِ الْعِلْمِيِّ الِاسْتِقْلَالِيِّ مِنْ أَطْوَارِ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ هُوَ شَهَادَتُهُ لَهَا. فَإِنَّ الْكُتُبَ الَّتِي نَقَلَتْهَا لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ عَزْوِهَا إِلَى مَنْ عُزِيَتْ إِلَيْهِمْ ; إِذْ لَا يُوجَدُ نُسَخٌ مِنْهَا مَنْقُولَةٌ عَنْهُمْ بِاللُّغَاتِ الَّتِي كَتَبُوهَا بِهَا لَا تَوَاتُرًا وَلَا آحَادًا، وَلَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ عِصْمَتِهِمْ مِنَ الْخَطَأِ فِيمَا كَتَبُوهُ عَلَى اخْتِلَافِهِ وَتَنَاقُضِهِ وَتَعَارُضِهِ، وَلَا إِثْبَاتُ صِحَّةِ التَّرَاجِمِ الَّتِي نُقِلَتْ بِهَا، كَمَا قُلْنَا آنِفًا وَبَيَّنَّاهُ بِالتَّفْصِيلِ مِرَارًا.
الْكِتَابُ الْإِلَهِيُّ الْوَحِيدُ الَّذِي نُقِلَ بِنَصِّهِ الْحَرْفِيِّ تَوَاتُرًا عَمَّنْ جَاءَ بِهِ بِطَرِيقَتَيِ
الْحِفْظِ وَالْكِتَابَةِ مَعًا هُوَ الْقُرْآنُ، وَالنَّبِيُّ الْوَحِيدُ الَّذِي نُقِلَ تَارِيخُهُ بِالرِّوَايَاتِ الْمُتَّصِلَةِ الْأَسَانِيدِ حِفْظًا وَكِنَايَةً هُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالدِّينُ الْوَحِيدُ الَّذِي يُمْكِنُ لِلْعُلَمَاءِ الْمُسْتَقِلِّينَ فِي الْفَهْمِ وَالرَّأْيِ أَنْ يَعْقِلُوهُ وَيَبْنُوا عَلَيْهِ حُكْمَهُمْ هُوَ الْإِسْلَامُ. وَأَمَّا خُلَاصَةُ مَا يُمْكِنُ الِاعْتِرَافُ بِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ السَّابِقَةِ لِثُبُوتِ قَضَايَاهُ الْإِجْمَالِيَّةِ بِالتَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ، فَهُوَ أَنَّهُ وُجِدَ فِي جَمِيعِ أُمَمِ الْحَضَارَةِ الْقَدِيمَةِ
133
دُعَاةٌ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَإِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَإِلَى تَرْكِ الشُّرُورِ وَالرَّذَائِلِ مِنْهُمْ أَنْبِيَاءُ مُبَلِّغُونَ عَنِ اللهِ تَعَالَى مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، كَمَا أَنَّهُ وُجِدَ فِيهِمْ حُكَمَاءُ يَبْنُونَ إِرْشَادَهُمْ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَيَضُرُّهُمْ بِحُكْمِ الْعَقْلِ وَالتَّجْرِبَةِ - وَوُجِدَ فِي جَمِيعِ مَا نُقِلَ عَنِ الْفَرِيقَيْنِ أُمُورٌ مُخَالِفَةٌ لِلْعَقْلِ وَلِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ، وَأُمُورٌ خَاصَّةٌ بِأَهْلِهَا وَبِزَمَانِهِمْ، وَخُرَافَاتٌ يُنْكِرُهَا الْعَقْلُ وَيَنْقُضُهَا الْعِلْمُ.
وَإِذَا كَانَ الْإِسْلَامُ وَنَبِيُّهُ هُوَ الدِّينَ الْوَحِيدَ الَّذِي عُرِفَتْ حَقِيقَتُهُ وَتَارِيخُهُ بِالتَّفْصِيلِ فَإِنَّنَا نَذْكُرُ هُنَا شُبْهَةَ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْمَادِّيِّينَ وَمُقَلِّدَتِهِمْ عَلَيْهِ، بَعْدَ مُقَدِّمَةٍ فِي شَهَادَتِهِمُ الْإِجْمَالِيَّةِ لَهُ، تَمْهِيدًا لِدَحْضِ الشُّبْهَةِ، وَنُهُوضِ الْحُجَّةِ، فَنَقُولُ:
(دَرْسُ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ لِلسِّيرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَشَهَادَتُهُمْ بِصِدْقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)
دَرَسَ عُلَمَاءُ الْإِفْرِنْجِ تَارِيخَ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ فِي النَّقْدِ وَالتَّحْلِيلِ، وَدَرَسُوا السِّيرَةَ النَّبَوِيَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ وَفَلَوْهَا فَلْيًا وَنَقَشُوهَا بِالْمَنَاقِيشِ، وَقَرَءُوا الْقُرْآنَ بِلُغَتِهِ وَقَرَءُوا مَا تَرْجَمَهُ بِهِ أَقْوَامُهُمْ، وَكَانُوا عَلَى عِلْمٍ مُحِيطٍ بِكُتُبِ الْعَهْدَيْنِ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، وَتَارِيخِ الْأَدْيَانِ وَلَا سِيَّمَا الدِّيَانَتَيْنِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَبِمَا كَتَبَهُ الْمُتَعَصِّبُونَ لِلْكَنِيسَةِ مِنَ الِافْتِرَاءِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالنَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ مِمَّا أَشَرْنَا إِلَى بَعْضِهِ آنِفًا، فَخَرَجُوا مِنْ هَذِهِ الدُّرُوسِ كُلِّهَا بِالنَّتِيجَةِ الْآتِيَةِ:
(إِنَّ مُحَمَّدًا كَانَ سَلِيمَ الْفِطْرَةِ، كَامِلَ الْعَقْلِ، كَرِيمَ الْأَخْلَاقِ، صَادِقَ الْحَدِيثِ، عَفِيفَ النَّفْسِ، قَنُوعًا بِالْقَلِيلِ مِنَ الرِّزْقِ، غَيْرَ طَمُوعٍ بِالْمَالِ وَلَا جَنُوحٍ إِلَى الْمُلْكِ، وَلَا يُعْنَى بِمَا كَانَ يُعْنَى بِهِ قَوْمُهُ مِنَ الْفَخْرِ، وَالْمُبَارَاةِ فِي تَحْبِيرِ الْخُطَبِ وَقَرْضِ الشِّعْرِ، وَكَانَ يَمْقُتُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَخُرَافَاتِ الْوَثَنِيَّةِ، وَيَحْتَقِرُ مَا يَتَنَافَسُونَ فِيهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ الْبَهِيمِيَّةِ، كَالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَبِهَذَا كُلِّهِ وَبِمَا ثَبَتَ مِنْ سِيرَتِهِ وَيَقِينِهِ بَعْدَ النُّبُوَّةِ جَزَمُوا بِأَنَّهُ كَانَ صَادِقًا فِيمَا ادَّعَاهُ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الْأَرْبَعِينَ مِنْ سِنِّهِ مِنْ رُؤْيَةِ مَلَكِ الْوَحْيِ، وَإِقْرَائِهِ إِيَّاهُ هَذَا الْقُرْآنَ، وَإِنْبَائِهِ بِأَنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللهِ لِهِدَايَةِ قَوْمِهِ فَسَائِرِ النَّاسِ).
وَزَادَهُمْ ثِقَةً بِصِدْقِهِ أَنْ كَانَ أَوَّلُ النَّاسِ إِيمَانًا بِهِ وَاهْتِدَاءً بِنُبُوَّتِهِ أَعْلَمَهُمْ بِدَخِيلَةِ أَمْرِهِ، وَأَوَّلُهُمْ زَوْجُهُ خَدِيجَةُ الْمَشْهُورَةُ بِالْعَقْلِ وَالنُّبْلِ وَالْفَضِيلَةِ، وَمَوْلَاهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الَّذِي اخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لَهُ عَلَى أَنْ يَلْحَقَ بِوَالِدِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَيَكُونَ مَعَهُمْ حُرًّا، ثُمَّ إِنْ كَانَ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْعَرَبِ حُرِّيَّةً وَاسْتِقْلَالًا فِي الرَّأْيِ وَلَا سِيَّمَا أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ.
فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَبِأَنَّ لِلْبَشَرِ أَرْوَاحًا خَالِدَةً مِنْ هَؤُلَاءِ الْإِفْرِنْجِ فَقَدْ آمَنُوا بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عِلْمٍ وَبُرْهَانٍ، وَهُمْ يَزِيدُونَ عَامًا بَعْدَ عَامٍ، بِقَدْرِ مَا يُتَاحُ لَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِالْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الْمَادِّيُّونَ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِنْ تَفْسِيرٍ لِهَذِهِ الْحَادِثَةِ أَوِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي
134
لَا رَيْبَ فِي صِحَّتِهَا وَثُبُوتِهَا، وَبِتَصْوِيرِهَا بِالصُّورَةِ الَّتِي يَقْبَلُهَا الْعَقْلُ، الَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِمَا وَرَاءَ الْمَادَّةِ أَوِ الطَّبِيعَةِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ.
قَدَحُوا زِنَادَ الْفِكْرِ، وَاسْتَوَرُوا بِهِ نَظَرِيَّاتِ الْفَلْسَفَةِ، فَلَاحَ لَهُمْ مِنْهُ سَقْطٌ أَبْصَرُوا فِي ضَوْئِهِ الضَّئِيلِ الصُّورَةَ الْخَيَالِيَّةَ الَّتِي أَجْمَلَهَا الْأُسْتَاذُ مُونْتِيِهْ فِي عِبَارَتِهِ الَّتِي نَقَلْنَاهَا عَنْهُ آنِفًا وَفَصَّلَهَا إِمِيلْ دِرِمِنْغَامْ وَغَيْرُهُ بِمَا نَشْرَحُهُ هَاهُنَا.
(شُبْهَةُ مُنْكِرِي عَالَمِ الْغَيْبِ عَلَى الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ)
(وَتَصْوِيرُهُمْ لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)
خُلَاصَةُ رَأْيِ هَؤُلَاءِ الْمَادِّيِّينَ أَنَّ الْوَحْيَ إِلْهَامٌ يَفِيضُ مِنْ نَفْسِ النَّبِيِّ الْمُوحَى إِلَيْهِ لَا مِنَ الْخَارِجِ، ذَلِكَ أَنَّ نَفْسَهُ الْعَالِيَةَ، وَسَرِيرَتَهُ الطَّاهِرَةَ، وَقُوَّةَ إِيمَانِهِ بِاللهِ وَبِوُجُوبِ عِبَادَتِهِ وَتَرْكِ مَا سِوَاهَا مِنْ عِبَادَةٍ وَثَنِيَّةٍ، وَتَقَالِيدَ وِرَاثِيَّةٍ، يَكُونُ لَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ مَا يَتَجَلَّى فِي ذِهْنِهِ وَيُحْدِثُ فِي عَقْلِهِ الرُّؤَى وَالْأَحْوَالَ الرُّوحِيَّةَ، فَيَتَصَوَّرُ مَا يَعْتَقِدُ وُجُوبَهُ إِرْشَادًا إِلَهِيًّا نَازِلًا عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ بِدُونِ وَاسِطَةٍ، أَوْ يَتَمَثَّلُ لَهُ رَجُلٌ يُلَقِّنُهُ ذَلِكَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَلَكٌ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ وَقَدْ يَسْمَعُهُ يَقُولُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَرَى وَيَسْمَعُ مَا يَعْتَقِدُهُ فِي الْيَقَظَةِ
كَمَا يَرَى وَيَسْمَعُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمَنَامِ الَّذِي هُوَ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ الْوَحْيِ عِنْدَ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، فَكُلُّ مَا يُخْبِرُ بِهِ النَّبِيُّ مِنْ كَلَامٍ أُلْقِيَ فِي رَوْعِهِ أَوْ مَلَكٌ أَلْقَاهُ عَلَى سَمْعِهِ فَهُوَ خَبَرٌ صَادِقٌ عِنْدَهُ.
يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمَادِّيُّونَ: نَحْنُ لَا نَشُكُّ فِي صِدْقِ مُحَمَّدٍ فِي خَبَرِهِ عَمَّا رَأَى وَسَمِعَ، وَإِنَّمَا نَقُولُ إِنَّ مَنْبَعَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ جَاءَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي وَرَاءَ عَالَمِ الْمَادَّةِ وَالطَّبِيعَةِ الَّذِي يَعْرِفُهُ جَمِيعُ النَّاسِ ; فَإِنَّ هَذَا شَيْءٌ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا وُجُودُهُ كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ مَا يَنْفِيهِ وَيُلْحِقُهُ بِالْمُحَالِ، وَإِنَّمَا نُفَسِّرُ الظَّوَاهِرَ غَيْرَ الْمُعْتَادَةِ بِمَا عَرَفْنَا وَثَبَتَ عِنْدَنَا دُونَ مَا لَمْ يَثْبُتْ.
وَيَضْرِبُونَ مَثَلًا لِهَذَا الْوَحْيِ قِصَّةَ جَانْ دَارْكِ الْفَتَاةِ الْإِفْرَنْسِيَّةِ الَّتِي قَرَّرَتِ الْكَنِيسَةُ الْكَاثُولِيكِيَّةُ قَدَاسَتَهَا بَعْدَ مَوْتِهَا بِزَمَنٍ، وَهَذَا التَّصْوِيرُ الَّذِي يُصَوِّرُونَ بِهِ ظَاهِرَةَ الْوَحْيِ قَدْ سَرَتْ شُبْهَتُهُ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْمُرْتَابِينَ الَّذِينَ يُقَلِّدُونَ هَؤُلَاءِ الْمَادِّيِّينَ فِي نَظَرِيَّاتِهِمُ الْمَادِّيَّةِ أَوْ يَقْتَنِعُونَ بِهَا.
وَإِنَّنِي أَفْتَتِحُ الْكَلَامَ فِي إِبْطَالِ هَذِهِ الصُّورَةِ الْخَيَالِيَّةِ بِالْكَلَامِ عَلَى جَانْ دَارْكْ فَقَدْ أُلْقِيَ إِلَيَّ سُؤَالٌ عَنْهَا نَشَرْتُهُ مَعَ الْجَوَابِ عَنْهُ فِي صَفْحَةِ ٧٨٨ مِنَ الْمُجَلَّدِ السَّادِسِ مِنَ الْمَنَارِ (سَنَةَ ١٣٢١ هـ) وَهَذَا نَصُّهُ.
135
شُبْهَةٌ عَلَى الْوَحْيِ
حَضْرَةَ الْأُسْتَاذِ الرَّشِيدِ
عَرَضَتْ لِي شُبَهَاتٌ فِي وُقُوعِ الْوَحْيِ (وَهُوَ أَسَاسُ الدِّينِ) فَعَمَدْتُ إِلَى رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ لِلشَّيْخِ مُحَمَّدْ عَبْدُهْ - حَيْثُ وَقَعَ اخْتِيَارِي عَلَيْهَا - وَقَرَأْتُ فِي بَابَيْ (حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَى الْوَحْيِ) وَ (إِمْكَانِ الْوَحْيِ) فَوَجَدْتُ الْكَلَامَ وَجِيهًا مَعْقُولًا، غَيْرَ أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الشَّيْءِ لَا تَسْتَلْزِمُ وُقُوعَهُ، وَكَذَا إِمْكَانُهُ وَعَدَمُ اسْتِحَالَتِهِ عَقْلًا لَا يَقْتَضِي حُصُولَهُ. ثُمَّ ذُكِرَ بَعْدُ مِنْ أَنَّ حَالَةَ النَّبِيِّ وَسُلُوكَهُ بَيْنَ قَوْمِهِ بِجَلَائِلِ الْأَعْمَالِ وَبِوُقُوعِ الْخَيْرِ لِلنَّاسِ عَلَى يَدَيْهِ هُوَ دَلِيلُ نُبُوَّتِهِ وَتَأْيِيدُ بَعْثَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْئًا، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ (كَوْنُ) النَّبِيِّ حَمِيدَ السِّيرَةِ فِي عَشِيرَتِهِ صَادِقًا فِي دَعْوَتِهِ - أَعْنِي مُعْتَقِدًا فِي نَفْسِهِ - سَبَبًا فِي نُهُوضِ أُمَّتِهِ، وَلَا يَكُونُ كُلُّ ذَلِكَ مَدْعَاةً إِلَى الِاعْتِقَادِ بِهِ وَالتَّسْلِيمِ لَهُ.
وَلَقَدْ حَدَثَ بِفَرَنْسَا فِي الْقَرْنِ الْخَامِسَ عَشَرَ الْمِيلَادِيِّ إِذْ كَانَتْ مَقْهُورَةً لِلْإِنْكِلِيزِ
أَنَّ بِنْتًا تُدْعَى (جَانْ دَارْكْ) مَنْ أَجْمَلِ النِّسَاءِ سِيرَةً وَأَسْلَمِهِنَّ نِيَّةً اعْتَقَدَتْ وَهِيَ مِنْ بَيْتِ أَهْلِهَا بَعِيدَةً عَنِ التَّكَالِيفِ السِّيَاسِيَّةِ أَنَّهَا مُرْسَلَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ لِإِنْقَاذِ وَطَنِهَا وَدَفْعِ الْعَدُوِّ عَنْهُ، وَصَارَتْ تَسْمَعُ صَوْتَ الْوَحْيِ فَأَخْلَصَتْ فِي الدَّعْوَةِ لِلْقِتَالِ، وَتَوَصَّلَتْ بِصِدْقِ إِرَادَتِهَا إِلَى رِئَاسَةِ جَيْشٍ صَغِيرٍ وَغَلَبَتْ بِهِ الْعَدُوَّ فِعْلًا، ثُمَّ مَاتَتْ غِبَّ نُصْرَتِهَا مَوْتَةَ الْأَبْطَالِ مِنَ الرِّجَالِ، إِذْ خَذَلَهَا قَوْمُهَا، وَوَقَعَتْ فِي يَدِ عَدُوِّهَا فَأَلْقَوْهَا فِي النَّارِ حَيَّةً، فَذَهَبَتْ تَارِكَةً فِي صَحَائِفِ التَّارِيخِ اسْمًا يَعْبَقُ نَشْرُهُ وَتَضُوعُ رَيَّاهُ، وَهِيَ الْآنَ مَوْضِعُ إِجْلَالِ الْقَوْمِ وَإِعْظَامِهِمْ، فَلَقَدْ تَيَسَّرَتْ لَهُمُ النَّهْضَةُ بَعْدَهَا وَجَرَوْا فِي الْعِلْمِ وَالرُّقِيِّ بَعِيدًا.
فَهَلْ نَجْزِمُ لِذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ الْبِنْتَ نَبِيَّةٌ مُرْسَلَةٌ؟ ؟ رُبَّمَا تَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّ عَمَلَهَا لَا يُذْكَرُ مُقَارَنًا بِمَا أَتَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَمَا وَصَلَ لِلنَّاسِ مِنَ الْخَيْرِ بِسَبَبِهِمْ، فَأَقُولُ: هَلْ هُنَاكَ مِنْ مِيزَانٍ نَزِنُ بِهِ الْأَعْمَالَ النَّافِعَةَ لِنَعْلَمَ إِنْ كَانَتْ وَصَلَتْ إِلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي يَجِبُ مَعَهَا أَنْ نُصَدِّقَ دَعْوَةَ صَاحِبِهَا؟ وَهَلْ لَوْ سَاعَدَتِ الصُّدَفُ (كَذَا) رَجُلًا عَلَى أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ النَّاسِ فِعْلًا وَأَبْقَاهُمْ أَثَرًا وَاعْتَقَدَ بِرِسَالَةِ نَفْسِهِ لِوَهْمٍ قَامَ (عِنْدَهُ) يُفْضِي بِنَا ذَلِكَ إِلَى التَّيَقُّنِ مِنْ رِسَالَتِهِ؟
أَظُنُّ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مُضَافًا لِغَيْرِهِ يَدْعُو إِلَى التَّرْجِيحِ وَلَا يَسْتَلْزِمُ الْيَقِينَ أَبَدًا. عَلَى أَنَّنِي أَنْتَظِرُ أَنْ تَجِدُوا فِي قَوْلِي هَذَا خَطَأً تُقْنِعُونِي بِهِ أَوْ تَزِيدُونِي إِيضَاحًا يَنْكَشِفُ بِهِ الْحِجَابُ وَتَنَالُونَ بِهِ الثَّوَابَ. هَذَا وَإِنِّي أَعْلَمُ مِنْ فِئَةٍ مُسْلِمَةٍ مَا أَعْلَمُهُ مِنْ نَفْسِي وَلَكِنَّهُمْ يَتَحَفَّظُونَ فِي الْكِتْمَانِ، وَيَسْأَلُونَ الْكُتُبَ خَشْيَةَ سُؤَالِ الْإِنْسَانِ، وَلَكِنِّي لَا أَجِدُ فِي السُّؤَالِ عَارًا، وَكُلُّ عَقْلٍ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَيَزِلُّ وَيَسْتَقِيمُ. (أَحَدُ قُرَّائِكُمْ).
136
(جَوَابُ الْمَنَارِ)
لَقَدْ سَرَّنَا مِنَ السَّائِلِ أَنَّهُ عَلَى تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يُذْعِنْ لَهَا تَمَامَ الْإِذْعَانِ، فَيَسْتَرْسِلُ فِي تَعَدِّي حُدُودِ الدِّينِ إِلَى فَضَاءِ الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ الَّتِي تُفْسِدُ الْأَرْوَاحَ وَالْأَجْسَامَ، بَلْ أَطَاعَ شُعُورَ الدِّينِ الْفِطْرِيِّ، وَلَجَأَ إِلَى الْبَحْثِ فِي الْكُتُبِ، ثُمَّ السُّؤَالِ مِمَّنْ يُظَنُّ فِيهِمُ الْعِلْمُ بِمَا يَكْشِفُ الشُّبْهَةَ، وَيُقِيمُ الْحُجَّةَ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَيَنْصَرِفُونَ عَنْ طَلَبِ الْحَقِّ عِنْدَ أَوَّلِ قَذْعَةٍ مِنَ الشُّبَهِ تَلُوحُ فِي فَضَاءِ أَذْهَانِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ شَبُّوا عَلَى حُبِّ التَّمَتُّعِ وَالِانْغِمَاسِ فِي اللَّذَّةِ، وَيَرَوْنَ الدِّينَ صَادًّا لَهُمْ عَنِ
الِانْهِمَاكِ وَالِاسْتِرْسَالِ فِيهَا، فَهُمْ يُحَاوِلُونَ إِمَاتَةَ شُعُورِهِ الْفِطْرِيِّ، كَمَا أَمَاتَ النُّشُوءُ فِي الْجَهْلِ بُرْهَانَهُ الْكَسْبِيَّ.
أَرَى السَّائِلَ نَظَرَ مِنْ رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ وَوَعَاهَا وَلَكِنَّهُ لَمْ يُدَقِّقِ النَّظَرَ فِي الْمَقَاصِدِ وَالنَّتَائِجِ ; لِذَلِكَ نَرَاهُ مُسَلِّمًا بِالْمُقَدَّمَاتِ دُونَ النَّتِيجَةِ مَعَ اللُّزُومِ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا هُوَ عَادَ إِلَى مَبْحَثِ (حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَى الرِّسَالَةِ) وَتَدَبَّرَهُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاللهِ وَأَنَّهُ أَقَامَ الْكَوْنَ عَلَى أَسَاسِ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالنِّظَامِ الْكَامِلِ فَإِنَّنِي أَرْجُو لَهُ أَنْ يَقْتَنِعَ. ثُمَّ إِنَّنِي آنَسْتُ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ مَبْحَثَ (وُقُوعِ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ) أَوْ لَعَلَّهُ قَرَأَهُ وَلَمْ يَتَدَبَّرْهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْبُرْهَانَ عَلَى نَفْسِ الرِّسَالَةِ وَيَبْنِي الشُّبْهَةَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا بَنَاهَا عَلَى جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمُقَدِّمَاتِ، وَهِيَ الْقَوْلُ فِي بَعْضِ صِفَاتِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَإِنَّنِي أَكْشِفُ لَهُ شُبْهَتَهُ أَوَّلًا فَأُبَيِّنُ أَنَّهَا لَمْ تُصِبْ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَعُودُ إِلَى رَأْيِي فِي الْمَوْضُوعِ.
إِنَّ (جَانْ دَارْكْ) الَّتِي اشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَمْرُهَا بِوَحْيِ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ تَقُمْ بِدَعْوَةٍ إِلَى دِينٍ أَوْ مَذْهَبٍ تَدَّعِي أَنَّ فِيهِ سَعَادَةَ الْبَشَرِ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا هُوَ شَأْنُ جَمِيعِ الْمُرْسَلِينَ، وَلَمْ تَأْتِ بِآيَةٍ كَوْنِيَّةٍ وَلَا عِلْمِيَّةٍ لَا يُعْهَدُ مِثْلُهَا مِنْ كَسْبِ الْبَشَرِ تَتَحَدَّى بِهَا النَّاسَ لِيُؤْمِنُوا بِهَا. وَإِنَّمَا كَانَتْ فَتَاةً ذَاتَ وِجْدَانٍ شَرِيفٍ هَاجَهُ شُعُورُ الدِّينِ وَحَرَّكَتْهُ مُزْعِجَاتُ السِّيَاسَةِ، فَتَحَرَّكَ، فَنَفَرَ، فَصَادَفَ مُسَاعَدَةً مِنَ الْحُكُومَةِ، وَاسْتِعْدَادًا مِنَ الْأُمَّةِ لِلْخُرُوجِ مِنَ الذُّلِّ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ، وَكَانَ التَّحَمُّسُ الَّذِي حَرَّكَتْهُ سَبَبًا لِلْحَمْلَةِ الصَّادِقَةِ عَلَى الْعَدْوِ وَخِذْلَانِهِ. وَمَا أَسْهَلَ تَهْيِيجَ حَمَاسَةِ أَهْلِ فَرَنْسَا بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُؤَثِّرَاتِ وَبِمَا هُوَ أَضْعَفُ مِنْهَا، فَإِنَّ نَابِلْيُونَ الْأَوَّلَ كَانَ يَسُوقُهُمْ إِلَى الْمَوْتِ مُخْتَارِينَ بِكَلِمَةٍ شِعْرِيَّةٍ يَقُولُهَا كَكَلِمَتِهِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَ الْأَهْرَامِ.
وَأُذَكِّرُ السَّائِلَ الْفَطِنَ بِأَنَّهُ لَمْ يُوَافِقِ الصَّوَابَ فِي إِبْعَادِ الْفَتَاةِ عَنِ السِّيَاسَةِ وَمَذَاهِبِهَا فَقَدْ جَاءَ فِي تَرْجَمَتِهَا مِنْ (دَائِرَةِ الْمَعَارِفِ الْعَرَبِيَّةِ لِلْبُسْتَانِيِّ) مَا نَصُّهُ:
((كَانَتْ مُتَعَوِّدَةً الشُّغْلَ خَارِجَ الْبَيْتِ كَرَعْيِ الْمَوَاشِي وَرُكُوبِ الْخَيْلِ إِلَى الْعَيْنِ وَمِنْهَا إِلَى الْبَيْتِ، وَكَانَ النَّاسُ فِي جِوَارِ دُومَرْمَى (أَيْ بَلَدِهَا) مُتَمَسِّكِينَ بِالْخُرَافَاتِ، وَيَمِيلُونَ
137
إِلَى حِزْبِ أُورْلِيَانْ فِي الِانْقِسَامَاتِ الَّتِي مَزَّقَتْ مَمْلَكَةَ فَرَنْسَا، وَكَانَتْ جَانْ
تَشْتَرِكُ فِي الْهِيَاجِ السِّيَاسِيِّ وَالْحَمَاسَةِ الدِّينِيَّةِ. وَكَانَتْ كَثِيرَةَ التَّخَيُّلِ وَالْوَرَعِ تُحِبُّ أَنْ تَتَأَمَّلَ فِي قِصَصِ الْعَذْرَاءِ وَعَلَى الْأَكْثَرِ فِي نُبُوَّةٍ كَانَتْ شَائِعَةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَهِيَ إِحْدَى الْعَذَارَى سَتُخَلِّصُ فَرَنْسَا مِنْ أَعْدَائِهَا. وَلَمَّا كَانَ عُمُرُهَا ١٣ سَنَةً كَانَتْ تَعْتَقِدُ بِالظُّهُورَاتِ الْفَائِقَةِ الطَّبِيعَةَ وَتَتَكَلَّمُ عَنْ أَصْوَاتٍ كَانَتْ تَسْمَعُهَا وَرُؤًى كَانَتْ تَرَاهَا. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِبِضْعِ سِنِينَ خُيِّلَ لَهَا أَنَّهَا قَدْ دُعِيَتْ لِتُخَلِّصَ بِلَادَهَا وَتُتَوَّجَ مُلْكَهَا. ثُمَّ أَوْقَعَ (الْبَرِغْنِيُورُ) تَعَدِّيًا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي وُلِدَتْ فِيهَا فَقَوَّى ذَلِكَ اعْتِقَادَهَا بِصِحَّةِ مَا خُيِّلَ لَهَا)).
ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ تَوَسُّلَهَا إِلَى الْحُكَّامِ وَتَعْيِينَهَا قَائِدَةً لِجَيْشِ مَلِكِهَا وَهُجُومَهَا بِعَشَرَةِ آلَافِ جُنْدِيٍّ ضُبَّاطُهُمْ مَلَكِيُّونَ عَلَى عَسْكَرِ الْإِنْكِلِيزِ الَّذِينَ كَانُوا يُحَاصِرُونَ أُورْلِيَانْ، وَأَنَّهَا دَفَعَتْهُمْ عَنْهَا حَتَّى رَفَعُوا الْحِصَارَ فِي مُدَّةِ أُسْبُوعٍ، وَذَلِكَ سَنَةَ ١٤٢٩ م ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ زَالَتْ خَيَالَاتُهَا الْحَمَاسِيَّةُ، وَلِذَلِكَ هُوجِمَتْ فِي السَّنَةِ التَّالِيَةِ سَنَةِ ١٤٣٠ م فَانْكَسَرَتْ وَجُرِحَتْ وَأُسِرَتْ.
فَمِنْ مُلَخَّصِ الْقِصَّةِ يُعْلَمُ أَنَّ مَا كَانَ مِنْهَا إِنَّمَا هُوَ تَهَيُّجٌ عَصَبِيٌّ سَبَّبَهُ التَّأَلُّمُ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ السِّيَاسِيَّةِ الَّتِي كَانَ يَتَأَلَّمُ مِنْهَا مَنْ نَشَأَتْ بَيْنَهُمْ مَعَ مَعُونَةِ التَّحَمُّسِ الدِّينِيِّ وَالِاعْتِقَادِ بِالْخُرَافَاتِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ ذَائِعَةً فِي زَمَنِهَا. وَهَذَا شَيْءٌ عَادِيٌّ مَعْرُوفُ السَّبَبِ وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الَّذِينَ يَقُومُونَ بَاسِمِ الْمَهْدِيِّ الْمُنْتَظَرِ كَمُحَمَّدِ أَحْمَدَ السُّودَانِيِّ وَالْبَابِ (وَكَذَا الْبَهَاءُ وَالْقَادْيانِيُّ) بَلِ الشُّبْهَةُ فِي قِصَّتِهَا أَبْعَدُ مِنَ الشُّبْهَةِ فِي قِصَّةِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ أَسْبَابُ النَّهْضَةِ مُتَقَارِبَةً فَإِنَّ هَذَيْنِ كَانَا كَأَمْثَالِهِمَا يَدْعُوَانِ إِلَى شَيْءٍ (مُلَفَّقٍ) يَزْعُمَانِ أَنَّهُ إِصْلَاحٌ لِلْبَشَرِ فِي الْجُمْلَةِ.
أَيْنَ هَذِهِ النَّوْبَةُ الْعَصَبِيَّةُ الْقَصِيرَةُ الزَّمَنِ، الْمَعْرُوفَةُ السَّبَبِ، الَّتِي لَا دَعْوَةَ فِيهَا إِلَى عِلْمٍ وَلَا إِصْلَاحٍ اجْتِمَاعِيٍّ إِلَّا الْمُدَافَعَةَ عَنِ الْوَطَنِ عِنْدَ الضِّيقِ الَّتِي هِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ الْأَعْجَمِ، الَّتِي لَا حُجَّةَ تَعْمِدُهَا، وَلَا مُعْجِزَةَ تُؤَيِّدُهَا، الَّتِي اشْتَعَلَتْ بِنَفْخَةٍ وَطَفِئَتْ بِنَفْخَةٍ؟ أَيْنَ هِيَ مِنْ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي بَيَّنَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أَنَّهَا حَاجَةٌ طَبِيعِيَّةٌ مِنْ حَاجَاتِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، طَلَبَهَا هَذَا النَّوْعُ بِلِسَانِ اسْتِعْدَادِهِ فَوَهَبَهَا لَهُ الْمُدَبِّرُ الْحَكِيمُ: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (٢٠: ٥٠) فَسَارَ الْإِنْسَانُ بِذَلِكَ إِلَى كَمَالِهِ، فَلَمْ يَكُنْ أَدْنَى مِنْ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ الْحَيَّةِ النَّامِيَةِ بَلْ أَرْقَى وَأَعْلَى. وَأَيْنَ دَلِيلُهَا مِنْ أَدِلَّةِ
النُّبُوَّةِ وَأَيْنَ أَثَرُهَا مِنْ أَثَرِ النُّبُوَّةِ؟ إِنَّ الْأُمَمَ الَّتِي ارْتَقَتْ بِمَا أَرْشَدَهَا إِلَيْهِ تَعَالِيمُ الْوَحْيِ إِنَّمَا ارْتَقَتْ بِطَبِيعَةِ ذَلِكَ التَّعْلِيمِ وَتَأْثِيرِهِ، وَإِنَّ فَرَنْسَا لَمْ تَرْتَقِ بِإِرْشَادِ (جَانْ دَارْكْ) وَتَعْلِيمِهَا، وَإِنَّمَا مِثْلُهَا مِثْلُ قَائِدٍ انْتَصَرَ فِي وَاقِعَةٍ فَاصِلَةٍ بِشَجَاعَتِهِ وَبِأَسْبَابٍ أُخْرَى لَيْسَتْ مِنْ صُنْعِهِ، وَاسْتَوْلَتْ أُمَّتُهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ عَلَى بِلَادٍ رَقَّتْهَا بِعُلُومِ عُلَمَائِهَا وَحِكْمَةِ حُكَمَائِهَا وَصُنْعِ صُنَّاعِهَا، وَلَمْ يَكُنِ الْقَائِدُ يَعْرِفُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا وَلَمْ يُرْشَدْ إِلَيْهِ، فَلَا يُقَالُ
138
إِنَّ ذَلِكَ الْقَائِدَ هُوَ الَّذِي أَصْلَحَ تِلْكَ الْبِلَادَ، وَعَمَّرَهَا وَمَدَّنَهَا، وَإِنْ عُدَّ سَبَبًا بَعِيدًا فَهُوَ شَبِيهٌ بِالسَّبَبِ الطَّبِيعِيِّ، كَهُبُوبِ رِيحٍ تُهَيِّجُ الْبَحْرَ فَيَغْرَقُ الْأُسْطُولُ وَتَنْتَصِرُ الْأُمَّةُ.
أَيْنَ حَالُ تِلْكَ الْفَتَاةِ الَّتِي كَانَتْ كَبَارِقَةٍ خَفَّتْ (أَيْ ظَهَرَتْ وَأَوْمَضَتْ) ثُمَّ خَفِيَتْ، وَصَيْحَةٍ عَلَتْ وَلَمْ تَلْبَثْ أَنْ خَفَتَتْ، مَنْ حَالِ شَمْسِ النُّبُوَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الَّتِي أَشْرَقَتْ فَأَنَارَتِ الْأَرْجَاءَ، وَلَا يَزَالُ نُورُهَا وَلَنْ يُزَالَ مُتَأَلِّقَ السَّنَاءِ، أُمِّيٌّ يَتِيمٌ قَضَى سِنَّ الصِّبَا وَسِنَّ الشَّبَابِ هَادِئًا سَاكِنًا لَا يُعْرَفُ عَنْهُ عِلْمٌ وَلَا تَخَيُّلٌ، وَلَا وَهْمٌ دِينِيٌّ، وَلَا شِعْرٌ، وَلَا خَطَابَةٌ، ثُمَّ صَاحَ عَلَى رَأْسِ الْأَرْبَعِينَ بِالْعَالَمِ كُلِّهِ صَيْحَةً ((إِنَّكُمْ عَلَى ضَلَالٍ مُبِينٍ، فَاتَّبِعُونِ أَهْدِكُمُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) فَأَصْلَحَ وَهُوَ الْآدَمِيُّ أَدْيَانَ الْبَشَرِ عَقَائِدَهَا وَآدَابَهَا وَشَرَائِعَهَا، وَقَلَبَ نِظَامَ الْأَرْضِ فَدَخَلَتْ بِتَعْلِيمِهِ فِي طَوْرٍ جَدِيدٍ؟ لَا جَرَمَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْحَالَيْنِ عَظِيمٌ إِذَا أَمْعَنَ النَّظَرَ فِيهِ الْعَاقِلُ.
لَا سَعَةَ فِي جَوَابِ سُؤَالٍ لِتَقْرِيرِ الدَّلِيلِ عَلَى النُّبُوَّةِ وَإِنَّمَا أُحِيلَ السَّائِلَ عَلَى التَّأَمُّلِ فِي بَقِيَّةِ بَحْثِ النُّبُوَّةِ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ وَمُرَاجَعَةِ مَا كَتَبْنَاهُ أَيْضًا مِنَ الْأَمَالِي الدِّينِيَّةِ فِي الْمَنَارِ لَا سِيَّمَا الدَّرْسِ الَّذِي عُنْوَانُهُ (الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ، عَلَى صِدْقِ النُّبُوَّاتِ) وَإِنْ كَانَ يَصْدُقُ عَلَى رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ الْمَثَلُ ((كُلُّ صَيْدٍ فِي جَوْفِ الْفَرَا)) فَإِنْ بَقِيَ عِنْدَهُ شُبْهَةٌ فَالْأَوْلَى أَنْ يَتَفَضَّلَ بِزِيَارَتِنَا لِأَجْلِ الْمُذَاكَرَةِ الشِّفَاهِيَّةِ فِي الْمَوْضُوعِ، فَإِنَّ الْمُشَافَهَةَ أَقْوَى بَيَانًا، وَأَنْصَعُ بُرْهَانًا، وَنَحْنُ نُعَاهِدُهُ بِأَنْ نَكْتُمَ أَمْرَهُ وَإِنْ أَبَى فَلْيَكْتُبْ إِلَيْنَا مَا يَظْهَرُ لَهُ مِنَ الشُّبْهَةِ عَلَى مَا فِي الرِّسَالَةِ وَالْأَمَالِي مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُقُوعِ النُّبُوَّةِ بِالْفِعْلِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ نُسْهِبُ فِي الْجَوَابِ بِمَا نَرْجُو أَنْ يَكُونَ مُقْنِعًا، عَلَى أَنَّ الْمُشَافَهَةَ أَوْلَى كَمَا هُوَ مَعْقُولٌ وَكَمَا ثَبَتَ لَنَا بِالتَّجْرِبَةِ مَعَ كَثِيرٍ مِنَ الْمُشْتَبِهِينَ وَالْمُرْتَابِينَ اهـ.
هَذَا وَإِنَّ مَا بَيَّنَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي إِثْبَاتِ وُقُوعِ الْوَحْيِ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ فَهْمَهُ حَقَّ الْفَهْمِ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِوُجُودِ اللهِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ إِلَّا أَنْ يَقْبَلَهُ وَيُذْعِنَ لَهُ، فَإِنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الْوَحْيَ وَالرِّسَالَةَ بِالْمَعْنَى الَّذِي قَرَّرَهُ لَازِمٌ عَقْلِيٌّ لِعِلْمِهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ وَكَوْنِهِ هُوَ: (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (٢٠: ٥٠) وَلَا يَفْهَمُهُ حَقَّ الْفَهْمِ إِلَّا مَنْ أُوتِيَ نَصِيبًا مِنْ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ وَحِكْمَةِ الْوُجُودِ وَسُنَنِهِ وَأُصُولِ الْعَقَائِدِ، وَنَصِيبًا آخَرَ مِنْ بَلَاغَةِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. وَإِنَّ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرِسَالَتَهُ يُمْكِنُ إِثْبَاتُهَا بِمَا دُونَ هَذِهِ الْفَلْسَفَةِ وَالْبَلَاغَةِ وَهُوَ مَا قَهَرَ عُقُولَ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ عَلَى تَصْدِيقِ دَعْوَتِهِ. وَحَمَلَ الْمَادِّيِّينَ عَلَى تَصْوِيرِهَا بِمَا نَبْسُطُهُ فِيمَا يَأْتِي وَنُقَفِّي عَلَيْهِ بِإِثْبَاتِ بُطْلَانِهِ.
139
تَفْصِيلُ الشُّبْهَةِ وَدَحْضُهَا بِالْحُجَّةِ
قَدْ فَصَّلَ إِمِيلْ دِرِمِنْغَامِ الشُّبْهَةَ الَّتِي أَجْمَلَهَا مُونْتِيِهْ بِمَا لَمْ نَرَ مِثْلَهُ لِغَيْرِهِ مِنْ كُتَّابِ الْإِفْرِنْجِ حَتَّى اغْتَرَّ بِكَلَامِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ; فَإِنْ كَانَ حَكِيمُنَا السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ قَالَ لِبَعْضِ مُجَادِلِي النَّصْرَانِيَّةِ: إِنَّكُمْ فَصَّلْتُمْ قَمِيصًا مِنْ رِقَاعِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَأَلْبَسْتُمُوهَا لِلْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَنَحْنُ نَقُولُ لَهُمْ: إِنَّكُمْ فَصَّلْتُمْ قَمِيصًا آخَرَ مِمَّا فَهِمْتُمْ مِنْ تَارِيخِ الْإِسْلَامِ لَا مِنْ نُصُوصِهِ وَحَاوَلْتُمْ خَلْعَهَا عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّنِي أَشْرَحُ هَذِهِ الشُّبْهَةَ بِأَوْضَحِ مِمَّا كَتَبَهُ دِرِمِنْغَامْ وَمَا بَلَغَنِي عَنْ كُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ، ثُمَّ أَكُرُّ عَلَيْهَا بِالنَّقْضِ وَالدَّحْضِ فَأَقُولُ:
(١) قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ لَقِيَ بَحِيرَى الرَّاهِبَ فِي مَدِينَةِ بُصْرَى بِالشَّامِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ كَانَ نَسْطُورِيًّا مِنْ أَتْبَاعِ آرْيُوسَ فِي التَّوْحِيدِ وَيُنْكِرُ أُلُوهِيَّةَ الْمَسِيحِ وَعَقِيدَةَ التَّثْلِيثِ وَإِنَّ مُحَمَّدًا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ مِنْهُ عَقِيدَتَهُ، وَقَالُوا فِي بَحِيرَى أَيْضًا: إِنَّهُ كَانَ عَالِمًا فَلَكِيًّا مُنَجِّمًا وَحَاسِبًا سَاحِرًا، وَإِنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللهَ ظَهَرَ لَهُ وَأَنْبَأَهُ بِأَنْ سَيَكُونُ هَادِيًا لِآلِ إِسْمَاعِيلَ إِلَى الدِّينِ الْمَسِيحِيِّ.
بَلْ سَمِعْنَا مِنْ بَعْضِ الرُّهْبَانِ أَنَّهُ كَانَ مُعَلِّمًا لِمُحَمَّدٍ وَمُصَاحِبًا لَهُ بَعْدَ رِسَالَتِهِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا مَا حَرَّمَ الْخَمْرَ إِلَّا لِأَنَّهُ قَتَلَ أُسْتَاذَهُ بَحِيرَى وَهُوَ سَكْرَانُ، وَأَمْثَالُ هَذَا مِنَ الِافْتِرَاءِ وَالْبُهْتَانِ. وَكُلُّ مَا عَرَفَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ رُوَاةِ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا خَرَجَ مَعَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ وَهُوَ ابْنُ تِسْعِ سِنِينَ
وَقِيلَ ١٢ سَنَةً رَآهُ هَذَا الرَّاهِبُ مَعَ قُرَيْشٍ وَرَأَى سَحَابَةً تُظَلِّلُهُ مِنَ الشَّمْسِ، وَذَكَرَ لِعَمِّهِ أَنَّهُ سَيَكُونُ لَهُ شَأْنٌ وَحَذَّرَهُ عَلَيْهِ مِنَ الْيَهُودِ - وَفِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَاتٌ أُخْرَى بِمَعْنَاهَا ضَعِيفَةُ الْأَسَانِيدِ إِلَّا رِوَايَةً لِلتِّرْمِذِيِّ لَيْسَ فِيهَا اسْمُ بَحِيرَى وَفِيهَا غَلَطٌ فِي الْمَتْنِ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ مِنْ بَحِيرَى شَيْئًا مِنْ عَقِيدَتِهِ أَوْ دِينِهِ.
(٢) قَالُوا إِنَّ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ كَانَ مِنْ مُتَنَصِّرَةِ الْعَرَبِ الْعُلَمَاءِ بِالنَّصْرَانِيَّةِ وَأَحَدَ أَقَارِبِ خَدِيجَةَ - يُوهِمُونَ الْقَارِئَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ عِلْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ - وَالَّذِي صَحَّ مِنْ خَبَرِ وَرَقَةَ هَذَا هُوَ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَنَّ خَدِيجَةَ أَخَذَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقِبَ إِخْبَارِهِ إِيَّاهَا بِرُؤْيَةِ الْمَلَكِ فِي حِرَاءَ إِلَى وَرَقَةَ هَذَا وَأَخْبَرَتْهُ خَبَرَهُ وَكَانَ شَيْخًا قَدْ عَمِيَ وَلَمْ يَلْبَثْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ تُوُفِّيَ وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَآهُ قَبْلَ ذَلِكَ (وَسَأَذْكُرُ نَصَّ الْحَدِيثِ فِي آخِرِ هَذَا الْمَبْحَثِ) وَقَدِ اسْتَقْصَى الْمُحَدِّثُونَ وَالْمُؤَرِّخُونَ كُلَّ مَا عُرِفَ عَنْ وَرَقَةَ هَذَا مِمَّا صَحَّ سَنَدُهُ وَمِمَّا لَمْ يَصِحَّ لَهُ سَنَدٌ كَدَأْبِهِمْ فِي كُلِّ مَا لَهُ عَلَاقَةٌ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ عَرَفَ عَنْهُ دَعْوَةً إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ أَوْ كِتَابَةً فِيهَا.
وَإِنَّمَا وَرَدَ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ قَالَ حِينَ عَلِمَ مِنْ خَدِيجَةَ خَبَرَ مُحَمَّدٍ: إِنَّهُ هُوَ النَّبِيُّ الْمُنْتَظَرُ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ. وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ عَاشَ حَتَّى رَأَى بِلَالًا يُعَذِّبُهُ
140
الْمُشْرِكُونَ لِيَرْجِعَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَلَكِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ شَاذَّةٌ مُخَالِفَةٌ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ، الصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ بَدْءِ الْوَحْيِ أَعْمَى وَلَمْ يَنْشَبْ أَيْ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ، وَقَدْ كَانَ تَعْذِيبُ بِلَالٍ بَعْدَ إِظْهَارِ دَعْوَةِ النُّبُوَّةِ وَدُخُولِ النَّاسِ فِيهَا، وَقَدْ كَانَ هَذَا بَعْدَ بَدْءِ الْوَحْيِ بِثَلَاثِ سِنِينَ - وَإِمِيلْ دِرِمِنْغَامْ قَدْ غَلِطَ فِيمَا نَقَلَهُ مِنْ خَبَرِ فَتْرَةِ الْوَحْيِ لِاخْتِلَاطِ الرِّوَايَاتِ عَلَيْهِ فِيهَا وَعَدَمِ اطِّلَاعِهِ عَلَى مَا دُوِّنَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ مِنْهَا. وَإِنَّمَا كَانَ هَمُّ الْمُحَدِّثِينَ فِي خَبَرِ وَرَقَةَ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ كَانَ صَحَابِيًّا أَمْ لَا، فَإِنَّ الصَّحَابِيَّ هُوَ مَنْ لَقِيَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الْبَعْثَةِ مُؤْمِنًا بِهِ، وَلَوْ بَلَغَهُمْ عَنْهُ أَيُّ شَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ بِالتَّوْرَاةِ أَوِ الْإِنْجِيلِ لَنَقَلُوهُ.
(٣) ذَكَرُوا مَا كَانَ مِنِ انْتِشَارِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَتَنَصُّرِ بَعْضِ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ وَشُعَرَائِهِمْ كَقُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ الْأَيَادِيِّ وَأُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، وَإِشَادَةِ هَؤُلَاءِ بِمَا كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ قُرْبِ ظُهُورِ النَّبِيِّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرُهُمَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَدْ نَشَرْنَا بَعْضَ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ فِي
التَّوْرَاةِ وَالْأَنَاجِيلِ وَكُتُبِ النُّبُوَّاتِ فِي تَفْسِيرِ (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) (١٥٧) مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
فَأَمَّا الْقُسُّ فَقَدْ مَاتَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَآهُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ يَخْطُبُ النَّاسَ فِي سُوقِ عُكَاظٍ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَوْرَقَ، بِكَلَامٍ لَهُ مُونِقٍ، قَالَ فِيهِ: إِنَّ لِلَّهِ دِينًا خَيْرًا مِنْ دِينِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ، وَنَبِيًّا قَدْ أَظَلَّكُمْ زَمَانُهُ، وَأَدْرَكُكُمْ أَوَانُهُ، فَطُوبَى لِمَنْ أَدْرَكَهُ فَاتَّبَعَهُ، وَوَيْلٌ لِمَنْ خَالَفَهُ - وَالرِّوَايَاتُ فِي هَذَا ضَعِيفَةٌ، وَتَعَدُّدُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهَا أَصْلًا.
وَأَمَّا أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيُّ فَهُوَ شَاعِرٌ مَشْهُورٌ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: اتَّفَقَتِ الْعَرَبُ عَلَى أَنَّ أُمَيَّةَ أَشْعَرُ ثَقِيفَ، وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ: كَانَ أُمَيَّةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَظَرَ الْكُتُبَ وَقَرَأَهَا وَلَبِسَ الْمُسُوحَ تَعَبُّدًا وَكَانَ يَذْكُرُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْحَنِيفِيَّةَ، وَحَرَّمَ الْخَمْرَ وَتَجَنَّبَ الْأَوْثَانَ وَطَمِعَ فِي النُّبُوَّةِ لِأَنَّهُ قَرَأَ فِي الْكُتُبِ أَنَّ نَبِيًّا يُبْعَثُ بِالْحِجَازِ فَرَجَا أَنْ يَكُونَ هُوَ، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَسَدَهُ فَلَمْ يُسْلِمْ. وَهُوَ الَّذِي رَثَى قَتْلَى بَدْرٍ (الْمُشْرِكِينَ) بِالْقَصِيدَةِ الَّتِي أَوَّلُهَا:
مَاذَا بِبَدْرٍ وَالْعَقَنْ قَلِ مِنْ مَرَازِبَةٍ جَحَاجِحْ
وَفِي الْمِرْآةِ عَنِ ابْنِ هِشَامٍ أَنَّهُ كَانَ آمَنَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدِمَ الْحِجَازَ، لِيَأْخُذَ مَالَهُ مِنَ الطَّائِفِ وَيُهَاجِرَ، فَعَلِمَ بِغَزْوَةِ بَدْرٍ وَقَتْلِ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ فِيهَا فَجَدَعَ أَنْفَ نَاقَتِهِ وَشَقَّ ثَوْبَهُ وَبَكَى ; لِأَنَّ فِيهِمُ ابْنَيْ خَالِهِ وَعَادَ إِلَى الطَّائِفِ وَمَاتَ فِيهَا. وَصَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ
141
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَنْشَدَ الشَّرِيدَ بْنَ عَمْرٍو مِنْ شِعْرِهِ فَأَنْشَدَهُ فَقَالَ: ((كَادَ أَنْ يُسْلِمَ)) وَلَكِنَّهُ كَانَ حَنِيفِيًّا عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَلَمْ يَتَنَصَّرْ وَمِنْ شِعْرِهِ:
كُلُّ دَيْنٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللهِ إِلَّا دِينَ الْحَنِيفَةِ زُورٌ
(٤) إِسْلَامُ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - كَانَ فَارِسِيًّا مَجُوسِيًّا فَتَنَصَّرَ عَلَى يَدِ بَعْضِ الرُّهْبَانِ وَصَحِبَ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ عُبَّادِهِمْ وَسَمِعَ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ آخِرِهِمْ بِقُرْبِ ظُهُورِ النَّبِيِّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ عِيسَى وَالْأَنْبِيَاءُ مِنَ الْعَرَبِ فَقَصَدَ بِلَادَ الْعَرَبِ وَبِيعَ لِبَعْضِ يَهُودِ يَثْرِبَ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا وَلَمْ يَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَأَسْلَمَ وَكَاتَبَ سَيِّدَهُ. وَفِي قِصَّتِهِ رِوَايَاتٌ مُتَعَارِضَةٌ، هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْهَا لِدِرِمِنْغَامْ وَغَيْرِهِ.
(٥) ذَكَرُوا مَا كَانَ مِنْ رِحْلَةِ تُجَّارِ قُرَيْشٍ فِي الشِّتَاءِ إِلَى الْيَمَنِ وَفِي الصَّيْفِ إِلَى الشَّامِ وَاجْتِمَاعِهِمْ بِالنَّصَارَى فِي كُلٍّ مِنْهُمَا كُلَّمَا مَرُّوا بِدَيْرٍ أَوْ صَوْمَعَةٍ لِلرُّهْبَانِ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى يَتَحَدَّثُونَ بِقُرْبِ ظُهُورِ نَبِيٍّ مِنَ الْعَرَبِ.
(٦) زَعَمَ دِرِمِنْغَامْ أَنَّهُ كَانَ يُوجَدُ بِمَكَّةَ نَفْسِهَا أُنَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَبِيدًا وَخَدَمًا لِأَنَّ رُؤَسَاءَ قُرَيْشٍ لَمْ يَكُونُوا يَسْمَحُونَ لَهُمْ أَنْ يَسْكُنُوا فِي مَكَّةَ حَرَمِهِمُ الْمُقَدَّسِ الْخَاصِّ بِوَثَنِيَّتِهِمْ وَأَصْنَامِهِمْ. وَكَانَ هَؤُلَاءِ يَسْكُنُونَ فِي أَطْرَافِ مَكَّةَ ((فِي الْمَنَازِلِ الْبَعِيدَةِ عَنِ الْكَعْبَةِ الْمُتَاخِمَةِ لِلصَّحْرَاءِ)) ! ! وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ بِقِصَصٍ عَنْ دِينِهِمْ لَا تَصِلُ إِلَى مَسَامِعِ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ وَعُظَمَائِهِمْ أَوْ مَا كَانُوا يَحْفَلُونَ بِهَا لِسَمَاعِ أَمْثَالِهَا فِي رِحْلَاتِهِمُ الْكَثِيرَةِ. وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ عَتَبَ عَلَى أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ كَثْرَةَ تَكْرِيرِهِ لِمَا يَذْكُرُهُ الرُّهْبَانُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ.
فَهَذِهِ مُقَدِّمَاتٌ يَذْكُرُهَا كُتَّابُ الْإِفْرِنْجِ لِتَعْلِيلِ مَا ظَهَرَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ دَعْوَى النُّبُوَّةِ عَلَى طَرِيقِهِمْ فِي الِاسْتِنْبَاطِ وَمَا يُسَمُّونَهُ النَّقْدَ التَّحْلِيلِيَّ، وَيُقْرِنُونَ بِهَا مُقَدِّمَاتٍ أُخْرَى فِي وَصْفِ حَالَتِهِ النَّفْسِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَحَالَةِ قَوْمِهِ وَمَا اسْتَفَادَهُ مِنْهَا مِنْ تَأْثِيرٍ وَعِبْرَةٍ، فَنُلَخِّصُهَا مَضْمُومَةً إِلَى مَا قَبْلَهَا مَعَ الْإِلْمَامِ بِنَقْدِهَا.
(٧) قَالَ دِرِمِنْغَامْ فِي كَفَالَةِ أَبِي طَالِبٍ لِمُحَمَّدٍ بَعْدَ وَفَاةِ جَدِّهِ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا فَلَمْ يُتَحْ لَهُ تَعْلِيمُ الصَّبِيِّ الَّذِي بَقِيَ أُمِّيًّا طُولَ حَيَاتِهِ (يُوهِمُ الْقَارِئَ أَنَّ أَوْلَادَ الْمُوسِرِينَ بِمَكَّةَ كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ كَأَنَّ هُنَالِكَ مَدَارِسَ يُعَلَّمُ فِيهَا النَّشْءُ بِالْأُجُورِ كَمَدَارِسِ بِلَادِ الْحَضَارَةِ وَهَذَا بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ - ثُمَّ قَالَ) :
((وَلَكِنَّهُ كَانَ يَسْتَصْحِبُهُ وَإِيَّاهُ فِي التِّجَارَةِ فَيَسِيرُ وَالْقَوَافِلَ خِلَالَ الصَّحْرَاءِ يَقْطَعُ هَذِهِ الْأَبْعَادَ الْمُتَنَائِيَةَ وَتُحَدِّقُ عَيْنَاهُ الْجَمِيلَتَانِ بِمَدْيَنَ وَوَادِي الْقُرَى وَدِيَارِ ثَمُودَ وَتَسْتَمِعُ أُذُنَاهُ الْمُرْهَفَتَانِ إِلَى حَدِيثِ الْعَرَبِ وَالْبَادِيَةِ عَنْ هَذِهِ الْمَنَازِلِ وَحَدِيثِهَا وَمَاضِي نَبَئِهَا. وَيُقَالُ إِنَّهُ فِي إِحْدَى هَذِهِ الرِّحْلَاتِ إِلَى الشَّامِ الْتَقَى بِالرَّاهِبِ بَحِيرَى فِي جِوَارِ مَدِينَةِ بُصْرَى، وَأَنَّ الرَّاهِبَ رَأَى فِيهِ
142
عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ عَلَى مَا تَدُلُّهُ عَلَيْهِ أَنْبَاءُ كُتُبِهِ. وَفِي الشَّامِ عَرَفَ مُحَمَّدٌ أَحْبَارَ الرُّومِ وَنَصْرَانِيَّتَهُمْ وَكُتَّابَهُمْ وَمُنَاوَأَةَ الْفُرْسِ مِنْ عُبَّادِ النَّارِ لَهُمْ وَانْتِظَارَ الْوَقِيعَةِ بِهِمْ)).
كُلُّ مَا ذَكَرَهُ دِرِمِنْغَامْ هُنَا فَهُوَ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ خَيَالِهِ وَمُبْتَدَعَاتِ رَأْيِهِ إِلَّا مَسْأَلَةَ بَحِيرَى الرَّاهِبِ فَأَصْلُهَا مَا ذَكَرْنَا، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَحْفَلْ بِإِثْبَاتِهَا لِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ مُفْتَرَيَاتِ رِجَالِ الْكَنِيسَةِ فِيهَا.
فَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَذْهَبْ مَعَ عَمِّهِ إِلَى التِّجَارَةِ فِي الشَّامِ إِلَّا وَهُوَ طِفْلٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ أَعَادَهُ إِلَى مَكَّةَ قَبْلَ إِتْمَامِ رِحْلَتِهِ. ثُمَّ سَافَرَ إِلَيْهَا فِي تِجَارَةِ خَدِيجَةَ وَهُوَ شَابٌّ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَمْ يَتَجَاوَزْ سُوقَ بُصْرَى فِي الْمَرَّتَيْنِ. وَالْقَوَافِلُ الَّتِي تَذْهَبُ إِلَى الشَّامِ لَمْ تَكُنْ تَمُرُّ بِمَدْيَنَ وَهِيَ فِي أَرْضِ سَيْنَاءَ. وَلَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْقَوَافِلُ تُضَيِّعُ شَيْئًا مِنْ وَقْتِهَا لِلْبَحْثِ مَعَ الْعَرَبِ أَوِ الْأَعْرَابِ فِي طَرِيقِهَا عَنْ أَنْبَائِهَا وَالتَّارِيخِ الْقَدِيمِ لِبِلَادِهَا، وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ تُجَّارِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُعْنَوْنَ بِلِقَاءِ أَحْبَارِ النَّصَارَى وَمُبَاحَثَتِهِمْ فِي دِينِهِمْ وَكُتُبِهِمْ، فَمِنْ أَيْنَ جَاءَ لِدِرِمِنْغَامْ أَنَّ مُحَمَّدًا هُوَ الَّذِي كَانَ يَشْتَغِلُ فِي تِلْكَ التِّجَارَةِ بِالْبَحْثِ عَنِ الْأُمَمِ وَالتَّوَارِيخِ وَالْكُتُبِ وَالْأَدْيَانِ وَيُعْنَى بِلِقَاءِ رُؤَسَائِهَا وَالْبَحْثِ مَعَهُمْ؟ إِنَّمَا اخْتَرَعَ هَذَا لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ تَعْلِيلَ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ قِصَصِ الرُّسُلِ إِلَّا بِهِ وَكَذَلِكَ الْإِنْبَاءُ بِغَلَبِ الرُّومِ لِلْفَرَسِ كَمَا سَيَأْتِي. وَسَتَرَى مَا نُفَنِّدُ بِهِ تَعْلِيلَهُ وَتَحْلِيلَهُ وَتَرْكِيبَهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ مَا زَعَمَهُ كُلَّهُ.
(٨) ثُمَّ ذَكَرَ دِرِمِنْغَامْ أَنَّ الْعَرَبَ وَلَا سِيَّمَا أَهْلِ مَكَّةَ كَانُوا يَصْرِفُونَ مُعْظَمَ أَوْقَاتِهِمْ بَعْدَ مَا يَكُونُ مِنْ تِجَارَةٍ أَوْ حَرْبٍ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِاللَّذَّاتِ مِنَ السُّكْرِ وَالتَّسَرِّي وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنَّ التَّارِيخَ يَشْهَدُ بِأَنَّ مُحَمَّدًا كَانَ يَرَاهُمْ وَلَمْ يَكُنْ يُشَارِكُهُمْ فِي ذَلِكَ لَا لِفَقْرِهِ وَضِيقِ ذَاتِ يَدِهِ قَالَ: ((لَكِنَّ نَفْسَ مُحَمَّدٍ كَانَتْ شَغِفَةً بِأَنْ تَرَى وَأَنْ تَسْمَعَ وَأَنْ تَعْرِفَ، وَكَأَنَّ حِرْمَانَهُ مِنَ التَّعْلِيمِ الَّذِي كَانَ يَعْلَمُهُ أَنْدَادُهُ جَعَلَهُ أَشَدَّ لِلْمَعْرِفَةِ شَوْقًا وَبِهَا تَعَلُّقًا، كَمَا أَنَّ النَّفْسَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي تَجَلَّتْ مِنْ بَعْدُ آثَارُهَا، وَمَا زَالَ يَغْمُرُ الْعَالَمَ سُلْطَانُهَا، كَانَتْ فِي تَوْقِهَا إِلَى الْكَمَالِ تَرْغَبُ عَنْ هَذَا اللهْوِ الَّذِي يَطْمَحُ إِلَيْهِ أَهْلُ مَكَّةَ إِلَى نُورِ الْحَيَاةِ الْمُتَجَلِّي مِنْ كُلِّ مَظَاهِرِ الْحَيَاةِ لِمَنْ هَدَاهُ الْحَقُّ إِلَيْهَا لِاسْتِكْنَاهِ مَا تَدُلُّ هَذِهِ الْمَظَاهِرُ عَلَيْهِ وَمَا تَحَدَّثَ الْمَوْهُوبُونَ بِهِ)).
هَذَا الْخَبَرُ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ دِرِمِنْغَامْ فَمُحَمَّدٌ لَمْ يَكُنْ شَغُوفًا بِأَنْ يَرَى مَا يَفْعَلُهُ فُسَّاقُ قَوْمِهِ مِنْ فُسُوقٍ وَفُجُورٍ، وَلَا أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ، وَلَا يَتَحَرَّى أَنْ يَعْرِفَهُ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ سَمَرَهُمْ وَلَهْوَهُمْ إِلَّا مَرَّتَيْنِ أَلْقَى الله عَلَيْهِ النُّوَّمَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا حَتَّى طَلَعَتِ
الشَّمْسُ فَلَمْ يَرَ وَلَمْ يَسْمَعْ شَيْئًا، وَقَدْ بَطَلَ بِهَذَا مَا عَلَّلَ بِهِ الْخَبَرَ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْمَدْحِ الْمُتَضَمِّنِ لِدَسِيسَتَيْنِ (إِحْدَاهُمَا) أَنَّ أَنْدَادَهُ فِي قُرَيْشٍ كَانُوا مُتَعَلِّمِينَ وَكَانَ هُوَ مَحْرُومًا مِمَّا لُقِّنُوهُ مِنَ الْعِلْمِ وَكَانَ حِرْمَانُهُ هَذَا يَزِيدُهُ شَغَفًا بِالْبَحْثِ وَالِاسْتِطْلَاعِ (وَالثَّانِيَةُ) أَنَّ نَفْسَهُ كَانَتْ بِسَبَبِ هَذَا تَزْدَادُ طُمُوحًا إِلَى نُورِ الْحَيَاةِ الْمُتَجَلِّي فِي جَمِيعِ مَظَاهِرِهَا لِاسْتِكْنَاهِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَظَاهِرُ، فَهَذِهِ مِدْحَةٌ غَرَضُهُ مِنْهَا تَعْلِيلُ مَا انْبَثَقَ فِي نَفْسِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْوَحْيِ، وَسَتَرَى بُطْلَانَهُ.
143
(٩) ثُمَّ ذَكَرَ دِرِمِنْغَامْ مَسْأَلَةَ أَبْنَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَاسِمِ وَالطَّيِّبِ وَالطَّاهِرِ وَهُوَ يَشُكُّ فِي وُجُودِهِمْ وَيَقُولُ: إِنَّ تَكْنِيَتَهُ بِأَبِي الْقَاسِمِ لَا تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ وَلَدٍ لَهُ بِهَذَا الِاسْمِ وَإِنَّهُ إِنْ صَحَّ أَنَّهُمْ وُلِدُوا فَقَدْ مَاتُوا فِي الْمَهْدِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ وُلِدَ لَهُ غُلَامٌ سَمَّاهُ الْقَاسِمَ وَكُنِّيَ بِهِ وَأَنَّهُ مَاتَ طِفْلًا، وَقِيلَ عَاشَ إِلَى أَنْ رَكِبَ الدَّابَّةَ وَأَنَّ الطَّيِّبَ وَالطَّاهِرَ لَقَبَانِ لِلْقَاسِمِ. وَلَكِنَّ دِرِمِنْغَامْ قَدْ كَبَّرَ مَسْأَلَةَ مَوْتِ هَؤُلَاءِ الْأَوْلَادِ الَّذِينَ يَشُكُّ فِي وُجُودِهِمْ. وَبَنَى عَلَيْهَا حُكْمًا. وَأَثَارَ وَهْمًا، قَالَ بَعْدَ أَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا تَبَنَّى زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يُطِقْ عَلَى الْحِرْمَانِ مِنَ الْبَنِينَ صَبْرًا.
((فَمِنْ حَقِّ الْمُؤَرِّخِ أَنْ يَجْعَلَ لِهَذَا الْحَادِثِ بَلِ الْحَوَادِثِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي أَصَابَتْ مُحَمَّدًا فِي بَنِيهِ مَا هِيَ جَدِيرَةٌ بِأَنْ تَتْرُكَهُ فِي حَيَاتِهِ وَفِي تَفْكِيرِهِ مِنْ أَثَرٍ. وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ بِنَوْعٍ خَاصٍّ إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ أُمِّيًّا، فَلَمْ تَكُنِ الْمُضَارَّاتُ الْجَدَلِيَّةُ (كَذَا) لِتَصْرِفَهُ عَنِ التَّأْثِيرِ بِعِبَرِ الْحَوَادِثِ وَدُرُوسِهَا، وَحَوَادِثُ أَلِيمَةٌ كَوَفَاةِ أَبْنَائِهِ جَدِيرَةٌ بِأَنْ تَسْتَوْقِفَ تَفْكِيرَهُ وَأَنْ تَلْفِتَهُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا لِمَا كَانَتْ خَدِيجَةُ تَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى أَصْنَامِ الْكَعْبَةِ وَتَنْحَرُ لِهُبَلٍ وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الْأُخْرَى تُرِيدُ أَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْ أَلَمِ الثُّكْلِ فَلَا تُفِيدُ الْقُرْبَانُ وَلَا تُجْدِي النُّحُورُ)).
((وَالْأَمْرُ كَانَ كَذَلِكَ لَا رَيْبَ أَنْ كَانَتْ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ قَدْ بَدَأَتْ تَتَزَعْزَعُ فِي النُّفُوسِ تَحْتَ ضَغْطِ النَّصْرَانِيَّةِ الْآتِيَةِ مِنَ الشَّامِ مُنْحَدِرَةً إِلَيْهَا مِنَ الرُّومِ وَمِنَ الْيَمَنِ مُتَخَطِّيَةً إِلَيْهَا مِنْ خَلِيجِ الْعَرَبِ (الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ) مِنْ بِلَادِ الْحَبَشَةِ)).
غَرَضُ دِرِمِنْغَامْ مِنْ تَكْبِيرِ الْمُصِيبَةِ بِمَوْتِ الْأَبْنَاءِ الْمَشْكُوكِ فِي وِلَادَتِهِمْ هُوَ أَنْ يَجْعَلَهَا مُسَوِّغَةً لِمَا اخْتَلَقَهُ مِنْ تَوَسُّلِ خَدِيجَةَ إِلَى الْأَصْنَامِ بِالْقَرَابِينِ لِيُنْقِذُوهَا مِنْ
مَعْصِيَةِ الثُّكْلِ، ثُمَّ يَسْتَنْبِطُ مِنْ ذَلِكَ زَعْزَعَةَ إِيمَانِهَا وَإِيمَانَ بَعْلِهَا بِعِبَادَتِهَا الَّذِي كَانَ سَبَبُهُ تَأْثِيرَ النَّصْرَانِيَّةِ فِي مَكَّةَ وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ، ثُمَّ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ التَّحْلِيلِيَّةِ لِتَعْلِيلِ الْوَحْيِ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْحَقُّ أَنَّهُ مَا تَبَنَّى زَيْدًا إِلَّا لِأَنَّهُ آثَرَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ حُرًّا مَعَ وَالِدِهِ وَعَمِّهِ عِنْدَمَا جَاءَا مَكَّةَ لِافْتِدَائِهِ بِالْمَالِ. فَقَالَ لَهُمَا: ((ادْعُوهُ فَخَيِّرُوهُ فَإِنِ اخْتَارَكُمْ فَهُوَ لَكُمْ فِدَاءٌ)) ثُمَّ دَعَاهُ فَسَأَلَهُ عَنْ أَبِيهِ وَعَمِّهِ فَعَرَفَهُمَا قَالَ: ((فَأَنَا مَنْ قَدْ عَلِمْتَ وَقَدْ رَأَيْتَ صُحْبَتِي لَكَ فَاخْتَرْنِي أَوِ اخْتَرْهُمَا)) فَقَالَ زَيْدٌ: مَا أَنَا بِالَّذِي أَخْتَارُ عَلَيْكَ أَحَدًا. أَنْتَ مِنِّي بِمَكَانِ الْأَبِ وَالْعَمِّ. فَقَالَا: وَيْحَكَ يَا زَيْدُ أَتَخْتَارُ الْعُبُودِيَّةَ عَلَى الْحُرِّيَّةِ وَعَلَى أَبِيكَ وَعَمِّكَ وَأَهْلِ بَيْتِكَ؟ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ شَيْئًا مَا أَنَا الَّذِي أَخْتَارُ عَلَيْهِ أَحَدًا. فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ أَخْرَجَهُ إِلَى الْحِجْرِ فَقَالَ: ((اشْهَدُوا أَنَّ زَيْدًا ابْنِي يَرِثُنِي وَأَرِثُهُ)) فَلَمَّا رَأَى أَبُوهُ وَعَمُّهُ طَابَتْ أَنْفُسُهُمَا. فَدُعِيَ زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَتَّى جَاءَ اللهُ بِالْإِسْلَامِ.
رَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ وَنَحْوُهُ فِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ.
هَذَا وَإِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَكُنْ جَزُوعًا عِنْدَ مَوْتِ وَلَدٍ وَلَا غَيْرِهِ بَلْ كَانَ أَصْبَرَ الصَّابِرِينَ وَإِنَّ
144
خَدِيجَةَ لَمْ تَيْأَسْ - بِمَوْتِ الْقَاسِمِ - مِنَ اللهِ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهَا بِوَلَدٍ آخَرَ، وَلَمْ تَنْحَرْ لِلْأَصْنَامِ شَيْئًا، وَإِنَّ اللَّاتَ كَانَتْ صَخْرَةً فِي الطَّائِفِ تَعْبُدُهَا ثَقِيفُ وَلَمْ تَكُنْ مِنْ أَصْنَامِ قُرَيْشٍ، وَالْعُزَّى كَانَتْ شَجَرَةً بِبَطْنِ نَخْلَةَ تَعْبُدُهَا قُرَيْشٌ وَكِنَانَةُ وَغَطَفَانُ، وَمَنَاةَ كَانَتْ صَنَمًا فِي قُدَيْدٍ لِبَنِي هِلَالٍ وَهُذَيْلٍ وَخُزَاعَةَ.
وَقَدْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ ضَعِيفِ الْوَثَنِيَّةِ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ - وَزَعَمَ أَنَّهُ سَبَّبَهُ انْتِشَارُ النَّصْرَانِيَّةِ - جَدِيرًا بِأَنْ يَمْنَعَ خَدِيجَةَ وَهِيَ مِنْ أَعْقَلِ الْعَرَبِ وَأَسْلَمِهِمْ فِطْرَةً، وَأُقْرَبُهُمْ إِلَى الْحَنَفِيَّةِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ أَنْ تُهَاجِرَ إِلَى هَذِهِ الْأَصْنَامِ لِتَنْحَرَ لَهَا وَتَتَقَرَّبَ إِلَيْهَا لِتَرْزُقَهَا غُلَامًا، فَإِنْ لَمْ يَمْنَعْهَا عَقْلُهَا وَفِطْرَتُهَا فَأَجْدَرُ بِبَعْلِهَا الْمُصْطَفَى أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ عَدُوُّ الْوَثَنِيَّةِ وَالْأَصْنَامِ مِنْ طُفُولَتِهِ كَمَا يَعْتَرِفُ دِرِمِنْغَامْ، وَلَكِنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى يُنْسِي صَاحِبَهُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَنْسَاهُ لَوْلَاهُ.
(١٠) زَعَمَ دِرِمِنْغَامْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ تَغَلْغُلِ النَّصْرَانِيَّةِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ أَوْجَدَ فِيهَا حَالَةً نَفْسِيَّةً أَدَّتْ إِلَى زِيَادَةِ إِمْعَانِهِمْ فِيمَا كَانُوا يُسَمُّونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ التَّحَنُّثَ أَوِ التَّحَنُّفَ وَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ:
(وَكَانَ مُحَمَّدٌ يَجِدُ فِي التَّحَنُّثِ طُمَأْنِينَةً لِنَفْسِهِ أَنْ كَانَ لَهُ بِالْوَحْدَةِ شَغَفٌ، وَأَنْ
كَانَ يَجِدُ فِيهَا الْوَسِيلَةَ إِلَى مَا بَرِحَ شَوْقُهُ يَشْتَدُّ إِلَيْهِ مِنْ نِشْدَانِ الْمَعْرِفَةِ وَاسْتِلْهَامِ مَا فِي الْكَوْنِ مِنْ أَسْبَابِهَا فَكَانَ يَنْقَطِعُ كُلَّ رَمَضَانَ طُولَ الشَّهْرِ فِي غَارِ حِرَاءَ بِجَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ مُكْتَفِيًا بِالْقَلِيلِ مِنَ الزَّادِ يُحْمَلُ إِلَيْهِ لِيَمْضِيَ أَيَّامًا بِالْغَارِ طَوِيلَةً فِي التَّأَمُّلِ وَالْعِبَادَةِ بَعِيدًا عَنْ ضَجَّةِ النَّاسِ وَضَوْضَاءِ الْحَيَاةِ)).
وَأَقُولُ: إِنَّ رِوَايَاتِ الْمُحَدِّثِينَ تُفِيدُ أَنَّهُ حُبِّبَ إِلَيْهِ التَّحَنُّثُ فِي غَارِ حِرَاءَ فِي الْعَامِ الَّذِي جَاءَهُ فِيهِ الْوَحْيُ وَكَانَ هُوَ يَحْمِلُ الزَّادَ وَمَا كَانَ أَحَدٌ يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ تَعَبُّدِهِ فِيهِ شَهْرَ رَمَضَانَ كُلَّ سَنَةٍ إِنَّمَا كَانَ فِي زَمَنِ فَتْرَةِ الْوَحْيِ كَمَا سَيَأْتِي:
وَهَاهُنَا وَصَلَ دِرِمِنْغَامْ إِلَى آخِرِ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي تَتَّصِلُ بِالنَّتِيجَةِ الْمَطْلُوبَةِ لَهُ فَأَرْخَى لِخَيَالِهِ الْعِنَانَ وَنَزَعَ مِنْ جَوَادِهِ اللِّجَامَ، وَنَخَسَهُ بِالْمَهَارَةِ، فَعَدَا بِهِ سَبْحًا، وَجَمَحَ بِهِ جَمْحًا، وَقَدَحَتْ حَوَافِرُهُ لَهُ قَدْحًا، وَأَثَارَتْ لَهُ نَقْعًا، وَأَذِنَ لِشَاعِرِيَّتِهِ الْفَرَنْسِيَّةِ أَنْ تَصِفَ مُحَمَّدًا عِنْدَ ذَلِكَ الْغَارِ بِمَا تُحْدِثُهُ فِي نَفْسِهِ مَشَاهِدُ نُجُومِ اللَّيْلِ وَمَا تُسْعِفُهُ بِهِ شَمْسُ النَّهَارِ، وَمَا تَصَوَّرَ أَنَّهُ كَانَ يَرَاهُ فِي تِلْكَ الْقُنَّةِ مِنَ الْجَبَلِ مِنْ صَحَارَى وَقِفَارٍ، وَخِيَامٍ وَآبَارٍ، وَرُعَاةٍ تَهُشُّ عَلَى غَنَمِهَا حَيْثُ لَا أَشْجَارَ، حَتَّى ذَكَرَ الْبِحَارَ عَلَى بُعْدِ الْبِحَارِ وَقَدْ أَتْقَنَ التَّخَيُّلَ الشِّعْرِيَّ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُوَافِقْ بِهِ الْوَصْفَ الْمَوْضِعِيَّ، ثُمَّ قَالَ مُصَوِّرًا لِمَا يَبْتَغِيهِ مِنْ مُشَاهَدَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
((وَهَذِهِ النُّجُومُ فِي لَيَالِي صَيْفِ الصَّحْرَاءِ كَثِيرَةٌ شَدِيدَةُ الْبَرِيقِ حَتَّى لَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَسْمَعَ بَصِيصَ ضَوْئِهَا وَكَأَنَّهُ نَغَمُ نَارٍ مُوقَدَةٍ.
((حَقًّا! إِنَّ فِي السَّمَاءِ لَشَارَاتٍ لِلْمُدْرِكِينَ. وَفِي الْعَالَمِ غَيْبٌ بَلِ الْعَالَمُ غَيْبٌ كُلُّهُ، لَكِنْ!
145
أَلَا يَكْفِي أَنْ يَفْتَحَ الْإِنْسَانُ عَيْنَيْهِ لِيَرَى، وَأَنْ يُرْهِفَ أُذُنَهُ لِيَسْمَعَ؟ لِيَرَى حَقًّا، وَلِيَسْمَعَ الْكَلِمَ الْخَالِدَ! لَكِنَّ لِلنَّاسِ عُيُونًا لَا تَرَى وَآذَانًا لَا تَسْمَعُ... أَمَّا هُوَ فَحَسْبٌ أَنَّهُ يَسْمَعُ وَيَرَى وَهَلْ تَحْتَاجُ لِكَيْ تَسْمَعَ مَا وَرَاءَ السَّمَاءِ مِنْ أَصْوَاتٍ إِلَّا إِلَى قَلْبٍ خَالِصٍ وَنَفْسٍ مُخْلِصَةٍ وَفُؤَادٍ مُلِئَ إِيمَانًا؟
((وَمُحَمَّدٌ فِي رَيْبٍ مِنْ حِكْمَةِ النَّاسِ فَهُوَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَعْرِفَ إِلَّا الْحَقَّ الْخَالِصَ، الَّذِي لَا يَأْتِيهِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ بَاطِلٌ، وَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ الْعَيْشَ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَالْحَقُّ لَيْسَ فِيمَا يَرَى حَوْلَهُ، فَحَيَاةُ الْقُرَشِيِّينَ لَيْسَتْ حَقًّا، وَرِبَا الْمُرَابِينَ وَنَهْبُ الْبَدْوِ وَلَهْوُ
الْخُلَعَاءِ وَكُلُّ مَا إِلَى ذَلِكَ لَا شَيْءَ مِنَ الْحَقِّ فِيهِ، وَالْأَصْنَامُ الْمُحِيطَةُ بِالْكَعْبَةِ لَيْسَتْ حَقًّا وَهُبَلُ الْإِلَهُ الطَّوِيلُ الذَّقْنِ الْكَثِيرُ الْعُطُورِ وَالْمَلَابِسِ لَيْسَ إِلَهًا حَقًّا.
((إِذًا فَأَيْنَ الْحَقُّ وَمَا هُوَ)) ؟
((وَظَلَّ مُحَمَّدٌ يَتَرَدَّدُ عَلَى حِرَاءَ فِي رَمَضَانَ كُلَّ عَامٍ سَنَوَاتٍ مُتَتَالِيَةً وَهُنَاكَ كَانَ يَزْدَادُ بِهِ التَّأَمُّلُ ابْتِغَاءَ الْحَقِيقَةِ حَتَّى لَكَانَ يَنْسَى نَفْسَهُ، وَيَنْسَى طَعَامَهُ، وَيَنْسَى كُلَّ مَا فِي الْحَيَاةِ لِأَنَّ هَذَا الَّذِي يَرَى فِي الْحَيَاةِ لَيْسَ حَقًّا وَهُنَاكَ كَانَ يُقَلِّبُ فِي صُحُفِ ذِهْنِهِ كُلَّ مَا وَعَى، فَيَزْدَادُ عَمَّا يُزَاوِلُ النَّاسُ مِنْ أَلْوَانِ الظَّنِّ رَغْبَةً وَازْوِرَارًا، وَهُوَ لَمْ يَكُنْ يَطْمَعُ فِي أَنْ يَجِدَ فِي قِصَصِ الْأَحْبَارِ وَفِي كُتُبِ الرُّهْبَانِ الْحَقَّ الَّذِي يَنْشُدُ، بَلْ فِي هَذَا الْكَوْنِ الْمُحِيطِ بِهِ: فِي السَّمَاءِ وَنُجُومِهَا وَقَمَرِهَا وَشَمْسِهَا، وَفِي الصَّحْرَاءِ سَاعَاتِ لَهِيبِهَا الْمُحْرِقِ تَحْتَ ضَوْءِ الشَّمْسِ الْبَاهِرَةِ اللَّأْلَاءِ، وَسَاعَاتِ صَفْوِهَا الْبَدِيعِ إِذْ تَكْسُوهَا أَشِعَّةُ الْقَمَرِ أَوْ أَضْوَاءُ النُّجُومِ بِلِبَاسِهَا الرَّطْبِ النَّدِيِّ، وَفِي الْبَحْرِ وَمَوْجِهِ وَفِي كُلِّ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَّصِلُ بِالْوُجُودِ وَتَشْمَلُهُ وَحْدَةُ الْوُجُودِ - فِي هَذَا الْكَوْنِ كَانَ يَلْتَمِسُ الْحَقِيقَةَ الْعُلْيَا، وَابْتِغَاءُ إِدْرَاكِهَا كَانَ يَسْمُو بِنَفْسِهِ سَاعَاتِ خَلْوَتِهِ لِيَتَّصِلَ بِهَذَا الْكَوْنِ وَلِيَخْتَرِقَ شِغَافَ الْحُجُبِ إِلَى مَكْنُونِ سِرِّهِ.
قَالَ دِرِمِنْغَامْ: فَلَمَّا كَانَتْ سَنَةُ ٦١٠ م أَوْ نَحْوُهَا كَانَتِ الْحَالُ النَّفْسِيَّةُ الَّتِي يُعَانِيهَا (مُحَمَّدٌ) عَلَى أَشُدِّهَا فَقَدْ أَبْهَظَتْ عَاتِقَهُ الْعَقِيدَةُ بِأَنَّ أَمْرًا جَوْهَرِيًّا يَنْقُصُهُ وَيَنْقُصُ قَوْمَهُ، وَأَنَّ النَّاسَ نَسُوا هَذَا الْأَمْرَ الْجَوْهَرِيَّ وَتَشَبَّثَ كُلٌّ بِصَنَمِ قَوْمِهِ وَقَبِيلَتِهِ، وَخَشِيَ النَّاسُ الْجِنَّ وَالْأَشْبَاحَ وَالْبَوَارِحَ وَأَهْمَلُوا الْحَقِيقَةَ الْعُلْيَا، وَلَعَلَّهُمْ لَمْ يُنْكِرُوهَا وَلَكِنَّهُمْ نَسُوهَا نِسْيَانًا هُوَ مَوْتُ الرُّوحِ وَقَدْ خَلَصَتْ نَفْسُ ((مُحَمَّدٍ)) مَنْ كُلِّ هَذِهِ الْآرَاءِ التَّافِهَةِ، وَمِنْ كُلِّ الْقُوَى الَّتِي تَخْضَعُ لِقُوَّةِ غَيْرِهَا وَمِنْ كُلِّ كَائِنٍ لَيْسَ مَظْهَرًا لِلْكَائِنِ الْوَاحِدِ.
146
وَلَقَدْ عَرَفَ أَنَّ الْمَسِيحِيِّينَ فِي الشَّامِ وَمَكَّةَ لَهُمْ دِينٌ أُوحِيَ بِهِ، وَأَنَّ أَقْوَامًا غَيْرَهُمْ نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللهِ وَأَنَّهُمْ عَرَفُوا الْحَقَّ وَوَعَوْهُ أَنْ جَاءَهُمْ عِلْمٌ مِنْ أَنْبِيَاءَ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ بِهِ، وَكُلَّمَا ضَلَّ النَّاسُ بَعَثَتِ السَّمَاءُ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا يَهْدِيهِمْ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَيُذَكِّرُهُمْ
بِالْحَقِيقَةِ الْخَالِدَةِ.
وَهَذَا الدِّينُ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ فِي كُلِّ الْأَزْمَانِ دِينٌ وَاحِدٌ وَكُلَّمَا أَفْسَدَهُ النَّاسُ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنَ السَّمَاءِ يُقَوِّمُ عِوَجَهُمْ. وَقَدْ كَانَ الشَّعْبُ الْعَرَبِيُّ يَوْمَئِذٍ فِي أَشَدِّ تَيْهَاءِ الضَّلَالِ. أَفَمَا آنَ لِرَحْمَةِ اللهِ أَنْ تَظْهَرَ فِيهِمْ مَرَّةً أُخْرَى وَأَنْ تَهْدِيَهُمْ إِلَى الْحَقِّ)) ؟
((وَتَزَايَدَتْ رَغْبَةُ مُحَمَّدٍ عَنِ الِاجْتِمَاعِ بِالنَّاسِ، وَوَجَدَ فِي وَحْدَةِ غَارِ حِرَاءَ مَسَرَّةً تَزْدَادُ كُلَّ يَوْمٍ عُمْقًا، وَجَعَلَ يَقْضِي الْأَسَابِيعَ وَمَعَهُ قَلِيلٌ مِنَ الزَّادِ وَرُوحُهُ تَزْدَادُ بِالصَّوْمِ وَالسَّهَرِ وَالْإِدْمَانِ عَلَى تَقْلِيبِ فِكْرَتِهِ صِقَالًا وَحِدَّةً. وَنَسِيَ النَّهَارَ وَاللَّيْلَ وَالْحُلْمَ وَالْيَقَظَةَ، وَجَعَلَ يَقْضِي السَّاعَاتِ الطِّوَالَ جَاثِيًا فِي الْغَارِ، أَوْ مُسْتَلْقِيًا فِي الشَّمْسِ، أَوْ سَائِرًا بِخُطًى وَاسِعَةٍ فِي طُرُقٍ الصَّحْرَاءِ الْحَجَرِيَّةِ، وَكَأَنَّهُ يَسْمَعُ الْأَصْوَاتَ تَخْرُجُ مِنْ خِلَالِ أَحْجَارِهَا تُنَادِيهِ مُؤْمِنَةً بِرِسَالَتِهِ.
((وَقَضَى سِتَّةَ أَشْهُرٍ فِي هَذِهِ الْحَالِ حَتَّى خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ فَأَسَرَّ بِمَخَاوِفِهِ إِلَى خَدِيجَةَ فَطَمْأَنَتْهُ وَجَعَلَتْ تُحَدِّثُهُ بِأَنَّهُ الْأَمِينُ وَأَنَّ الْجِنَّ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَقْتَرِبَ مِنْهُ وَفِيمَا هُوَ يَوْمًا نَائِمٌ بِالْغَارِ جَاءَهُ مَلَكٌ فَقَالَ لَهُ: اقْرَأْ، قَالَ ((مَا أَنَا بِقَارِئٍ)) وَكَانَ هَذَا أَوَّلَ الْوَحْيِ وَأَوَّلَ النُّبُوَّةِ.
((وَهُنَا تَبْدَأُ حَيَاةٌ جِدَّةٍ رُوحِيَّةٍ قَوِيَّةٍ غَايَةَ الْقُوَّةِ، حَيَاةٌ تَأْخُذُ بِالْأَبْصَارِ وَالْأَلْبَابِ وَلَكِنَّهَا حَيَاةُ تَضْحِيَةٍ خَالِصَةٍ لِوَجْهِ اللهِ وَالْحَقِّ وَالْإِنْسَانِيَّةِ)).
أَقُولُ: إِنَّ كُلَّ مَا هُنَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ جُلَّهُ فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَمِنْ أَيْنَ عَلِمَ هَذَا الْإِفْرَنْسِيُّ أَنَّ مُحَمَّدًا نَسِيَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَالْحُلْمَ وَالْيَقَظَةَ، وَأَنَّهُ كَانَ يَقْضِي السَّاعَاتِ الطِّوَالَ جَاثِيًا فِي الْغَارِ أَوْ مُسْتَلْقِيًا فِي الشَّمْسِ إِلَخْ وَأَنَّهُ قَضَى سِتَّةَ أَشْهُرٍ فِي هَذِهِ الْحَالِ - قَدِ افْتَرَى فِي الْأَخْبَارِ لِيَسْتَنْبِطَ مِنْهَا أَنَّهُ صَارَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ، غَائِبًا عَنْ حِسِّهِ. وَإِنَّنَا نَنْقُلُ هُنَا أَصَحَّ الْأَخْبَارِ فِي خَبَرِ تَحَنُّثِهِ فِي الْغَارِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ - مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لَا فِيمَا قَبْلَهَا - لِتَفْنِيدِ مُفْتَرَيَاتِهِ وَلِلِاسْتِغْنَاءِ بِهَا عَمَّا نَقَلَهُ مِنَ الْخَلْطِ فِي صِفَةِ الْوَحْيِ مِنَ الْفَصْلِ الْآتِي - وَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِمَا وَهَذَا نَصُّ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -.
147
(بَابُ كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)
افْتَتَحَ الْبَابَ بَلِ الْكِتَابَ كُلَّهُ بِرِوَايَتِهِ الْحَدِيثَ: (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ) ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - سَأَلَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ) قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -: وَلَقَدْ
رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا.
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عَقِيلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْوَحْيِ
148
الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءَ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدَ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمَثَلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءَ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ، فَقَالَ: اقْرَأْ قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ:
فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) (٩٦: ١ - ٣) فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْجُفُ فُؤَادُهُ فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - فَقَالَ: ((زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي)) فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ
149
فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ: ((لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي)) فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا وَاللهِ مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي
الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكْتُبَ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَبَرِ مَا أَرَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللهُ عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا. لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
150
أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ. وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ
وَفَتَرَ الْوَحْيُ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيُّ قَالَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ ((بَيْنَا أَنَا مَاشٍ إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءَ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَرُعِبْتُ مِنْهُ فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) إِلَى قَوْلِهِ: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (٧٤: ١ - ٥) فَحَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ اهـ.
(وَأَقُولُ) أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ مِنْ طُرُقٍ فِي بَعْضِهَا أَنَّ أَوَّلَهَا أَوَّلُ مَا أُنْزِلَ مُطْلَقًا وَفِي الْبَعْضِ الْآخَرِ أَنَّهَا مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ كَالَّتِي هُنَا وَقَدْ عَبَّرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رُعْبِهِ مِنْ رُؤْيَةِ الْمَلَكِ بِقَوْلِهِ: ((فَجُئِثْتُ مِنْهُ
رُعْبًا)) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى ((فَجُئِثْتُ مِنْهُ حَتَّى هَوَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ)) أَيْ فَزِعْتُ وَخِفْتُ وَهُوَ بِضَمِّ الْجِيمِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ بِالتَّاءِ لِلْمَفْعُولِ.
151
هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ فِي أَوَّلِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ نَزَلَ بَعْدَ أَوَّلِ الْمُدَّثِّرِ سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ تَامَّةً وَبَعْدَهَا بَقِيَّةُ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَوَّلُ مَا نَزَلَ سُورَةُ (ن وَالْقَلَمِ) (٦٨: ١) وَهُوَ غَلَطٌ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ وَاعْتَمَدَهُ شَيْخُنَا فِي تَوْجِيهِ كَوْنِهَا فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ أَنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ تَامَّةٍ بَعْدَ بَدْءِ الْوَحْيِ بِالتَّمْهِيدِ التَّكْوِينِيِّ ثُمَّ بِالْأَمْرِ بِالتَّبْلِيغِ الْإِجْمَالِيِّ وَتَلَاهَا فَرْضُ الصَّلَاةِ وَنُزُولُ سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ أَوْ نَزَلَتَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
(بَسْطُ مَا يُصَوِّرُونَ بِهِ الْوَحْيَ النَّفْسِيَّ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)
هَأَنَذَا قَدْ بَسَطْتُ جَمِيعَ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي اسْتَنْبَطُوهَا مِنْ تَارِيخِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَالَتِهِ النَّفْسِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، وَحَالَةِ قَوْمِهِ وَوَطَنِهِ، وَمَا تَصَوَّرُوا أَنَّهُ اسْتَفَادَهُ مِنْ أَسْفَارِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِ خَلَوَاتِهِ وَتَحَنُّثِهِ وَتَفَكُّرِهِ فِيهَا، وَقَفَّيْتُ عَلَيْهَا بِأَصَحِّ مَا رَوَاهُ الْمُحَدِّثُونَ فِي الصِّحَاحِ مِنْ صِفَةِ الْوَحْيِ وَكَيْفَ كَانَ بَدْؤُهُ وَفَتْرَتُهُ، ثُمَّ كَيْفَ أَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَبْلِيغِهِ وَدَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى الْحَقِّ وَكَيْفَ حَمِيَ وَتَتَابَعَ.
وَأُبَيِّنُ الْآنَ كَيْفَ يَسْتَنْبِطُونَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْوَحْيَ قَدْ نَبَعَ مِنْ نَفْسِ مُحَمَّدٍ وَأَفْكَارِهِ بِتَأْثِيرِ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي وِجْدَانِهِ وَعَقْلِهِ، بِمَا لَمْ أَرَ وَلَمْ أَسْمَعْ مِثْلَهُ فِي تَقْرِيبِهِ إِلَى الْعَقْلِ، ثُمَّ أُقَفِّي عَلَيْهِ بِمَا يَنْقُضُهُ مِنْ أَسَاسِهِ بِأَدِلَّةِ الْعَقْلِ وَالتَّارِيخِ وَالصَّحِيحِ مِنْ وَصْفِ حَالَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَقُولُ:
يَقُولُونَ: إِنَّ عَقْلَ مُحَمَّدٍ الْهُيُولَانِيَّ قَدْ أَدْرَكَ بِنُورِهِ الذَّاتِيِّ بُطْلَانَ مَا كَانَ عَلَيْهِ قَوْمُهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ كَمَا أَدْرَكَ ذَلِكَ أَفْرَادٌ آخَرُونَ مِنْ قَوْمِهِ - آمَنَّا وَصَدَّقْنَا - وَإِنَّ فِطْرَتَهُ الزَّكِيَّةَ قَدِ احْتَقَرَتْ مَا كَانُوا يَتَنَافَسُونَ فِيهِ مِنْ جَمْعِ الْأَمْوَالِ بِالرِّبَا وَالْقِمَارِ - آمَنَّا وَصَدَّقْنَا - وَإِنَّ فَقْرَهُ وَفَقْرَ عَمِّهِ (أَبِي طَالِبٍ) الَّذِي كَفَلَهُ صَغِيرًا قَدْ حَالَ دُونَ انْغِمَاسِهِ فِيمَا كَانُوا يُسْرِفُونَ فِيهِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالشَّهَوَاتِ، مِنَ السُّكْرِ وَالتَّسَرِّي وَعَزْفِ الْقِيَانِ - الصَّحِيحُ أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ احْتِقَارًا لَهُ لَا عَجْزًا عَنْهُ -
وَأَنَّهُ طَالَ تَفَكُّرُهُ فِي إِنْقَاذِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الشِّرْكِ الْقَبِيحِ وَتَطْهِيرِهِمْ مِنْ تِلْكَ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ - لَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ -، وَإِنَّهُ اسْتَفَادَ مِنْ أَسْفَارِهِ وَمِمَّنْ لَقِيَهُ فِيهَا وَفِي مَكَّةَ نَفْسِهَا مِنَ النَّصَارَى كَثِيرًا مِنَ الْمَعْلُومَاتِ عَنِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ بَعَثَهُمُ اللهُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ فَأَخْرَجُوهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ - هَذَا وَلَمْ يَصِحَّ عِنْدَنَا وَلَا يَضُرُّنَا -، وَإِنَّ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ لَمْ تَكُنْ كُلُّهَا مَقْبُولَةً فِي عَقْلِهِ لِمَا عَرَضَ لِلنَّصْرَانِيَّةِ مِنَ الْوَثَنِيَّةِ بِأُلُوهِيَّةِ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَبِمَا حَدَثَ فِيهَا مِنَ الْبِدَعِ - هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قَبْلَهُ فَهُوَ مَعْقُولٌ غَيْرُ مَنْقُولٍ - وَإِنَّهُ كَانَ قَدْ سَمِعَ أَنَّ اللهَ سَيَبْعَثُ نَبِيًّا مِثْلَ أُولَئِكَ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْعَرَبِ فِي الْحِجَازِ قَدْ بَشَّرَ بِهِ
152
عِيسَى الْمَسِيحُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ - وَإِنَّ هَذَا عَلَقَ بِنَفْسِهِ فَتَعَلَّقَ رَجَاؤُهُ بِأَنْ يَكُونَ هُوَ ذَلِكَ النَّبِيَّ الَّذِي آنَ أَوَانُهُ - وَهَذَا اسْتِنْبَاطٌ لَهُمْ مِمَّا قَبْلَهُ وَسَيَأْتِي مَا فِيهِ - وَنَتِيجَةُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ تَوَسَّلَ إِلَى ذَلِكَ بِالِانْقِطَاعِ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ فِي خَلْوَتِهِ بِغَارِ حِرَاءَ فَقَوِيَ هُنَالِكَ إِيمَانُهُ، وَسَمَا وِجْدَانُهُ، فَاتَّسَعَ مُحِيطُ تَفَكُّرِهِ، وَتَضَاعَفَ نُورُ بَصِيرَتِهِ، فَاهْتَدَى عَقْلُهُ الْكَبِيرُ إِلَى الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ مُبْدِعِ الْوُجُودِ، وَسِرِّ النِّظَامِ السَّارِي فِي كُلِّ مَوْجُودٍ، بِمَا صَارَ بِهِ أَهْلًا لِهِدَايَةِ النَّاسِ وَإِخْرَاجِهِمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَمَا زَالَ يُفَكِّرُ وَيَتَأَمَّلُ، وَيَنْفَعِلُ وَيَتَمَلْمَلُ، وَيَتَقَلَّبُ بَيْنَ الْآلَامِ وَالْآمَالِ، حَتَّى أَيْقَنَ أَنَّهُ هُوَ النَّبِيُّ الْمُنْتَظَرُ، الَّذِي يَبْعَثُهُ اللهُ لِهِدَايَةِ الْبَشَرِ، فَتَجَلَّى لَهُ هَذَا الِاعْتِقَادُ فِي الرُّؤَى الْمَنَامِيَّةِ، ثُمَّ قَوِيَ حَتَّى صَارَ يَتَمَثَّلُ لَهُ الْمَلَكُ يُلَقِّنُهُ فِي الْيَقَظَةِ.
وَأَمَّا الْمَعْلُومَاتُ الَّتِي جَاءَتْهُ فِي هَذَا الْوَحْيِ فَهِيَ مُسْتَمَدَّةُ الْأَصْلِ مِنْ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَمِمَّا هَدَاهُ إِلَيْهِ عَقْلُهُ وَتَفَكُّرُهُ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ مَا يَصِحُّ مِنْهَا وَمَا لَا يَصِحُّ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ تَتَجَلَّى لَهُ نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ، وَأَنَّهَا خِطَابُ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ بِوَاسِطَةِ النَّامُوسِ الْأَكْبَرِ مَلَكِ الْوَحْيِ جِبْرِيلَ الَّذِي كَانَ يَنْزِلُ عَلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ النَّبِيِّينَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
وَقَالَ أَحَدُ مَلَاحِدَةِ الْمِصْرِيِّينَ: إِنْ سُولُونَ الْحَكِيمَ الْيُونَانِيَّ وَضَعَ قَانُونًا وَشَرِيعَةً لِقَوْمِهِ فَلَيْسَ بِدْعًا فِي الْعَقْلِ أَنْ يَضَعَ مُحَمَّدٌ شَرِيعَةً أَيْضًا، وَسَأُبَيِّنُ فَسَادَ هَذَا الرَّأْيِ.
(تَفْنِيدُ تَصْوِيرِهِمْ لِلْوَحْيِ النَّفْسِيِّ وَإِبْطَالِهِ مِنْ وُجُوهٍ)
(الْوَجْهُ الْأَوَّلُ) أَنَّ أَكْثَرَ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي أَخَذُوا مِنْهَا هَذِهِ النَّتِيجَةَ هِيَ آرَاءٌ مُتَخَيَّلَةٌ، أَوْ دَعَاوَى بَاطِلَةٌ، لَا قَضَايَا تَارِيخِيَّةٌ ثَابِتَةٌ، كَمَا بَيَّنَّاهُ عِنْدَ ذِكْرِهَا، وَإِذَا بَطَلَتِ الْمُقَدِّمَاتُ بَطَلَ التَّسْلِيمُ بِالنَّتِيجَةِ.
مِثَالُ ذَلِكَ زَعْمُهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ مِنْ نَصَارَى الشَّامِ خَبَرَ غَلَبِ الْفُرْسِ وَظُهُورِهِمْ عَلَى الرُّومِ ; لِيُوهِمُوا النَّاسَ أَنَّ مَا جَاءَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرُّومِ مِنَ الْإِنْبَاءِ بِالْمَسْأَلَةِ وَبِأَنَّ الرُّومَ سَيَغْلِبُونَ الْفُرْسَ بَعْدَ ذَلِكَ - هُوَ مُسْتَمَدٌّ مِمَّا سَمِعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ نَصَارَى الشَّامِ. وَهَذَا مَرْدُودٌ بِدَلَائِلِ التَّارِيخِ وَالْعَقْلِ. فَأَمَّا التَّارِيخُ فَإِنَّهُ يُحَدِّثُنَا بِأَنَّ ظُهُورَ الْفُرْسِ عَلَى الرُّومِ كَانَ فِي سَنَةِ ٦١٠م وَذَلِكَ بَعْدَ رِحْلَةِ مُحَمَّدٍ الْأَخِيرَةِ إِلَى الشَّامِ بِأَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَقَبْلَ بَدْءِ الْوَحْيِ بِسَنَةٍ. ثُمَّ إِنَّ التَّارِيخَ أَنْبَأَنَا أَنَّ دَوْلَةَ الرُّومِ كَانَتْ مُخْتَلَّةً مُعْتَلَّةً فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ بِحَيْثُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَرْجُو أَنْ تَعُودَ لَهَا الْكَرَّةُ وَالْغَلَبُ عَلَى الْفَرَسِ حَتَّى إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ أَنْفُسَهُمْ هَزِئُوا بِالْخَبَرِ وَرَاهَنَ أَبُو بَكْرٍ أَحَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَجَازَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَبِحَ الرِّهَانَ
153
وَأَمَّا الْفِعْلُ فَإِنَّهُ يَحْكُمُ بِأَنَّ مِثْلَ مُحَمَّدٍ فِي سُمُوِّ إِدْرَاكِهِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْزِمَ بِأَنَّ الْغَلَبَ سَيَعُودُ لِلرُّومِ عَلَى الْفَرَسِ فِي مُدَّةِ بِضْعِ سِنِينَ - لَا مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ وَلَا مِنَ الْوَحْيِ النَّفْسِيِّ الْمُسْتَمَدِّ مِنَ الْأَخْبَارِ غَيْرِ الْمَوْثُوقِ بِهَا. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ انْتِصَارَ الرُّومِ حَصَلَ سَنَةَ ٦٢٢م وَكَانَ وَحْيُ التَّبْلِيغِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَنَةَ ٦١٤م فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّ سُورَةَ الرُّومِ نَزَلَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ يَكُونُ النَّصْرُ قَدْ حَصَلَ بَعْدَ ثَمَانِي سِنِينَ وَإِنْ كَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ تَكُونُ الْمُدَّةُ سَبْعَ سِنِينَ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي التَّفْسِيرِ وَالْبِضْعُ يُطْلَقُ عَلَى مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ وَالتِّسْعِ. وَالْحِكْمَةُ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ هَذَا النَّبَأِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) (٣٠: ١ - ٤) وَلَمْ يَقُلْ بَعْدَ سَبْعِ سِنِينَ أَوْ ثَمَانٍ مَثَلًا - هِيَ إِفَادَةٌ أَنَّ الْغَلَبَ يَكُونُ فِي الْحَرْبِ الْمُمْتَدَّةِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ. وَأَنْبَاءُ الْوَحْيِ وَالْعِبَرِ لَا تَكُونُ بِأُسْلُوبِ التَّارِيخِ الَّذِي يُحَدِّدُ الْوَقَائِعَ بِالسِّنِينَ، وَلَيْسَ فِي وُعُودِ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةِ لِلْمُسْلِمِينَ بِالنَّصْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ ذِكْرُ السِّنِينَ وَلَا الشُّهُورِ فَهَذِهِ الْآيَةُ فَرِيدَةٌ فِي بَابِهَا.
وَمِثَالٌ آخَرُ مَا زَعَمُوهُ مِنْ مُرُورِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رِحْلَتِهِ إِلَى الشَّامِ بِأَرْضِ مَدْيَنَ وَحَدِيثِهِ مَعَ أَهْلِهَا، الَّذِي أَرَادُوا بِهِ أَنْ يَجْعَلُوهُ أَصْلًا لِمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ أَخْبَارِهَا، وَالْخَبَرُ بَاطِلٌ كَمَا بَيَّنَّاهُ عِنْدَ نَقْلِنَا إِيَّاهُ فِي الْمُقَدِّمَاتِ، وَلَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ مِنَ الْمَعْقُولِ أَنْ يَكُونَ مَا سَمِعَهُ فِي الطَّرِيقِ مِنْ أُنَاسٍ مَجْهُولِينَ، وَمَعَارِفُهُمْ لَا يُوثَقُ بِهَا أَصْلًا لِلْوَحْيِ الَّذِي جَاءَهُ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَفِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
(الْوَجْهُ الثَّانِي) لَوْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَلَقَّى عَنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى فِي الشَّامِ شَيْئًا أَوْ عَاشَرَهُمْ لَنَقَلَ ذَلِكَ إِلَى أَتْبَاعِهِ الَّذِينَ لَمْ يَتْرُكُوا شَيْئًا عُلِمَ عَنْهُ أَوْ قِيلَ فِيهِ وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا دَوَّنُوهُ وَوَكَلُوا أَمْرَ صِحَّتِهِ أَوْ عَدَمِهَا إِلَى إِسْنَادِهِ.
(الْوَجْهُ الثَّالِثُ) لَوْ وَقَعَ مَا ذَكَرَ لَاتَّخَذَهُ أَعْدَاؤُهُ مِنْ كِبَارِ الْمُشْرِكِينَ شُبْهَةً يَحْتَجُّونَ بِهَا عَلَى أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ مِنَ الْوَحْيِ قَدْ تَعَلَّمَهُ فِي الشَّامِ مِنَ النَّصَارَى، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُورِدُونَ عَلَيْهِ مَا هُوَ أَضْعَفُ وَأَسْخَفُ مِنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ فِي مَكَّةَ قَيْنٌ (حَدَّادٌ) رُومِيٌّ يَصْنَعُ السُّيُوفَ وَغَيْرَهَا فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقِفُ عِنْدَهُ أَحْيَانًا يُشَاهِدُ صَنْعَتَهُ فَاتَّهَمُوهُ بِأَنَّهُ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ، فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (١٦: ١٠٣).
(الْوَجْهُ الرَّابِعُ) نُصُوصُ الْقُرْآنِ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِ الرُّسُلِ وَقِصَصِهِمْ قَبْلَ الْوَحْيِ، وَهُمْ مُتَّفِقُونَ مَعَنَا عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَكْذِبُ عَلَى أَحَدٍ فَضْلًا عَنِ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا اعْتَرَفَ بِذَلِكَ أَعْدَى أَعْدَائِهِ أَبُو جَهْلٍ، كَمَا أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ مَعَنَا عَلَى قُوَّةِ إِيمَانِهِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَقِينِهِ بِكُلِّ مَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ.
154
وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَقِبَ قِصَّةِ مُوسَى فِي مَدْيَنَ وَمَا بَعْدَهَا مِنْ سُورَةِ الْقَصَصِ: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (٢٨: ٤٤، ٤٥) وَقَوْلُهُ بَعْدَ قِصَّةِ نُوحٍ مِنْ سُورَةِ هُودٍ: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (١١: ٤٩) وَنَحْوُهَا فِي قِصَّةِ يُونُسَ مِنْ سُورَتِهِ.
(الْوَجْهُ الْخَامِسُ) أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ وَلَا الضَّعِيفَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
كَانَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ هُوَ النَّبِيَّ الْمُنْتَظَرَ الَّذِي كَانَ يَتَحَدَّثُ عَنْهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَبْلَ بَعْثَتِهِ، وَلَوْ رُوِيَ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَدَوَّنَهُ الْمُحَدِّثُونَ لِأَنَّهُمْ مَا تَرَكُوا شَيْئًا بَلَغَهُمْ عَنْهُ إِلَّا دَوَّنُوهُ كَمَا رَوَوْا مِثْلَهُ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ.
(الْوَجْهُ السَّادِسُ) أَنَّ حَدِيثَ بَدْءِ الْوَحْيِ الَّذِي أَثْبَتَهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَافَ عَلَى نَفْسِهِ لَمَّا رَأَى الْمَلَكَ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلَمْ تَجِدْ زَوْجُهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ الْعَاقِلَةُ الْمُفَكِّرَةُ وَسِيلَةً يَطْمَئِنُّ بِهَا عَلَى نَفْسِهِ وَتَطْمَئِنُّ هِيَ عَلَيْهِ إِلَّا اسْتِفْتَاءَ أَعْلَمِ الْعَرَبِ بِهَذَا الشَّأْنِ وَهُوَ ابْنُ عَمِّهَا وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الَّذِي كَانَ تَنَصَّرَ وَقَرَأَ كُتُبَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
(الْوَجْهُ السَّابِعُ) لَوْ كَانَتِ النُّبُوَّةُ أَمْرًا كَانَ يَرْجُوهُ مُحَمَّدٌ وَيَتَوَقَّعُهُ، وَكَانَ قَدْ تَمَّ اسْتِعْدَادُهُ لَهُ بِاخْتِلَائِهِ وَتَعَبُّدِهِ فِي الْغَارِ، وَمَا صَوَّرُوا بِهِ حَالَهُ فِيهِ مِنَ الْفِكْرِ الْمُضْطَرِبِ، وَالْوِجْدَانِ الْمُلْتَهِبِ، وَالْقَلْبِ الْمُتَقَلِّبِ، حَتَّى إِذَا كَمُلَ اسْتِعْدَادُهُ تَجَلَّى لَهُ رَجَاؤُهُ وَاعْتِقَادُهُ، بِمَا تَمَّ بِهِ مُرَادُهُ، لَظَهَرَ عَقِبَ ذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَتْ تَنْطَوِي عَلَيْهِ نَفْسُهُ الْوَثَّابَةُ، وَفِكْرَتُهُ الْوَقَّادَةُ، فِي سُورَةٍ أَوْ سُوَرٍ مِنْ أَبْلَغِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، فِي بَيَانِ أُصُولِ الْإِيمَانِ، وَتَوْحِيدِ الدَّيَّانِ، وَاجْتِثَاثِ شَجَرَةِ الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَإِنْذَارِ رُءُوسِ الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، مَا سَيَلْقَوْنَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ، وَفِي الْآخِرَةِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، كَسُوَرِ الْمُفَصَّلِ وَلَا سِيَّمَا (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) (٥٠: ١) وَالذَّارِيَاتِ وَالطُّورِ وَالنَّجْمِ وَالْقَمَرِ. ثُمَّ الْحَاقَّةِ وَالنَّبَأِ - أَوْ فِي سُورَةٍ مِنَ السُّوَرِ الْوُسْطَى الَّتِي تُقَرِّعُهُمْ بِالْحُجَجِ، وَتَأْخُذُهُمْ بِالْعِبَرِ، وَتَضْرِبُ لَهُمُ الْمَثَلَ بِسُنَنِ اللهِ فِي الرُّسُلِ، كَسُوَرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحَجِّ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَلَكِنَّهُ ظَلَّ ثَلَاثَ سِنِينَ لَمْ يَتْلُ فِيهَا عَلَى النَّاسِ سُورَةً، وَلَمْ يَدْعُهُمْ إِلَى شَيْءٍ، وَلَا تَحَدَّثَ إِلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَا إِلَى أَصْدِقَائِهِ بِمَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْإِصْلَاحِ الدِّينِيِّ الَّذِي تَوَجَّهَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، وَلَا مِنْ ذَمِّ خُرَافَاتِ الشِّرْكِ الَّذِي ضَاقَ بِهِ ذَرْعُهُ، إِذْ لَوْ تَحَدَّثَ بِذَلِكَ لَنَقَلُوهُ عَنْهُ، وَنَاهِيكَ بِأَلْصَقِ النَّاسِ بِهِ. خَدِيجَةُ وَعَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فِي بَيْتِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ الَّذِي عَاشَرَهُ طُولَ عُمُرِهِ - فَهَذَا السُّكُوتُ وَحْدَهُ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى بُطْلَانِ
155
مَا صَوَّرُوا بِهِ اسْتِعْدَادَهُ لِلْوَحْيِ الذَّاتِيَّ الَّذِي زَعَمُوهُ، وَاسْتِمْدَادَهُ لِعُلُومِهِ مِنَ التَّلَقِّي وَالِاخْتِبَارِ الَّذِي تَوَهَّمُوهُ.
(الْوَجْهُ الثَّامِنُ) أَنَّ مَا نُقِلَ مِنْ تَرْتِيبِ نُزُولِ الْوَحْيِ بَعْدَ ذَلِكَ مُوَافِقًا لِمُجْرَيَاتِ الْوَقَائِعِ وَالْحَوَادِثِ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، فَقَدْ نَزَلَ مَا بَعْدَ صَدْرِ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ عَقِبَ قَوْلِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ الَّذِي قَالَهُ فِي الْقُرْآنِ - فَقَدْ أَرَادَهُ أَبُو جَهْلٍ أَنْ يَقُولَ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمَهُ أَنَّهُ مُنْكِرٌ لَهُ وَأَنَّهُ كَارِهٌ لَهُ، بَعْدَ أَنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَحَرَّى اسْتِمَاعَهُ مِنْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُعْجِبَ بِهِ.
قَالَ لَهُ الْوَلِيدُ: وَمَاذَا أَقُولُ؟ فَوَاللهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمُ بِالشِّعْرِ لَا بِرَجْزِهِ وَلَا بِقَصِيدِهِ مِنِّي وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَوَاللهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُنِيرٌ أَعْلَاهُ، مُشْرِقٌ أَسْفَلُهُ وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ.
قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَا يَرْضَى عَنْكَ قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ. فَقَالَ: دَعْنِي حَتَّى أُفَكِّرَ، فَلَمَّا فَكَّرَ قَالَ: هَذَا سِحْرٌ يُؤْثَرُ بِأَثَرِهِ عَنْ غَيْرِهِ، فَنَزَلَتِ الْآيَاتُ: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) (٧٤: ١١) إِلَخْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ.
(الْوَجْهُ التَّاسِعُ) أَنَّ هَذِهِ الْمَعْلُومَاتِ الْمُحَمَّدِيَّةَ الَّتِي تَصَوَّرَهَا هَؤُلَاءِ الْمُحَلِّلُونَ لِمَسْأَلَةِ الْوَحْيِ قَلِيلَةُ الْمَوَادِّ، ضَيِّقَةُ النِّطَاقِ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرًا لِوَحْيِ الْقُرْآنِ.
وَأَنَّ الْقُرْآنَ لَأَعْلَى وَأَوْسَعُ وَأَكْمَلُ مِنْ كُلِّ مَا كَانَ يَعْرِفُهُ مِثْلُ بَحِيرَى وَنَسْطُورَ وَكُلِّ نَصَارَى الشَّامِ وَنَصَارَى الْأَرْضِ وَيَهُودِهَا، دَعِ الْأَعْرَابَ الَّذِينَ كَانَ يَمُرُّ بِهِمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالطَّرِيقِ إِلَى الشَّامِ.
وَأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ مُصَدِّقًا لِكُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا فِي الْأَصْلِ مِنْ وَحْيِ اللهِ إِلَى مُوسَى وَعِيسَى وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمْ - وَنَزَلَ أَيْضًا مُهَيْمِنًا عَلَيْهَا أَيْ رَقِيبًا وَحَاكِمًا كَمَا نَصَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ (٤٨) مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ (٥) وَمِمَّا حَكَمَ بِهِ عَلَى أَهْلِهَا مِنَ الْيَهُودِ النَّصَارَى أَنَّهُمْ (أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ) (٤: ٤٤ و٥١) وَنَسُوا نَصِيبًا أَوْ حَظًّا آخَرَ مِنْهُ وَأَنَّهُمْ حَرَّفُوا وَغَيَّرُوا، وَبَدَّلُوا (٥: ١٣، ١٤) وَبَيَّنَ كَثِيرًا مِنَ الْمَسَائِلِ الْكُبْرَى مِمَّا خَالَفُوا وَاخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ وَالْأَخْبَارِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْعُلْيَا عَلَيْهِمْ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَمَدَّةً مِنْ أَفْرَادٍ مِنَ الرُّهْبَانِ أَوْ غَيْرِ الرُّهْبَانِ، أَفَاضُوهَا عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَى رِحْلَتِهِ التِّجَارِيَّةِ إِلَى الشَّامِ، سَوَاءٌ أَكَانَ عِنْدَ
بَعْضِهِمْ بَقِيَّةٌ مِنَ التَّوْحِيدِ الْمُوسَوِيِّ وَالْعِيسَوِيِّ الَّذِي كَانَ يَقُولُ بِهِ آرْيُوسُ وَأَتْبَاعُهُ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ لَدَى بَعْضِهِمْ بَقِيَّةٌ مِنَ الْأَنَاجِيلِ الَّتِي حَكَمَتِ الْكَنِيسَةُ الرَّسْمِيَّةُ بِعَدَمِ قَانُونِيَّتِهَا (أَبُو كَرِيفٍ) كَإِنْجِيلِ طُفُولَةِ الْمَسِيحِ وَإِنْجِيلِ بِرْنَابَا أَمْ لَا، فَمُحَمَّدٌ
156
لَمْ يَعْقِدْ فِي الشَّامِ وَلَا فِي مَكَّةَ مَجْمَعًا مَسِيحِيًّا كَمَجَامِعِ الْكَنِيسَةِ لِلتَّرْجِيحِ بَيْنَ الْأَنَاجِيلِ وَالْمَذَاهِبِ الْمَسِيحِيَّةِ وَيَحْكُمُ بِصِحَّةِ بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ.
إِنَّ وُقُوعَ مِثْلَ هَذَا مِنْهُ فِي تِلْكَ الرِّحْلَةِ مِمَّا يَعْلَمُ وَاضِعُو هَذِهِ الْأَخْبَارِ بِبَدَاهَةِ الْعَقْلِ مَعَ عَدَمِ النَّقْلِ أَنَّهُ مُحَالٌ، وَعَلَى فَرْضِ وُقُوعِهِ يُقَالُ: كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ تِلْكَ الْأَنَاجِيلِ وَتِلْكَ الْمَذَاهِبِ بِرَأْيِهِ فِي تِلْكَ الْخِلْسَةِ التِّجَارِيَّةِ لِلنَّظَرِ فِيهَا وَيَأْمَنُ عَلَى حُكْمِهِ الْخَطَأَ؟ وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ فِي شَأْنِ أَهْلِ الْكِتَابِ: ((لَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ)) يَعْنِي فِيمَا سَكَتَ عَنْهُ الْقُرْآنُ لِئَلَّا يَكُونَ مَا كَذَّبُوهُمْ فِيهِ مِمَّا حَفِظُوا، وَيَكُونَ مَا صَدَّقُوهُمْ بِهِ مِمَّا نَسُوا حَقِيقَتَهُ أَوْ حَرَّفُوا أَوْ بَدَّلُوا.
(الْوَجْهُ الْعَاشِرُ) أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مَا هُوَ مُخَالِفٌ لِلْعَهْدَيْنِ الْعَتِيقِ وَالْجَدِيدِ وَهُوَ مِمَّا لَا يُعْلَمُ إِلَى الْآنَ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَالَ بِهِ، كَمُخَالَفَةِ سِفْرِ الْخُرُوجِ فِيمَنْ تَبَنَّتْ مُوسَى فَفِيهِ أَنَّهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ وَفِي الْقُرْآنِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ - وَفِيمَا قَرَّرَهُ مِنْ عَزْوِ صُنْعِ الْعِجْلِ الَّذِي عَبَدَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِعَزْوِهِ إِيَّاهُ إِلَى السَّامِرِيِّ وَإِثْبَاتِهِ لِإِنْكَارِ هَارُونَ عَلَيْهِمْ فِيهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
بَلْ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ أَكْبَرُ وَأَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مَا فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ مَا صَحَّ مِنْهَا وَمَا لَمْ يَصِحَّ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.
رُوَيْدَكُمْ أَيُّهَا الْمُفْتَاتُونَ، الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَعْلَمُونَ، إِنَّ وَحْيَ الْقُرْآنِ أَعْلَى مِمَّا تَزْعُمُونَ، وَأَكْبَرُ مِمَّا تَتَصَوَّرُونَ، وَتُصَوِّرُونَ. وَإِنَّ مُحَمَّدًا أَقَلُّ عِلْمًا كَسْبِيًّا مِمَّا تَدَّعُونَ وَأَكْمَلُ اسْتِعْدَادًا لِتَلَقِّي كَلَامِ اللهِ عَنِ الرُّوحِ الْقُدُسِ مِمَّا تَسْتَكْبِرُونَ.
وَإِذَا كَانَ وَحْيُ الْقُرْآنِ أَعْلَى وَأَكْمَلَ مِنْ جَمِيعِ مَا حُفِظَ عَنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ لِأَنَّهُ الْخَاتَمُ لَهُمُ الْمُكَمِّلُ لِشَرَائِعِهِمُ الْخَاصَّةِ الْمَوْقُوتَةِ، فَأَجْدَرُ بِهِ أَنْ يَكُونَ أَكْمَلَ مِمَّا وَضَعَهُ سُولُونُ الْفَيْلَسُوفُ الْيُونَانِيُّ الَّذِي شَبَّهَ مُحَمَّدًا بِهِ أَحَدُ مَلَاحِدَةِ عَصْرِنَا فِي مِصْرِنَا، مَعَ بُعْدِ الشَّبَهِ بَيْنَ أُمِّيٍّ نَشَأَ بَيْنَ الْأُمِّيِّينَ، وَفَيْلَسُوفٍ نَشَأَ فِي أُمَّةِ حِكْمَةٍ وَتَشْرِيعٍ وَدَوْلَةٍ
وَسِيَاسَةٍ، وَدَخَلَ فِي كُلِّ أُمُورِ الْأُمَّةِ وَالدَّوْلَةِ.
157
الْقَوْلُ الْحَقُّ فِي اسْتِعْدَادِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنُّبُوَّةِ:
التَّحْقِيقُ فِي صِفَةِ حَالِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ، وَإِعْدَادِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ لِنَبُّوتِهِ وَرِسَالَتِهِ، هُوَ أَنَّهُ خَلَقَهُ كَامِلَ الْفِطْرَةِ، لِيَبْعَثَهُ بِدِينِ الْفِطْرَةِ، وَأَنَّهُ خَلَقَهُ كَامِلَ الْعَقْلِ الِاسْتِعْدَادِيِّ الْهَيُولَانِيِّ، لِيَبْعَثَهُ بِدِينِ الْعَقْلِ وَالنَّظَرِ الْعِلْمِيِّ، وَأَنَّهُ كَمَّلَهُ بِمَعَالِي الْأَخْلَاقِ لِيَبْعَثَهُ مُتَمِّمًا لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَأَنَّهُ بَغَّضَ إِلَيْهِ الْوَثَنِيَّةَ وَخُرَافَاتِ أَهْلِهَا وَرَذَائِلَهُمْ مِنْ صِغَرِ سِنِّهِ، وَحَبَّبَ إِلَيْهِ الْعُزْلَةَ حَتَّى لَا تَأْنَسَ نَفْسُهُ بِشَيْءٍ مِمَّا يَتَنَافَسُونَ فِيهِ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ الْبَدَنِيَّةِ، أَوْ مُنْكِرَاتِ الْوَحْشِيَّةِ، كَسَفْكِ الدِّمَاءِ وَالْبَغْيِ عَلَى النَّاسِ، أَوِ الْمَطَامِعِ الدَّنِيئَةِ كَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ - لِيَبْعَثَهُ مُصْلِحًا لِمَا فَسَدَ مِنْ أَنْفُسِ النَّاسِ، وَمُزَكِّيًا لَهُمْ بِالتَّأَسِّي بِهِ، وَجَعَلَهُ الْمَثَلَ الْبَشَرِيَّ الْأَعْلَى، لِتَنْفِيذِ مَا يُوحِيهِ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرْعِ الْأَعْلَى، فَكَانَ مِنْ عِفَّتِهِ أَنْ سَلَخَ مِنْ سِنِي شَبَابِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً مَعَ زَوْجِهِ خَدِيجَةَ كَانَتْ فِي ١٥ مِنْهَا عَجُوزًا يَائِسَةً مِنَ النَّسْلِ فَتُوُفِّيَتْ فِي الْخَامِسَةِ وَالسِّتِّينَ وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْهِ، وَظَلَّ يَذْكُرُهَا وَيُفَضِّلُهَا عَلَى جَمِيعِ مَنْ تَزَوَّجَ بِهِنَّ مِنْ بَعْدِهَا، حَتَّى عَائِشَةَ بِنْتِ الصِّدِّيقِ عَلَى جَمَالِهَا وَحَدَاثَتِهَا وَذَكَائِهَا وَكَمَالِ اسْتِعْدَادِهَا لِلتَّبْلِيغِ عَنْهُ - وَظَلَّ طُولَ عُمُرِهِ يَكْرَهُ سَفْكَ الدِّمَاءِ وَلَوْ بِالْحَقِّ فَكَانَ عَلَى شَجَاعَتِهِ
الْكَامِلَةِ يَقُودُ أَصْحَابَهُ لِقِتَالِ أَعْدَاءِ اللهِ وَأَعْدَائِهِ الْمُعْتَدِينَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ لِأَجْلِ صَدِّهِمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقْتُلْ بِيَدِهِ إِلَّا رَجُلًا وَاحِدًا مِنْهُمْ (هُوَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ) كَانَ مُوَطِّنًا نَفْسَهُ عَلَى قَتْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهَجَمَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُدَجَّجٌ بِالْحَدِيدِ مِنْ مِغْفَرٍ وَدِرْعٍ فَلَمْ يَجِدْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُدًّا مِنْ قَتْلِهِ فَطَعَنَهُ فِي تَرْقُوَتِهِ مِنْ خَلَلِ الدِّرْعِ وَالْمِغْفَرِ، وَظَلَّ طُولَ عُمْرِهِ وَبَعْدَ مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ غَنَائِمِ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ يُؤْثِرُ الْقَشَفَ وَشَظَفَ الْعَيْشِ عَلَى نِعْمَتِهِ، مَعَ إِبَاحَةِ شَرْعِهِ لِأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ وَنَهْيِهِ لِمَنْ كَانَ يَتْرُكُهَا تَدَيُّنًا، وَيُرَقِّعُ ثَوْبَهُ وَيَخْصِفُ نَعْلَهُ، مَعَ إِبَاحَةِ دِينِهِ لِلزِّينَةِ وَأَمْرِهِ بِهَا عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وَكَانَ يَأْكُلُ مَا وَجَدَ لَا يَعِيبُ طَعَامًا قَطُّ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لَا يَشْرَبُ إِلَّا الْمَاءَ الْعَذْبَ النَّقِيَّ.
وَأَكْمَلَ اللهُ تَعَالَى اسْتِعْدَادَهُ الذَّاتِيَّ ((لَا الْكَسْبِيَّ)) لِلْبَعْثَةِ بِإِكْمَالِ دِينِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَالتَّشْرِيعِ الْكَافِي الْكَافِلِ لِإِصْلَاحِ جَمِيعِ الْبَشَرِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَجَعَلَهُ حُجَّةً عَلَى جَمِيعِ الْعَالَمِينَ، بِأَنْ أَنْشَأَهُ كَأَكْثَرِ قَوْمِهِ أُمِّيًّا وَصَرَفَهُ فِي أُمِّيَّتِهِ عَنِ اكْتِسَابِ أَيِّ شَيْءٍ مِنْ عُلُومِ الْبَشَرِ مِنْ قَوْمِهِ الْعَرَبِ الْأُمِّيِّينَ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ أَدْنَى عِنَايَةٍ بِمَا يَتَفَاخَرُ بِهِ قَوْمُهُ مِنْ فَصَاحَةِ
158
اللِّسَانِ، وَقُوَّةِ الْبَيَانِ، مِنْ شِعْرٍ وَخَطَابَةٍ، وَمُفَاخَرَةٍ وَمُنَافَرَةٍ، إِذْ كَانُوا يَؤُمُّونَ أَسْوَاقَ مَوْسِمِ الْحَجِّ وَأَشْهَرُهَا عُكَاظُ مِنْ جَمِيعِ النَّوَاحِي لِإِظْهَارِ بَلَاغَتِهِمْ وَبَرَاعَتِهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ الْأَسْبَابِ لِارْتِقَاءِ لُغَتِهِمْ، وَلِوُجُودِ الْحِكْمَةِ فِي شِعْرِهِمْ، فَكَانَ مِنَ الْغَرِيبِ أَنْ يَزْهَدَ فِي مُشَارَكَتِهِمْ فِيهِ بِنَفْسِهِ، وَفِي رِوَايَتِهِ لِمَا عَسَاهُ يَسْمَعُهُ مِنْهُ، وَقَدْ سَمِعَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ زُهَاءَ مِائَةِ قَافِيَةٍ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ فَقَالَ: ((إِنْ كَادَ لَيُسْلِمُ)) وَقَالَ: ((آمَنَ شِعْرُهُ وَكَفَرَ قَلْبُهُ)) وَقَالَ: ((إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا، وَإِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكَمًا)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: ((إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا)) فَقَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ.
قُلْنَا: إِنَّ اسْتِعْدَادَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ فَطَرِيٌّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ كَسْبِهِ بِعِلْمٍ وَلَا عَمَلٍ لِسَانِيٍّ وَلَا نَفْسِيٍّ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَرْجُوهَا كَمَا رُوِيَ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، بَلْ رُوِيَ عَنْ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - أَنَّهَا لَمَّا سَمِعَتْ مِنْ غُلَامِهَا مَيْسَرَةَ أَخْبَارَ أَمَانَتِهِ وَفَضَائِلِهِ وَكَرَامَاتِهِ وَمَا قَالَ بَحِيرَى الرَّاهِبُ فِيهِ تَعَلَّقَ أَمَلُهَا بِأَنْ يَكُونَ
هُوَ النَّبِيَّ الَّذِي يَتَحَدَّثُونَ عَنْهُ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ لَا يَصِلُ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَى دَرَجَةِ الْمُسْنَدِ الصَّحِيحِ كَحَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ يُقَوِّيهِ حَلِفُهَا بِاللهِ إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُخْزِيهِ أَبَدًا، قُلْنَا: إِنَّهَا عَلَّلَتْ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَتْهُ مِنْ فَضَائِلِهِ، وَرَأَتْ أَنَّهَا فِي حَاجَةٍ إِلَى اسْتِفْتَاءِ ابْنِ عَمِّهَا أُمَيَّةَ فِي شَأْنِهِ.
وَأَمَّا اخْتِلَاؤُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَعَبُّدُهُ فِي الْغَارِ عَامَ الْوَحْيِ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ كَانَ عَمَلًا كَسْبِيًّا مُقَوِّيًا لِذَلِكَ الِاسْتِعْدَادِ السَّلْبِيِّ مِنَ الْعُزْلَةِ وَعَدَمِ مُشَارَكَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ عِبَادَاتِهِمْ وَلَا عَادَاتِهِمْ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقْصِدُ الِاسْتِعْدَادَ لِلنُّبُوَّةِ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِأَجْلِهَا لَاعْتَقَدَ حِينَ رَأَى الْمَلِكَ أَوْ عَقِبَ رُؤْيَتِهِ حُصُولَ مَأْمُولِهِ وَتَحَقُّقِ رَجَائِهِ وَلَمْ يَخَفْ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْبَاعِثُ لِهَذَا الِاخْتِلَاءِ، وَالتَّحَنُّثِ اشْتِدَادَ الْوَحْشَةِ مِنْ سُوءِ حَالِ النَّاسِ وَالْهَرَبِ مِنْهَا إِلَى الْأُنْسِ بِاللهِ تَعَالَى، وَالرَّجَاءِ فِي هِدَايَتِهِ إِلَى الْمَخْرَجِ مِنْهَا، كَمَا بَسَطَهُ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الضُّحَى: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) (٩٣: ٧) وَمَا يُفَسِّرُهُ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ الشُّورَى (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (٤٢: ٥٢ و٥٣) وَأَلَمَّ بِهِ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ إِلْمَامًا مُخْتَصَرًا مُفِيدًا، فَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: ((مِنَ السُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ أَنْ يَتِيمًا فَقِيرًا أُمِّيًّا مِثْلَهُ تَنْطَبِعُ نَفْسُهُ بِمَا تَرَاهُ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ إِلَى زَمَنِ كُهُولَتِهِ، وَيَتَأَثَّرُ عَقْلُهُ بِمَا يَسْمَعُهُ مِمَّنْ يُخَالِطُهُ لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ مِنْ ذَوِي قَرَابَتِهِ وَأَهْلِ عَصَبَتِهِ،
159
وَلَا كِتَابَ يُرْشِدُهُ، وَلَا أُسْتَاذَ يُنَبِّهُهُ، وَلَا عَضُدَ إِذَا عَزَمَ يُؤَيِّدُهُ، فَلَوْ جَرَى الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى جَارِي السُّنَنِ لَنَشَأَ عَلَى عَقَائِدِهِمْ، وَأَخَذَ بِمَذَاهِبِهِمْ، إِلَى أَنْ يَبْلُغَ مَبْلَغَ الرِّجَالِ، وَيَكُونَ لِلْفِكْرِ وَالنَّظَرِ مَجَالٌ، فَيَرْجِعُ إِلَى مُخَالَفَتِهِمْ، إِذَا قَامَ لَهُ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِ ضَلَالَاتِهِمْ، كَمَا فَعَلَ الْقَلِيلُ مِمَّنْ كَانُوا عَلَى عَهْدِهِ وَلَكِنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَجْرِ عَلَى سُنَّتِهِ، بَلْ بُغِّضَتْ إِلَيْهِ الْوَثَنِيَّةُ مِنْ مَبْدَأِ عُمُرِهِ، فَعَاجَلَتْهُ طَهَارَةُ الْعَقِيدَةِ، كَمَا بَادَرَهُ
حُسْنُ الْخَلِيقَةِ، وَمَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) (٩٣: ٧) لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ عَلَى وَثَنِيَّةٍ قَبْلَ الِاهْتِدَاءِ إِلَى التَّوْحِيدِ، أَوْ عَلَى غَيْرِ السَّبِيلِ الْقَوِيمِ، قَبْلَ الْخُلُقِ الْعَظِيمِ، حَاشَ لِلَّهِ إِنَّ ذَلِكَ لَهُوَ الْإِفْكُ الْمُبِينُ، وَإِنَّمَا هِيَ الْحَيْرَةُ تُلِمُّ بِقُلُوبِ أَهْلِ الْإِخْلَاصِ، فِيمَا يَرْجُونَ لِلنَّاسِ مِنَ الْخَلَاصِ، وَطَلَبِ السَّبِيلِ إِلَى مَا هُدُوا إِلَيْهِ مِنْ إِنْقَاذِ الْهَالِكِينَ، وَإِرْشَادٍ لِلضَّالِّينَ، وَقَدْ هَدَى اللهُ نَبِيَّهُ إِلَى مَا كَانَتْ تَتَلَمَّسُهُ بَصِيرَتُهُ بِاصْطِفَائِهِ لِرِسَالَتِهِ، وَاخْتِيَارِهِ مِنْ بَيْنِ خَلْقِهِ لِتَقْرِيرِ شَرِيعَتِهِ)) اهـ.
(أَقُولُ) وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ اسْتِعْدَادَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِ اللهِ تَعَالَى رُوحَهُ الْكَرِيمَةَ كَمِرْآةٍ صَقِيلَةٍ حِيلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ كُلِّ مَا فِي الْعَالَمِ مِنَ التَّقَالِيدِ الدِّينِيَّةِ، وَالْآدَابِ الْوِرَاثِيَّةِ وَالْعَادَاتِ الْمُكْتَسَبَةِ، إِلَى أَنْ تَجَلَّى فِيهَا الْوَحْيُ الْإِلَهِيُّ بِأَكْمَلِ مَعَانِيهِ، وَأَبْلَغِ مَبَانِيهِ، لِتَجْدِيدِ دِينِ اللهِ الْمُطْلَقِ الَّذِي كَانَ يُرْسِلُ بِهِ رُسُلَهُ إِلَى أَقْوَامِهِمْ خَاصَّةً بِمَا يُنَاسِبُ حَالَهُمْ وَاسْتِعْدَادَهُمْ، وَجَعَلَ بَعْثَةَ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ بِهِ لِلْبَشَرِ عَامَّةً دَائِمَةً لَا يَحْتَاجُونَ بَعْدَهَا إِلَى وَحْيٍ آخَرَ، فَكَانَ فِي فِطْرَتِهِ السَّلِيمَةِ وَرُوحِهِ الشَّرِيفَةِ، وَمَا نَزَلَ عَلَيْهَا مِنَ الْمَعَارِفِ الْعَالِيَةِ، وَمَا أَشْرَقَ فِيهَا مِنْ نُورِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي تَلَوْتُهُ عَلَيْكَ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الشُّورَى، هُوَ مَضْرَبُ الْمَثَلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النُّورِ: (اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٤: ٣٥).
فَزَيْتُ مِصْبَاحِ الْمَعَارِفِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، يُوقَدُ مِنْ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ، وَلَا يَهُودِيَّةٍ، وَلَا نَصْرَانِيَّةٍ، بَلْ هِيَ إِلَهِيَّةٌ عُلْوِيَّةٌ.
هَذَا مَا نَرَاهُ كَافِيًا لِتَفْنِيدِ مَزَاعِمِ مُصَوِّرِي الْوَحْيِ النَّفْسِيِّ مِنْ نَاحِيَةِ شَخْصِ مُحَمَّدٍ وَاسْتِعْدَادِهِ، وَيَتْلُوهُ مَا هُوَ أَقْوَى دَلِيلًا، وَأَقْوَمُ قِيلًا، وَهُوَ تَفْنِيدُهُ بِمَوْضُوعِ الْوَحْيِ الَّذِي هُوَ آيَةُ نُبُوَّتِهِ الْخَالِدَةُ، وَحُجَّتُهُ النَّاهِضَةُ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ.
160
آيَةُ اللهِ الْكُبْرَى - الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ
(الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ، الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ، الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ، الْكِتَابُ الْعَزِيزُ)
الَّذِي: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)
هُوَ كِتَابٌ لَا كَالْكُتُبِ، هُوَ آيَةٌ لَا كَالْآيَاتِ، هُوَ مُعْجِزَةٌ لَا كَالْمُعْجِزَاتِ، هُوَ نُورٌ لَا كَالْأَنْوَارِ، وَهُوَ سِرٌّ لَا كَالْأَسْرَارِ، هُوَ كَلَامٌ لَا كَالْكَلَامِ، هُوَ كَلَامُ اللهِ الْحَيِّ الْقَيُّومِ الَّذِي لَيْسَ لِرُوحِ الْقُدُسِ جِبْرِيلَ الْأَمِينِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهُ إِلَّا نَقْلُهُ بِلَفْظِهِ الْعَرَبِيِّ مِنْ سَمَاءِ الْأُفُقِ الْأَعْلَى إِلَى هَذِهِ الْأَرْضِ، وَلَا لِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - مِنْهُ إِلَّا تَبْلِيغُهُ لِلنَّاسِ لِيَهْتَدُوا بِهِ، فَهُوَ مُعْجِزَةٌ لِلْخَلْقِ بِلَفْظِهِ وَنَظْمِهِ وَأُسْلُوبِهِ وَعُلُومِهِ وَهِدَايَتِهِ، لَمْ يَكُنْ فِي اسْتِطَاعَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْتِيَ بِسُورَةٍ مِنْ سُورِهِ بِكَسْبِهِ وَمَعَارِفِهِ، وَفَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ عَالِمًا وَلَا بَلِيغًا مُمْتَازًا إِلَّا بِهِ، بَلْ فِيهِ آيَاتٌ صَرِيحَةٌ فِي مُعَاتَبَتِهِ عَلَى بَعْضِ اجْتِهَادِهِ كَفِدَاءِ أَسْرَى بَدْرٍ (رَاجِعْ ص ٧٢ و٨٢ و٤٠١ و٤٠٩ ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ).
وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ التَّحَدِّي بِالْقُرْآنِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (٢: ٢٣) أَهَمَّ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ بِالْإِجْمَالِ وَالْإِيجَازِ، وَأَعُودُ هُنَا إِلَى الْكَلَامِ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ الْمُصْلِحَةِ لِلْبَشَرِ بِمَا يَحْتَمِلُهُ الْمَقَامُ مِنَ الْبَسْطِ وَالتَّفْصِيلِ، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ هَذِهِ الْعُلُومَ أَعْلَى مِنْ كُلِّ مَا حَفِظَهُ التَّارِيخُ عَنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ، وَوَاضِعِي الشَّرَائِعِ وَالْقَوَانِينِ، وَسَاسَةِ الشُّعُوبِ وَالْأُمَمِ.
فَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِأَنَّ لِلْعَالَمِ رَبًّا عَلِيمًا حَكِيمًا رَحِيمًا مُرِيدًا فَاعِلًا مُخْتَارًا فَلَا مَنْدُوحَةَ لَهُ وَلَا مَنَاصَ مِنَ الْإِيمَانِ بِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ وَحْيٌ مِنْ لَدُنْهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَهُ عَلَى خَاتَمِ أَنْبِيَائِهِ الْمُرْسَلِينَ رَحْمَةً بِهِمْ لِيَهْتَدُوا بِهِ إِلَى تَكْمِيلِ فِطْرَتِهِمْ، وَتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَإِصْلَاحِ مُجْتَمَعِهِمْ مِنَ الْمَفَاسِدِ الَّتِي كَانَتْ عَامَّةً لِجَمِيعِ أُمَمِهِمْ، فَيَكُونُ اتِّبَاعُ مُحَمَّدٍ فَرْضًا إِلَهِيًّا لَازِبًا عَامًّا كَمَا قَالَ تَعَالَى: (قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ
جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (٧: ١٥٨).
وَمَنْ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِوُجُودِ هَذَا الرَّبِّ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ فَلَا مَنْدُوحَةَ لَهُ عَنِ الْجَزْمِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ وَأَعْلَمُ وَأَحْكَمُ مِنْ كُلِّ مَنْ عُرِفَ فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنَ الْحُكَمَاءِ الْهَادِينَ الْمَهْدِيِّينَ،
161
وَيَكُونُ الْوَاجِبُ بِمُقْتَضَى الْعَقْلِ أَنْ يَعْتَرِفَ لَهُ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُ سَيِّدُ الْبَشَرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَوْلَاهُمْ بِالِاتِّبَاعِ بِعُنْوَانِ (سَيِّدِ الْبَشَرِ وَحَكِيمِهِمُ الْأَعْظَمِ).
وَإِنَّنَا رَأَيْنَا بَعْضَ الْمُنْصِفِينَ مِنَ الْوَاقِفِينَ عَلَى السِّيرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ الَّذِينَ يَفْهَمُونَ الْقُرْآنَ فِي الْجُمْلَةِ يَعْتَرِفُونَ بِهَذَا قَوْلًا وَكِتَابَةً (مِنْهُمْ) الْأُسْتَاذُ مُولَرِ الْإِنْكِلِيزِيُّ الْمَشْهُورُ، وَمِنْهُمْ ذَلِكَ الْفَيْلَسُوفُ الطَّبِيبُ السُّورِيُّ الْكَاثُولِيكِيُّ النَّشْأَةِ الَّذِي رَأَى فِي مَجَلَّةِ الْمَنَارِ بَعْضَ الْمَنَاقِبِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَكَتَبَ إِلَيْنَا كِتَابًا يَقُولُ فِي أَوَّلِهِ: أَنْتَ تَنْظُرُ إِلَى مُحَمَّدٍ كَنَبِيٍّ فَتَرَاهُ عَظِيمًا، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ كَرَجُلٍ فَأَعُدُّهُ أَعْظَمَ، وَذَكَرَ أَبْيَاتًا فِي وَصْفِهِ وَوَصْفِ الْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنْ مُحْكَمِ الْآيَاتِ، الْمَانِعَةِ لِمَنْ عَقَلَهَا مِنْ تَقْيِيدِ الْعُمْرَانِ بِالْعَادَاتِ، وَإِصْلَاحِهِ لِلْبَشَرِ بِحِكْمَةِ بَيَانِهِ وَقُوَّةِ بَنَانِهِ، وَخَتَمَهَا بِقَوْلِهِ:
بِبَيَانِهِ أَرْبَى عَلَى أَهْلِ النُّهَى وَبِسَيْفِهِ أَنْحَى عَلَى الْهَامَاتِ
مِنْ دُونِهِ الْأَبْطَالُ فِي كُلِّ الْوَرَى مِنْ سَابِقٍ أَوْ حَاضِرٍ أَوْ آتٍ
وَالْمُؤْمِنُونَ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ مِنْ أَحْرَارِ مُفَكِّرِي الشُّعُوبِ كُلِّهَا كَثِيرُونَ، وَلَكِنَّ الْجَاحِدِينَ لِوُجُودِ رَبٍّ مُدَبِّرٍ لِلْعَالَمِينَ قَلِيلُونَ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَحَجَّةٌ عَلَيْهِمْ فِي نَشْأَتِهِ وَتَرْبِيَتِهِ وَمَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مِنْ صِدْقِهِ الْفِطْرِيِّ الْمَطْبُوعِ، ثُمَّ بِمَا جَاءَ بِهِ فِي سِنِّ الْكُهُولَةِ مِنْ هَذِهِ الْعُلُومِ الْمُصْلِحَةِ لِجَمِيعِ شُئُونِ الْبَشَرِ فِي كُلِّ زَمَانٍ إِذَا عَقَلُوهَا وَاهْتَدَوْا بِهَا، وَإِسْنَادِهِ إِيَّاهَا إِلَى الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ، فَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَزَايَاهُ هَذِهِ حُجَّةٌ وَبُرْهَانٌ عَلَى وُجُودِ الرَّبِّ الْخَالِقِ الْحَكِيمِ، بَلْ مَجْمُوعَةُ حُجَجٍ عَقْلِيَّةٍ وَطَبِيعِيَّةٍ - وَهَاكَ أَيُّهَا الْقَارِئُ مَا أَزُفُّهُ إِلَيْكَ مِنْ قَوَاعِدِ تِلْكَ الْعُلُومِ الْإِصْلَاحِيَّةِ بَعْدَ تَمْهِيدٍ وَجِيزٍ فِي أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ وَحِكْمَةِ جَعْلِ تِلْكَ الْعُلُومِ الْكُلِّيَّةِ مُتَفَرِّقَةً فِي سُورِهِ بِأُسْلُوبِهِ الْغَرِيبِ الْعَجِيبِ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَإِنَّمَا نُعِيدُهُ مَعَ زِيَادَةٍ مُفِيدَةٍ وَإِيضَاحٍ اقْتِدَاءً بِأُسْلُوبِ الْقُرْآنِ نَفْسِهِ فِي تَكْرَارِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ فِي الْمَوَاقِعِ الْمُقْتَضِيَةِ لَهُ مِنْ إِيجَازٍ أَوْ إِسْهَابٍ، وَتَفْصِيلٍ أَوْ إِجْمَالٍ.
(أُسْلُوبُ الْقُرْآنِ الْخَاصِّ وَحِكْمَتُهُ وَإِعْجَازُهُ بِهِ)
لَوْ أَنَّ عَقَائِدَ الْإِسْلَامِ الْمُنَزَّلَةَ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَصِفَاتِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ وَدَارِ الثَّوَابِ وَدَارِ الْعِقَابِ جُمِعَتْ وَحْدَهَا مُرَتَّبَةً فِي ثَلَاثِ سُوَرٍ أَوْ أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ مَثَلًا كَكُتُبِ الْعَقَائِدِ الْمُدَوَّنَةِ - وَلَوْ أَنَّ عِبَادَاتِهِ مِنَ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالدُّعَاءِ وَالْأَذْكَارِ وُضِعَ كُلٌّ مِنْهَا فِي بِضْعِ سُوَرٍ أَيْضًا كَكُتُبِ الْفِقْهِ الْمُصَنَّفَةِ - وَلَوْ أَنَّ آدَابَهُ وَحِكَمَهُ وَفَضَائِلَهُ الْوَاجِبَةَ وَالْمَنْدُوبَةَ، وَمَا يُقَابِلُهَا مِنَ الرَّذَائِلِ وَالْأَعْمَالِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْمَكْرُوهَةِ، أُفْرِدَتْ هِيَ وَمَا يَقْتَضِيهِ التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالنُّذُرِ وَالْأَمْثَالِ الْبَاعِثَةِ لِشُعُورَيِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فِي بِضْعِ سُوَرٍ أُخْرَى كَكُتُبِ
162
الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ الْمُؤَلَّفَةِ - وَلَوْ أَنَّ قَوَاعِدَهُ التَّشْرِيعِيَّةَ وَأَحْكَامَهُ الشَّخْصِيَّةَ وَالسِّيَاسِيَّةَ وَالْحَرْبِيَّةَ وَالْمَدَنِيَّةَ وَحُدُودَهُ وَعُقُوبَاتِهِ التَّأْدِيبِيَّةَ رُتِّبَتْ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ خَاصَّةٍ بِهَا كَأَسْفَارِ الْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ - ثُمَّ لَوْ أَنَّ قِصَصَ النَّبِيِّينَ الْمُرْسَلِينَ وَمَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ وَالسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ سُرِدَتْ فِي سُورِهَا مُرَتَّبَةً كَدَوَاوِينِ التَّارِيخِ - لَوْ أَنَّ كُلَّ مَا ذُكِرَ وَمَا لَمْ يُذْكَرْ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ الَّتِي أَرَادَ اللهُ بِهَا إِصْلَاحَ شُئُونِ الْبَشَرِ جُمِعَ كُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا وَحْدَهُ كَتَرْتِيبِ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ التَّارِيخِيِّ الَّذِي لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مُرَتِّبَهُ، أَوْ كُتُبِ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَالْقَوَانِينِ لَفَقَدَ الْقُرْآنُ بِذَلِكَ أَعْظَمَ مَزَايَا هِدَايَتِهِ الْمَقْصُودَةِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ لِلْغَايَةِ الَّتِي انْتَهَتْ إِلَيْهَا، وَهُوَ التَّعَبُّدُ بِهِ وَاسْتِفَادَةُ كُلِّ حَافِظٍ لِلْقَلِيلِ مِنْ سُوَرِهِ كَثِيرًا مِنْ مَسَائِلِ الْإِيمَانِ وَالْفَضَائِلِ وَالْأَحْكَامِ وَالْحِكَمِ الْمُنْبَثَّةِ فِي جَمِيعِ السُّورِ ; لِأَنَّ السُّورَةَ الْوَاحِدَةَ لَا يُوجَدُ فِيهَا فِي هَذَا التَّرْتِيبِ إِلَّا مَقْصِدٌ وَاحِدٌ مِنْ تِلْكَ الْمَقَاصِدِ، وَقَدْ يَكُونُ أَحْكَامُ الطَّلَاقِ أَوِ الْحَيْضِ، فَهُوَ يَتَعَبَّدُ بِهَا، وَلَاشَكَّ أَنَّهُ يَمَلُّهَا، وَأَمَّا سُوَرُهُ الْمُنَزَّلَةُ فَفِي كُلٍّ مِنْهَا حَتَّى أَقْصَرِهَا عِدَّةُ مَسَائِلَ مِنَ الْهِدَايَةِ فَتَرَى فِي سُورَتَيِ الْفِيلِ وَقُرَيْشٍ (الْمُتَعَلِّقَةُ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى حَتَّى فِي الْإِعْرَابِ) ذِكْرَ مَسْأَلَتَيْنِ تَارِيخِيَّتَيْنِ قَدْ جُعِلَتَا حُجَّةً عَلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ بِمَا مَنَّ عَلَيْهِمْ مِنْ عِنَايَتِهِ بِحِفْظِ الْبَيْتِ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ عِزِّهِمْ وَفَخْرِهِمْ وَشَرَفِهِمْ وَتَأْمِينِ تِجَارَتِهِمْ وَحَيَاتِهِمْ - وَلَفَقَدَ بِهَذَا التَّرْتِيبِ أَخَصَّ أَنْوَاعِ إِعْجَازِهِ أَيْضًا.
يُعْلَمُ هَذَا وَذَاكَ مِمَّا نُبَيِّنُهُ مِنْ فَوَائِدِ نَظْمِهِ وَأُسْلُوبِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ بِهِ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْعَلِيمُ، الْحَكِيمُ، الرَّحِيمُ، وَهُوَ مَزْجُ تِلْكَ الْمَقَاصِدِ كُلِّهَا بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَتَفْرِيقُهَا فِي السُّوَرِ الْكَثِيرَةِ، الطَّوِيلَةِ مِنْهَا وَالْقَصِيرَةِ، بِالْمُنَاسَبَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَتَكْرَارُهَا بِالْعِبَارَاتِ الْبَلِيغَةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْقُلُوبِ، الْمُحَرِّكَةِ لِلشُّعُورِ، النَّافِيَةِ لِلسَّآمَةِ وَالْمَلَلِ مِنَ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى تَرْتِيلِهَا بِنَغَمَاتِ نَظْمِهِ الْخَاصِّ بِهِ وَفَوَاصِلِهِ الْمُتَعَدِّدَةِ الْقَابِلَةِ لِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّغَنِّي الَّذِي يُحْدِثُ فِي الْقَلْبِ وِجْدَانَ الْخُشُوعِ، وَخَشْيَةَ الْإِجْلَالِ لِلرَّبِّ الْمَعْبُودِ، وَالرَّجَاءَ فِي رِضْوَانِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَالْخَوْفَ مِنْ عُقُوبَتِهِ، وَالِاعْتِبَارَ بِسُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ، بِمَا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي كَلَامِ الْبَشَرِ مِنْ خَطَابَةٍ وَلَا شِعْرٍ وَلَا رَجْزٍ وَلَا سَجْعٍ، فَبِهَذَا الْأُسْلُوبِ الرَّفِيعِ فِي النَّظْمِ الْبَدِيعِ وَبَلَاغَةِ التَّعْبِيرِ السَّنِيعِ، كَانَ كَمَا وَرَدَ فِي وَصْفِهِ: لَا تَبْلَى جِدَّتُهُ وَلَا تُخْلِقُهُ كَثْرَةُ التَّرْدِيدِ. وَحِكْمَةُ ذَلِكَ وَغَايَتُهُ تُعْلَمُ مِمَّا وَقَعَ بِالْفِعْلِ وَهَاكَ بَيَانَهُ بِالْإِجْمَالِ.
الثَّوْرَةُ وَالِانْقِلَابُ الَّذِي أَحْدَثَهُ الْقُرْآنُ فِي الْبَشَرِ:
الْقُرْآنُ كِتَابٌ أُنْزِلَ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ أُمِّيٍّ نَشَأَ عَلَى الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ سَلِيمِ الْعَقْلِ صَقِيلِ النَّفْسِ طَاهِرِ الْأَخْلَاقِ لَمْ تَمْلِكْهُ تَقَالِيدُ دِينِيَّةٌ وَلَا أَهْوَاءُ دُنْيَوِيَّةٌ ; لِأَجْلِ إِحْدَاثِ ثَوْرَةٍ وَانْقِلَابٍ كَبِيرٍ فِي الْعَرَبِ، فَسَائِرُ الْأُمَمِ يَكْتَسِحُ مِنَ الْعَالِمِ الْإِنْسَانِيِّ مَا دَنُسَ فِطْرَتُهُ مِنْ رِجْسِ الشِّرْكِ وَالْوَثَنِيَّةِ
163
الَّذِي هَبَطَ بِهَذَا الْإِنْسَانِ مِنْ أُفُقِهِ الْأَعْلَى فِي عَالَمِ الْأَرْضِ إِلَى عِبَادَةِ مِثْلِهِ وَمَا هُوَ دُونَهُ مِنْ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَمَا أَفْسَدَ عَقْلَهُ وَذَهَبَ بِاسْتِقْلَالِ فِكْرِهِ مِنَ الْبِدَعِ الْكَنَسِيَّةِ، وَالتَّقَالِيدِ الْمَذْهَبِيَّةِ، الَّتِي أَحَالَتْ تَوْحِيدَ الْأَنْبِيَاءِ الْأَوَّلِينَ شِرْكًا وَحَقَّهُمْ بَاطِلًا، وَهِدَايَتَهُمْ غِوَايَةً - وَمَا أَفْسَدَ بَأْسَهُ، وَأَذَلَّ نَفْسَهُ، وَسَلَبَهُ إِرَادَتَهُ، مِنِ اسْتِبْدَادِ الْمُلُوكِ الظَّالِمِينَ، وَالرُّؤَسَاءِ الْقَاهِرِينَ، ثَوْرَةٌ تُحَرِّرُ الْعَقْلَ الْبَشَرِيَّ وَالْإِرَادَةَ الْإِنْسَانِيَّةَ مِنْ رِقِّ الْمُنْتَحِلِينَ لِأَنْفُسِهِمْ صِفَةَ الرُّبُوبِيَّةِ أَوِ النِّيَابَةِ عَنْهَا فِي التَّحَكُّمِ فِي النَّاسِ وَاسْتِذْلَالِهِمْ، فَيَكُونُ كُلُّ امْرِئٍ اهْتَدَى بِهِ حُرًّا كَرِيمًا فِي نَفْسِهِ، عَبْدًا خَالِصًا لِرَبِّهِ وَإِلَهِهِ، يُوَجِّهُ قُوَاهُ الْعَقْلِيَّةَ وَالْبَدَنِيَّةَ إِلَى تَكْمِيلِ نَفْسِهِ وَجِنْسِهِ.
مَثَلُ هَذِهِ الثَّوْرَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَحْدُثَ إِلَّا عَلَى قَاعِدَةِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ((إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (١٣: ١١) وَكَيْفَ يَكُونُ تَغْيِيرُ الْأَقْوَامِ
لِمَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ وَالصِّفَاتِ، الَّتِي طَبَعَتْهَا عَلَيْهَا الْعِبَادَاتُ الْمَوْرُوثَةُ وَالْعَادَاتُ الرَّاسِخَةُ؟
هَلْ يَكْفِي فِي ذَلِكَ قِيَامُ مُصْلِحٍ فِيهِمْ يَضَعُ لَهُمْ كِتَابًا تَعْلِيمِيًّا جَافًّا كَكُتُبِ الْفُنُونِ يَقُولُ فِيهِ: إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ضَالُّونَ فَاسِدُونَ، وَمُضِلُّونَ مُفْسِدُونَ، فَاعْمَلُوا بِهَذَا الْكِتَابِ تَهْتَدُوا وَتَصْلُحُوا أَوْ قَانُونًا مَدَنِيًّا يَقُولُ فِي مُقَدِّمَتِهِ: نَفِّذُوا هَذَا الْقَانُونَ تُحْفَظْ حُقُوقُكُمْ، وَتَعْتَزَّ أُمَّتُكُمْ وَتَقْوَ دَوْلَتُكُمْ؟ أَنَّى وَقَدْ عُهِدَ مِنَ النَّاسِ الْفَاسِدِينَ الْمُفْسِدِينَ سُوءُ التَّصَرُّفِ بِكُتُبِ أَنْبِيَائِهِمُ الْمُرْسَلِينَ، وَإِهْمَالِ قَوَانِينِ حُكَمَائِهِمُ الْمُصْلِحِينَ، (كَمَا فَعَلَ الْمُسْلِمُونَ الْمُتَأَخِّرُونَ) وَإِنَّمَا تُوضَعُ الْقَوَانِينُ لِلْحُكُومَاتِ الْمُنَظَّمَةِ ذَاتِ السُّلْطَةِ وَالْقُوَّةِ الَّتِي تَكْفُلُ تَنْفِيذَهَا، وَأَنَّى لِمُحَمَّدٍ فِعْلُ هَذَا فِي الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَقَدْ بُعِثَ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، فَرِيدًا وَحِيدًا لَا عُصْبَةَ لَهُ مِنْ قَوِمِهِ وَلَا سُلْطَانَ؟ عَلَى أَنَّهُ جَاءَ بِأَعْدَلِ الْأُصُولِ الَّتِي تَبْنِي عَلَيْهَا أُمَّتُهُ قَوَانِينَهَا عِنْدَ تَكْوِينِ دَوْلَتِهَا فِي الْأَحْوَالِ الْمُلَائِمَةِ لَهَا كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي.
كَلَّا إِنَّ هَذِهِ الثَّوْرَةَ مَا كَانَ يُمْكِنُ أَنْ تَحْدُثَ إِلَّا بِمَا حَدَثَتْ بِهِ وَهُوَ تَأْثِيرُ هَذَا الْقُرْآنِ فِي الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ أَشَدَّ الْأُمَمِ الْبَدَوِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ اسْتِعْدَادًا فِطْرِيًّا لِظُهُورِ الْإِسْلَامِ فِيهَا بِالْإِقْنَاعِ كَمَا بَيَّنَّاهُ بِالتَّفْصِيلِ فِي كِتَابِنَا (خُلَاصَةِ السِّيرَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ) وَسَنُلِمُّ بِهِ قَرِيبًا.
ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْ طِبَاعِ الْبَشَرِ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ الْعَمَلَ بِمُقْتَضَى الْمَعْرِفَةِ وَإِنْ خَالَفَ مُقْتَضَى الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ، وَالتَّقَالِيدِ وَالْعَادَاتِ. إِنَّ مُجَرَّدَ الْبَيَانِ وَالْإِعْلَامِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا يَكْفِي فِي الْحَمْلِ عَلَى الْتِزَامِ الْحَقِّ وَنَصْرِهِ عَلَى الْبَاطِلِ، وَلَا فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ مِنْ عَمَلِ الْخَيْرِ وَتَرْكِ الشَّرِّ إِذَا عَارَضَ الْمُقْتَضَى الْعِلْمِيَّ لَهُمَا مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا مِنَ الْمَوَانِعِ النَّفْسِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، إِلَّا فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ مِنَ النَّاسِ دُونَ الْجَمَاعَاتِ وَالْأَقْوَامِ. بَلْ مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ فِي تَثْبِيتِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ فِي النَّفْسِ وَصُدُورِ آثَارِهِمَا عَنْهُمَا بِالْعَمَلِ، إِنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى صَيْرُورَةِ الْإِيمَانِ بِهِمَا إِذْعَانًا وِجْدَانِيًّا حَاكِمًا عَلَى الْقَلْبِ، رَاجِحًا عَلَى مَا يُخَالِفُهُ مِنْ رَغَبٍ وَرَهَبٍ
164
وَأَلَمٍ وَأَمَلٍ وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا فِي الْأَحْدَاثِ بِالتَّرْبِيَةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ لَهُمْ فِيمَنْ يَنْشَئُونَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْمُعَاشِرِينَ.
وَأَمَّا كِبَارُ السِّنِّ فَلَا سَبِيلَ إِلَى جَعْلِ الْإِيمَانِ بِالْحَقِّ الْمُطْلَقِ وَالْخَيْرِ الْعَامِّ إِذْعَانًا
وِجْدَانِيًّا لِجُمْهُورِهِمْ إِلَّا بِالْأُسْلُوبِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ فَقَلَبَ بِهِ طِبَاعَ الْكُهُولِ وَالشُّبَّانِ وَأَخْلَاقَهُمْ وَتَقَالِيدَهُمْ وَعَادَاتِهِمْ وَحَوَّلَهَا إِلَى ضِدِّهَا عِلْمًا وَعَمَلًا بِمَا لَمْ يُعْهَدْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْبَشَرِ، فَكَانَ الْقُرْآنُ آيَةً خَارِقَةً لِلْمَعْهُودِ مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ فِي تَأْثِيرِهِ، بِالتَّبَعِ لِكَوْنِهِ آيَةً مُعْجِزَةً لِلْبَشَرِ فِي لُغَتِهِ وَأُسْلُوبِهِ.
وَاعْتَبِرَ هَذَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ سُلَالَةِ النَّبِيِّينَ، فَإِنَّ كُلَّ مَا رَأَوْهُ بِمِصْرَ مِنْ آيَاتِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ مَا رَأَوْهُ فِي بَرِّيَّةِ سِينَا مُدَّةَ التِّيهِ مِنْهَا، وَمِنْ عِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى بِهِمْ، وَمِنْ سَمَاعِهِمْ كَلَامَ اللهِ تَعَالَى بِآذَانِهِمْ فِي لَهِيبِ النَّارِ الْمُشْتَعِلَةِ عَلَى مَا تَرْوِيهِ تَوْرَاتُهُمْ - وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا التَّكْلِيمُ إِلَّا لِنَبِيِّهِمْ - لَمْ يَتَغَيَّرْ بِهِ مَا كَانَ بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ تَأْثِيرِ الْوَثَنِيَّةِ الْمِصْرِيَّةِ وَخُرَافَاتِهَا وَمَهَانَتِهَا وَأَخْلَاقِهَا، فَقَدْ عَذَّبُوا مُوسَى عَذَابًا نُكْرًا، وَعَانَدُوهُ فِي كُلِّ مَا كَانَ يَأْمُرُهُمْ بِهِ، وَعَبَدُوا صَنَمَ الْعِجْلِ الذَّهَبِيِّ فِي أَثْنَاءِ مُنَاجَاتِهِ لِرَبِّهِ، حَتَّى وَصَفَهُمُ اللهُ فِي التَّوْرَاةِ بِالشَّعْبِ الصُّلْبِ الرَّقَبَةِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْبَلَادَةِ وَالْعِنَادِ، وَعَصْلِ الطِّبَاعِ الْمَانِعِ مِنَ الِانْقِيَادِ، وَظَلَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ بَادَ ذَلِكَ الْجِيلُ الْفَاسِدُ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً نَشَأَ فِيهِمْ جِيلٌ جَدِيدٌ مِمَّنْ كَانُوا أَطْفَالًا عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ مِصْرَ وَمِمَّنْ وُلِدَ فِي التِّيهِ أَمْكَنَ أَنْ يَعْقِلُوا التَّوْحِيدَ وَالشَّرِيعَةَ، وَأَنْ يَعْمَلُوا بِهَا، وَيُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهَا وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
فَأَيْنَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِينَ تَرَبَّوْا بِسَمَاعِ الْقُرْآنِ وَتَرْتِيلِهِ وَتَدَبُّرِهِ فِي رُسُوخِهِمْ فِي الْإِيمَانِ، وَصَبْرِهِمْ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَاضْطِهَادِهِمْ إِيَّاهُمْ لِيَفْتِنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، ثُمَّ فِي مُجَاهَدَتِهِمْ لَهُمْ عِنْدَ الْإِمْكَانِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَمُجَاهَدَةِ أَعْوَانِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ (الْيَهُودِ) وَتَطْهِيرِهِمُ الْحِجَازَ وَسَائِرَ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ مِنْ كُفْرِ الْفَرِيقَيْنِ فِي عَهْدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ كَانَتْ مُدَّةُ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ كُلِّهَا عِشْرِينَ سَنَةً أَيْ نِصْفَ مُدَّةِ التِّيهِ، وَكَانَ ذَهَبَ نِصْفُهَا فِي الدَّعْوَةِ وَتَبْلِيغِ الدِّينِ لِلْأَفْرَادِ بِمَكَّةَ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ هُوَ الَّذِي تَمَّ فِيهِ الِانْقِلَابُ الْعَرَبِيُّ مِنْ تَشْرِيعٍ وَتَنْفِيذٍ وَجِهَادٍ.
ثُمَّ تَأَمَّلْ مَا كَانَ مِنْ تَدَفُّقِهِمْ هُمْ أَنْفُسِهِمْ كَالسَّيْلِ الْآتِي عَلَى الْأَقْطَارِ مِنْ نَوَاحِي الْجَزِيرَةِ كُلِّهَا وَالظُّهُورِ عَلَى مَلِكَيْ قَيْصَرَ وَكِسْرَى أَعْظَمِ مُلُوكِ الْأَرْضِ وَإِزَالَةِ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ مِنْهُمَا، وَنَشْرِ التَّوْحِيدِ وَالْحَقِّ وَالْعَدْلِ فِيهِمَا، وَدُخُولِ الْأُمَمِ فِي دِينِ اللهِ
أَفْوَاجًا مُخْتَارِينَ اهْتِدَاءً بِهِمْ،
165
وَعِنَايَتِهِمْ بِتَعَلُّمِ الْعَرَبِيَّةِ بِالتَّبَعِ لِعِنَايَتِهِمْ بِالدِّينِ، حَتَّى فَتَحُوا لَهُمْ وَتَلَامِيذُهُمْ نِصْفَ كُرَةِ الْأَرْضِ فِي زُهَاءِ نِصْفِ قَرْنٍ، أَوْ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهَا فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ وَكَانُوا مَضْرِبَ الْمَثَلِ فِي الرَّحْمَةِ وَالْعَدْلِ وَمَوْضِعَ الْحَيْرَةِ لِعُلَمَاءِ الِاجْتِمَاعِ وَقُوَّادِ الْحَرْبِ.
وَأَنَّى يَبْلُغُ الشَّعْبُ الَّذِي وَصَفَهُ رَبُّهُ فِي كِتَابِهِ بِالشَّعْبِ الصُّلْبِ الرَّقَبَةِ رُتْبَةَ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِقَوْلِهِ: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا) (٤٨: ٢٩) الْآيَاتِ فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي طُبِعَ وَشَبَّ عَلَى الشِّدَّةِ وَالْقَسْوَةِ يَطْبُخُ الطَّعَامَ هُوَ وَزَوْجُهُ لَيْلًا لِامْرَأَةٍ فَقِيرَةٍ تَلِدُ وَبَعْلُهَا حَاضِرٌ لَا يُسَاعِدُهُمَا إِذْ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ.
لَا جَرَمَ أَنَّ سَبَبَ هَذَا كُلِّهِ تَأْثِيرُ الْقُرْآنِ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ الَّذِي نَرَاهُ فِي الْمُصْحَفِ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُجَاهِدُ بِهِ الْكَافِرِينَ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ بِقَوْلِهِ: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) (٢٥: ٢٥) ثُمَّ كَانَ بِهِ يُرَبِّي الْمُؤْمِنِينَ وَيُزَكِّيهِمْ، وَبِهِدَايَتِهِ وَالتَّأَسِّي بِمَبْلَغِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَبَّوُا الْأُمَمَ وَهَذَّبُوهَا، وَقَلَّمَا يَقْرَؤُهُ أَحَدٌ كَمَا كَانُوا يَقْرَءُونَ، إِلَّا وَيَهْتَدِي بِهِ كَمَا كَانُوا يَهْتَدُونَ، عَلَى تَفَاوُتٍ فِي الِاسْتِعْدَادِ النَّفْسِيِّ وَاللُّغَوِيِّ وَاخْتِلَافِ الزَّمَانِ لَا يَخْفَى.
وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ بِأُسْلُوبِ الْكُتُبِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ لَمَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ التَّأْثِيرُ الَّذِي غَيَّرَ مَا بِأَنْفُسِ الْعَرَبِ فَغَيَّرُوا بِهِ أُمَمَ الْعَجَمِ، فَكَانُوا كُلُّهُمْ كَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (٣: ١١٠).
وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ بِسِيَاسَةِ الْأُمَمِ وَإِدَارَتِهَا إِلَّا هَذَا الْقُرْآنَ، وَالْأُسْوَةَ الْحَسَنَةَ بِمُبَلِّغِهِ وَمُنَفِّذِهِ الْأَوَّلِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَلَنْ يَعُودَ لِلْمُسْلِمِينَ مَجْدُهُمْ وَعِزُّهُمْ إِلَّا إِذَا عَادُوا إِلَى هِدَايَتِهِ، وَتَجْدِيدِ ثَوْرَتِهِ، وَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى مَنْ يَصُدُّونَهُمْ عَنْهُ زَاعِمِينَ اسْتِغْنَاءَهُمْ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ وَبِسُّنَةِ نَبِيِّهِ، بِكُتُبِ مَشَايِخِهِمُ الْجَافَّةِ الْخَاوِيَةِ مِنْ كُلِّ مَا يُحْيِي الْإِيمَانَ وَيُنْهِضُ الْهِمَمَ، وَيُزَكِّي الْأَنْفُسَ وَيَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ.
(فِعْلُ الْقُرْآنِ فِي أَنْفُسِ الْعَرَبِ الْمُسْتَعِدَّةِ لَهُ نَوْعَانِ)
بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ فِعْلَ الْقُرْآنِ فِي أَنْفُسِ الْعَرَبِ وَإِحْدَاثَهُ تِلْكَ الثَّوْرَةِ الْكُبْرَى فِيهِمْ قَدْ كَانَ عَلَى نَوْعَيْنِ: أَوَّلُهُمَا جَذْبُهُ النَّاسَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَثَانِيهِمَا تَزْكِيَتُهُمْ وَتَغْيِيرُ كُلِّ مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ جَهْلٍ وَفَسَادٍ إِلَى ضِدِّهِ، حَتَّى أَعْقَبَ مَا أَعْقَبَ مِنَ الْإِصْلَاحِ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ. وَهَاكَ التَّفْصِيلَ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ الْمَقَامُ لِذَلِكَ.
بَيَّنَّا مِرَارًا أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَعَدَّ الْأُمَّةَ الْعَرَبِيَّةَ وَلَا سِيَّمَا قُرَيْشٍ وَمَنْ حَوْلَهَا لِمَا أَرَادَهُ
166
مِنَ الْإِصْلَاحِ الْعَامِّ لِلْبَشَرِ بِكَوْنِهِمْ كَانُوا أَقْرَبَ الْأُمَمِ إِلَى سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ، وَأَرْقَاهُمْ لُغَةً وَأَقْوَاهُمُ اسْتِقْلَالًا فِي الْعَقْلِ وَالْإِرَادَةِ ; لِعَدَمِ وُجُودِ مُلُوكٍ مُسْتَبِدِّينَ وَرُؤَسَاءَ دِينٍ أُولِي سُلْطَانٍ رُوحِيٍّ يَتَحَكَّمُونَ فِي عَقَائِدِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ وَيُسَخِّرُونَهُمْ لِشَهَوَاتِهِمْ.
فَلَمَّا بُعِثَ فِيهِمْ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهَذَا الْقُرْآنِ الدَّاعِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ كَانُوا عَلَى أَتَمِّ الِاسْتِعْدَادِ الْفِطْرِيِّ لِقَبُولِ دَعْوَتِهِ، وَلَكِنَّ رُؤَسَاءَ قُرَيْشٍ كَانُوا عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْ مُلُوكِ شُعُوبِ الْعَجَمِ فِي التَّمَتُّعِ بِالثَّرْوَةِ الْوَاسِعَةِ وَالْعَظَمَةِ الْكَاذِبَةِ وَالشَّهَوَاتِ الْفَاتِنَةِ وَالسَّرَفِ فِي التَّرَفِ، وَعَلَى حَظٍّ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ رُؤَسَاءُ الْأَدْيَانِ فِيهَا مِنَ الْمَكَانَةِ الدِّينِيَّةِ بِسَدَانَتِهِمْ لِبَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ الَّذِي أَوْدَعَ اللهُ تَعْظِيمَهُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ - فَرَأَوْا أَنَّ هَذَا الدِّينَ يَسْلُبُهُمُ الِانْفِرَادَ بِهَذِهِ الْعَظَمَةِ الْمَوْرُوثَةِ، وَقَدْ يُفَضِّلُ عَلَيْهِمْ بَعْضَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَوَالِي، وَأَنَّهُ يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ يُفَاخِرُونَ بِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالْجَهْلِ وَالظُّلْمِ وَالْفُسُوقِ وَيُشَبِّهُهُمْ بِسَائِمَةِ الْأَنْعَامِ - فَوَجَّهُوا كُلَّ قُوَاهُمْ وَنُفُوذِهِمْ إِلَى صَدِّ مُحَمَّدٍ عَنْ دَعْوَتِهِ وَلَوْ بِتَمْلِيكِهِ عَلَيْهِمْ، وَجَعْلِهِ أَغْنَى رَجُلٍ فِيهِمْ، وَلَكِنْ تَعَذَّرَ إِقْنَاعُهُ بِالرُّجُوعِ عَنْهَا بِالتَّرْغِيبِ، حَتَّى التَّمْوِيلِ وَالتَّمْلِيكِ، فَقَدْ أَجَابَ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا عَرَضَ عَلَيْهِ مَا أَرَادُوهُ مِنْ ذَلِكَ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الْعُلْيَا: ((يَا عَمِّ وَاللهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي شِمَالِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ أَوْ أَهْلَكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ)) حِينَئِذٍ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ عَلَى صَدِّهِ عَنْ تَبْلِيغِهَا بِالْقُوَّةِ، وَالْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جَمَاهِيرِ النَّاسِ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْمَجَامِعِ وَالْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَبِصَدِّ النَّاسِ عَنْهُ أَنْ يَأْتُوهُ وَيَسْتَمِعُوا لَهُ، وَبِاضْطِهَادِ مَنِ اتَّبَعَهُ بِالدَّعْوَةِ الْفَرْدِيَّةِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَنْ يَحْمِيهِ مِنْهُمْ لِقَرَابَةٍ أَوْ
جِوَارٍ أَوْ ذِمَّةٍ، فَهَؤُلَاءِ الرُّؤَسَاءُ الْمُتْرَفُونَ الْمُسْرِفُونَ الْمُتَكَبِّرُونَ كَانُوا أَعْلَمَ النَّاسِ بِصِدْقِ مُحَمَّدٍ وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (٦: ٣٣) فَقَدْ كَابَرُوا الْحَقَّ بَغْيًا وَاسْتِكْبَارًا لِلْحِرْصِ عَلَى رِيَاسَتِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ، وَكَانُوا أَجْدَرَ الْعَرَبِ بِقَبُولِ دَعْوَةِ الْقُرْآنِ: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) (٢٧: ١٤) كَفِرْعَوْنَ وَقَارُونَ وَهَارُونَ.
فِعْلُ الْقُرْآنِ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ
قُلْنَا إِنَّ فِعْلَ الْقُرْآنِ فِي أَنْفُسِ الْعَرَبِ كَانَ عَلَى نَوْعَيْنِ: فِعْلِهِ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَفِعْلِهِ فِي الْمُؤْمِنِينَ، فَالْأَوَّلُ تَأْثِيرُ رَوْعَةِ بَلَاغَتِهِ، وَدَهْشَةِ نَظْمِهِ، وَأُسْلُوبِهِ الْجَاذِبِ لِفَهْمِ دَعْوَتِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ، إِذْ لَا يَخْفَى حُسْنُهَا عَلَى أَحَدٍ فَهِمَهَا، وَكَانُوا يَتَفَاوَتُونَ فِي هَذَا النَّوْعِ تَفَاوُتًا كَبِيرًا لِاخْتِلَافِ دَرَجَاتِهِمْ فِي بَلَاغَةِ اللُّغَةِ وَفَهْمِ الْمَعَانِي الْعَالِيَةِ.
فَهَذَا التَّأْثِيرُ هُوَ الَّذِي أَنْطَقَ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّ بِكَلِمَتِهِ الْعَالِيَةِ فِيهِ لِأَبِي جَهْلٍ
167
الَّتِي اعْتَرَفَ فِيهَا بِأَنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي يَعْلُو وَلَا يُعْلَى، وَالَّذِي يُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ، وَكَانَتْ كَلِمَةً فَائِضَةً مِنْ نُورِ عَقْلِهِ وَصَمِيمِ وِجْدَانِهِ، وَمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَةً أُخْرَى فِي الصَّدِّ عَنْهُ بَعْدَ إِلْحَاحِ أَبِي جَهْلٍ عَلَيْهِ بِاقْتِرَاحِهَا إِلَّا بِتَكْلِيفٍ لِمُكَابَرَةِ عَقْلِهِ وَوِجْدَانِهِ، وَبَعْدَ أَنْ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، وَنَظَرَ وَعَبَسَ وَبَسَرَ، وَأَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ وَسَبَبِ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) (٧٤: ١١) الْآيَاتِ مِنْهَا.
وَهَذَا التَّأْثِيرُ هُوَ الَّذِي كَانَ يَجْذِبُ رُءُوسَ أُولَئِكَ الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ لَيْلًا لِاسْتِمَاعِ تِلَاوَةِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتِهِ، عَلَى مَا كَانَ مِنْ نَهْيِهِمْ عَنْهُ وَنَأْيِهِمْ عَنْهُ، وَتَوَاصِيهِمْ وَتَقَاسُمِهِمْ لَا يَسْمَعُنَّ لَهُ، ثُمَّ كَانُوا يَتَسَلَّلُونَ فُرَادَى مُسْتَخْفِينَ، وَيَتَلَاقَوْنَ فِي الطَّرِيقِ مُتَلَاوِمِينَ.
وَهَذَا التَّأْثِيرُ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى مَنْعِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي الصَّلَاةِ وَالتِّلَاوَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَيْلًا لِمَا كَانَ لِتِلَاوَتِهِ وَبُكَائِهِ فِي الصَّلَاةِ مِنَ التَّأْثِيرِ الْجَاذِبِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَفْتِنُ عَلَيْهِمْ نِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ، فَاتَّخَذَ مَسْجِدًا لَهُ بِفِنَاءِ دَارِهِ فَطَفِقَ النِّسَاءُ وَالْأَوْلَادُ النَّاشِئُونَ يَنْسَلُّونَ إِلَى بَيْتِهِ لَيْلًا لِاسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ، فَنَهَاهُ أَشْرَافُ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَزَالُ، وَأَنَّهُمْ يَخْشَوْنَ أَنْ يَغْلِبَهُمْ نِسَاؤُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانُوا أَلْجَئُوهُ إِلَى الْهِجْرَةِ فَهَاجَرَ فَلَقِيَ فِي طَرِيقِهِ ابْنَ الدُّغُنَّةِ سَيِّدَ قَوْمِهِ
فَسَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ هِجْرَتِهِ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ وَهُوَ يَعْرِفُ فَضَائِلَ أَبِي بَكْرٍ مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ فَأَجَارَهُ وَأَعَادَهُ إِلَى مَكَّةَ بِجِوَارِهِ، فَعَادَ إِلَى قِرَاءَتِهِ، وَعَادَ النِّسَاءُ وَالنَّشْءُ الْحَدِيثُ إِلَى الِاسْتِمَاعِ لَهُ، حَتَّى اضْطَرَّ الْمُشْرِكُونَ ابْنَ الدُّغُنَّةِ إِلَى إِقْنَاعِهِ بِتَرْكِ رَفْعِ صَوْتِهِ بِالْقُرْآنِ أَوْ يَرُدُّ عَلَيْهِ جِوَارَهُ، فَرَدَّ أَبُو بَكْرٍ جِوَارَهُ اكْتِفَاءً بِجِوَارِ اللهِ تَعَالَى، وَخَبَرُهُ هَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ الْهِجْرَةِ وَأَوْرَدْنَاهُ بِطُولِهِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْغَارِ (ص ٣٧٧ وَمَا بَعْدَهَا ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ).
بَلْ هَذَا التَّأْثِيرُ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى صَدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقُوَّةِ عَنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِي الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَفِي أَسْوَاقِ الْمَوْسِمِ وَمَجَامِعِهِ، وَعَلَى تَوَاصِيهِمْ بِمَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (٤١: ٢٦).
وَقَدْ أَدْرَكَ هَذَا أَحَدُ فَلَاسِفَةِ فَرَنْسَةَ فَذَكَرَ فِي كِتَابٍ لَهُ قَوْلَ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَأْتِ بِآيَةٍ عَلَى ثُبُوتِهِ كَآيَاتِ مُوسَى وَعِيسَى، وَقَالَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ: إِنْ مُحَمَّدًا كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ خَاشِعًا أَوَّاهًا مُتَأَلِّهًا فَتَفْعَلُ قِرَاءَتُهُ فِي جَذْبِ النَّاسِ إِلَى الْإِيمَانِ مَا لَمْ تَفْعَلْهُ جَمِيعُ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الْأَوَّلِينَ (أَقُولُ) : وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ كَكُتُبِ الْقَوَانِينِ الْمُرَتَّبَةِ وَكُتُبِ الْفُنُونِ الْمُبَوَّبَةِ، لَمَا كَانَ لِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ مِنَ التَّأْثِيرِ مَا كَانَ لِسُوَرِهِ الْمُنَزَّلَةِ.
كَانَ كُلُّ مَا يَطْلُبُهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَوْمِهِ أَنْ يُمَكِّنُوهُ مِنْ تَبْلِيغِ دَعْوَةِ رَبِّهِ بِتِلَاوَةِ
168
الْقُرْآنِ عَلَى النَّاسِ. قَالَ تَعَالَى مُخَاطِبًا لَهُ: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (٦: ١٩) أَيْ وَأَنْذِرْ بِهِ كُلَّ مَنْ بَلَغَهُ مِنْ غَيْرِكُمْ مِنَ النَّاسِ. وَقَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّمْلِ (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٢٧: ٩١ - ٩٣) إِنَّ رُؤَسَاءَ قُرَيْشٍ عَرَفُوا مِنْ قُوَّةِ جَذْبِ النَّاسِ إِلَى الْإِسْلَامِ بِوَقْعِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَمْ يَعْرِفْهُ غَيْرُهُمْ، وَعَرَفُوا أَنَّهُ لَيْسَ لِجُمْهُورِ الْعَرَبِ مِثْلُ مَا لَهُمْ مِنْ أَسْبَابِ الْجُحُودِ وَالْمُكَابَرَةِ، فَقَالَ لَهُمْ عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ: خُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، قَبْلَ أَنْ تَجْتَمِعَ الْعَرَبُ عَلَيْهِ)) فَفَعَلُوا. وَكَانَ مِنْ ثَبَاتِهِ عَلَى بَثِّ الدَّعْوَةِ وَاحْتِمَالِ الْأَذَى مَا أَفْضَى بِهِمْ إِلَى الِاضْطِهَادِ وَأَشَدِّ الْإِيذَاءِ لَهُ وَلِمَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، ثُمَّ إِجْمَاعُ الرَّأْيِ عَلَى قَتْلِهِ، حَتَّى
أَلْجَئُوهُمْ إِلَى الْهِجْرَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، ثُمَّ صَارُوا يُقَاتِلُونَهُ فِي دَارِ هِجْرَتِهِ وَمَا حَوْلَهَا، وَنَصَرَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ، إِلَى أَنِ اضْطُرُّوا إِلَى عَقْدِ الصُّلْحِ مَعَهُ فِي الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ وَكَانَ أَهَمُّ شُرُوطِ الصُّلْحِ السَّمَاحَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمُخَالَطَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِي كَانَ سَبَبَ سَمَاعِهِمْ لِلْقُرْآنِ، وَدُخُولِهِمْ بِتَأْثِيرِهِ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا، فَكَانَ انْتِشَارُ الْإِسْلَامِ فِي أَرْبَعِ سِنِينَ بِالسِّلْمِ وَالْأَمَانِ أَضْعَافَ انْتِشَارِهِ فِي سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ.
فِعْلُ الْقُرْآنِ فِي أَنْفُسِ الْمُؤْمِنِينَ
كَانَ كُلُّ مَنْ يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ يُلَقَّنُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ - لِيَعْبُدَ اللهَ بِتِلَاوَتِهِ - وَيَعْلَمَ الصَّلَاةَ وَلَمْ يُفْرَضْ فِي مَكَّةَ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ غَيْرُهَا، فَيُرَتِّلُ مَا يَحْفَظُهُ فِي صَلَاتِهِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِ التَّهَجُّدَ مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ - الَّتِي قِيلَ إِنَّهَا أَوَّلُ مَا نَزَلَ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ وَبَعْدَهَا الْمُدَّثِّرُ وَقِيلَ بِالْعَكْسِ - وَتَقَدَّمَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَقْوَالِ (يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) (٧٣: ١ - ٤) ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهَا: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) (٧٣: ٢٠) أَيْ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَعْذَارَ الْمَانِعَةَ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ مَا كَانَ مِنْهَا فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ كَالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ، وَمَا سَيَكُونُ بَعْدَ سِنِينَ وَهُوَ الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللهِ.
وَمِمَّا وَرَدَ فِي صِفَةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - أَنَّ الَّذِي كَانَ يَمُرُّ بِبُيُوتِهِمْ لَيْلًا يَسْمَعُ مِنْهَا مِثْلَ دَوِيِّ النَّحْلِ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ غَلَا بَعْضُهُمْ فَكَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ كُلَّهُ حَتَّى شَكَا مِنْهُمْ نِسَاؤُهُمْ فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، وَكَانَ هُوَ يُصَلِّي فِي كُلِّ لَيْلَةٍ ثَلَاثَ عَشْرَةَ
169
رَكْعَةً يُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، وَمَا قَبْلَهَا مَثْنَى مَثْنَى، وَكَانَ هُوَ يُطِيلُ فِيهِنَّ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ مُرَفِّهًا وَمُسَلِّيًا (طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (٢٠: ١ و٢).
فَتَرْبِيَةُ الصَّحَابَةِ الَّتِي غَيَّرَتْ كُلَّ مَا كَانَ بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ مَفَاسِدِ الْجَاهِلِيَّةِ وَزَكَّتْهَا تِلْكَ التَّزْكِيَةَ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا وَأَحْدَثَتْ أَعْظَمَ ثَوْرَةٍ رُوحِيَّةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ فِي التَّارِيخِ
إِنَّمَا كَانَتْ بِكَثْرَةِ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ وَفِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَتَدَبُّرِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ أَحَدُهُمْ يَقُومُ اللَّيْلَةَ بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ يُكَرِّرُهَا مُتَدَبِّرًا لَهَا، وَكَانُوا يَقْرَءُونَهُ مُسْتَقِلِّينَ وَمُضْطَجِعِينَ كَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ بِقَوْلِهِ: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) (٣: ١٩١) وَأَعْظَمُ ذِكْرِ اللهِ تِلَاوَةُ كِتَابِهِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى ذِكْرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ وَأَحْكَامِهِ وَحِكَمِهِ، وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ وَأَفْعَالِهِ فِي تَدْبِيرِ مُلْكِهِ، وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ كَكُتُبِ الْقَوَانِينِ وَالْفُنُونِ لَمَا كَانَ لِتِلَاوَتِهِ كُلُّ ذَلِكَ التَّأْثِيرِ فِي قَلْبِ الطِّبَاعِ، وَتَغْيِيرِ الْأَوْضَاعِ، بَلْ لَكَانَتْ تِلَاوَتُهُ تُمَلُّ فَتُتْرَكُ، فَأُسْلُوبُ الْقُرْآنِ الَّذِي وَصَفْنَاهُ آنِفًا مَنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ إِعْجَازِهِ اللُّغَوِيِّ، وَتَأْثِيرِهِ الرُّوحِيِّ، وَمَنِ ارْتَابَ فِي هَذَا فَلْيَنْظُرْ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا السُّورَةُ مِنْهُ وَلِيُحَاوِلْ كِتَابَتَهَا نَفْسَهَا أَوْ مِثْلَهَا بِأُسْلُوبِ تِلْكَ السُّورَةِ وَنَظْمِهَا أَوْ أُسْلُوبِ سُورَةٍ أُخْرَى، كَالسُّوَرِ الَّتِي يَتَكَرَّرُ فِيهَا الْمَوْضُوعُ الْوَاحِدُ بِالْإِجْمَالِ الْمُوجَزِ تَارَةً وَبِبَعْضِ التَّفْصِيلِ تَارَةً وَبِالْإِطْنَابِ فِيهِ أُخْرَى، - كَالِاعْتِبَارِ بِقِصَصِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ فِي سُورِ الْمُفَصَّلِ (كَالذَّارِيَاتِ وَالْقَمَرِ وَالْحَاقَّةِ) وَفِيمَا فَوْقَهَا (كَالْمُؤْمِنُونَ وَالشُّعَرَاءِ وَالنَّمْلِ) وَفِيمَا هُوَ أَطْوَلُ مِنْهَا (كَالْأَعْرَافِ وَهُودٍ) - ثُمَّ لِيَنْظُرْ مَا يُفْضِي إِلَيْهِ عَجْزُهُ مِنَ السُّخْرِيَةِ.
وَقَدْ بَيَّنَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الِاجْتِمَاعِ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنَّ تَكْرَارَ الدَّعَوَاتِ الدِّينِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ هِيَ الَّتِي تُثِيرُ الْجَمَاعَاتِ وَتَدَعُّهُمْ إِلَى الِانْهِمَاكِ وَالتَّفَانِي فِيهَا دَعًّا، وَمَا كَانَ مُحَمَّدٌ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ يَعْلَمُونَ هَذَا، وَلَكِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مِنْ طِبَاعِ الْجَمَاعَاتِ وَالْأَقْوَامِ فَوْقَ مَا يَعْلَمُهُ حُكَمَاءُ عَصْرِنَا وَسَائِرِ الْأَعْصَارِ، وَإِنَّمَا الْقُرْآنُ كَلَامُهُ، وَلَيْسَ فِيهِ مِنَ التَّكْرَارِ إِلَّا مَا لَهُ أَكْبَرُ الشَّأْنِ فِي انْقِلَابِ الْأَفْكَارِ، وَتَحْوِيلِ مَا فِي الْأَنْفُسِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ إِلَى خَيْرٍ مِنْهَا، وَهُوَ مَا لَا يُمْكِنُ إِحْدَاثُ الِانْقِلَابِ الْإِصْلَاحِيِّ بِدُونِهِ كَمَا تَعْلَمُ مِنَ التَّفْصِيلِ الْآتِي.
(مَقَاصِدُ الْقُرْآنِ، فِي تَرْقِيَةِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَمَا فِيهِ مِنَ التَّكْرَارِ).
إِنَّ مَقَاصِدَ الْقُرْآنِ مِنْ إِصْلَاحِ أَفْرَادِ الْبَشَرِ وَجَمَاعَاتِهِمْ وَأَقْوَامِهِمْ وَإِدْخَالِهِمْ فِي طَوْرِ الرُّشْدِ وَتَحْقِيقِ أُخُوَّتِهِمُ الْإِنْسَانِيَّةِ وَوَحْدَتِهِمْ وَتَرْقِيَةِ عُقُولِهِمْ وَتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ مِنْهَا مَا يَكْفِي بَيَانُهُ لَهُمْ فِي الْكِتَابِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ مِرَارًا قَلِيلَةً، وَمِنْهَا مَا لَا تَحْصُلُ
الْغَايَةُ إِلَّا بِتَكْرَارٍ كَثِيرٍ لِأَجَلِ أَنْ يَجْتَثَّ مِنْ أَعْمَاقِ الْأَنْفُسِ كُلَّ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ آثَارِ الْوِرَاثَةِ وَالتَّقَالِيدِ وَالْعَادَاتِ الْقَبِيحَةِ الضَّارَّةِ وَيَغْرِسُ فِي مَكَانِهَا أَضْدَادَهَا، وَيَتَعَاهَدُ هَذَا الْغَرْسَ بِمَا يُنَمِّيهِ حَتَّى يُؤْتِيَ أُكُلَهُ وَيَيْنَعَ ثَمَرُهُ، وَمِنْهَا مَا يَجِبُ أَنْ يَبْدَأَ
170
بِهَا كَامِلَةً، وَمِنْهَا مَا لَا يُمْكِنُ كَمَالُهُ إِلَّا بِالتَّدْرِيجِ، وَمِنْهَا مَا لَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ إِلَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَيُوضَعُ لَهُ بَعْضُ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ وَمِنْهَا مَا يَكْفِي فِيهِ الْفَحْوَى وَالْكِنَايَةِ.
وَالْقُرْآنُ كِتَابُ تَرْبِيَةٍ عَمَلِيَّةٍ وَتَعْلِيمٍ، لَا كِتَابُ تَعْلِيمٍ فَقَطْ، فَلَا يَكْفِي أَنْ يُذْكَرَ فِيهِ كُلُّ مَسْأَلَةٍ مَرَّةً وَاحِدَةً وَاضِحَةً تَامَّةً كَالْمَعْهُودِ فِي كُتُبِ الْفُنُونِ وَالْقَوَانِينِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي مَوْضُوعِ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (٦٢: ٢) وَإِنَّنَا نَذْكُرُ هُنَا أُصُولَ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ كَمَا وَعَدْنَا عِنْدَ قَوْلِنَا إِنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ أَعْلَى وَأَكْمَلُ مِمَّا جَاءَ بِهِ مَنْ قَبْلَهُ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ وَالْحُكَّامِ فَهُوَ بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى لَا مِنْ فَيْضِ اسْتِعْدَادِهِ الشَّخْصِيِّ، وَإِنَّنَا نُقَسِّمُ هَذِهِ الْمَقَاصِدَ إِلَى أَنْوَاعٍ وَنُبَيِّنُ حِكْمَةَ الْقُرْآنِ، وَمَا امْتَازَ بِهِ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا بِالْإِجْمَالِ لِأَنَّ التَّفْصِيلَ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا يَسَّرَ اللهُ لَنَا مَا وَعَدْنَا بِهِ مِنْ تَفْسِيرِ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ كُلِّهَا فِي أَبْوَابٍ نُبَيِّنُ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْهَا وَجْهَ حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَى ذَلِكَ الْمَقْصِدِ وَكَوْنَ الْقُرْآنِ وَفَّى بِهَذِهِ الْحَاجَةِ بِمَا نَأْتِي بِهِ مِنْ جُمْلَةِ آيَاتِهِ فِيهِ.
(النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنْ مَقَاصِدِهِ الْإِصْلَاحُ الدِّينِيُّ لِأَرْكَانِ الدِّينِ الثَّلَاثَةِ).
إِنَّ أَرْكَانَ الدِّينِ الْأَسَاسِيَّةَ الَّتِي بُعِثَ بِهَا جَمِيعُ رُسُلِ اللهِ تَعَالَى وَنَاطَ بِهَا سَعَادَةَ الْبَشَرِ هِيَ الثَّلَاثَةُ الْمُبَيَّنَةُ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢: ٦٢) وَهَاكَ الْكَلَامَ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا بِالْإِيجَازِ.
(الرُّكْنُ الْأَوَّلُ لِلدِّينِ الْإِيمَانُ بِاللهِ تَعَالَى)
فَالرُّكْنُ الْأَوَّلُ الْأَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ - وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللهِ تَعَالَى - قَدْ ضَلَّ فِيهِ جَمِيعُ الْأَقْوَامِ وَالْأُمَمِ حَتَّى أَقْرَبُهُمْ عَهْدًا بِهِدَايَةِ الرُّسُلِ، فَالْيَهُودُ جَعَلُوا اللهَ كَالْإِنْسَانِ يَتْعَبُ وَيَنْدَمُ عَلَى مَا فَعَلَ كَخَلْقِهِ لِلْإِنْسَانِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَكُونُ مِثْلَهُ. ((أَوْ مِثْلَ الْآلِهَةِ)) وَزَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ يَظْهَرُ فِي شَكْلِ الْإِنْسَانِ حَتَّى إِنَّهُ صَارَعَ إِسْرَائِيلَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّفَلُّتِ مِنْهُ حَتَّى بَارَكَهُ فَأَطْلَقَهُ! وَعَبَدُوا بَعْلًا وَغَيْرَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَالنَّصَارَى جَدَّدُوا مِنْ عَهْدِ قُسْطَنْطِينَ الْوَثَنِيَّاتِ الْقَدِيمَةَ، فَغَمَرَ الشِّرْكُ بِاللهِ هَذِهِ الْأَرْضَ بِطُوفَانِهِ وَطَغَتِ الْوَثَنِيَّةُ عَلَى أَهْلِهَا، حَتَّى صَارَتْ كَنَائِسُ النَّصَارَى كَهَيَاكِلِ الْوَثَنِيَّةِ الْأُولَى مَمْلُوءَةً بِالصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ الْمَعْبُودَةِ - عَلَى أَنَّ عَقِيدَةَ التَّثْلِيثِ وَالصَّلْبِ وَالْفِدَاءِ هِيَ عَقِيدَةُ الْهُنُودِ فِي كَرْشَنَةَ وَثَالُوثُهُ فِي جُمْلَتِهَا وَتَفْصِيلِهَا، وَهِيَ مَدْعُومَةٌ بِفَلْسَفَةٍ خَيَالِيَّةٍ غَيْرِ مَعْقُولَةٍ، وَبِنِظَامٍ يَقُومُ بِتَنْفِيذِهِ الْمُلُوكُ وَالْقَيَاصِرَةُ، وَيُبْذَلُ فِي سَبِيلِهِ الْقَنَاطِيرُ الْمُقَنْطَرَةُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَيُرَبَّى عَلَيْهِ الْأَحْدَاثُ مِنَ الصِّغَرِ تَرْبِيَةً وِجْدَانِيَّةً خَيَالِيَّةً لَا تَقْبَلُ حُجَّةً
171
وَلَا بُرْهَانًا، فَهَدْمُ مَعَاقِلِ هَذِهِ الْوَثَنِيَّةِ وَحُصُونِهَا الْمُشَيَّدَةِ فِي الْأَفْكَارِ وَالْقُلُوبِ مَا كَانَ لِيَتِمَّ بِإِقَامَةِ بُرْهَانٍ عَقْلِيٍّ أَوْ عِدَّةِ بَرَاهِينَ عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، بَلْ فِيهِ مِنْ دَحْضِ الشُّبَهَاتِ وَتَفْصِيلِ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ وَالْخَطَابِيَّةِ بِالْعِبَارَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ ; لِذَلِكَ كَانَ أَكْبَرُ الْمَسَائِلِ تَكْرَارًا فِي الْقُرْآنِ مَسْأَلَةَ تَوْحِيدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي أُلُوهِيَّتِهِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَاعْتِقَادِ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ سَوَاءٌ فِي كَوْنِهِمْ مِلْكًا وَعَبِيدًا لَهُ لَا يَمْلِكُونَ مِنْ دُونِهِ نَفْعًا وَلَا ضُرًّا لِأَحَدٍ وَلَا لِأَنْفُسِهِمْ إِلَّا فِيمَا سَخَّرَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْخَلْقِ كَمَا شَرَحْنَاهُ مِرَارًا.
وَأَمَّا تَكْرَارُ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَهُوَ انْفِرَادُهُ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ وَالتَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ فَلَيْسَ سَبَبُهُ كَثْرَةَ الْمُشْرِكِينَ بِرُبُوبِيَّتِهِ تَعَالَى، بَلْ سَبَبُهُ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ بِهِ عَلَى بُطْلَانِ شِرْكِ الْعِبَادَةِ بِدُعَاءِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى لِأَجْلِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِأُولَئِكَ الْأَوْلِيَاءِ وَابْتِغَاءِ شَفَاعَتِهِمْ عِنْدَهُ، فَشَرُّ الشِّرْكِ وَأَعْرَقُهُ فِي الْكُفْرِ وَأَكْثَرُهُ فِي ضُعَفَاءِ الْعُقُولِ إِنَّمَا هُوَ تَوَجُّهُ الْعَبْدِ إِلَى غَيْرِ اللهِ تَعَالَى فِيمَا يَشْعُرُ بِالْحَاجَةِ إِلَيْهِ مِنْ كَشْفِ ضُرٍّ وَجَلْبِ نَفْعٍ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ، فَقَدْ ذُكِرَ الدُّعَاءُ فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً،
بَلْ زُهَاءَ سَبْعِينَ بَعْدَ سَبْعِينَ مَرَّةً ; لِأَنَّهُ رُوحُ الْعِبَادَةِ وَمَحْنُهَا، بَلْ هُوَ الْعِبَادَةُ الَّتِي هِيَ دِينُ الْفِطْرَةِ كُلُّهُ، وَمَا عَدَاهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَوَضْعِيٌّ تَشْرِيعِيٌّ.
بَعْضُ آيَاتِ الدُّعَاءِ أَمْرٌ بِدُعَائِهِ تَعَالَى، وَبَعْضُهَا نَهْيٌ عَنْ دُعَاءِ غَيْرِهِ مُطْلَقًا، وَمِنْهَا حُجَجٌ عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ أَوْ عَلَى إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ، وَمِنْهَا أَمْثَالٌ، تُصَوَّرُ كُلًّا مِنْهُمَا بِالصُّوَرِ اللَّائِقَةِ الْمُؤَثِّرَةِ، وَمِنْهَا إِخْبَارٌ بِأَنَّ دُعَاءَ غَيْرِهِ لَا يَنْفَعُ وَلَا يُسْتَجَابُ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ يُدْعَى مِنْ دُونِهِ تَعَالَى فَهُوَ عَبْدٌ لَهُ وَأَنَّ أَفْضَلَهُمْ وَخِيَارَهُمْ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ يَدْعُونَهُ هُوَ وَيَبْتَغُونَ الْوَسِيلَةَ إِلَيْهِ، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ، وَأَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْ مَعَ اللهِ - وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ تَلْخِيصُهُ.
وَثَمَّ أَنْوَاعٌ أُخْرَى مِنْ آيَاتِ الْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى تُغَذِّي التَّوْحِيدَ، وَتَصْعَدُ بِأَهْلِهِ دَرَجَاتٍ مُتَفَاوِتَةً فِي السُّمُوِّ بِمَعْرِفَتِهِ تَعَالَى وَالتَّأَلُّهِ وَالتَّوَلُّهِ فِي حُبِّهِ مِنَ التَّنْزِيهِ وَالتَّقْدِيسِ وَالتَّسْبِيحِ، وَذِكْرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى مَمْزُوجَةً بِبَيَانِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ، حَتَّى أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ وَالنِّسَاءِ وَالْإِرْثِ وَالْأَمْوَالِ. وَبِحِكَمِ الْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ لِأُمُورِ الْعَالَمِ، وَسُنَنِهِ فِي طِبَاعِ الْبَشَرِ وَفِي شُئُونِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَوَضْعِ كُلِّ اسْمٍ مِنْهَا فِي الْمَوْضِعِ الْمُنَاسِبِ لَهُ مِنْ رَحْمَةٍ وَعِلْمٍ وَحِكْمَةٍ وَقُدْرَةٍ وَمَشِيئَةٍ وَحِلْمٍ وَعَفْوٍ وَمَغْفِرَةٍ وَحُبٍّ وَرِضًا وَمَا يُقَابِلُ ذَلِكَ، وَمِنَ الْأَمْرِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ وَالرَّجَاءِ فِي فَضْلِهِ إِلَخْ وَنَاهِيكَ بِمَا سَرَدَ مِنْهَا سَرْدًا لِجَذْبِ الْأَرْوَاحِ الْعَالِيَةِ إِلَى كَمَالِهِ الْمُطْلَقِ وَفَنَائِهَا فِيهِ كَمَا تَرَاهُ فِي خَاتِمَةِ سُورَةِ الْحَشْرِ فَتَأَمَّلْهَا، وَفِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الْحَدِيدِ: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١) (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣)
172
وَمِنْهَا اسْتَمَدَّ الْأَوْلِيَاءُ الْعَارِفُونَ وَالْأَئِمَّةُ الرَّبَّانِيُّونَ تِلْكَ الْكُتُبَ الْعَالِيَةَ فِي مَعْرِفَتِهِ تَعَالَى وَأَسْرَارِ خَلْقِهِ، بَعْدَ أَنْ تَرَبُّوا بِكَثْرَةِ ذِكْرِهِ، وَتِلَاوَةِ كِتَابِهِ.
بِهَذَا التَّكْرَارِ الَّذِي جَعَلَهُ أُسْلُوبُ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ مَقْبُولًا غَيْرَ مَمْلُولٍ طَهَّرَ اللهُ عُقُولَ الْعَرَبِ وَقُلُوبَهُمْ مِنْ رِجْسِ الشِّرْكِ وَخُرَافَاتِ الْوَثَنِيَّةِ، وَزَكَّاهَا بِالْأَخْلَاقِ الْعَالِيَةِ وَالْفَضَائِلِ السَّامِيَةِ وَكَذَا غَيْرُ الْعَرَبِ مَنْ آمَنَ وَأَتْقَنَ لُغَةَ كِتَابِهِ وَصَارَ يُرَتِّلُهُ فِي عِبَادَتِهِ وَيَتَدَبَّرُ آيَاتِهِ، حَتَّى إِذَا دَبَّ فِي الْأُمَّةِ دَبِيبُ الْجَهْلِ بِلُغَةِ الْقُرْآنِ وَقَلَّ
تَدَبُّرُهُ، وَاعْتَمَدَ الْمُسْلِمُونَ فِي فَهْمِ عَقِيدَتِهِمْ عَلَى الْكُتُبِ الْكَلَامِيَّةِ الْمُصَنَّفَةِ، ضَعُفَ التَّوْحِيدُ وَابْتَغَوْا سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ اعْتِقَادًا وَعَمَلًا، وَتَأَوُّلًا وَجَدَلًا فَصَارَ أَدْعِيَاءُ الْعِلْمِ يَتَأَوَّلُونَ تِلْكَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةَ عَلَى التَّوْحِيدِ بِشُبَهَاتِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ وَمَعْلُومٌ.
عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالصُّوفِيَّةِ قَدْ بَالَغُوا فِي التَّوْحِيدِ حَتَّى أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ تَأْثِيرَ الْأَسْبَابِ فِي مُسَبَّبَاتِهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ، وَانْتَهَى بِهِمْ ذَلِكَ إِلَى بِدْعَةِ الْجَبْرِ الَّتِي أَفْسَدَتْ عَلَى أَهْلِهَا كُلَّ شَيْءٍ، بَيْدَ أَنَّ الْأَوَّلِينَ مِنْهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ بِمَا يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ النَّظَرُ الْعَقْلِيُّ، أَوْ رِيَاضَةُ النَّفْسِ وَمَا تُثْمِرُهُ مِنَ الشُّعُورِ الْوِجْدَانِيِّ، ثُمَّ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَا مِنَ الْبُرْهَانِ وَلَا مِنَ الْوِجْدَانِ، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ الْعَوَامَّ وَيَتَأَوَّلُونَ لَهُمْ بِكَلَامِ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ الْجَاهِلِينَ وَلَوْ فَقِهُوا أَقْصَرَ سُورَةٍ فِي التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ كَمَا يَجِبُ - وَهِيَ سُورَةُ الْإِخْلَاصِ - لَمَا وَجَدَ الشِّرْكُ إِلَى أَنْفُسِهِمْ سَبِيلًا.
قَدْ كَانَ تَوْحِيدُ الْمُسْلِمِينَ الْأَوَّلِينَ لِلَّهِ وَمَعْرِفَتُهُمْ بِهِ وَحُبُّهُمْ لَهُ وَتَوَكُّلُهُمْ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي زَكَّى أَنْفُسَهُمْ، وَأَعْلَى هِمَمَهُمْ، وَكَمَّلَهَمْ بِعِزَّةِ النَّفْسِ وَشِدَّةِ الْبَأْسِ، وَإِقَامَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَمَكَّنَهُمْ مِنْ فَتْحِ الْبِلَادِ وَسِيَاسَةِ الْأُمَمِ، وَإِعْتَاقِهَا مِنْ رِقِّ الْكَهَنَةِ وَالْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ وَالْبُوذَاتِ وَالْمُوبَذَانَاتِ الرُّوحِيِّ وَالْعَقْلِيِّ، وَتَحْرِيرِهِمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ وَاسْتِبْدَادِهِمْ، وَإِقَامَةِ دَعَائِمِ الْحَضَارَةِ، وَإِحْيَاءِ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْمَيِّتَةِ وَتَرْقِيَتِهَا فِيهِمْ وَقَدْ تَمَّ لَهُمْ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ مَا لَمْ يَقَعْ مِثْلُهُ وَلَا مَا يُقَارِبُهُ لِأُمَّةٍ مَنْ أَمَّمِ الْأَرْضِ، حَتَّى قَالَ الدُّكْتُورُ غُوسْتَافْ لُوبُونِ الْمُؤَرِّخُ الِاجْتِمَاعِيُّ الشَّهِيرُ: إِنَّ مَلَكَةَ الْفُنُونِ لَمْ يَتِمَّ تَكْوِينُهَا لِأُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ النَّاهِضَةِ إِلَّا فِي ثَلَاثَةِ أَجْيَالٍ، أَوَّلُهَا جِيلُ التَّقْلِيدِ، وَثَانِيهَا جِيلُ الْخَضْرَمَةِ وَثَالِثُهَا جِيلُ الِاسْتِقْلَالِ وَالِاجْتِهَادِ - قَالَ: إِلَّا الْعَرَبَ وَحْدَهُمْ فَقَدِ اسْتَحْكَمَتْ لَهُمْ مَلَكَةُ الْفُنُونِ فِي الْجِيلِ الْأَوَّلِ الَّذِي بَدَءُوا فِيهِ بِمُزَاوَلَتِهَا.
وَأَقُولُ: إِنَّ سَبَبَ ذَلِكَ تَرْبِيَةُ الْقُرْآنِ لَهُمْ عَلَى اسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ وَاحْتِقَارِ التَّقْلِيدِ. وَتَوْطِينِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى إِمَامَةِ الْبَشَرِ وَقِيَادَتِهَا فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مَعًا، وَقَدْ خَفِيَ كُلُّ هَذَا عَلَى سَلَائِلِهَا بَعْدَ ذَهَابِ الْخِلَافَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَزَوَالِ النَّهْضَةِ الْعَرَبِيَّةِ،
وَتَحَوُّلِ السُّلْطَانِ إِلَى الْأَعَاجِمِ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا الظَّوَاهِرُ التَّقْلِيدِيَّةُ الْمُنْفَصِلَةُ عَنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ.
173
(الرُّكْنُ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ عَقِيدَةُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ)
وَأَمَّا الرُّكْنُ الثَّانِي. وَهُوَ الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، فَقَدْ كَانَ جُلُّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ يُنْكِرُونَهُ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ، وَلَا يَكْمُلُ الْإِيمَانُ بِاللهِ تَعَالَى وَيَكُونُ بَاعِثًا لِلْأُمَّةِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَتَرْكِ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَالْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ بِدُونِهِ وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمِلَلِ الَّتِي كَانَ لَهَا كُتُبٌ وَتَشْرِيعٌ دِينِيٌّ وَمَدَنِيٌّ، ثُمَّ فُقِدَتْ كُتُبُهُمْ أَوْ حُرِّفَتْ وَاسْتَحْوَذَتْ عَلَيْهِمُ الْوَثَنِيَّةُ - يُؤْمِنُونَ بِحَيَاةٍ بَعْدَ الْمَوْتِ وَجَزَاءٍ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَلَكِنَّ إِيمَانَهُمْ هَذَا قَدْ شَابَهُ الْفَسَادُ بِبِنَائِهِ عَلَى بِدَعٍ ذَهَبَتْ بِجُلِّ فَائِدَتِهِ فِي إِصْلَاحِ النَّاسِ. وَأَسَاسُهَا عِنْدَ الْهُنُودِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ قُدَمَاءِ الْوَثَنِيِّينَ وَخَلْفِ النَّصَارَى - وُجُودُ الْمُخَلِّصِ الْفَادِي، الَّذِي يُخَلِّصُ النَّاسَ مِنْ عُقُوبَةِ الْخَطَايَا وَيَفْدِيهِمْ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ الْأُقْنُومُ الثَّانِي مِنَ الثَّالُوثِ الْإِلَهِيِّ الَّذِي هُوَ عَيْنُ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَيْنُ الْآخَرِ. وَكُلُّ مَا يَقُولُهُ النَّصَارَى فِي فِدَاءِ الْمَسِيحِ لِلْبَشَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَهُوَ نُسْخَةٌ مُطَابِقَةٌ لِمَا يَقُولُهُ الْهُنُودُ فِي (كَرْشَنَةَ) فِي اللَّفْظِ وَالْفَحْوَى كَمَا تَقَدَّمَ، لَا يَخْتَلِفَانِ إِلَّا فِي الِاسْمَيْنِ: كَرْشَنَةَ، وَيَسُوعَ.
وَأَمَّا الْيَهُودُ فَكُلُّ دِيَانَتِهِمْ خَاصَّةٌ بِشَعْبِ إِسْرَائِيلَ وَمُحَابَاةِ اللهِ تَعَالَى لَهُ عَلَى سَائِرِ الشُّعُوبِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيُسَمُّونَهُ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ كَأَنَّهُ رَبُّهُمْ وَحْدَهُمْ لَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَدِيَانَتُهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْمَادِّيَّةِ مِنْهَا إِلَى الرُّوحِيَّةِ. فَكَانَ فَسَادُ الْإِيمَانِ بِهَذَا الرُّكْنِ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ تَابِعًا لِفَسَادِ الرُّكْنِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَتُهُ، وَمُحْتَاجًا إِلَى الْإِصْلَاحِ مِثْلَهُ.
جَاءَ الْقُرْآنُ لِلْبَشَرِ بِهَذَا الْإِصْلَاحِ، فَقَدْ أَعَادَ دِينَ النَّبِيِّينَ فِي الْجَزَاءِ إِلَى أَصْلِهِ الْمَعْقُولِ، وَهُوَ مَا كَرَّمَ اللهُ تَعَالَى بِهِ الْإِنْسَانَ مِنْ جَعْلِ سَعَادَتِهِ وَشَقَائِهِ مَنُوطَيْنِ بِإِيمَانِهِ
وَعَمَلِهِ، اللَّذَيْنِ هُمَا مِنْ كَسْبِهِ وَسَعْيِهِ لَا مَنْ عَمْلِ غَيْرِهِ، وَأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي يَكُونُ بِعَدْلِ اللهِ تَعَالَى بَيْنَ جَمِيعِ خَلْقِهِ بِدُونِ مُحَابَاةِ شَعْبٍ عَلَى شَعْبٍ، وَالْجَزَاءُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ يَكُونُ بِمُقْتَضَى الْفَضْلِ، فَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَقَدْ يُضَاعِفُهَا اللهُ تَعَالَى أَضْعَافًا كَثِيرَةً.
وَمَدَارُ كُلِّ ذَلِكَ قَاعِدَةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (٩١: ٧ - ١٠) أَيْ إِنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ هَذِهِ النَّفْسَ وَسَوَّاهَا بِمَا وَهَبَهَا مِنَ الْمَشَاعِرِ وَالْعَقْلِ. قَدْ جَعَلَهَا بِإِلْهَامِ الْفِطْرَةِ وَالْغَرِيزَةِ مُسْتَعِدَّةً لِلْفُجُورِ الَّذِي يُرْدِيهَا وَيُدَسِّيهَا، وَالتَّقْوَى الَّتِي تُنْجِيهَا وَتُعْلِيهَا، وَمُتَمَكِّنَةً مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا بِإِرَادَتِهَا، وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَ خَوَاطِرِهَا وَمَطَالِبِهَا. وَمَنْحِهَا الْعَقْلَ وَالدِّينَ يُرَجِّحَانِ الْحَقَّ وَالْخَيْرَ عَلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، فَبِقَدْرِ طَهَارَةِ النَّفْسِ وَأَثَرِ تَزْكِيَتِهَا بِالْإِيمَانِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، يَكُونُ ارْتِقَاؤُهَا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَالضِّدُّ بِالضِّدِّ فَالْجَزَاءُ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِلْعَمَلِ النَّفْسِيِّ وَالْبَدَنِيِّ الَّذِي يُزَكِّي
174
النَّفْسَ أَوْ يُدَسِّيهَا وَيُدَنِّسُهَا، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يُثْبِتُهُ مَنْ عَرَفَ حَقِيقَةَ الْإِنْسَانِ، وَحِكْمَةَ الدَّيَّانِ وَهُوَ مِمَّا أَصْلَحَهُ الْقُرْآنُ مِنْ تَعَالِيمِ الْأَدْيَانِ.
فَإِذَا عَلِمْتَ مَا كَانَ مِنْ إِنْكَارِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ لِلْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ. وَمِنْ فَسَادِ إِيمَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَسَائِرِ الْمِلَلِ فِي هَذِهِ الْعَقِيدَةِ، وَعَلِمْتَ أَنَّهَا مُكَمِّلَةٌ لِلْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى، وَأَنَّ تَذَكُّرَهَا هُوَ الَّذِي يُقَوِّي الْوَازِعَ النَّفْسِيَّ الَّذِي يَصُدُّ الْإِنْسَانَ عَنِ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ وَالظُّلْمِ وَالْبَغْيِ، وَيُرَغِّبُهُ فِي الْتِزَامِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَعَمَلِ الْبِرِّ - عَلِمْتَ أَنَّ ذَلِكَ مَا كَانَ لِيَفْعَلَ فِعْلَهُ الْعَاجِلَ فِي شَعْبٍ كَبِيرٍ إِلَّا بِتَكْرَارِهِ فِي الْقُرْآنِ بِالْأَسَالِيبِ الْعَجِيبَةِ الَّتِي فِيهِ مِنْ حُسْنِ الْبَيَانِ، وَتَقْرِيبِ الْبَعِيدِ مِنَ الْأَذْهَانِ. تَارَةً بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَتَارَةً بِضَرْبِ الْأَمْثَالِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، لَعَلَّهَا تَبْلُغُ الْمِئَاتِ، وَمِنْ إِعْجَازِهِ أَنَّهَا لَا تُمَلُّ وَلَا تُسْأَمُ.
الْإِيمَانُ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَهُوَ الرُّكْنُ الثَّانِي فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ، مِنْ لَوَازِمَ الرُّكْنِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللهِ الْمُتَّصِفِ بِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ، الْمُنَزَّهِ عَنِ الْبَعْثِ فِي أَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَلِهَذَا كَانَ مَنْ أَظْهَرِ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا
وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) (٢٣: ١١٥) وَقَوْلُهُ: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) (٧٥: ٣٦ - ٤٠) فَكُفْرُ الْإِنْسَانِ بِهَذَا الرُّكْنِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ يَسْتَلْزِمُ كُفْرَهُ بِحِكْمَةِ رَبِّهِ وَعَدْلِهِ فِي خَلْقِهِ، وَكُفْرَهُ بِنِعْمَتِهِ بِخَلْقِهِ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وَتَفْضِيلِهِ عَلَى أَهْلِ عِلَلِهِ (الْأَرْضِ) حَيْثُ سَخَّرَهَا وَكُلَّ مَا فِيهَا لِمَنَافِعِهِ، وَعَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي وَعَدَهُ بِمَصِيرِهِ إِلَيْهِ وَجِهَادٍ بِمَا وَهَبَهُ مِنَ الْمَشَاعِرِ وَالْقُوَى وَالْعَقْلِ، وَجَهْلِهِ بِحِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ مُسْتَعِدًّا لِمَا لَيْسَ لَهُ حَدٌّ وَنِهَايَةٌ مِنَ الْعِلْمِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ خُلِقَ لِحَيَاةٍ لَا حَدَّ لَهَا وَلَا نِهَايَةَ - وَمِنْ لَوَازِمَ هَذَا الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ كُلِّهِ، احْتِقَارُهُ لِنَفْسِهِ بِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ خُلِقَ عَبَثًا لَا لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ، وَأَنَّ وُجُودَهُ فِي الْأَرْضِ مَوْقُوتٌ مَحْدُودٌ بِهَذَا الْعُمْرِ الْقَصِيرِ، الْمُنَغَّصِ بِالْهُمُومِ وَالْمَصَائِبِ وَالظُّلْمِ وَالْبَغْيِ وَالْآثَامِ، وَأَنَّهُ يُتْرَكُ سُدًى لَا يُجْزَى كُلُّ ظَالِمٍ مِنْ أَفْرَادِهِ بِظُلْمِهِ، وَكُلُّ عَادِلٍ بِعَدْلِهِ وَفَضْلِهِ، وَإِذْ كَانَ هَذَا الْجَزَاءُ غَيْرَ مُطَّرِدٍ فِي الدُّنْيَا لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ، تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ جَزَاءُ الْآخِرَةِ هُوَ الْمَظْهَرَ الْأَكْبَرَ لِلْعَدْلِ الْعَامِّ.
وَمِمَّا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مُخَالِفًا لِمَا عِنْدَ النَّصَارَى مِنْ عَقِيدَةِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ يَكُونُ إِنْسَانًا كَمَا كَانَ فِي الدُّنْيَا، إِلَّا أَنَّ أَصْحَابَ الْأَنْفُسِ الزَّكِيَّةِ وَالْأَرْوَاحِ الْعَالِيَةِ يَكُونُونَ أَكْمَلَ أَرْوَاحًا وَأَجْسَادًا مِمَّا كَانُوا بِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَصْحَابَ الْأَنْفُسِ الْخَبِيثَةِ وَالْأَرْوَاحِ السَّافِلَةِ يَكُونُونَ أَنْقَصَ وَأَخْبَثَ مِمَّا كَانُوا بِتَدْسِيَةِ أَنْفُسِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَيُعْلَمُ مِمَّا ثَبَتَ
175
عَنْ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَقْدَمِينَ أَنَّ الْأَدْيَانَ الْقَدِيمَةَ كَانَتْ تُعْلِمُ النَّاسَ عَقِيدَةَ الْبَعْثِ بِالرُّوحِ وَالْجَسَدِ.
وَلَوْ كَانَ الْبَعْثُ لِلْأَرْوَاحِ وَحْدَهَا لَنَقَصَ مِنْ مَلَكُوتِ اللهِ تَعَالَى هَذَا النَّوْعُ الْكَرِيمُ الْمُكَرَّمُ مِنَ الْخَلْقِ الْمُؤَلَّفِ مِنْ رُوحٍ وَجَسَدٍ، فَهُوَ يُدْرِكُ اللَّذَّاتِ الرُّوحِيَّةَ وَاللَّذَّاتِ الْجُثْمَانِيَّةَ، وَيَتَحَقَّقُ بِحِكَمِ اللهِ (جَمْعُ حِكْمَةٍ) وَأَسْرَارِ صُنْعِهِ فِيهِمَا مَعًا، مِنْ حَيْثُ حَرَمَ الْحَيَوَانَ وَالنَّبَاتَ مِنَ الْأُولَى وَالْمَلَائِكَةَ مِنَ الثَّانِيَةِ، وَمَا جَنَحَ مَنْ جَنَحَ مِنْ أَصْحَابِ النَّظَرِيَّاتِ الْفَلْسَفِيَّةِ إِلَى الْبَعْثِ الرُّوحَانِيِّ الْمُجَرِّدِ، إِلَّا لِاحْتِقَارِهِمْ لِلَّذَّاتِ الْجَسَدِيَّةِ
وَتَسْمِيَتِهَا بِالْحَيَوَانِيَّةِ مَعَ شَغَفِ أَكْثَرِهِمْ بِهَا، وَإِنَّمَا تَكُونُ نَقْصًا فِي الْإِنْسَانِ إِذَا سَخَّرَ عَقَلَهُ وَقُوَاهُ لَهَا وَحْدَهَا، حَتَّى يَصْرِفَهُ اشْتِغَالُهُ بِهَا عَنِ اللَّذَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ بِالْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ، وَأَصْلُ هَذَا الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ غُلُوُّ الْهُنُودِ فِي احْتِقَارِ الْجَسَدِ وَتَرْبِيَةِ النَّفْسِ بِالرِّيَاضَةِ وَتَعْذِيبِ الْجَسَدِ، وَتَبِعَهُمْ فِيهِ نُسَّاكُ النَّصَارَى كَمَا تَبِعُوهُمْ فِي عَقِيدَةِ الصَّلْبِ وَالْفِدَاءِ وَالتَّثْلِيثِ، عَلَى أَنَّهُمْ نَقَلُوا أَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَرِبَ الْخَمْرَ مَعَ تَلَامِيذِهِ لَمَّا وَدَّعَهُمْ فِي الْفِصْحِ وَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي مِنَ الْآنَ لَا أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ هَذَا إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ حِينَمَا أَشْرَبُهُ مَعَكُمْ جَدِيدًا فِي مَلَكُوتِ أَبِي (مَتَّى ٢٦: ٢٩) وَجَرَى الْيَهُودُ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ. وَجَاءَ الْإِسْلَامُ بِالِاعْتِدَالِ فَأَعْطَى الْإِنْسَانَ جَمِيعَ حُقُوقِهِ، وَطَالَبَهُ بِمَا يَكُونُ بِهَا كَامِلًا فِي إِنْسَانِيَّتِهِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ جَمِيعِ أَطْرَافِهَا الْعِلْمِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ وَكَشْفِ شُبَهَاتِهَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، الَّتِي هِيَ أَجْمَعُ سُوَرِ الْقُرْآنِ لِمَسَائِلِ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَتَوْحِيدِهِ وَالْبَعْثِ وَالرِّسَالَةِ، وَدَحْضِ شُبَهَاتِ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْهَا ص ٤١٧ - ٤٢٧ ج ٨ ط الْهَيْئَةِ.
وَيُؤْخَذُ مِمَّا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ صِفَةِ حَيَاةِ الْآخِرَةِ أَنَّ الْقُوَى الرُّوحِيَّةَ تَكُونُ هِيَ الْغَالِبَةَ وَالْمُتَصَرِّفَةَ فِي الْأَجْسَادِ، فَتَكُونُ قَادِرَةً عَلَى التَّشَكُّلِ بِالصُّوَرِ اللَّطِيفَةِ وَقَطْعِ الْمَسَافَاتِ الْبَعِيدَةِ فِي الْمُدَّةِ الْقَرِيبَةِ، وَالتَّخَاطُبِ بِالْكَلَامِ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ - وَإِنَّ تَرَقِّيَ الْبَشَرِ فِي عِلْمِ الْكِيمْيَاءِ وَخَوَاصِّ الْكَهْرَبَاءِ وَالصِّنَاعَاتِ وَالْآلَاتِ فِي عَصْرِنَا قَدْ قَرَّبَ كُلَّ هَذَا مِنْ حِسِّ الْإِنْسَانِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ الْمَادِّيُّونَ الْمُلْحِدُونَ يُعِدُّونَ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (٧: ٤٤) مِنْ تَخَيُّلَاتِ مُحَمَّدٍ - صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ نُخَاطِبُ مِنْ مِصْرَ أَهْلَ عَوَاصِمِ أُورُبَّةَ بِآلَةِ التِّلِيفُونِ، وَنَسْمَعُ خُطَبَهُمْ وَمَعَازِفَهُمْ بِآلَةِ الرَّادْيُو وَسَنَرَاهُمْ وَيَرَوْنَنَا بِآلَةِ التِّلِيفِزْيُونْ مَعَ التَّخَاطُبِ حِينَمَا يَعُمُّ انْتِشَارُهَا.
وَأَمَّا عُلَمَاءُ الرُّوحِ مِنَ الْإِفْرِنْجِ وَغَيْرِهِمْ فَقَدْ قَرَّرُوا أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ قَادِرَةٌ عَلَى التَّشَكُّلِ فِي أَجْسَادٍ تَأْخُذُهَا مِنْ مَادَّةِ الْكَوْنِ كَمَا يَقُولُ الصُّوفِيَّةُ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ أَوْ مَسَائِلُ قَدْ شَرَحْنَاهَا
176
مِنْ قَبْلُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ وَإِنَّمَا نَذْكُرُهَا هُنَا بِالْإِجْمَالِ رَدًّا عَلَى مَنْ زَعَمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ كُتُبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَمِنْ عَقْلِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلْهَامَاتِهِ الرُّوحِيَّةِ.
وَيُنَاسِبُ هَذَا مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ نَبَأِ خَرَابِ الْعَالِمِ وَقِيَامِ السَّاعَةِ الَّتِي هِيَ بَدْءُ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ مِنْ عَقِيدَةِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ أَصْلٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا غَيْرِهِمْ، وَلَا هُوَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَفَهُ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَكَائِهِ أَوْ نَظَرِيَّاتِهِ الْعَقْلِيَّةِ. وَجُمْلَتُهُ أَنَّ قَارِعَةً - وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَوْكَبٌ - تَقْرَعُ الْأَرْضَ وَتَصُخُّهَا صَخًّا وَتَرُجُّهَا رَجًّا فَتَكُونُ هَبَاءً (غُبَارًا رَقِيقًا) مُنْبَثًّا فِي الْفَضَاءِ وَحِينَئِذٍ يَخْتَلُّ مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ الْعُلَمَاءِ بِالْجَاذِبِيَّةِ لِلْعَامَّةِ فَتَتَنَاثَرُ الْكَوَاكِبُ إِلَخْ. وَهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ أَنْ يُقَالَ إِنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَهُ مِنْ أَحَدٍ فِي بَلَدِهِ أَوْ فِي سَفَرِهِ وَلَا يَعْقِلُ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ بِرَأْيِهِ وَفِكْرِهِ، فَهُوَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي تَدْحَضُ زَعْمَ الْقَائِلِينَ بِالْوَحْيِ النَّفْسِيِّ وَقَدْ صَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ الْمُعَاصِرِينَ بِأَنَّ خَرَابَ الْعَالَمِ بِهَذَا السَّبَبِ هُوَ أَقْرَبُ النَّظَرِيَّاتِ الْعِلْمِيَّةِ لِخَرَابِهِ.
(الرُّكْنُ الثَّالِثُ لِلدِّينِ الْعَمَلُ الصَّالِحِ)
وَأَمَّا الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِنْ مَقَاصِدِ بَعْثَةِ الرُّسُلِ وَهُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فَهُوَ مُكَرَّرٌ فِي الْقُرْآنِ فِي سُوَرٍ كَثِيرَةٍ ; لِإِصْلَاحِ مَا أَفْسَدَهُ الْبَشَرُ فِيهِ بِجَعْلِهِ تَقْلِيدِيًّا غَيْرَ مُزَكٍّ النَّفْسَ وَلَا مُصْلِحٍ لِشُئُونِ الِاجْتِمَاعِ، وَلَكِنْ دُونَ تَكْرَارِ تَوْحِيدِ اللهِ وَتَقْدِيسِهِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي يَتْبَعُهُ، وَلَوْلَا الْحَاجَةُ إِلَى هَذَا التَّكْرَارِ فِي التَّذْكِيرِ وَالتَّأْثِيرِ لَكَانَتْ سُورَةُ الْعَصْرِ كَافِيَةً فِي الْإِصْلَاحِ الْعِلْمِيِّ الْعَمَلِيِّ عَلَى قِصَرِهَا، كَسُورَةِ الْإِخْلَاصِ فِي الرُّكْنِ الْأَوَّلِ الِاعْتِقَادِيِّ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا تُكْتَبُ فِي سَطْرٍ وَاحِدٍ، فَهُمَا مِنْ مُعْجِزَاتِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ وَهِدَايَتِهِ.
ثُمَّ إِنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ بِاللهِ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى ; لِأَنَّ مَنْ عَرَفَ اللهَ عَرَفَ اسْتِحْقَاقَهُ لِلْحَمْدِ وَالشُّكْرِ وَالْعِبَادَةِ وَالْحُبِّ وَالتَّعْظِيمِ، وَهُوَ مِنْ لَوَازِمَ الْإِيمَانِ بِالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ خَوْفًا مِنَ الْعِقَابِ وَرَجَاءً فِي الثَّوَابِ.
وَيَدْخُلُ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْعِبَادَاتُ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَسَائِرُ أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي تُرْضِيهِ بِمَا لَهَا مِنَ التَّأْثِيرِ فِي صَلَاحِ الْبَشَرِ كَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِكْرَامِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ. وَمِنْ أُصُولِهِ الْوَصَايَا الْجَامِعَةُ فِي آيَاتِ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ:
(وَقَضَى رَبُّكَ) إِلَى قَوْلِهِ: (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) (١٧: ٢٣ - ٣٩) إِلَخْ وَهِيَ أَجْمَعُ وَأَعْظَمُ مِنَ الْوَصَايَا الْعَشْرِ الَّتِي فِي التَّوْرَاةِ. وَآيَاتُ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) (٦: ١٥١) إِلَخْ. وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَنْفَعُ النَّاسَ مِنَ الْحَثِّ عَلَى الْفَضَائِلِ، وَالزَّجْرِ عَنِ الرَّذَائِلِ وَالْمَعَاصِي الضَّارَّةِ
177
بِالْأَبْدَانِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْعُقُولِ وَالْأَدْيَانِ، وَمَثَارُهَا الْأَكْبَرُ اتِّبَاعُ الْهَوَى وَطَاعَةُ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ. وَيُضَمِّدُهُمَا مَلَكَةُ التَّقْوَى، فَهِيَ اسْمٌ جَامِعٌ لِمَا يَقِي النَّفْسَ مِنْ كُلِّ مَا يُدَنِّسُهَا وَتَسُوءُ بِهِ عَاقِبَتُهَا فِي الدُّنْيَا أَوِ الْآخِرَةِ وَلِهَذَا تُذْكَرُ فِي الْمَسَائِلِ الدِّينِيَّةِ وَالزَّوْجِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذَا فِي (ص ٥٣٨ وَمَا بَعْدَهَا ج ٩ ط الْهَيْئَةِ) وَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّطْوِيلِ بِالشَّوَاهِدِ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْهَا.
وَسُنَّةُ الْقُرْآنِ فِي الْإِرْشَادِ إِلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بَيَانُ أُصُولِهَا وَمَجَامِعِهَا، وَتَكْرَارُ التَّذْكِيرِ بِهَا بِالْإِجْمَالِ، وَأَكْثَرُ مَا يَحُثُّ عَلَيْهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ الصَّلَاةُ الَّتِي هِيَ الْعِبَادَةُ الرُّوحِيَّةُ الْعُلْيَا وَالِاجْتِمَاعِيَّةُ الْمُثْلَى، وَالزَّكَاةُ الَّتِي هِيَ الْعِبَادَةُ الْمَالِيَّةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ الْكُبْرَى، كَرَّرَ الْأَمْرَ بِهِمَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ وَبَيَّنَ أَهَمَّ مَنَافِعِهِمَا بِقَوْلِهِ: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) (٢٩: ٤٥) وَقَوْلِهِ: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) (٧٠: ١٩ - ٢٦) الْآيَاتِ، وَقَوْلِهِ: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) (٩: ١٠٣).
وَلَمْ يُكَرِّرْ مَا يُحْفَظُ بِالْعَمَلِ وَالِاقْتِدَاءِ بِالرَّسُولِ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ بَلْ لَمْ يَذْكُرْ مِنْهَا إِلَّا لِمَا لِذِكْرِهِ فَائِدَةٌ خَاصَّةٌ، وَذُكِرَتْ فِيهِ أَحْكَامُ الصِّيَامِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ عَدَدُ الرَّكَعَاتِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَلَا عَدَدُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَلَا نِصَابُ الزَّكَاةِ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ ; لِأَنَّ كُلَّ هَذَا يُؤْخَذُ مِنْ بَيَانِ الرَّسُولِ وَيُحْفَظُ بِالْعَمَلِ، وَلَيْسَ فِي ذِكْرِهِ تَزْكِيَةٌ لِلنَّفْسِ وَلَا تَغْذِيَةٌ لِلْإِيمَانِ.
تَرْجِيحُ فَضَائِلِ الْقُرْآنِ عَلَى فَضَائِلِ الْإِنْجِيلِ:
وَأَذْكُرُ فَضِيلَتَيْنِ مِنْ فَضَائِلِهِ يَزْعُمُ النَّصَارَى أَنَّ مَا هُوَ مَأْثُورٌ عِنْدَهُمْ فِيهَا أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ مِمَّا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ:
(الْأُولَى) قَوْلُ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ((أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ بَارِكُوا لَاعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكُمْ. وَمَنْ ضَرَبَكَ عَلَى خَدِّكَ الْأَيْمَنِ
فَأَدِرْ لَهُ الْأَيْسَرَ)) وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّ امْتِثَالَ هَذِهِ الْأَوَامِرِ يَتَعَذَّرُ عَلَى غَيْرِ الْأَذِلَّةِ الْمُسْتَعْبَدِينَ مِنَ النَّاسِ، وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ أَكْبَرِ الْمَفَاسِدِ بِإِغْرَاءِ الْأَقْوِيَاءِ بِالضُّعَفَاءِ الْخَاضِعِينَ، وَإِنَّكَ لَتَجِدُ أُعْصَى النَّاسِ لَهَا مَنْ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْمَسِيحِيِّينَ.
أَمْثَالُ هَذِهِ الْأَوَامِرِ لَا تَأْتِي فِي دِينِ الْفِطْرَةِ الْعَامِّ ; لِأَنَّ امْتِثَالَهَا مِنْ غَيْرِ الْمُسْتَطَاعِ.
وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (٢: ٢٨٦) وَإِنَّمَا قَرَّرَ الْقُرْآنُ فِي مَوْضُوعِهَا الْجَمْعَ بَيْنَ الْعَدْلِ وَالْفَضْلِ وَالْمَصْلَحَةِ. قَالَ تَعَالَى:
178
(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (٤٢: ٤٠ - ٤٣) وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْعَفْوَ وَالْمَغْفِرَةَ لِلْمُسِيءِ إِنَّمَا تَكُونُ مِنَ الْقَادِرِ عَلَى الِانْتِصَارِ لِنَفْسِهِ وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ فَضْلُهُ عَلَى مَنْ عَفَا عَنْهُ، فَيَكُونُ سَبَبًا لِاسْتِبْدَالِ الْمَوَدَّةِ بِالْعَدَاوَةِ، فِي مَكَانِ الْإِغْرَاءِ بِالتَّعَدِّي وَدَوَامِ الظُّلْمِ ; وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (٤١: ٣٤، ٣٥) فَانْظُرْ كَيْفَ بَيَّنَ مَرَاتِبَ الْكَمَالِ وَدَرَجَاتِهِ مِنَ الْعَدْلِ وَالْفَضْلِ. وَكَيْفَ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَحُكْمِ الْعَقْلِ، أَفَلَيْسَ هَذَا الْإِصْلَاحُ الْأَعْلَى عَلَى لِسَانِ أَفْضَلِ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْشِدِينَ، دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى قَدْ أَكْمَلَ بِهِ الدِّينَ؟ بَلَى وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَلَا يَجْحَدُهُ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ فَكَانَ مِنَ الْجَاهِلِينَ.
(الثَّانِيَةُ) مُبَالَغَةُ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي التَّزْهِيدِ فِي الدُّنْيَا وَالْأَمْرِ بِتَرْكِهَا وَذَمِّ الْغَنِيِّ، حَتَّى جَعَلَ دُخُولَ الْجَمَلِ فِي ثُقْبِ الْإِبْرَةِ أَيْسَرَ مِنْ دُخُولِ الْغَنِيِّ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. وَنَقُولُ إِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَسَابِقَتَهَا إِنَّمَا كَانَتَا إِصْلَاحًا مُوَقَّتًا لِإِسْرَافِ الْيَهُودِ وَغُلُوِّهِمْ فِي عِبَادَةِ الْمَالِ حَتَّى أَفْسَدَ أَخْلَاقَهُمْ وَآثَرُوا دُنْيَاهُمْ عَلَى دِينِهِمْ. وَالْغُلُوُّ يُقَاوَمُ مُوَقَّتًا بِضِدِّهِ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ دَوْلَةُ الرُّومَانِ السَّالِبَةُ لِاسْتِقْلَالِ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ دَوْلَةً مُسْرِفَةً فِي الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ.
وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَهُوَ دِينُ الْبَشَرِ الْعَامُّ الدَّائِمُ، فَلَا يُقَرَّرُ فِيهِ إِلَّا مَا هُوَ لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ كُلِّهِمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ. وَهُوَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ذَمَّ اسْتِعْمَالَ الْمَالِ فِيمَا يَضُرُّ مِنَ الْإِسْرَافِ
وَالطُّغْيَانِ وَذَمَّ أَكْلَهُ بِالْبَاطِلِ وَمَنْعَ الْحُقُوقِ الْمَفْرُوضَةِ فِيهِ، وَالْبُخْلَ بِهِ عَنِ الْفُقَرَاءِ وَالضُّعَفَاءِ، وَمَدَحَ أَخْذَهُ بِحَقِّهِ، وَبَذْلَهُ فِي حَقِّهِ، وَإِنْفَاقَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَيُعِزُّ الْمِلَّةَ وَيُقَوِّي الْأُمَّةَ وَيَكُونُ عَوْنًا لَهَا عَلَى حِفْظِ حَقِيقَتِهَا وَاسْتِقْلَالِهَا - فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَمَا قَبْلَهَا مِمَّا أَكْمَلَ اللهُ تَعَالَى بِهِ الدِّينَ، فِيمَا أَوْحَاهُ مِنْ كِتَابِهِ إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَمَا كَانَ لِرَجُلٍ أُمِّيٍّ وَلَا مُتَعَلِّمٍ أَنْ يَصِلَ بِعَقْلِهِ إِلَى أَمْثَالِ هَذَا الْإِصْلَاحِ لِتَعَالِيمِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي يَتَعَبَّدُ بِهَا الْمَلَايِينُ مِنَ الْبَشَرِ وَلِكُتُبِ الْحُكَمَاءِ وَالْفَلَاسِفَةِ أَيْضًا، فَهَلِ الْأَقْرَبُ إِلَى الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَمْ مِنْ نَفْسِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ !.
وَعَلَى ذِكْرِ الْفَلَاسِفَةِ أَذْكُرُ شُبْهَةً لِمُقَلِّدَتِهِمْ عَلَى الْفَضَائِلِ وَأَعْمَالِ الْخَيْرِ الدِّينِيَّةِ، يَلُوكُونُهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَلَا يَعْقِلُونَ فَسَادَهَا، وَهِيَ أَنَّ الْكَمَالَ الْبَشَرِيَّ أَنْ يَعْمَلَ الْإِنْسَانُ الْخَيْرَ لِذَاتِهِ أَوْ لِأَنَّهُ خَيْرٌ لَا لِعِلَّةٍ، وَيَعُدُّونَ مِنْ أَكْبَرِ الْعِلَلِ أَنْ يَعْمَلَهُ رَجَاءً فِي ثَوَابِ الْآخِرَةِ أَوْ خَوْفًا مِنْ عِقَابِهَا، وَمَعْنَى هَذَا إِنْ كَانُوا يَفْقَهُونَ أَنَّ مَنْ يَقْصِدُ بِعَمَلِ الْخَيْرِ وَالْبِرِّ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ الْإِسْلَامُ مِنْ تَزْكِيَةِ نَفْسِهِ
179
وَتَرْقِيَةِ رُوحِهِ بِحَيْثُ تَكُونُ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ ذِي الْكَمَالِ الْمُطْلَقِ الْأَعْلَى - وَأَهْلًا لِجِوَارِهِ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ يَكُونُ نَاقِصًا وَإِنَّمَا يَكُونُ كَامِلًا إِذَا خَرَجَ عَنْ طَبْعِهِ، وَقَصَدَ النَّفْعَ بِعَمَلِهِ لِغَيْرِهِ دُونَ نَفْسِهِ، وَدُونَ إِرْضَاءِ رَبِّهِ وَمَنْ ذَا الَّذِي يَحِدُّ حَقِيقَةَ هَذَا الْخَيْرِ لِلْبَشَرِ وَيَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ؟
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ أَرْكَانَ الدِّينِ ثَلَاثَةٌ مَأْثُورَةٌ عَنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ الْقَدِيمَةِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَصْلَهَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْوَحْيُ وَهِدَايَةُ الرُّسُلِ، وَأَنَّهُ كَانَ قَدْ دَبَّ إِلَيْهَا الْفَسَادُ بِتَعَالِيمِ الْوَثَنِيَّةِ وَبِدَعِهَا، فَجَاءَ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ بِهَذَا الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، فَأَصْلَحَ مَا كَانَ مِنْ فَسَادِهَا الَّذِي جَعَلَهَا غَيْرَ كَافِلَةٍ لِسَعَادَةِ الْبَشَرِ الْآخِذِينَ بِهَا، مِنْ شَوْبِ الْإِيمَانِ بِاللهِ بِالشِّرْكِ وَالتَّشْبِيهِ بِالْخَلْقِ، وَجَعَلَ الْجَزَاءَ بِالْمُحَابَاةِ وَالْفِدَاءِ، لَا بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَجَعَلَ الْعِبَادَاتِ تَقَالِيدَ كَاللَّعِبِ وَاللهْوِ، غَيْرَ مُثْمِرَةٍ لِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ، وَلَا رَاجِحَةً فِي مِيزَانِ الْعَقْلِ، وَعِبَادَاتُ الْإِسْلَامِ وَآدَابُهُ كُلُّهَا مَعْقُولَةٌ مُكَمِّلَةٌ لِفِطْرَةِ الْإِنْسَانِ.
وَإِنَّنَا نُقَفِّي عَلَى هَذَا بِبَيَانِ الْقُرْآنِ لِمَا جَعَلَهُ الْبَشَرُ مِنْ أَمْرِ النُّبُوَّةِ وَوَظَائِفِ الرُّسُلِ، ثُمَّ نَعُودُ إِلَى بَيَانِ مَا فِي وَحْيِ الْقُرْآنِ مِنْ قَوَاعِدِ الْإِصْلَاحِ الْعَامِّ الدَّائِمِ لِلْبَشَرِ، الدَّالِّ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ لَا مِنْ مَعَارِفِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّابِعَةِ مِنْ نَفْسِهِ.
الْمَقْصِدُ الثَّانِي مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ
(بَيَانُ مَا جَهِلَ الْبَشَرُ مِنْ أَمْرِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَوَظَائِفِ الرُّسُلِ)
كَانَتِ الْعَرَبُ تُنْكِرُ الْوَحْيَ وَالرِّسَالَةَ إِلَّا أَفْرَادًا مِنْ بَقَايَا الْحُنَفَاءِ فِي الْحِجَازِ وَغَيْرِهِ، وَمَنْ دَخَلَ فِي الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ لِمُجَاوَرَتِهِ لِأَهْلِهِمَا وَقَلِيلٌ مَا هُمْ. وَكَانَتْ شُبْهَةُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى الْوَحْيِ اسْتِبْعَادَ اخْتِصَاصِ اللهِ تَعَالَى بَعْضَ الْبَشَرِ بِهَذَا التَّفْضِيلِ عَلَى سَائِرِهِمْ، وَهُمْ مُتَسَاوُونَ فِي الصِّفَاتِ الْبَشَرِيَّةِ بِزَعْمِهِمْ، وَيَقْرُبُ مِنْهُمُ الْيَهُودُ الَّذِينَ أَنْكَرُوا أَنْ يُخْتَصَّ تَعَالَى بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ وَالْمِنَّةِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَأَوْجَبُوا عَلَيْهِ أَنْ يَحْصُرَ النُّبُوَّةَ فِي شَعْبِ إِسْرَائِيلَ وَحْدَهُ، كَأَنَّ بَقِيَّةَ الْبَشَرِ لَيْسُوا مِنْ عِبَادِهِ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ مَا أَعْطَاهُ لِلْيَهُودِ مِنْ هِدَايَةِ النُّبُوَّةِ. عَلَى أَنَّهُمْ وَصَفُوا الْأَنْبِيَاءَ بِالْكَذِبِ وَالْخِدَاعِ وَالِاحْتِيَالِ عَلَى اللهِ وَمُصَارَعَتِهِ وَارْتِكَابِ كَبَائِرِ الْمَعَاصِي كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْقَسَمِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ، وَوَافَقَهُمُ النَّصَارَى عَلَى حَصْرِ النُّبُوَّةِ فِيهِمْ، وَأَثْبَتُوا قَدَاسَةَ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ رُسُلِ الْمَسِيحِ وَغَيْرِهِمْ وَعَبَدُوهُمْ أَيْضًا، عَلَى أَنَّهُمْ نَقَلُوا عَنْ بَعْضِ خَوَاصِّ تَلَامِيذِهِ إِنْكَارَهُ إِيَّاهُ فِي وَقْتِ الشِّدَّةِ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَسْلَمَهُ لِأَعْدَائِهِ، وَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: ((كُلُّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَاتَّخَذَ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ وَقُسُوسَهُمْ أَرْبَابًا
180
مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى، بِأَنْ نَحَلُوهُمْ حَقَّ التَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ مِنْ وَضْعِ الْعِبَادَاتِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْكُفْرِ بِاللهِ وَإِنْكَارِ عَدْلِهِ، وَعُمُومِ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَمُفْسِدَاتِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَجَعْلِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنْهُ مُسْتَعْبَدًا لِأَفْرَادٍ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ، فَأَبْطَلَ اللهُ تَعَالَى كُلَّ ذَلِكَ بِمَا أَنْزَلَهُ مِنْ كِتَابِهِ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَأَثْبَتَ بَعْثَةَ الرُّسُلِ وَالْمُنْذِرِينَ لِجَمِيعِ شُعُوبِهِ بِقَوْلِهِ: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ) (١٦: ٣٦) وَقَوْلِهِ: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ) (٣٥: ٢٤) وَكَرَّمَ الْإِنْسَانَ بِجَعْلِ التَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ
مِنْ حُقُوقِ اللهِ وَحْدَهُ. وَإِنَّمَا النَّبِيُّونَ وَالرُّسُلُ مُبَلِّغُونَ عَنْهُ وَلَيْسُوا بِمُسَيْطِرِينَ عَلَى الْأَقْوَامِ، وَطَاعَتُهُمْ تَابِعَةٌ لِطَاعَتِهِ، فَقَدْ أَبْطَلَ مَا نَحَلَهُمُ النَّاسُ مِنْ رُبُوبِيَّةِ التَّشْرِيعِ، كَمَا أَبْطَلَ عِبَادَتَهُمْ وَعِبَادَةَ مَنْ دُونَهُمْ مِنَ الْقِدِّيسِينَ، وَبِذَلِكَ تَحَرَّرَ الْإِنْسَانُ مِنَ الرِّقِّ الرُّوحِيِّ وَالْعَقْلِيِّ الَّذِي مُنِيَتْ بِهِ الْأُمَمُ الْمُتَدَيِّنَةُ وَلَا سِيَّمَا النَّصَارَى.
وَلِضَلَالِ جَمِيعِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ فِي ذَلِكَ، كَرَّرَ هَذَا الْإِصْلَاحَ فِي كَثِيرٍ مِنَ السُّوَرِ بِالتَّصْرِيحِ بِأَنَّ الرُّسُلَ بَشَرٌ مِثْلُ سَائِرِ الْبَشَرِ يُوحَى إِلَيْهِمْ، وَبِأَنَّهُمْ لَيْسُوا إِلَّا مُبَلِّغِينَ لِدِينِ اللهِ تَعَالَى الْمُوحَى إِلَيْهِمْ، قَالَ تَعَالَى لِخَاتَمِهِمُ الْمُكَمِّلِ لِدِينِهِمْ فِي خَاتِمَةِ سُورَةِ الْكَهْفِ: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) (١٨: ١١٠) الْآيَةَ. وَقَالَ فِي جُمْلَتِهِمْ مِنْ وَسَطِهَا: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) (١٨: ٥٦) وَمِثْلُهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ (٦: ٤٨) وَفِي مَعْنَاهُمَا آيَاتٌ أُخْرَى. بَعَثَهُمْ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالتَّنْفِيذِ، وَبِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ لِلنَّاسِ وَلَا لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَلَا هِدَايَةً وَلَا نَجَاةً مِنَ الْعِقَابِ عَلَى مُخَالَفَةِ شَرْعِ اللهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ. وَقَدْ شَرَحْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٧: ١٨٨) وَسَيَأْتِي نَظِيرُهَا فِي الْآيَةِ ٤٩ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ فِي الْعُبُودِيَّةِ وَالتَّوَاضُعِ بِمَا لَا يَدَعُ لِتَأْوِيلِ الْآيَاتِ سَبِيلًا حَتَّى فَطِنَ لِذَلِكَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْأَحْرَارِ فَقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَمَّا رَأَى خِزْيَ النَّصَارَى بِتَأْلِيهِ نَبِيِّهِمْ وَعِبَادَتِهِ، لَمْ يَكْتَفِ بِتَلْقِيبِ نَفْسِهِ بِرَسُولِ اللهِ، حَتَّى أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَقُولُوا: ((أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنْ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ)).
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الشَّفَاعَةِ الَّتِي كَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ يُثْبِتُونَهَا لِمَعْبُودَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَهْلُ الْكِتَابِ يُثْبِتُونَهَا لِأَنْبِيَائِهِمْ وَقِدِّيسِيهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَقَدْ نَفَاهَا الْقُرْآنُ وَأَبْطَلَهَا، وَأَثْبَتَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، وَأَنَّهُ لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ (يَعْلَمُ
مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (٢١: ٢٨، ٢٩)
181
وَقَدْ فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهِ مِرَارًا (مِنْهُ أَنَّ الشَّفَاعَةَ الثَّابِتَةَ فِي الْأَحَادِيثِ غَيْرُ الشَّفَاعَةِ الْوَثَنِيَّةِ الْمَنْفِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ). وَكَرَّرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ دُونَ تَكْرَارِ مَا قَبْلَهَا لِأَنَّهَا فَرْعٌ لَهَا فَالْإِقْنَاعُ بِهَا أَسْهَلُ.
فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ بَيَّنَ حَقِيقَةَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي ضَلَّ فِيهَا الْمَلَايِينُ مِنَ الْبَشَرِ، فَأَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ، فَهَلْ كَانَ هَذَا مِمَّا اسْتَمَدَّهُ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَجَادُوا بِهِ عَلَيْهِ وَبَخِلُوا بِهِ عَلَى أَقْوَامِهِمْ؟ أَمْ هُوَ نَابِعٌ مِنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ مَا يَنْبُعُ مِنْهَا أَعْلَى مِنْ وَحْيِ اللهِ لِغَيْرِهِ عَلَى حَسَبِ دَعْوَى أَتْبَاعِ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ؟ كَلَّا إِنَّمَا هِيَ مِنْ وَحْيِ اللهِ تَعَالَى لَهُ:
الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ وَعَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمْ:
وَمِمَّا بَيَّنَهُ الْقُرْآنُ فِي مَسْأَلَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ أَنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِجَمِيعِ رُسُلِ اللهِ تَعَالَى، وَعَدَمِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمْ فِي الْإِيمَانِ بِبَعْضِهِمْ وَالْكُفْرِ بِبَعْضٍ كَالْكُفْرِ بِهِمْ كُلِّهِمْ ; لِأَنَّ إِضَافَتَهُمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ. وَوَظِيفَتُهُمْ فِي إِرْشَادِ الْمُكَلَّفِينَ تَبْلِيغُ رِسَالَتِهِ وَشَرْعِهِ وَاحِدَةٌ.
قَالَ تَعَالَى فِي خَوَاتِيمِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (٢: ٢٨٥) وَبَيَّنَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ أَنَّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَهُمْ فِي الْإِيمَانِ هُوَ الْكُفْرُ حَقُّ الْكَفْرِ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْجَمِيعِ بِغَيْرِ تَفْرِقَةٍ هُوَ الْإِيمَانُ حَقُّ الْإِيمَانِ، وَهُوَ فِي الْآيَاتِ (٤: ١٥٠ - ١٥٢).
وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِيمَانِ بِأَنَّ دِينَ اللهِ تَعَالَى الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ جَمِيعَ رُسُلِهِ وَاحِدٌ فِي مَقَاصِدِهِ مِنْ هِدَايَةِ الْبَشَرِ وَإِصْلَاحِهِمْ، وَإِعْدَادِهِمْ لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ صُوَرُ الْعِبَادَاتِ وَالشَّرَائِعِ بِاخْتِلَافِ اسْتِعْدَادِ الْأَقْوَامِ وَمُقْتَضَيَاتِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. فَالْإِيمَانُ بِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ اتِّبَاعٌ لِلْهَوَى فِي الْإِيمَانِ، وَجَهْلٌ بِحَقِيقَةِ الدِّينِ، فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ لِأَنَّهُ عَيْنُ الْكُفْرِ.
وَقَدِ انْفَرَدَ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ الْعَادِلَةِ الْمُسْلِمُونَ دُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ، الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا بِأَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَبِيهِمْ وَجَدِّهِمْ عَلَى مَا يَذْكُرُونَ فِي كُتُبِهِمْ مِنْ عُيُوبٍ وَمُنْكَرَاتٍ وَفَوَاحِشَ يَرْمُونَهُمْ بِهَا.
وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَيُؤْمِنُونَ بِأَنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَرْسَلَ فِي كُلِّ الْأُمَمِ رُسُلًا هَادِينَ مَهْدِيِّينَ، يُؤْمِنُونَ بِهِمْ إِجْمَالًا وَبِمَا قَصَّهُ الْقُرْآنُ عَنْ بَعْضِهِمْ تَفْصِيلًا، فَقَدْ كَرَّمَ الْإِسْلَامُ بِهَذَا نَوْعَ الْإِنْسَانِ، وَمَهَّدَ بِهِ السَّبِيلَ لِلْأُلْفَةِ وَالْأُخُوَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْعَامَّةِ الَّتِي نُبَيِّنُهَا بَعْدُ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِبَدَاهَةِ الْعَقْلِ وَبِنَصِّ الْقُرْآنِ، أَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ بِتَخْصِيصِ
182
اللهِ تَعَالَى، وَبِمَا كَانَ لِكُلٍّ مِنْ نَفْعِ الْعِبَادِ وَهِدَايَتِهِمْ وَهِيَ مُتَفَاوِتَةٌ جِدًّا. قَالَ اللهُ تَعَالَى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) (٢: ٢٥٣).
وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ أَنَّ مُحَمَّدًا خَاتَمَ النَّبِيِّينَ الَّذِي أَكْمَلَ اللهُ بِهِ الدِّينَ، وَأَرْسَلَهُ رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ، هُوَ الَّذِي رَفَعَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ دَرَجَاتٍ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ بِالْإِجْمَالِ وَفَصَّلْنَاهُ فِي هَذَا الْبَحْثِ أَقْصَدَ التَّفْصِيلِ.
وَإِنَّكَ لَتَجِدُ مَعَ هَذَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَتْبَاعِهِ: ((لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللهِ)) قَالَهُ إِنْكَارًا عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَطَمَ يَهُودِيًّا لِأَنَّهُ قَالَ: لَا وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ. فَشَكَاهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا عَلَى صَاحِبِهِ الْمُسْلِمِ وَقَالَهُ.
وَبَيَّنَ مَزِيَّةً لِمُوسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ قَالَ: ((وَلَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلُ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى)) وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَفِي رِوَايَاتٍ أُخْرَى لِلْبُخَارِيِّ: ((لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ)) وَفِي بَعْضِهَا ((لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى)) وَالْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مَنْعُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تَنْقِيصِ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَمِنَ التَّعَادِي بَيْنَ النَّاسِ، وَمِنَ الْغُلُوِّ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِلَّا فَهُوَ قَدْ قَالَ فِي تَعْلِيلِ نَهْيِهِ عَنْ سُؤَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ: ((وَاللهِ لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي)) رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ.
فَصْلٌ فِي الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ الَّتِي أَيَّدَ اللهُ بِهَا رُسُلَهُ
(وَمَا يُشْبِهُ بَعْضَهَا مِنَ الْكَرَامَاتِ، وَمَا يُشْتَبَهُ بِهَا مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَضَلَالِ الْمَادِّيِّينَ وَالْخُرَافِيِّينَ فِيهَا)
تَكَلَّمْنَا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فِي آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي تُسَمِّيهَا النَّصَارَى بِالْعَجَائِبِ، وَيُسَمِّيهَا عُلَمَاءُ الْكَلَامِ مِنَّا بِالْمُعْجِزَاتِ، وَيَعُدُّونَهَا قِسْمًا مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ الَّتِي جَعَلُوهَا عِدَّةَ أَقْسَامٍ، وَنَقُولُ هُنَا كَلِمَةً وَجِيزَةً فِي إِصْلَاحِ الْإِسْلَامِ لِضَلَالِ الْبَشَرِ فِيهَا، وَالصُّعُودِ بِهِمْ أَعْلَى مَرَاقِي الْإِيمَانِ، اللَّائِقِ بِطَوْرِ الرُّشْدِ الْعَقْلِيِّ لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَالْعِلْمِ الْوَاسِعِ بِسُنَنِ الْأَكْوَانِ، الَّذِي مَنَحُوهُ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَنَقُولُ:
آيَاتُ اللهِ نَوْعَانِ:
آيَاتُ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ نَوْعَانِ: (النَّوْعُ الْأَوَّلُ) الْآيَاتُ الْجَارِيَةُ عَلَى سُنَنِهِ تَعَالَى فِي نِظَامِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ، وَهِيَ أَكْثَرُهَا وَأَظْهَرُهَا وَأَدَلُّهَا عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَإِحَاطَةِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَسَعَةِ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ. (وَالنَّوْعُ الثَّانِي) الْآيَاتُ الْجَارِيَةُ عَلَى خِلَافِ السُّنَنِ
183
الْمَعْرُوفَةِ لِلْبَشَرِ وَهِيَ أَقَلُّهَا، وَرُبَّمَا كَانَتْ أَدَلَّهَا عِنْدَ أَكْثَرِ النَّاسِ عَلَى اخْتِيَارِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي جَمِيعِ مَا خَلَقَ وَمَا يَخْلُقُ، وَكَوْنِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ غَيْرَ مُقَيَّدَتَيْنِ بِسُنَنِ الْخَلْقِ الَّتِي قَامَ بِهَا نِظَامُ الْكَوْنِ، فَالسُّنَنُ مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ وَإِتْقَانِهِ لِكُلِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وَقَدْ يَأْتِي بِمَا يُخَالِفُهَا لِحِكْمَةٍ أُخْرَى مِنْ حِكَمِهِ الْبَالِغَةِ، وَلَوْلَا هَذَا الِاخْتِيَارُ لَكَانَ الْعَالَمُ كَالْآلَاتِ الَّتِي تَتَحَرَّكُ بِنِظَامٍ دَقِيقٍ لَا عِلْمَ لَهَا وَلَا إِرَادَةَ وَلَا اخْتِيَارَ فِيهِ. كَآلَةِ السَّاعَةِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَا أَوْقَاتُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَآلَاتِ الْبَوَاخِرِ وَالْمَعَامِلِ الْكَثِيرَةِ، وَالْمَادِّيُّونَ الْمُنْكِرُونَ لِوُجُودِ الْخَالِقِ وَالْفَلَاسِفَةُ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُ الْعِلَّةَ الْفَاعِلَةَ لِلْوُجُودِ يُعَبِّرُونَ عَنْ هَذَا النِّظَامِ بِنَظَرِيَّةِ (الْمِيكَانِيكِيَّةِ) وَهُمْ يَتَكَلَّفُونَ اخْتِرَاعَ الْعِلَلِ
وَالْأَسْبَابِ لِكُلِّ مَا يَرَوْنَهُ مُخَالِفًا لِسُنَنِهِ الْمَعْرُوفَةِ، وَيُسَمُّونَ هَذِهِ الْأُمُورَ الْمُخَالِفَةَ لَهَا بِفَلَتَاتِ الطَّبِيعَةِ، وَيَقِيسُونَ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ تَعْلِيلُهُ عَلَى مَا اقْتَنَعُوا بِتَعْلِيلٍ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ يُثْبِتُهُ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَنَا الْيَوْمَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ لَنَا أَوْ لِمَنْ بَعْدَنَا غَدًا.
سُنَنُ اللهِ فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ وَعَالَمِ الْغَيْبِ:
وَنَحْنُ مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِعَالَمِ الْغَيْبِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهُمْ جُنْدُ اللهِ الْأَكْبَرُ، وَمَا لَهُمْ مِنَ التَّأْثِيرِ وَالتَّدْبِيرِ فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ الْمَادِّيِّ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى وَتَسْخِيرِهِ، نَعْتَقِدُ أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى سُنَنًا فِي نِظَامِ ذَلِكَ الْعَالَمِ غَيْرَ سُنَنِهِ الْخَاصَّةِ بِعَالَمِ الْمَادَّةِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ هُوَ حَلْقَةُ الِاتِّصَالِ بَيْنَ الْعَالَمَيْنِ.
فَجَسَدُهُ وَوَظَائِفُهُ الْحَيَوِيَّةُ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَرُوحُهُ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَإِنَّهُ مَا دَامَ فِي عَالَمِ الْجَسَدِ الْمَادِّيِّ، فَإِنَّ جَمِيعَ مَدَارِكِهِ تَكُونُ مَشْغُولَةً مِنَ الْمَادَّةِ وَسُنَنِهَا وَحَاجَاتِهِ الشَّخْصِيَّةِ وَالنَّوْعِيَّةِ مِنْهَا بِمَا يَحْجُبُهُ عَنْ عَالَمِ الرُّوحِ الْغَيْبِيِّ حَتَّى رُوحِهِ الْمُتَمِّمِ لِحَقِيقَتِهِ. وَإِنَّمَا يَكُونُ الظُّهُورُ وَالسُّلْطَانُ لِلرُّوحِ عَلَى الْجَسَدِ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ، إِلَّا مَنِ اصْطَفَى اللهُ تَعَالَى مِنْ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ، فَأَعَدَّهُمْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ لِلِاتِّصَالِ بِمَلَائِكَتِهِ وَالتَّلَقِّي عَنْهُمْ، وَأَظْهَرَهُمْ عَلَى مَا شَاءَ مِنْ غَيْبِهِ لِيُبَلِّغُوا عِبَادَهُ عَنْهُ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ.
الْغَيْبُ قِسْمَانِ حَقِيقِيٌّ وَإِضَافِيٌّ:
الْغَيْبُ مَا غَابَ عِلْمُهُ عَنِ النَّاسِ، وَهُوَ قِسْمَانِ: غَيْبٌ حَقِيقِيٌّ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ، وَغَيْبٌ إِضَافِيٌّ يُعْلِمُهُ بَعْضَ الْخَلْقِ دُونَ بَعْضٍ ; لِأَسْبَابٍ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الِاسْتِعْدَادِ الْفِطْرِيِّ وَالْعَمَلِ الْكَسْبِيِّ، وَمَنْ أَظْهَرَهُ اللهُ عَلَى بَعْضِ الْغَيْبِ الْحَقِيقِيِّ مِنْ رُسُلِهِ فَلَيْسَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ كَسْبٌ ; لِأَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ النُّبُوَّةِ غَيْرِ الْمُكْتَسَبَةِ.
وَمِنْ دُونِهِمْ أَفْرَادٌ مِنْ خَوَاصِّ أَتْبَاعِهِمْ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْإِشْرَافِ عَلَى ذَلِكَ الْعَالَمِ بِانْكِشَافِ
184
مَا لِلْحِجَابِ، وَإِدْرَاكِ مَا لِشَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْأَنْوَارِ، كَانَ بِهَا إِيمَانُهُمْ بِرُسُلِهِمْ فَوْقَ إِيمَانِ أَهْلِ الْبُرْهَانِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ كُشِفَ الْحِجَابُ مَا ازْدَدْتُ يَقِينًا.
وَمِنْ دُونِ هَؤُلَاءِ أَفْرَادٌ آخَرُونَ، قَدْ يَكُونُ مَنْ لَهُمْ سَلَامَةُ الْفِطْرَةِ، أَوْ مُعَالَجَةُ النَّفْسِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الرِّيَاضَةِ أَوْ مِنْ طُرُوءِ مَرَضٍ يَصْرِفُ قُوَى النَّفْسِ عَنِ الِاهْتِمَامِ بِشَهَوَاتِ الْجَسَدِ، أَوْ مِنْ سُلْطَانِ إِرَادَةٍ قَوِيَّةٍ عَلَى إِرَادَةٍ ضَعِيفَةٍ، تَصْرِفُهَا عَنْ حِسِّهَا، وَتُوَجِّهُ قُوَاهَا النَّفْسِيَّةَ إِلَى مَا شَاءَتْ أَنْ تُدْرِكَهُ لِقُوَّتِهَا الْخَاصَّةِ بِهَا - قَدْ يَكُونُ لِهَؤُلَاءِ الْأَفْرَادِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ مِنْ قُوَّةِ الرُّوحِ مَا يَلْمَحُونَ بِهِ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ أَوِ الْأَشْخَاصِ الْبَعِيدَةِ عَنْهُمْ، وَتَتَمَثَّلُ لَهُمْ بَعْضُ الْأُمُورِ قَبْلَ وُقُوعِهَا مُرْتَسِمَةً فِي خَيَالِهِمْ، فَيُخْبِرُونَ بِهَا فَتَقَعُ كَمَا أَخْبَرُوا.
الْخَوَارِقُ الْحَقِيقِيَّةُ وَالصُّورِيَّةُ عِنْدَ الْأُمَمِ:
إِنَّ الْأُمُورَ الَّتِي تَأَتَّى فِي الظَّاهِرِ عَلَى غَيْرِ السُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ، أَوِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَاتِ الْمَأْلُوفَةِ مَنْقُولَةٌ عَنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ فِي جَمِيعِ الْعُصُورِ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا فِي جِنْسِهِ دُونَ أَفْرَادِ وَقَائِعِهِ وَلَيْسَتْ كُلُّهَا خَوَارِقَ حَقِيقِيَّةً، فَإِنَّ مِنْهَا مَا لَهُ أَسْبَابٌ مَجْهُولَةٌ لِلْجُمْهُورِ، وَإِنَّ مِنْهَا لِمَا هُوَ صِنَاعِيٌّ يُسْتَفَادُ بِتَعْلِيمٍ خَاصٍّ، وَإِنَّ مِنْهَا لِمَا هُوَ مِنْ خَصَائِصِ قُوَى النَّفْسِ وَتَأْثِيرِ أَقْوِيَاءِ الْإِرَادَةِ، فِي ضُعَفَائِهَا وَيَدْخُلُ فِي هَذَيْنِ الْمُكَاشَفَةُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَالتَّنْوِيمُ الْمِغْنَاطِيسِيُّ، وَشِفَاءُ بَعْضِ الْمَرْضَى وَلَا سِيَّمَا الْمُصَابِينَ بِالْأَمْرَاضِ الْعَصَبِيَّةِ الَّتِي يُؤَثِّرُ فِيهَا الِاعْتِقَادُ وَالْوَهْمُ، وَمِنْهَا بَعْضُ أَنْوَاعِ الْعَمَى وَالْفَالِجِ، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَفْقِدُ بَصَرَهُ بِمَرَضٍ يَطْرَأُ عَلَى أَعْصَابِ عَيْنَيْهِ وَهُمَا صَحِيحَتَانِ تَلْمَعَانِ فِي وَجْهِهِ، أَوْ يَغْشَاهُمَا بَيَاضٌ عَارِضٌ مَعَ بَقَاءِ طَبَقَاتِهِمَا صَحِيحَةً. وَلَيْسَ مِنْهُ الْكَمَهُ وَالْعَمَى الَّذِي يَقَعُ بِطَمْسِ الْعَيْنَيْنِ وَغُئُورِهِمَا كَالَّذِي أَبْرَأَهُ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْأَنْوَاعَ مِنَ الْخَوَارِقِ الصُّورِيَّةِ فِي بَحْثِ السِّحْرِ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَفِي الْمَقَالَاتِ الَّتِي عَقَدْنَاهَا لِلْكَرَامَاتِ وَأَنْوَاعِهَا وَتَعْلِيلِهَا فِي الْمُجَلَّدِ الثَّانِي مِنَ الْمَنَارِ وَأَتْمَمْنَاهَا فِي الْمُجَلَّدِ السَّادِسِ مِنْهُ.
إِنَّ عَوَامَّ الشُّعُوبِ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ تَوَارِيخَ الْأُمَمِ، وَمَا وُجِدَ عِنْدَ كُلٍّ مِنْهَا مِنْ هَذِهِ الْغَرَائِبِ، وَمَا كَشَفَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ حِيَلٍ فِيهَا وَعِلَلٍ، يَغْتَرُّونَ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْهَا، وَيَخْضَعُونَ
لِلدَّجَّالِينَ وَالْمُحْتَالِينَ الَّذِينَ يَنْتَحِلُونَهَا، وَيُمَكِّنُونَهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَيَسْلُبُونَهَا، وَيَأْتَمِنُونَهُمْ عَلَى أَعْرَاضِهِمْ فَيَنْتَهِكُونَهَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانُوا يَأْتُونَ مَا يَأْتُونَ مِنْهَا عَلَى أَنَّهُ مِنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَعَجَائِبِ الْقِدِّيسِينَ، وَيَقِلُّ تَصْدِيقُ هَذَا وَالِانْقِيَادُ لِأَهْلِهِ حَيْثُ يَنْتَشِرُ تَعْلِيمُ التَّوَارِيخِ وَمَا عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ مِنْ ذَلِكَ
185
عَلَى أَنَّهُ لَا يَزَالُ كَثِيرًا فِي جَمِيعِ بِلَادِ أُورُبَّةَ وَأَمْرِيكَةَ، وَلَعَلَّهُ دُونَ مَا فِي بِلَادِ الشَّرْقِ وَلَا سِيَّمَا الْقُرَى وَهَمَجِ الزُّنُوجِ وَغَيْرِهِمْ.
بَيْدَ أَنَّ آيَاتِ اللهِ الْحَقِيقِيَّةَ الَّتِي نُسَمِّيهَا الْمُعْجِزَاتِ، هِيَ فَوْقَ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الصِّنَاعِيَّةِ الْغَرِيبَةِ لَا كَسْبَ لِأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ وَلَا صُنْعَ لَهُمْ فِيهَا، وَإِنَّ مَا أَيَّدَ بِهِ رُسُلَهُ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ بِكَسْبِهِمْ وَلَا عَمَلِهِمْ وَلَا تَأْثِيرِهِمْ حَتَّى مَا يَكُونُ بَدْؤُهُ بِحَرَكَةٍ إِرَادِيَّةٍ يَأْمُرُهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهَا، أَلَمْ يَهْدِ لَكَ كَيْفَ خَافَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ تَحَوَّلَتْ عَصَاهُ حَيَّةً تَسْعَى، فَوَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ لِشِدَّةِ خَوْفِهِ مِنْهَا، حَتَّى هَدَّأَ اللهُ رَوْعَهُ وَأَمَّنَ خَوْفَهُ؟ أَوَلَمْ تَقْرَأْ قَوْلَهُ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى) (٨: ١٧) ؟ أَوَلَمْ تَفْهَمْ مَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُجِيبَ مُقْتَرِحِي الْآيَاتِ عَلَيْهِ مِنْ قَوْمِهِ بِقَوْلِهِ: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا) (١٧: ٩٣) وَقَوْلِهِ: (قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللهِ) (٢٩: ٥٠) وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا.
جَهِلَ هَذَا الْأَصْلَ الْمُحْكَمَ مِنْ عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ أَدْعِيَاءُ الْعِلْمِ مِنْ سَدَنَةِ الْقُبُورِ الْمَعْبُودَةِ وَغَيْرِهِمْ فَظَنُّوا أَنَّ الْمُعْجِزَاتِ وَالْكَرَامَاتِ أُمُورٌ كَسَبِيَّةٌ كَالصِّنَاعَاتِ الْعَادِيَّةِ، وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ يَفْعَلُونَهَا بِاخْتِيَارِهِمْ فِي حَيَاتِهِمْ وَبَعْدَ مَمَاتِهِمْ مَتَى شَاءُوا، وَيُغْرُونَ النَّاسَ بِإِتْيَانِ قُبُورِهِمْ وَلَوْ بِشَدِّ الرِّحَالِ إِلَيْهَا لِدُعَائِهِمْ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ وَالشَّدَائِدِ، الَّتِي يَعْجِزُونَ عَنْ دَفْعِهَا بِكَسْبِهِمْ وَكَسْبِ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْبَشَرِ بِالْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ كَالْأَطِبَّاءِ مَثَلًا، وَبِالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِمْ بِالنُّذُورِ وَالْقَرَابِينِ كَمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى آلِهَتِهِمْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا، وَهُمْ يَأْكُلُونَهَا سُحْتًا حَرَامًا، وَيُخْبِرُونَهُمْ بِأَنَّ دِينَ اللهِ تَعَالَى يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّهُمْ يَقْضُونَ حَوَائِجَهُمْ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ بِأَجْسَادِهِمْ وَيَتَوَلَّوْنَ قَضَاءَ الْحَاجَاتِ، وَكَشْفَ الْكُرُبَاتِ، وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَمَا كَانَتْ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي كِتَابٍ مَطْبُوعٍ: إِنَّ فُلَانًا مِنَ الْأَقْطَابِ يُمِيتُ وَيُحْيِي، وَيُسْعِدُ وَيُشْقِي، وَيُفْقِرُ وَيُغْنِي.
الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُعْجِزَةِ وَالْكَرَامَةِ:
أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُؤَيِّدْ رُسُلَهُ بِمَا أَيَّدَهُمْ بِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ إِلَّا لِتَكَوُّنَ حُجَّةً لَهُمْ عَلَى أَقْوَامِهِمْ يَهْدِي بِهَا الْمُسْتَعِدَّ لِلْهِدَايَةِ، وَتَحِقُّ بِهَا الْكَلِمَةُ عَلَى الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ فَتَقَعُ عَلَيْهِمُ الْعُقُوبَةُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِإِظْهَارِهَا، فَهُوَ وَاجِبٌ لِإِتْمَامِ تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ الَّتِي أُرْسِلُوا لِتَبْلِيغِهَا، وَمَا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ يَدْعُونَ اللهَ تَعَالَى بِشَيْءٍ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ غَيْرِ حُجَّةِ الرِّسَالَةِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ كَالِاسْتِسْقَاءِ وَكَانَ خَاتَمُهُمْ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى يَصْبِرُ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الْمَرَضِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَلَا يَدْعُو لَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا يُزِيلُ ذَلِكَ إِلَّا نَادِرًا، وَقَدْ سَأَلَتْهُ الْمَرْأَةُ الَّتِي كَانَتْ تُصْرَعُ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ لَهَا بِالشِّفَاءِ فَأَرْشَدَهَا إِلَى أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى مُصِيبَتِهَا خَيْرٌ لَهَا. فَشَكَتْ إِلَيْهِ أَنَّهَا تَتَكَشَّفُ عِنْدَ النَّوْبَةِ وَأَنْ يَدْعُوَ لَهَا أَلَّا تَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا وَاسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ.
186
وَالْأَصْلُ فِي الْكَرَامَةِ الْإِخْفَاءُ وَالْكِتْمَانُ، وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ ظُهُورُهَا فِتْنَةً لِلنَّاسِ، وَمَا كَانَ أَهْلُهَا يُظْهِرُونَ مَا لَهُمْ كَسْبٌ فِيهِ مِنْهَا كَالْمُكَاشِفَةِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْعُلَمَاءُ وَالصُّوفِيَّةُ فَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَهُمْ خِلَافًا لِلْمَشْهُورِ بَيْنَ الْعَامَّةِ.
قَالَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ فِي سِيَاقِ حُجَجِ مُنْكِرِي جَوَازِ وُقُوعِ الْكَرَامَاتِ مِنْ طَبَقَاتِ الشَّافِعِيَّةِ: (الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ) قَالُوا: لَوْ جَازَتِ الْكَرَامَةُ لَاشْتَبَهَتْ بِالْمُعْجِزَةِ، فَلَا تَدُلُّ الْمُعْجِزَةُ عَلَى ثُبُوتِ النُّبُوَّةِ. وَالْجَوَابُ: مَنْعُ الِاشْتِبَاهِ، بِقَرْنِ الْمُعْجِزَةِ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ، دُونَ الْكَرَامَةِ فَهِيَ إِنَّمَا تَقْتَرِنُ بِكَمَالِ اتِّبَاعِ النَّبِيِّ مِنَ الْوَلِيِّ - وَأَيْضًا فَالْمُعْجِزَةُ يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهَا الِاشْتِهَارُ، وَالْكَرَامَةُ مَبْنَاهَا عَلَى الْإِخْفَاءِ، وَلَا تَظْهَرُ إِلَّا عَلَى النُّدْرَةِ وَالْخُصُوصِ، لَا عَلَى الْكَثْرَةِ وَالْعُمُومِ، وَأَيْضًا فَالْمُعْجِزَةُ يَجُوزُ أَنْ تَقَعَ بِجَمِيعِ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَالْكَرَامَةُ تَخْتَصُّ بِبَعْضِهَا، كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ كَلَامِ الْقُشَيْرِيِّ وَهُوَ الصَّحِيحُ اهـ. ثُمَّ قَالَ:
(الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ) قَالُوا: لَوْ جَازَ ظُهُورُ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ عَلَى أَيْدِي الصَّالِحِينَ لَمَا أَمْكَنَ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى نُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ بِظُهُورِهَا عَلَى أَيْدِيهِمْ، لِجَوَازِ أَنْ تَظْهَرَ عَلَى يَدِ الْوَلِيِّ سِرًّا، فَإِنَّ مِنْ أُصُولِ مُعْظَمِ جَمَاعَتِكُمْ أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ لَا يُظْهِرُونَ الْكَرَامَاتِ وَلَا يَدْعُونَ بِهَا، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ سِرًّا وَرَاءَ سُتُورٍ، وَيَتَخَصَّصُ بِالِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا آحَادُ النَّاسِ،
وَيَكُونُ ظُهُورُهَا سِرًّا مُسْتَمِرًّا بِحَيْثُ لَا يَلْتَحِقُ بِحُكْمِ الْمُعْتَادِ، فَإِذَا ظَهَرَ نَبِيٌّ وَتَحَدَّى بِمُعْجِزَةٍ، جَازَ أَنْ تَكُونَ مِمَّا اعْتَادَهُ أَوْلِيَاءُ عَصْرِهِ مِنَ الْكَرَامَاتِ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّهِ خَرْقُ الْعَادَةِ، فَكَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى تَصْدِيقِهِ مَعَ عَدَمِ تَحَقُّقِ خَرْقِ الْعَوَائِدِ فِي حَقِّهِ؟ وَأَيْضًا تَكَرُّرُ الْكَرَامَةِ يُلْحِقُهَا بِالْمُعْتَادِ فِي حَقِّ الْأَوْلِيَاءِ، وَذَلِكَ يَصُدُّهُمْ عَنْ تَصْحِيحِ النَّظَرِ فِي الْمُعْجِزَةِ إِذَا ظَهَرَ نَبِيٌّ فِي زَمَنِهِمْ))
وَقَالَ فِي الْجَوَابِ: لِأَئِمَّتِنَا وَجْهَانِ الْأَوَّلُ مَنْعُ تَوَالِي الْكَرَامَاتِ وَاسْتِمْرَارُهَا حَتَّى تَصِيرَ فِي حُكْمِ الْعَوَائِدِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ظُهُورُهَا عَلَى وَجْهٍ لَا تَصِيرُ عَادَةً فَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرُوهُ وَالثَّانِي - وَهُوَ لِمُعْظَمِ أَئِمَّتِنَا - قَالُوا: إِنَّهُ يَجُوزُ تَوَالِي الْكَرَامَاتِ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِفَاءِ بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ وَلَا يَشِيعُ وَلَا يُعْتَادُ، لِئَلَّا تَخْرُجَ الْكَرَامَاتُ عَنْ كَوْنِهَا كَرَامَاتٍ. انْتَهَى مِنْ مُجَلَّدِ الْمَنَارِ الثَّانِي.
وَأَقُولُ: إِنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الصُّوفِيَّةِ يُوَافِقُونَ عُلَمَاءَ الْكَلَامِ وَالْأُصُولِ عَلَى مَنْعِ تَوَالِي الْكَرَامَاتِ وَتَكْرَارِهَا، وَمَنْعِ إِظْهَارِهَا، وَقَالَ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ عَرَبِيٍّ: إِنَّ مَا يَتَكَرَّرُ لَا يَكُونُ كَرَامَةً لِأَنَّهُ يَكُونُ عَادَةً، وَإِنَّمَا الْكَرَامَةُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَقَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الرِّفَاعِيُّ إِنَّ الْأَوْلِيَاءَ يَسْتَتِرُونَ مِنَ الْكَرَامَةِ كَمَا تَسْتَتِرُ الْمَرْأَةُ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ، فَأَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالُ مِمَّا عَلَيْهِ الدَّجَّالُونَ الْخُرَافِيُّونَ وَسَدَنَةُ الْقُبُورِ الْمُعْتَقِدَةُ مِنْ زَعْمِهِمْ أَنَّ الْكَرَامَةَ الْوَاحِدَةَ تَتَكَرَّرُ لِأَوْلِيَاءَ كَثِيرِينَ مِنَ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ مِرَارًا كَثِيرَةً وَكُلُّهَا ظَاهِرَةٌ ذَائِعَةٌ شَائِعَةٌ، بَلْ صِنَاعَةٌ ذَاتُ بِضَاعَةٍ رَابِحَةٍ؟
187
الْكَافِرُونَ بِالْآيَاتِ صِنْفَانِ. مُكَذِّبُونَ وَمُشْرِكُونَ، وَعِلَاجُ كُلٍّ مِنْهُمَا:
الْكَافِرُونَ بِآيَاتِ اللهِ تَعَالَى صِنْفَانِ: صِنْفٌ يُكَذِّبُهَا كُلَّهَا وَلَا يُؤْمِنُونَ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَصِنْفٌ يُشْرِكُ بِاللهِ غَيْرَهُ فِيهَا، فَيَنْحَلُهُ مَا هُوَ خَاصٌّ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ سِوَاهُ، وَيُشَرِّعُ لِلنَّاسِ أَنْ يَعْبُدُوا هَؤُلَاءِ الْأَغْيَارَ بِدُعَائِهِمْ مِنْ دُونِهِ، وَاسْتِغَاثَتِهِمْ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، بِدَعْوَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي أَعْطَاهُمُ الْقُدْرَةَ الْغَيْبِيَّةَ عَلَى ذَلِكَ لِمَحَبَّتِهِ لَهُمْ وَجَاهِهِمْ عِنْدَهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الَّذِي أَشْرَكَهُمْ مَعَهُ فَأَعْطَاهُمْ هَذَا التَّصَرُّفَ فِي عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَتَحَامَوْنَ أَلْفَاظَ الْعِبَادَةِ وَالشِّرْكِ وَالْخَلْقِ دُونَ مَعَانِيهَا، فَيَكْذِبُونَ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَعَلَيْهِمْ بِمَا يُكَذِّبُهُمْ بِهِ كِتَابُهُ الْمُنَزَّلُ، وَنَبِيُّهُ الْمُرْسَلُ، وَلَكِنَّهُمْ يُحَرِّفُونَ
آيَاتِ الْكِتَابِ فَيَحْتَجُّونَ بِهَا عَلَى جَهْلِهِمْ، فَيَذْكُرُونَ أَنَّ اللهَ كَانَ يَرْزُقُ مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَمَا كَانَ رِزْقُهَا مِنْ فِعْلِهَا، وَلَا يَدْرِي أَحَدٌ كَيْفَ سَخَّرَهُ اللهُ لَهَا، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ بِتَسْخِيرِ بَعْضِ النَّاسِ لَهَا، وَوَحْيِهِ إِلَى أُمِّ مُوسَى وَمَا هُوَ مِنْ فِعْلِهَا. وَقَدْ قِيلَ بِنُبُوَّتِهَا.
وَإِنَّ إِفْسَادَ هَؤُلَاءِ الْخُرَافِيِّينَ لِلْبَشَرِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ لَأَشَدُّ مِنْ إِفْسَادِ الْمُنْكِرِينَ لِلْآيَاتِ الْمُكَذِّبِينَ بِهَا، بِأَنَّهُمْ أَكْبَرُ أَسْبَابِ هَذَا الْإِنْكَارِ وَالتَّكْذِيبِ بِزَعْمِهِمْ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَمَنْ دُونَهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ يَتَصَرَّفُونَ فِي الْخَلْقِ بِمَا يُخَالِفُ سُنَنَ اللهِ تَعَالَى فِيهِ، أَوْ يُبَدِّلُهَا بِغَيْرِهَا وَيُحَوِّلُهَا عَمَّا وُضِعَتْ لَهُ. وَزَعْمُهُمْ أَنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي دَعَا النَّاسَ إِلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ وَجَعَلَهُ أَسَاسَ دِينِهِ، فَكَذَّبُوا بِالدِّينِ مِنْ أَسَاسِهِ، فَتَكُونُ فِتْنَتُهُمْ شَامِلَةً لِفَرِيقَيِ الْكَفَّارِ بِالْآيَاتِ - فَرِيقِ الْمُكَذِّبِينَ وَفَرِيقِ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ مَعَ هَذَا قَوْلٌ عَلَى اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَافْتِرَاءٌ عَلَى اللهِ بِكَوْنِهِ شَرْعًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ، وَهُوَ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ بِاللهِ ; لِأَنَّ ضَرَرَهُ مُتَعَدٍّ بِمَا فِيهِ مِنْ إِضْلَالِ النَّاسِ بِاعْتِقَادٍ بَاطِلٍ يَتْبَعُهُ عِبَادَةٌ بَاطِلَةٌ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ.
عِلَاجُ خُرَافَةِ تَصَرُّفِ الْأَوْلِيَاءِ فِي الْكَوْنِ:
أَمَّا الَّذِينَ يُشْرِكُونَ بِاللهِ فِي عِبَادَتِهِ بِجَهْلِهِمْ لِآيَاتِهِ، وَتَقْلِيدِ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فِي خُرَافَاتِهِمْ فَلَا عِلَاجَ لَهُمْ إِلَّا تَعْلِيمُهُمْ تَوْحِيدَ اللهِ الْخَالِصَ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ، دُونَ نَظَرِيَّاتِ كُتُبِ الْكَلَامِ، وَتَعْلِيمُهُمْ وَظَائِفَ الرُّسُلِ وَكَوْنَهُمْ بَشَرًا، اخْتَصَّهُمُ اللهُ تَعَالَى بِوَحْيِهِ لِتَبْلِيغِ عِبَادِهِ مَا ارْتَضَاهُ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَحَصْرِ اخْتِصَاصِهِمْ بِالتَّعْلِيمِ وَالْإِرْشَادِ تَبْشِيرًا وَإِنْذَارًا وَتَنْفِيذِ أَحْكَامِ شَرْعِهِ فِيهِمْ بِالْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ، وَلَمْ يُؤْتِهِمْ مِنَ التَّصَرُّفِ الْفِعْلِيِّ فِي خَلْقِهِ مَا يَقْدِرُونَ بِهِ عَلَى هِدَايَةِ أَقْرَبِ النَّاسِ وَأَحَبِّهِمْ إِلَيْهِمْ بِالطَّبْعِ كَالْوَالِدِ وَالْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ وَمَنْ دُونَهُمْ مِنْ أُولِي الْقُرْبَى، فَوَالِدُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَاشَ كَافِرًا وَمَاتَ كَافِرًا عَدُوًّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَخَلِيلِهِ وَوَلَدُ نُوحٍ
188
أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى الْأُمَمِ مَاتَ كَافِرًا وَلَمْ يَأْذَنِ اللهُ تَعَالَى لَهُ بِحَمْلِهِ فِي السَّفِينَةِ فَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ الْمُغْرَقِينَ، وَكَانَ أَبُو لَهَبٍ عَمُّ مُحَمَّدٍ حَبِيبِ اللهِ وَرَسُولِهِ أَشَدَّ أَعْدَائِهِ الصَّادِّينَ عَنْهُ الْمُؤْذِينَ لَهُ، وَأَنْزَلَ اللهُ فِي ذَمِّهِ وَوَعِيدِهِ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ يَتَعَبَّدُ بِهَا
الْمُؤْمِنُونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَمْ يَنْزِلْ مِثْلُهَا فِي أَحَدٍ مِنْ أَعْدَائِهِ وَأَعْدَاءِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بَلْ كَانَ مِنْ كَمَالِ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى أَنَّ عَمَّهُ الَّذِي كَفَلَهُ وَرَبَّاهُ وَكَفَّ عَنْهُ أَذَى الْمُشْرِكِينَ مَا اسْتَطَاعَ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ، وَقَدْ عَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْطِقَ بِكَلِمَةِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) لِيَشْهَدَ لَهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَامْتَنَعَ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا الْمَوْضُوعَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) (٦: ٧٤) الْآيَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَّا فِي خُلَاصَةِ هَذِهِ السُّورَةِ (الْأَنْعَامِ) وَظَائِفَ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِمَا يَحْسُنُ أَنْ يُرَاجِعَهُ مَنْ يُحِبُّ اسْتِيفَاءَ هَذَا الْمَوْضُوعِ وَإِذَا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ الْمُرْسَلُونَ لَمْ يُؤْتُوا الْقُدْرَةَ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْكَوْنِ فَكَيْفَ يُؤْتَاهُ الْأَوْلِيَاءُ وَغَيْرُهُمْ؟
الْمُنْكِرُونَ لِلْمُعْجِزَاتِ وَشُبْهَةُ الْخَوَارِقِ الْكَسْبِيَّةِ عَلَيْهَا:
وَأَمَّا الْمُنْكِرُونَ لَهَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ إِلَّا بِالْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ فَهُمْ لَا يُصَدِّقُونَ مَا يَنْقُلُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ آيَاتِ مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهَا مِنَ النَّبِيِّينَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَلَا يُسَلِّمُونَ صِحَّةَ تَوَاتُرِهَا، إِذْ يَقِيسُونَ نَقْلَهُمْ لَهَا عَلَى مَا يَنْقُلُهُ الْعَوَامُّ فِي كُلِّ عَصْرٍ عَنْ بَعْضِ الْمُعْتَقِدِينَ فِي بِلَادِهِمْ مِنَ الْخَوَارِقِ الْخَادِعَةِ الَّتِي مَثَارُهَا الْوَهْمُ وَالتَّخَيُّلُ، وَيَحْتَجُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ يُوسِيفُوسَ الْمُؤَرِّخَ الْيَهُودِيَّ الْمُعَاصِرَ لِلْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَنْقُلْ لِلنَّاسِ أَخْبَارَ عَجَائِبِهِ الَّتِي تَقُصُّهَا الْأَنَاجِيلُ الَّتِي أُلِّفَتْ بَعْدَهُ، وَيُعَلِّلُونَهَا عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ النَّقْلِ بِمَا يُعَلِّلُونَ بِهِ الْخَوَارِقَ الصُّورِيَّةَ الَّتِي يُشَاهِدُونَهَا فِي كُلِّ عَصْرٍ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِيعُوا تَعْلِيلَهَا قَالُوا: إِنَّهُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ سَبَبٍ كَسْبِيٍّ يَظْهَرُ لَنَا أَوْ يَعْتَرِفُ بِهِ فَاعِلُوهَا، كَمَا وَقَعَ فِي أَمْثَالِهَا مِنْ صُوفِيَّةِ الْهِنْدُوسِ (الْفُقَرَاءِ) كَالِارْتِفَاعِ فِي الْهَوَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ أَغْرَبُ مِنْهُ.
رَوَتْ إِحْدَى الْجَرَائِدِ الْمِصْرِيَّةِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مِنْ أَخْبَارِ سَائِحِي الْإِفْرِنْجِ فِي الْهِنْدِ حَادِثَةً لِفَقِيرٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ اسْمُهُ سَارَجُوهَا رَدْيَاسْ وَقَعَتْ فِي سَنَةِ ١٨٣٧، وَخُلَاصَتُهَا أَنَّ هَذَا الْفَقِيرَ جَاءَ قَصْرَ الْمَهَرَاجَا رَانْجِيتْ سَنْجَا أَمِيرِ بَنْجَابَ وَعَرَضَ
عَلَيْهِ أَنْ يُرِيَهُ بَعْضَ كَرَامَاتِهِ، وَكَانَ الْمَهَرَاجَا لَا يُصَدِّقُ مَا يُنْقَلُ مِنْ خَوَارِقِ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ، فَسَأَلَهُ عَمَّا يُرِيدُ
189
إِظْهَارَهُ فَقَالَ: إِنَّهُ يُدْفَنُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ يَعُودُ إِلَيْهِمْ حَيًّا، فَأَحْضَرَ الْمَهَرَاجَا نَفَرًا مِنْ أَطِبَّاءِ الْإِنْكِلِيزِ وَالْفَرَنْسِيسِ وَأُمَرَاءِ بَنْجَابَ، فَجَلَسَ الْفَقِيرُ الْقُرْفُصَاءَ أَمَامَهُمْ فَكَفَّنُوهُ بَعْدَ أَنْ وَضَعُوا الْقُطْنَ وَالشَّمْعَ عَلَى أُذُنَيْهِ وَأَنْفِهِ - كَمَا أَوْصَاهُمْ - وَخَاطُوا عَلَيْهِ الْكَفَنَ وَوَضَعُوهُ فِي صُنْدُوقٍ مِنَ الْخَشَبِ السَّمِيكِ وَسَمَّرُوا غِطَاءَهُ وَوَضَعَ الْمَهَرَاجَا عَلَيْهِ خِتْمَهُ، وَدَفَنُوهُ فِي قَبْوٍ دَاخِلَ حُجْرَةٍ صَغِيرَةٍ فِي حَدِيقَةِ الْقَصْرِ وَأَقْفَلُوا بَابَهَا وَوَضَعَ الْمَهَرَاجَا خِتْمَهُ بِالشَّمْعِ عَلَى قُفْلِهَا، وَأَمَرَ اثْنَيْنِ مِنْ رِجَالِ حَرَسِهِ الْأُمَنَاءِ بِحِرَاسَتِهَا وَطَائِفَةً مِنْ جُنْدِهِ بِمُعَاوَنَتِهِمَا، وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِمَشْهَدِ مَنْ حَضَرَ مِنَ الْأُورُبِّيِّينَ وَالْبَنْجَابِيِّينَ وَحَاشِيَةِ الْمَهَرَاجَا.
وَلَمَّا تَمَّتِ الْأَرْبَعُونَ حَضَرَ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ قَصْرَ الْمَهَرَاجَا وَشَاهَدُوا خِتْمَ الْحُجْرَةِ كَمَا كَانَ، وَالْعُشْبَ أَمَامَهَا فِي الْحَدِيقَةِ لَمْ تَطَأْهُ قَدَمُ أَحَدٍ، ثُمَّ فَتَحُوا بَابَ الْحُجْرَةِ وَامْتَحَنُوا أَخْتَامَ الْقَبْوِ ثُمَّ أَخْرَجُوا الصُّنْدُوقَ وَامْتَحَنُوا أَخْتَامَهُ فَوَجَدُوهَا كُلَّهَا عَلَى حَالِهَا، فَفَتَحُوهُ، وَأَخْرَجُوا الْفَقِيرَ مِنْهُ فَإِذَا هُوَ كَمَا وَصَفَهُ أَحَدُ أُولَئِكَ مِنَ الْإِنْجِلِيزِ. قَالَ:
لَمَّا فَتَحُوا الصُّنْدُوقَ وَأَخْرَجُوا الْفَقِيرَ مِنْهُ وَجَدْتُ الذِّرَاعَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ صُلْبَةً وَالرَّأْسَ مَائِلًا عَلَى إِحْدَى الْكَتِفَيْنِ، فَخِلْتُنِي أَمَامَ جُثَّةٍ هَامِدَةٍ فَارَقَتْهَا الْحَيَاةُ مُنْذُ أَمَدٍ بَعِيدٍ، فَطَلَبْتُ مِنْ طَبِيبِي أَنْ يَفْحَصَهَا فَانْحَنَى عَلَيْهَا وَجَسَّ الْقَلْبَ وَالصُّدْغَيْنِ وَالذِّرَاعَيْنِ وَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَجِدْ أَثَرًا لِلنَّبْضِ أَلْبَتَّةَ، وَلَكِنَّهُ شَعَرَ بِحَرَارَةٍ فِي مِنْطَقَةِ الدِّمَاغِ إِلَخْ.
ثُمَّ نَفَّذَ مَا أَوْصَى الْفَقِيرُ أَنْ يُعْمَلَ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ، فَغَسَلَ الْجِسْمَ بِالْمَاءِ الْحَارِّ فَرَدَّ عَلَى الْأَوْصَالِ لِينَهَا السَّابِقَ بِالتَّدْرِيجِ، وَأُزِيلَ الْقُطْنُ وَالشَّمْعُ عَنِ الْأُذُنَيْنِ وَالْأَنْفِ وَوُضِعَتْ أَكْيَاسٌ دَافِئَةٌ عَلَى الرَّأْسِ فَدَبَّتِ الْحَيَاةُ فِي الْجَسَدِ الْمُسَجَّى، وَتَقَلَّصَتِ الْأَعْصَابُ وَالْأَطْرَافُ ثُمَّ اضْطَرَبَتْ فَسَالَ مِنْهَا عَرَقٌ غَزِيرٌ وَعَادَتِ الْأَعْضَاءُ إِلَى حَالَتِهَا الْأُولَى، وَبَعْدَ دَقَائِقَ اتَّسَعَتْ حَدَقَتَا الْعَيْنَيْنِ وَعَادَ إِلَيْهِمَا لَوْنُهُمَا الطَّبِيعِيُّ، فَلَمَّا رَأَى الْفَقِيرُ الْمَهَرَاجَا شَاخِصًا إِلَيْهِ دَهِشًا مُتَحَيِّرًا قَالَ لَهُ: ((أَرَأَيْتَ يَا مَوْلَايَ صِدْقَ قَوْلِي وَفِعْلِي؟ وَبَعْدَ نِصْفِ سَاعَةٍ خَرَجَ مِنَ التَّابُوتِ وَأَنْشَأَ يُحَدِّثُ الْحَاضِرِينَ أَحْسَنَ حَدِيثٍ وَيُطْرِفُهُمْ بِمَا يُحَيِّرُ الْعُقُولَ. اهـ.
إِنَّ هَذِهِ الْحَادِثَةَ مِنْ آيَاتِ اللهِ الَّتِي أَظْهَرَتْهَا الرِّيَاضَةُ الْمُكْتَسَبَةُ، وَهِيَ أَعْجَبُ مِنْ رِوَايَةِ الْإِنْجِيلِ لِمَوْتِ لِيعَازِرَ ثُمَّ حَيَاتِهِ بِدُعَاءِ الْمَسِيحِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَحْثِ عَجَائِبِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَغْرَبُ مِنْ حَادِثَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ أَيْضًا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَإِنَّ الْفَقِيرَ الْهِنْدِيَّ قَدْ سُدَّ أَنْفُهُ وَلُفَّ فِي كَفَنٍ وَوُضِعَ فِي تَابُوتٍ دُفِنَ تَحْتَ الْأَرْضِ، فَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْهَوَاءِ الَّذِي لَا يَعِيشُ أَحَدٌ بِدُونِهِ عَادَةً، وَأَهْلُ الْكَهْفِ نَامُوا فِي فَجْوَةٍ وَاسِعَةٍ مِنْ كَهْفٍ بَابُهُ إِلَى الشِّمَالِ، مَهَبِّ الْهَوَاءِ اللَّطِيفِ، وَكَانَتِ الشَّمْسُ تُصِيبُ مَدْخَلَهُ مِنْ جَانِبَيْهِ عِنْدَ شُرُوقِهَا وَعِنْدَ غُرُوبِهَا مَائِلَةً
190
مُتَزَاوِرَةً عَنْهُمْ، فَتُلَطِّفُ هَوَاءَهُ مِنْ حَيْثُ لَا تُصِيبُهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ أَكْبَرُ الْغَرَابَةِ فِي نَوْمِهِمْ طُولَ مُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِيهِ وَكَانَتْ طَوِيلَةً جِدًّا حَتَّى عَلَى نَقْلِ الْبَيْضَاوِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ) (١٨: ٢٥) الْآيَةَ - حِكَايَةٌ عَنْ بَعْضِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي أَمْرِهِمْ، فَإِنْ كَانَ خِلَافَ ظَاهِرِ السِّيَاقِ فَقَدْ يُقَوِّيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا: (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا) (١٨: ٢٦) وَاللهُ أَعْلَمُ بِكُلِّ حَالٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَإِنْ خَفِيَ سِرُّ آيَاتِهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَلَا شَيْءَ مِنَ الْأَمْرَيْنِ بِمُحَالٍ. وَقَدْ نَامَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَصْرِ بِمَرَضِ النَّوْمِ عِدَّةَ أَشْهُرٍ.
وَلَكِنْ مَا جَرَى لِلْفَقِيرِ الْهِنْدِيِّ مُخَالِفٌ لِسُنَّةِ الْحَيَاةِ الْعَامَّةِ فِي النَّاسِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ وَقَعَ بِطَرِيقَةٍ كَسَبِيَّةٍ مِنْ طَرَائِقَ رِيَاضَةِ هَؤُلَاءِ الصُّوفِيَّةِ لِأَبْدَانِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ بِمَا تَبْقَى بِهِ الْحَيَاةُ كَامِنَةً فِي أَجْسَادِهِمْ مِثْلَ هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ، مَعَ انْتِفَاءِ أَسْبَابِهَا الْعَامَّةِ فِي أَحْوَالِ النَّاسِ الِاعْتِيَادِيَّةِ مِنْ دَوْرَةِ الدَّمِ وَالنَّفَسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا وَجْهَ لِاتِّخَاذِ أَحَدٍ مِنَ الْعُقَلَاءِ إِنْكَارَ كُلِّ مَا يُخَالِفُ السُّنَنَ الْعَامَّةَ قَاعِدَةً عَامَّةً وَلَا سِيَّمَا فِعْلِ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ لَهَا وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ، وَوَاضِعُ نِظَامِ السُّنَنِ وَالْأَسْبَابِ بِمَشِيئَتِهِ، وَأَكْثَرُ مُنْكِرِي الْخَوَارِقِ يُؤْمِنُونَ بِهِ، وَإِنَّمَا يُنْكِرُونَ وُقُوعَ شَيْءٍ مُخَالِفٍ لِسُنَنِهِ بِأَنَّهُ مُنَافٍ لِحِكْمَتِهِ، وَمَنْ ذَا الَّذِي أَحَاطَ بِحِكَمِهِ أَوْ بِسُنَنِهِ عِلْمًا؟ وَإِنَّمَا الَّذِي يَقْضِي بِهِ الْعَقْلُ أَلَّا نُصَدِّقَ بِوُقُوعِ شَيْءٍ عَلَى خِلَافِ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ الْمُطَّرِدَةِ فِي نِظَامِ الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ إِلَّا إِذَا ثَبَتَ ثُبُوتًا قَطْعِيًّا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَاءِ الْمَادَّةِ وَعُلَمَاءِ النَّفْسِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ خَوَاصِّ
الْكَهْرَبَاءِ وَغَيْرِهَا مَا لَوْ قِيلَ لِعُقَلَاءِ النَّاسِ وَحُكَمَائِهِ قَبْلَ ثُبُوتِهِ بِالْفِعْلِ إِنَّهُ مِنَ الْمُمْكِنَاتِ، لَحَكَمُوا عَلَى مُدَّعِي إِمْكَانِهِ بِالْجُنُونِ لَا بِتَصْدِيقِ الْخُرَافَاتِ، كَمَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ.
الْفَرْقُ بَيْنَ الْخَوَارِقِ الْكَسْبِيَّةِ وَالْحَقِيقِيَّةِ:
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ أَسْرَارَ هَذَا الْكَوْنِ لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا خَالِقُهُ عَزَّ وَجَلَّ - وَأَنَّهُ قَدْ وُجِدَ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَقَائِعُ غَرِيبَةٌ تُعَدُّ مِنْ هَذِهِ الْأَسْرَارِ الْجَارِيَةِ عَلَى غَيْرِ نِظَامِ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْخَلْقِ، بِحَسَبِ مَا يَتَرَاءَى لِلْجُمْهُورِ بَادِيَ الرَّأْيِ، وَإِنَّ مَا يَتَنَاقَلُهُ الْجُمْهُورُ الْمُولَعُ بِالْغَرَائِبِ مِنْهَا - مِنْهُ مَا هُوَ كَذِبٌ مَحْضٌ، وَمِنْهُ مَا لَهُ أَسْبَابٌ عِلْمِيَّةٌ أَوْ صِنَاعِيَّةٌ خَفِيَّةٌ يَجْهَلُهَا الْأَكْثَرُونَ، وَمِنْهُ مَا يُظَنُّ أَنَّهُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَلَيْسَ مِنْهَا، وَمِنْهُ مَا سَبَبُهُ الْوَهْمُ كَشِفَاءِ بَعْضِ الْأَمْرَاضِ، أَوِ انْخِدَاعِ الْبَصَرِ بِالتَّخَيُّيِلِ الَّذِي يَحْذَقُهُ الْمُشَعْوِذُونَ، وَمِنْهُ مَا فَعَلَهُ سَحَرَةُ فِرْعَوْنَ الْمُبَيَّنُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) (٢٠: ٦٦) وَمِنْهُ انْخِدَاعُ السَّمْعِ كَالَّذِي يَفْعَلُهُ الَّذِينَ يَدَّعُونَ اسْتِخْدَامَ الْجِنِّ، إِذْ يَتَكَلَّمُونَ لَيْلًا بِأَصْوَاتٍ غَرِيبَةٍ غَيْرِ أَصْوَاتِهِمُ الْمُعْتَادَةِ فَيَظُنُّ مُصَدِّقُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ صَوْتُ الْجِنِّيِّ، وَقَدْ يَتَكَلَّمُونَ نَهَارًا مِنْ بُطُونِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَرِّكُوا شِفَاهَهُمْ، فَلَا يُوثَقُ بِشَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِهِمْ وَلَا مِنْ نَقْلِهِمْ - وَمِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى كَذِبِ الْمُنْتَحِلِينَ
191
لِهَذِهِ الْغَرَائِبِ أَنَّهُمْ جَعَلُوهَا وَسِيلَةً لِمَعَايِشِهِمُ الدَّنِيئَةِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا صَادِقِينَ فِيهَا لَتَنَافَسَ الْمُلُوكُ وَكِبَارُ عُلَمَاءِ الْكَوْنِ فِي صُحْبَتِهِمْ وَالِاهْتِدَاءِ بِهِمْ.
الْمُعْجِزَاتُ قِسْمَانِ: تَكْوِينِيَّةٌ وَرُوحَانِيَّةٌ تُشْبِهُ الْكَسْبِيَّةَ:
الْمُعْجِزَاتُ كُلُّهَا مِنَ اللهِ تَعَالَى لَا مِنْ كَسْبِ الْأَنْبِيَاءِ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَلَكِنَّهَا بِحَسَبِ مَظْهَرِهَا قِسْمَانِ: قِسْمٌ لَا يُعْرَفُ لَهُ سُنَّةٌ إِلَهِيَّةٌ يَجْرِي عَلَيْهَا فَهُوَ يُشْبِهُ الْأَحْكَامَ الِاسْتِثْنَائِيَّةَ فِي قَوَانِينِ الْحُكُومَاتِ أَوْ مَا يَكُونُ بِإِرَادَةٍ سَنِيَّةٍ مِنَ الْمُلُوكِ لِمَصْلَحَةٍ خَاصَّةٍ.
((وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى)) وَقِسْمٌ يَقَعُ بِسُنَّةٍ إِلَهِيَّةٍ رُوحَانِيَّةٍ لَا مَادِّيَّةٍ.
أَمَّا الْمَأْثُورُ مِنْ آيَاتِ اللهِ الَّتِي أَيَّدَ بِهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَثْبَتَهَا الْقُرْآنُ لَهُ، كَالْآيَاتِ التِّسْعِ بِمِصْرَ فَهِيَ مِنَ الْقَسَمِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْهَا بِكَسْبٍ لَهُ حَقِيقِيٍّ وَلَا صُورِيٍّ وَكَذَلِكَ الْآيَاتُ الْأُخْرَى الَّتِي ظَهَرَتْ فِي أَثْنَاءِ خُرُوجِهِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَمُدَّةَ التِّيهِ،
بَلْ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ بِفِعْلِ اللهِ تَعَالَى بِدُونِ سَبَبٍ كَسْبِيٍّ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَّا مَا يَأْمُرُهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ ضَرْبِ الْبَحْرِ أَوِ الْحَجَرِ بِعَصَاهُ الَّتِي هِيَ آيَتُهُ الْكُبْرَى، وَلَمْ يَرِدْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ آيَةٌ كَهَذِهِ الْآيَاتِ فَضْلًا عَمَّنْ دُونَهُمْ، وَلَا هِيَ مِمَّا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَكُونُ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ بِالرِّيَاضَةِ الرُّوحِيَّةِ أَوْ خَوَاصِّ الْمَادَّةِ وَقُوَاهَا.
وَأَمَّا الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَالْآيَاتُ الَّتِي أَيَّدَهُ اللهُ تَعَالَى بِهَا - عَلَى كَوْنِهَا خَارِقَةً لِلْعَادَاتِ الْكَسْبِيَّةِ وَعَلَى خِلَافِ السُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ لِلنَّاسِ - قَدْ يَظْهَرُ فِيهَا أَنَّهَا كُلَّهَا أَوْ جُلَّهَا حَدَثَ عَلَى سُنَّةِ اللهِ فِي عَالَمِ الْأَرْوَاحِ، كَمَا كَانَ خَلْقُهُ كَذَلِكَ، فَقَدْ حَمَلَتْ أُمُّهُ بِهِ بِنَفْخَةٍ مِنْ رُوحِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا - وَهُوَ الْمَلَكُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَتْ سَبَبَ عُلُوقِهَا بِهِ بِفِعْلِهَا فِي الرَّحِمِ مَا يَفْعَلُ تَلْقِيحُ الرَّجُلِ بِقُدْرَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَا غَرْوَ أَنْ كَانَتْ مَظَاهِرُ آيَاتِهِ أَعْظَمَ مِنْ مَظَاهِرِ سَائِرِ الرُّوحِيِّينَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، كَالْكَشْفِ وَشِفَاءِ بَعْضِ الْمَرْضَى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّأْثِيرِ فِي الْمَادَّةِ الَّذِي اشْتُهِرَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرُّوحَانِيِّينَ مِنْ صُوفِيَّةِ الْهُنُودِ وَالْمُسْلِمِينَ أَنَّ رُوحَانِيَّتَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقْوَى وَأَكْمَلُ وَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ بِعَمَلٍ كَسْبِيٍّ مِنْهُ، بَلْ مِنْ أَصْلِ خَلْقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بِآيَةٍ مِنْهُ كَمَا قَالَ: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) (٢١: ٩١) (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) (٢٣: ٥٠) فَآيَتُهُمَا هِيَ الْحَمْلُ بِهِ وَخَلْقُهُ بِنَفْخِ الرُّوحِ الْإِلَهِيِّ لَا بِسَبَبِ التَّلْقِيحِ الْبَشَرِيِّ، وَلَا بِمَا قِيلَ مِنِ احْتِمَالِ وُجُودِ مَادَّتَيِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِي رَحِمِهَا.
وَأَعْظَمُ آيَاتِهِ الرُّوحَانِيَّةِ الَّتِي أَثْبَتَهَا لَهُ التَّنْزِيلُ وَلَمْ يَنْقُلْهَا مُؤَلِّفُو الْأَنَاجِيلِ الْأَرْبَعَةِ (وَرُوِيَ أَنَّهَا
192
مَنْصُوصَةٌ فِي إِنْجِيلِ الطُّفُولِيَّةِ الَّذِي نَبَذَتْهُ الْمَجَامِعُ الْكَنَسِيَّةُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَفُقِدَ مِنَ الْعَالَمِ هِيَ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ قِطْعَةً مِنَ الطِّينِ فَيَجْعَلُهَا بِهَيْئَةِ طَيْرٍ، فَيَنْفُخُ فِيهِ أَيْ مِنْ رُوحِهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ، وَالْمَرْوِيُّ أَنَّهُ كَانَ يَطِيرُ قَلِيلًا وَيَقَعُ مَيِّتًا. وَدُونَ هَذَا إِحْيَاءُ الْمَيِّتِ الصَّحِيحِ الْجِسْمِ الْقَرِيبِ الْعَهْدِ بِالْحَيَاةِ، فَإِنَّ تَوْجِيهَ سَيَّالِ رُوحِهِ الْقَوِيِّ إِلَى جُثَّةِ الْمَيِّتِ مَعَ تَوْجِيهِ قَلْبِهِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَدُعَائِهِ، كَانَ يَكُونُ سَبَبًا رُوحَانِيًّا لِإِعَادَةِ رُوحِهِ إِلَيْهِ بِإِذْنِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ، كَمَا يَمَسُّ النُّورُ ذُبَالَ السِّرَاجِ الْمُنْطَفِئِ فَتَشْتَعِلُ أَوْ كَمَا يَتَّصِلُ السِّلْكُ الْحَامِلِ لِلْكَهْرَبَائِيَّةِ الْإِيجَابِيَّةِ بِالسِّلْكِ الْحَامِلِ لِلْكَهْرَبَائِيَّةِ السَّلْبِيَّةِ بَعْدَ انْقِطَاعِهَا فَيَتَأَلَّقُ النُّورُ مِنْهُمَا. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ بَعْضِ أَطِبَّاءِ هَذَا الْعَصْرِ إِعَادَةُ الْحَيَاةِ
الْحَيَوَانِيَّةِ إِلَى فَاقِدِهَا عَقِبَ فَقْدِهَا بِعَمَلِيَّةٍ جِرَاحِيَّةٍ أَوْ مُعَالَجَةٍ لِلْقَلْبِ
وَمِنْ دُونِ هَذَا وَذَاكَ شِفَاءُ بَعْضِ الْأَمْرَاضِ وَلَا سِيَّمَا الْعَصَبِيَّةُ، سَوَاءٌ كَانَ سَبَبُهَا مَسَّ الشَّيْطَانِ وَتَلَبُّسَهُ بِالْمَجْنُونِ كَمَا فِي الْأَنَاجِيلِ أَمْ غَيْرَهُ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ رُوحٌ خَبِيثٌ لَا يَسْتَطِيعُ الْبَقَاءَ مَعَ تَوَجُّهِ الرُّوحِ الطَّاهِرِ الَّذِي هُوَ شُعْلَةٌ مِنْ رُوحِ الْقُدُسِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاتِّصَالِهِ بِمَنْ تَلَبَّسَ بِهِ، وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَغَيْرِهِ مِنَ الرُّوحَانِيِّينَ، وَمَا مِنْ مَرَضٍ عَصَبِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ إِلَّا وَهُوَ ضَعْفٌ فِي الْحَيَاةِ بِأَنْ يَزُولَ بِاتِّصَالِ هَذَا الرُّوحِ بِالْمُصَابِ بِهِ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ أَسْبَابِ الْحَيَاةِ وَالْقُوَّةِ.
وَمِنْ دُونِ هَذَا وَذَاكَ الْمُكَاشَفَاتُ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا فِيمَا حَكَاهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) (٣: ٤٩) وَقَدْ أَنْبَأَ غَيْرُهُ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرُهُمْ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا مِنَ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَكَذَا غَيْرُهُمْ مِنَ الرُّوحَانِيِّينَ وَلَا سِيَّمَا أُمَّةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنَّهَا دَرَجَاتٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَطُولِ الْمُدَّةِ وَقِصَرِهَا، وَالثِّقَةِ بِالْمَرْئِيِّ وَعَدَمِهَا، وَإِدْرَاكِ الْحَاضِرِ الْمَوْجُودِ، وَالْغَائِبِ الْمَفْقُودِ، وَمَا كَانَ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمَاضِيَةِ، وَمَا يَأْتِي فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، فَأَعْلَاهَا خَاصٌّ بِالْأَنْبِيَاءِ، إِذْ لَمْ يُوجَدْ وَلَنْ يُوجَدَ بَشَرٌ يَعْلَمُ بِالْكَشْفِ مَا وَقَعَ مُنْذُ الْقُرُونِ الْأُولَى كَأَخْبَارِ الْقُرْآنِ عَنِ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ مَعَ أَقْوَامِهِمْ أَوْ مَا يَقَعُ بَعْدَ سِنِينَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَإِخْبَارِهِ عَنْ عَوْدِ الْكَرَّةِ لِلرُّومِ عَلَى الْفُرْسِ، وَإِخْبَارِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفَتْحِ الْأَمْصَارِ وَاتِّبَاعِ الْأُمَمِ لِأُمَّتِهِ، ثُمَّ بِتَدَاعِيهِمْ عَلَيْهَا مِنَ الْمُكَاشَفَاتِ الثَّابِتَةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَا يُسَمُّونَهُ قِرَاءَةَ الْأَفْكَارِ وَقَدْ شَاهَدْنَا مَنْ فَعَلَهُ، وَمِنْهَا مُرَاسَلَةُ الْأَفْكَارِ.
فَتَبَيَّنَ بِهَذَا وَذَاكَ أَنَّ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى الْمَشْهُورَةَ لِمُوسَى بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى دُونَ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِهِ الظَّاهِرَةِ فِي قُوَاهُ الرُّوحِيَّةِ، وَأَنَّ آيَاتِهِ لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِخِلَافِ ذَلِكَ.
وَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ أَدَلُّ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى وَمَشِيئَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ فِي أَفْعَالِهِ فِي نَظَرِ الْبَشَرِ، لِبُعْدِهَا عَنْ نِظَامِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهَا أَفْعَالُهُمْ.
193
عِبَادَةُ بَعْضِ النَّاسِ لِلْمَسِيحِ وَلِلْأَوْلِيَاءِ دُونَ مُوسَى:
وَإِنَّمَا عَبَدَ بَعْضُ الْبَشَرِ عِيسَى وَاتَّخَذُوهُ إِلَهًا وَلَمْ يَعْبُدُوا مُوسَى كَذَلِكَ وَآيَاتُهُ أَعْظَمُ ; لِأَنَّهُمْ جَهِلُوا أَنَّ آيَاتِ عِيسَى جَارِيَةٌ عَلَى سُنَنٍ رُوحِيَّةٍ عَامَّةٍ قَدْ يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ، فَظَنُّوا
أَنَّهُ يَفْعَلُهَا بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ الَّتِي هِيَ عَيْنُ قُدْرَةِ الْخَالِقِ سُبْحَانَهُ لِحُلُولِهِ فِيهِ وَاتِّحَادِهِ بِهِ بِزَعْمِهِمْ وَآيَاتُ مُوسَى بِمَحْضِ قُدْرَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَلَمْ يَفْطِنُوا لِاتِّبَاعِ عِيسَى لِمُوسَى فِي شَرْعِهِ - التَّوْرَاةِ - إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا نَسَخَهُ اللهُ عَلَى لِسَانِهِ مِنْ إِحْلَالِ بَعْضِ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ بِظُلْمِهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ، وَمِنْ تَحْرِيمِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْغُلُوِّ فِي عِبَادَةِ الْمَالِ وَالشَّهَوَاتِ.
وَمِثْلُ النَّصَارَى فِي هَذَا مَنْ يَفْتَتِنُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِعِبَادَةِ الصَّالِحِينَ بِدُعَائِهِمْ فِي الشَّدَائِدِ، لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ يَدْفَعُونَ عَنْهُمُ الضُّرَّ وَيَجْلِبُونَ لَهُمُ النَّفْعَ بِالتَّصَرُّفِ الْغَيْبِيِّ الْخَارِجِ عَنْ سُنَنِ اللهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، الدَّاخِلِ عِنْدَهُمْ فِي بَابِ الْكَرَامَاتِ، وَهُوَ خَاصٌّ بِالرَّبِّ تَعَالَى، وَلَكِنَّهُمْ لَا يُطْلِقُونَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمُ اسْمَ الرَّبِّ وَلَا الْإِلَهِ وَلَا الْخَالِقِ، إِذِ الْأَسْمَاءُ اصْطِلَاحِيَّةٌ، وَإِنَّمَا الْفَرْقَانُ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَالرَّبِّ وَالْمَرْبُوبِ، أَنَّ الرَّبَّ الْخَالِقَ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ لِمَنْ شَاءَ وَصَرْفِهِمَا عَمَّنْ شَاءَ بِمَا يُسَخِّرُهُ مِنَ الْأَسْبَابِ وَبِدُونِهَا إِنْ شَاءَ - وَأَنَّ الْمَخْلُوقَ الْمَرْبُوبَ هُوَ الْمُقَيَّدُ فِي أَفْعَالِهِ الْكَسْبِيَّةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ فِي النَّفْعِ وَالضُّرِّ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ الَّتِي سَخَّرَهَا تَعَالَى لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، وَلَكِنَّهُمْ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ بِهَا كَمَا يَتَفَاوَتُونَ فِي الِاسْتِعْدَادِ لَهَا بِقُوَى الْعَقْلِ وَالْحَوَاسِّ وَالْأَعْضَاءِ وَفِي وَسَائِلِهَا، وَقَدْ بَلَغَ الْبَشَرُ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ الْكَسْبِيَّيْنِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ مَا لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ قَبْلَهُمْ لَا الْأَنْبِيَاءُ وَلَا غَيْرُهُمْ ; لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْمُرْسَلِينَ لَمْ يُبْعَثُوا لِهَذَا، وَإِنَّمَا بُعِثُوا لِهِدَايَةِ النَّاسِ إِلَى مَعْرِفَةِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ وَتَهْذِيبِ أَخْلَاقِهِمْ بِهَا، فَمَنَافِعُ الدُّنْيَا لَا تُطْلَبُ مِنْهُمْ أَحْيَاءً وَلَا أَمْوَاتًا وَإِنَّمَا تُطْلَبُ مِنْ أَسْبَابِهَا، وَمَا وَرَاءَ الْأَسْبَابِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدْ قَتَلَ الظَّالِمُونَ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَآذَوْا بَعْضَهُمْ بِضُرُوبٍ مِنَ الْإِيذَاءِ وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ ; وَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ نَفْيُ هَذَا النَّفْعِ وَالضُّرِّ عَنْ كُلِّ مَا عُبِدَ وَمَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ بِالذَّاتِ أَوْ بِالشَّفَاعَةِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ) (١٠: ١٨) الْآيَةَ وَمِثْلُهَا آيَاتٌ، وَأَمَرَ خَاتَمَ رُسُلِهِ أَنْ يُعَلِّمَ النَّاسَ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ فَقَالَ: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٧: ١٨٨) وَقَالَ:
(قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا) (٧٢: ٢١) الْآيَاتِ. وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِرَارًا.
194
وَنُلَخِّصُ الْمَوْضُوعَ هُنَا فِي الْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ:
(١) إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ فَجَعَلَهُ بِإِحْكَامٍ وَنِظَامٍ لَا تَفَاوُتَ فِيهِ وَلَا اخْتِلَالَ، وَسُنَنٍ مُطَّرِدَةٍ رَبَطَ فِيهَا الْأَسْبَابَ بِالْمُسَبِّبَاتِ. فَمَخْلُوقَاتُهُ الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى هِيَ مَظْهَرُ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ الْعُلَى وَلِهَذَا قَالَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ الْغَزَالِيُّ: لَيْسَ فِي الْإِمْكَانِ أَبْدَعُ مِمَّا كَانَ. وَهَذَا النِّظَامُ الْمُطَّرِدُ فِي الْأَكْوَانِ، الثَّابِتُ بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَنُصُوصِ الْقُرْآنِ - هُوَ الْبُرْهَانُ الْأَعْظَمُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا) (٢١: ٢٢).
(٢) إِنَّ سُنَنَ اللهِ تَعَالَى فِي إِبْدَاعِ خَلْقِهِ وَنِظَامِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّرْكِيبِ فِيهِ لَا يُحِيطُ بِهَا عِلْمًا غَيْرُهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْبَشَرُ فِيهَا نَظَرًا وَتَفَكُّرًا وَاخْتِبَارًا وَتَدَبُّرًا وَتَجْرِبَةً وَتَصَرُّفًا، ظَهَرَ لَهُمْ مِنْ أَسْرَارِهَا وَعَجَائِبِهَا مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ وَلَا يَظُنُّونَ، وَمِنْ مَنَافِعِهَا مَا لَمْ يَكُونُوا يَتَخَيَّلُونَ وَلَا يَتَوَهَّمُونَ. وَهَا نَحْنُ أُولَاءِ نَرَى مَرَاكِبَهُمُ الْهَوَائِيَّةَ مِنْ تِجَارِيَّةٍ وَحَرْبِيَّةٍ تُحَلِّقُ فِي الْأَجْوَاءِ، حَتَّى تَكَادَ تَتَجَاوَزُ مُحِيطَ الْهَوَاءِ، وَمَرَاكِبَهُمُ الْبَحْرِيَّةَ تَغُوصُ فِي لُجَجِ الْبِحَارِ، وَنَرَاهُمْ يَتَخَاطَبُونَ مِنْ مُخْتَلِفِ الْأَقْطَارِ، كَمَا نَطَقَ الْوَحْيُ بِتَخَاطُبِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مَعَ أَهْلِ النَّارِ فَيَسْمَعُ أَهْلُ الْمَشْرِقِ أَصْوَاتَ أَهْلِ الْمَغْرِبِ، وَأَهْلُ الْجَنُوبِ حَدِيثَ أَهْلِ الشَّمَالِ وَخُطَبَهُمْ وَأَغَانِيَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَهَا بَعْضُ أَهْلِ الْبَلَدِ أَوِ الْمَكَانِ الَّذِي يَصْدُرُ عَنْهُ الْكَلَامُ. وَقَدْ يَغْمِزُ أَحَدُهُمْ زِرًّا كَهْرَبَائِيًّا فِي قَارَّةِ أُورُبَّةَ فَتَتَحَرَّكُ بِغَمْزَتِهِ آلَاتٌ عَظِيمَةٌ فِي قَارَّةٍ أُخْرَى فِي طَرْفَةِ عَيْنِ، وَبَيْنَهُمَا الْمَهَامِهُ الْفِيَحُ وَالْجِبَالُ الشَّاهِقَةُ، وَمِنْ دُونِهِمَا الْبِحَارُ الْوَاسِعَةُ، وَالْجَاهِلُونَ بِهَذِهِ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْعُلُومِ الْعَمَلِيَّةِ، لَا يَزَالُونَ يَلْجَئُونَ فِي طَلَبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ - الَّتِي ضَيَّقَ الْجَهْلُ عَلَيْهِمْ سُبُلَهَا - إِلَى قُبُورِ الْمَوْتَى مِنَ الصَّالِحِينَ الْمَعْرُوفِينَ وَالْمَجْهُولِينَ لِيَقْضُوا لَهُمْ حَاجَتَهُمْ،
وَيَشْفُوا مَرْضَاهُمْ، وَيُعِينُوهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ مِنْ زَوْجٍ وَقَرِيبٍ وَجَارٍ وَوَطَنِيٍّ، وَأَعْدَاؤُهُمْ مِنَ الْأَجَانِبِ قَدْ سَادُوا حُكُومَتَهُمْ، وَاسْتَذَلُّوا أُمَّتَهُمْ، وَاسْتَأْثَرُوا بِجُلِّ ثَرْوَتِهِمْ وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِمْ هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءُ بِمَا يَدْفَعُ عَنِ الْمُسْلِمِينَ ضَرَرَهُمْ وَتَحَكُّمَهُمْ.
(٣) إِنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ مَا يَحْدُثُ فِي الْعَالَمِ أَنْ يَكُونَ جَارِيًا عَلَى نِظَامِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ وَسُنَنِ اللهِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْعِلْمُ، وَأَخْبَرَنَا الْوَحْيُ بِأَنَّهُ لَا تَغْيِيرَ فِيهَا وَلَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَحْوِيلَ فَكُلُّ خَبَرٍ عَنْ حَادِثٍ يَقَعُ مُخَالِفًا لِهَذَا النِّظَامِ وَالسُّنَنِ فَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا اخْتَلَقَهُ الْمُخْبِرُ الَّذِي ادَّعَى شُهُودَهُ أَوْ خُدِعَ بِهِ وَلُبِّسَ عَلَيْهِ فِيهِ فَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَبَبٌ مِنَ الْأَسْبَابِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي يَجْهَلُهَا الْمُخْبِرُ كَمَا حَقَّقَهُ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ فِي بَحْثِ الْخَبَرِ وَمَا يَقْطَعُ بِكَذِبِهِ مِنْهُ.
195
(٤) إِنَّ آيَاتِ اللهِ الَّتِي تَجْرِي عَلَى غَيْرِ سُنَنِهِ الْحَكِيمَةِ فِي خَلْقِهِ لَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَقَدْ كَانَ مِنْ حِكْمَتِهِ أَنْ أَيَّدَ بَعْضَ النَّبِيِّينَ الْمُرْسَلِينَ بِشَيْءٍ مِنْهَا لِإِقَامَةِ حُجَّتِهِمْ وَتَخْوِيفِ الْمُعَانِدِينَ لَهُمْ، وَقَدِ انْقَطَعَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ بِخَتْمِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَبَبُ ذَلِكَ أَوْ حِكْمَتُهُ خَتْمُ النُّبُوَّةِ بِرِسَالَتِهِ. وَجَعَلَ مَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ آيَةً دَائِمَةً وَهِدَايَةً عَامَّةً لِجَمِيعِ الْبَشَرِ مُدَّةَ بَقَائِهِمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (٢١: ١٠٧) لِعِلْمِهِ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ لَا يَحْتَاجُونَ بَعْدَ هَذَا الْوَحْيِ إِلَى وَحْيٍ آخَرَ وَلَا إِلَى آيَةٍ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى إِلَّا هَذَا الْقُرْآنَ نَفْسَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ دَلَالَتِهِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى.
خَتْمُ النُّبُوَّةِ وَانْقِطَاعُ الْخَوَارِقِ بِهَا وَمَعْنَى الْكَرَامَاتِ:
(٥) لَوْ كَانَ لِلْبَشَرِ حَاجَةٌ بَعْدَ الْقُرْآنِ وَمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْآيَاتِ، كَمَا يَدَّعِي الْمَفْتُونُونَ بِالْكَرَامَاتِ وَمُخْتَرِعُو الْأَدْيَانِ وَالنِّحَلِ الْجَدِيدَةِ لَمَا كَانَ لِخَتْمِ النُّبُوَّةِ مَعْنًى ; وَلِذَلِكَ يُنْكِرُ الْبَهَائِيَّةُ وَالْقَادْيَانِيَّةُ خَتْمَ النُّبُوَّةِ وَانْقِطَاعَ الْوَحْيِ، وَيَدَّعُونَهُمَا لِلْبَابِ وَالْبَهَاءِ، وَلِغُلَامِ أَحْمَدَ الْقَادْيَانِيِّ وَخُلَفَائِهِ بِلَا انْقِطَاعٍ، حَتَّى سَامَهَا الْمُرْتَزِقَةُ مِنْهُمْ وَالرَّعَاعُ.
وَقَدْ بَيَّنَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ كَيْفَ ارْتَقَى التَّشْرِيعُ الدِّينِيُّ فِي الْأُمَمِ بِارْتِقَاءِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ فِي الْإِدْرَاكِ وَالْعَقْلِ، كَارْتِقَاءِ الْأَفْرَادِ مِنْ طُفُولَةٍ إِلَى شَبَابٍ إِلَى كُهُولَةٍ بَلَغَ فِيهَا رُشْدَهُ وَاسْتَوَى، وَصَارَ يُدْرِكُ بِعَقْلِهِ هَذِهِ الْهِدَايَةَ الْعَقْلِيَّةَ
الْعُلْيَا (هِدَايَةَ الْقُرْآنِ) بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا سَبِيلَ إِلَى إِذْعَانِهِ لِتَعْلِيمِ الْوَحْيِ، إِلَّا مَا يُدْهِشُ حِسَّهُ وَيُعْيِي عَقْلَهُ مِنْ آيَاتِ الْكَوْنِ
بَيَّنَ فِي الْكَلَامِ عَلَى وَجْهِ الْحَاجَةِ إِلَى الرِّسَالَةِ أَنَّ سُمُوَّ عَقْلِ الْإِنْسَانِ وَسُلْطَانَهُ عَلَى قُوَى الْكَوْنِ الْأَعْظَمِ بِمَا هِيَ مُسَخَّرَةٌ لَهُ تُنَافِي خُضُوعَهُ وَاسْتِكَانَتَهُ لِشَيْءٍ مِنْهَا، إِلَّا مَا عَجَزَ عَنْ إِدْرَاكِ سَبَبِهِ وَمَنْشَئِهِ فَاعْتَقَدَ أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ السُّلْطَانِ الْغَيْبِيِّ الْأَعْلَى لِمُدَبِّرِ الْكَوْنِ وَمُسَخِّرِ الْأَسْبَابِ فِيهِ فَكَانَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى بِهِ أَنَّهُ أَتَاهُ مَنْ أَضْعَفِ الْجِهَاتِ فِيهِ وَهِيَ جِهَةُ الْخُضُوعِ وَالِاسْتِكَانَةِ، فَأَقَامَ لَهُ مِنْ بَيْنِ أَفْرَادِهِ مُرْشِدِينَ هَادِينَ، وَمَيَّزَهُمْ مِنْ بَيْنِهِمْ بِخَصَائِصَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَا يُشْرِكُهُمْ فِيهَا سِوَاهُمْ، وَأَيَّدَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي الْإِقْنَاعِ بِآيَاتٍ بَاهِرَاتٍ تَمْلِكُ النُّفُوسَ، وَتَأْخُذُ الطَّرِيقَ عَلَى سَوَابِقِ الْعُقُولِ فَيَسْتَخْذِي الطَّامِحُ وَيَذِلُّ الْجَامِحُ، وَيَصْطَدِمُ بِهَا عَقْلُ الْعَاقِلِ فَيَرْجِعُ إِلَى رُشْدِهِ وَيَنْبَهِرُ لَهَا بَصَرُ الْجَاهِلِ فَيَرْتَدُّ عَنْ غَيِّهِ)).
ثُمَّ قَالَ فِي رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَبِيٌّ صَدَّقَ الْأَنْبِيَاءَ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي الْإِقْنَاعِ بِرِسَالَتِهِ بِمَا يُلْهِي الْأَبْصَارَ أَوْ يُحَيِّرُ الْحَوَاسَّ أَوْ يُدْهِشُ الْمَشَاعِرَ، وَلَكِنْ طَالَبَ كُلَّ قُوَّةٍ بِالْعَمَلِ فِيمَا أُعِدَّتْ لَهُ، وَاخْتَصَّ الْعَقْلَ بِالْخِطَابِ، وَحَاكَمَ إِلَيْهِ الْخَطَأَ وَالصَّوَابَ، وَجَعَلَ فِي قُوَّةِ الْكَلَامِ، وَسُلْطَانِ الْبَلَاغَةِ، وَصِحَّةِ الدَّلِيلِ، مَبْلَغَ الْحُجَّةِ وَآيَةَ الْحَقِّ الَّذِي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٤١: ٤٢).
196
لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا بِالْقُرْآنِ:
(٦) إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ مُعْجِزَاتِ الْأَنْبِيَاءِ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِحُجَّةٍ لَا يُمْكِنُ لِمَنْ عَقَلَهَا رَدُّهَا إِلَّا هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، وَمَا ثَبَتَ فِيهِ بِالنَّصِّ الصَّرِيحِ مِنْهَا، بِنَاءً عَلَى إِنْكَارِ الْعُلَمَاءِ الْوَاقِفِينَ عَلَى كُتُبِ الْأَدْيَانِ الَّتِي قَبْلَ الْإِسْلَامِ - حَتَّى كُتُبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى - وَعَلَى تَوَارِيخِهَا لِتَوَاتُرِ مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَالِاشْتِبَاهِ فِي كَوْنِهَا خَوَارِقَ حَقِيقِيَّةً، وَحُجَّتُهُمْ أَنَّ التَّوَاتُرَ الَّذِي يُفِيدُ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي نَقْلِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَهُوَ نَقْلُ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ الَّذِينَ يُؤْمَنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ لِخَبَرٍ أَدْرَكُوهُ بِالْحِسِّ، وَحَمَلَهُ عَنْهُمْ مِثْلُهُمْ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وَجِيلًا بَعْدَ جِيلٍ بِدُونِ انْقِطَاعٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ اسْتِحَالَةُ تَوَاطُئِهِمْ عَلَى
الْكَذِبِ بِأُمُورٍ، أَهَمُّهَا عَدَمُ التَّحَيُّزِ وَالتَّشَيُّعِ لِمَضْمُونِ الْخَبَرِ وَعَدَمُ تَقْلِيدِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِيهِ، وَآيَةُ صِحَّةِ هَذَا التَّوَاتُرِ حُصُولُ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ بِهِ وَإِذْعَانُ النَّفْسِ لَهُ، وَعَدَمُ إِمْكَانِ رَدِّهِ اعْتِقَادًا وَوِجْدَانًا. وَهَذَا غَيْرُ حَاصِلٍ فِي آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الْأَوَّلِينَ عِنْدَهُمْ.
وَأَمَّا آيَةُ الْقُرْآنِ فَهِيَ بَاقِيَةٌ بِبَقَائِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكُلُّ وَاقِفٍ عَلَى تَارِيخِ الْإِسْلَامِ يَعْلَمُ عِلْمًا قَطْعِيًّا أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ تَوَاتُرًا مُتَّصِلًا فِي كُلِّ عَصْرٍ، مِنْ عَصْرِ الرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ إِلَى الْآنَ، وَأَمَّا الَّذِي يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ فَهُوَ وُجُوهُ إِعْجَازِهِ، وَقَدْ شَرَحْنَا شُبْهَتَهُمْ عَلَيْهِ وَبَيَّنَّا بُطْلَانَهَا فِي هَذَا الْبَحْثِ، وَإِذْ قَدْ ثَبَتَ بِذَلِكَ كَوْنُهُ وَحْيًا مِنَ اللهِ تَعَالَى فَقَدْ وَجَبَ الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا أَثْبَتَهُ مِنْ آيَاتِهِ فِي خُلُقِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ لِتَأْيِيدِ رُسُلِهِ وَإِقَامَةِ حُجَّتِهِمْ أَمْ لَا، وَكَمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ بِهِ أَنْ يُؤْمِنَ بِهَا، يَجِبُ أَنْ يُؤْمِنَ بِانْقِطَاعِ مُعْجِزَاتِ الرُّسُلِ بَعْدَ خَتْمِ النُّبُوَّةِ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَإِذْ كَانَ لَا يَجِبُ عَلَى مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَقِدَ بِوُقُوعِ كَرَامَةٍ كَوْنِيَّةٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ بَعْدَ ((مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)) فَلَا يَضُرُّ مُسْلِمًا فِي دِينِهِ أَنْ يَعْتَقِدَ كَمَا يَعْتَقِدُ أَكْثَرُ عُقَلَاءِ الْعُلَمَاءِ وَالْحُكَمَاءِ مِنْ أَنَّ مَا يَدَّعِيهِ النَّاسُ مِنَ الْخَوَارِقِ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ أَكْثَرُهُ كَذِبٌ وَبَعْضُهُ صِنَاعَةُ عِلْمٍ، أَوْ شَعْوَذَةُ سِحْرٍ، وَأَقَلُّهُ مِنْ خَوَاصِّ الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ الْغَالِيَةِ.
(٧) إِنَّ الثَّابِتَ بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ مِنْ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ الْمُعَيَّنَةِ قَلِيلٌ جِدًّا، فَمَا كَانَتْ دَلَالَتُهُ قَطْعِيَّةً مِنْ هَذِهِ النُّصُوصِ فَصَرْفُهُ عَنْهَا بِالتَّحَكُّمِ فِي التَّأْوِيلِ الَّذِي تَأْبَاهُ مَدْلُولَاتُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَيَنْقُضُ شَيْئًا مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ الْقَطْعِيَّةِ ارْتِدَادٌ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَمَا كَانَتْ دَلَالَتُهُ ظَاهِرَةً غَيْرَ قَطْعِيَّةٍ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ إِنْ لَمْ يُعَارِضْهُ نَصٌّ مِثْلُهُ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، فَإِنْ عَارَضَهُ فَحِينَئِذٍ يُنْظَرُ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَيْنِ بِالْأَدِلَّةِ الْمَعْرُوفَةِ، وَالْخُرُوجُ عَنْ ذَلِكَ ابْتِدَاعٌ.
197
(خُلَاصَةُ الْخُلَاصَةِ لِهَذَا الْفَصْلِ)
إِنَّنَا نُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَاخْتِيَارِهِ، وَحِكْمَتِهِ وَأَنَّهُ (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (٣٢: ٧) كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ (آلم) السَّجْدَةِ، فَهُوَ: (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (٢٧: ٨٨) كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ النَّمْلِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي خَلْقِهِ تَفَاوُتٌ وَلَا فُطُورٌ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ، الْآيَةِ (٣) وَأَنَّهُ خَلَقَهُ بِنِظَامٍ وَتَقْدِيرٍ لَا جُزَافًا وَلَا أُنُفًا كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (٥٤: ٤٩) وَقَالَ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) (٢٥: ٢) وَقَالَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ: (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) (١٥: ١٩) (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (١٥: ٢١).
وَأَنَّ لَهُ تَعَالَى فِي نِظَامِ التَّكْوِينِ وَالْإِبْدَاعِ، وَفِيمَا هَدَى إِلَيْهِ الْبَشَرَ مِنْ نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ سُنَنًا مُطَّرِدَةً تَتَّصِلُ فِيهَا الْأَسْبَابُ بِالْمُسَبَّبَاتِ، وَلَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ مُحَابَاةً لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَأَنَّهَا عَامَّةٌ فِي عَالَمِ الْأَجْسَامِ وَعَالَمِ الْأَرْوَاحِ، وَقَدْ وَرَدَ ذِكْرُ هَذِهِ السُّنَنِ بِاللَّفْظِ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ.
وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ لَهُ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، وَأَنَّ لَهُ فِي آيَاتِهِ حِكَمًا جَلِيَّةً أَوْ خَفِيَّةً، وَأَنَّ مَا مَنَحَنَا إِيَّاهُ مِنَ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ يَأْبَيَانِ عَلَيْنَا أَنْ نُثْبِتَ وُقُوعَ شَيْءٍ فِي الْخَلْقِ عَلَى خِلَافِ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ نِظَامِ التَّقْدِيرِ وَسُنَنِ التَّدْبِيرِ، إِلَّا بِبُرْهَانٍ قَطْعِيٍّ يَشْتَرِكُ الْعَقْلُ وَالْحِسُّ فِي إِثْبَاتِهِ وَتَمْحِيصِهِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وُقُوعُهُ لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ لَا عَنْ خَلَلٍ وَلَا عَبَثٍ، وَأَنَّ مَا خَفِيَ عَلَيْنَا مِنْ حُكْمِهِ كَسَائِرِ مَا يَخْفَى عَلَيْنَا مِنْ أُمُورِ خَلْقِهِ، نَبْحَثُ عَنْهَا لِنُزَادَ عِلْمًا بِكَمَالِهِ وَنُكْمِلَ بِهِ أَنْفُسَنَا بِقَدْرِ اسْتِطَاعَتِنَا وَلَا نَتَّخِذَهَا حُجَّةً وَلَا عُذْرًا عَلَى الْكُفْرِ بِهِ لِجَهْلِنَا، وَقَدْ ثَبَتَ لِأَعْلَمِ الْعُلَمَاءِ مِنَّا أَنَّ مَا نَجْهَلُ مِنْ هَذَا الْكَوْنِ أَكْثَرُ مِمَّا نَعْلَمُ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُحِيطَ الْبَشَرُ بِهِ عِلْمًا.
وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ مَنَحَنَا رُسُلًا هَدَوْنَا بِآيَاتِهِ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْ مَضِيقِ مَدَارِكِ الْحِسِّ، وَمَا يَسْتَنْبِطُهُ الْفِكْرُ مِنْهَا بَادِيَ الرَّأْيِ، إِلَى مَا وَرَاءَهَا مِنْ سَعَةِ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَلَوْلَا هِدَايَتُهُمْ لَظَلَّ الْبَشَرُ أُلُوفَ الْأُلُوفِ مِنَ السِّنِينَ يُنْكِرُونَ وُجُودَ مَا لَمْ يَكُونُوا يُدْرِكُونَهُ بِحَوَاسِّهِمْ مِنَ الْأَجْسَامِ وَأَعْرَاضِهَا، وَبِقِيَاسِهِمْ مَا جَهِلُوا عَلَى مَا عَلِمُوا مِنْهَا.
وَقَدْ عَلِمْنَا مِنَ التَّارِيخِ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ وَبِآيَاتِهِ لِرُسُلِهِ، وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبِمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ هُوَ الَّذِي وَجَّهَ عُقُولَ الْبَشَرِ إِلَى الْبَحْثِ فِي أَسْرَارِ الْوُجُودِ حَتَّى وَصَلُوا إِلَى مَا وَصَلُوا إِلَيْهِ مِنَ الِارْتِقَاءِ فِي الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالصِّنَاعَاتِ فِي الْأَجْيَالِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَلَمْ
198
يَكُنْ لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ نَصِيبٌ فِي ذَلِكَ - فَهَذَا الْإِيمَانُ بِالْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْغَيْبِ هُوَ الَّذِي أَوْصَلَ الْبَشَرَ إِلَى عُلُومٍ وَأَعْمَالٍ كَانَ يَعُدُّهَا غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ مِنْ مُحَالَاتِ الْعُقُولِ كَالْغَيْبِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ، حَتَّى لَمْ يُعَدَّ شَيْءٌ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ بَعِيدًا عَنِ الْعَقْلِ بَعْدَ ثُبُوتِهَا.
فَتَبَيَّنَ لَنَا بِهَذَا وَبِمَا قَبْلَهُ أَنَّهُ كَانَ لِلْبَشَرِ بِآيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ ثَلَاثُ فَوَائِدَ، هِيَ مِنْ حِكَمِ نَصْبِهِ تَعَالَى لِتِلْكَ الْآيَاتِ: (الْأُولَى) جَعْلُهَا دَلِيلًا حِسِّيًّا عَلَى اخْتِيَارِهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ، وَكَوْنِ سُنَنِ النِّظَامِ فِي الْخَلْقِ خَاضِعَةً لَهُ لَا حَاكِمَةً عَلَيْهِ وَلَا مُقَيِّدَةً لِإِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. (الثَّانِيَةُ) جَعْلُهَا دَلِيلًا عَلَى صِدْقِ رُسُلِهِ فِيمَا يُخْبِرُونَ عَنْهُ بِوَحْيِهِ وَنُذُرًا لِلْمُعَانِدِينَ لَهُمْ مِنَ الْكَفَّارِ، وَلَوْ كَانَتْ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ بِكَسْبِهِمْ أَوْ تَقَعُ مِنْهُمْ بِاسْتِعْدَادٍ رُوحِيٍّ لَمَا كَانَتْ آيَةً عَلَى صِدْقِهِمْ (الثَّالِثَةُ) هِدَايَةُ عُقُولِ الْبَشَرِ بِرُؤْيَتِهَا إِلَى سَعَةِ دَائِرَةِ الْمُمْكِنَاتِ وَضِيقِ نِطَاقِ الْمُحَالِ فِي الْمَعْقُولَاتِ، وَإِلَى أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ بَعِيدًا عَنِ الْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ وَالْأُمُورِ الْمَعْهُودَةِ وَالسُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ - لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُحَالًا يُجْزَمُ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ، وَبِكَذِبِ الْمُخْبِرِ بِهِ، مَعَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى صِدْقِهِ، وَإِنَّمَا غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ فِيهِ عَدَمَ الثُّبُوتِ فَيَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهُ عَلَى الدَّلِيلِ الصَّحِيحِ، وَهَذِهِ قَاعِدَةُ كِبَارِ عُلَمَاءِ الْكَوْنِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، فَلَا يَنْقُصُهُمْ لِتَكْمِيلِ عِلْمِهِمْ إِلَّا ثُبُوتُ آيَةٍ للَّهِ تَعَالَى لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهَا عِلَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْكَوْنِ.
وَلَكِنَّ الْأَمْرَ قَدِ انْقَلَبَ إِلَى ضِدِّهِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الَّذِينَ وَصَلُوا إِلَى هَذِهِ الْعُلُومِ
وَالْأَعْمَالِ الْمُقَرِّبَةِ لِآيَاتِ الرُّسُلِ وَمَا دَعَوْا إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ مِنَ الْعُقُولِ، قَدْ صَارَتْ هَذِهِ الْعُلُومُ نَفْسُهَا سَبَبًا لِإِنْكَارِهِمْ مَا كَانَ سَبَبًا لَهُمْ وَمُوصِلًا إِلَيْهَا (وَهُوَ الْآيَاتُ وَالْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ) - لَا إِنْكَارَ إِمْكَانِهِ بَلْ إِنْكَارَ ثُبُوتِهِ بِالْفِعْلِ، فَهُمْ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ قَدْ فَعَلَ مَا صَارُوا يَفْعَلُونَ بِإِقْدَارِهِ وَتَوْفِيقِهِ نَظِيرًا لَهُ فِي الْغَرَابَةِ، وَكَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهُ دَلِيلًا عَلَيْهِ مُبَيِّنًا لِحَقِيقَتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (٤١: ٥٣) وَلَكِنَّهُمْ كُلَّمَا أَرَاهُمْ آيَةً مِنْ آيَاتِهِ الرُّوحِيَّةِ فِي أَنْفُسِهِمْ، أَوْ مِنْ آيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ فِي الْآفَاقِ، الْتَمَسُوا لَهَا سُنَّةً بِقِيَاسِ مَا لَمْ يَعْرِفُوا عَلَى مَا عَرَفُوا، فَأَخْرَجُوهَا عَنْ كَوْنِهَا بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ وَإِبْدَاعِهِ، وَظَلُّوا عَلَى لَبْسِهِمْ، كَالَّذِينِ طَلَبُوا أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ مَلَكًا رَسُولًا فَقَالَ فِيهِمْ: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) (٦: ٩) أَيْ لَمَّا كَانُوا لَا يُمْكِنُ لَهُمْ أَنْ يُدْرِكُوا الْمَلَكَ وَيَتَلَقَّوْا عَنْهُ إِلَّا إِذَا كَانَ بِصُورَةِ رَجُلٍ مِثْلِهِمْ، وَهُوَ مَا اسْتَنْكَرُوهُ مِنْ كَوْنِ الرُّسُلِ بَشَرًا مِثْلَهُمْ، وَلَوْ جَعَلَ اللهُ الْمَلَكَ رَجُلًا مِثْلَهُمْ لَالْتَبَسَ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُ بِمَا يُلْبِسُونَهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنِ اسْتِنْكَارِ كَوْنِ الرُّسُلِ بَشَرًا مِثْلَهُمْ، وَهَكَذَا يَفْعَلُونَ الْآنَ: ظَهَرَتْ لَهُمْ فِي عَصْرِنَا عِدَّةُ آيَاتٍ رُوحِيَّةٍ مِنَ الْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّأْثِيرِ فِي الْمَادَّةِ فَشَبَّهُوهَا بِمَا عَرَفُوا مِنْ نَقْلِ الْكَلَامِ بِالسَّيَّالِ الْكَهْرَبَائِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى لَا يَعْتَرِفُوا بِآيَةٍ إِبْدَاعِيَّةٍ مِنَ الْخَالِقِ لَا تَخْضَعُ لِعِلْمِهِمْ.
199
الْخَطَرُ عَلَى الْبَشَرِ مِنِ ارْتِقَاءِ الْعِلْمِ بِدُونِ الدِّينِ:
إِنَّ حِرْمَانَ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْإِيمَانِ بِآيَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا النَّوْعِ، قَدْ جَعَلَ حَظَّ الْبَشَرِ مِنْ هَذَا الِارْتِقَاءِ الْعَجِيبِ فِي الْعِلْمِ أَنَّهُمُ ازْدَادُوا بِهِ شَقَاءً، حَتَّى صَارَتْ حَضَارَتُهُمْ مُهَدَّدَةً بِالتَّدْمِيرِ الْعِلْمِيِّ الصِّنَاعِيِّ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَجَمِيعُ عُلَمَائِهِمُ الْمُصْلِحِينَ وَسَاسَتِهِمُ الدَّهَاقِينَ فِي حَيْرَةٍ مِنْ تَلَافِي هَذَا الْخَطَرِ، وَلَنْ يُتَلَافَى إِلَّا بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَهَذَا مَا جَاءَهُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ ; وَلِأَجْلِهِ أَثْبَتَ الْآيَاتِ بِكِتَابِهِ وَفِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْضَعَ الْبَشَرُ إِلَّا لِمَا هُوَ فَوْقَ اسْتِطَاعَتِهِمْ، بِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ السُّلْطَانِ الْغَيْبِيِّ الْإِلَهِيِّ الَّذِي فَوْقَ اسْتِعْدَادِهِمْ، وَسَنُبَيِّنُ هَذَا الْجَمْعَ فِيمَا يَأْتِي مِنْ هَذَا الْبَحْثِ الْمُثْبِتِ لِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ.
الْمَقْصِدُ الثَّالِثُ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ
(بَيَانُ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، وَالْعَقْلِ وَالْفِكْرِ، وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْبُرْهَانِ وَالْحُجَّةِ، وَالضَّمِيرِ وَالْوِجْدَانِ، وَالْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ).
قَدْ أَتَى عَلَى الْبَشَرِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَا يَعْرِفُونَ مِنَ الدِّينِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالِيمُ خَارِجَةٌ عَنْ مُحِيطِ الْعَقْلِ، كُلِّفَ الْبَشَرُ بِهَا مُقَاوَمَةَ فِطْرَتِهِمْ، وَتَعْذِيبَ أَنْفُسِهِمْ، وَمُكَابَرَةَ عُقُولِهِمْ وَبَصَائِرِهِمْ، خُضُوعًا لِلرُّؤَسَاءِ الَّذِينَ يُلَقِّنُونَهُمْ إِيَّاهَا، فَإِنِ انْقَادُوا لِسَيْطَرَتِهِمْ عَلَيْهِمْ بِهَا كَانُوا مِنَ الْفَائِزِينَ، وَإِنْ خَالَفُوهُمْ سِرًّا أَوْ جَهْرًا كَانُوا مِنَ الْهَالِكِينَ.
حَتَّى إِذَا بَعَثَ اللهُ مُحَمَّدًا خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُزَكِّيهِمْ مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنَ الضَّلَالِ الْمُبِينِ - بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ دِينَ اللهِ الْإِسْلَامَ هُوَ دِينُ الْفِطْرَةِ، وَالْعَقْلِ وَالْفِكْرِ، وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَالْبُرْهَانِ وَالْحُجَّةِ، وَالضَّمِيرِ وَالْوِجْدَانِ، وَالْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ، وَأَنْ لَا سَيْطَرَةَ عَلَى رُوحِ الْإِنْسَانِ وَعَقْلِهِ وَضَمِيرِهِ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ، وَإِنَّمَا رُسُلُ اللهِ هُدَاةٌ مُرْشِدُونَ، مُبَشِّرُونَ وَمُنْذِرُونَ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْمَقْصِدِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا، وَنُبَيِّنُ هَذِهِ الْمَزَايَا بِالشَّوَاهِدِ الْمُخْتَصَرَةِ مِنَ الْقُرْآنِ فَنَقُولُ:
(١) الْإِسْلَامُ دِينُ الْفِطْرَةِ:
قَالَ اللهُ تَعَالَى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (٣٠: ٣٠) الْحَنِيفُ صِفَةٌ مِنَ الْحَنَفِ (بِالتَّحْرِيكِ) وَهُوَ الْمَيْلُ عَنِ الْعِوَجِ إِلَى الِاسْتِقَامَةِ. وَعَنِ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى، وَعَنِ الْبَاطِلِ إِلَى الْحَقِّ، وَيُقَابِلُهُ الزَّيْغُ وَهُوَ الْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ إِلَخْ. وَفِطْرَةُ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
200
عَلَيْهَا هِيَ الْجِبِلَّةُ الْإِنْسَانِيَّةُ، الْجَامِعَةُ بَيْنَ الْحَيَاتَيْنِ: الْجِسْمَانِيَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَالرُّوحَانِيَّةِ الْمَلَكِيَّةِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِمَعْرِفَةِ عَالَمِ الشَّهَادَةِ وَعَالَمِ الْغَيْبِ فِيهِمَا، وَمَا أُودِعَ فِيهَا مِنْ غَرِيزَةِ الدِّينِ الْمُطْلَقِ، الَّذِي هُوَ الشُّعُورُ الْوِجْدَانِيُّ بِسُلْطَانٍ غَيْبِيٍّ
فَوْقَ قُوَى الْكَوْنِ وَالسُّنَنِ وَالْأَسْبَابِ الَّتِي قَامَ بِهِمَا نِظَامُ كُلِّ شَيْءٍ فِي الْعَالَمِ، فَرَبُّ هَذَا السُّلْطَانِ هُوَ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا، وَالْمَصْدَرُ الذَّاتِيُّ لِلنَّفْعِ وَالضُّرِّ الْمُحَرِّكَيْنِ لِشُعُورِ التَّعَبُّدِ الْفِطْرِيِّ، وَطَلَبِ الْعِرْفَانِ الْغَيْبِيِّ، فَالْعِبَادَةُ الْفِطْرِيَّةُ هِيَ التَّوَجُّهُ الْوِجْدَانِيُّ إِلَى هَذَا الرَّبِّ الْغَيْبِيِّ فِي كُلِّ مَا يَعْجِزُ الْإِنْسَانُ عَنْهُ مِنْ نَفْعٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَيَعْجِزُ عَنْهُ بِكَسْبِهِ، وَدَفْعِ ضُرٍّ يَمَسُّهُ أَوْ يَخَافُهُ وَيَرَى أَنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ دَفْعِهِ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَفِي كُلِّ مَا تَشْعُرُ فِطْرَتُهُ بِاسْتِعْدَادِهَا لِمَعْرِفَتِهِ وَالْوُصُولِ إِلَيْهِ مِمَّا لَا نِهَايَةَ لَهُ.
وَأَعْنِي بِالْإِنْسَانِ جِنْسَهُ، فَمَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْمَرْءُ بِنَفْسِهِ دُونَ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ فَإِنَّهُ يَعُدُّهُ مِنْ مَقْدُورِهِ، وَيَعُدُّ مُسَاعَدَةَ غَيْرِهِ لَهُ مِنْ جِنْسِ كَسْبِهِ، فَطَلَبُهُ لِلْمُسَاعَدَةِ مِنْ أَمْثَالِهِ لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى التَّعَبُّدِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ - فَتَعْظِيمُ الْفَقِيرِ لِلْغَنِيِّ بِوَسَائِلِ اسْتِجْدَائِهِ، وَخُضُوعُ الضَّعِيفِ لِلْقَوِيِّ لِاسْتِنْجَادِهِ وَاسْتِعْدَائِهِ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَخُنُوعُ السُّوقَةِ لِلْمَلِكِ أَوِ الْأَمِيرِ لِخَوْفِهِمْ مِنْهُ أَوْ رَجَائِهِ - لَا يُسَمَّى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِبَادَةً فِي عُرْفِ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ وَلَا مِلَّةٍ مِنَ الْمِلَلِ، وَإِنَّمَا رُوحُ الْعِبَادَةِ الْفِطْرِيَّةِ وَمُخُّهَا هُوَ دُعَاءُ ذِي السُّلْطَانِ الْعُلْوِيِّ وَالْقُدْرَةِ الْغَيْبِيَّةِ، الَّتِي هِيَ فَوْقَ مَا يَعْرِفُهُ الْإِنْسَانُ وَيَعْقِلُهُ فِي عَالَمِ الْأَسْبَابِ، وَلَاسِيَّمَا الدُّعَاءَ عِنْدَ الْعَجْزِ وَالشَّدَائِدِ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ)) هَكَذَا بِصِيغَةِ الْحَصْرِ، أَيْ هُوَ الرُّكْنُ الْمَعْنَوِيُّ الْأَعْظَمُ فِيهَا لِأَنَّهُ رُوحُهَا الْمُفَسَّرُ بِرِوَايَةِ ((الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ)) وَكُلُّ تَعْظِيمٍ وَتَقَرُّبٍ قَوْلِيٍّ أَوَعَمَلِيٍّ لِصَاحِبِ هَذِهِ الْقُدْرَةِ وَالسُّلْطَانِ فَهُوَ عِبَادَةٌ لَهُ - هَذَا أَصْلُ دِينِ الْفِطْرَةِ الْغَرِيزِيِّ فِي الْبَشَرِ.
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يُبْنَى الدِّينُ التَّعْلِيمِيُّ التَّشْرِيعِيُّ، الَّذِي هُوَ وَضْعٌ إِلَهِيٌّ يُوحِيهِ اللهُ إِلَى رُسُلِهِ، لِئَلَّا يَضِلَّ عِبَادُهُ بِضِعْفِ اجْتِهَادِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى غَرِيزَةِ الدِّينِ كَمَا وَقَعَ بِالْفِعْلِ، وَلَا يَقْبَلُهُ الْبَشَرُ بِالْإِذْعَانِ وَالْوَازِعِ النَّفْسِيِّ، إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُلَقِّنُ لَهُمْ إِيَّاهُ مُؤَيَّدًا فِي تَبْلِيغِهِ وَتَعْلِيمِهِ مِنْ صَاحِبِ ذَلِكَ السُّلْطَانِ الْغَيْبِيِّ الْأَعْلَى، وَالتَّصَرُّفِ الذَّاتِيِّ الْمُطْلَقِ فِي جَمِيعِ الْعَالَمِ، الَّذِي تَخْضَعُ لَهُ الْأَسْبَابُ وَالسُّنَنُ فِيهِ وَهُوَ لَا يَخْضَعُ لَهَا، وَهُوَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَقَدْ شَرَحْنَا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ مِرَارًا، وَبَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ مِنَ
التَّفْسِيرِ وَالْمَنَارِ مَعْنَى كَوْنِ الْإِسْلَامِ دِينَ الْفِطْرَةِ، وَأَنَّهُ شُرِّعَ لِتَكْمِيلِ اسْتِعْدَادِ الْبَشَرِ لِلرُّقِيِّ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَمَعْرِفَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ الْمُعِدَّةِ إِيَّاهُمْ لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ، فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ يُصَادِمُهَا.
201
فَهَذَا الدِّينُ التَّعْلِيمِيُّ حَاجَةٌ مِنْ حَاجِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ لَا يَتِمُّ كَمَالُهَا النَّوْعِيُّ بِدُونِهِ، فَهُوَ لِنَوْعِ الْإِنْسَانِ كَالْعَقْلِ لِأَفْرَادِهِ كَمَا حَقَّقَهُ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ.
(٢) الْإِسْلَامُ دِينُ الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ:
تَقْرَأُ قَامُوسَ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ فَلَا تَجِدُ فِيهِ كَلِمَةَ ((الْعَقْلِ)) وَلَا مَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ أَسْمَاءِ هَذِهِ الْغَرِيزَةِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي فَضُلَ الْإِنْسَانُ بِهَا جَمِيعَ أَنْوَاعِ هَذَا الْجِنْسِ الْحَيِّ كَاللُّبِّ وَالنُّهَى، وَلَا أَسْمَاءَ التَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ وَالنَّظَرِ فِي الْعَالَمِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ وَظَائِفِ الْعَقْلِ، وَلَا أَنَّ الدِّينَ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِ، وَقَائِمٌ بِهِ وَعَلَيْهِ. أَمَّا ذِكْرُ الْعَقْلِ بِاسْمِهِ وَأَفْعَالِهِ فِي الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ فَيَبْلُغُ زُهَاءَ خَمْسِينَ مَرَّةً، وَأَمَّا ذِكْرُ ((أُولِي الْأَلْبَابِ)) فَفِي بِضْعَ عَشْرَةَ مَرَّةً، وَأَمَّا كَلِمَةُ ((أُولِي النُّهَى)) أَيِ الْعُقُولِ فَقَدْ جَاءَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ آخِرِ سُورَةِ طه.
أَكْثَرُ مَا ذُكِرَ فِعْلُ الْعَقْلِ فِي الْقُرْآنِ قَدْ جَاءَ فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَاتِ اللهِ، وَكَوْنِ الْمُخَاطَبِينَ وَالَّذِينَ يَفْهَمُونَهَا وَيَهْتَدُونَ بِهَا الْعُقَلَاءُ، وَيُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ فِي الْغَالِبِ آيَاتُ الْكَوْنِ الدَّالَّةُ عَلَى عِلْمِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٢: ١٦٤) وَيَلِي ذَلِكَ فِي الْكَثْرَةِ آيَاتُ كِتَابِهِ التَّشْرِيعِيَّةُ وَوَصَايَاهُ، كَقَوْلِهِ فِي تَفْصِيلِ الْوَصَايَا الْجَامِعَةِ مِنْ أَوَاخِرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٦: ١٥١) وَكَرَّرَ قَوْلَهُ: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ مِرَارٍ كَأَمْرٍ لِرَسُولِهِ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى قَوْمِهِ بِكَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللهِ لَا مِنْ عِنْدِهِ بِقَوْلِهِ: (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (١٠: ١٦) وَجَعَلَ إِهْمَالَ اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ سَبَبَ عَذَابِ الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ فِي أَهْلِ النَّارِ مِنْ سُورَةِ الْمُلْكِ: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (٦٧: ١٠) وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ
آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (٧: ١٧٩) وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا) (٢٢: ٤٦) الْآيَةَ.
كَذَلِكَ آيَاتُ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّفْكِيرِ كَثِيرَةٌ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، فَمَنْ تَأَمَّلَهَا عَلِمَ أَنَّ أَهْلَ هَذَا الدِّينِ هُمْ أَهْلُ النَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ وَالْعَقْلِ وَالتَّدَبُّرِ، وَأَنَّ الْغَافِلِينَ الَّذِينَ يَعِيشُونَ كَالْأَنْعَامِ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنْهُ إِلَّا الظَّوَاهِرُ التَّقْلِيدِيَّةُ، الَّتِي لَا تُزَكِّي الْأَنْفُسَ وَلَا تَصْعَدُ بِهَا فِي مَعَارِجِ الْكَمَالِ، بِعِرْفَانِ ذِي الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) (٣٤: ٤٦)
202
وَقَوْلُهُ: (أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) (٣٠: ٨) وَقَوْلُهُ فِي صِفَاتِ الْعُقَلَاءِ أُولِي الْأَلْبَابِ: (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (٣: ١٩١) وَقَوْلُهُ بَعْدَ نَفْيِ عِلْمِ الْغَيْبِ وَالتَّصَرُّفِ فِي خَزَائِنِ الْأَرْضِ عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَصْرِ وَظِيفَتِهِ فِي اتِّبَاعِ الْوَحْيِ: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ) (٦: ٥٠).
وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ حُكَمَاءِ الْغَرْبِ، بِمَا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ عَاقِلَانِ فِي الْأَرْضِ، مِنْ أَنَّ التَّفَكُّرَ هُوَ مَبْدَأُ ارْتِقَاءِ الْبَشَرِ، وَبِقَدْرِ جَوْدَتِهِ يَكُونُ تَفَاضُلُهُمْ فِيهِ اهـ. وَقَدْ كَانَتِ التَّقَالِيدُ الدِّينِيَّةُ حَجَّرَتْ حُرِّيَّةَ التَّفَكُّرِ وَاسْتِقْلَالَ الْعَقْلِ عَلَى الْبَشَرِ حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ فَأَبْطَلَ بِكِتَابِهِ هَذَا الْحَجْرَ، وَأَعْتَقَهُمْ مِنْ هَذَا الرِّقِّ، وَقَدْ تَعَلَّمَ هَذِهِ الْحُرِّيَّةَ أُمَمُ الْغَرْبِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ نُكِسَ هَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ عَلَى رُءُوسِهِمْ فَحَرَّمُوهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى عَادَ بَعْضُهُمْ يُقَلِّدُونَ فِيهَا مَنْ أَخَذُوهَا عَنْ أَجْدَادِهِمْ.
(٣) الْإِسْلَامُ دِينُ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ:
ذُكِرَ اسْمُ الْعِلْمِ مَعْرِفَةً وَنَكِرَةً فِي عَشَرَاتٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، وَذُكِرَتْ مُشْتَقَّاتُهُ أَضْعَافَ ذَلِكَ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى عُلُومِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِأَنْوَاعِهَا، فَمِنَ الْعِلْمِ الْمُطْلَقِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي وَصَايَا سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (١٧: ٣٦) قَالَ الرَّاغِبُ: أَيْ لَاتَحْكُمْ بِالْقِيَافَةِ وَالظَّنِّ. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: وَلَا تَتَّبِعْ مَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ عِلْمُكَ تَقْلِيدًا أَوْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي الْعِلْمِ الْمَأْثُورِ فِي التَّارِيخِ: (اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (٤٦: ٤) وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي عُلُومِ
الْبَشَرِ الْمَادِّيَّةِ: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (٣٠: ٦ و٧) إِلَخْ. وَقَوْلُهُ فِيهَا دُونَ الْعِلْمِ الرُّوحِيِّ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) (١٧: ٨٥).
وَقَوْلُهُ فِي الْعِلْمِ الْعَقْلِيِّ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ) (٢٢: ٨) الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ فِيهِ الْعِلْمُ النَّظَرِيُّ، بِدَلِيلِ مُقَابَلَتِهِ بِالْهُدَى وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ وَهُوَ هُدَى الدِّينِ. وَقَوْلُهُ فِي الْعِلْمِ الطَّبِيعِيِّ: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) (٣٠: ٢٢) بِكَسْرِ اللَّامِ أَيْ عُلَمَاءِ الْكَوْنِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ بَعْدَ ذِكْرِ إِخْرَاجِ الثَّمَرَاتِ الْمُخْتَلِفِ أَلْوَانُهَا مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ، وَاخْتِلَافُ أَلْوَانِ الطَّرَائِقِ فِي الْجِبَالِ وَأَلْوَانِ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ: (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (٣٥: ٢٨)
203
الْآيَةَ. فَالْمُرَادُ بِالْعُلَمَاءِ هُنَا الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَسْرَارَ الْكَوْنِ وَأَسْبَابَ اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ وَأَنْوَاعِهِ وَأَلْوَانِهَا وَآيَاتِ اللهِ وَحِكَمِهِ فِيهَا.
عَظَّمَ الْقُرْآنُ شَأْنَ الْعِلْمِ تَعْظِيمًا لَا تُعْلُوهُ عَظْمَةٌ أُخْرَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ) (٣: ١٨) الْآيَةَ، فَبَدَأَ عَزَّ وَجَلَّ بِنَفْسِهِ وَثَنَّى بِمَلَائِكَتِهِ، وَجَعَلَ أُولِي الْعِلْمِ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْحُكَمَاءُ وَمَنْ دُونَهُمْ مِنْ أَهْلِ الدَّرَجَاتِ فِي قَوْلِهِ: يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ (٥٨: ١١) وَأَمَرَ أَكْرَمَ رُسُلِهِ وَأَعْلَمَهُمْ بِأَنْ يَدْعُوَهُ بِقَوْلِهِ: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (٢٠: ١١٤).
وَيُؤَيِّدُ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةَ فِي مَدْحِ الْعِلْمِ وَالْحَثِّ عَلَى مَا وَرَدَ فِي ذَمِّ اتِّبَاعِ الظَّنِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (١٠: ٣٦) وَمِثْلُهُ: وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (٥٣: ٢٨) وَقَوْلُهُ فِي قَوْلِ النَّصَارَى بِصَلْبِ الْمَسِيحِ: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ (٤: ١٥٧).
وَبَلَغَ مِنْ تَعْظِيمِهِ لِشَأْنِ الْعِلْمِ وَالْبُرْهَانِ أَنْ قَيَّدَ بِهِ الْحُكْمَ بِمَنْعِ الشِّرْكِ بِاللهِ تَعَالَى وَالنَّهْيِ عَنْهُ وَهُوَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ وَأَقْصَى الْكُفْرِ فَقَالَ: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٧: ٣٣) السُّلْطَانُ الْبُرْهَانُ.
وَقَالَ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا
وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا (٢٩: ٨) وَمَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الشِّرْكَ بِاللهِ لَا يَكُونُ بِعِلْمٍ وَلَا بِبُرْهَانٍ، لِأَنَّهُ ضَرُورِيُّ الْبُطَلَانِ، وَتَرَى تَفْصِيلَ هَذَا فِيمَا بَعْدَهُ مِنْ تَعْظِيمِ أَمْرِ الْحُجَّةِ وَالدَّلِيلِ وَمَا يَلِيهِ مِنْ ذَمِّ التَّقْلِيدِ.
وَأَمَّا الْحِكْمَةُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي تَعْظِيمِ شَأْنِهَا الْمُطْلَقِ: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٢: ٢٦٩) : وَقَالَ تَعَالَى فِي بَيَانِ مُرَادِهِ مِنْ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٦٢: ٢) وَفِي مَعْنَاهَا آيَتَانِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ. وَقَالَ لِرَسُولِهِ مُمْتَنًّا عَلَيْهِ: وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (٤: ١١٣) وَقَالَ لَهُ: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ (١٦: ١٢٥) وَقَالَ لَهُ فِي خَاتِمَةِ الْوَصَايَا بِأُمَّهَاتِ الْفَضَائِلِ وَالنَّهْيِ عَنْ كَبَائِرِ الرَّذَائِلِ، مَعَ بَيَانِ عِلَلِهَا وَمَا لَهَا مِنَ الْعَوَاقِبِ:
204
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ (١٧: ٣٩) وَقَالَ لِنِسَائِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ (٣٣: ٣٤).
وَقَدْ آتَى اللهُ جَمِيعَ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ الْحِكْمَةَ، وَلَكِنْ أَضَاعَهَا أَقْوَامُهُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ بِالتَّقَالِيدِ وَالرِّيَاسَةِ الدِّينِيَّةِ، وَنَسَخَهَا بُولَسْ مِنَ النَّصْرَانِيَّةِ بِنَصٍّ صَرِيحٍ. قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي الْيَهُودِ: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (٤: ٥٤) فَالْكِتَابُ أَعْلَى مَا يُؤْتِيهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ مِنْ نِعَمِهِ وَيَلِيهِ الْحِكْمَةُ وَيَلِيهَا الْمُلْكُ. وَقَالَ فِي نَبِيِّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ (٢: ٢٥١) وَقَالَ لِنَبِيِّهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (٥: ١١٠) وَقَالَ: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ (٣١: ١٢) وَذَكَرَ مِنْ حِكْمَتِهِ وَصَايَاهُ لِابْنِهِ بِالْفَضَائِلِ وَمَنَافِعِهَا وَنَهْيَهُ عَنِ الرَّذَائِلِ مُعَلَّلَةً بِمَضَارِّهَا. فَالْحِكْمَةُ أَخَصُّ مِنَ الْعِلْمِ، هِيَ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَبِمَا فِيهِ مِنَ الْفَائِدَةِ وَالْمَنْفَعَةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الْعَمَلِ، فَهِيَ بِمَعْنَى الْفَلْسَفَةِ الْعَمَلِيَّةِ كَعِلْمِ النَّفْسِ وَالْأَخْلَاقِ وَأَسْرَارِ الْخَلْقِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ وَصَايَا سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ (١٧: ٣٩) وَلَوْلَا اقْتِرَانُ تِلْكَ الْوَصَايَا بِحِكَمِهَا وَعِلَلِهَا وَمَنَافِعِهَا لَمَا سُمِّيَتْ حِكْمَةً. أَلَا تَرَى أَنَّهُ سَمَّى
فِيهَا الْمُبَذِّرِينَ لِلْمَالِ ((إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ)) لِأَنَّهُمْ يُفْسِدُونَ نِظَامَ الْمَعِيشَةِ بِإِسْرَافِهِمْ، وَيَكْفُرُونَ النِّعْمَةَ بِعَدَمِ حِفْظِهَا وَوَضْعِهَا فِي مَوَاضِعِهَا بِالِاعْتِدَالِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَقِبَهُ: وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (١٧: ٢٧) ثُمَّ قَالَ: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (١٧: ٢٩) فَعَلَّلَ الْإِسْرَافَ فِي الْإِنْفَاقِ بِأَنَّ عَاقِبَةَ فَاعِلِهِ أَنْ يَكُونَ مَلُومًا مِنَ النَّاسِ وَمَحْسُورًا فِي نَفْسِهِ، وَالْمَحْسُورُ مَنْ حُسِرَ عَنْهُ سَتْرُهُ فَانْكَشَفَ مِنْهُ الْمُغَطَّى، وَيُطْلَقُ عَلَى مَنِ انْحَسَرَتْ قُوَّتُهُ وَانْكَشَفَتْ عَنْ عَجْزِهِ، وَالْمَحْسُورُ الْمَغْمُومُ أَيْضًا. وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي تَصِحُّ فِي وَصْفِ الْمُسْرِفِ فِي النَّفَقَةِ، يُوقِعُهُ إِسْرَافُهُ فِي الْعُدْمِ وَالْفَقْرِ إِلَخْ. وَحَسِيرُ الْبَصَرِ كَلَيْلُهُ وَقَصِيرُهُ.
وَيَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ الْفِقْهِ، وَهُوَ الْفَهْمُ الدَّقِيقُ لِلْحَقَائِقِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْعَالِمُ حَكِيمًا.
(٤) الْإِسْلَامُ دِينُ الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ:
قَالَ تَعَالَى: يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (٤: ١٧٤) وَقَالَ: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (٢٣: ١١٧) قَيَّدَ الْوَعِيدَ عَلَى الشِّرْكِ بِكَوْنِهِ لَا بُرْهَانَ لِصَاحِبِهِ يَحْتَجُّ بِهِ عِنْدَ رَبِّهِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا كَذَلِكَ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ الْبُرْهَانِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى يَبْعَثُ الْأُمَمَ مَعَ رُسُلِهِمْ وَوَرَثَتِهِمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِمْ وَيُطَالِبُهُمْ بِحَضْرَتِهِمْ بِالْبُرْهَانِ عَلَى مَا خَالَفُوهُمْ فِيهِ كَمَا قَالَ:
205
وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨: ٧٥).
وَأَقَامَ الْبُرْهَانَ الْعَقْلِيَّ عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ بِقَوْلِهِ بَعْدَ ذِكْرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا) (٢١: ٢٢٠) ثُمَّ قَفَّى عَلَيْهِ بِمُطَالَبَةِ الْمُشْرِكِينَ بِالْبُرْهَانِ عَلَى مَا اتَّخَذُوهُ مِنَ الْآلِهَةِ مِنْ دُونِهِ مُطَالَبَةَ تَعْجِيزٍ فَقَالَ: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) (٢١: ٢٤) الْآيَةَ، وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ: أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٧: ٦٤).
وَقَالَ فِي سِيَاقِ مُحَاجَّةِ إِبْرَاهِيمَ لِقَوْمِهِ وَإِقَامَةِ الْبَرَاهِينِ الْعِلْمِيَّةِ لَهُمْ عَلَى بُطْلَانِ
شِرْكِهِمْ: (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٦: ٨١) ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (٦: ٨٣) فَالدَّرَجَاتُ هُنَا دَرَجَاتُ الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ عَلَى الْعِلْمِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ فِيهِ ذِكْرَ الْحِكْمَةِ عَلَى الْعِلْمِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْعِلْمِ آيَةُ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ فِيهِ.
وَمِمَّا جَاءَ فِيهِ الْبُرْهَانُ بِلَفْظِ السُّلْطَانِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) (٤٠: ٣٥) الْآيَةَ، وَفِي مَعْنَاهَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ) (٤٠: ٥٦) الْآيَةَ، وَفِي عِدَّةِ سُوَرٍ أَنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ مُوسَى إِلَى فِرْعَوْنَ بِآيَاتِهِ وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ.
(٥) الْإِسْلَامُ دِينُ الْقَلْبِ وَالْوِجْدَانِ وَالضَّمِيرِ:
قَالَ الْفَيُّومِيُّ فِي الْمِصْبَاحِ: ضَمِيرُ الْإِنْسَانِ قَلْبُهُ وَبَاطِنُهُ، وَقَالَ: وَالْقَلْبُ مِنَ الْفُؤَادِ مَعْرُوفٌ - يَعْنِي أَنَّهُ ضَمِيرُهُ وَوِجْدَانُهُ الْبَاطِنُ (قَالَ) : وَيُطْلَقُ عَلَى الْعَقْلِ اهـ. وَقَدْ شَرَحْنَا مَعْنَاهُ هَذَا وَطَرِيقَ اسْتِعْمَالِهِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْأَعْرَافِ وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي مِائَةِ آيَةٍ وَبِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً.
مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ ق: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٥٠: ٣٧) وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (٢٦: ٨٨، ٨٩) وَمَدْحُهُ لِخَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ (إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ) (٣٧: ٨٤) وَقَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْهُ (وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (٢: ٢٦) وَقَوْلُهُ فِي صِفَةِ الْمُؤْمِنِينَ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (١٣: ٢٨)
206
وَقَوْلُهُ فِي صِفَاتِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا) (٥٧: ٧٢) وَوَصَفَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْخُشُوعِ وَالْإِخْبَاتِ لِلَّهِ وَتَمْحِيصِهَا مِنَ الشَّوَائِبِ، وَقُلُوبِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ بِالرِّجْسِ وَالْمَرَضِ وَالْقَسْوَةِ وَالزَّيْغِ. وَعَبَّرَ عَنْ فَقْدِهَا لِلِاسْتِعْدَادِ لِلْحَقِّ وَالْخَيْرِ بِالطَّبْعِ وَالْخَتْمِ وَالرَّيْنِ عَلَيْهَا، أَيْ أَنَّهَا كَالْمَخْتُومِ عَلَيْهِ فَلَا يَدْخُلُهُ شَيْءٌ جَدِيدٌ.
وَإِذْ كَانَ الْإِسْلَامُ دِينَ الْعَقْلِ وَالْبُرْهَانِ، وَحُرِّيَّةِ الضَّمِيرِ وَالْوِجْدَانِ، مَنَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّصَارَى وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْإِكْرَاهِ فِي الدِّينِ وَالْإِجْبَارِ عَلَيْهِ وَالْفِتْنَةِ وَالِاضْطِهَادِ لِمُخَالِفِيهِمْ فِيهِ، وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ بَيَّنَّاهَا فِي مَحَلِّهَا، وَمِنْ دَلَائِلِهَا ذَمُّ الْقُرْآنِ لِلتَّقْلِيدِ وَتَضْلِيلُ أَهْلِهِ.
(٦) مَنْعُ التَّقْلِيدِ وَالْجُمُودِ عَلَى اتِّبَاعِ الْآبَاءِ وَالْجُدُودِ:
كُلُّ مَا نَزَلَ مِنَ الْآيَاتِ فِي مَدْحِ الْعِلْمِ وَفَضْلِهِ وَاسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ وَالْفِكْرِ وَحُرِّيَّةِ الْوِجْدَانِ يَدُلُّ عَلَى ذَمِّ التَّقْلِيدِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَمِّهِ وَالنَّعْيِ عَلَى أَهْلِهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ وَمَثَلُ) (٢: ١٧٠) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ يَاأَيُّهَا) (٥: ١٠٤) ذَمَّهُمْ مِنْ نَاحِيَتَيْنِ: (إِحْدَاهُمَا) الْجُمُودُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ وَالِاكْتِفَاءُ بِهِ عَنِ التَّرَقِّي فِي الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ شَأْنِ الْإِنْسَانِ الْحَيِّ الْعَاقِلِ، فَإِنَّ الْحَيَاةَ تَقْتَضِي النُّمُوَّ وَالتَّوْلِيدَ، وَالْعَقْلُ يَطْلُبُ الْمَزِيدَ وَالتَّجْدِيدَ. (وَالثَّانِيَةُ) أَنَّهُمْ بِاتِّبَاعِهِمْ لِآبَائِهِمْ قَدْ فَقَدُوا مَزِيَّةَ الْبَشَرِ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْحُسْنِ وَالْقَبِيحِ، بِطَرِيقِ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ، وَطَرِيقِ الِاهْتِدَاءِ فِي الْعَمَلِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (٧: ٢٨) وَقَالَ تَعَالَى فِي عِبَادَةِ الْعَرَبِ لِلْمَلَائِكَةِ: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (٤٣: ٢٠ - ٢٣) وَقَدْ وَرَدَتِ الشَّوَاهِدُ عَلَى هَذَا فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ مَعَ قَوْمِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالشُّعَرَاءِ وَالصَّافَّاتِ.
فَالْقُرْآنُ قَدْ جَاءَ يَهْدِي جَمِيعَ مُتَّبِعِي الْمِلَلِ وَالْأَدْيَانِ السَّابِقَةِ إِلَى اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ مَعَ ضَمَائِرِهِمْ لِلْوُصُولِ إِلَى الْعِلْمِ وَالْهُدَى فِي الدِّينِ، وَأَلَّا يَكْتَفُوا بِمَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ وَأَجْدَادُهُمْ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ
207
هَذَا جِنَايَةٌ عَلَى الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَالْعَقْلِ وَالْفِكْرِ
وَالْقَلْبِ الَّتِي امْتَازَ بِهَا الْبَشَرُ، وَبِهَذَا الْعِلْمِ وَالْهُدَى امْتَازَ الْإِسْلَامُ وَدَخَلَ فِيهِ الْعُقَلَاءُ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ أَفْوَاجًا، ثُمَّ نُكِسَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَاتَّبَعُوا سُنَنَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ فِي التَّقْلِيدِ لِآبَائِهِمْ وَمَشَايِخِهِمُ الْمَنْسُوبَيْنِ إِلَى بَعْضِ أَئِمَّةِ عُلَمَائِهِمْ، الَّذِينَ نَهَوْهُمْ عَنِ التَّقْلِيدِ وَلَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِهِ، فَأَبْطَلُوا بِذَلِكَ حُجَّةَ اللهِ تَعَالَى عَلَى الْأُمَمِ وَصَارُوا حُجَّةً عَلَى دِينِهِمْ، حَتَّى إِنَّ أَدْعِيَاءَ الْعِلْمِ الرَّسْمِيِّ فِيهِمْ يُنْكِرُونَ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ يَدْعُونَهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ كِتَابِ اللهِ وَهَدْيِ رَسُولِهِ وَسِيرَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ أَهْلِهِ وَنَحْنُ مَعَهُمْ فِي بَلَاءٍ وَعَنَاءٍ، نُقَاسِي مِنْهُمْ مَا شَاءَ الْجَهْلُ وَالْجُمُودُ مِنِ اسْتِهْزَاءٍ وَطَعْنٍ وَبِذَاءٍ، وَتَهَكُّمٍ بِلَقَبِ ((الْمُجْتَهِدِ)) الَّذِي احْتَكَرَهُ الْجَهْلُ لِبَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْعُلَمَاءِ.
وَلَوْ كَانَ فِينَا عُلَمَاءُ كَثِيرُونَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ فِي صُورَتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، لِدَخَلَ النَّاسُ الْمُسْتَقِلُّونَ فِي الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ أَفْوَاجًا حَتَّى يَعُمَّ الدُّنْيَا، لِأَنَّ التَّعْلِيمَ الْعَصْرِيَّ فِي جَمِيعِ مَدَارِسِ الْأَرْضِ يَجْرِي عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِقْلَالِ فِي الْفَهْمِ وَاتِّبَاعِ الدَّلِيلِ فِي جَمِيعِ بِلَادِ الْأَفْرُعِ وَالْبِلَادِ الْمُقَلِّدَةِ لَهُمْ: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ يَرَوْنَ جَمِيعَ الْأَدْيَانِ تَقْلِيدِيَّةً وَيَعْتَدُّونَهَا نُظُمًا أَدَبِيَّةً وَاجْتِمَاعِيَّةً لِلْأُمَمِ، فَلِهَذَا يَرَوْنَ الْأَوْلَى بِحِفْظِ نِظَامِهِمُ اتِّبَاعَ دِينِهِمُ التَّقْلِيدِيِّ، وَبِهَذَا يَعْسُرُ عَلَيْنَا أَنْ نُقْنِعَهُمْ بِامْتِيَازِ الْإِسْلَامِ عَلَى دِينِهِمْ، لِأَنَّهُ يَقِلُّ فِينَا مَنْ يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِ الْإِسْلَامِ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خَصَّهُ بِهَا الْقُرْآنُ وَمَا بَيَّنَهُ مِنْ سُنَّةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسِيرَةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِينَ، رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
(دَحْضُ شُبْهَةٍ، وَإِقَامَةُ حُجَّةٍ)
يَتَوَهَّمُ بَعْضُ الْمُقَلِّدِينَ أَنَّ دَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الِاهْتِدَاءِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ فِي فَهْمِهِمَا الَّتِي اشْتُهِرَ الْمَنَارُ فِي عَصْرِنَا بِهَا، هِيَ الَّتِي جَرَّأَتْ بَعْضَ الْجَاهِلِينَ عَلَى دَعْوَى الِاجْتِهَادِ فِي الشَّرِيعَةِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنْ تَقْلِيدِ الْأَئِمَّةِ وَالِانْتِقَادِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى اتِّبَاعِهِمْ بِمَا هُوَ ابْتِدَاعٌ جَدِيدٌ، وَاسْتِبْدَالٌ لِلْفَوْضَى بِالتَّقْلِيدِ، وَهُوَ وَهْمٌ سَبَبُهُ الْجَهْلُ بِالدِّينِ وَبِالتَّارِيخِ فَمَذَاهِبُ الِابْتِدَاعِ وَالْإِلْحَادِ قَدِيمَةٌ قَدْ نَجَمَتْ قُرُونُهَا فِي خَيْرِ الْقُرُونِ وَعَهْدِ أَكْبَرِ الْأَئِمَّةِ، وَكَانَ أَشَدَّهَا إِفْسَادًا لِلدِّينِ الدَّعْوَةُ إِلَى اتِّبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْمَعْصُومِينَ الَّذِينَ لَا يُسْأَلُونَ عَنِ الدَّلِيلِ، عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ مِنْ تَحْرِيمِ اتِّبَاعِ أَحَدٍ لَذَّاتِهِ فِي الدِّينِ بَعْدَ
مُحَمَّدٍ الْمَعْصُومِ الَّذِي لَا مَعْصُومَ بَعْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَكِنَّ الْمُقَلِّدِينَ لِهَؤُلَاءِ الْمُحَرِّمِينَ لِلتَّقْلِيدِ قَدِ اتَّبَعُوا الْقَائِلِينَ بِعِصْمَةِ أَئِمَّتِهِمْ، حَتَّى مَلَاحِدَةِ الْبَاطِنِيَّةِ مِنْهُمْ، فَهُمْ يَرُدُّونَ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَقْوَالِ أَئِمَّتِهِمْ بَلْ بِأَقْوَالِ كُلِّ مَنْ يَنْتَمِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَدْعِيَاءِ الْعِلْمِ. وَإِنَّمَا تَرُوجُ الْبِدَعُ فِي سُوقِ التَّقْلِيدِ الَّذِي يَتْبَعُ أَهْلُهُ كُلَّ نَاعِقٍ، لَا فِي سُوقِ الِاسْتِقْلَالِ وَالْأَخْذِ بِالدَّلَائِلِ
208
وَمِنْ بَابِ التَّقْلِيدِ دَخَلَ أَكْثَرُ الْخُرَافَاتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، لِانْتِسَابِ جَمِيعِ الدَّجَّالِينَ مِنْ أَهْلِ الطَّرَائِقِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَهُمْ فِي دَعْوَى اتِّبَاعِهِمْ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَنَحْنُ دُعَاةَ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَالِاهْتِدَاءِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَحَقُّ مِنْهُمْ بِاتِّبَاعِ الْأَئِمَّةِ.
إِنَّ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ وَشُرُوحِ الْأَحَادِيثِ لِلْعُلَمَاءِ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى الْأَئِمَّةِ كَثِيرًا مِنَ الْبِدَعِ وَالْخُرَافَاتِ الَّتِي يَتَبَرَّأُ مِنْهَا أَئِمَّةُ الْهُدَى، وَتَرَى عُلَمَاءَ الرُّسُومِ الْجَامِدِينَ يَحْتَجُّونَ بِذِكْرِهَا فِي هَذِهِ الْكُتُبِ عَلَى شَرْعِيَّتِهَا وَعَلَى رَدِّ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ بِهَا، وَصَاحِبُ الْمَنَارِ قَدِ انْفَرَدَ دُونَ عُلَمَاءِ مِصْرَ بِالرَّدِّ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَعَلَى الْبَابِيَّةِ وَالْبَهَائِيَّةِ وَالْقَادَيَانِيَّةِ وَالتِّيجَانِيَّةِ وَالْقُبُورِيِّينَ وَسَائِرِ مُبْتَدَعَةِ عَصْرِنَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
(٧) الْحُرِّيَّةُ الشَّخْصِيَّةُ فِي الدِّينِ بِمَنْعِ الْإِكْرَاهِ وَالِاضْطِهَادِ وَرِيَاسَةِ السَّيْطَرَةِ:
هَذِهِ الْمَزِيَّةُ مِنْ مَزَايَا الْإِسْلَامِ هِيَ نَتِيجَةُ الْمَزَايَا الَّتِي بَيَّنَّا بِهَا كَوْنَهُ دِينَ الْفِطْرَةِ، فَأَمَّا مَنْعُ الْإِكْرَاهِ فِيهِ وَعَلَيْهِ فَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَكَّةَ: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) (١٠: ٩٩ - ١٠١) عَلَّمَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ مِنْ سُنَنِهِ فِي الْبَشَرِ أَنْ تَخْتَلِفَ عُقُولُهُمْ وَأَفْكَارُهُمْ فِي فَهْمِ الدِّينِ، وَتَتَفَاوَتُ أَنْظَارُهُمْ فِي الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ فَيُؤْمِنُ بَعْضٌ وَيَكْفُرُ بَعْضٌ، فَمَا كَانَ يَتَمَنَّاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ إِيمَانِ جَمِيعِ النَّاسِ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَى مَشِيئَتِهِ تَعَالَى فِي اخْتِلَافِ اسْتِعْدَادِ النَّاسِ لِلْإِيمَانِ، وَهُوَ مَنُوطٌ بِاسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ وَأَنْظَارِهِمْ فِي آيَاتِ اللهِ فِي خَلْقِهِ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ هِدَايَةِ الدِّينِ وَضَلَالَةِ الْكُفْرِ.
ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى لَهُ عِنْدَمَا أَرَادَ أَصْحَابُهُ أَخْذَ مَنْ كَانَ عِنْدَ بَنِي النَّضِيرِ مِنْ أَوْلَادِهِمْ
عِنْدَ إِجْلَائِهِمْ عَنِ الْحِجَازِ وَكَانَ قَدْ تَهَوَّدَ بَعْضُهُمْ: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (٢: ٢٥٦) الْآيَةَ - فَأَمَرَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُخَيِّرُوهُمْ، فَمَنِ اخْتَارَ الْيَهُودِيَّةَ أُجْلِيَ مَعَ الْيَهُودِ وَلَا يُكْرَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَنِ اخْتَارَ الْإِسْلَامَ بَقِيَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ.
وَأَمَّا مَنْعُ الْفِتْنَةِ، وَهِيَ اضْطِهَادُ النَّاسِ لِأَجْلِ دِينِهِمْ حَتَّى يَتْرُكُوهُ، فَهُوَ السَّبَبُ الْأَوَّلُ لِشَرْعِيَّةِ الْقِتَالِ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (٢: ١٩٣) مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. ثُمَّ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ ٣٩ مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ الَّتِي بِلَفْظِهَا مَعَ زِيَادَةِ (كُلُّهُ) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي ص ٥٥٢ وَمَا بَعْدَهَا ج ٩ ط الْهَيْئَةِ.
وَأَمَّا مَنْعُ رِيَاسَةِ السَّيْطَرَةِ الدِّينِيَّةِ كَالْمَعْهُودَةِ عِنْدَ النَّصَارَى فَفِيهَا آيَاتٌ مُبَيَّنَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَهِيَ مَعْلُومَةٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ سِيرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا
209
فِي الْكَلَامِ عَلَى وَظَائِفِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَحَسْبُكَ مِنْهَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) (٨٨: ٢١، ٢٢).
الْمَقْصِدُ الرَّابِعُ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ
(الْإِصْلَاحُ الِاجْتِمَاعِيُّ الْإِنْسَانِيُّ وَالسِّيَاسِيُّ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِالْوَحَدَاتِ الثَّمَانِ)
وَحْدَةُ الْأُمَّةِ - وَحْدَةُ الْجِنْسِ الْبَشَرِيِّ - وَحْدَةُ الدِّينِ - وَحْدَةُ التَّشْرِيعِ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْعَدْلِ - وَحْدَةُ الْأُخُوَّةِ الرُّوحِيَّةِ وَالْمُسَاوَاةِ فِي التَّعَبُّدِ - وَحْدَةُ الْجِنْسِيَّةِ السِّيَاسِيَّةِ الدَّوْلِيَّةِ - وَحْدَةُ الْقَضَاءِ - وَحْدَّةُ اللُّغَةِ.
جَاءَ الْإِسْلَامُ وَالْبَشَرُ أَجْنَاسٌ مُتَفَرِّقُونَ، يَتَعَادَوْنَ فِي الْأَنْسَابِ وَالْأَلْوَانِ وَاللُّغَاتِ وَالْأَوْطَانِ وَالْأَدْيَانِ، وَالْمَذَاهِبِ وَالْمَشَارِبِ، وَالشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ، وَالْحُكُومَاتِ وَالسِّيَاسَاتِ، يُقَاتِلُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ مُخَالِفَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الرَّوَابِطِ الْبَشَرِيَّةِ وَإِنْ وَافَقَهُ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ، فَصَاحَ الْإِسْلَامُ بِهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً دَعَاهُمْ بِهَا إِلَى الْوَحْدَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْعَامَّةِ الْجَامِعَةِ وَفَرَضَهَا عَلَيْهِمْ، وَنَهَاهُمْ عَنِ التَّفَرُّقِ وَالتَّعَادِي وَحَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ، وَبَيَانُ هَذَا التَّفْرِيقِ وَمَضَارِّهِ بِالشَّوَاهِدِ التَّارِيخِيَّةِ، وَبَيَانُ أُصُولِ الْكِتَابِ الْإِلَهِيِّ وَسُنَّةِ
خَاتَمِ النَّبِيِّينَ فِي الْجَامِعَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، لَا يُمْكِنُ بَسْطُهُمَا إِلَّا بِمُصَنَّفٍ كَبِيرٍ، فَنَكْتَفِي فِي هَذِهِ الْخُلَاصَةِ الِاسْتِطْرَادِيَّةِ فِي إِثْبَاتِ الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ، بِسَرْدِ الْأُصُولِ الْجَامِعَةِ فِي هَذَا الْإِصْلَاحِ الْإِنْسَانِيِّ الدَّاعِي إِلَى جَعْلِ النَّاسِ مِلَّةً وَاحِدَةً، وَدِينًا وَاحِدًا وَشَرْعًا وَاحِدًا، وَحُكْمًا وَاحِدًا وَلِسَانًا وَاحِدًا، كَمَا أَنَّ جِنْسَهُمْ وَاحِدٌ، وَرَبَّهُمْ وَاحِدٌ.
وَنَبْدَأُ بِالْأَصْلِ الْجَامِعِ فِي هَذَا وَنُقَفِّي عَلَيْهِ بِالْأُصُولِ وَالشَّوَاهِدِ الْمُفَصِّلَةِ لَهُ:
قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ مُخَاطِبًا أُمَّةَ الْإِسْلَامِ: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (٢١: ٩٢).
ثُمَّ بَيَّنَ لَهَا فِي سُورَةِ ((الْمُؤْمِنُونَ)) أَنَّهُ خَاطَبَ جَمِيعَ النَّبِيِّينَ بِهَذِهِ الْوَحْدَةِ لِلْأُمَّةِ فَقَالَ: يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (٢٣: ٥١، ٥٢) وَلَكِنْ كَانَ لِكُلِّ نَبِيٍّ أُمَّةٌ مِنَ النَّاسِ هُمْ قَوْمُهُ، وَأَمَّا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ فَأَمَّتُهُ جَمِيعُ النَّاسِ، وَقَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ رُسُلِهِ وَعَدَمَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ، فَالْإِيمَانُ بِخَاتَمِهِمْ كَالْإِيمَانِ بِأَوَّلِهِمْ وَبِمَنْ بَيْنَهُمَا، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الْمُلُوكِ أَوِ الْوُلَاةِ
210
فِي الدَّوْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَمَثَلُ اخْتِلَافِ شَرَائِعِهِمْ بِنَسْخِ الْمُتَأَخِّرِ مِنْهَا لِمَا قَبْلَهُ كَمَثَلِ تَعْدِيلِ الْقَوَانِينِ فِي الدَّوْلَةِ الْوَاحِدَةِ أَيْضًا إِلَى أَنْ كَمَلَ الدِّينُ.
(الْأَصْلُ الثَّانِي) الْوَحْدَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ أَجْنَاسِ الْبَشَرِ وَشُعُوبِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ.
وَشَاهِدُهُ الْعَامُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) (٤٩: ١٣) وَقَدْ بَلَّغَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ لِلْأُمَّةِ يَوْمَ الْعِيدِ الْأَكْبَرِ بِمِنًى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. وَهَذِهِ الْوَحْدَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ تَتَضَمَّنُ الدَّعْوَةَ إِلَى التَّآلُفِ بِالتَّعَارُفِ، وَإِلَى تَرْكِ التَّعَادِي بِالتَّخَالُفِ.
(الْأَصْلُ الثَّالِثُ) وَحْدَةُ الدِّينِ بِاتِّبَاعِ رَسُولٍ وَاحِدٍ جَاءَ بِأُصُولِ الدِّينِ الْفِطْرِيِّ الَّذِي جَاءَ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ الرُّسُلِ، وَأَكْمَلَ تَشْرِيعَهُ بِمَا يُوَافِقُ جَمِيعَ الْبَشَرِ، وَشَاهِدُهُ الْأَعَمُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) (٧: ١٥٨) وَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ دِينَ الْفِطْرَةِ وَحُرِّيَّةِ الِاعْتِقَادِ وَالْوِجْدَانِ جُعِلَ الدِّينُ اخْتِيَارِيًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (٢: ٢٥٦).
(الْأَصْلُ الرَّابِعُ) وَحْدَةُ التَّشْرِيعِ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْخَاضِعِينَ لِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِي الْحُقُوقِ الْمَدَنِيَّةِ وَالتَّأْدِيبِيَّةِ بِالْعَدْلِ الْمُطْلَقِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالْمَلِكِ وَالسُّوقَةِ، وَالْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، وَالْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، وَسَنَذْكُرُ بَعْضَ شَوَاهِدِهِ فِي إِصْلَاحِ التَّشْرِيعِ فِيهِ.
(الْأَصْلُ الْخَامِسُ) الْوَحْدَةُ الدِّينِيَّةُ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا الدِّينِ، فِي أُخُوَّتِهِ الرُّوحِيَّةِ وَعِبَادَاتِهِ، وَفِي الِاجْتِمَاعِ لِلِاجْتِمَاعِيِّ مِنْهَا كَالصَّلَاةِ وَمَنَاسِكِ الْحَجِّ، فَمُلُوكُ الْمُسْلِمِينَ وَأُمَرَاؤُهُمْ وَكِبَارُ عُلَمَائِهِمْ يَخْتَلِطُونَ بِالْفُقَرَاءِ وَالْعَوَّامِ فِي صُفُوفِ الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ بِالْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ وَسَائِرِ مَوَاطِنِ الْحَجِّ. لَا تَجِدُ شُعُوبَ الْإِفْرِنْجِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ يَرْضَوْنَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُسَاوَاةِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ بِالضَّرُورَةِ لِلْعَمَلِ بِهَا مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْيَوْمِ، قَالَ تَعَالَى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (٤٩: ١٠) وَقَالَ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ الْمُحَارَبِينَ: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (٩: ١١).
(الْأَصْلُ السَّادِسُ) وَحْدَةُ الْجِنْسِيَّةِ السِّيَاسِيَّةِ الدَّوْلِيَّةِ، بِأَنْ تَكُونَ جَمِيعُ الْبِلَادِ الْخَاضِعَةِ لِلْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ مُتَسَاوِيَةً فِي الْحُقُوقِ الْعَامَّةِ، إِلَّا حَقَّ الْإِقَامَةِ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ أَوِ الْحِجَازِ فَإِنَّهُ خَاصٌّ بِالْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ لِلْحَرَمَيْنِ وَسِيَاجِهِمَا مِنَ الْجَزِيرَةِ حُكْمَ الْمَعَابِدِ وَالْمَسَاجِدِ، وَحُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي مَعَابِدِ الْمَلَلِ كُلِّهَا أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِأَهْلِهَا وَلَهَا حُرْمَتُهَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ أَهْلِهَا دُخُولُهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ مِنْهُمْ، الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُهُمْ فِي هَذَا سَوَاءٌ.
(الْأَصْلُ السَّابِعُ) وَحْدَةُ الْقَضَاءِ وَاسْتِقْلَالُهُ وَمُسَاوَاةُ النَّاسِ فِيهَا أَمَامَ الشَّرِيعَةِ الْعَادِيَّةِ إِلَّا أَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْهُ الْأَحْكَامُ الشَّخْصِيَّةُ الدِّينِيَّةُ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يُرَاعِي فِيهَا حُرِّيَّةَ الْعَقِيدَةِ وَالْوِجْدَانِ بِنَاءً عَلَى
211
أَسَاسِهِ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ يَسْمَحُ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي أُمُورِ الزَّوْجِيَّةِ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى عُلَمَاءِ مِلَّتِهِمْ وَإِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا فَإِنَّنَا نَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بِعَدْلِ شَرِيعَتِنَا النَّاسِخَةِ لِشَرَائِعِهِمْ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٥: ٤٢) وَقَوْلُهُ بَعْدَ آيَاتٍ: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ)
(٥: ٤٨).
(الْأَصْلُ الثَّامِنُ) وَحْدَةُ اللُّغَةِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتِمَّ الِاتِّحَادُ وَالْإِخَاءُ بَيْنَ النَّاسِ، وَصَيْرُورَةُ الشُّعُوبِ الْكَثِيرَةِ أُمَّةً وَاحِدَةً إِلَّا بِوَحْدَةِ اللُّغَةِ. وَمَازَالَ الْحُكَمَاءُ الْبَاحِثُونَ فِي مَصَالِحِ الْبَشَرِ الْعَامَّةِ يَتَمَنَّوْنَ لَوْ يَكُونُ لَهُمْ لُغَةٌ وَاحِدَةٌ مُشْتَرِكَةٌ، يَتَعَاوَنُونَ بِهَا عَلَى التَّعَارُفِ وَالتَّآلُفِ وَمَنَاهِجِ التَّعْلِيمِ وَالْآدَابِ وَالِاشْتِرَاكِ فِي الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالْمُعَامَلَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَهَذِهِ الْأُمْنِيَةُ قَدْ حَقَّقَهَا الْإِسْلَامُ بِجَعْلِ لُغَةِ الدِّينِ وَالتَّشْرِيعِ وَالْحُكْمِ لُغَةً لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَالْخَاضِعِينَ لِشَرِيعَتِهِ، إِذْ يَكُونُ الْمُؤْمِنُونَ مَسُوقِينَ بِاعْتِقَادِهِمْ وَوِجْدَانِهِمْ إِلَى مَعْرِفَةِ لُغَةِ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، لِفَهْمِهِمَا وَالتَّعَبُّدِ بِهِمَا وَالِاتِّحَادِ بِإِخْوَتِهِمْ فِيهِمَا، وَهُمَا مَنَاطُ سِيَادَتِهِمْ وَسَعَادَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَبِذَلِكَ كَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ بَيَانَ كَوْنِهِ كِتَابًا عَرَبِيًّا وَحُكْمًا عَرَبِيًّا، وَكَرَّرَ الْأَمْرَ بِتَدَبُّرِهِ وَالتَّفَقُّهِ فِيهِ وَالِاتِّعَاظِ وَالتَّأَدُّبِ بِهِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ فَيَتَعَلَّمُونَ لُغَةَ الشَّرْعِ الَّذِي يَخْضَعُونَ لِحُكْمِهِ، وَالْحُكُومَةِ الَّتِي يَتْبَعُونَهَا لِمَصَالِحِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ كَمَا هِيَ عَادَةُ الْبَشَرِ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِي الْفُتُوحَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ كُلِّهَا.
وَقَدْ بَيَّنْتُ مِنْ قَبْلُ وُجُوبَ تَعَلُّمِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ، وَكَوْنَهُ مُجْمَعًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَرَّرَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَضِي اللهُ عَنْهُ - فِي رِسَالَتِهِ، وَقَدْ جَرَى عَلَيْهِ الْعَمَلُ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ، ثُمَّ خُلَفَاءِ الْأُمَوِيِّينَ وَالْعَبَّاسِيِّينَ، إِلَى أَنْ كَثُرَ الْأَعَاجِمُ وَقَلَّ الْعِلْمُ وَغَلَبَ الْجَهْلُ، فَصَارُوا يَكْتَفُونَ مِنْ لُغَةِ الدِّينِ بِمَا فَرَضَهُ فِي الْعِبَادَاتِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْأَذْكَارِ (فَرَاجِعْ ذَلِكَ فِي ص ٢٦٤ وَمَا بَعْدَهَا) ج ٩ ط الْهَيْئَةِ.
وَلَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُنْكِرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّفَرُّقِ، الَّذِي يُنَافِي وَحْدَتَهُمْ وَجَعْلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ؛ كَمَا شَبَّهَهُمْ بِقَوْلِهِ ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى لَهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)) رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَكَانَ يَخُصُّ بِمَقْتِهِ وَإِنْكَارِهِ التَّفَرُّقَ فِي الْجِنْسِ النِّسْبِيِّ أَوِ اللُّغَةِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَشْهُورٌ، وَأَمَّا الثَّانِي فَيَجْمَعُهُ مَعَ الْأَوَّلِ الشَّاهِدُ الْآتِي.
رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ بِسَنَدِهِ إِلَى مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ:
212
جَاءَ قَيْسُ بْنُ مُطَاطِيَّةَ إِلَى حَلْقَةٍ فِيهَا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَصُهَيْبٌ الرُّومِيُّ، وَبِلَالٌ
الْحَبَشِيُّ، فَقَالَ: هَذَا الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ قَدْ قَامُوا بِنُصْرَةِ هَذَا الرَّجُلِ فَمَا بَالُ هَذَا (يَعْنِي هَذَا الْمُنَافِقُ بِالرَّجُلِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ مِنْ قَوْمِهِ الْعَرَبِ يَنْصُرُونَهُ لِأَنَّهُمْ مِنْ قَوْمِهِ، فَمَا الَّذِي يَدْعُو الْفَارِسِيَّ وَالرُّومِيَّ وَالْحَبَشِيَّ إِلَى نَصْرِهِ؟).
فَقَامَ إِلَيْهِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَأَخَذَ بِتَلْبِيبِهِ (أَيْ بِمَا عَلَى لَبَبِهِ وَنَحْرِهِ مِنَ الثِّيَابِ) ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِمَقَالَتِهِ، فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُغْضَبًا يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ ثُمَّ نُودِيَ: إِنَّ الصَّلَاةَ جَامِعَةٌ - وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الرَّبَّ وَاحِدٌ، وَالْأَبَ وَاحِدٌ، وَإِنَّ الدِّينَ وَاحِدٌ، وَلَيْسَتِ الْعَرَبِيَّةُ بِأَحَدِكُمْ مِنْ أَبٍ وَلَا أُمٍّ، وَإِنَّمَا هِيَ اللِّسَانُ، فَمَنْ تَكَلَّمَ بِالْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ عَرَبِيٌّ)) فَقَامَ مُعَاذٌ، فَقَالَ: فَمَا تَأْمُرُنِي بِهَذَا الْمُنَافِقِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((دَعْهُ إِلَى النَّارِ)) فَكَانَ قَيْسٌ مِمَّنِ ارْتَدَّ فِي الرِّدَّةِ فَقُتِلَ.
أَرَأَيْتَ لَوْ ظَلَّ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هَذِهِ التَّرْبِيَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ أَكَانَ وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنَ الشِّقَاقِ وَالْحُرُوبِ بِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَاللُّغَةِ كُلُّ مَا وَقَعَ وَأَدَّى بِهِمْ إِلَى هَذَا الضَّعْفِ الْعَامِّ؟ أَرَأَيْتَ لَوْ حَافَظُوا عَلَى هَذِهِ الْأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، أَكَانَتْ هَذِهِ الْفِئَةُ مِنْ مَلَاحِدَةِ التُّرْكِ تَجِدُ سَبِيلًا لِاجْتِثَاثِ هَذِهِ الدَّوْحَةِ الْبَاسِقَةِ مِنْ جَنَّةِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَامْتِلَاخِ هَذَا السَّيْفِ الصَّارِمِ مِنْ غِمْدِهِ، وَالْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كِتَابِ اللهِ الْمَعْصُومِ الْمُنَزَّلِ مِنْ عِنْدِ اللهِ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَسُنَّةِ رَسُولِهِ الْمُصْلِحِ لِشُعُوبِ الْبَشَرِ وَهِيَ بِالْعَرَبِيَّةِ، لِأَجْلِ تَكْوِينِ هَذَا الشَّعْبِ وَمَا أُدْغِمَ وَيُدْغَمُ فِيهِ مِنَ الشُّعُوبِ تَكْوِينًا جَدِيدًا، بِرَابِطَةِ لُغَةٍ تُخْلَقُ خَلْقًا جَدِيدًا، لِأَجْلِ أَنْ يَلْحَقَ بِالشُّعُوبِ الْأُورُبِّيَّةِ دَعِيًّا، كَمَا يُلْصَقُ الْوَلَدُ بِغَيْرِ أَبِيهِ إِلْصَاقًا فَرِيًّا، فَيُقَالُ: إِنَّ رَجُلًا عَظِيمًا جَدَّدَ أَوْ أَوْجَدَ شَعْبًا وَلُغَةً وَدَوْلَةً وَدِينًا؟ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا يَبْغُونَ.
لَقَدْ كَانَ هَذَا الشَّعْبُ (التُّرْكُ) قَائِمًا بِاسْمِ الْإِسْلَامِ عَلَى رِيَاسَةٍ رُوحِيَّةٍ، يَدِينُ لَهَا أَوْ بِهَا زُهَاءَ أَرْبَعِمِائَةِ مِلْيُونٍ مِنَ الْبَشَرِ، وَلَوْ أُوتِيَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ مَا يُحْسِنُ بِهِ الْقِيَامَةَ، وَمِنَ الْحَزْمِ وَالْعَزْمِ مَا يُعَزِّزُ بِهِ الْقِيَادَةَ، وَمِنَ النِّظَامِ مَا يُحْكِمُ بِهِ السِّيَاسَةَ، لَأَمْكَنُهُ أَنْ يَسُوسَ بِهَا الشَّرْقَ ثُمَّ يَسُودَ بِنُفُوذِهَا الْغَرْبَ، كَمَا كَانَ يَقْصِدُ نَابِلْيُونُ الْكَبِيرُ لَوْ تَمَّ لَهُ الْبَقَاءُ فِي مِصْرَ.
يَعْتَرِضُ بَعْضُ أُولِي النَّظَرِ الْقَصِيرِ وَالْبَصَرِ الْكَلِيلِ عَلَى تَوْحِيدِ اللُّغَةِ فِي الشُّعُوبِ الْمُخْتَلِفَةِ
213
بِأَنَّهُ خِلَافُ طَبِيعِيَّةِ الْبَشَرِ، وَيُرَدُّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ تَوْحِيدَ الدِّينِ أَبَعْدُ مِنْ تَوْحِيدِ اللُّغَةِ عَنْ طَبِيعَةِ
الْبَشَرِ إِنْ أُرِيدَ بِالْبَشَرِ جَمِيعُ أَفْرَادِهِمْ، وَأَنَّ الْحُكَمَاءَ، مَا زَالُوا يَسْعَوْنَ لِجَمْعِ الْبَشَرِ عَلَى لُغَةٍ وَاحِدَةٍ مُشْتَرَكَةٍ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ تَرَقِّيَ بَعْضِ اللُّغَاتِ بِتَرَقِّي أَهْلِهَا فِي الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ وَالسِّيَاسَةِ وَالْقُوَّةِ يَسْتَحِيلُ مَعَهُ أَنْ يَرْغَبُوا عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَلَمْ يَسْعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ لِجَمْعِهِمْ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي شَرَعَ تَوْحِيدَ الدِّينِ مَعَ شَرْعِهِ وَلُغَتِهِ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ، قَدْ عَلَّمَنَا أَنَّ حِكْمَةَ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ تَأْبَى أَنْ يَكُونَ النَّاسُ كُلُّهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً تَدِينُ بَدِينٍ وَاحِدٍ (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) (١١: ١١٨، ١١٩) وَإِنَّمَا دَعَاهُمْ إِلَى هَذِهِ الرَّحْمَةِ لِيَقِلَّ الشَّقَاءُ الَّذِي يُثِيرُهُ الْخِلَافُ فِيهِمْ - هَذَا الْخِلَافُ الَّذِي جَعَلَ أَعْلَمَ شُعُوبِ الْأَرْضِ وَأَرْقَاهُمْ فِي الْعُمْرَانِ يَبْذُلُونَ فِي هَذَا الْعَهْدِ أَكْثَرَ مَا تَسْتَغِلُّهُ شُعُوبُهُمْ مِنْ ثَرْوَةِ الْعَالَمِ فِي سَبِيلِ الْحُرُوبِ الَّتِي تُنْذِرُ عُمْرَانَهُمْ بِالْخَرَابِ وَالدَّمَارِ.
دَعَا الْإِسْلَامُ الْبَشَرَ كُلَّهُمْ إِلَى دِينٍ وَاحِدٍ يَتَضَمَّنُ تَوْحِيدَ اللُّغَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ مُقَوِّمَاتِ الْأُمَمِ، فَكَانُوا يَدْخُلُونَ فِيهِ أَفْوَاجًا، حَتَّى امْتَدَّ فِي قَرْنٍ وَاحِدٍ مَا بَيْنَ الْمُحِيطِ الْغَرْبِيِّ إِلَى الْهِنْدِ، وَلَوْلَا مَا طَرَأَ عَلَيْهِ مِنَ الِابْتِدَاعِ، وَعَلَى حُكُومَاتِهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالِاسْتِبْدَادِ، وَعَلَى شُعُوبِهِ مِنَ الْجَهْلِ وَالْفَسَادِ، وَالتَّفَرُّقِ بِالِاخْتِلَافِ، لَدَخَلَ فِيهِ أَكْثَرُ الْبَشَرِ، وَلَصَارَتْ لُغَتُهُ لُغَةً لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ فِي حَظِيرَتِهِ مِنَ الْأُمَمِ، فَمِنْ غَرَائِزِهِمُ اخْتِيَارُ الْأَفْضَلِ إِذَا عَرَفُوهُ.
قَالَ أَحَدُ كِبَارِ عُلَمَاءِ الْأَلْمَانِ فِي الْأَسِتَانَةِ لِبَعْضِ الْمُسْلِمِينَ وَفِيهِمْ أَحَدُ شُرَفَاءِ مَكَّةَ: إِنَّهُ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُقِيمَ تِمْثَالًا مِنَ الذَّهَبِ لِمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فِي مَيْدَانِ كَذَا مِنْ عَاصِمَتِنَا (بَرْلِينْ) قِيلَ لَهُ: لِمَاذَا؟ قَالَ: لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَوَّلَ نِظَامَ الْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ عَنْ قَاعِدَتِهِ الدِّيمُقْرَاطِيَّةِ إِلَى عَصَبِيَّةِ الْغَلَبِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَعَمَّ الْإِسْلَامُ الْعَالَمَ كُلَّهُ، وَلَكُنَّا نَحْنُ الْأَلَمَانَ وَسَائِرَ شُعُوبِ أُورُبَّةَ عَرَبًا وَمُسْلِمِينَ.
فَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ تَقْرِيرُ هَذِهِ الْأُصُولِ الَّتِي تُوَحِّدُ الْأُمَمَ وَالشُّعُوبَ، وَتُؤَلِّفُ بَيْنَهَا بِمَا يَجْمَعُ كَلِمَتَهُمْ عَلَيْهَا بِالْوَازِعِ النَّفْسِيِّ مِنَ الْوَحْيِ النَّفْسِيِّ الَّذِي نَبَعَ مِنْ نَفْسِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأُمِّيِّ فِي سِنِّ الْكُهُولَةِ فَفَاقَ بِهَا جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ، أَمِ الْأَقْرَبُ إِلَى الْعَقْلِ أَنْ تَكُونَ بِوَحْيِ اللهِ تَعَالَى أَفَاضَهُ عَلَيْهِ؟ !.
214
الْمَقْصِدُ الْخَامِسُ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ
(تَقْرِيرُ مَزَايَا الْإِسْلَامِ الْعَامَّةِ فِي التَّكَالِيفِ الشَّخْصِيَّةِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمَحْظُورَاتِ)
(وَنُلَخِّصُ أَهَمَّهَا بِالْإِجْمَالِ فِي عَشْرِ جُمَلٍ)
(١) كَوْنُهُ وَسَطًا جَامِعًا لِحُقُوقِ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ وَمَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (٢: ١٤٣) الْآيَةَ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَسَطٌ بَيْنَ الَّذِينَ تَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الْحُظُوظُ الْجَسَدِيَّةُ وَالْمَنَافِعُ الْمَادِّيَّةُ كَالْيَهُودِ، وَالَّذِينَ تَغْلِبُ عَلَيْهِمُ التَّعَالِيمُ الرُّوحِيَّةُ، وَتَعْذِيبُ الْجَسَدِ وَإِذْلَالُ النَّفْسِ وَالزُّهْدُ كَالْهِنْدُوسِ وَالنَّصَارَى، وَإِنْ خَالَفَ هَذِهِ التَّعَالِيمَ أَكْثَرُهُمْ.
(٢) كَوْنُ غَايَتِهِ الْوُصُولَ إِلَى سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِالْإِيمَانِ الصَّحِيحِ، وَمَعْرِفَةِ اللهِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ، لَا بِمُجَرَّدِ الِاعْتِقَادِ وَالِاتِّكَالِ، وَلَا بِالشَّفَاعَاتِ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
(٣) كَوْنُ الْغَرَضِ مِنْهُ التَّعَارُفَ وَالتَّأْلِيفَ بَيْنَ الْبَشَرِ، لَا زِيَادَةَ التَّفْرِيقِ وَالِاخْتِلَافِ، وَتَقَدَّمَتْ شَوَاهِدُهُ فِي كَوْنِهِ عَامًّا مُكَمِّلًا وَمُتَمِّمًا لِدِينِ اللهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ الْقُرْآنِ وَعُمُومِ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي الْكَلَامِ عَلَى الرُّسُلِ مِنَ الْمَقْصِدِ الثَّانِي.
وَإِنَّمَا تَفْصِيلُ أُصُولِهِ فِي تِلْكَ الْوَحَدَاتِ الثَّمَانِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي الْمَقْصِدِ الرَّابِعِ.
(٤) كَوْنُهُ يُسْرًا لَا حَرَجَ فِيهِ وَلَا عُسْرَ وَلَا إِرْهَاقَ وَلَا إِعْنَاتَ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (٢: ٢٨٦) وَقَالَ بَلَغَتْ حِكْمَتُهُ: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) (٢: ٢٢٠) وَقَالَ عَظُمَتْ رَأْفَتُهُ: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٢: ١٨٥) وَقَالَ جَلَّتْ مِنَّتُهُ: (وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٢٢: ٧٨) وَقَالَ عَمَّتْ رَحْمَتُهُ: (مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) (٥: ٦).
وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ، أَنَّ الْوَاجِبَ الَّذِي يَشُقُّ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَدَاؤُهُ وَيُحْرِجُهُ يَسْقُطُ عَنْهُ إِلَى بَدَلٍ أَوْ مُطْلَقًا، كَالْمَرِيضِ الَّذِي يُرْجَى بُرْؤُهُ، وَالَّذِي لَا يُرْجَى بُرْؤُهُ وَمِثْلُهُ الشَّيْخُ الْهَرِمُ - الْأَوَّلُ يَسْقُطُ عَنْهُ الصِّيَامُ وَيَقْضِيهِ كَالْمُسَافِرِ، وَالثَّانِي لَا يَقْضِي
بَلْ يُكَفِّرُ بِإِطْعَامِ مِسْكِينٍ إِذَا قَدَرَ. وَأَمَّا الْمُحَرَّمُ فَيُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ تَحْرِيمُهُ أَوِ النَّهْيُ عَنْهُ لِسَدِّ ذَرِيعَةِ الْفَسَادِ فَيُبَاحُ لِلْحَاجَةِ، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ الرِّبَا وَآيَاتِ الصِّيَامِ، وَآيَةِ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا مَسْأَلَةَ يُسْرِ الْإِسْلَامِ الْعَامِّ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (٥: ١٠١)
215
مِنَ الْجُزْءِ السَّابِعِ وَجُمِعَ فِي رِسَالَةٍ خَاصَّةٍ.
(٥) مَنْعُ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ وَإِبْطَالُ جَعْلِهِ تَعْذِيبًا لِلنَّفْسِ، بِإِبَاحَةِ الطَّيِّبَاتِ وَالزِّينَةِ بِدُونِ إِسْرَافٍ وَلَا كِبْرِيَاءَ، وَقَدْ فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْأَمْرِ بِالْأَكْلِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ الْمَائِدَةِ وَفِي تَفْسِيرِ: (يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٧: ٣١ و٣٢) وَقَالَ تَعَالَى: (يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) وَهُوَ فِي (٤: ١٧١) وَ (٥: ٧٧) وَفِي هَذَا النَّهْيِ اعْتِبَارٌ لِلْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُمْ أَوْلَى بِالِانْتِهَاءِ عَنِ الْغُلُوِّ بِأَنَّ دِينَهُمْ دِينُ الرَّحْمَةِ وَالْيُسْرِ. وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي نَهْيِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْغُلُوِّ فِي الْعِبَادَةِ وَعَنْ تَرْكِ الطَّيِّبَاتِ وَعَنِ الرَّهْبَانِيَّةِ وَالْخِصَاءِ مُبَيِّنَةٌ لِهَذِهِ الْآيَاتِ، وَهِيَ مِصْدَاقُ تَسْمِيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ.
(٦) قِلَّةُ تَكَالِيفِهِ وَسُهُولَةُ فَهْمِهَا، وَقَدْ كَانَ الْأَعْرَابِيُّ يَجِيءُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْبَادِيَةِ فَيُسْلِمُ، فَيُعْلِمُهُ مَا أَوْجَبَ اللهُ وَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَيُعَاهِدُهُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ فَيَقُولُ: ((أَفْلَحَ الْأَعْرَابِيُّ إِنْ صَدَقَ)) وَكَانَ هَذَا أَعْظَمَ أَسْبَابِ قَبُولِ النَّاسِ لَهُ. وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ أَكْثَرُوا التَّكَالِيفَ بِآرَائِهِمُ الِاجْتِهَادِيَّةِ حَتَّى صَارَ الْعِلْمُ بِهَا مُتَعَسِّرًا، وَالْعَمَلُ بِهَا مُتَعَذِّرًا.
(٧) انْقِسَامُ التَّكْلِيفِ إِلَى عَزَائِمَ وَرُخَصٍ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُرَجِّحُ جَانِبَ الرُّخَصِ، وَابْنُ عُمَرَ يُرَجِّحُ الْعَزَائِمَ. وَالنَّاسُ دَرَجَاتٌ فِي التَّقْصِيرِ وَالتَّشْمِيرِ
وَالِاعْتِدَالِ، فَيُوَافِقُ الْبَدَوِيَّ السَّاذَجَ وَالْفَيْلَسُوفَ الْحَكِيمَ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الطَّبَقَاتِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (٣٥: ٣٢).
(٨) نُصُوصُ الْكِتَابِ وَهَدْيُ السُّنَّةِ مُرَاعًى فِيهِمَا دَرَجَاتُ الْبَشَرِ فِي الْعَقْلِ وَالْفَهْمِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ وَضَعْفِهَا، فَالْقَطْعِيُّ مِنْهَا هُوَ الْعَامُّ، وَغَيْرُ الْقَطْعِيِّ تَتَفَاوَتُ فِيهِ الْأَفْهَامُ، فَيَأْخُذُ كُلُّ أَحَدٍ مِنْهُ بِمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَلِذَلِكَ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقِرُّ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِيهِ عَلَى اجْتِهَادِهِ، كَمَا فَعَلَ عِنْدَمَا نَزَلَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ الدَّالَّةُ عَلَى تَحْرِيمِهِمَا دَلَالَةً ظَنِّيَّةً فَتَرَكَهُمَا بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ، وَأَقَرَّ كُلًّا عَلَى اجْتِهَادِهِ إِلَى أَنْ نَزَلَتْ آيَتَا الْمَائِدَةِ بِالتَّحْرِيمِ الْقَطْعِيِّ. قَالَ تَعَالَى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) (٢٩: ٤٣).
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْفَرَائِضَ الدِّينِيَّةَ الْعَامَّةَ فِيهِ وَالْمُحَرَّمَاتِ الدِّينِيَّةَ الْعَامَّةَ لَا يَثْبُتَانِ إِلَّا بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ يَفْهَمُهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ التَّحْرِيمُ فَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ السَّلَفِ
216
أَيْضًا، وَأَمَّا الْآيَاتُ الظَّنِّيَّةُ الدَّلَالَةِ، وَالْأَحَادِيثُ الْأُحَادِيَّةُ الظَّنِّيَّةُ الرِّوَايَةِ أَوِ الدَّلَالَةِ، فَهِيَ مَوْكُولَةٌ إِلَى اجْتِهَادِ مَنْ يَثْبُتُ عِنْدَهُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ الشَّخْصِيَّةِ، وَإِلَى اجْتِهَادِ أُولِي الْأَمْرِ فِي الْأَحْكَامِ الْقَضَائِيَّةِ وَالْمَسَائِلِ السِّيَاسِيَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّفْسِيرِ وَالْمَنَارِ.
(٩) مُعَامَلَةُ النَّاسِ بِظَوَاهِرِهِمْ وَجَعْلُ الْبَوَاطِنِ مَوْكُولَةً إِلَى اللهِ تَعَالَى، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْحُكَّامِ وَلَا الرُّؤَسَاءِ الرَّسْمِيِّينَ وَلَا لِخَلِيفَةِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعَاقِبَ أَحَدًا وَلَا أَنْ يُحَاسِبَهُ عَلَى مَا يَعْتَقِدُ أَوْ يُضْمِرُ فِي قَلْبِهِ، وَإِنَّمَا الْعُقُوبَاتُ عَلَى الْمُخَالَفَاتِ الْعَمَلِيَّةِ لِلْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُقُوقِ النَّاسِ وَمَصَالِحِهِمْ وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذَا فِي خُلَاصَةِ تَفْسِيرِ سُورَةِ: بَرَاءَةٌ ((التَّوْبَةِ)).
(١٠) مَدَارُ الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا عَلَى اتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الظَّاهِرِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا رَأْيٌ شَخْصِيٌّ وَلَا رِيَاسَةٌ، وَمَدَارُهَا فِي الْبَاطِنِ عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى وَصِحَّةِ النِّيَّةِ، وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي الْأَمْرَيْنِ كَثِيرَةٌ.
الْمَقْصِدُ السَّادِسُ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ بَيَانُ حُكْمِ الْإِسْلَامِ السِّيَاسِيِّ الدَّوْلِيِّ
(بَيَانُ حُكْمِ الْإِسْلَامِ السِّيَاسِيِّ الدَّوْلِيِّ: نَوْعِهِ وَأَسَاسِهِ وَأُصُولِهِ الْعَامَّةِ)
الْإِسْلَامُ دِينُ هِدَايَةٍ وَسِيَادَةٍ وَسِيَاسَةٍ وَحُكْمٍ؛ لِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ إِصْلَاحِ الْبَشَرِ فِي جَمِيعِ شُئُونِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَمَصَالِحِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْقَضَائِيَّةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى السِّيَادَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ وَإِقَامَةِ الْحَقِّ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِحِمَايَةِ الدِّينِ وَالدَّوْلَةِ، وَفِيهِ أُصُولٌ وَقَوَاعِدُ.
(الْقَاعِدَةُ الْأَسَاسِيَّةُ الْأُولَى لِلْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ)
الْحُكْمُ فِي الْإِسْلَامِ لِلْأُمَّةِ، وَشَكْلُهُ شُورَى، وَرَئِيسُهُ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ أَوِ (الْخَلِيفَةُ) مُنَفِّذٌ لِشَرْعِهِ، وَالْأُمَّةُ هِيَ الَّتِي تَمْلِكُ نَصْبَهُ وَعَزْلَهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (٤٢: ٣٨) وَقَالَ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (٣: ١٥٩) وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُشَاوِرُ أَصْحَابَهُ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ مِنْ سِيَاسِيَّةٍ وَحَرْبِيَّةٍ وَمَالِيَّةٍ مِمَّا لَا نَصَّ فِيهِ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِهَا حِكْمَةَ تَرْكِ الشُّورَى لِاجْتِهَادِ الْأُمَّةِ.
وَقَالَ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (٤: ١٥٩) وَأُولُو الْأَمْرِ هُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَالرَّأْيِ الْحَصِيفِ فِي مَصَالِحِهَا، الَّذِينَ تَثِقُ بِهِمُ الْأُمَّةُ وَتَتْبَعُهُمْ فِيمَا يُقِرُّونَهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ تِلْكَ الْآيَةِ مِنْ سُورَتِهَا: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (٤: ٨٣) فَأُولُو الْأَمْرِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ الرَّسُولِ، وَكَانَ
217
الْأَمْرُ يُرَدُّ إِلَيْهِ وَإِلَيْهِمْ فِي الشُّئُونِ الْعَامَّةِ لِلْأُمَّةِ مِنَ الْأَمْنِ وَالْخَوْفِ وَغَيْرِهِمَا، هُمُ الَّذِينَ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَشِيرُهُمْ فِي الْأُمُورِ الدَّقِيقَةِ وَالسِّرِّيَّةِ الْمُهِمَّةِ. وَكَانَ يَسْتَشِيرُ جُمْهُورَ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا لَهُمْ بِهِ عَلَاقَةٌ عَامَّةٌ وَيَعْمَلُ بِرَأْيِ الْأَكْثَرِ وَإِنْ خَالَفَ رَأْيَهُ، كَاسْتِشَارَتِهِمْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: الْحِصَارِ فِي الْمَدِينَةِ أَوِ
الْخُرُوجِ إِلَى أُحُدٍ لِلِقَاءِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ. وَكَانَ رَأْيُهُ وَرَأْيُ بَعْضِ كِبَارِ الْأُمَّةِ الْأَوَّلَ، وَرَأْيُ الْجُمْهُورِ الثَّانِيَ، فَنَفَّذَ رَأْيَ الْأَكْثَرِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَشَارَ فِي مَسْأَلَةِ أَسْرَى بَدْرٍ خَوَاصَّ أُولِي الْأَمْرِ وَعَمِلَ بِرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ، كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ.
وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى (٤: ٥٩) مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ قَوَاعِدِ الْحُكْمِ الْإِسْلَامِيِّ وَكَوْنِهِ أَفْضَلَ مِنَ الْحُكْمِ النِّيَابِيِّ الَّذِي عَلَيْهِ دُوَلُ هَذَا الْعَصْرِ.
وَمِنَ الدَّلَائِلِ الْكَثِيرَةِ عَلَى أَنَّ التَّشْرِيعَ الْقَضَائِيَّ وَالسِّيَاسِيَّ هُوَ حَقُّ الْأُمَّةِ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا فِي الْحَدِيثِ بِالْجَمَاعَةِ، أَنَّ الْقُرْآنَ يُخَاطِبُ بِهَا جَمَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْخَاصَّتَيْنِ بِالْحُكْمِ الْعَامِّ وَالدَّوْلَةِ وَفِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ، كَقَوْلِهِ: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٩: ١) وَمَا يَلِيهَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمُعَاهَدَاتِ وَالْحَرْبِ وَالصُّلْحِ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَالْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٤٩: ٩) وَكَذَلِكَ خِطَابُهُ لَهُمْ فِي أَحْكَامِ الْأَمْوَالِ كَالْغَنَائِمِ وَتَخْمِيسِهَا وَقِسْمَتِهَا وَأَحْكَامِ النِّسَاءِ وَغَيْرِهَا (وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا كُلَّهُ فِي مَوَاضِعِهِ مِنَ التَّفْسِيرِ).
وَقَدْ صَرَّحَ كِبَارُ النُّظَّارِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ بِأَنَّ السُّلْطَةَ فِي الْإِسْلَامِ لِلْأُمَّةِ يَتَوَلَّاهَا أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ يُنَصِّبُونَ عَلَيْهَا الْخُلَفَاءَ وَالْأَئِمَّةَ، وَيَعْزِلُونَهُمْ، إِذَا اقْتَضَتِ الْمَصْلَحَةُ عَزْلَهُمْ قَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي تَعْرِيفِ الْخِلَافَةِ: هِيَ رِئَاسَةٌ عَامَّةٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا لِشَخْصٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَشْخَاصِ. وَقَالَ فِي الْقَيْدِ الْأَخِيرِ (الَّذِي زَادَهُ عَلَى مَنْ قَبْلَهُ) هُوَ احْتِرَازٌ عَنْ كُلِّ الْأُمَّةِ إِذَا عَزَلُوا الْإِمَامَ لِفِسْقِهِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ عِنْدَ ذِكْرِ هَذَا التَّعْرِيفِ وَمَا عُلِّلَ بِهِ الْقَيْدَ الْأَخِيرَ: وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِكُلِّ الْأُمَّةِ أَهْلَ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَاعْتَبَرَ رِئَاسَتَهُمْ عَلَى مَنْ عَدَاهُمْ أَوْ عَلَى كُلٍّ مِنْ آحَادِ الْأُمَّةِ. اهـ، وَقَدْ فَصَّلْنَا مَسْأَلَةَ سُلْطَةِ الْأُمَّةِ فِي كِتَابِنَا (الْخِلَافَةُ أَوِ الْإِمَامَةُ الْعُظْمَى).
فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ الْأَسَاسِيَّةُ لِدَوْلَةِ الْإِسْلَامِ أَعْظَمُ إِصْلَاحٍ سِيَاسِيٍّ لِلْبَشَرِ، قَرَّرَهَا
الْقُرْآنُ فِي عَصْرٍ
218
كَانَتْ فِيهِ جَمِيعُ الْأُمَمِ مُرْهَقَةً بِحُكُومَاتٍ اسْتِبْدَادِيَّةٍ اسْتَعْبَدَتْهَا فِي أُمُورِ دِينِهَا وَدُنْيَاهَا، وَكَانَ أَوَّلَ مُنْقِذٍ لَهَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَكُنْ يَقْطَعُ بِأَمْرٍ مِنْ أُمُورِ السِّيَاسَةِ وَالْإِدَارَةِ الْعَامَّةِ لِلْأُمَّةِ إِلَّا بِاسْتِشَارَةِ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْمَكَانَةِ فِي الْأُمَّةِ؛ لِيَكُونَ قُدْوَةً لِمَنْ بَعْدَهُ.
ثُمَّ جَرَى عَلَى ذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، فَقَالَ الْخَلِيفَةُ الْأَوَّلُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِي اللهُ عَنْهُ - فِي أَوَّلِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقِبَ مُبَايَعَتِهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِذَا اسْتَقَمْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِذَا زِغْتُ فَقَوِّمُونِي. وَقَالَ الْخَلِيفَةُ الثَّانِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مَنْ رَأَى مِنْكُمْ فِيَّ عِوَجًا فَلْيُقَوِّمْهُ فَقَالَ لَهُ أَعْرَابِيٌّ: لَوْ رَأَيْنَا فِيكَ عِوَجًا لَقَوَّمْنَاهُ بِسُيُوفِنَا. فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يُقَوِّمُ عِوَجَ عُمَرَ بِسَيْفِهِ. وَكَانَ يَجْمَعُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَيَسْتَشِيرُهُمْ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ لَيْسَ فِيهَا نَصٌّ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَلَا سُنَّةٌ أَوْ قَضَاءٌ مِنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ الثَّالِثُ عُثْمَانُ - رَضِي اللهُ عَنْهُ - أَمْرِي لِأَمْرِكُمْ تَبَعٌ، وَكَذَلِكَ كَانَ عَمَلُ الْخَلِيفَةِ الرَّابِعِ عَلِيٍّ الْمُرْتَضَى - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَكَرَّمَ وَجْهَهُ، وَلَا أَذْكُرُ لَهُ كَلِمَةً مُخْتَصَرَةً مِثْلَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ عَلَى الْمِنْبَرِ.
وَإِذَا أَوْجَبَ اللهُ الْمُشَاوَرَةَ عَلَى رَسُولِهِ فَغَيْرُهُ أَوْلَى، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ أَدْنَى مِنْ حُكْمِ مَلِكَةِ سَبَأٍ الْعَرَبِيَّةِ فَقَدْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِالشُّورَى، وَوُجِدَ ذَلِكَ فِي أُمَمٍ أُخْرَى، وَإِنْ جَهِلَ ذَلِكَ مَنْ جَهِلَهُ مِنَ الْفُقَهَاءِ.
وَلَكِنَّ مُلُوكَ الْمُسْلِمِينَ زَاغُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ هَذَا الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَشَايَعَهُمْ عُلَمَاءُ الرُّسُومِ الْمُنَافِقُونَ، وَخُطَبَاءُ الْفِتْنَةِ الْجَاهِلُونَ، حَتَّى صَارَ الْمُسْلِمُونَ يَجْهَلُونَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ الْأَسَاسِيَّةَ لِحُكُومَةِ دِينِهِمْ، وَكَانَ مِنْ حُسْنِ حَظِّ الْإِفْرِنْجِ فِي حَرْبِهِمُ الصَّلِيبِيَّةِ أَنْ كَانَ سُلْطَانُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي نَصَرَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ يَقْتَفِي فِي حُكْمِهِ أَثَرَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَهُوَ صَلَاحُ الدِّينِ الْأَيُّوبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ الَّذِي قَالَ لِأَحَدِ رِجَالِهِ الْمُتَمَيِّزِينَ عِنْدَهُ وَقَدِ اسْتَعْدَاهُ عَلَى رَجُلٍ غَشَّهُ: ((مَا عَسَى أَنْ أَصْنَعَ لَكَ، وَلِلْمُسْلِمِينَ قَاضٍ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ، وَالْحَقُّ الشَّرْعِيُّ مَبْسُوطٌ لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ وَأَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ مُمْتَثِلَةٌ، وَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ الشَّرْعِ وَشِحْنَتُهُ، فَالْحَقُّ يَقْضِي لَكَ أَوْ عَلَيْكَ)) وَمَعْنَى عِبَارَةِ السُّلْطَانِ: أَنَّهُ لَيْسَ إِلَّا
مُنَفِّذًا لِحُكْمِ الشَّرْعِ - كَالشِّحْنَةِ وَهُوَ صَاحِبُ الشُّرْطَةِ - وَأَنَّ الْقُضَاةَ مُسْتَقِلُّونَ بِالْحُكْمِ لِأَنَّهُمْ يَحْكُمُونَ بِالشَّرْعِ الْعَادِلِ الْمُسَاوِي بَيْنَ النَّاسِ. وَقَدِ اقْتَبَسَ الصَّلِيبِيُّونَ مِنْهُ طَرِيقَةَ حُكْمِهِ، ثُمَّ دَرَسُوا تَارِيخَ الْإِسْلَامِ فَعَرَفُوا مِنْهُ مَا جَهِلَهُ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ، حَتَّى أَسَّسُوا حُكْمَ دُوَلِهِمْ عَلَى قَاعِدَةِ سُلْطَةِ الْأُمَّةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْإِسْلَامُ وَصَارُوا يَدَّعُونَهَا لِأَنْفُسِهِمْ، وَيَعِيبُونَ الْحُكُومَاتِ الْإِسْلَامِيَّةَ بِاسْتِبْدَادِهَا، ثُمَّ يُجْعَلُ الْإِسْلَامُ نَفْسُهُ سَبَبَ هَذَا الِاسْتِبْدَادِ وَالْحُكْمِ الشَّخْصِيِّ، وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ يُصَدِّقُونَهُمْ، وَيَرَى الْمُشْتَغِلُونَ
219
بِالسِّيَاسَةِ وَعِلْمِ الْحُقُوقِ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَا صَلَاحَ لِحُكُومَاتِهِمْ إِلَّا بِتَقْلِيدِهِمْ، فَكَانَ هَذَا مِنْ أَسْبَابِ ضَيَاعِ أَعْظَمِ مَزَايَا الْإِسْلَامِ السِّيَاسِيَّةِ التَّشْرِيعِيَّةِ وَذَهَابِ أَكْثَرِ مُلْكِهِ.
(أُصُولُ التَّشْرِيعِ فِي الْإِسْلَامِ)
الْمَعْرُوفُ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ أُصُولَ التَّشْرِيعِ الْأَسَاسِيَّةَ أَرْبَعَةٌ:
(١) الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ أَنَّ آيَاتِ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةَ فِيهِ مِنْ دِينِيَّةٍ وَقَضَائِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ لَا تَبْلُغُ عُشْرَ آيَاتِهِ، وَعَدَّهَا بَعْضُهُمْ خَمْسَمِائَةِ آيَةٍ لِلْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَعْنُونَ الصَّرِيحَ مِنْهَا وَأَكْثَرُهَا فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ أُمُورِ الدُّنْيَا مَوْكُولَةٌ إِلَى عُرْفِ النَّاسِ وَاجْتِهَادِهِمْ.
(٢) مَا سَنَّهُ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْعَمَلِ وَالْقَضَاءِ بِهِ مِنْ بَيَانٍ لِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَقَالُوا أَيْضًا إِنَّ أَحَادِيثَ الْأَحْكَامِ الْأُصُولِ خَمْسُمِائَةِ حَدِيثٍ تَمُدُّهَا أَرْبَعَةُ آلَافٍ فِيمَا أَذْكُرُ.
(٣) إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فِي الدِّينِيَّاتِ، وَفِي إِجْمَاعِ الْمُجْتَهِدِينَ بَعْدَهُمْ تَفْصِيلٌ.
(٤) اجْتِهَادُ الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ وَالْقُوَّادِ فِي الْأُمُورِ الْقَضَائِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالْإِدَارِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ، وَخَصَّهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ (بِالْقِيَاسِ) وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمُ الْقِيَاسَ وَقَيَّدَهُ آخَرُونَ كَمَا فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ (٥: ١٠١).
وَوَرَدَ فِي هَذَا التَّرْتِيبِ أَحَادِيثُ وَآثَارُ تَدُلُّ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ (مِنْهَا) حَدِيثُ مُعَاذٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَرْسَلَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: ((كَيْفَ تَصْنَعُ إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟)) قَالَ: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللهِ)) ؟ قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: ((فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ)) قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي لَا آلُو. قَالَ مُعَاذٌ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدْرِي ثُمَّ
قَالَ: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو وَفِيهِ مَقَالٌ وَلَهُ شَوَاهِدُ، وَأَمَّا الْعَمَلُ بِهَذَا التَّرْتِيبِ فَهُوَ مَعْرُوفٌ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَقَدْ بَيَّنَاهُ فِي مَحَلِّهِ وَبِهِ أَمَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَاضِيَهُ شُرَيْحًا فِي كِتَابِهِ الْمَشْهُورِ فِي الْقَضَاءِ، وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ يُقَدِّمُونَ الْإِجْمَاعَ حَتَّى الْعُرْفِيَّ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ - وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ - عَلَى النَّصِّ.
وَالْأَصْلُ فِي شَرْعِيَّةِ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ لِلْحُكَّامِ حَدِيثُ ((إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ)) رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ.
بَلْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْطِي أُمَرَاءَ الْجُيُوشِ وَالسَّرَايَا حَقَّ الْحُكْمِ بِمَا يَرَوْنَ فِيهِ الْمَصْلَحَةِ بِقَوْلِهِ لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ: ((وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ عَلَى أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ
220
اللهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ فِيهِمْ حُكْمَ اللهِ أَمْ لَا)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ. وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي إِنْزَالِهِمْ عَلَى ذِمَّةِ الْأَمِيرِ دُونَ ذِمَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ لِئَلَّا يَخْفِرَهَا.
(قَوَاعِدُ الِاجْتِهَادِ مِنَ النُّصُوصِ)
أَحْكَامُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْهَا أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ بِالْأَعْمَالِ وَالْوَقَائِعِ، وَمِنْهَا قَوَاعِدُ عَامَّةٌ لِلتَّشْرِيعِ، وَالْأَحْكَامِ الْخَاصَّةِ مِنْهَا مَا هُوَ قَطْعِيُّ الرِّوَايَةِ وَالدَّلَالَةِ لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ، وَلَا مَعْدِلَ عَنِ الْحُكْمِ بِهِ إِلَّا لِمَانِعٍ شَرْعِيٍّ مِنْ فَوَاتِ شَرْطٍ كَدَرْءِ حَدٍّ بِشُبْهَةٍ أَوْ عُذْرِ ضَرُورَةٍ، وَقَدْ أَمَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي الْمَجَاعَةِ أَلَّا يُحَدَّ سَارِقٌ. وَمِنْهَا مَا هُوَ غَيْرُ قَطْعِيٍّ يُعْمَلُ فِيهِ بِاجْتِهَادِ مَنْ يُنَاطُ بِهِ الْحُكْمُ وَالتَّنْفِيذُ مِنْ أَمِيرٍ أَوْ قَاضٍ أَوْ قَائِدِ جَيْشٍ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ.
وَأَمَّا الْقَوَاعِدُ الْعَامَّةُ فَهِيَ مَا تَجِبُ مُرَاعَاتُهُ فِي الْأَحْكَامِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَأَهَمُّهَا فِي الْإِسْلَامِ تَحَرِّي الْحَقِّ وَالْعَدْلِ الْمُطْلَقِ الْعَامِّ، وَالْمُسَاوَاةُ فِي الْحُقُوقِ وَالشَّهَادَاتِ وَالْأَحْكَامِ وَتَقْدِيرِ الْمَصَالِحِ، وَدَرْءُ الْمَفَاسِدِ، وَمُرَاعَاةُ الْعُرْفِ بِشَرْطِهِ، وَدَرْءُ الْحُدُودِ بِالشُّبَهَاتِ، وَكَوْنُ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ، وَتَقْدِيرُ الضَّرُورَةِ بِقَدْرِهَا، وَدَوَرَانُ الْمُعَامَلَاتِ عَلَى اكْتِسَابِ الْفَضَائِلِ، وَاجْتِنَابِ الرَّذَائِلِ، وَنَكْتَفِي بِالشَّوَاهِدِ فِي الْعَدْلِ وَالظُّلْمِ.
(نُصُوصُ الْقُرْآنِ فِي إِيجَابِ الْعَدْلِ الْمُطْلَقِ وَالْمُسَاوَاةِ فِيهِ وَحَظْرِ الظُّلْمِ)
لَمَّا كَانَ الْعَدْلُ أَسَاسَ الْأَحْكَامِ، وَمِيزَانَ التَّشْرِيعِ وَقِسْطَاسَهُ الْمُسْتَقِيمَ، أَكَّدَ اللهُ تَعَالَى الْأَمْرَ بِهِ وَالْمُسَاوَاةَ فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ. قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ (١٦: ٩٠) وَقَالَ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ (٤: ٥٨) وَقَالَ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (٤: ١٣٥) أَمَرَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَهُوَ الْعَدْلُ؛ فَإِنَّ الْقَوَّامَ (بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ) صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ لِلْفَاعِلِ بِالْقِيَامِ بِالْأَمْرِ وَعَدَمِ التَّهَاوُنِ وَالتَّقْصِيرِ فِيهِ، وَبِأَنْ تَكُونَ شَهَادَتُهُمْ فِي الْمُحَاكَمَاتِ وَغَيْرِهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا لِهَوَى وَلَا مَصْلَحَةِ أَحَدٍ، وَلَوْ كَانَتْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَوْ وَالِدَيْهِمْ وَالْأَقْرَبِينَ مِنْهُمْ، وَأَلَّا يُحَابُوا فِيهَا غَنِيًّا لِغِنَاهُ تَقَرُّبًا إِلَيْهِ أَوْ تَكْرِيمًا لَهُ، وَلَا فَقِيرًا لِفَقْرِهِ رَحْمَةً بِهِ وَشَفَقَةً عَلَيْهِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي الْحُكْمِ أَوِ الشَّهَادَةِ كَرَاهَةً أَلَّا يَعْدِلُوا فِيهِمَا لِمُرَاعَاةِ مَنْ ذُكِرَ مِنَ النَّاسِ، وَأَنْذَرَهُمْ عِقَابَهُ إِنْ لَوَوْا وَمَالُوا عَنِ الْحَقِّ أَوْ أَعْرَضُوا عَنْهُ.
221
وَقَالَ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (٥: ٨) فَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَمِّمَةٌ لِمَا قَبْلَهَا فَهُنَاكَ يَأْمُرُ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْعَدْلِ وَالشَّهَادَةِ بَيْنَ النَّفْسِ وَغَيْرِهَا، وَبَيْنَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَبَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، وَهَاهُنَا يَأْمُرُ بِالْمُسَاوَاةِ فِيهِمَا بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَأَعْدَائِهِ مَهْمَا يَكُنْ سَبَبُ عَدَاوَتِهِمْ لَا فَرْقَ فِيهَا بَيْنَ دِينِيٍّ وَدُنْيَوِيٍّ، فَالشَّنَآنُ: الْبُغْضُ وَالْعَدَاوَةُ، وَقِيلَ مَعَ الِاحْتِقَارِ وَقَدْ قَالَ (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ
شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا) (٥: ٨) لَا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُهُمْ وَعَدَاوَتُهُمْ لَكُمْ أَوْ بُغْضُكُمْ وَعَدَاوَتُكُمْ لَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْعَدْلِ فِيهِمْ، فَالْعَدْلُ بِالْمُسَاوَاةِ أَقْرُبُ إِلَى تَقْوَى اللهِ، وَأَنْذَرَ تَارِكَ الْعَدْلِ لِلشَّنَآنِ بِمِثْلِ مَا أَنْذَرَ تَارِكَهُ لِلْمُحَابَاةِ، أَنْذَرَ كُلًّا مِنْهُمَا بِأَنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَعْمَلُهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ، فَهُوَ يُحَاسِبُهُ عَلَى عَمَلِهِ وَعَلَى نِيَّتِهِ وَقَصْدِهِ مِنْهُ، فَيُثِيبُهُ أَوْ يُعَاقِبُهُ عَلَى مَا يَعْلَمُ مِنْ أَمْرِهِ.
فَالْعَدْلُ هُوَ الْمِيزَانُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) (٤٢: ١٧) وَقَوْلِهِ: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) (٥٧: ٢٥) الْآيَةَ: فَخَيْرُ النَّاسِ مَنْ يَصُدُّهُمْ عَنِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ هِدَايَةُ الْقُرْآنِ، وَيَلِيهِمْ مَنْ يَصُدُّهُمُ الْعَدْلُ الَّذِي يُقِيمُهُ السُّلْطَانُ، وَشَرُّهُمْ مَنْ لَا عِلَاجَ لَهُ إِلَّا السَّيْفُ وَالسِّنَانُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيدِ.
فَقِوَامُ صَلَاحِ الْعَالَمِ بِالْإِيمَانِ بِالْكِتَابِ الَّذِي يُحَرِّمُ الظُّلْمَ وَسَائِرَ الْمَفَاسِدِ، فَيَجْتَنِبُهَا الْمُؤْمِنُ خَوْفًا مِنْ عَذَابِ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرَجَاءً فِي ثَوَابِهِ فِيهِمَا، وَبِالْعَدْلِ فِي الْأَحْكَامِ الَّذِي يَرْدَعُ النَّاسَ عَنِ الظُّلْمِ بِعِقَابِ السُّلْطَانِ.
وَيُؤَيِّدُ قَاعِدَةَ إِقَامَةِ الْعَدْلِ مَا وَرَدَ فِي تَحْرِيمِ الظُّلْمِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ عَلَيْهِ. فَقَدْ ذُكِرَ الظُّلْمُ فِي مِئَاتٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ أَسْوَأَ الذِّكْرِ، وَقُرِنَ فِي بَعْضِهَا بِأَسْوَأِ الْعَوَاقِبِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَيْهِ فِيهِمَا أَثَرٌ لَازِمٌ لَهُ لُزُومَ الْمَعْلُولِ لِلْعِلَّةِ وَالْمُسَبَّبِ لِلسَّبَبِ، وَأَنَّ النَّاسَ هُمُ الَّذِينَ يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (١٨: ٤٩) وَمِنْ أَثَرِهِ وَعَاقِبَتِهِ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُ مُهْلِكُ الْأُمَمِ وَمُخَرِّبُ الْعُمْرَانِ، قَالَ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (١١: ١١٧) أَيْ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ وَلَا مِنْ سُنَّتِهِ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ أَنْ يُهْلِكَ الْأُمَمَ بِظُلْمٍ مِنْهُ لَهُمْ، أَوْ بِشِرْكٍ بِهِ يَقَعُ مِنْهُمْ، وَهُمْ مُصْلِحُونَ فِي سِيرَتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَإِنَّمَا يُهْلِكُهُمْ بِظُلْمِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ، كَمَا قَالَ: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا) (١٨: ٥٩) وَقَالَ فِي الْأَحْكَامِ: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٥: ٤٥) وَرَدَ هَذَا فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ.
222
(قَوَاعِدُ مُرَاعَاةِ الْفَضَائِلِ فِي الْأَحْكَامِ وَالْمُعَامَلَاتِ)
مَنِ اسْتَقْرَأَ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَنْوَاعِهَا مِنْ شَخْصِيَّةٍ وَمَدَنِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ وَحَرْبِيَّةٍ يَرَى أَنَّ الْغَرَضَ مِنْهَا كُلِّهَا قَاعِدَةُ مُرَاعَاةِ الْفَضَائِلِ فِيهَا مِنَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَالْعُقُودِ، وَالرَّحْمَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْمُوَاسَاةِ وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَاجْتِنَابِ الرَّذَائِلِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْغَدْرِ وَنَقْضِ الْعُهُودِ وَالْعُقُودِ وَالْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ وَالْقَسْوَةِ وَالْغِشِّ وَالْخِدَاعِ وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ كَالرِّبَا وَالرِّشْوَةِ وَالسُّحْتِ وَشَرَهِ التِّجَارَةِ بِالدِّينِ وَالْخُرَافَاتِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي الْإِصْلَاحِ الْحَرْبِيِّ.
وَالْعِبْرَةُ فِي كُلِّ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ، الَّتِي فَضُلَ بِهَا الْإِسْلَامُ جَمِيعَ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَوَانِينِ الْحُكَمَاءِ وَالْعُلَمَاءِ، أَنَّهَا قَدْ جَاءَتْ عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ أُمِّيٍّ نَشَأَ بَيْنَ أُمِّيِّينَ، فَهَلْ كَانَتْ بِوَحْيٍ نَبَعَ بَعْدَ الْكُهُولَةِ مِنْ نَفْسِهِ، أَمْ هُوَ كَمَا بَلَغَنَا رُوحِيٌّ مِنْ رَبِّهِ؟.
الْمَقْصِدُ السَّابِعُ مِنْ فِقْهِ الْقُرْآنِ
(الْإِرْشَادُ إِلَى الْإِصْلَاحِ الْمَالِيِّ)
(تَمْهِيدٌ) بَيِّنَّا مَقَاصِدَ الْقُرْآنِ أَوْ أُصُولَ فِقْهِهِ فِي إِصْلَاحِ الْبَشَرِ مِنْ طَرِيقِ التَّدَيُّنِ وَالْإِيمَانِ، وَالْعَمَلِ وَالْإِذْعَانِ، وَمِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ وَالْبُرْهَانِ وَالْفِكْرِ وَالْوِجْدَانِ، وَمِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ الْعَادِلِ وَالسُّلْطَانِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ مِنْهُ بِالْإِفْرَادِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ مِنْهُ بِوَحْدَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْأَجْنَاسِ، وَبَقِيَ مَا يَتَعَلَّقُ بِفِقْهِهِ فِي إِصْلَاحِ الْمَفَاسِدِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الْكُبْرَى الَّذِي يَتَوَقَّفُ كَمَالُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ كُلِّهِ وَهِيَ: - طُغْيَانُ الثَّرْوَةِ وَدَوْلَتِهَا. عُدْوَانُ الْحَرْبِ وَقَسْوَتُهَا. ظُلْمُ الْمَرْأَةِ وَاسْتِبَاحَتُهَا. ظُلْمُ الضَّعْفَةِ وَالْأَسْرَى وَسَلْبُ حُرِّيَّتِهِمْ، وَهُوَ الرِّقُّ الْمُطْلِقُ - ذَلِكَ بِأَنَّ جَمِيعَ حُظُوظِ الدُّنْيَا مَنُوطَةٌ - مِنْهَا، وَلَا يَتِمُّ الْإِصْلَاحُ فِيهَا إِلَّا بِتَعَاوُنِ الدِّينِ وَالْعَقْلِ، وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْحُكْمِ وَإِنَّنَا نَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا بِالْإِجْمَالِ، مُبْتَدِئِينَ بِالْمَالِ، وَالْآيَاتُ فِيهِ تَدُورُ عَلَى سَبْعَةِ أَقْطَابٍ، فَنَقُولُ:
(١ - الْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ فِي الْمَالِ كَوْنُهُ فِتْنَةً وَاخْتِبَارًا فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ)
الْقَاعِدَةُ الْأَسَاسِيَّةُ لِلْقُرْآنِ فِي الْمَالِ أَنَّهُ فِتْنَةٌ، أَيِ اخْتِبَارٌ وَامْتِحَانٌ لِلْبَشَرِ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ مَعَايِشَ وَمَصَالِحَ، إِذْ هُوَ الْوَسِيلَةُ إِلَى الْإِصْلَاحِ وَالْإِفْسَادِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْبِرِّ وَالْفُجُورِ وَهُوَ مَثَارُ التَّنَازُعِ وَالتَّنَافُسِ فِي كَسْبِهِ وَإِنْفَاقِهِ، وَكَنْزِهِ وَاحْتِكَارِهِ وَجَعْلِهِ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ وَتَدَاوُلِهِ فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ بَيْنَ النَّاسِ.
قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) (٣: ١٨٦) وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّهِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ رَأَى عَرْشَ مَلِكَةِ سَبَأٍ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكَرُ أَمْ أَكْفُرُ) (٢٧: ٤٠)
223
الْآيَةَ. وَقَالَ: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضَّعْفِ بِمَا عَمِلُوا) (٣٤: ٣٧) الْآيَةَ. وَقَالَ: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) (٣٠: ٣٩) وَقَالَ: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) (٣: ١٤) الْآيَةَ. وَقَالَ تَعَالَى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (٨: ٢٨) وَمِثْلُهَا فِي سُورَةِ التَّغَابُنِ (٦٤: ١٥) وَيَلِيهَا التَّرْغِيبُ فِي الْإِنْفَاقِ وَقَصْرُ الْفَلَاحِ عَلَى الْوِقَايَةِ مِنْ شُحِّ النَّفْسِ، وَقَالَ تَعَالَى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) (١٨: ٤٦) انْظُرْ هَذَا مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ الْكَهْفُ: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (٧) وَالْمُرَادُ مِنَ الْعَمَلِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَا عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْعُمْرَانِ، وَأَحْسَنُهُ أَنْفَعُهُ لِلنَّاسِ وَأَرْضَاهُ لِلَّهِ بِشُكْرِهِ، ثُمَّ مَا ضَرَبَهُ مِنَ الْمَثَلِ بِصَاحِبَيِ الْجَنَّتَيْنِ، وَالْمَثَلِ لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِنَبَاتِ الْأَرْضِ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي تَعْلِيلِ قِسْمَةِ الْفَيْءِ بَيْنَ مُسْتَحِقِّيهِ: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) (٥٩: ٧) وَالدُّولَةُ بِضَمِّ الدَّالِّ الْمَالُ الْمُتَدَاوَلُ، أَيْ لِئَلَّا يَكُونَ الْمَالُ مَحْصُورًا
فِي الْأَغْنِيَاءِ مُتَدَاوَلًا بَيْنَهُمْ وَحْدَهُمْ. وَقَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (٩: ٣٤) إِلَخْ، الْكَنْزُ هُوَ الْمَنْعُ مِنَ التَّدَاوُلِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْمَالُ نَافِعًا لِلنَّاسِ.
وَالشَّوَاهِدُ فِي فِتْنَةِ الْمَالِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ تَجِدُ الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ وَلَا سِيَّمَا الْجُزْءِ الْعَاشِرِ مِنْهُ فَمِنَ الْآيَاتِ فِي ارْتِبَاطِ السَّعَادَةِ وَالْفَلَاحِ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ وَالشَّقَاءِ بِمَنْعِهِ مَا هُوَ لِلتَّرْهِيبِ وَمَا هُوَ لِلتَّرْغِيبِ، وَجَمَعَ بَيْنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ فِي قَوْلِهِ: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (٢: ١٩٥) الْآيَةَ، أَيْ إِنَّ مَنْعَ إِنْفَاقِ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنْ أَسْبَابِ التَّهْلُكَةِ، ثُمَّ قَالَ فِي التَّرْغِيبِ: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (٢: ١٩٥) وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ اللَّيْلِ: (٩٢: ٥ - ١١).
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ شَوَاهِدُ الْقُطْبِ الثَّانِي مِنْ آيَاتِ الْمَالِ وَهِيَ:
(٢ - الْآيَاتُ فِي ذَمِّ طُغْيَانِ الْمَالِ وَغُرُورِهِ وَصَدِّهِ عَنِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ)
قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَلَقِ: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لِيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (٩٦: ٦ و٧) أَيْ حَقًّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَتَجَاوَزُ حُدُودَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْفَضِيلَةِ بِرُؤْيَةِ نَفْسِهِ غَنِيًّا بِالْمَالِ. وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ وَمَا بَعْدَهَا فِي أَبِي جَهْلٍ أَشَدِّ أَعْدَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْإِسْلَامُ فِي أَوَّلِ ظُهُورِهِ، وَهِيَ
224
أَوَّلُ مَا نَزَلَ فِي ذَلِكَ. وَمِثْلُهَا سُورَةُ الْمَسَدِ (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ) (١١١: ١ و٢) إِلَخْ وَمِثْلُهَا سُورَةُ الْهُمَزَةِ: (الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ) (١٠٤: ٢ و٣) إِلَخْ. وَفِي مَعْنَاهُمَا آيَاتٌ مِنْ سُورَتَيِ الْمُدَّثِّرِ وَالْقَلَمِ وَغَيْرِهِمَا.
(٣ - ذَمُّ الْبُخْلِ بِالْمَالِ وَالْكِبْرِيَاءِ بِهِ وَالرِّيَاءِ فِي إِنْفَاقِهِ).
قَالَ تَعَالَى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (٣: ١٨٠) وَقَالَ: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) (٢: ٢٦٨) الْآيَةَ، فَسَّرُوا الْفَحْشَاءَ بِالْبُخْلِ. أَيِ الشَّيْطَانُ
يَصُدُّكُمْ عَنِ الْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللهِ بِتَخْوِيفِكُمْ مِنَ الْفَقْرِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالْبُخْلِ الَّذِي فَحَشَ شَرُّهُ وَضَرَرُهُ، وَقَالَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ بِالْوَالِدَيْنِ وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجِيرَانِ: (وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) (٥٧: ٢٣ و٢٤) وَمِنَ الشَّوَاهِدِ آيَاتُ ٩: ٧٦ و٧٧ وَآيَةُ ٤٧: ٣٨ وَآيَةُ ٤: ٣٩ وَآيَةُ ٢: ١٨٨ وَآيَةُ ٤: ١٦١ وَآيَةُ ٤: ٢٩ وَآيَةُ: ٩: ٣٤ و٣٥.
(٤ - مَدْحُ الْمَالِ وَالْغِنَى بِكَوْنِهِ مِنْ نِعَمِ اللهِ وَجَزَائِهِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ)
قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِكَايَةً عَنْهُ: (فَقَلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) (٧١: ١٠ - ١٢) وَفِي مَعْنَاهُ مَا حَكَاهُ عَنْ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي سُورَتِهِ (١١: ٥٢) وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْجِنِّ (٧٢: ١٣ - ١٧) وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بَيَانُ نِعْمَتِهِ عَلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ وَذُرِّيَّتِهِمَا بِهِدَايَةِ الدِّينِ فِي آخِرِ قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ طه (٢٠: ١٢٢ و١٢٣) الْآيَاتِ.
وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى هَذِهِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي غَفَلَ عَنْهَا الْمُفَسِّرُونَ وَغَيْرُهُمْ، قَوْلُهُ تَعَالَى عَطْفًا عَلَى الْأَمْرِ بِمَنْعِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ) (٩: ٢٨) أَيْ وَإِنْ خِفْتُمْ فَقْرًا يَعْرِضُ لَكُمْ بِحِرْمَانِ مَكَّةَ مِمَّا كَانَ يُنْفِقُهُ فِيهَا الْمُشْرِكُونَ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ، فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالْإِسْلَامِ وَفُتُوحِهِ وَغَنَائِمِهِ. وَكَذَا قَوْلُهُ لِلَّذِينِ أَعْطَوُا الْفِدَاءَ مِنْ أَسْرَى بَدْرٍ: (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) (٨: ٧٠) وَكَذَلِكَ كَانَ، فَقَدْ أَغْنَى اللهُ الْعَرَبَ الْفُقَرَاءَ عَامَّةً وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أُولَئِكَ الْأَسْرَى بِالْإِسْلَامِ، فَجَعَلَهُمْ أَغْنَى الْأُمَمِ وَالْأَقْوَامِ.
وَقَدِ امْتَنَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ الْأَعْظَمِ بِقَوْلِهِ: (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) (٩٣: ٨) وَامْتَنَّ عَلَى قَوْمِهِ بِتَوْفِيقِهِمْ لِلتِّجَارَةِ الْوَاسِعَةِ بِرِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فِي سُورَةٍ خَاصَّةٍ بِذَلِكَ، وَسَمَّى
225
الْمَالَ الْكَثِيرَ خَيْرًا بِقَوْلِهِ فِي صِفَاتِ الْإِنْسَانِ: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لِشَدِيدٌ) (١٠٠: ٨) وَقَالَ: (إِنَّ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) (٢: ١٨٠) الْآيَةَ.
(٥ - مَا أَوْجَبَ اللهُ مِنْ حِفْظِ الْمَالِ مِنَ الضَّيَاعِ وَالِاقْتِصَادِ فِيهِ).
قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا) (٤: ٥) قِيَامُ الشَّيْءِ وَقِوَامُهُ (بِالْكَسْرِ وَالْفَتْحِ) مَا يَسْتَقِيمُ بِهِ وَيُحْفَظُ وَيَثْبُتُ، أَيْ جَعَلَهَا قِوَامَ مَعَايِشِكُمْ وَمَصَالِحِكُمْ وَالسُّفَهَاءُ هُمُ الْمُسْرِفُونَ الْمُبَذِّرُونَ لَهَا لِصِغَرِ سِنِّهِمْ دُونَ الرُّشْدِ أَوْ لِفَسَادِ أَخْلَاقِهِمْ وَضَعْفِ عُقُولِهِمْ وَقَالَ تَعَالَى فِي صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (٢٥: ٦٧) الْإِسْرَافُ: التَّبْذِيرُ وَالْإِفْرَاطُ وَالْقَتْرُ وَالْقُتُورُ وَالْإِقْتَارُ: الْإِقْلَالُ وَالتَّضْيِيقُ فِي النَّفَقَةِ.
(٦ - إِنْفَاقُ الْمَالِ آيَةُ الْإِيمَانِ وَالْوَسِيلَةِ لِحَيَاةِ الْأُمَّةِ وَعَزَّةِ الدَّوْلَةِ).
هَذَا هُوَ الْقُطْبُ الْأَعْظَمُ مِنْ أَقْطَابِ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ فِي الْمَالِ وَأَكْثَرِهَا فِيهِ، وَمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ وَسَائِلُ لَهُ، وَمَا بَعْدَهُ بَيَانٌ لِلْعَمَلِ بِهِ، وَأَظْهَرُ الشَّوَاهِدِ فِيهِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَهُ هُوَ الْفَصْلَ بَيْنَ الْإِسْلَامِ الصَّحِيحِ الْمُقْتَرِنِ بِالْإِذْعَانِ، الْمَبْنِيِّ عَلَى أَسَاسِ الْإِيمَانِ، وَأَنَّ دَعْوَى الْإِيمَانِ بِدُونِ شَهَادَتِهِ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ دَعْوَى الْإِسْلَامِ تُقَبْلُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ أَحْكَامَهُ الْعَمَلِيَّةَ تُبْنَى عَلَى الظَّوَاهِرِ وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُحَاسِبُ عَلَى السَّرَائِرِ.
وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا) (٤٩: ١٤ و١٥) إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ، فَقَدَّمَ الْجِهَادَ بِالْمَالِ عَلَى الْجِهَادِ بِالنَّفْسِ فِي تَحْقِيقِ صِحَّةِ الْإِيمَانِ. وَيَلِي هَذَا الشَّاهِدَ آيَةُ الْبِرِّ النَّاطِقَةُ بِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ عَلَى حُبِّهِ بِالِاخْتِيَارِ، أَوَّلُ آيَاتِ الْإِيمَانِ: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) (٢: ١٧٧) إِلَخْ.
وَمِنَ الْآيَاتِ فِي تَفْضِيلِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُنْفِقِينَ عَلَى غَيْرِهِمْ وَتَفَاوُتِهِمْ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى) (٤: ٩٥) اقْرَأْ تَتِمَّةَ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا. وَقَالَ تَعَالَى: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ
وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى) (٥٧: ١٠) وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ كَثِيرَةٌ، وَيُرَاجَعُ تَفْصِيلُهَا فِي تَفْسِيرِ الْجُزْءِ الثَّانِي وَالْجُزْءِ الْعَاشِرِ وَهَذَا الْجُزْءِ (١١) مِنَ التَّفْسِيرِ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الْبَلِيغَةِ فِي التَّرْغِيبِ فِيهِ وَمُضَاعَفَةِ ثَوَابِهِ، وَبَيَانِ آدَابِهِ، عِشْرُونَ آيَةً
226
مِنْ أَوَاخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ هِيَ مِنْ أَوَاخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ يَتَخَلَّلُهَا الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى أَكْلِ الرِّبَا فَرَاجِعْهَا مِنْ آيَةِ ٢٦١ - ٢٨١ مَعَ تَفْسِيرِهَا مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّالِثِ.
ثُمَّ رَاجِعْ فِي فِهْرِسِ الْجُزْءِ الْعَاشِرِ كَلِمَةَ (الْمَالُ: الْجِهَادُ بِهِ أَقْوَى آيَاتِ الْإِيمَانِ وَقِوَامُ الدِّينِ وَالدَّوْلَةِ) يُرْشِدْكَ إِلَى عَشْرِ صَفَحَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَصَّلْنَا فِيهَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ.
(٧ - الْحُقُوقُ الْمَفْرُوضَةُ وَالْمَنْدُوبَةُ فِي الْمَالِ وَالْإِصْلَاحِ الْمَالِيِّ فِي الْإِسْلَامِ)
قَدْ عَقَدْتُ لِتَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) (٩: ١٠٣) فَصْلًا: ((فِي فَوَائِدِ الزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْإِصْلَاحِ الْمَالِيِّ لِلْبَشَرِ وَامْتِيَازِ الْإِسْلَامِ بِذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ)) وَلَخَّصْتُ أُصُولَ هَذَا الْإِصْلَاحِ فِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَصْلًا، فَرَاجِعْهَا فَمَا هِيَ مِنْكَ بِبَعِيدٍ.
وَمَوْضُوعُ بَحْثِنَا فِي هَذَا الِاسْتِطْرَادِ وَهُوَ ((دَلَائِلُ الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ)) أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ الَّذِي عَرَفْنَا خُلَاصَةَ تَارِيخِهِ قَدِ اهْتَدَى بِعَقْلِهِ، أَوْ بِوَحْيٍ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، إِلَى هَذِهِ الْحَقَائِقِ الَّتِي فَاقَتْ وَعَلَتْ جَمِيعَ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْبَشَرِيَّةِ فِي أَرْقَى عُصُورِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْقَوَانِينِ، وَإِنَّمَا الْمَعْقُولُ أَنْ يَكُونَ هَذَا بِوَحْيٍ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ أَفَاضَهُ عَلَى خَاتَمِ النَّبِيِّينَ فَلَا يَحْتَاجُونَ بَعْدَهُ إِلَى وَحْيٍ آخَرَ.
الْمَقْصِدُ الثَّامِنُ مِنْ فِقْهِ الْقُرْآنِ
(إِصْلَاحُ نِظَامُ الْحَرْبِ وَدَفْعُ مَفَاسِدِهَا وَقَصْرُهَا عَلَى مَا فِيهِ الْخَيْرُ لِلْبَشَرِ)
التَّنَازُعُ بَيْنَ الْأَحْيَاءِ فِي مَرَافِقِ الْمَعِيشَةِ وَوَسَائِلِ الْمَالِ وَالْجَاهِ غَرِيزَةٌ مِنْ غَرَائِزِ الْحَيَاةِ، وَإِفْضَاءُ التَّنَازُعِ إِلَى التَّعَادِي وَالِاقْتِتَالِ بَيْنَ الْجَمَاعَاتِ وَالْأَقْوَامِ، سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الِاجْتِمَاعِ، أَوَ ضَرُورَةٌ مِنْ ضَرُورَاتِهِ، قَدْ تَكُونُ وَسِيلَةً مِنْ وَسَائِلِ الْعُمْرَانِ، فَإِنْ كَانَ
التَّنَازُعُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ كَانَ الْفَلْجُ لِلْحَقِّ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ كَانَ الظَّفَرُ لِلْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ النِّظَامِ وَالِاخْتِلَالِ كَانَ النَّصْرُ لِلنِّظَامِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ كَانَ الْغَلَبُ لِلصَّلَاحِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) (٢١: ١٨) وَقَالَ فِي بَيَانِ نَتِيجَةِ الْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَهُ لَهُمَا: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) (١٣: ١٧).
وَأَمَّا التَّنَازُعُ وَالتَّعَادِي وَالتَّقَاتُلُ عَلَى الشَّهَوَاتِ الْبَاطِلَةِ وَالسُّلْطَةِ الظَّالِمَةِ، وَاسْتِبْعَادُ الْقَوِيِّ لِلضَّعِيفِ، وَالِاسْتِكْبَارُ وَالْعُلُوُّ فِي الْأَرْضِ؛ فَإِنَّ ضَرَرَهُ كَبِيرٌ، وَشَرَّهُ مُسْتَطِيرٌ، وَيَزِيدُ ضَرَاوَةَ الْبَشَرِ بِسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَيُورِثُهُمُ الْحِقْدَ وَيُؤَرِّثُ بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، وَقَدِ اشْتَدَّتْ هَذِهِ الْمَفَاسِدُ
227
فِي هَذَا الزَّمَانِ، حَتَّى خِيفَ أَنْ تَقْضِيَ عَلَى هَذَا الْعُمْرَانِ الْعَظِيمِ فِي وَقْتٍ قَصِيرٍ، بِمَا اسْتَحْدَثَهُ الْعِلْمُ الْوَاسِعُ مِنْ وَسَائِلِ التَّخْرِيبِ وَالتَّدْمِيرِ، كَالْغَازَاتِ السَّامَّةِ وَمَوَادِّ الْهَدْمِ وَالتَّحْرِيقِ تَقْذِفُهَا الطَّيَّارَاتُ الْمُحَلِّقَةُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ، عَلَى الْمَدَائِنِ الْمُكْتَظَّةِ بِالْأُلُوفِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ، فَتَقْتُلُهُمْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ سَاعَاتٍ مَعْدُودَةٍ.
وَقَدْ حَارَتِ الدُّوَلُ الْحَرْبِيَّةُ فِي تَلَافِي هَذَا الْخَطَرِ، وَتَرَى دَهَاقِينَ السِّيَاسَةَ فِي كُلٍّ مِنْهَا يَتَفَاوَضُونَ مَعَ أَقْرَانِهِمْ لِوَضْعِ نِظَامٍ لِتَقْرِيرِ السَّلَامِ، وَدَرْءِ مَفَاسِدِ الْخِصَامِ، بِمُعَاهَدَاتٍ يَعْقِدُونَهَا، وَأَيْمَانٍ يَتَقَاسَمُونَهَا، ثُمَّ يَنْفَضُّونَ خَائِبِينَ، أَوْ يَنْقُضُونَ مَا أَبْرَمُوا مُتَأَوِّلِينَ، وَيَعُودُونَ إِلَى مِثْلِهِ مُخَادِعِينَ.
وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ سَبَبَ هَذِهِ الْخَيْبَةِ بِمَا وَجَدْنَا مِصْدَاقَهُ فِي هَذِهِ الدُّوَلِ بِأَظْهَرِ مِمَّا كَانَ فِي عَرَبِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ نَزَلَ هَذَا الْبَيَانُ فِي عَهْدِهِمْ، كَأَنَّهُ نَزَلَ فِي هَؤُلَاءِ الْإِفْرِنْجِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَهُوَ مِنْ عَجَائِبِ الْقُرْآنِ فِي لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ. وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْإِيفَاءِ بِعَهْدِهِ وَالنَّهْيِ عَنْ نَقْضِهِ: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ) (١٦: ٩٢) وَالْمَعْنَى: لَا تَكُونُوا فِي نَقْضِ عُهُودِكُمْ وَالْعَوْدِ إِلَى تَجْدِيدِهَا كَالْمَرْأَةِ الْحَمْقَاءِ الَّتِي تَنْقُضُ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةِ إِبْرَامِهِ نَقْضَ أَنْكَاثٍ (وَهُوَ جَمْعُ نِكْثٍ بِالْكَسْرِ: مَا نُقِضَ لِيُغْزَلَ مَرَّةً أُخْرَى) حَالَ كَوْنِكُمْ تَتَّخِذُونَ عُهُودَكُمْ دَخْلًا بَيْنَكُمْ
(وَالدَّخَلُ بِالتَّحْرِيكِ الْفَسَادُ وَالْغِشُّ الْخَفِيُّ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الشَّيْءِ وَمَا هُوَ مِنْهُ) لِأَجْلِ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ أُخْرَى رِجَالًا، وَأَكْثَرَ رِبْحًا وَمَالًا، وَأَقْوَى أَسِنَّةً وَنِصَالًا.
وَالْمُرَادُ: أَنَّ مُعَاهَدَاتِ الصُّلْحِ وَالِاتِّفَاقِ بَيْنَ الْأُمَمِ، يَجِبُ أَنْ يُقْصَدَ بِهَا الْإِصْلَاحُ وَالْعَدْلُ وَالْمُسَاوَاةُ، فَتُبْنَى عَلَى الْإِخْلَاصِ دُونَ الدَّخَلِ وَالدَّغَلِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ مَا ذُكِرَ.
وَلَوْ طَلَبُوا الْمَخْرَجَ وَالسَّلَامَةَ مِنْ هَذَا الْخَطَرِ لَوَجَدُوهُمَا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ دِينُ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالسَّلَامِ، وَهَاكَ بَعْضَ الشَّوَاهِدِ عَلَى هَذَا مِنْ قَوَاعِدِ الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ.
(أَهَمُّ قَوَاعِدِ الْحَرْبِ وَالسَّلَامِ وَالشَّوَاهِدُ عَلَيْهَا مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ).
قَدِ اسْتَنْبَطْنَا مِنْ آيَاتِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ ٢٨ قَاعِدَةً مِنَ الْقَوَاعِدِ الْحَرْبِيَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ فِي الْقِتَالِ وَالصُّلْحِ وَالْمُعَاهَدَاتِ، أَجْمَلْنَاهَا فِي الْبَابِ السَّابِعِ مِنْ خُلَاصَةِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ (١٢٥ - ١٣٠ ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ) وَأَحَلْنَا فِي تَفْصِيلِهَا عَلَى تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْهَا، ثُمَّ اسْتَنْبَطْنَا مِنْ آيَاتِ سُورَةِ التَّوْبَةِ ١٣ قَاعِدَةً حَرْبِيَّةً أَكْثَرُهَا فِي الْمُعَاهَدَاتِ وَوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهَا وَشَرْطِ نَبْذِهَا، وَفِي الْهُدْنَةِ وَتَأْمِينِ الْحَرْبِيِّ لِلدُّخُولِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ - و٢٠ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِ الْحَرْبِ وَالْجِزْيَةِ سَرَدْنَاهَا فِي خُلَاصَةِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ ثُمَّ أَتَيْنَا بِبِضْعِ قَوَاعِدَ مِنْهُمَا وَمَنْ غَيْرِهِمَا مِنَ السُّورِ فِيمَا
228
أَفْرَدْنَاهُ مِنْ هَذَا الْبَحْثِ؛ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ إِيرَادِ الشَّوَاهِدِ الْمُحَمَّلَةِ عَلَى أَنْوَاعِ الْإِصْلَاحِ الْإِسْلَامِيِّ مِنَ الْقُرْآنِ، لِلِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ هَذِهِ الْعُلُومِ لَا يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا مِنْ آرَاءِ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ، الَّذِي عَاشَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ عِيشَةَ الْعُزْلَةِ وَالِانْفِرَادِ، إِلَّا قَلِيلًا مِنْ رَعْيِ الْغَنَمِ فِي الصِّبَا وَالتِّجَارَةِ فِي الشَّبَابِ، وَقَدْ قَصَّرَتْ عَنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا كُتُبُ الْأَدْيَانِ الْإِلَهِيَّةِ، وَكُتُبُ الْحِكْمَةِ وَالْقَوَانِينِ الْبَشَرِيَّةِ.
(الْقَاعِدَةُ الْأَوْلَى فِي الْحَرْبِ الْمَفْرُوضَةِ شَرْعًا)
وَرَدَ الْأَمْرُ بِقِتَالِ الْمُعْتَدِّينَ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَتَوْطِيدِ الْمَصَالِحِ، مُقْتَرِنًا بِالنَّهْيِ عَنْ قِتَالِ الِاعْتِدَاءِ وَالْبَغْيِ وَالظُّلْمِ، وَالشَّاهِدُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (٢: ١٩٠) وَتَعْلِيلُ النَّهْيِ عَنْ قِتَالِ الِاعْتِدَاءِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ مُطْلَقًا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا النَّهْيَ مُحْكَمٌ غَيْرُ قَابِلٍ لِلنَّسَخِ، وَمِنْ ثَمَّ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّانِي أَنَّ حُرُوبَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْكُفَّارِ كَانَتْ كُلُّهَا دِفَاعًا لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْعُدْوَانِ.
(الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْغَرَضِ مِنَ الْحَرْبِ وَنَتِيجَتِهَا)
وَهِيَ أَنْ تَكُونَ الْغَايَةُ الْإِيجَابِيَّةُ مِنَ الْقِتَالِ - بَعْدَ دَفْعِ الِاعْتِدَاءِ وَالظُّلْمِ وَاسْتِتْبَابِ الْأَمْنِ - حِمَايَةَ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، وَعِبَادَةَ الْمُسْلِمِينَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَمَصْلَحَةَ الْبَشَرِ، وَإِسْدَاءَ الْخَيْرِ إِلَيْهِمْ، لَا الِاسْتِعْلَاءَ عَلَيْهِمْ وَالظُّلْمَ لَهُمْ، وَالشَّاهِدُ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ الْإِذْنِ الْأَوَّلِ بِالْقِتَالِ الدِّفَاعِيِّ لِلْمَظْلُومِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ لِأَجْلِ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (٢٢: ٤٠ و٤١).
ذَكَرَ فِي تَعْلِيلِ إِذْنِهِ لَهُمْ بِالْقِتَالِ الْمَذْكُورِ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ.
(أَوَّلُهَا) كَوْنُهُمْ مَظْلُومِينَ مُعْتَدًى عَلَيْهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَمُخْرَجِينَ نَفْيًا مِنْ أَوْطَانِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لِأَجْلِ دِينِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ، وَهَذَا سَبَبٌ خَاصٌّ بِهِمْ بِقِسْمَيْهِ الشَّخْصِيِّ وَالْوَطَنِيِّ، أَوِ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ.
(ثَانِيهَا) أَنَّهُ لَوْلَا إِذْنُ اللهِ لِلنَّاسِ بِمِثْلِ هَذَا الدِّفَاعِ، لَهُدِّمَتْ جَمِيعُ الْمَعَابِدِ الَّتِي يَذْكُرُ فِيهَا اسْمَ اللهِ تَعَالَى أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ، كَصَوَامِعِ الْعِبَادِ وَبِيَعِ النَّصَارَى وَصَلَوَاتِ الْيَهُودِ
(كَنَائِسِهِمَا) وَمَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ بِظُلْمِ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ وَمُنْكِرِي الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَهَذَا سَبَبٌ دِينِيٌّ عَامٌّ صَرِيحٌ فِي حُرِّيَّةِ الدِّينِ فِي الْإِسْلَامِ وَحِمَايَةِ الْمُسْلِمِينَ لَهَا وَلِمَعَابِدِ أَهْلِهَا وَكَذَلِكَ كَانَ.
229
(ثَالِثُهَا) أَنْ يَكُونَ غَرَضَهُمْ مِنَ التَّمَكُّنِ فِي الْأَرْضِ وَالْحُكْمِ فِيهَا إِقَامَةُ الصَّلَاةِ الْمُزَكِّيَةِ لِلْأَنْفُسِ بِنَهْيِهَا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ كَمَا وَصَفَهَا تَعَالَى، وَالْمُرَبِّيَةِ لِلْأَنْفُسِ عَلَى مُرَاقَبَةِ اللهِ وَخَشْيَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ الْمُصْلِحَةِ لِلْأُمُورِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالِاقْتِصَادِيَّةِ - وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ الشَّامِلِ لِكُلِّ خَيْرٍ وَنَفْعٍ لِلنَّاسِ - وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ الشَّامِلِ لِكُلِّ شَرٍّ وَضُرٍّ يَلْحَقُ صَاحِبَهُ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ النَّاسِ.
(الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ إِيثَارُ السَّلْمِ عَلَى الْحَرْبِ)
هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْقَاعِدَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا إِذَا عُلِمَ بِهِمَا أَنَّ الْحَرْبَ ضَرُورَةٌ يَقْتَضِيهَا مَا ذُكِرَ فِيهِمَا مِنَ الْمَصَالِحِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ، وَأَنَّ السَّلْمَ هِي الْأَصْلُ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا النَّاسُ؛ فَلِهَذَا أَمَرَنَا اللهُ بِإِيثَارِهَا عَلَى الْحَرْبِ إِذَا جَنَحَ الْعَدُوُّ لَهَا، وَرَضِيَ بِهَا، وَالشَّاهِدُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٨: ٦١) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي ص ٥٩، ١٢٦ وَمَا بَعْدَهَا ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ.
(الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ الِاسْتِعْدَادُ التَّامُّ لِلْحَرْبِ لِأَجْلِ الْإِرْهَابِ الْمَانِعِ مِنْهَا)
إِنَّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ الدَّوْلَةُ قَبْلَ الْحَرْبِ، هُوَ إِعْدَادُ الْأُمَّةِ كُلَّ مَا تَسْتَطِيعُ مِنْ أَنْوَاعِ الْقُوَّةِ الْحَرْبِيَّةِ وَرِبَاطِ الْخَيْلِ فِي كُلِّ زَمَانٍ بِحَسْبِهِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ الْأَوَّلُ مِنْ ذَلِكَ إِرْهَابُ الْأَعْدَاءِ وَإِخَافَتُهُمْ مِنْ عَاقِبَةِ التَّعَدِّي عَلَى بِلَادِ الْأُمَّةِ أَوْ مَصَالِحِهَا، أَوْ عَلَى أَفْرَادٍ مِنْهَا أَوْ مَتَاعٍ لَهَا حَتَّى فِي غَيْرِ بِلَادِهَا؛ لِأَجْلِ أَنْ تَكُونَ آمِنَةً فِي عُقْرِ دَارِهَا، مُطَمْئِنَةً عَلَى أَهْلِهَا وَمَصَالِحِهَا وَأَمْوَالِهَا، وَهَذَا يُسَمَّى فِي
عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِالسِّلْمِ الْمُسَلَّحَةِ أَوِ التَّسْلِيحِ السِّلْمِيِّ، وَتَدَّعِيهِ الدُّوَلُ الْعَسْكَرِيَّةُ فِيهِ زُورًا وَخِدَاعًا فَتُكَذِّبُهَا أَعْمَالُهَا، وَلَكِنَّ الْإِسْلَامَ امْتَازَ عَلَى الشَّرَائِعِ كُلِّهَا بِأَنْ جَعْلَهُ دِينًا مَفْرُوضًا، فَقَيَّدَ بِهِ الْأَمْرَ بِإِعْدَادِ الْقُوَى وَالْمُرَابَطَةِ لِلْقِتَالِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) (٨: ٦٠).
(الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ الرَّحْمَةُ فِي الْحَرْبِ)
إِذَا كَانَ الْغَلَبُ وَالرُّجْحَانُ فِي الْقِتَالِ لِلْمُسْلِمِينَ الْمُعَبَّرِ بِالْإِثْخَانِ فِي الْأَعْدَاءِ، وَأَمِنُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ظُهُورَ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ، فَاللهُ تَعَالَى يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَكُفُّوا عَنِ الْقَتْلِ، وَيَكْتَفُوا بِالْأَسْرِ، ثُمَّ يُخْبِرُهُمْ فِي الْأُسَارَى إِمَّا بِالْمَنِّ عَلَيْهِمْ بِإِطْلَاقِهِمْ بِغَيْرِ مُقَابِلٍ، وَإِمَّا بِأَخْذِ الْفِدَاءِ عَنْهُمْ، وَذَلِكَ نَصُّ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) (٤٧: ٤) الْآيَةَ. وَقَدْ أَوْرَدْنَاهَا وَبَيَّنَّا مَعْنَاهَا فِي تَفْسِيرِ (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) (٨: ٦٧) الْآيَةَ: (رَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي ص ٧٢ وَمَا بَعْدَهَا ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ).
230
(الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةُ الْوَفَاءُ بِالْمُعَاهَدَاتِ وَتَحْرِيمُ الْخِيَانَةِ فِيهَا)
وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ فِي الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ وَتَحْرِيمُ الْخِيَانَةِ فِيهِمَا سِرًّا أَوَ جَهْرًا، كَتَحْرِيمِ الْخِيَانَةِ فِي كُلِّ أَمَانَةٍ مَادِّيَّةٍ أَوْ مَعْنَوِيَّةٍ، كِلَاهُمَا مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ الْقَطْعِيَّةِ، وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ مُتَعَدِّدَةٌ مُحْكَمَةٌ لَا تَدَعُ مَجَالًا لِإِبَاحَةِ نَقْضِ الْعَهْدِ بِالْخِيَانَةِ فِيهِ وَقْتَ الْقُوَّةِ، وَعَدِّهِ قُصَاصَةَ وَرَقٍ عِنْدَ إِمْكَانِ نَقْضِهِ بِالْحِيلَةِ (مِنْهَا) وَالْآيَاتُ فِيهَا كَثِيرَةٌ تَقَدَّمَ أَهَمُّهَا فِي الْجُزْءِ الْعَاشِرِ مِنَ التَّفْسِيرِ.
(الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ الْجِزْيَةُ وَكَوْنُهَا غَايَةً لِلْقِتَالِ لَا عِلَّةً)
قُلْتُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ آيَةِ الْجِزْيَةِ: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (٩: ٢٩) مَا نَصُّهُ:
هَذِهِ غَايَةٌ لِلْأَمْرِ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ يَنْتَهِي بِهَا إِذَا كَانَ الْغَلَبُ لَنَا، أَيْ قَالُوا مَنْ ذُكِرَ عِنْدَ وُجُودِ مَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْقِتَالِ، كَالِاعْتِدَاءِ عَلَيْكُمْ أَوْ عَلَى بِلَادِكُمْ أَوِ اضْطِهَادِكُمْ وَفِتْنَتِكُمْ عَنْ دِينِكُمْ أَوْ تَهْدِيدِ أَمْنِكُمْ وَسَلَامَتِكُمْ كَمَا فَعَلَ الرُّومُ فَكَانَ سَبَبًا لِغَزْوَةِ تَبُوكَ، حَتَّى تَأْمَنُوا عُدْوَانَهُمْ بِإِعْطَائِكُمُ الْجِزْيَةَ فِي الْحَالَيْنِ اللَّذَيْنِ قُيِّدَتْ بِهِمَا. (ثُمَّ قُلْتُ) :
هَذَا - وَإِنَّ الْجِزْيَةَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ تَكُنْ كَالضَّرَائِبِ الَّتِي يَضَعُهَا الْفَاتِحُونَ عَلَى مَنْ يَتَغَلَّبُونَ عَلَيْهِمْ فَضْلًا عَنِ الْمَغَارِمِ الَّتِي يُرْهِقُونَهُمْ بِهَا، وَإِنَّمَا هِيَ جَزَاءٌ قَلِيلٌ عَلَى مَا تَلْتَزِمُهُ الْحُكُومَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ مِنَ الدِّفَاعِ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَإِعَانَةٌ لِلْجُنْدِ الَّذِي يَمْنَعُهُمْ أَيْ يَحْمِيهِمْ مِمَّنْ يَعْتَدِي عَلَيْهِمْ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ سِيرَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَأَعْدَلُهُمْ فِي تَنْفِيذِهَا. وَالشَّوَاهِدُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ أَوْرَدْنَا طَائِفَةً مِنْهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ الْقَوَاعِدَ رَأَى أَنَّهُ لَمْ يَسْبِقِ الْإِسْلَامَ إِلَى مِثْلِهَا دِينٌ مِنَ الْأَدْيَانِ، وَلَا قَانُونٌ دَوْلِيٌّ، وَلَا إِرْشَادٌ فَلْسَفِيٌّ أَوْ أَدَبِيٌّ، وَلَا تَبِعَتْهُ بِهَا أُمَّةٌ بِتَشْرِيعٍ وَلَا عَمَلٍ، أَفَلَيَسَ هَذَا وَحْدَهُ دَلِيلًا وَاضِحًا لَدَى مَنْ يُؤْمِنُ بِوُجُوبِ رَبٍّ لِلْبَشَرِ عَلِيمٍ حَكِيمٍ، بِأَنَّ مُحَمَّدًا الْعَرَبِيَّ الْأُمِّيَّ قَدِ اسْتَمَدَّهَا بِوَحْيٍ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّ عَقْلَهُ وَذَكَاءَهُ لَمْ يَكُنْ لِيَبْلُغَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ فِي هَذِهِ الْمُعْضِلَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ بِدُونِ هَذَا الْوَحْيِ؟ فَكَيْفَ إِذَا أَضَفْنَا إِلَيْهَا مَا تَقَدَّمَ وَمَا يَأْتِي مِنَ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْأَنْبَاءِ الْغَيْبِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ !.
231
الْمَقْصِدُ التَّاسِعُ مِنْ فِقْهِ الْقُرْآنِ
(إِعْطَاءُ النِّسَاءِ جَمِيعَ الْحُقُوقِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ)
كَانَ النِّسَاءُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مَظْلُومَاتٍ مُمْتَهَنَاتٍ مُسْتَعْبَدَاتٍ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ وَفِي جَمِيعِ شَرَائِعِهَا وَقَوَانِينِهَا، حَتَّى عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ، وَأَكْمَلَ اللهُ دِينَهُ بِبِعْثَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، فَأَعْطَى اللهُ النِّسَاءَ بِكِتَابِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ، وَبِسُنَنِهِ الَّتِي بَيَّنَ بِهَا كِتَابَ اللهِ تَعَالَى بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، جَمِيعَ الْحُقُوقِ الَّتِي أَعْطَاهَا لِلرِّجَالِ، إِلَّا مَا يَقْتَضِيهِ اخْتِلَافُ طَبِيعَةِ الْمَرْأَةِ وَوَظَائِفُهَا النِّسَوِيَّةِ مِنَ الْأَحْكَامِ، مَعَ مُرَاعَاةِ تَكْرِيمِهَا وَالرَّحْمَةِ بِهَا وَالْعَطْفِ عَلَيْهَا، حَتَّى كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: ((مَا أَكْرَمَ النِّسَاءَ إِلَّا كَرِيمٌ، وَلَا أَهَانَهُنَّ إِلَّا لَئِيمٌ)) رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَإِنَّنِي أُشِيرُ هُنَا إِلَى أَهَمِّ أُصُولِ الْإِصْلَاحِ النِّسَوِيِّ الَّتِي بَسَطْتُهَا بِكِتَابٍ وَسِيطٍ فِي ((حُقُوقِ النِّسَاءِ فِي الْإِسْلَامِ)) بَيَّنْتُ فِي مُقَدِّمَتِهِ حَالَهُنَّ قَبْلَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عِنْدَ أُمَمِ الْأَرْضِ إِجْمَالًا بِقَوْلِي: ((كَانَتِ الْمَرْأَةُ تُشْتَرَى وَتُبَاعُ، كَالْبَهِيمَةِ وَالْمَتَاعِ، وَكَانَتْ تُكْرَهُ عَلَى الزَّوَاجِ وَعَلَى الْبِغَاءِ، وَكَانَتْ تُورَثُ وَلَا تَرِثُ، وَكَانَتْ تُمْلَكُ وَلَا تَمْلِكُ، وَكَانَ أَكْثَرُ الَّذِينَ يَمْلِكُونَهَا يَحْجُرُونَ عَلَيْهَا التَّصَرُّفَ فِيمَا تَمْلِكُهُ بِدُونِ إِذْنِ الرَّجُلِ، وَكَانُوا يَرَوْنَ لِلزَّوْجِ الْحَقَّ فِي التَّصَرُّفِ بِمَالِهَا مِنْ دُونِهَا، وَقَدِ اخْتَلَفَ الرِّجَالُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ فِي كَوْنِهَا إِنْسَانًا ذَا نَفْسٍ وَرُوحٍ خَالِدَةٍ كَالرَّجُلِ أَمْ لَا؟ وَفِي كَوْنِهَا تُلَقَّنُ الدِّينَ وَتَصِحُّ مِنْهَا الْعِبَادَةُ أَمْ لَا؟ وَفِي كَوْنِهَا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَوِ الْمَلَكُوتَ فِي الْآخِرَةِ أَمْ لَا؟ فَقَرَّرَ أَحَدُ الْمَجَامِعِ فِي رُومِيَّةَ أَنَّهَا حَيَوَانٌ نَجِسٌ لَا رُوحَ لَهُ وَلَا خُلُودَ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهَا الْعِبَادَةُ وَالْخِدْمَةُ، وَأَنْ يُكَمَّ فَمُهَا كَالْبَعِيرِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ لِمَنْعِهَا مِنَ الضَّحِكِ وَالْكَلَامِ، لِأَنَّهَا أُحْبُولَةُ الشَّيْطَانِ، وَكَانَتْ أَعْظَمُ الشَّرَائِعِ تُبِيحُ لِلْوَالِدِ بَيْعَ ابْنَتِهِ، وَكَانَ بَعْضُ الْعَرَبِ يَرَوْنَ أَنَّ لِلْأَبِ الْحَقَّ فِي قَتْلِ بِنْتِهِ بَلْ فِي وَأْدِهَا - دَفْنِهَا حَيَّةً - أَيْضًا. وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَى الرَّجُلِ فِي قَتْلِ الْمَرْأَةِ وَلَا دِيَةَ)).
وَكَتَبْتُ فِي مُقَدِّمَةِ الْكَلَامِ عَلَى حُقُوقِ النِّسَاءِ الْمَالِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ مَا مُخْتَصَرُهُ:
((قَدْ أَبْطَلَ الْإِسْلَامُ كُلَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْعَرَبُ وَالْعَجَمُ مِنْ حِرْمَانِ النِّسَاءِ مِنَ التَّمَلُّكِ أَوِ التَّضْيِيقِ عَلَيْهِنَّ فِي التَّصَرُّفِ بِمَا يَمْلِكْنَ، وَاسْتِبْدَادَ أَزْوَاجِ الْمُتَزَوِّجَاتِ مِنْهُنَّ بِأَمْوَالِهِنَّ، فَأَثْبَتَ لَهُنَّ حَقَّ الْمِلْكِ بِأَنْوَاعِهِ وَالتَّصَرُّفَ بِأَنْوَاعِهِ الْمَشْرُوعَةِ، فَشَرَعَ الْوَصِيَّةَ وَالْإِرْثَ لَهُنَّ كَالرِّجَالِ، وَزَادَهُنَّ مَا فُرِضَ لَهُنَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ مَهْرِ الزَّوْجِيَّةِ وَالنَّفَقَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ وَأَوْلَادِهَا وَإِنْ كَانَتْ غَنِيَّةً، وَأَعْطَاهُنَّ حَقَّ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَيَتْبَعُ ذَلِكَ حُقُوقُ الدِّفَاعِ عَنْ مَالِهَا كَالدِّفَاعِ عَنْ نَفْسِهَا بِالتَّقَاضِي وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ الْفَرَنْسِيَّةَ لَا تَزَالُ إِلَى الْيَوْمِ مُقَيَّدَةٌ بِإِرَادَةِ زَوْجِهَا فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَالْعُقُودِ الْقَضَائِيَّةِ))
232
وَإِنَّنِي أُلَخِّصُ مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ الْمَسَائِلَ الْآتِيَةَ بِالْإِيجَازِ:
(١) كَانَ بَعْضُ الْبَشَرِ مِنَ الْإِفْرِنْجِ وَغَيْرِهِمْ يَعُدُّونَ الْمَرْأَةَ مِنَ الْحَيَوَانِ الْأَعْجَمِ أَوْ مِنَ الشَّيَاطِينِ لَا مِنْ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، وَبَعْضُهُمْ يَشُكُّ فِي ذَلِكَ، فَجَاءَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتْلُو عَلَيْهِمْ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى) (٤٩: ١٣) الْآيَةَ: وَقَوْلَهُ: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً (٤: ١) وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا.
(٢) كَانَ بَعْضُ الْبَشَرِ فِي أُورُبَّةَ وَغَيْرِهَا يَرَوْنَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لَهَا دِينٌ، حَتَّى كَانُوا يُحَرِّمُونَ عَلَيْهَا قِرَاءَةَ الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ رَسْمِيًّا، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ يُخَاطِبُ بِالتَّكَالِيفِ الدِّينِيَّةِ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ مَعًا بِلَقَبِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ.
كَانَ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةً، وَهِيَ زَوْجُهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى مُبَايَعَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنِّسَاءِ فِي نَصِّ الْقُرْآنِ ثُمَّ بَايَعَ الرِّجَالَ بِمَا جَاءَ فِيهَا، وَلَمَّا جُمِعَ الْقُرْآنُ فِي مُصْحَفٍ وَاحِدٍ جَمْعًا رَسْمِيًّا وُضِعَ عِنْدَ امْرَأَةٍ هِيَ حَفْصَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَظَلَّ عِنْدَهَا مِنْ عَهْدِ الْخَلِيفَةِ الْأَوَّلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ إِلَى عَهْدِ الْخَلِيفَةِ الثَّالِثِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - فَأُخِذَ مِنْ عِنْدِهَا وَاعْتَمَدُوا عَلَيْهِ فِي نُسَخِ الْمَصَاحِفِ الرَّسْمِيَّةِ الَّتِي كُتِبَتْ وَأُرْسِلَتْ إِلَى الْأَمْصَارِ لِأَجْلِ النَّسْخِ عَنْهَا وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا.
(٣) كَانَ بَعْضُ الْبَشَرِ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَ لَهَا رُوحٌ خَالِدَةٌ فَتَكُونَ مَعَ الرِّجَالِ الْمُؤْمِنِينَ فِي جَنَّةِ النَّعِيمِ فِي الْآخِرَةِ - وَهَذَا الزَّعْمُ أَصْلٌ لِعَدَمِ تَدَيُّنِهَا -
فَنَزَلَ الْقُرْآنُ يَقُولُ: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مَنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) (٤: ١٢٣ و١٢٤) وَيَقُولُ: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) (٣: ١٩٥) الْآيَةَ. وَفِيهَا الْوَعْدُ الصَّرِيحُ بِدُخُولِ الْفَرِيقَيْنِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.
(٤) كَانَ بَعْضُ الْبَشَرِ يَحْتَقِرُونَ الْمَرْأَةَ فَلَا يَعُدُّونَهَا أَهْلًا لِلِاشْتِرَاكِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْمَعَابِدِ الدِّينِيَّةِ وَالْمَحَافِلِ الْأَدَبِيَّةِ، وَلَا فِي غَيْرِهِمَا مِنَ الْأُمُورِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالْإِرْشَادَاتِ الْإِصْلَاحِيَّةِ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ يُصَارِحُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (٩: ٧١) الْآيَةَ. ثُمَّ قَالَ: (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩: ٧٢) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُمَا فِي ص ٤٦٦ وَمَا بَعْدَهَا ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ.
233
(٥) كَانَ بَعْضُ الْبَشَرِ يَحْرِمُونَ النِّسَاءَ مِنْ حَقِّ الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ مِنَ التَّمَلُّكِ، وَبَعْضُهُمْ يُضَيِّقُ عَلَيْهِنَّ حَقَّ التَّصَرُّفِ فِيمَا يَمْلِكْنَ، فَأَبْطَلَ الْإِسْلَامُ هَذَا الظُّلْمَ وَأَثْبَتَ لَهُنَّ حَقَّ التَّمَلُّكِ وَالتَّصَرُّفِ بِأَنْفُسِهِنَّ فِي دَائِرَةِ الشَّرْعِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا) (٤: ٧) وَقَالَ: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) (٤: ٣٢).
وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ دَوْلَةَ الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ الْأَمِيرِيكِيَّةِ لَمْ تَمْنَحِ النِّسَاءَ حَقَّ التَّمَلُّكِ وَالتَّصَرُّفِ إِلَّا مِنْ عَهْدٍ قَرِيبٍ فِي عَصْرِنَا هَذَا، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ الْفَرَنْسِيَّةَ لَا تَزَالُ مُقَيَّدَةً بِإِرَادَةِ زَوْجِهَا فِي التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالْعُقُودِ الْقَضَائِيَّةِ، وَقَدْ مُنِحَتِ الْمَرْأَةُ الْمُسْلِمَةُ هَذِهِ الْحُقُوقَ مُنْذُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ قَرْنًا وَنِصْفَ قَرْنٍ.
(٦) كَانَ الزَّوَاجُ فِي قَبَائِلِ الْبَدْوِ وَشُعُوبِ الْحَضَارَةِ ضَرْبًا مِنِ اسْتِرْقَاقِ الرِّجَالِ لِلنِّسَاءِ، فَجَعَلَهُ الْإِسْلَامُ عَقْدًا دِينِيًّا مَدَنِيًّا؛ لِقَضَاءِ حَقِّ الْفِطْرَةِ بِسُكُونِ النَّفْسِ مِنِ اضْطِرَابِهَا الْجِنْسِيِّ بِالْحُبِّ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَتَوْسِيعِ دَائِرَةِ الْمَوَدَّةِ وَالْأُلْفَةِ بَيْنَ الْعَشِيرَتَيْنِ، وَاكْتِمَالِ عَاطِفَةِ الرَّحْمَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَانْتِشَارِهَا مِنَ الْوَالِدَيْنِ إِلَى الْأَوْلَادِ، عَلَى مَا أَرْشَدَ
إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٣٠: ٢١).
(٧) الْقُرْآنُ سَاوَى بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ بِاقْتِسَامِ الْوَاجِبَاتِ وَالْحُقُوقِ بِالْمَعْرُوفِ، مَعَ جَعْلِ حَقِّ رِيَاسَةِ الشَّرِكَةِ الزَّوْجِيَّةِ لِلرَّجُلِ لِأَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى النَّفَقَةِ وَالْحِمَايَةِ بِقَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الزَّوْجَاتِ: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (٢: ٢٢٨) وَقَدْ بَيَّنَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) (٤: ٣٤) فَجَعَلَ مِنْ وَاجِبَاتِ هَذِهِ الْقِيَامَةِ عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ وَالْأَوْلَادِ لَا تُكَلَّفُ مِنْهُ شَيْئًا وَلَوْ كَانَتْ أَغْنَى مِنْهُ، وَزَادَهَا الْمَهْرَ فَالْمُسْلِمُ يَدْفَعُ لِامْرَأَتِهِ مَهْرًا عَاجِلًا مَفْرُوضًا عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ لَزِمَهُ فِيهِ مَهْرُ مِثْلِهَا فِي الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَلَهُمَا أَنْ يُؤَجِّلَا بَعْضَهُ بِالتَّرَاضِي، عَلَى حِينِ نَرَى بَقِيَّةَ الْأُمَمِ حَتَّى الْيَوْمِ تُكَلِّفُ الْمَرْأَةَ دَفْعَ الْمَهْرَ لِلرَّجُلِ.
وَكَانَ أَوْلِيَاءُ الْمَرْأَةِ يُجْبِرُونَهَا عَلَى التَّزَوُّجِ بِمَنْ تَكْرَهُ، أَوْ يَعْضُلُونَهَا بِالْمَنْعِ مِنْهُ مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَ زَوْجَهَا وَطَلَّقَهَا فَحَرَّمَ الْإِسْلَامُ ذَلِكَ، وَالنُّصُوصُ فِي هَذَا مَعْرُوفَةٌ فِي كَلَامِ اللهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ وَسُنَّتِهِ وَتَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنَ التَّفْسِيرِ.
(٨) كَانَ الرِّجَالُ مِنَ الْعَرَبِ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ يَتَّخِذُونَ مِنَ الْأَزْوَاجِ مَا شَاءُوا غَيْرَ مُقَيَّدِينَ بِعَدَدٍ، وَلَا مُشْتَرَطٍ عَلَيْهِمْ فِيهِ الْعَدْلُ، فَقَيَّدَهُمُ الْإِسْلَامُ بِأَلَّا يَزِيدُوا
234
عَلَى أَرْبَعٍ، وَأَنَّ مَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَلَّا يَعْدِلَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاقْتِصَارُ عَلَى وَاحِدَةٍ، وَإِنَّمَا أَبَاحَ الزِّيَادَةَ لِمُحْتَاجِهَا الْقَادِرِ عَلَى النَّفَقَةِ وَالْإِحْصَانِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ ضَرُورَةً مِنْ ضَرُورَاتِ الِاجْتِمَاعِ وَلَا سِيَّمَا حَيْثُ يَقِلُّ الرِّجَالُ وَيَكْثُرُ النِّسَاءُ.
وَقَدْ فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ التَّعَدُّدِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ، ثُمَّ زِدْنَا عَلَيْهِ فِي كِتَابِ (حُقُوقِ النِّسَاءِ فِي الْإِسْلَامِ) مَا هُوَ مُقْنِعٌ لِكُلِّ عَاقِلٍ مُنْصِفٍ بِأَنَّ مَا شَرَعَهُ الْإِسْلَامُ فِي التَّعَدُّدِ هُوَ عَيْنُ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَمَصْلَحَةِ الْبَشَرِ.
(٩) الطَّلَاقُ قَدْ يَكُونُ ضَرُورَةً مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ، إِذَا تَعَذَّرَ عَلَى الزَّوْجَيْنِ الْقِيَامُ بِحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ مِنْ إِقَامَةِ حُدُودِ اللهِ وَحُقُوقِ الْإِحْصَانِ وَالنَّفَقَةِ
وَالْمُعَاشَرَةِ بِالْمَعْرُوفِ، وَكَانَ مَشْرُوعًا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْوَثَنِيِّينَ مِنَ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ يَقَعُ عَلَى النِّسَاءِ مِنْهُ وَفِيهِ ظُلْمٌ كَثِيرٌ وَغَبْنٌ يَشُقُّ احْتِمَالُهُ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ فِيهِ بِالْإِصْلَاحِ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ شَرْعٌ وَلَمْ يَلْحَقْهُ بِمِثْلِهِ قَانُونٌ، وَكَانَ الْإِفْرِنْجُ يُحَرِّمُونَهُ وَيَعِيبُونَ الْإِسْلَامَ بِهِ، ثُمَّ اضْطُرُّوا إِلَى إِبَاحَتِهِ، فَأَسْرَفُوا فِيهِ إِسْرَافًا مُنْذِرًا بِفَوْضَى الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ وَانْحِلَالِ رَوَابِطِ الْأُسْرَةِ وَالْعَشِيرَةِ.
جَعَلَ الْإِسْلَامُ عُقْدَةَ النِّكَاحِ بِيَدِ الرِّجَالِ، وَيَتْبَعُهُ حَقُّ الطَّلَاقِ لِأَنَّهُمْ أَحْرَصُ عَلَى بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ بِمَا تُكَلِّفُهُمْ مِنَ النَّفَقَاتِ فِي عَقْدِهَا وَحَلِّهَا، وَكَوْنِهِمْ أَثْبَتَ مِنَ النِّسَاءِ جَأْشًا وَأَشَدَّ صَبْرًا عَلَى مَا يَكْرَهُونَ، وَقَدْ أَوْصَاهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَى هَذَا بِمَا يَزِيدُهُمْ قُوَّةً عَلَى ضَبْطِ النَّفْسِ وَحَبْسِهَا عَلَى مَا يَكْرَهُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ فَقَالَ: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) (٤: ١٩) عَلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ تُعْطِي الْمَرْأَةَ حَقَّ اشْتِرَاطِ جَعْلِ عِصْمَتِهَا بِيَدِهَا لِتُطَلِّقُ نَفْسَهَا إِذَا شَاءَتْ، وَأَعْطَتْهَا حَقَّ طَلَبِ فَسْخِ عَقْدِ الزَّوَاجِ مِنَ الْقَاضِي إِذَا وَجَدَ سَبَبَهُ مِنَ الْعُيُوبِ الْخِلْقِيَّةِ أَوِ الْمَرَضِيَّةِ كَالرَّجُلِ، وَكَذَا إِذَا عَجَزَ الزَّوْجُ عَنِ النَّفَقَةِ. وَجَعَلَتْ لِلْمُطَلَّقَةِ عَلَيْهِ حَقَّ النَّفَقَةِ مُدَّةَ الْعِدَّةِ الَّتِي لَا يَحِلُّ لَهَا فِيهَا الزَّوَاجُ، وَذَمَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الطَّلَاقَ بِأَنَّ اللهَ يَبْغَضُهُ لِلتَّنْفِيرِ عَنْهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْمُنَزَّلَةِ فِيهَا، وَفِي كِتَابِنَا الْجَدِيدِ فِي حُقُوقِ النِّسَاءِ فِي الْإِسْلَامِ.
(١٠) بَالَغَ الْإِسْلَامُ فِي الْوَصِيَّةِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ فَقَرَنَهُ بِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى، وَأَكَّدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ حَقَّ الْأُمِّ فَجَعَلَ بِرَّهَا مُقَدَّمًا عَلَى بَرِّ الْأَبِ، ثُمَّ بَالَغَ فِي الْوَصِيَّةِ بِتَرْبِيَةِ الْبَنَاتِ وَكَفَالَةِ الْأَخَوَاتِ، بِأَخَصِّ مِمَّا وَصَّى بِهِ مِنْ صِلَةِ الْأَرْحَامِ، بَلْ جَعْلَ لِكُلِّ امْرَأَةٍ قَيِّمًا شَرْعِيًّا يَتَوَلَّى كِفَايَتَهَا وَالْعِنَايَةَ بِهَا وَمَنْ لَيْسَ لَهَا وَلِيٌّ مِنْ أَقَارِبِهَا وَجَبَ عَلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَوَلَّوْا أَمْرَهَا.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّهُ مَا وُجِدَ دِينٌ وَلَا شَرْعٌ وَلَا قَانُونٌ فِي أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ أَعْطَى النِّسَاءَ مَا أَعْطَاهُنَّ
235
الْإِسْلَامُ مِنَ الْحُقُوقِ وَالْعِنَايَةِ وَالْكَرَامَةِ، أَفَلَيَسَ هَذَا كُلُّهُ مِنْ دَلَائِلِ كَوْنِهِ مِنْ وَحْيِ اللهِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ الرَّحِيمِ لِمُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الْمَبْعُوثِ فِي الْأُمِّيِّينَ؟ بَلَى وَأَنَا عَنْ ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ الْمُبَرْهِنِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
الْمَقْصَدُ الْعَاشِرُ مِنْ فِقْهِ الْقُرْآنِ تَحْرِيرُ الرَّقَبَةِ
إِنَّ اسْتِرْقَاقَ الْأَقْوِيَاءِ لِلضُّعَفَاءِ قَدِيمٌ فِي شُعُوبِ الْبَشَرِ، بَلْ هُوَ مَعْهُودٌ فِي الْحَشَرَاتِ الَّتِي تَعِيشُ عِيشَةَ الِاجْتِمَاعِ وَالتَّعَاوُنِ أَيْضًا كَالنَّمْلِ، فَإِذَا حَارَبَتْ قَرْيَةٌ مِنْهُ أُخْرَى فَظَفِرَتْ بِهَا وَانْتَصَرَتْ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا تَأْسِرُ مَا سَلِمَ مِنَ الْقِتَالِ وَتَسْتَعْبِدُهُ فِي خِدْمَةِ الظَّافِرِ مِنَ الْبِنَاءِ وَجَمْعِ الْمَئُونَةِ وَخَزْنِهَا فِي مَخَازِنِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ.
كَانَتْ شُعُوبُ الْحَضَارَةِ الْقَدِيمَةِ مِنَ الْمِصْرِيِّينَ وَالْبَابِلِيِّينَ وَالْفُرْسِ وَالْهُنُودِ وَالْيُونَانِ وَالرُّومِ وَالْعَرَبِ وَغَيْرِهَا تَتَّخِذُ الرَّقِيقَ وَتَسْتَخْدِمُهُ فِي أَشَقِّ الْأَعْمَالِ، وَتُعَامِلُهُ بِمُنْتَهَى الْقَسْوَةِ وَالظُّلْمِ، وَقَدْ أَقَرَّتْهُ الدِّيَانَتَانِ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ، وَظَلَّ الرَّقِيقُ مَشْرُوعًا عِنْدَ الْإِفْرِنْجِ إِلَى أَنْ حَرَّرَتِ الْوِلَايَاتُ الْأَمِيرِيكِيَّةُ الْمُتَّحِدَةُ رَقِيقَهَا فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الثَّامِنَ عَشَرَ الْمِيلَادِيِّ، وَتَلَتْهَا إِنْكِلْتِرَهْ بِاتِّخَاذِ الْوَسَائِلِ لِمَنْعِهِ مِنَ الْعَالَمِ كُلِّهِ فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ، وَلَمْ يَكُنْ عَمَلُ كُلٍّ مِنْهُمَا خَالِصًا لِمَصْلَحَةِ الْبَشَرِ وَجُنُوحًا لِلْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمْ، فَإِنَّ الْأُولَى لَا تَزَالُ تُفَضِّلُ الْجِنْسَ الْأَبْيَضَ الْأُورُبِّيَّ الْمُتَغَلِّبَ عَلَى الْجِنْسِ الْأَحْمَرِ الْوَطَنِيِّ الْأَصْلِيِّ بِمَا يَقْرُبُ مِنَ الِاسْتِعْبَادِ السِّيَاسِيِّ الْمُبَاحِ عِنْدَ جَمِيعِ الْإِفْرِنْجِ لِلشُّعُوبِ، كَمَا أَنَّ إِنْكَلْتِرَهْ تَحْتَقِرُ الْهُنُودَ وَتَسْتَذِلُّهُمْ وَلَكِنَّ النَّهْضَةَ الْهِنْدِيَّةَ فِي هَذَا الْعَهْدِ قَدْ خَفَّضَتْ مِنْ غُلَوَائِهِمْ، وَطَامَنَتْ مِنْ إِشْنَاقِ كِبْرِيَائِهِمْ.
فَلَمَّا ظَهَرَ الْإِسْلَامُ، وَأَشْرَقَ نُورُهُ الْمَاحِي لِكُلِّ ظَلَامٍ، كَانَ مِمَّا أَصْلَحَهُ مِنْ فَسَادِ الْأُمَمِ إِبْطَالُ ظُلْمِ الرَّقِيقِ وَإِرْهَاقُهُ، وَوَضْعُ الْأَحْكَامِ لِإِبْطَالِ الرِّقِّ بِالتَّدْرِيجِ السَّرِيعِ، إِذْ كَانَ إِبْطَالُهُ دُفْعَةً وَاحِدَةً مُتَعَذِّرًا فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ مِنَ النَّاحِيَتَيْنِ: نَاحِيَةِ مَصَالِحِ السَّادَةِ الْمُسْتَرِقِّينَ، وَنَاحِيَةِ مَعِيشَةِ الْأَرِقَّاءِ الْمُسْتَعْبَدِينَ.
فَإِنَّ الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةَ لَمَّا حَرَّرَتْ رَقِيقَهَا كَانَ بَعْضُهُمْ يَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ يَلْتَمِسُ وَسِيلَةً لِلرِّزْقِ فَلَا يَجِدُهَا، فَيَحُورُ إِلَى سَادَتِهِ يَرْجُو مِنْهُمُ الْعَوْدَ إِلَى خِدْمَتِهِمْ كَمَا كَانَ.
وَكَذَلِكَ جَرَى فِي السُّودَانِ الْمِصْرِيِّ، فَقَدْ جَرَّبَ الْحُكَّامُ مِنَ الْإِنْكِلِيزِ أَنْ يَجِدُوا لَهُمْ رِزْقًا بِعَمَلٍ يَعْمَلُونَهُ مُسْتَقِلِّينَ فِيهِ مُكْتَفِينَ بِهِ فَلَمْ يُمْكِنْ، فَاضْطُرُّوا إِلَى الْإِذْنِ لَهُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى خِدْمَةِ الرِّقِّ السَّابِقَةِ، بِيَدَ أَنَّهَا لَا تَسْمَحُ لِلْمَخْدُومِينَ بِبَيْعِهِمْ وَالِاتِّجَارِ بِهِمْ.
236
هِدَايَةُ الْإِسْلَامِ فِي تَحْرِيرِ الرَّقِيقِ وَأَحْكَامِهِ
قَدْ شَرَعَ اللهُ تَعَالَى لِإِبْطَالِ الرِّقِّ طَرِيقَتَيْنِ: عَدَمُ تَجْدِيدِ الِاسْتِرْقَاقِ فِي الْمُسْتَقَبْلِ، وَتَحْرِيرُ الرَّقِيقِ الْقَدِيمِ بِالتَّدْرِيجِ الَّذِي لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِيهِ.
(الطَّرِيقَةُ الْأُولَى) مَنَعَ الْإِسْلَامُ جَمِيعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنِ اسْتِرْقَاقِ الْأَقْوِيَاءِ لِلضُّعَفَاءِ إِلَّا اسْتِرْقَاقَ الْأَسْرَى وَالسَّبَايَا فِي الْحَرْبِ، الَّتِي اشْتَرَطَ فِيهَا مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ دَفْعِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْرِيرِ الْمَصَالِحِ وَمَنْعِ الِاعْتِدَاءِ وَمُرَاعَاةِ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ وَهِيَ شُرُوطٌ لَمْ تَكُنْ قَبْلَهُ مَشْرُوعَةً عِنْدَ الْمِلِّيِّينَ، وَلَا عِنْدَ أَهْلِ الْحَضَارَةِ فَضْلًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا شَرْعَ لَهُمْ وَلَا قَانُونَ، وَلَسْتُ أَعْنِي بِالِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى شَرَعَ لَنَا مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الِاسْتِرْقَاقِ كُلَّ مَا كَانَتِ الْأُمَمُ تَفْعَلُهُ مُعَامَلَةً لَهُمْ بِالْمِثْلِ، بَلْ شَرَعَ لِأُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُرَاعَاةَ الْمَصْلَحَةِ لِلْبَشَرِ فِي إِمْضَائِهِ أَوْ إِبْطَالِهِ بِأَنْ خَيَّرَهُمْ فِي أَسْرَى الْحَرْبِ الشَّرْعِيَّةِ بَيْنَ الْمَنِّ عَلَيْهِمْ بِالْحُرِيَّةِ، وَالْفِدَاءِ بِهِمْ، وَهُوَ نَوْعَانِ: فِدَاءُ الْمَالِ، وَفِدَاءُ الْأَنْفُسِ، إِذَا كَانَ لَنَا أُسَارَى أَوْ سَبْيٌ عِنْدَ قَوْمِهِمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ فِي قَوَاعِدِ الْحَرْبِ: (فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مِنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) (٤٧: ٤) وَلَمَّا كُنَّا مُخَيَّرِينَ فِيهِمْ بَيْنَ إِطْلَاقِهِمْ بِغَيْرِ مُقَابِلٍ وَالْفِدَاءِ بِهِمْ، جَازَ أَنْ يُعَدَّ هَذَا أَصْلًا شَرْعِيًّا لِإِبْطَالِ اسْتِئْنَافِ الِاسْتِرْقَاقِ فِي الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّ ظَاهِرَ التَّخْيِيرِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَنَّ الْأَمْرَ الثَّالِثَ الَّذِي هُوَ الِاسْتِرْقَاقُ غَيْرُ جَائِزٍ، لَوْ لَمْ يُعَارِضْهُ أَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ الْمُتَّبَعُ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ، فَمِنْ أَكْبَرِ الْمَفَاسِدِ وَالضَّرَرِ أَنْ يَسْتَرِقُّوا أَسْرَانَا وَنُطْلِقَ أَسْرَاهُمْ وَنَحْنُ أَرْحَمُ بِهِمْ وَأَعْدَلُ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي. وَلَكِنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ نَصًّا فِي الْحَصْرِ، وَلَا صَرِيحَةً فِي النَّهْيِ عَنِ الْأَصْلِ، فَكَانَتْ دَلَالَتُهَا عَلَى تَحْرِيمِ الِاسْتِرْقَاقِ مُطْلَقًا غَيْرَ قَطْعِيَّةٍ، فَبَقِيَ حُكْمُهُ مَحَلَّ اجْتِهَادِ أُولِي الْأَمْرِ، إِذَا وَجَدُوا الْمَصْلَحَةَ فِي إِبْقَائِهِ أَبْقَوْهُ، وَإِذَا وَجَدُوا الْمَصْلَحَةَ فِي تَرْجِيحِ الْمَنِّ عَلَيْهِمْ بِالْحُرِّيَّةِ - وَهُوَ إِبْطَالٌ اخْتِيَارِيٌّ لَهُ - أَوِ الْفِدَاءُ بِهِمْ عَمِلُوا بِهِ.
(الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ مَا شَرَعَهُ لِتَحْرِيرِ الرَّقِيقِ الْمَوْجُودِ وُجُوبًا وَنَدْبًا وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ).
(النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنْ أَحْكَامِ الرِّقِّ وَوَسَائِلِ تَحْرِيرِهِ اللَّازِبَةِ وَفِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ).
(١) إِنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِنْسَانِ هُوَ الْحُرِّيَّةُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ. (٢) تَحْرِيمُ الِاسْتِرْقَاقِ وَبُطْلَانُهُ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ بِشَرْطِهِ. (٣) الْكِتَابَةُ: وَهِيَ شِرَاءُ الْمَمْلُوكِ نَفْسَهُ مِنْ سَيِّدِهِ بِمَالٍ يَكْسِبُهُ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ بِهَا لِمَنْ يَبْتَغِيهَا، وَأَمَرَ بِمُسَاعَدَتِهِ عَلَيْهِ بِالْمَالِ مِنَ الْمَالِكِ نَفْسِهِ. (٤) إِذَا خَرَجَ الْأَرِقَّاءُ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ يَصِيرُونَ أَحْرَارًا. (٥) مَنْ أَعْتَقَ بَعْضَ عَبْدِهِ عُتِقَ كُلُّهُ عَلَيْهِ
237
وَإِنْ كَانَ الْبَعْضُ الْآخَرُ لِغَيْرِهِ فَلَهُ أَحْكَامٌ. (٦) مَنْ عَذَّبَ مَمْلُوكَهُ أَوْ مَثَّلَ بِهِ كَأَنْ خَصَاهُ أَوْ جَبَّهُ عُتِقَ عَلَيْهِ وَزَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ. (٧) مَنْ آذَى مَمْلُوكَهُ بِمَا دُونَ التَّمْثِيلِ وَالْعَذَابِ الشَّدِيدِ، فَكَفَّارَةُ ذَنْبِهِ أَنْ يَعْتِقَهُ. (٨) التَّدْبِيرُ عِتْقٌ لَازِمٌ، وَهُوَ أَنْ يُعْتَقَ مَمْلُوكُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ مُدَّةَ حَيَّاتِهِ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ لِأَنَّهُ صَارَ حُرًّا بَعْدَ مَوْتِهِ. (٩) إِذَا وَلَدَتِ الْجَارِيَةُ لِسَيِّدِهَا وَلَدًا مِنْهُ حَرُمَ عَلَيْهِ بَيْعُهَا وَهِبَتُهَا لِغَيْرِهِ، وَتَصِيرُ حُرَّةً بِمَوْتِهِ لَا تُورَثُ عَنْهُ. (١٠) مَنْ مَلَكَ أَحَدَ أَقَارِبِهِ عُتِقَ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى هَذِهِ الْأَحْكَامِ فِي كِتَابِ (الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ) الَّذِي بَسَطْنَا بِهِ هَذَا الْبَحْثَ مِنَ التَّفْسِيرِ.
(النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ وَسَائِلِ تَحْرِيرِ الرَّقِيقِ الْمَوْجُودِ الْكَفَّارَاتُ)
وَالْمُرَادُ بِهَا الْقُرُبَاتُ الَّتِي تَمْحُو الذُّنُوبَ، وَأَعْظَمُهَا عِتْقُ الرِّقَابِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: (أَحَدُهَا) وَاجِبٌ حَتْمٌ عَلَى الْقَادِرِ عَلَى الْعِتْقِ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ أَوْ ثَمَنِهَا، كَكَفَّارَةِ قَتْلِ النَّفْسِ خَطَأً، وَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَهُوَ تَشْبِيهُ الرَّجُلِ زَوْجَهُ بِأُمِّهِ وَكَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَفَّارَةِ إِفْسَادِ الصِّيَامِ عَمْدًا بِشَرْطِهِ وَقَيْدِهِ الْمَعْرُوفَيْنِ فِي الْفِقْهِ.
(ثَانِيهَا) وَاجِبٌ مُخَيَّرٌ فِيهِ وَهُوَ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، فَمَنْ حَلَفَ يَمِينًا وَحَنَثَ فِيهَا فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى، وَحِكْمَةُ التَّخْيِيرِ ظَاهِرَةٌ.
(ثَالِثُهَا) مَنْدُوبٌ وَهُوَ الْعِتْقُ لِتَكْفِيرِ الذُّنُوبِ غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ مُكَفِّرَاتِهَا.
(النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ وَسَائِلِ إِلْغَاءِ الرِّقِّ الْمَوْجُودِ)
جَعْلُ سَهْمٍ مِنْ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَفْرُوضَةِ (فِي الرِّقَابِ) بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَهُوَ يَشْمَلُ الْعِتْقَ وَالْإِعَانَةَ عَلَى شِرَاءِ الْمَمْلُوكِ نَفْسِهِ (الْكِتَابَةُ) وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ زَكَاةَ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ قَدْ تَبْلُغُ مِئَاتِ الْأُلُوفِ وَأُلُوفَ الْأُلُوفِ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَلَوْ نُفِّذَتْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ فِيهَا وَحْدَهَا لَأَمْكَنَ تَحْرِيرُ جَمِيعِ الرَّقِيقِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ.
(النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْهَا الْعِتْقُ الِاخْتِيَارِيُّ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى أَيِ ابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ).
قَدْ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ مِنَ التَّرْغِيبِ فِي الْعِتْقِ مَا يَدْخُلُ تَدْوِينُهُ فِي سِفْرٍ كَبِيرٍ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ وَأُصُولِ الْبَرِّ آيَةٌ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (٢: ١٧٧).
وَمِنْ أَشْهَرِ أَحَادِيثِ التَّرْغِيبِ فِي الْعِتْقِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا اسْتَنْقَذَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ
238
((عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ مِنَ النَّارِ حَتَّى فَرْجُهُ بِفَرْجِهِ)) وَحَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ((إِيمَانٌ بِاللهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ)) قُلْتُ: فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ((أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا)) الْحَدِيثَ.
وَمِنْهَا حَدِيثُ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ الَّذِي رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ إِلَّا مَالِكًا ((أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ أَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، وَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ)) وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمَّا رَوَى قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لِلْمَمْلُوكِ الصَّالِحِ أَجْرَانِ)) قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْلَا الْجِهَادُ وَالْحَجُّ وَبِرُّ أُمِّي لَأَحْبَبْتُ أَنْ أَمُوتَ وَأَنَا مَمْلُوكٌ.
(الْوَصِيَّةُ بِالْمَمَالِيكِ)
أَضِفْ إِلَى هَذَا وَصَايَا اللهِ وَرَسُولِهِ بِالْمَمَالِيكِ، وَمِنْهَا تَخْفِيفُ الْوَاجِبَاتِ عَلَيْهِمْ، وَجَعْلُ حَدِّ الْمَمْلُوكِ فِي الْعُقُوبَاتِ نِصْفَ حَدِّ الْحُرِّ، وَقَدْ قَرَنَ اللهُ الْوَصِيَّةَ بِهِمْ بِالْوَصِيَّةِ بِالْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَوْلِ السَّيِّدِ: ((عَبْدِي وَأَمَتِي)) وَأَمَرَهُ أَنْ
يَقُولَ: ((فَتَايَ وَفَتَاتِي وَغُلَامِي)) وَأَمَرَ بِأَنْ يُطْعِمُوهُمْ مِمَّا يَأْكُلُونَ وَيُلْبِسُوهُمْ مِمَّا يَلْبَسُونَ وَيُعِينُوهُمْ عَلَى خِدْمَتِهِمْ إِنْ كَلَّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَكَانَ يُوصِي بِالنِّسَاءِ وَمَا مَلَكَتِ الْأَيْمَانُ حَتَّى فِي مَرَضِ مَوْتِهِ إِلَى أَنِ الْتَحَقَ بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَسَأَلَهُ ابْنُ عُمَرَ كَمْ أَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ؟ قَالَ: ((اعْفُ عَنْهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً)) وَهَذَا مُبَالَغَةٌ، أَيْ كُلَّمَا أَذْنَبَ.
وَلِهَذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ يُبَالِغُونَ فِي تَكْرِيمِ الرَّقِيقِ وَمُعَامَلَتِهِمْ بِالْحِلْمِ حَتَّى صَارُوا يُقَصِّرُونَ فِي الْخِدْمَةِ. وَلَعَمْرُ الْحَقِّ إِنَّ الْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ فِي حُكْمِ الْإِسْلَامِ الْأَوَّلِ أَعَزُّ نَفْسًا وَأَطْيَبُ عَيْشًا مِنْ جَمِيعِ الْأَحْرَارِ الَّذِينَ ابْتُلُوا فِي هَذِهِ الْعُصُورِ بِحُكْمِ دُوَلِ الْإِفْرِنْجِ مَنْ غَيْرِهِمْ أَوْ نُفُوذِهِمْ، وَإِنَّ حُكُومَةَ الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ لَتُعَامِلُ الْجِنْسَ الْأَحْمَرَ مِنْ سُكَّانِ الْبِلَادِ الْأَصْلِيِّينَ الَّذِينَ تَمُنُّ عَلَيْهِمْ بِالْحُرِّيَّةِ بِغَيْرِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تُعَامِلُ بِهَا الْجِنْسَ الْأَبْيَضَ، حَتَّى إِنَّ مَنِ اعْتَدَى مِنْهُمْ عَلَى امْرَأَةٍ بَيْضَاءَ يُقْتَلُ شَرَّ قِتْلَةٍ - إِنْ لَمْ تَقْتُلْهُ الْحُكُومَةُ قَتَلَهُ الشَّعْبُ - بِخِلَافِ الْعَكْسِ، وَلَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَقَامُ لِتَفْصِيلِ ذَلِكَ وَالشَّوَاهِدِ عَلَيْهِ.
خُلَاصَةُ الْبَحْثِ
رَاجِعْ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى الْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةِ وَآيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ النَّصَارَى، وَمِنَ الْكَلَامِ فِي تَنْفِيذِ شُبْهَةِ الْوَحْيِ النَّفْسِيِّ، وَالْكَلَامِ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ اللُّغَوِيِّ وَالْعِلْمِيِّ، وَمَا أَحْدَثَهُ مِنَ الِانْقِلَابِ الْبَشَرِيِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، ثُمَّ أَضِفْ إِلَيْهَا هَذِهِ الْعَشْرَةَ الْأَنْوَاعَ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ، فِي إِصْلَاحِ الْبَشَرِ وَتَكْمِيلِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ، مِنْ جَمِيعِ نَوَاحِي التَّشْرِيعِ الرُّوحِيِّ وَالْأَدَبِيِّ وَالِاجْتِمَاعِيِّ
239
وَالْمَالِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ، وَهِي الَّتِي اشْتَدَّتْ حَاجَةُ الشُّعُوبِ وَالدُّوَلِ فِي هَذَا الْعَصْرِ إِلَيْهَا، مُوَضَّحَةً بِأُصُولٍ وَقَوَاعِدَ هِيَ أَصَحُّ وَأَكْمَلُ وَأَكْفَلُ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ الْقَدِيمَةِ وَالطَّارِئَةِ، مِنْ كُلِّ مَا سَبَقَهَا مِنْ تَعَالِيمِ الْأَنْبِيَاءِ، وَفَلْسَفَةِ الْحُكَمَاءِ، وَقَوَانِينِ الْمُلُوكِ وَالْحُكَّامِ، عَلَى اخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ، مَعَ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ مِنْ تَارِيخِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ أُمِّيًّا يُؤْثِرُ بِطَبْعِهِ عِيشَةَ الْعُزْلَةِ، فَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ الِاطِّلَاعُ عَلَى كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا غَيْرِهَا مِنَ الْكُتُبِ وَالْقَوَانِينِ،
وَأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَبْحَثُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعُلُومِ، وَلَا أَنَّهُ نَطَقَ بِشَيْءٍ مِنْ مَسَائِلِهَا، وَالْعِلْمِ بِأَنَّهُ إِنَّمَا جَاءَ بِهَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ سِنِّ الْأَرْبَعِينَ وَهِيَ سِنٌّ لَمْ يُعْرَفْ فِي اسْتِعْدَادِ أَنْفُسِ الْبَشَرِ وَمُدْرَكَاتِ عُقُولِهِمْ، وَلَا فِي تَارِيخِهِمْ أَنَّ صَاحِبَهَا يَأْتَنِفُ مِثْلَهَا ائْتِنَافًا لَمْ يَسْبِقْ لَهُ الْبَدْءُ بِشَيْءٍ مِنْهُ فِي أَنْفِ عُمْرِهِ، وَآنِفَةِ شَبَابِهِ وَشَرْخِهِ، رَاجِعْ هَذَا كُلَّهُ وَتَأَمَّلْهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً تَجِدْ عَقْلَكَ مُضْطَرًّا إِلَى الْجَزْمِ بِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ فَوْقَ اسْتِعْدَادِ بَشَرٍ أُمِّيٍّ أَوْ مُتَعَلِّمٍ، وَأَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى.
فَإِذَا فَرَضْنَا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَسَرَّبَ إِلَى ذِهْنِهِ بَعْضُ مَسَائِلِهَا مِنْ أَفْوَاهِ عُقَلَاءِ قَوْمِهِ، أَوْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَقِيَ فِي أَسْفَارِهِ الْقَلِيلَةِ، أَوْ أَنَّهُ فَكَّرَ فِي حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَى مِثْلِهَا مِمَّا أَدْرَكَهُ بِذَكَائِهِ الْفِطْرِيِّ مِنْ سُوءِ حَالِهِمْ. فَهَلْ يُعْقَلُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْفَلَتَاتُ الشَّارِدَةُ، وَهَذِهِ الْخَطَرَاتُ الْوَارِدَةُ، تَبْلُغُ هَذَا الْحَدَّ مِنَ التَّحْقِيقِ وَالْوَفَاءِ بِحَاجَةِ الْأُمَمِ كُلِّهَا، وَأَنْ تَظَلَّ كُلُّهَا مَكْتُومَةً مِنْ سِنِّ الصِّبَا وَعَهْدِ حُبِّ الظُّهُورِ إِلَى أَنْ تَظْهَرَ فِي سِنِّ الْكُهُولَةِ، بِهَذِهِ الرَّوْعَةِ مِنَ الْبَيَانِ، وَسُلْطَانِ الْبَلَاغَةِ عَلَى الْقُلُوبِ، وَقُوَّةِ الْبُرْهَانِ فِي الْعُقُولِ، فَتُحْدِثَ هَذِهِ الثَّوْرَةَ فِي الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمُغَيِّرَةِ لِطِبَاعِهَا، الْمُبَدِّلَةِ لِأَوْضَاعِهَا، بِحَيْثُ تَسُودُ بِهَا شُعُوبُ الْمَدَنِيَّةِ كُلِّهَا وَيَتْلُو ذَلِكَ مَا قَصَّهُ التَّارِيخُ مِنَ الِانْقِلَابِ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ؟ وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنْ يَظْهَرَ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنَّ أُمَمَ الْعِلْمِ وَالْحَضَارَةِ الْعَجِيبَةِ أَشَدُّ حَاجَةً إِلَيْهَا مِمَّنْ قَبْلَهُمْ؟ كَلَّا إِنَّ هَذَا لَمْ يُعْرَفْ مِثْلُهُ فِي الْبَشَرِ.
وَإِذْ قَدْ ثَبَتَ هَذَا؛ فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ بَلَغَهُ مِنَ الْبَشَرِ أَنْ يَتْبَعَهُ وَيَهْتَدِيَ بِهِ لِتَكْمِيلِ إِنْسَانِيَّتِهِ وَإِعْدَادِهَا لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَإِنِ اعْتَرَضَتْهُ شُبْهَةٌ عَلَيْهِ فَلْيَبْحَثْ عَنْهَا أَوْ لِيَنْبِذْهَا، فَمَا كَانَ لِعَاقِلٍ ثَبَتَ عِنْدَهُ نَفْعُ عِلْمِ الطَّلَبِ أَنْ يَتْرُكَ مُرَاعَاتَهُ فِي حِفْظِ صِحَّتِهِ أَوْ مُدَاوَاةِ مَرَضِهِ لِشُبْهَةٍ فِي بَعْضِ مَسَائِلِهِ، أَوْ خَيْبَةِ الْأَطِبَّاءِ فِي بَعْضِ مُعَالَجَاتِهِمْ لِلْمَرْضَى، وَإِنَّ حَاجَةَ الْبَشَرِ إِلَى طِبِّ الْأَرْوَاحِ وَالِاجْتِمَاعِ، لَأَشَدُّ مِنْ حَاجَتِهِمْ إِلَى طِبِّ الْأَبْدَانِ. (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لِهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) (الْأَنْعَامِ ٦: ١٤٩).
((رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبِيًّا وَرَسُولًا))
(وَنَعُودُ إِلَى نَسَقِ التَّفْسِيرِ بِاسْمِ اللهِ وَحَمْدِهِ).
240
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ).
افْتَتَحَ السُّورَةَ بِذِكْرِ آيَاتِ الْكِتَابِ، النَّاطِقِ بِالْحِكْمَةِ وَفَصْلِ الْخِطَابِ وَأَنْكَرَ عَلَى النَّاسِ عَجَبَهُمْ أَنْ يُوحِيَ رَبُّهُمْ إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ بِهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ مِنَ الدِّينِ الَّذِي فِيهِ سَعَادَتُهُمْ، مُنْذِرًا مَنْ كَفَرَ بِالْعِقَابِ، وَمُبَشِّرًا مَنْ آمَنَ بِالثَّوَابِ وَحَكَى عَنِ الْكَافِرِينَ وَصْفَهُمْ لِهَذَا الْكِتَابِ الْحَكِيمِ وَلِلرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ بِالسِّحْرِ؛ إِذْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْبَشَرِ مُشَعْوِذُونَ وَدَجَّالُونَ يَأْتُونَ بَعْضَ الْخَوَارِقِ الَّتِي لَا يَعْرِفُ الْجَمَاهِيرُ أَسْبَابَهَا، فَرَأَوْا أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ الْمُعْجِزَ لِلْبَشَرِ بِأُسْلُوبِهِ وَبَلَاغَتِهِ، وَبِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَبِتَأْثِيرِهِ فِي الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ، يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ أَوْ يُوصَفَ بِأَنَّهُ مِنْ هَذَا السِّحْرِ الْمَعْهُودِ وَجُودُهُ، الْمَجْهُولِ سَبَبُهُ وَأَنَّ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي جَاءَ بِهِ لَمْ يُعْرَفْ عَنْهُ قَبْلَهُ شَيْءٌ مِنْ بَلَاغَةِ الْقَوْلِ، وَلَا مِنْ حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ، وَالْعِلْمُ، يَصِحُّ أَنْ يُعَدَّ مُنْتَحَلًا لِلسِّحْرِ، وَلَكِنَّ السِّحْرَ لَمْ يَكُنْ فِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ حَقَائِقَ عِلْمِيَّةً وَلَا هِدَايَةً نَافِعَةً كَمَا تَقَدَّمَ، وَالسَّحَرَةُ لَمْ يَكُونُوا إِلَّا أُنَاسًا مِنَ الْمُتَكَسِّبِينَ بِإِطْلَاعِ النَّاسِ عَلَى غَرَائِبِهِمُ الْمَجْهُولَةِ لَهُمْ، فَأَيْنَ هَذَا وَذَاكَ مِنَ الْقُرْآنِ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، مِنْ حَقَائِقَ سَاطِعَةٍ، وَهُوَ لَا يَسْأَلُ عَلَيْهَا أَجْرًا وَلَا يَبْتَغِي بِهَا لِنَفْسِهِ نَفْعًا إِذْ هِيَ بَاقِيَةٌ بِنَفْسِهَا وَبِآثَارِهَا النَّافِعَةِ، وَالسِّحْرُ بَاطِلٌ لَا بَقَاءَ لَهُ؟ فَالْمُتَعَيَّنُ عِنْدَ الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ مَا فِيهَا مِنَ الْعُلُوِّ عَلَى كَلَامِ الْبَشَرِ، وَالْإِعْجَازِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ بِالتَّحَدِّي، وَحْيًا مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَنِعْمَةً مِنْهُ عَلَيْهِمْ بِهِدَايَةِ الدِّينِ، الَّذِي هُوَ لِجُمْلَتِهِمْ، كَالْعَقْلِ لِأَفْرَادِهِمْ، وَوَجَبَ عَلَى كُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهَذَا الرَّبِّ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ، الْبَرِّ الرَّحِيمِ، أَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّ هَذَا مِنْ حِكْمَةِ رُبُوبِيَّتِهِ وَرَحْمَتِهِ بِالْعَالِمِينَ، وَإِلَّا كَانَتْ صِفَاتُهُ نَاقِصَةً بِحِرْمَانِ هَذَا الْإِنْسَانِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ الْأَعْلَى مِنَ الْعِرْفَانِ، وَالْبَيِّنَاتِ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ، وَلِذَلِكَ قَفَّى حِكَايَةَ عَجَبِهِمْ وَمَا عَلَّلُوهُ بِهِ، مِنَ التَّذْكِيرِ بِالْحُجَّةِ الَّتِي تَنْقُضُهُ مِنْ أَسَاسِهِ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى تَفْنِيدِهِمْ فِي عَجَبِهِمْ مِنْ وَحْيِ الْقُرْآنِ، وَبَيَانٌ لِلرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي يَقْتَضِي كَمَالُهَا ثُبُوتَهُ وَبُطْلَانَ الشَّرَكِ، وَالْخِطَابُ فِيهَا لِلنَّاسِ الَّذِينَ عَجِبُوا أَنْ يُوحَى إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ مَا فِيهِ هِدَايَتُهُمْ بِأُسْلُوبِ الِالْتِفَاتِ الْمُنَبِّهِ لِلذِّهْنِ، يَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ رَبَّكُمْ هُوَ اللهُ الَّذِي خَلَقَ الْعَوَالِمَ السَّمَاوِيَّةَ الَّتِي
241
فَوْقَكُمْ، وَهَذِهِ الْأَرْضَ الَّتِي يَعِيشُونَ عَلَيْهَا فِي سِتَّةِ أَزْمِنَةٍ ثُمَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا طَوْرٌ مِنْ أَطْوَارِهَا، فَإِنَّ الْيَوْمَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَحُدُّهُ حَدَثٌ يَحْدُثُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ أُلُوفَ السِّنِينَ مِنْ أَيَّامِ هَذِهِ الْأَرْضِ الْفَلَكِيَّةِ الَّتِي وُجِدَتْ بَعْدَ خَلْقِهَا، أَيْ أَوْجَدَهَا كُلَّهَا بِمَقَادِيرَ قَدَّرَهَا فَإِنَّ الْخَلْقَ فِي اللُّغَةِ التَّقْدِيرُ، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ الَّذِي جَعَلَهُ مَرْكَزَ التَّدْبِيرِ، لِهَذَا الْمُلْكِ الْكَبِيرِ، اسْتِوَاءً يَلِيقُ بِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ، وَتَنْزِيهِهِ وَكَمَالِهِ، يُدَبِّرُ أَمْرَ مُلْكِهِ، بِمَا اقْتَضَاهُ عِلْمُهُ مِنَ النِّظَامِ، وَحِكْمَتُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ، فَالِاسْتِوَاءُ عَلَى الْعَرْشِ بَعْدَ خَلْقِهِمَا، وَهُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ مِنْ قَبْلِهِمَا، شَأْنٌ مِنْ شُئُونِهِ فِيمَا لَا نَعْلَمُ كُنْهَهُ وَلَا صِفَتَهُ مِنْ تَدْبِيرِ هَذَا الْمُلْكِ، وَكُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ، لَا يُدْرِكُ كُنْهَ شُئُونِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ.
وَالتَّدْبِيرُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ التَّوْفِيقُ بَيْنَ أَوَائِلِ الْأُمُورِ وَمَبَادِئِهَا، وَأَدْبَارِهَا وَعَوَاقِبِهَا، بِحَيْثُ تَكُونُ الْمَبَادِئُ مُؤَدِّيَةً إِلَى مَا يُرِيدُ مِنْ غَايَاتِهَا، كَمَا أَنَّ تَدَبُّرَ الْأَمْرِ أَوِ الْقَوْلِ هُوَ التَّفَكُّرُ فِي دُبُرِهِ وَهُوَ مَا وَرَاءَهُ وَمَا يُرَادُ مِنْهُ وَيَنْتَهِي إِلَيْهِ. وَوَجْهُ دَلَالَةِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ أَنَّ الرَّبَّ الْخَالِقَ الْمُدَبِّرَ لِجَمِيعِ أُمُورِ الْخَلْقِ، لَا يَسْتَنْكِرُ مِنْ تَرْبِيَتِهِ لِعِبَادِهِ وَتَدْبِيرِهِ لِأُمُورِهِمْ، أَنْ يَفِيضَ مَا شَاءَ مِنْ عِلْمِهِ عَلَى مَنِ اصْطَفَى مِنْ خَلْقِهِ، مَا يَهْدِيهِمْ بِهِ لِمَا فِيهِ كَمَالُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ مِنْ عِبَادَتِهِ وَشُكْرِهِ وَصَلَاحِ أَنْفُسِهِمْ، بَلْ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ الْعَالِمِ بِهَذَا التَّدْبِيرِ وَالتَّقْدِيرِ الَّذِي تَشْهَدُ بِهِ آيَاتُهُ تَعَالَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّ هَذَا الْوَحْيَ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ، إِذْ هُوَ مِنْ كَمَالِ تَقْدِيرِهِ وَتَدْبِيرِهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْأَعْرَافِ الَّتِي بِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ (٧: ٥٤) الِاخْتِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ، وَأَئِمَّةِ السَّلَفِ وَأَتْبَاعِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَثَرِ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ وَأَشْبَاهِهَا مِنْ آيَاتِ عُلُوِّ الْخَالِقِ تَعَالَى فَوْقَ خَلْقِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ هُوَ الْحَقُّ الْجَامِعُ بَيْنَ النَّقْلِ وَالْعَقْلِ.
ثُمَّ قَالَ: (مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ حُجَّةٌ ثَانِيَةٌ عَلَى مُنْكِرِي الْوَحْيِ، فِي ضِمْنِ حَقِيقَةٍ نَاقِضَةٍ لِعَقِيدَةِ الشِّرْكِ، ذَلِكَ أَنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ وَمُقَلِّدَتِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَعْبُودَاتِهِمْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَعِبَادِهِ الْمُقَرَّبِينَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْبَشَرِ يَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى بِمَا يَدْفَعُ عَنْهُمُ الضُّرَّ وَيَجْلِبُ لَهُمُ النَّفْعَ فِي الدُّنْيَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ يُثْبِتُونَ لَهُمُ الشَّفَاعَةَ فِي الْآخِرَةِ بِالْأَوْلَى، وَيُسَمُّونَ الْأَصْنَامَ الَّتِي وُضِعَتْ لِذِكْرَى أُولَئِكَ الْأَوْلِيَاءِ شُفَعَاءَ أَيْضًا بِالتَّبَعِ، وَسَيَأْتِي فِي (الْآيَةِ ١٨) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ حِكَايَةُ مَا يَقُولُونَهُ فِي هَذِهِ الشَّفَاعَةِ. وَيُقَالُ فِي بَيَانِ وَجْهِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فِيهَا: إِنَّكُمْ إِذَا كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِأَنَّ لِلَّهِ شُفَعَاءَ مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَعِبَادِهِ الْمُقَرِّبِينَ يَشْفَعُونَ لَكُمْ عِنْدَهُ بِمَا يُقَرِّبُكُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى وَيَدْفَعُ عَنْكُمُ الضُّرَّ وَيَجْلِبُ لَكُمُ النَّفْعَ - وَهُوَ قَوْلٌ مِنْكُمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى بِغَيْرِ عِلْمٍ - فَمَا لَكُمْ تُنْكِرُونَ وَتَعْجَبُونَ أَنْ يُوحِيَ تَعَالَى إِلَى مَنْ يَشَاءُ، وَيَصْطَفِيَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعِبَادِ مَنْ يُعَلِّمُكُمْ مِنَ الْعِلْمِ مَا يَهْدِيكُمْ إِلَى الْعَمَلِ
242
الْمُوَصِّلِ إِلَى كُلِّ مَا تَطْلُبُونَهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الشُّفَعَاءِ بِاسْتِحْقَاقٍ بِدُونِ عَمَلٍ مِنْكُمْ وَلَا اسْتِحْقَاقٍ لِمَا تَطْلُبُونَ مِنْهُمْ؟.
وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ النَّاقِضَةُ لِعَقِيدَةِ الشِّرْكِ فِي الشَّفَاعَةِ، فَهِيَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ شَفِيعٌ يَشْفَعُ لِأَحَدٍ عِنْدَهُ تَعَالَى إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (٢: ٢٥٥) وَلَيْسَ لِأَحَدٍ حَقٌّ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ تَعَالَى بِمَنْ يَشْفَعُ عِنْدَهُ وَمَنْ يَقَبْلُ شَفَاعَتَهُ إِلَّا بِإِعْلَامٍ مِنْهُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنْهُ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي وَحْيِ هَذَا الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَا يَشْفَعُ أَحَدٌ عِنْدَهُ بِإِذْنِهِ إِلَّا مَنِ ارْتَضَاهُ لِلشَّفَاعَةِ (يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) (٢٠: ١٠٩) وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمَأْذُونَ لَهُمْ بِالشَّفَاعَةِ لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ كَانَ اللهُ تَعَالَى رَاضِيًا عَنْهُ بِإِيمَانِهِ وَعَمَلِهِ الصَّالِحِ كَمَا قَالَ: (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) (٢١: ٢٨) مِصْدَاقًا لِقَوْلِهِ: (قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا) (٣٩: ٤٤).
(ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) احْتِجَاجٌ بِمَا يُؤْمِنُونَ بِهِ مِنْ وَحْدَانِيَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ، عَلَى شِرْكِهِمْ فِي وَحْدَانِيَّةِ الْأُلُوهِيَّةِ، أَيْ ذَلِكَ الْمَوْصُوفِ بِالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ، وَالْحِكْمَةِ وَالتَّدْبِيرِ، وَالتَّصَرُّفِ فِي أَمْرِ الشَّفَاعَةِ يَأْذَنُ بِهَا لِمَنْ شَاءَ فِيمَا شَاءَ هُوَ اللهُ رَبُّكُمْ وَمُتَوَلِّي أُمُورِ الْعَالَمِ وَمِنْهَا أُمُورُكُمْ، فَاعْبُدُوهُ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَلَا مَعَهُ
أَحَدًا، لَا لِأَجْلِ الشَّفَاعَةِ، وَلَا لِأَجْلِ مَطْلَبٍ آخَرَ مِنْ مَطَالِبِكُمْ، فَالشُّفَعَاءُ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ مِنْ دُونِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ ذَلِكَ رَبُّكُمْ وَحْدَهُ، وَقَدْ هَدَاكُمْ إِلَى أَسْبَابِ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ الْكَسْبِيَّةِ بِعُقُولِكُمْ وَمَشَاعِرِكُمْ وَسَخَّرَهَا لَكُمْ، وَهَدَاكُمْ إِلَى أَسْبَابِ النَّفْعِ وَالضُّرِّ الْغَيْبِيَّةِ بِوَحْيِهِ وَأَقْدَرَكُمْ عَلَيْهَا، وَكُلِّ مَا يُطْلَبُ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ فَإِنَّمَا يُطْلَبُ مِنْ أَسْبَابِهِ الَّتِي سَخَّرَهَا تَعَالَى وَبَيَّنَهَا لَكُمْ، وَمَا عَجَزَ عَنْهُ الْعَبْدُ أَوْ جَهِلَهُ مِنْ ذَلِكَ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ تَعَالَى وَحْدَهُ فِيهِ، وَهَذَا هُوَ الرُّكْنُ الْأَوَّلُ لِلدِّينِ الْإِلَهِيِّ. أَفَلَا تَذَكَّرُونَ أَيْ أَتَجْهَلُونَ هَذَا الْحَقَّ الْمُبِينَ، فَلَا تَتَذَكَّرُونَ أَنَّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَحْدَهُ، وَاسْتَوَى عَلَى عَرْشِ الْمُلْكِ يُدَبِّرُ الْأُمُورَ وَحْدَهُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَشْفَعَ أَحَدٌ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، هُوَ رَبُّكُمُ الَّذِي يَجِبُ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَأَلَّا تَعْبُدُوا غَيْرَهُ؟ وَهُوَ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ، وَمَا إِنْكَارُهُ إِلَّا ضَرْبٌ مِنَ الْغَفْلَةِ عِلَاجُهَا التَّذْكِيرُ.
هَذَا الِاسْتِفْهَامُ التَّعْجِيبِيُّ مِنْ غَفْلَةِ الْمُشْرِكِينَ مُنْكِرِي الْوَحْيِ عَنْ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ، وَهِيَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ مِنَ الْخَلْقِ أَحَدٌ إِلَّا رَبُّهُمْ وَخَالِقُهُمْ وَمُدَبِّرُ أُمُورِهِمْ، يُوَجَّهُ بِالْأَوْلَى إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ مِنَ الْقُبُورِيِّينَ وَعُبَّادِ الصَّالِحِينَ، كَيْفَ لَا يَتَذَكَّرُونَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالَهَا كُلَّمَا شَعَرُوا بِالْحَاجَةِ إِلَى مَا عَجَزُوا عَنْهُ بِكَسْبِهِمْ مِنْ دَفْعِ ضُرٍّ أَوْ جَلْبِ نَفْعٍ؟ إِذْ نَرَاهُمْ يُوَجِّهُونَ وُجُوهَهُمْ إِلَى قُبُورِ الْمَشْهُورِينَ مِنَ الصَّالِحِينَ فِي بِلَادِهِمْ، وَيَشُدُّونَ الرِّحَّالَ إِلَى مَا بَعُدَ مِنْهَا عَنْهُمْ، وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهَا بِالنُّذُورِ وَيَطُوفُونَ بِهَا كَمَا يَطُوفُ الْحُجَّاجُ بِبَيْتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، دَاعِينَ مُتَضَرِّعِينَ
243
مُسْتَغِيثِينَ خَاشِعِينَ، وَهَذَا مُخُّ الْعِبَادَةِ وَرُوحُهَا وَأَجْلَى مَظَاهِرِهَا، وَلَا تَرَى مِثْلَهُ مِنْ أَحَدٍ مِمَّنْ يُصَلِّي مِنْهُمْ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَلَا صَلَاتِهِ مُنْفَرِدًا فِي بَيْتِهِ، عَلَى أَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يُصَلُّونَ وَلَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَنْفَعُهُمْ كَهَذِهِ الْقُبُورِ، ذَلِكَ بِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالَهَا مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا يَتَلَقَّوْنَ عَقَائِدَ دِينِهِمْ بِالْعَمَلِ وَالْقَوْلِ مِنْ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ وَمُعَاشِرِيهِمْ، وَهُمْ قُبُورِيُّونَ لَا يَعْرِفُونَ مَلْجَأً وَلَا مُلْتَحَدًا عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى السُّلْطَانِ الرَّبَّانِيِّ الْغَيْبِيِّ إِلَّا هَذِهِ الْقُبُورَ، وَأَقَلُّهُمْ يَتَلَقَّوْنَ بَعْضَ كُتُبِ الْعَقَائِدِ الْكَلَامِيَّةِ الْجَافَّةِ مِمَّنْ أَلِفُوا عِبَادَةَ الْقُبُورِ قَبْلَ أَنْ يَقْرَءُوهَا، وَأَكْثَرُهُمْ يَتَأَوَّلُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلْعَوَّامِ تِلْكَ الْعِبَادَةَ وَيُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا كَالتَّوَسُّلِ وَالِاسْتِشْفَاعِ، وَحُجَّتُهُمْ عَلَيْهَا نَفْسُ حُجَّةِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، لَا فَرْقَ إِلَّا فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ وَأَسْمَاءِ الْأَشْخَاصِ.
(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ).
هَذِهِ الْآيَةُ بَيَانٌ لِلرُّكْنِ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ وَهُوَ الْبَعْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ.
يَقُولُ تَعَالَى: (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا) أَيْ إِلَى رَبِّكُمْ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ مَعْبُودَاتِكُمْ وَشُفَعَائِكُمْ وَأَوْلِيَائِكُمْ تَرْجِعُونَ جَمِيعًا بَعْدَ الْمَوْتِ وَفِنَاءِ هَذَا الْعَالَمِ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ، لَا يَتَخَلَّفُ مِنْكُمْ أَحَدٌ (وَعْدَ اللهِ حَقًّا) أَيْ وَعَدَ اللهُ هَذَا وَعْدًا حَقًّا لَا يُخْلِفُ (إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) هَذَا بَيَانٌ لِمُتَعَلِّقِ الْوَعْدِ الْمُؤَكَّدِ مَرَّتَيْنِ بِدَلِيلِهِ، أَيْ إِنَّ شَأْنَهُ تَعَالَى أَنْ يَبْدَأَ الْخَلْقَ وَيُنْشِئَهُ عِنْدَ التَّكْوِينِ، ثُمَّ يُعِيدُهُ فِي نَشْأَةٍ أُخْرَى بَعْدَ انْحِلَالِهِ وَفَنَائِهِ، فَالتَّعْبِيرُ بِفِعْلِ الْمُسْتَقَبْلِ (يَبْدَأُ) لِتَصْوِيرِ الشَّأْنِ، وَهُوَ يَشْمَلُ الْمَاضِيَ وَالْمُسْتَقَبْلَ، وَلَفْظُ الْخَلْقِ عَامٌّ يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ، بِدَلِيلِ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ السِّيَاقِ، وَقَدْ أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْكَوْنِ الْمَادِّيُّونَ مِنْهُمْ وَالرُّوحِيُّونَ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ وَجَمِيعَ الْأَجْرَامِ السَّمَاوِيَّةِ، مَا يُرَى مِنْهَا بِالْأَبْصَارِ وَالْآلَاتِ الْمُقَرِّبَةِ لِلْأَبْعَادِ وَمَا لَا يُرَى، كُلُّهَا قَدْ وُجِدَتْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ. وَإِنْ كَانُوا لَا يَزَالُونَ يَبْحَثُونَ فِي نَشْأَةِ تَكْوِينِهَا وَالْقُوَّةِ الْأَزَلِيَّةِ الْمُتَصَرِّفَةِ فِي أَصْلِ مَادَّتِهَا، كَمَا أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَوَقُّعِ خَرَابِ هَذِهِ الْأَرْضِ وَالْكَوَاكِبِ الْمُرْتَبِطَةِ مَعَهَا فِي هَذَا النِّظَامِ الشَّمْسِيِّ الْجَامِعِ لَهَا، عَلَى أَنَّ أَقْرَبَ الْأَسْبَابِ الْمُوَافِقَةِ لِأُصُولِ الْعِلْمِ الثَّابِتَةِ أَنْ تُصِيبَ الْأَرْضَ قَارِعَةٌ مِنَ الْأَجْرَامِ السَّمَاوِيَّةِ فَتَبُسُّهَا بَسًّا، حَتَّى تَكُونَ هَبَاءً مُنْبَثًّا، كَمَا تُشِيرُ إِلَيْهِ سُورَةُ الْقَارِعَةِ وَالْوَاقِعَةِ وَغَيْرُهُمَا.
244
فَأَمَّا بَدْؤُهُ فَقَدْ حَصَلَ بِالْفِعْلِ، وَأَمَّا إِعَادَتُهُ فَدَلِيلُهَا أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْبَدْءِ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى الْإِعَادَةِ بِالطَّرِيقِ الْأُولَى، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الرُّومِ: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (٣٠: ٢٧) الْآيَةَ. وَمِنَ الْمَسَائِلِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا عِنْدَ عُلَمَاءِ الْكَوْنِ فِي هَذَا الْعَصْرِ - وَهِيَ تُقَرِّبُ إِلَى الْعُقُولِ عَقِيدَةَ الْبَعْثِ - أَنَّ هَذِهِ الْأَجْسَادَ الْحَيَّةَ
يُنْحَلُ مِنْهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ مَا يَتَبَخَّرُ فِي الْهَوَاءِ وَمَا يَمُوتُ فِي دَاخِلِ الْجِسْمِ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهُ، وَيَحِلُّ مَحَلَّ كُلِّ مَا يَزُولُ وَيَنْدَثِرُ مَوَادُّ حَيَّةٌ جَدِيدَةٌ حَتَّى يَفْنَى جَسَدُ كُلِّ حَيَوَانٍ، فَهُوَ يَزُولُ فِي سِنِينَ قَلِيلَةٍ وَيَتَجَدَّدُ غَيْرُهُ، فَالْبَدْءُ وَالْإِعَادَةُ فِي كُلِّ جَسَدٍ دَائِمَانِ مَا دَامَ حَيًّا، وَقَدْ فَصَّلْنَا مَسْأَلَةَ الْبَعْثِ بِالْبَيَانِ الْعِلْمِيِّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (ص ٤١٧ - ٤٢٧ ج ٨ ط الْهَيْئَةِ) (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ (هَذَا تَعْلِيلٌ لِلْإِعَادَةِ، أَيْ يُعِيدُهُ لِأَجْلِ جَزَائِهِمْ، وَالْقِسْطُ: الْعَدْلُ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: النَّصِيبُ مِنَ الْعَدْلِ، أَيْ لِيَجْزِيَهُمْ بِعَدْلِهِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إِعْطَاءِ كُلِّ عَامِلٍ حَقَّهُ مِنَ الثَّوَابِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ لِعَمَلِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُظْلَمُ مِنْهُ شَيْئًا كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا) (٢١: ٤٧) الْآيَةَ. وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ أَنْ يَزِيدَهُمْ وَيُضَاعِفَ لَهُمْ كَمَا وَعَدَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى مِنْهَا قَوْلُهُ: (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) (٤: ١٧٣) وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: (لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) (٢٦) فَالْحُسْنَى هِي الْجَزَاءُ بِالْقِسْطِ الْمُضَادِّ لِلْجَوْرِ وَالظُّلْمِ. وَالزِّيَادَةُ فَضْلٌ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَسَيَأْتِي فِيهَا أَيْضًا قَوْلُهُ: (قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) (١٠: ٤٧، ٥٤) وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ يَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَهُوَ الْحَقُّ وَالْعَدْلُ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، الَّذِي هُوَ مُقْتَضَى الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (٥٧: ٢٥) وَقَوْلِهِ: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) (٧: ٢٩) عَلَى أَنَّ الْقِسْطَ فِي الْآيَتَيْنِ عَامٌّ شَامِلٌ لِأُمُورِ الدِّينِ كُلِّهَا، وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِيمَانُ أَوِ التَّوْحِيدُ الْمُقَابِلُ لِظُلْمِ الشِّرْكِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (٣١: ١٣) وَالْمُتَبَادَرُ الْمُوَافِقُ لِسَائِرِ الْآيَاتِ الصَّرِيحَةِ هُوَ الْأَوَّلُ، وَلَا يَصِحُّ إِرَادَةُ الثَّانِي إِلَّا بِالتَّبَعِ لِلْأَوَّلِ، أَوِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ كُلَّ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ مِنَ الْمَعَانِي الْمُشْتَرَكَةِ فِيهِ أَوْ حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ بِمُقْتَضَى اللُّغَةِ مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ مِنَ الشَّرْعِ يَكُونُ مُرَادًا مِنْهُ.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) الْحَمِيمُ: الْمَاءُ الْحَارُّ أَوِ الشَّدِيدُ الْحَرَارَةِ الَّذِي يُسْتَحَمُّ بِهِ، وَالْعَرَقُ، يُقَالُ: اسْتَحَمَّ الْفَرَسُ إِذَا عَرِقَ، وَالْحَمَّامُ الَّذِي هُوَ مَكَانُ الِاسْتِحْمَامِ مِنَ الْأَوَّلِ أَوْ مِنَ الثَّانِي. وَالْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِجَزَاءِ الْكَافِرِينَ فِي مُقَابَلَةِ جَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ عَلَى مَنْهَجِ الْقُرْآنِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْكَافِرِينَ لَهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ شَرَابٌ مِنْ مَاءٍ حَمِيمٍ يُقَطِّعُ أَمْعَاءَهُمْ
وَعَذَابٌ شَدِيدُ الْأَلَمِ (وَهَذَا مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ) وَنُكْتَةُ هَذَا الْخَاصِّ أَنَّ الْعَرَبَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهِ أَوَّلًا وَنَزَلَ بِلُغَتِهِمْ - وَلَا سِيَّمَا عَرَبِ
245
الْحِجَازِ - يَشْعُرُونَ بِمَا لَا يَشْعُرُ غَيْرُهُمْ مِنَ الْوَعِيدِ بِشُرْبِ الْمَاءِ الْحَمِيمِ وَالْحِرْمَانِ مِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ - وَإِنَّمَا كَانَ لَهُمْ هَذَا الْجَزَاءُ بِسَبَبِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنْ أَعْمَالِ الْكُفْرِ الْمُسْتَمِرَّةِ إِلَى الْمَوْتِ، كَدُعَاءِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى وَالنَّذْرِ لِغَيْرِهِ وَذَبْحِ الْقَرَابِينَ لِغَيْرِهِ، وَسَائِرِ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ الَّتِي يُزَيِّنُهَا لَهُمُ الْكُفْرُ وَيَصُدُّ عَنْهَا الْإِيمَانُ، فَقَوْلُهُ: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: الَّذِينَ آمَنُوا وَقَوْلُهُ: (بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) مُقَابِلٌ لِقَوْلِهِ: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) لِأَنَّ الَّذِي يَتَجَدَّدُ مِنَ الْكُفْرِ أَعْمَالُهُ لَا عَقِيدَتُهُ. عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِمُقْتَضَى الْعَقِيدَةِ هُوَ أَثَرُهَا، يَزِيدُهَا قُوَّةً وَرُسُوخًا وَاسْتِمْرَارًا، وَسَيُعَادُ ذِكْرُ جَزَاءِ الْفَرِيقَيْنِ بَعْدَ آيَتَيْنِ بِتَفْصِيلٍ آخَرَ لِعَمَلِهِمَا.
وَلَعَلَّ نُكْتَةَ اخْتِلَافِ النَّظْمِ أَوِ الْأُسْلُوبِ - فِي جَزَاءِ الْفَرِيقَيْنِ وَتَعْلِيلِ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ تَعَالَى هُنَا - هِيَ إِفَادَةُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى اللهِ تَعَالَى هُوَ جَزَاءُ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ بِهِ مُنْتَهَى كَمَالِ الِارْتِقَاءِ الْبَشَرِيِّ لِلَّذِينِ زَكَّوْا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِمَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ غَلَبَةِ سُلْطَانِ الْأَرْوَاحِ عَلَى الْأَجْسَادِ، وَجَعْلِهَا تَابِعَةً لَهَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ خَصَائِصِ الْمَادَّةِ وَالرُّوحِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ الْإِنْسَانِيَّةِ، فَيَلْقَى الْإِنْسَانُ الْكَامِلُ هُنَالِكَ مِنَ النَّعِيمِ الْمَادِّيِّ الْخَالِي مِنَ الشَّوَائِبِ وَالتَّنْغِيصِ الَّذِي عَهِدَهُ فِي الدُّنْيَا، وَمِنَ النَّعِيمِ الرُّوحَانِيِّ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِرِضْوَانِ اللهِ الْأَكْبَرِ - كَمَا تَقَدَّمَ فِي آيَةِ سُورَةِ التَّوْبَةِ: ٧٢ - مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ فَضْلُ الْإِنْسَانِيَّةِ الْجَامِعَةِ، عَلَى الرُّوحَانِيَّةِ الْخَالِصَةِ، وَمَا أَعَدَّهُ تَعَالَى لِصَاحِبِهَا مِمَّا لَا يَعْلَمُ كُنْهَهُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ أَحَدٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الم السَّجْدَةِ (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (٣٢: ١٧) وَمَا فُسِّرَتْ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: ((أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَعْلَاهُ مَقَامُ رُؤْيَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا شَرَحْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (٧: ١٤٣) وَأَدْنَاهُ مَا سَيَأْتِي قَرِيبًا فِي الْآيَةِ التَّاسِعَةِ.
وَأَمَّا جَزَاءُ الْكَافِرِينَ الْمُفْسِدِينَ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ، عَلَى تَدْسِيَتِهِمْ وَتَدْنِيسِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ وَالْخَطَايَا - وَهِيَ لَهَا كَأَعْرَاضِ الْأَمْرَاضِ الَّتِي سَبَبُهَا مُخَالَفَةُ سُنَّةِ اللهِ فِي حِفْظِ الْأَبْدَانِ وَصِحَّتِهَا - فَلَيْسَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الَّتِي اقْتَضَتْهَا الْحِكْمَةُ
الْإِلَهِيَّةُ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَلَكِنَّهَا مُقْتَضَى الْعَدْلِ فِي الْمَظَالِمِ وَالْحُقُوقِ، وَمُقْتَضَى اطِّرَادِ السُّنَنِ الْحَكِيمَةِ فِي ارْتِبَاطِ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبِّبَاتِ، وَالْعِلَلِ بِالْمَعْلُولَاتِ، فَهُوَ جَزَاءٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَدْ سَأَلَنِي رَجُلٌ مِنْ أَذْكِيَاءِ الْإِنْكِلِيزِ: هَلْ يَلِيقُ بِعَظَمَةِ اللهِ أَنْ يُعَذِّبَ هَذَا الْإِنْسَانَ الضَّعِيفَ عَلَى ذُنُوبِهِ الَّتِي هِيَ مُقْتَضَى ضَعْفِهِ؟ قُلْتُ إِنَّ الشِّرْكَ بِاللهِ وَالْكُفْرَ بِنِعَمِهِ، وَاقْتِرَافَ الْخَطَايَا الْمُخَالِفَةِ لِشَرَائِعِهِ وَلِلْوِجْدَانِ الْفِطْرِيِّ فِي الْإِنْسَانِ، تُدَنِّسُ نَفْسَ فَاعِلِهَا وَتُفْسِدُهَا بِمَا يَجْعَلُهَا غَيْرَ أَهْلٍ لِلنَّعِيمِ الرُّوحَانِيِّ الْخَاصِّ بِالْأَنْفُسِ الزَّكِيَّةِ، فَيَكُونُ الْعِقَابُ فِي الْآخِرَةِ أَثَرًا طَبِيعِيًّا
246
لِهَذَا الْفَسَادِ، كَمَا يَكُونُ الْمَرَضُ أَثَرًا طَبِيعِيًّا لِمُخَالَفَةِ قَوَانِينِ الصِّحَّةِ وَوَصَايَا الطَّبِيبِ. فَقَالَ: إِذَا كَانَ سَبَبُ الْعَذَابِ مِنَ الدَّاخِلِ لَا مِنَ الْخَارِجِ فَهُوَ مَعْقُولٌ.
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ).
فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْمُنَزَّلَتَيْنِ إِرْشَادٌ إِلَى أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنْ آيَاتِ اللهِ الْكَوْنِيَّةِ، الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَكَوْنِهِ مِنْ مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ، وَاطِّرَادِ النِّظَامِ التَّامِّ فِي جَمِيعِ خَلْقِهِ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ تَفْصِيلٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَاسْتِوَاءِ الْخَالِقِ عَلَى عَرْشِهِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، وَيُقِيمُ النِّظَامَ فِي الْخَلْقِ، الَّتِي سِيقَتْ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَحَقِّيَّةِ الْوَحْيِ.
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا) الضِّيَاءُ: اسْمُ مَصْدَرٍ مِنْ أَضَاءَ يُضِيءُ وَجَمْعُ ضَوْءٍ، كَسِيَاطٍ وَسَوْطٍ وَحِيَاضٍ وَحَوْضٍ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: (ضِئَاءً) عَلَى الْقَلْبِ بِتَقْدِيمِ لَامِ الْكَلِمَةِ عَلَى عَيْنِهَا. قَالَ فِي الْقَامُوسِ وَشَرْحِهِ: (الضَّوْءُ) هُوَ النُّورُ (وَيُضَمُّ) وَهُمَا مُتَرَادِفَانِ عِنْدَ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ، وَقِيلَ: الضَّوْءُ أَقْوَى مِنَ النُّورِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَلِذَا شَبَّهَ اللهُ هُدَاهُ بِالنُّورِ دُونَ الضَّوْءِ وَإِلَّا لَمَا ضَلَّ أَحَدٌ، وَتَبِعَهُ
الطِّيبِيُّ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَأَنْكَرَهُ صَاحِبُ الْفَلَكِ الدَّائِرِ، وَسَوَّى بَيْنَهُمَا ابْنُ السِّكِّيتِ، وَحَقَّقَ فِي الْكَشْفِ أَنَّ الضَّوْءَ فَرْعُ النُّورِ وَهُوَ الشُّعَاعُ الْمُنْتَشِرُ، وَجَزَمَ الْقَاضِي زَكَرِيَّا بِتَرَادُفِهِمَا لُغَةً بِحَسْبِ الْوَضْعِ، وَأَنَّ الضَّوْءَ أَبْلَغُ بِحَسْبِ الِاسْتِعْمَالِ، وَقِيلَ: الضَّوْءُ لِمَا بِالذَّاتِ كَالشَّمْسِ وَالنَّارِ، وَالنُّورُ لِمَا بِالْعَرَضِ وَالِاكْتِسَابِ مِنَ الْغَيْرِ، هَذَا حَاصِلُ مَا قَالَهُ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَجَمْعُهُ أَضْوَاءٌ (كَالضِّوَاءِ وَالضِّيَاءِ بِكَسْرِهِمَا) لَكِنْ فِي نُسْخَةِ لِسَانِ الْعَرَبِ ضَبْطُ الْأَوَّلِ بِالْفَتْحِ وَالثَّانِي بِالْكَسْرِ، وَفِي التَّهْذِيبِ عَنِ اللَّيْثِ: الضَّوْءُ وَالضِّيَاءُ مَا أَضَاءَ لَكَ، وَنَقَلَ شَيْخُنَا عَنِ الْمُحْكَمِ أَنَّ الضِّيَاءَ يَكُونُ جَمْعًا أَيْضًا، قُلْتُ: هُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ فِي تَفْسِيرِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) (٢: ٢٠) اهـ.
247
وَأَقُولُ: يَدُلُّ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فِي نُورِهِمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا) (٧١: ١٦) وَقَوْلُهُ: (وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا) (٢٥: ٦١) وَالسِّرَاجُ مَا كَانَ نُورُهُ مِنْ ذَاتِهِ. وَاسْتَبْعَدَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلَ الزَّجَّاجِ: إِنَّ الضِّيَاءَ فِي الْآيَةِ جَمْعُ ضَوْءٍ؛ لِأَنَّ الْمُنَاسِبَ لِكَوْنِ الْقَمَرِ نُورًا أَنْ يَكُونَ الضِّيَاءُ مُفْرَدًا مِثْلُهُ.
وَجَهِلَ هَذَا الْمُسْتَبْعِدُ وَأَمْثَالُهُ مَا يَعْلَمُهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ أَنَّ شُعَاعَ الشَّمْسِ مُرَكَّبٌ مِنْ أَلْوَانِ النُّورِ السَّبْعَةِ، الَّتِي يَرَاهَا النَّاسُ فِي قَوْسِ السَّحَابِ فَهُوَ سَبْعَةُ أَضْوَاءٍ لَا ضَوْءٌ وَاحِدٌ، فَهَذَا التَّعْبِيرُ مِنْ مُفْرَدَاتِ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي كَشَفَ لَنَا تَرَقِّي الْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْفَلَكِيَّةِ مِنَ الْمَعْنَى فِيهَا مَا كَانَ النَّاسُ أَوِ الْعَرَبُ يَجْهَلُونَهُ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ، كَتَعْبِيرِهِ عَنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنَ النَّبَاتِ بِأَنَّهُ مَوْزُونٌ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ.
وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ، التَّقْدِيرُ جَعَلَ الشَّيْءَ أَوِ الْأَشْيَاءَ عَلَى مَقَادِيرَ مَخْصُوصَةٍ فِي الزَّمَانِ أَوِ الْمَكَانِ أَوِ الذَّوَاتِ أَوِ الصِّفَاتِ، قَالَ تَعَالَى: (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) (٧٣: ٢٠) وَقَالَ فِي الْقُرَى الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ سَبَأٍ وَالشَّامِ: (وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ) (٣٤: ١٨) وَقَالَ فِي الْمَقَادِيرِ الْعَامَّةِ: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) (٢٥: ٢) وَالْمَنَازِلُ أَمَاكِنُ النُّزُولِ جَمْعُ مَنْزِلٍ وَالضَّمِيرُ لِلْقَمَرِ كَمَا فِي سُورَةِ يس: وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٦: ٣٩) أَيْ قَدَّرَ لَهُ أَوْ قَدَّرَ سَيْرَهُ فِي فَلَكِهِ فِي مَنَازِلَ يَنْزِلُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا لَا يُخْطِئُهُ وَلَا يَتَخَطَّاهُ، وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ
وَعِشْرُونَ مَنْزِلًا مَعْرُوفَةٌ تُسَمِّيهَا الْعَرَبُ بِأَسْمَاءِ نُجُومِهَا الْمُحَاذِيَةِ لَهَا وَهِيَ.
الشَّرَطَانِ. الْبَطِينُ. الثُّرَيَّا. الدَّبَرَانِ. الْهَقْعَةُ. الْهَنْعَةُ. الذِّرَاعُ. النَّثْرَةُ. الطَّرَفُ. الْجَبْهَةُ. الزُّبْرَةُ، الصَّرْفَةُ. الْعَوَّاءُ. السِّمَاكُ الْأَعْزَلُ. الْغَفْرُ. الزُّبَانَى. الْإِكْلِيلُ. الْقَلْبُ. الشَّوْلَةُ. النَّعَائِمُ. الْبَلْدَةُ. سَعْدُ الذَّابِحِ. سَعْدُ بُلَع. سَعْدُ السُّعُودِ. سَعْدُ الْأَخْبِيَةِ. فَرْغُ الدَّلْوِ الْمُقَدَّمِ. فَرْغُ الدَّلْوِ الْمُؤَخَّرِ (وَيُسَمَّيَانِ الْفَرْغَ الْأَوَّلَ وَالْفَرْغَ الثَّانِيَ). الرِّشَاءُ. وَيُرَاجِعْ مُسَمَّيَاتِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ فِي مَعَاجِمِ اللُّغَةِ وَكُتُبِ الْفَلَكِ مَنْ شَاءَ. فَهَذِهِ الْمَنَازِلُ هِي الَّتِي يُرَى فِيهَا الْقَمَرُ بِالْأَبْصَارِ، وَيَبْقَى مِنَ الشَّهْرِ لَيْلَةٌ إِنْ كَانَ ٢٩ وَلَيْلَتَانِ إِنْ كَانَ ٣٠ يَوْمًا يَحْتَجِبُ فِيهِمَا فَلَا يُرَى. (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) أَيْ لِأَجْلِ أَنْ تَعْلَمُوا بِمَا ذَكَرَ مِنْ صِفَةِ النَّيِّرَيْنِ وَتَقْدِيرِ الْمَنَازِلِ حِسَابَ الْأَوْقَاتِ مِنَ الْأَشْهُرِ وَالْأَيَّامِ؛ لِضَبْطِ عِبَادَاتِكُمْ وَمُعَامَلَاتِكُمُ الدِّينِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ، فَلَوْلَا هَذَا النِّظَامُ الْمُشَاهَدُ لَتَعَذَّرَ عَلَى الْأُمِّيِّينَ مِنْ أَهْلِ الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ الْعِلْمُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ حِسَابَ السِّنِينَ وَالشُّهُورِ الشَّمْسِيَّةِ فَنٌّ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالدِّرَاسَةِ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ الشَّرْعُ الْإِسْلَامِيُّ الْعَامُّ لِلْبَدْوِ وَالْحَضَرِ شَهْرَ الصِّيَامِ وَأَشْهُرَ الْحَجِّ وَعِدَّةَ الطَّلَاقِ وَمُدَّةَ الْإِيلَاءِ وَغَيْرَ ذَلِكَ بِالْحِسَابِ الْقَمَرِيِّ الَّذِي يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ بِالْمُشَاهَدَةِ، فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمٍ فَنِّيٍّ لَا يَكَادُ يُوجَدُ إِلَّا فِي بِلَادِ الْحَضَارَةِ. وَلِعِبَادَتَيِ الصِّيَامِ وَالْحَجِّ حِكْمَةٌ أُخْرَى وَهِيَ دَوَرَانُهُمَا فِي جَمِيعِ الْفُصُولِ، فَيَعْبُدُ الْمُسْلِمُونَ رَبَّهُمْ فِي جَمِيعِ
248
الْأَوْقَاتِ مِنْ حَارَّةٍ وَبَارِدَةٍ وَمُعْتَدِلَةٍ. وَهَذَا لَا يَمْنَعُ أَهْلَ الْعِلْمِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْحِسَابِ الشَّمْسِيِّ وَلَهُ فَوَائِدُ أُخْرَى، وَقَدْ أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) (٥٥: ٥) وَفِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ (١٧: ١٢) وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ تَرْغِيبٌ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ وَالْجُغْرَافِيَّةِ الْفَلَكِيَّةِ وَقَدْ بَرَعَ فِيهِمَا أَجْدَادُنَا بِإِرْشَادِهَا.
ثُمَّ قَالَ: (مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ) أَيْ مَا خَلَقَ اللهُ الشَّمْسَ ذَاتَ ضِيَاءٍ
تُفِيضُ أَشِعَّتَهَا عَلَى كَوَاكِبِهَا التَّابِعَةِ لِنِظَامِهَا، فَتَبُثُّ الْحَرَارَةَ وَالْحَيَاةَ فِي جَمِيعِ الْأَحْيَاءِ فِيهِنَّ، وَجَعَلَ لِكُلِّ ضَوْءٍ مِنْهَا مِنَ الْخَوَاصِّ مَا لَيْسَ لِلْآخَرِ، وَيُبْصِرُ النَّاسُ فِيهَا جَمِيعَ الْمُبْصَرَاتِ فَيَقُومُونَ بِأُمُورِ مَعَايِشِهِمْ وَسَائِرِ شُئُونِهِمْ، وَمَا خَلَقَ الْقَمَرَ ذَا نُورٍ مُسْتَمَدٍّ مِنَ الشَّمْسِ تَنْتَفِعُ بِهِ السَّيَّارَةُ فِي سَرَاهُمْ وَغَيْرُهُمْ، وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ يَعْرِفُ بِهَا جَمِيعُ النَّاسِ السِّنِينَ وَالشُّهُورَ - مَا خَلَقَ ذَلِكَ إِلَّا مُتَلَبِّسًا وَمُقْتَرِنًا بِالْحَقِّ، الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ الْعَامَّةُ لِحَيَاةِ الْخَلْقِ، وَنِظَامِ مَعَايِشِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ، فَلَيْسَ فِيهِ عَبَثٌ وَلَا خَلَلٌ، بَلْ ظَهَرَ لِلْبَشَرِ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ أَسْرَارِ الضَّوْءِ وَحِكَمِهِ مَا صَارَ بِهِ عِلْمًا وَاسِعًا تَحَارُ الْعُقُولُ فِي نَظْمِهِ وَحِكَمِهِ، مِنْ أَصْغَرِ ذَرَّاتِهِ إِلَى أَعْظَمِ مَجَامِعِ نَيِّرَاتِهِ فَكَيْفَ يُعْقَلُ مِنْ هَذَا الْخَالِقِ الْحَكِيمِ، أَنْ يَخْلُقَ هَذَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَيُعَلِّمَهُ الْبَيَانَ، وَيُعْطِيَهُ مَا لَمْ يُعْطِ غَيْرَهُ فِي عَالَمِهِ، مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِإِظْهَارِ مَا لَا يُحْصَى مِنْ حِكَمِهِ وَخَوَاصِّ خَلْقِهِ، وَسُنَنِهِ فِي عِبَادِهِ، وَيَجْعَلَ مَدَارَ سَعَادَتِهِ وَشَقَائِهِ عَلَى مَا أَعْطَاهُ مِنْ عِلْمٍ وَإِرَادَةٍ، ثُمَّ يَتْرُكَهُ بَعْدَ ذَلِكَ سُدًى، يَمُوتُ وَيَفْنَى، ثُمَّ لَا يُبْعَثُ وَلَا يَعُودُ؛ لِيُجْزَى الْمُرْتَقُونَ مِنْهُ فِي مَعَارِجِ الْكَمَالِ مِنَ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْفَضَائِلِ النَّفْسِيَّةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِإِيمَانِهِمْ وَصِفَاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَلِيُجْزَى الْمُشْرِكُونَ الْخُرَافِيُّونَ، وَالظَّالِمُونَ الْمُجْرِمُونَ بِكُفْرِهِمْ وَجَرَائِمِهِمْ وَمَفَاسِدِهِمْ وَإِنَّنَا نَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ أَنْعَمَ فِي الدُّنْيَا مَعِيشَةً مِنَ الصَّالِحِينَ الْمُصْلِحِينَ؟ (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٦٨: ٣٥ و٣٦) وَ (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (٣٨: ٢٨) ؟.
(يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ الْمُنْتَفِعِينَ بِهَذِهِ الْحُجَجِ أَيْ نُبَيِّنُ الدَّلَائِلَ مِنْ حِكَمِ خَلْقِنَا، عَلَى مَا أَوْحَيْنَاهُ إِلَى رَسُولِنَا مِنْ أُصُولِ الْعَقَائِدِ وَأَحْكَامِ الشَّرَائِعِ، مُفَصَّلَةً مُنَوَّعَةً مِنْ كَوْنِيَّةٍ وَعَقْلِيَّةٍ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وُجُوهَ دَلَالَةِ الدَّلَائِلِ، وَالْفَرْقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، بِاسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ فِي فَهْمِ هَذِهِ الْآيَاتِ، فَيَجْزِمُونَ بِأَنَّ مَنْ خَلَقَ هَذَيْنِ النَّيِّرَيْنِ وَمَا فِيهِمَا مِنَ النِّظَامِ بِالْحَقِّ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ خَلَقَهُ لِهَذَا الْإِنْسَانِ الْعَجِيبِ عَبَثًا، وَلَا أَنْ يَتْرُكَهُ سُدًى وَفِي الْآيَةِ تَنْوِيهٌ بِفَضْلِ الْعِلْمِ وَكَوْنِ
الْإِسْلَامِ دِينًا عِلْمِيًّا لَا تَقْلِيدِيًّا، وَلِذَلِكَ قَفَّى عَلَى هَذِهِ الْآيَاتِ السَّمَاوِيَّةِ فِي الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ بِآيَةٍ مُذَكِّرَةٍ بِسَائِرِ الْآيَاتِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ فَقَالَ:
249
إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي حُدُوثِهِمَا وَتَعَاقُبِهِمَا فِي طُولِهِمَا وَقِصَرِهِمَا؛ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ مَوَاقِعِ الْأَرْضِ مِنَ الشَّمْسِ وَالنِّظَامِ الدَّقِيقِ لَهُمَا بِحَرَكَتَيْهَا الْيَوْمِيَّةِ وَالسَّنَوِيَّةِ، وَطَبِيعَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَمَا يَصْلُحُ فِيهِ مِنْ نَوْمٍ وَسُكُونٍ وَعَمَلٍ دِينِيٍّ وَدُنْيَوِيٍّ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ أَنْوَاعِ الْجَمَادِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ أَيْ أَنْوَاعًا مِنَ الدَّلَائِلِ وَالْبَيِّنَاتِ عَلَى سُنَنِهِ فِي النِّظَامِ، وَحِكَمِهِ فِي الْإِبْدَاعِ وَالْإِتْقَانِ، وَفِي تَشْرِيعِ الْعَقَائِدِ وَالْأَحْكَامِ، لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ عَوَاقِبَ مُخَالَفَةِ سُنَنِهِ فِي التَّكْوِينِ، وَسُنَنِهِ فِي التَّشْرِيعِ، فَالْأَفْرَادُ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ سُنَنَ الصِّحَّةِ الْبَدَنِيَّةِ يَمْرَضُونَ، وَالشُّعُوبُ الَّتِي تُخَالِفُ سُنَنَ الِاجْتِمَاعِ وَالْعُمْرَانِ تَخْرُبُ بِلَادُهَا، وَتَضْعُفُ دُوَلُهَا، وَيُغَيِّرُ اللهُ تَعَالَى مَا بِهَا بِتَغْيِيرِهَا مَا فِي أَنْفُسِهَا، وَكَذَلِكَ الْأَفْرَادُ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ هِدَايَتَهُ الشَّرْعِيَّةَ فِي تَزْكِيَةِ الْأَنْفُسِ فَيُدَنِّسُونَهَا بِالشِّرْكِ وَالْخُرَافَاتِ، وَيُفْسِدُونَهَا بِالْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ، يُجْزَوْنَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فِي الْآخِرَةِ، وَيُجْزَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضِهَا فِي الدُّنْيَا (كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى).
(إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
هَذِهِ الْآيَاتُ بَيَانٌ لِحَالِ مُنْكِرِي الْبَعْثِ وَالْغَافِلِينَ، وَحَالِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ
فِي الدُّنْيَا وَجَزَائِهِمَا فِي الْآخِرَةِ، فِيهِ تَفْصِيلٌ لِمَا سَبَقَ فِي الْآيَةِ الرَّابِعَةِ. قَالَ:
(إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا) قَالَ الْفَيُّومِيُّ فِي الْمِصْبَاحِ: رَجَوْتُهُ أَرْجُوهُ رُجُوًّا - عَلَى فُعُولٍ - أَمَّلْتُهُ أَوْ أَرَدْتُهُ، قَالَ تَعَالَى: (لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا) (٢٤: ٦٠) أَيْ يُرِيدُونَهُ، وَالِاسْمُ
250
رَجَاءٌ بِالْمَدِّ، وَرَجَيْتُهُ أَرْجِيهِ مِنْ بَابِ رَمَى لُغَةً، وَيُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْخَوْفِ؛ لِأَنَّ الرَّاجِيَ يَخَافُ أَنَّهُ لَا يُدْرِكُ مَا يَتَرَجَّاهُ اهـ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الرَّجَاءُ ظَنٌّ يَقْتَضِي حُصُولَ مَا فِيهِ مَسَرَّةٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) (٧١: ١٣) ؟ قِيلَ: مَا لَكُمْ لَا تَخَافُونَ؟ وَمَثَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْأَسَاسِ لِحَقِيقَةِ الرَّجَاءِ بِالْمَغْفِرَةِ مِنَ اللهِ، وَالرُّشْدِ فِي الْوَلَدِ وَالْإِحْسَانِ مِنْ أَهْلِ الْإِحْسَانِ، ثُمَّ قَالَ: وَمِنَ الْمَجَازِ اسْتِعْمَالُ الرَّجَاءِ فِي مَعْنَى الْخَوْفِ وَالِاكْتِرَاثِ، يُقَالُ: لَقِيتُ هَوْلًا مَا رَجَوْتُهُ وَمَا ارْتَجَيْتُهُ.
وَمَثَّلَ لَهُ بِشِعْرٍ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الرَّجَاءَ: الْأَمَلُ وَالتَّوَقُّعُ لِمَا فِيهِ خَيْرٌ وَنَفْعٌ، وَأَنَّ الْخَوْفَ تَوَقُّعُ مَا فِيهِ شَرٌّ وَضُرٌّ، فَهُمَا مُتَقَابِلَانِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ) (١٧: ٥٧) وَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ ١١ و١٥ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَالْآيَةِ ٢١ مِنْ سُورَةِ الْفُرْقَانِ مِنْ رَجَاءِ لِقَاءِ اللهِ مَنْفِيًّا يَحْتَمِلُ الرَّجَاءَ وَالْخَوْفَ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ لِقَاءَ اللهِ تَعَالَى فِي يَوْمِ الْحِسَابِ مَظِنَّةُ الْخَوْفِ لِقَوْمٍ وَالرَّجَاءِ لِآخَرِينَ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْكَافِرِينَ: (إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا) (٧٨: ٢٧).
وَفَسَّرَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ الرَّجَاءَ هُنَا بِمُجَرَّدِ التَّوَقُّعِ الَّذِي يَشْمَلُ مَا يَسُرُّ وَمَا يَسُوءُ. وَاللِّقَاءُ الِاسْتِقْبَالُ وَالْمُوَاجَهَةُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الَّذِينَ لَا يَتَوَقَّعُونَ لِقَاءَنَا فِي الْآخِرَةِ لِلْحِسَابِ، وَمَا يَتْلُوهُ مِنَ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، لِإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ، وَيَلْزَمُهُ أَنَّهُمْ لَا يُؤَمِّلُونَ لِقَاءَهُ الْخَاصَّ بِالْمُتَّقِينَ فِي دَارِ الْكَرَامَةِ، وَخَصَّهُ بَعْضُهُمْ بِلِقَاءِ الرُّؤْيَةِ وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا بَدَلًا مِنَ الْآخِرَةِ، فَصَارَ كُلُّ هَمِّهِمْ مِنَ الْحَيَاةِ مَحْصُورًا فِيهَا، وَكُلُّ عَمَلِهِمْ لَهَا، كَمَا قَالَ فِي الْمُتَثَاقِلِينَ عَنِ النَّفِيرِ لِلْجِهَادِ: (أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ) (٩: ٣٨) ؟ الْآيَةَ وَاطْمَأَنُّوا بِهَا بِسُكُونِ نُفُوسِهِمْ وَارْتِيَاحِ قُلُوبِهِمْ بِشَهَوَاتِهَا وَلَذَّاتِهَا وَزِينَتِهَا لِيَأْسِهِمْ مِنْ غَيْرِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ فَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْمُنَزَّلَةَ مِنْهَا عَلَى رَسُولِنَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْعِبَرِ، وَالْمَعَارِفِ وَالْحِكَمِ، وَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِي الْكَوْنِيَّةِ وَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ
مِنْ حِكْمَتِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَمَا يَقْتَضِيهِ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنَ الْجِهَادِ وَصَالِحِ الْأَعْمَالِ، فَكَانُوا بِهَذِهِ الْغَفْلَةِ كَالْفَرِيقِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَا يَرْجُو لِقَاءَنَا، فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَشْغَلُهُ دُنْيَاهُ عَنْ آخِرَتِهِ فَلَا يَسْتَعِدُّ لِحِسَابِنَا لَهُ وَمَا يَتْلُوهُ مِنْ نَعِيمٍ مُقِيمٍ أَوْ عَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، الْإِشَارَةُ بِأُولَئِكَ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ، أَيْ مَأْوَاهُمْ فِي الْآخِرَةِ دَارُ الْعَذَابِ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ مُدَّةَ حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا مِنَ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبِ الْمُدَنِّسَةِ لِأَنْفُسِهِمْ بِخُرَافَاتِ الْوَثَنِيَّةِ، وَأَعْمَالِ الشَّهَوَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَظُلُمَاتِ الْمَظَالِمِ الْوَحْشِيَّةِ، وَاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَيْهَا الَّذِي دَنَّسَ أَنْفُسَهُمْ وَأَحَاطَ بِهَا، فَلَمْ يَعُدْ لِنُورِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ مَكَانٌ فِيهَا. وَالْمَأْوَى فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: الْمَلْجَأُ الَّذِي يَأْوِي إِلَيْهِ الْمُتْعَبُ أَوِ الْخَائِفُ أَوِ الْمُحْتَاجُ مِنْ مَكَانٍ آمِنٍ أَوْ إِنْسَانٍ نَافِعٍ، كَمَا تَرَى فِي اسْتِعْمَالِ أَفْعَالِهِ فِي جَمِيعِ الْآيَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى) (٩٣: ٦) (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) (١٨: ١٠) (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) (٨: ٧٢) (آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ) (١٢: ٦٩)
251
(أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) (١١: ٨٠) إِلَخْ، إِلَّا لَفْظَ الْمَأْوَى فَإِنَّهُ أُطْلِقَ عَلَى الْجَنَّةِ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ وَعَلَى النَّارِ فِي بِضْعَ عَشْرَةَ آيَةً مِنْهَا آيَةُ يُونُسَ هَذِهِ، وَفِي تَسْمِيَةِ دَارِ الْعَذَابِ مَأْوًى مَعْنًى دَقِيقٌ فِي الْبَلَاغَةِ دَخِيلٌ فِي أَعْمَاقِهَا، فَائِضٌ مِنْ جَمِيعِ أَرْجَائِهَا، يُشْعِرُكَ بِأَنَّ أُولَئِكَ الْمُطْمَئِنِّينَ بِالشَّهَوَاتِ، وَالْغَافِلِينَ عَنِ الْآيَاتِ، لَيْسَ لَهُمْ مَصِيرٌ يَلْجَئُونَ إِلَيْهِ بَعْدَ هَوْلِ الْحِسَابِ، إِلَّا جَهَنَّمَ دَارَ الْعَذَابِ، فَوَيْلٌ لِمَنْ كَانَتْ هَذِهِ الدَّارُ لَهُ كَالْمَلْجَأِ وَالْمَوْئِلِ؛ إِذْ لَا مَأْوَى لَهُ يَلْجَأُ إِلَيْهِ بَعْدَهَا.
هَذَا بَيَانٌ لِجَزَاءِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ بِقَسَمَيْهِ، وَالْقَارِئُ وَالسَّامِعُ لَهُ تَسْتَشْرِفُ نَفْسُهُ لِجَزَاءِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ وَالْعِلْمِ بِسَبَبِهِ، وَقَدْ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ) أَيْ يَهْدِيهِمْ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ بِهِ صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ فِي كُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي تُزَكِّي أَنْفُسَهُمْ وَتُهَذِّبُ أَخْلَاقَهُمْ، وَصَفَهُمْ أَوَّلًا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي هُوَ لَازِمُ الْإِيمَانِ وَمُغَذِّيهِ وَمُكَمِّلُهُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي؛ لِبَيَانِ صِنْفِهِمْ وَفَرِيقِهِمُ الْمُقَابِلِ لِلْفَرِيقِ الَّذِي ذُكِرَ قَبْلَهُمْ، وَأَخْبَرَ بِهِدَايَةِ إِيمَانِهِمْ لَهُمْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ وَالتَّجَدُّدِ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْ كَسْبِ الْكَفَّارِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ، وَجَعَلَ الْإِيمَانَ وَحْدَهُ سَبَبَ هَذِهِ الْهِدَايَةِ لِأَنَّهُ هُوَ الْبَاعِثُ النَّفْسِيُّ لَهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَهْدِيهِمُ الصِّرَاطَ
الْمُسْتَقِيمَ الَّذِي يَنْتَهِي بِهِمْ إِلَى دَارِ الْجَزَاءِ الَّتِي قَالَ فِي بَيَانِ حَالِهِمْ فِيهَا: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أَيْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِ مَقَاعِدِهِمْ مِنْ غُرُفَاتِ تِلْكَ الْجَنَّاتِ وَمِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا، وَتَقَدَّمَ لَفْظُ: جَنَّاتِ النَّعِيمِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ (٥: ٦٥) وَلَفْظُ: (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ) فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ (٧: ٤٣) وَأَمَّا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَعْنِي الْجَنَّةَ، فَقَدْ تَقَدَّمَ مُكَرَّرًا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ وَالتَّوْبَةِ. وَالْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي مَعْنَى الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ النَّاطِقَةِ بِأَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مَعًا؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ بِدُونِ الْإِسْلَامِ - وَهُوَ الْعَمَلُ - لَا يُوجَدُ إِلَّا فِي حَالِ مَنْ يَمُوتُ عَقِبَ إِيمَانِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنَ الْعَمَلِ، وَدُخُولُ مِثْلِ هَذَا الْجَنَّةِ لَا يُعَارِضُ هَذِهِ النُّصُوصَ الْعَامَّةَ لِلْأَحْوَالِ الْعَادِيَّةِ الْغَالِبَةِ.
(دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بَيَانٌ لِكَلِمَاتٍ ثَلَاثٍ، تُمَثِّلُ حَيَاةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ الرُّوحَانِيَّةِ فِي عَامَّةِ أَحْوَالِهِمْ مِنْ مَبَادِئِ دُعَاءِ رَبِّهِمْ وَتَنْزِيهِهِ، وَمَا يَدْعُونَهُ أَيْ يَطْلُبُونَهُ مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَامَتِهِ، وَمِنْ تَحِيَّتِهِ تَعَالَى وَتَحِيَّةِ مَلَائِكَتِهِ لَهُمْ، وَمِنْ تَحِيَّتِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ عِنْدَ تَزَاوُرِهِمْ أَوْ تَلَاقِيهِمْ، وَمِنْ حَمْدِهِمْ لَهُ فِي خَوَاتِيمِ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَهِيَ خَيْرُ الْكَلِمِ وَأَخْصَرَهُ وَأَعْذَبَهُ. الدَّعْوَى فِي اللُّغَةِ الدُّعَاءُ بِمَعَانِيهِ وَالدَّعَاوَةُ فِي الشَّيْءِ وَالِادِّعَاءُ لِلشَّيْءِ، فَالدُّعَاءُ لِلنَّاسِ هُوَ النِّدَاءُ وَالطَّلَبُ الْمُعْتَادُ بَيْنَهُمْ فِي دَائِرَةِ الْأَسْبَابِ الْمُسَخَّرَةِ لَهُمْ، وَالدُّعَاءُ التَّعَبُّدِيُّ لِلَّهِ نِدَاؤُهُ وَسُؤَالُهُ وَالرَّغْبَةُ فِيمَا عِنْدَهُ، الصَّادِرُ عَنِ الشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَالضَّرَاعَةِ لَهُ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَا سِيَّمَا دَفْعِ الضُّرِّ وَجَلْبِ النَّفْعِ
مِمَّا يَعْجِزُ عَنْهُ الْعَبْدُ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ، لِلْإِيمَانِ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ الْمُسَخِّرُ لَهَا وَالْهَادِي إِلَيْهَا، وَالْقَادِرُ عَلَى تَصْرِيفِهَا، وَعَلَى الْمَنِّ بِهَا مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهَا، وَالدَّعْوَى لِلشَّيْءِ تَشْمَلُ فِي اللُّغَةِ تَمَنِّيَهُ وَقَوْلَهُ وَطَلَبَهُ مِنْ مَالِكِهِ، وَادِّعَاءَ مَلَكِيَّتِهِ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا لِلَفْظِ الدَّعْوَى تَصِحُّ إِرَادَتُهَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا الْأَخِيرَ مِنْهَا. وَقَوْلُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ: إِنَّ مِنْ مَعَانِي الدُّعَاءِ الْعِبَادَةَ لَا يَصِحُّ عَلَى إِطْلَاقِهِ فِي الْعِبَادَةِ الشَّرْعِيَّةِ التَّكْلِيفِيَّةِ، فَإِنَّ الصِّيَامَ لَا يُسَمَّى دُعَاءً لُغَةً وَلَا شَرْعًا، وَإِنَّمَا الدُّعَاءُ هُوَ مُخُّ الْعِبَادَةِ الْفِطْرِيَّةِ، وَأَعْظَمُ أَرْكَانِ التَّكْلِيفِيَّةِ
مِنْهَا، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، فَكُلُّ دُعَاءٍ شَرْعِيٍّ عِبَادَةٌ، وَمَا كُلُّ عِبَادَةٍ شَرْعِيَّةٍ دُعَاءٌ. وَالتَّسْبِيحُ تَنْزِيهُ اللهِ تَعَالَى وَتَقْدِيسُهُ، وَكَلِمَةُ (اللهُمَّ) نِدَاءٌ لَهُ عَزَّ وَجَلَّ أَصْلُهُ يَا أَللَّهُ.
وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَبْدَءُونَ كُلَّ دُعَاءٍ وَثَنَاءٍ يُنَاجُونَ بِهِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ النَّعِيمُ الرُّوحَانِيُّ، وَكُلَّ طَلَبٍ لِكَرَامَةٍ أَوْ لَذَّةٍ مِنْ لَذَّاتِ الْجَنَّةِ وَهُوَ النَّعِيمُ الْجُسْمَانِيُّ، بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ، أَيْ تَنْزِيهًا وَتَقْدِيسًا لَكَ يَا أَللَّهُ، قِيلَ: أَوْ بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ بِلَفْظٍ آخَرَ، وَأَنَّ تَحِيَّتَهُمْ فِيهَا كَلِمَةُ: سَلَامٍ الدَّالَّةُ عَلَى السَّلَامَةِ مِنَ النَّقْصِ وَالْآثَامِ، وَهِيَ تَحِيَّةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا، وَهَذِهِ التَّحِيَّةُ تَكُونُ مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ (٣٣: ٤٤) وَفِي سُورَةِ يس: (سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) (٣٦: ٥٨) وَتَكُونُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ عِنْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ: (وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) (٩: ٧٣) وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٦: ٣٢) وَفِي كُلِّ وَقْتٍ يَدْخُلُونَ فِيهِ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ: (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (١٣: ٢٣ و٢٤) وَتَكُونُ مِنْهُمْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا) (١٩: ٦٢) وَفِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا) (٥٦: ٢٥ و٢٦) فَإِنَّ اللَّغْوَ وَالتَّأْثِيمَ مِنْ شَأْنِ كَلَامِ الْبَشَرِ، فَلَمَّا نَفَى وُقُوعَهُمَا مِنْهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَاسْتَدْرَكَ عَلَى نَفْيِهِ بِاسْتِثْنَاءِ كَلِمَةِ سَلَامٍ مُنْقَطِعًا، تَرَجَّحَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ سَلَامَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ أَوْ عَامًّا يَشْمَلُهُ. وَالْجُمْلَةُ فِي آيَتِنَا: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ تَشْمَلُ الْأَنْوَاعَ كُلَّهَا، وَإِنَّهُ لَإِيجَازٌ بَلِيغٌ غَفَلَ عَنْهُ مَنْ نَعْرِفُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ لِغَفْلَتِهِمْ عَنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْحَمْدَ لَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ هُوَ آخِرُ كُلِّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ دُعَاءٍ يُنَاجُونَ بِهِ اللهَ تَعَالَى، وَمَطْلَبٍ يَطْلُبُونَهُ مِنْ إِحْسَانِهِ وَإِكْرَامِهِ، كَمَا أَنَّهُ أَوَّلُ ثَنَائِهِمْ عَلَيْهِ عِنْدَ دُخُولِهَا. كَمَا قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ الزُّمَرِ بَعْدَ آيَةِ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) (٣٩: ٧٤)
وَآخِرُ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ
أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (٣٩: ٧٥).
فَعَلَى كُلِّ قَارِئٍ لِهَذِهِ الْآيَةِ الْجَامِعَةِ - وَقَدْ فَسَّرْنَاهَا لَهُ هُنَا بِمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ فِي السُّوَرِ الْأُخْرَى - أَنْ يُمَثِّلَ لِنَفْسِهِ حَالَةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ، الْمُبَيِّنَةِ لِنَعِيمِهِمُ الرُّوحَانِيِّ بِلِقَاءِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمُنَاجَاتِهِ فِي جَمِيعِ أَطْوَارِهِمْ، وَلِمَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَلَائِكَتِهِ وَبَيْنَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَمِنْهُ يَعْلَمُونَ أَنَّ مُعْظَمَ نَعِيمِ الْجَنَّةِ رُوحَانِيٌّ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَعِدُّوا لَهَا بِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَتَرْقِيَةِ أَرْوَاحِهِمْ، وَأَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَنْ يَكُونُوا أَهْلًا لَهَا بِالِاتِّكَالِ عَلَى التَّوَسُّلَاتِ بِأَشْخَاصِ الْأَوْلِيَاءِ وَالتَّمَنِّي لِشَفَاعَاتِهِمْ (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) (٤: ١٢٣ و١٢٤) وَ (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا) (١٧: ٧٢).
وَمِنَ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِي الْآيَةِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَرْفُوعًا عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ: ((إِذَا قَالُوا: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ - أَتَاهُمْ مَا اشْتَهَوْا مِنَ الْجَنَّةِ)) وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ. فَالْكَلِمَةُ عَلَامَةٌ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَخَدَمِهِمْ فِي إِحْضَارِ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ، فَإِذَا أَكَلُوا حَمِدُوا اللهَ تَعَالَى. وَهَذَا مِمَّا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ مَا تَقَدَّمَ سَوَاءٌ أَصَحَّتِ الرِّوَايَةُ أَمْ لَا.
(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجْلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضَرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي بَيَانِ شَأْنٍ مِنْ شُئُونِ الْبَشَرِ وَغَرَائِزِهِمْ فِيمَا يَعْرِضُ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا
254
مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَنَفْعٍ وَضُرٍّ، وَشُعُورِهِمْ فِيهِ بِالْحَاجَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَاللُّجُوءِ إِلَى دُعَائِهِ لِأَنْفُسِهِمْ وَعَلَيْهَا، وَاسْتِعْجَالِهِمُ الْأُمُورَ قَبْلَ أَوَانِهَا، وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ وَحُجَّةٌ عَلَى مَا يَأْتُونَ مِنْ شِرْكٍ، وَمَا يُنْكِرُونَ مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ، مُتَمَّمٌ لِمَا قَبْلَهُ وَلِذَلِكَ عَطَفَهُ عَلَيْهِ.
تَعْجِيلُ الشَّيْءِ تَقْدِيمُهُ عَلَى أَوَانِهِ الْمَضْرُوبِ أَوِ الْمُقَدِّرِ لَهُ أَوِ الْمَوْعُودِ بِهِ، وَالِاسْتِعْجَالُ بِهِ طَلَبُ التَّعْجِيلِ، وَالْعَجَلُ مِنْ غَرَائِزِ الْإِنْسَانِ الْقَابِلَةِ لِلتَّأْدِيبِ وَالتَّثْقِيفِ، كَيْ لَا تَطْغَى بِهِ فَتُورِدَهُ الْمَوَارِدَ. قَالَ تَعَالَى: (وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا) (١٧: ١١) وَقَالَ تَعَالَى: (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ) (٢١: ٣٧) فَأَمَّا اسْتِعْجَالُهُ بِالْخَيْرِ وَالْحَسَنَةِ فَلِشِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى مَنَافِعِهِ وَقِلَّةِ صَبْرِهِ عَنْهَا، وَأَمَّا اسْتِعْجَالُهُ بِالضُّرِّ وَالسَّيِّئَةِ فَلَا يَكُونُ لِذَاتِهِ، بَلْ لِسَبَبٍ عَارِضٍ كَالْغَضَبِ وَالْجَهْلِ وَالْعِنَادِ وَالِاسْتِهْزَاءِ وَالتَّعْجِيزِ، وَقَلَّمَا يَكُونُ مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ إِلَّا لِلنَّجَاةِ مِمَّا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، كَمَا يَفْعَلُ الْيَائِسُونَ مِنَ الْحَيَاةِ، أَوِ النَّجَاةِ مِنْ ذُلٍّ وَخِزْيٍ أَوْ أَلَمٍ لَا يُطَاقُ، إِذْ يَتَقَحَّمُونَ الْمَهَالِكَ أَوْ يَبْخَعُونَ أَنْفُسَهُمُ انْتِحَارًا.
قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ الَّذِي يَسْتَعْجِلُونَهُ بِهِ، كَاسْتِعْجَالِ مُشْرِكِي مَكَّةَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعَذَابِ الَّذِي أَنْذَرَهُمْ نُزُولَهُ بِهِمْ إِجْمَالًا، بِمَا قَصَّهُ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي أَقْوَامِ الرُّسُلِ الْمُعَانِدِينَ وَهُوَ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ وَفِيمَا دُونَهُ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا كَخِزْيِهِمْ وَالتَّنْكِيلِ بِهِمْ وَنَصْرِهِ عَلَيْهِمْ، أَوْ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَعَذَابِ الْآخِرَةِ. وَقَدْ حَكَى اللهُ تَعَالَى كُلَّ ذَلِكَ عَنْهُمْ كَقَوْلِهِ: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ) (١٣: ٦) الْآيَةَ (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً) (٢٩: ٥٣) وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ: (وَإِذْ قَالُوا اللهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (٨: ٣٢) وَقَالَ فِي السَّاعَةِ: (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ) (٤٢: ١٨) وَفِي الْعَذَابِ: (يَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) (٢٩: ٥٤) وَكُلُّ هَذِهِ الضُّرُوبِ مِنَ الِاسْتِعْجَالِ كَانُوا يَقْصِدُونَ بِهَا تَعْجِيزَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُبَالَغَةً فِي التَّكْذِيبِ، وَاسْتِهْزَاءً بِالْوَعِيدِ، وَقَوْلُهُ: (اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ) مَعْنَاهُ كَاسْتِعْجَالِهِمْ بِالْخَيْرِ الَّذِي يَطْلُبُونَهُ لِذَاتِهِ بِدُعَاءِ اللهِ تَعَالَى أَوْ بِمُحَاوَلَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَظُنُّونَ أَنَّهَا قَدْ تَأْتِي بِهِ قَبْلَ أَوَانِهِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجْلُهُمْ، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ الْجُمْلَةَ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ أَيْ لَقَضَى اللهُ إِلَيْهِمْ أَجْلَهُمْ، وَقَرَأَهَا الْجُمْهُورُ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ لِلْعِلْمِ بِالْفَاعِلِ وَقَضَاءُ الْأَجَلِ إِلَيْهِمُ انْتِهَاؤُهُ إِلَيْهِمْ بِإِهْلَاكِهِمْ قَبْلَ وَقْتِهِ الطَّبِيعِيِّ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ وَاسْتَعْجَلُوهُمْ بِالْعَذَابِ مِنْ قَبْلِهِمْ. وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى
255
أَرْحَمُ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ بَعَثَ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا خَاتَمَ النَّبِيِّينَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، بِالْهِدَايَةِ الدَّائِمَةِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَقَضَى بِأَنْ يُؤْمِنَ بِهِ قَوْمُهُ مِنَ الْعَرَبِ، وَيَحْمِلُوا دِينَهُ إِلَى جَمِيعِ أُمَمِ الْعَجَمِ وَأَنْ يُعَاقِبَ الْمُعَانِدِينَ مِنْ قَوْمِهِ فِي الدُّنْيَا بِمَا يَكُونُ تَأْدِيبًا لِسَائِرِهِمْ، بِمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) (٩: ١٤) الْآيَةَ، وَيُؤَخِّرُ سَائِرَ الْكَافِرِينَ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَهُوَ لَا يَقْضِي إِلَيْهِمْ أَجْلَهُمْ بِإِهْلَاكِهِمْ وَاسْتِئْصَالِهِمْ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَذَابَ إِذَا نَزَلَ يَكُونُ عَامًّا، بَلْ يَذَرُهُمْ وَمَا هُمْ فِيهِ إِلَى نِهَايَةِ آجَالِهِمْ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: (فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) الطُّغْيَانُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الشَّرِّ مِنْ كُفْرٍ وَظُلْمٍ وَعُدْوَانٍ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَطُغْيَانُ السَّيْلِ وَالْبَحْرِ وَالدَّمِ مُسْتَعَارٌ مِنْهُ، وَالْعَمَهُ (كَالتَّعَبِ) : التَّرَدُّدُ وَالتَّحَيُّرُ فِي الْأَمْرِ أَوْ فِي الشَّرِّ، وَالْمَعْنَى: فَنَتْرُكُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنْ طُغْيَانٍ فِي الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، يَتَرَدَّدُونَ فِيهِ مُتَحَيِّرِينَ لَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا لِلْخُرُوجِ مِنْهُ، لَا نُعَجِّلُ لَهُمُ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا بِاسْتِئْصَالِهِمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ تَعَالَى فِي جَمَاعَتِهِمْ بِنَصْرِ رَسُولِهِ عَلَيْهِمْ، وَفِي أَفْرَادِهِمْ بِقَتْلِ بَعْضِهِمْ وَمَوْتِ بَعْضٍ، وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ مِنْهُمْ، أَيْ هَذِهِ سُنَّتُنَا فِيهِمْ لَا نُعَجِّلُ شَيْئًا قَبْلَ أَوَانِهِ الْمُقَدَّرِ لَهُ بِمُقْتَضَى عِلْمِنَا وَحِكْمَتِنَا.
وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ عَامٌّ غَيْرُ خَاصٍّ بِالْكَافِرِينَ تَقْدِيرُهُ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ الَّذِي يَسْتَعْجِلُونَهُ بِذُنُوبِهِمُ الْمُقْتَضِيَةِ لَهُ مِنْ ظُلْمٍ وَفَسَادٍ فِي الْأَرْضِ وَفُسُوقٍ لَأَهْلَكَهُمْ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) (٣٥: ٤٥) الْآيَةَ. وَيَدْخُلُ فِي الْمَعْنَى هُنَا دُعَاؤُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ عِنْدَ الْيَأْسِ وَدُعَاءُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ عِنْدَ الْغَضَبِ، لَوْ يُعَجِّلُهُ اللهُ لَهُمْ لَأَهْلَكَهُمْ أَيْضًا (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ) (١٣: ١٤) بِرَبِّهِمْ أَوْ بِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا يُخَالِفُ شَرْعَهُ وَسُنَنَهُ فِي خَلْقِهِ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (١٣: ١٤) أَيْ ضَيَاعٍ لَا يَسْتَجِيبُهُ اللهُ لَهُمْ، لِحِلْمِهِ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ.
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا، هَذَا بَيَانٌ لِغَرِيزَةِ الْإِنْسَانِ الْعَامَّةِ وَشَأْنِهِ فِيمَا يَمَسُّهُ مِنَ الضُّرِّ، يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ اسْتِعْجَالَ أُولَئِكَ النَّاسِ بِالشَّرِّ، تَعْجِيزًا لِنَبِيِّهِمْ وَمُبَالَغَةً فِي تَكْذِيبِهِ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ طُغْيَانِهِمُ الَّذِي خَرَجُوا فِيهِ عَنْ مُقْتَضَى طَبِيعَتِهِمْ، فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَصَابَهُ مِنَ الضُّرِّ مَا يَشْعُرُ بِشِدَّةِ أَلَمِهِ أَوْ خَطَرِهِ مِنْ إِشْرَافٍ عَلَى غَرَقٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّهْلُكَةِ، أَوْ شَدَّةِ مَسْغَبَةٍ، أَوْ إِعْضَالِ دَاءٍ دَعَانَا مُلِحًّا فِي كَشْفِهِ عَنْهُ فِي كُلِّ حَالٍ يَكُونُ عَلَيْهِ: دَعَانَا مُضْطَجِعًا لِجَنْبِهِ، أَوْ قَاعِدًا فِي كَسْرِ بَيْتِهِ، أَوْ قَائِمًا عَلَى قَدَمَيْهِ حَائِرًا فِي أَمْرِهِ، فَهُوَ لَا يَنْسَى حَاجَتَهُ إِلَى رَحْمَةِ رَبِّهِ، مَا دَامَ يَشْعُرُ بِمَسِّ الضُّرِّ وَلَذْعِهِ لَهُ، يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ الْعَجْزَ عَنِ النَّجَاةِ مِنْهُ، قَدَّمَ مِنْ هَذِهِ الْحَالَاتِ الثَّلَاثِ مَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ فِيهَا أَشَدَّ عَجْزًا وَأَقْوَى شُعُورًا بِالْحَاجَةِ إِلَى رَبِّهِ فَالَّتِي تَلِيهَا فَالَّتِي تَلِيهَا، وَثَمَّ حَالَةٌ رَابِعَةٌ هِيَ سَعْيُهُ لِدَفْعِ الضُّرِّ مِنْ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ، فَلَمْ تُذْكَرْ
256
لِأَنَّ الْإِنْسَانَ غَيْرَ الْمُؤْمِنِ قَلَّمَا يَتَذَكَّرُ مَا أُودِعَ فِي فِطْرَتِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِرَبِّهِ ذِي السُّلْطَانِ الْغَيْبِيِّ الَّذِي هُوَ فَوْقَ جَمِيعِ الْأَسْبَابِ، وَيَشْعُرُ بِحَاجَتِهِ إِلَى اللُّجُوءِ إِلَيْهِ، وَدُعَائِهِ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِ، إِلَّا عِنْدَ عَجْزِهِ عَنِ الْأَسْبَابِ الْمُسَخَّرَةِ لَهُ وَالْمُشْرِكُونَ بِاللهِ تَعَالَى أَقَلُّ النَّاسِ تَذَكُّرًا لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ عِنْدَ عَجْزِهِمْ عَنِ الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ الْمَعْلُومَةِ يَلْجَئُونَ إِلَى مَظِنَّةِ الْأَسْبَابِ الْمَوْهُومَةِ، وَهِيَ الْمَخْلُوقَاتُ الْمَعْبُودَةُ الَّتِي يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لَهَا سُلْطَانًا غَيْبِيًّا فَوْقَ الْأَسْبَابِ، مِنْ جِنْسِ سُلْطَانِ الرَّبِّ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ إِمَّا لِذَاتِهَا وَإِمَّا بِمَا لَهَا مِنَ الْمَكَانَةِ عِنْدَ اللهِ، وَالْمَثَلُ مَضْرُوبٌ هُنَا لِهَؤُلَاءِ.
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ، كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ
يُقَالَ: ((فَإِذَا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ)) ؛ إِذْ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِلشَّرْطِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَهُوَ فِي جِنْسِ الْإِنْسَانِ وَمُقْتَضَى طَبْعِهِ لَا فِي فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ، وَنُكْتَةُ هَذَا التَّعْبِيرِ أَنْ يَتَصَوَّرَ الْقَارِئُ وَالسَّامِعُ لِلْآيَةِ كَشْفَ الضُّرِّ بَعْدَ الدُّعَاءِ وَاقِعًا مُشَاهَدًا مِنْ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَيَرَى مَا يَفْعَلُ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْعِبْرَةِ. أَيْ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ الَّذِي دَعَانَا لَهُ فِي حَالِ شُعُورِهِ بِعَجْزِهِ عَنْ كَشْفِهِ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ، مَرَّ وَمَضَى فِي شُئُونِهِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ طَرِيقَتِهِ فِي الْغَفْلَةِ عَنْ رَبِّهِ وَالْكُفْرِ بِهِ، كَأَنَّ الْحَالَ لَمْ تَتَغَيَّرْ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ، وَلَمْ نَكْشِفْ عَنْهُ ضُرَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ كَهَذَا النَّحْوِ مِنْ مَعْرِفَةِ اللهِ وَالْإِخْلَاصِ فِي دُعَائِهِ وَحْدَهُ فِي الشِّدَّةِ، وَنِسْيَانِهِ وَالْكُفْرِ بِهِ بَعْدَ كَشْفِهَا، زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مِنْ طُغَاةِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنْ أَعْمَالِ الشِّرْكِ، حَتَّى بَلَغَ مِنْ عِنَادِهِمْ لِلرَّسُولِ وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِمَا أَنْذَرَهُمْ مِنْ عَذَابٍ أَنِ اسْتَعْجَلُوهُ بِالْعَذَابِ؛ وَالْإِسْرَافُ رَدِيفُ الطُّغْيَانِ وَأَخُوهُ، وَسَيَأْتِي مِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ بَعْدَ عَشْرِ آيَاتٍ بِبَيَانٍ أَبْلَغَ.
وَقَدْ أُسْنِدَ التَّزْيِينُ هُنَا إِلَى الْمَفْعُولِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالْعِبْرَةِ دُونَ فَاعِلِهِ، وَسَبَقَ مِثْلُهُ فِي آلِ عِمْرَانَ ٣: ١٤ وَالْأَنْعَامِ ٦: ٤٣ وَالتَّوْبَةِ ٩: ٣٧ وَقَدْ أُسْنِدَ إِلَى الشَّيْطَانِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالْأَنْفَالِ، وَأُسْنِدَ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي الْأَنْعَامِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: (زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) (١٠٨) وَبَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ نُكْتَةَ اخْتِلَافِ الْإِسْنَادِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ رَاجِعْ ص ٥٥٧ وَمَا بَعْدَهَا ج ٧ ط الْهَيْئَةِ.
(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ).
257
بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ شَأْنَهُ فِي النَّاسِ وَشَأْنَهُمْ مَعَهُ بِمُقْتَضَى الطَّبْعِ الْبَشَرِيِّ وَطُغْيَانِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ؛ لِيَعْتِبَرَ بِهِ مُشْرِكُو مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَعْقِلُهُ؛ إِذْ هُوَ مِنَ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ الْمُسْتَمَدِّ مِنْ طَبْعِ الْإِنْسَانِ وَسِيرَتِهِ، وَقَفَّى عَلَيْهِ فِي هَاتَيْنِ
الْآيَتَيْنِ بِمِصْدَاقِهِ مِنْ سِيرَةِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ وَسُنَّتِهِ تَعَالَى فِيهِمْ فَقَالَ عَاطِفًا لَهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) الْخِطَابُ لِأُمَّةِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وُجِّهَ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ إِلَى قَوْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَهْلِ وَطَنِهِ مَكَّةَ إِذْ أُنْزِلَتِ السُّورَةُ فِيهَا، فَهُوَ الْتِفَاتٌ يُفِيدُ مَزِيدَ التَّنْبِيهِ وَتَوْجِيهَ أَذْهَانِ الْمُخَاطَبِينَ لِمَوْضُوعِهِ، وَالْقُرُونُ: الْأُمَمُ، وَهُوَ جَمْعُ قَرَنٍ بِالْفَتْحِ، وَمَعْنَاهُ الْقَوْمُ الْمُقْتَرِنُونَ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ ذَكَرَ إِهْلَاكُ الْقُرُونِ فِي آيَاتٍ عَدِيدَةٍ مِنَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، وَبَدَأَ هَذِهِ بِتَأْكِيدِ الْقَسَمِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِاللَّامِ " وَلَقَدْ " وَصَرَّحَ بِأَنَّ سَبَبَ هَلَاكِهِمْ وُقُوعُ الظُّلْمِ مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا) (١٨: ٥٩) وَلَمَّا ظَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ فِعْلٍ لِوُقُوعِ غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ سَبَبٌ لَهُ، وَالْمُرَادُ بِالْقُرَى الْأُمَمُ وَالْقُرُونُ كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا، وَقَالَ فِي سُورَةِ هُودٍ: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١١: ١٠٢) وَقَدْ بَعَثَ اللهُ الرُّسُلَ فِي أَهْلِ الْحَضَارَةِ دُونَ الْهَمَجِ.
وَإِهْلَاكُ اللهِ الْأُمَمَ بِالظُّلْمِ نَوْعَانِ:
(أَحَدُهُمَا) هُوَ مُقْتَضَى سُنَّتِهِ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، وَهِيَ أَنَّ الظُّلْمَ سَبَبٌ لِفَسَادِ الْعُمْرَانِ وَضَعْفِ الْأُمَمِ، وَلِاسْتِيلَاءِ الْقَوِيَّةِ مِنْهَا عَلَى الضَّعِيفَةِ اسْتِيلَاءً مُوَقَّتًا، إِنْ كَانَ إِفْسَادُ الظُّلْمِ لَهَا عَارِضًا لَمْ يُجْهِزْ عَلَى اسْتِعْدَادِهَا لِلْحَيَاةِ وَاسْتِعَادَتِهَا لِلِاسْتِقْلَالِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: (فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ) (٢: ٢٤٣) مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، أَوْ دَائِمًا إِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ لِلْحَيَاةِ حَتَّى تَنْقَرِضَ أَوَ تُدْغَمَ فِي الْغَالِبَةِ. كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ: (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ) (٢١: ١١) الْآيَاتِ - وَهَذَا النَّوْعُ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِلظُّلْمِ بِحَسْبِ سُنَنِ اللهِ فِي الْبَشَرِ، وَهُوَ قِسْمَانِ: ظُلْمُ الْأَفْرَادِ لِأَنْفُسِهِمْ بِالْفُسُوقِ وَالْإِسْرَافِ فِي الشَّهَوَاتِ الْمُضْعِفَةِ لِلْأَبْدَانِ الْمُفْسِدَةِ لِلْأَخْلَاقِ، وَظُلْمُ الْحُكَّامِ الَّذِي يُفْسِدُ بَأْسَ الْأُمَّةِ فِي جُمْلَتِهَا وَهَذِهِ السُّنَّةُ دَائِمَةٌ فِي الْأُمَمِ، وَلَهَا حُدُودٌ وَمَوَاقِيتُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهَا وَأَحْوَالِ أَعْدَائِهَا، هِيَ آجَالُهَا الْمُشَارُ إِلَيْهَا فِي الْآيَةِ (٤٩) الْآتِيَةِ وَأَمْثَالِهَا.
(ثَانِيهِمَا) عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ لِلْأَقْوَامِ الَّتِي بَعَثَ اللهُ تَعَالَى فِيهَا رُسُلًا لِهِدَايَتِهَا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَأَعْظَمُ أَرْكَانِهِ الْعَدْلُ، فَعَانَدُوا الرُّسُلَ، فَأَنْذَرُوهُمْ عَاقِبَةَ
الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ بَعْدَ مَجِيءِ الْآيَاتِ، وَهُوَ مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: (وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِمْ فِيمَا
258
جَاءُوهُمْ بِهِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا، أَيْ وَمَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِمْ وَلَا مُقْتَضَى اسْتِعْدَادِهِمْ أَنْ يُؤْمِنُوا؛ لِأَنَّهُمْ مُرِّنُوا عَلَى الْكُفْرِ، وَاطْمَأَنُّوا بِهِ، وَصَارَتْ لَذَّاتُهُمْ وَمَصَالِحُهُمُ الْقَوْمِيَّةُ مِنَ الْجَاهِ وَالرِّيَاسَةِ وَالسِّيَاسَةِ مُقْتَرِنَةً بِأَعْمَالِهِ الْإِجْرَامِيَّةِ مِنْ ظُلْمٍ وَفِسْقٍ وَفُجُورٍ، كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ: تَذْيِيلٌ لِإِنْذَارِ مُشْرِكِي مَكَّةَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ، وَتَقْدِيرُهُ كَالَّذِي مَرَّ قَبْلَهُ فِي الْمُسْرِفِينَ، وَرَاجِعْ تَفْسِيرَ: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) (٧: ٤٠) وَتَفْسِيرَ: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (٧: ٨٤) مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ. م
(ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ) الْخِطَابُ مَعْطُوفٌ عَلَى الَّذِي قَبْلَهُ، أَيْ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ كُلِّهِمْ بِمَا آتَيْنَاكُمْ فِي هَذَا الدِّينِ مِنْ أَسْبَابِ الْمُلْكِ وَالْحُكْمِ وَقَدَّرْنَاهُ لَكُمْ بِاتِّبَاعِهِ، إِذْ كَانَ الرَّسُولُ الَّذِي بِهِ جَاءَكُمْ هُوَ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، فَلَا يُوجَدُ بَعْدَ أُمَّتِهِ أُمَّةٌ أُخْرَى لِنَبِيٍّ آخَرَ، وَالْخَلَائِفُ جَمْعُ خَلِيفَةٍ وَهُوَ مَنْ يَخْلُفُ غَيْرَهُ فِي الشَّيْءِ أَيْ يَكُونُ خَلَفَهُ فِيهِ، وَلَقَدْ كَانَ لِتِلْكَ الْأُمَمِ دُوَلٌ وَحُكْمٌ فِي الْأَرْضِ، كَمِلْكِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ وَالْمَجُوسِ، وَالْوَثَنِيِّينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَالْفَرَاعِنَةِ وَالْهُنُودِ، فَاللهُ يُبَشِّرُ قَوْمَ مُحَمَّدٍ وَأُمَّةَ مُحَمَّدٍ بِأَنَّهَا سَتَخْلُفُهُمْ فِي الْأَرْضِ، إِذَا آمَنَتْ بِهِ وَاتَّبَعَتِ النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (٢٤: ٥٥) الْآيَةَ، وَقَدْ عَلَّلَ هَذَا الِاسْتِخْلَافَ عِنْدَ الْإِخْبَارِ الْأَوَّلِ بِهِ هُنَا بِقَوْلِهِ: (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) أَيْ لِنَرَى وَنُشَاهِدَ أَيَّ عَمَلٍ تَعْمَلُونَ فِي خِلَافَتِكُمْ، فَنُجَازِيَكُمْ بِهِ بِمُقْتَضَى سُنَّتِنَا فِيمَنْ قَبْلَكُمْ، فَإِنَّ هَذِهِ الْخِلَافَةَ إِنَّمَا جَعَلَهَا لَكُمْ لِإِقَامَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ فِي الْأَرْضِ وَتَطْهِيرِهَا مِنْ رِجْسِ الشِّرْكِ وَالْفِسْقِ، لَا لِمُجَرَّدِ التَّمَتُّعِ بِلَذَّةِ الْمُلْكِ، كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ آيَاتِ الْإِذْنِ لَهُمْ بِالْقِتَالِ: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) (٢٢: ٤١) فَأَعْلَمَهُمْ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ أَمْرَ بَقَاءِ خِلَافَتِهِمْ مَنُوطٌ بِأَعْمَالِهِمْ، وَأَنَّهُ تَعَالَى يَكُونُ نَاظِرًا إِلَى هَذِهِ الْأَعْمَالِ لَا يَغْفُلُ عَنْهُمْ فِيهَا، حَتَّى لَا يَغْتَرُّوا بِمَا سَيَنَالُونَهُ، وَيَظُنُّوا أَنَّهُ
بَاقٍ لَهُمْ لِذَاتِهِمْ أَوْ لِنِسْبَتِهِمْ إِلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَنَّهُمْ يَتَفَلَّتُونَ مِنْ سُنَّتِهِ فِي الظَّالِمِينَ وَقَدْ بَيَّنَهَا لَهُمْ آنِفًا، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: (أَوْ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينِ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) (٧: ١٠٠) الْآيَةَ، وَقَدْ قَصَّ عَلَيْنَا فِيهَا مَا حَذَّرَ بِهِ قَوْمَ مُوسَى عِنْدَمَا وَعَدَهُمْ عَلَى لِسَانِهِ بِإِرْثِ الْأَرْضِ الَّتِي وَعَدَ بِهَا آبَاءَهُمْ، فِي إِثْرِ مَا شَكَوْا إِلَيْهِ مِنْ إِيذَاءِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ لَهُمْ قَبْلَ مَجِيئِهِ وَبَعْدَهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ: (قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (٧: ١٢٩).
وَلْيُرَاجِعِ الْقَارِئُ تَفْسِيرَ آيَةِ الْأَعْرَافِ فِي الْجُزْءِ التَّاسِعِ، وَتَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي اسْتِخْلَافِ الْأُمَمِ الْعَامِّ مِنْ آخَرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ)
الْآيَةَ رَقْمَ ١٦٥ ص ٢٢٠ ج ٨ ط الْهَيْئَةِ وَقَدْ صَدَقَ اللهُ وَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ لِلْمُسْلِمِينَ كَغَيْرِهِمْ، بِمَا تَبَيَّنَ بِهِ إِعْجَازُ كِتَابِهِ وَصَدَقَ رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَكَوْنُهُ رَبَّى أُمَّتَهُ بِمَا عَلَّمَهُ رَبُّهُ مِنْ هِدَايَةِ الدِّينِ وَطَبَائِعِ الْعُمْرَانِ وَسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ، الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهَا هُوَ وَلَا قَوْمُهُ الْأُمِّيُّونَ، بَلْ لَمْ تَصِرْ عِلْمًا مُدَوَّنًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِعِدَّةِ قُرُونٍ؛ لِغَفْلَةِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَمَّا فِيهِ مِنْ أُصُولِهَا وَقَوَاعِدِهَا الصَّرِيحَةِ كَهَذِهِ الْآيَاتِ. وَقَدْ كَانَ أَوَّلَ مَنْ دَوَّنَهَا الْمُؤَرِّخُ الْفَقِيهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَلْدُونَ فِي مُقَدِّمَةِ تَارِيخِهِ؛ مُؤَمِّلًا أَنْ يُعْنَى بِهَا مَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَيَأْتُوا بِتَوْسِيعِ مَا بَدَأَ بِهِ مِنْ مَبَاحِثِهَا، وَلَكِنَّ الْعِلْمَ وَالْحُكْمَ فِي دَوْلَةِ الْإِسْلَامِ، كَانَ دَاخِلًا فِي طَوْرِ الِانْحِطَاطِ وَالِاضْمِحْلَالِ، ثُمَّ ارْتَقَى الْإِفْرِنْجُ فِيهِمَا فَتَرْجَمُوا تِلْكَ الْمُقَدِّمَةَ بِلُغَتِهِمُ الْعِلْمِيَّةِ كُلِّهَا، وَأَخَذُوا مِنْهَا عِدَّةَ عُلُومٍ فِي سُنَنِ الْعُمْرَانِ، وَنَحْنُ نَأْخُذُهَا الْيَوْمَ عَنْهُمْ غَافِلِينَ عَنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ عُلَمَاءَ السُّوءِ الْمُقَلِّدِينَ حَجَبُونَا عَنْ هِدَايَتِهِ، بَلْ حَرَّمُوهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ اسْتِغْنَاءً عَنْهُ بِكُتُبِ مَذَاهِبِهِمْ، فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ، وَلَنْ يَكْشِفَ عَنْهُمُ انْتِقَامَهُ حَتَّى يَعُودُوا إِلَى هِدَايَتِهِ الَّتِي اسْتَخْلَفَ بِهَا سَلَفَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَلَئِنْ عَادُوا إِلَيْهَا بِإِقَامَةِ سُنَنِ الْقُرْآنِ، لَيُتِمَّنَّ لَهُمْ وَعْدَهُ بِخِلَافَةِ الْأَرْضِ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ، فَبِقَدْرِ إِقَامَةِ هَذِهِ السُّنَنِ يَكُونُ الْمُلْكُ وَالسُّلْطَانُ. فَمَنْ ذَا الَّذِي يُقِيمُهَا.
(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ).
بُدِئَتِ السُّورَةُ بِالْكِتَابِ الْحَكِيمِ (الْقُرْآنِ) وَإِنْكَارِ الْمُشْرِكِينَ لِلْوَحْيِ بِشُبْهَتِهِمُ الْمَعْرُوفَةِ، وَسِيقَتْ بَعْدَهَا الْآيَاتُ فِي إِقَامَةِ الْحُجَجِ عَلَيْهِمْ مِنْ خَلْقِ الْعَالَمِ عُلْوِيِّهِ وَسُفْلِيِّهِ، وَمِنْ طَبِيعَةِ الْإِنْسَانِ وَتَارِيخِهِ،
260
مُتَضَمِّنَةً لِإِثْبَاتِ أَهَمِّ أَرْكَانِ الدِّينِ وَهُوَ الْوَحْيُ وَالتَّوْحِيدُ وَالْبَعْثُ، وَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي شَأْنِ الْكِتَابِ نَفْسِهِ وَتَفْنِيدِ مَا اقْتَرَحَهُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الرَّسُولِ فِيهِ، وَحُجَّتِهِ الْبَالِغَةِ عَلَيْهِمْ فِي كَوْنِهِ وَحْيًا مِنَ اللهِ تَعَالَى.
(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ) فِي الْآيَةِ الْتِفَاتٌ عَنْ خِطَابِ هَؤُلَاءِ الْمَوْعُوظِينَ إِلَى الْغَيْبَةِ عَنْهُمْ، وَتَوْجِيهٌ لَهُ إِلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُسْلُوبُ الِالْتِفَاتِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ جِدًّا، وَفَائِدَتُهُ الْعَامَّةُ تَلْوِينُ الْكَلَامِ بِمَا يُجَدِّدُ الِانْتِبَاهَ لَهُ وَالتَّأَمُّلَ فِيهِ، وَفِي كُلِّ الْتِفَاتٍ فَائِدَةٌ خَاصَّةٌ، لَوْ أَرَدْنَا بَيَانَ مَا نَفْهَمُهُ مِنْهَا لَطَالَ بِنَا بَحْثُ الْبَلَاغَةِ الْكَلَامِيَّةِ، بِمَا يَشْغَلُ الْقُرَّاءَ عَنِ الْهِدَايَةِ الْمَقْصُودَةِ بِالذَّاتِ مِنْ تَفْسِيرِنَا. وَيَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ نُكْتَةَ حِكَايَةِ هَذَا الِاقْتِرَاحِ السَّخِيفِ بِأُسْلُوبِ الْإِخْبَارِ عَنْ قَوْمٍ غَائِبِينَ إِفَادَةُ أَمْرَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) إِظْهَارُ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ كَأَنَّهُمْ غَيْرُ حَاضِرِينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْخِطَابَ بِهِ مِنَ اللهِ تَعَالَى: (ثَانِيهِمَا) تَلْقِينُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَوَابَ عَنْهُ بِمَا تَرَى مِنَ الْعِبَارَةِ الْبَلِيغَةِ التَّأْثِيرِ، وَالْمَعْنَى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَى أُولَئِكَ الْقَوْمِ آيَاتُنَا الْمُنَزَّلَةُ حَالَةَ كَوْنِهَا بَارِزَةً فِي أَعْلَى مَعَارِضِ الْبَيَانِ، وَأَظْهَرِ مُقَدِّمَاتِ الْوَحْيِ وَالْبُرْهَانِ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا
وَهُمْ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ قَرِيبًا - وَأَعَادَهُ وَاضِعًا إِيَّاهُ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لِلْإِشْعَارِ بِعِلَّةِ الْقَوْلِ - أَيْ قَالُوا لِمَنْ يَتْلُوهَا عَلَيْهِمْ وَهُوَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ، الْأَظْهَرُ فِي سَبَبِ قَوْلِهِمْ هَذَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلَّغَهُمْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللهِ أَوْحَاهُ إِلَيْهِ لِيُنْذِرَهُمْ بِهِ، وَتَحَدَّاهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ أَوْ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ فَعَجَزُوا، وَكَانُوا فِي رَيْبٍ مِنْ كَوْنِهِ وَحْيًا مِنَ اللهِ لِبَشَرٍ مِثْلِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ، وَفِي رَيْبٍ مَنْ كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ لَمْ يَكُنْ يَفُوقُهُمْ فِي الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ، بَلْ كَانُوا يَرَوْنَهُ دُونَ كِبَارِ فُصَحَائِهِمْ مِنْ بُلَغَاءِ الشُّعَرَاءِ وَمَصَاقِعِ الْخُطَبَاءِ، فَأَرَادُوا أَنْ يَمْتَحِنُوهُ بِمُطَالَبَتِهِ بِالْإِتْيَانِ بِقُرْآنٍ غَيْرِهِ فِي جُمْلَةِ مَا بَلَغَهُمْ مِنْ سُورَةٍ فِي أُسْلُوبِهَا وَنَظْمِهَا وَدَعْوَتِهَا، أَوْ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ بِالتَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ لِمَا يَكْرَهُونَهُ مِنْهُ، كَتَحْقِيرِ آلِهَتِهِمْ وَتَكْفِيرِ آبَائِهِمْ، حَتَّى إِذَا فَعَلَ هَذَا أَوْ ذَاكَ كَانَتْ دَعْوَاهُ أَنَّهُ كَلَامُ اللهِ أَوْحَاهُ إِلَيْهِ مَنْقُوضَةً مِنْ أَسَاسِهَا، وَكَانَ قُصَارَى أَمْرِهِ أَنَّهُ امْتَازَ عَلَيْهِمْ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْبَيَانِ، بِقُوَّةٍ نَفْسِيَّةٍ فِيهِ كَانَتْ خَفِيَّةً عَنْهُمْ كَأَسْبَابِ السِّحْرِ لَا بِوَحْيِ اللهِ إِلَيْهِ، وَهُمَا مَا يَزْعُمُهُ بَعْضُ الْإِفْرِنْجِ وَمُقَلِّدَتُهُمْ فِي عَصْرِنَا، وَقَدْ فَنَّدْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.
قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي أَيْ قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِي وَلَا مِمَّا تُبِيحُهُ لِي رِسَالَتِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي، أَيْ بِمَحْضِ رَأْيِي وَمُقْتَضَى اجْتِهَادِي، وَكَلِمَةُ (تِلْقَاءِ) بِكَسْرِ التَّاءِ مَصْدَرٌ مِنَ اللِّقَاءِ كَتِبْيَانٍ مِنَ الْبَيَانِ، وَكَسْرُ التَّاءِ فِيهِمَا سَمَاعِيٌّ وَالْقِيَاسُ فِي هَذَا الْمَصْدَرِ فَتْحُهَا كَالتَّكْرَارِ وَالتَّطْوَافِ وَالتَّجْوَالِ، إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ أَيْ مَا أَتَّبِعُ فِيهِ إِلَّا تَبْلِيغَ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَالِاهْتِدَاءَ بِهِ فَإِنْ بَدَّلَ اللهُ تَعَالَى مِنْهُ شَيْئًا بِنَسْخِهِ بَلَّغْتُهُ عَنْهُ، وَمَا
261
عَلَيَّ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمَحْضُ، وَأَقُولُ: إِذَا كَانَ اللهُ لَمْ يُعْطِ رَسُولَهُ الْحَقَّ فِي تَبْدِيلِ الْقُرْآنِ، فَمَا حُكْمُهُ تَعَالَى فِيمَنْ يُبَدِّلُونَهُ بِأَعْمَالِهِمُ الْمُنَافِيَةِ لِصِدْقِ وَعْدِهِ لِأَهْلِهِ وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَهْلُهُ، كَالَّذِينِ قَالَ فِيهِمْ: (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ) (٤٨: ١٥) أَوْ بِتَرْكِ أَحْكَامِهِ لِمَذَاهِبِهِمْ، كَالَّذِينِ قَالَ فِيهِمْ: (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) (٢: ١٨١) إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ: هَذَا تَعْلِيلٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهُ، الَّذِي هُوَ بَيَانٌ لِنَفْيِ الشَّأْنِ الَّذِي قَبْلَهُ، أَيْ إِنِّي أَخَافُ
إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي أَيَّ عِصْيَانٍ كَانَ، عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمِ الشَّأْنِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، فَكَيْفَ إِذَا عَصَيْتُهُ بِتَبْدِيلِ كَلَامِهِ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِكُمْ؟ وَقَوْلُهُ: إِنْ عَصَيْتُ مِنْ بَابِ الْفَرْضِ، إِذِ الشَّرْطِيَّةُ الْمَبْدُوءَةُ بِـ ((إِنْ)) يُعَبَّرُ بِهَا عَمَّا شَأْنُهُ أَلَّا يَقَعَ. وَهَذَا جَوَابٌ عَنِ الشِّقِّ الثَّانِي مِنِ اقْتِرَاحِهِمْ.
ثُمَّ لَقَّنَهُ الْجَوَابَ عَنِ الشَّقِّ الْأَوَّلِ مَفْصُولًا لِأَهَمِّيَّتِهِ بِقَوْلِهِ: (قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ) أَيْ لَوْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى أَلَّا أَتْلُوَ عَلَيْكُمْ هَذَا الْقُرْآنَ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّمَا أَتْلُوهُ بِأَمْرِهِ تَنْفِيذًا لِمَشِيئَتِهِ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ أَيْ وَلَوْ شَاءَ أَلَّا يُدْرِيَكُمْ وَيُعْلِمَكُمْ بِهِ بِإِرْسَالِي إِلَيْكُمْ لَمَا أَرْسَلَنِي وَلَمَا أَدْرَاكُمْ بِهِ، وَلَكِنَّهُ شَاءَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْعِلْمِ الْأَعْلَى؛ لِتَدْرُوهُ فَتَهْتَدُوا بِهِ وَتَكُونُوا بِهِدَايَتِهِ خَلَائِفَ الْأَرْضِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ بِهِ لَا بِقُرْآنٍ آخَرَ، كَمَا قَالَ: (لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) (٤: ١٦٦) وَقَالَ: (وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٧: ٥٢) (رَاجِعْ تَفْسِيرَ هَذِهِ وَمَا بَعْدَهَا فِي ج ٨ تَفْسِيرٍ) فَهُوَ قَدْ أَنْزَلَهُ عَالِمًا بِأَنَّ فِيهِ كُلَّ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْهِدَايَةِ وَأَسْبَابِ السَّعَادَةِ، وَأَمَرَنِي بِتَبْلِيغِهِ إِلَيْكُمْ وَلَمْ يَكُنْ لِي عِلْمٌ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَهُ (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ) أَيْ فَقَدْ مَكَثْتُ فِيمَا بَيْنَ ظَهْرَانَيْكُمْ عُمُرًا طَوِيلًا مِنْ قَبْلِهِ وَهُوَ أَرْبَعُونَ سَنَةً، لَمْ أَتْلُ عَلَيْكُمْ فِيهِ سُورَةً مِنْ مِثْلِهِ وَلَا آيَةً تُشْبِهُ آيَاتِهِ، لَا فِي الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ، وَلَا فِي الْبَلَاغَةِ وَرَوْعَةِ الْبَيَانِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ؟ إِنَّ مَنْ عَاشَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا كِتَابًا، وَلَمْ يُلَقَّنْ مَنْ أَحَدٍ عِلْمًا، وَلَمْ يَتَقَلَّدْ دِينًا، وَلَمْ يَعْرِفْ تَشْرِيعًا، وَلَمْ يُمَارِسْ أَسَالِيبَ الْبَيَانِ، فِي أَفَانِينِ الْكَلَامِ، مِنْ شِعْرٍ وَنَثْرٍ، وَلَا خَطَابَةٍ وَفَخْرٍ، وَلَا عِلْمٍ وَحِكَمٍ، لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ لَكُمْ، بَلْ هُوَ يُعْجِزُ جَمِيعَ الْخَلْقِ حَتَّى الدَّارِسِينَ لِكُتُبِ الْأَدْيَانِ وَالْحِكْمَةِ وَالتَّارِيخِ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ؟ فَكَيْفَ تَقْتَرِحُونَ عَلَيَّ إِذًا أَنْ آتِيَ بِقُرْآنٍ غَيْرِهِ؟ وَسَيَتَحَدَّاهُمْ فِي الْآيَةِ ٣٨ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ.
وَمِمَّا يَمْتَازُ بِهِ الْوَحْيُ الْمُحَمَّدِيُّ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ، أَنَّ أَكْثَرَ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا قَبْلَ نُبُوَّتِهِمْ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ الْكَسْبِيِّ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ الْقَرِيبَةِ، وَفَاتَنَا فِيهَا
التَّذْكِيرُ بِمَا أُوتِيَ بَعْضُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحُكْمِ الْوَهْبِيِّ قَبْلَهَا أَيْضًا. قَالَ تَعَالَى فِي مُوسَى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا) (٢٨: ١٤) وَبُلُوغُ الْأَشُدِّ يَكُونُ فِي اسْتِكْمَالِ الثَّلَاثِينَ وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا
262
خُرُوجَهُ إِلَى مَدْيَنَ وَنُزُولَ الْوَحْيِ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ عَوْدَتِهِ مِنْهَا. وَكَانَ مُوسَى عَلَى عِلْمٍ بِشَرَائِعِ الْمِصْرِيِّينَ وَمَعَارِفِهِمْ أَيْضًا، قَالَ تَعَالَى فِي يُوسُفَ: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا) (١٢: ٢٢) وَلَمْ يَقُلْ: ((وَاسْتَوَى)) فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ أَيْضًا، وَكَانَ الْعِلْمُ الَّذِي امْتَازَ بِهِ يُوسُفُ تَأْوِيلَ الْأَحَادِيثِ وَالرُّؤَى أَيِ الْإِخْبَارَ بِمَآلِهَا. وَقَالَ فِي يَحْيَى (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (١٩: ١٢) وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ النُّبُوَّةِ عِلْمٌ وَلَا حُكْمٌ فِي الْأُمُورِ، اللهُمَّ إِلَّا حُكْمُهُ فِي تَنَازُعِ زُعَمَاءِ قُرَيْشٍ عِنْدَ بِنَائِهِمُ الْكَعْبَةَ، أَيُّهُمْ يَضَعُ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ فِي مَكَانِهِ مِنَ الرُّكْنِ، وَكَادُوا يَقْتَتِلُونَ فَطَلَعَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا: هَذَا الْأَمِينُ نُحَكِّمُهُ وَنَرْضَى بِحُكْمِهِ؛ أَيْ لِأَنَّهُ أَمِينٌ صَادِقٌ لَا يُحَابِي، فَحَكَمَ بِوَضْعِهِ فِي ثَوْبٍ يَأْخُذُ سَيِّدُ كُلِّ قَبِيلَةٍ نَاحِيَةً مِنْهُ، ثُمَّ ارْتَقَى هُوَ إِلَى مَوْضِعِهِ مِنَ الرُّكْنِ فَرَفَعُوهُ إِلَيْهِ فَوَضَعَهُ فِيهِ. وَالْخَبَرُ مِنْ مَرَاسِيلِ السِّيَرِ لَمْ يَرِدْ مَرْفُوعًا وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزَّهْرِيِّ وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ بِكَلِمَةِ ((غُلَامٍ)) وَفِي السِّيرَةِ الْحَلَبِيَّةِ أَنَّ سِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ عِنْدَ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً.
هَذِهِ حُجَّةٌ عَقْلِيَّةٌ نَاهِضَةٌ، عَلَى بُطْلَانِ شُبْهَتِهِمُ الدَّاحِضَةِ، الَّتِي بَنَوْا عَلَيْهَا مُطَالَبَةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْإِتْيَانِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا الْقُرْآنِ، وَقَدْ ظَهَرَ لِعُلَمَاءِ هَذَا الْعَصْرِ مَا أَيَّدَ دَلَالَتَهَا الْعِلْمِيَّةَ فَإِنَّهُمْ بِمَا حَذَقُوا عِلْمَ النَّفْسِ وَأَخْلَاقَ الْبَشَرِ وَطِبَاعَهُمْ، وَمَا عَرَفُوا مِنْ دَرَجَاتِ اسْتِعْدَادِهِمُ الْعِلْمِيِّ وَالْعَقْلِيِّ بِاسْتِقْرَاءِ تَارِيخِهِمْ، قَدْ حَقَّقُوا أَنَّ اسْتِعْدَادَ الْإِنْسَانِ الْعَقْلِيَّ لِلْعُلُومِ، وَاسْتِعْدَادَهُ النَّفْسِيَّ لِلنُّهُوضِ بِالْأَعْمَالِ الْقَوْمِيَّةِ أَوِ الْعَالَمِيَّةِ، يَظْهَرُ كُلٌّ مِنَ الِاسْتِعْدَادَيْنِ فِيهِ مَنْ أَوَائِلِ نَشْأَتِهِ، وَيَكُونُ فِي مُنْتَهَى الْقُوَّةِ وَالظُّهُورِ بِالْفِعْلِ عِنْدَ اسْتِكْمَالِ نُمُوِّهِ فِي الْعَقْدَيْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ مِنْ عُمْرِهِ، فَإِذَا بَلَغَ الْخَامِسَةَ وَالثَّلَاثِينَ وَلَمْ يَظْهَرْ نُبُوغُهُ فِي عِلْمٍ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي سَبَقَ اشْتِغَالُهُ بِهَا، وَلَا النُّهُوضُ بِعَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ الَّتِي كَانَ اسْتَشْرَفَ لَهَا، فَإِنَّ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ
شَيْءٌ مِنْ هَذَا أَوْ ذَاكَ مِنْ بَعْدِهَا جَدِيدًا أُنُفًا وَيَكُونُ فِيهِ نَابِغًا نَاجِحًا، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي مَبَاحِثِ إِثْبَاتِ (الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ) أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى تَمْحِيصِ الْحَقَائِقِ فِي جَمِيعِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ الدِّينِيَّةِ وَالتَّشْرِيعِيَّةِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا صَلَاحُ جَمِيعِ الْبَشَرِ، وَأَنَّ الرَّسُولَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَيْهِ قَامَ بِتَنْفِيذِ هَذَا الْإِصْلَاحِ بِمَا غَيَّرَ وَجْهَ الْأَرْضِ، وَقَلَبَ أَحْوَالَ أَكْثَرِ أُمَمِهَا فَحَوَّلَهَا إِلَى خَيْرٍ مِنْهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ كَانَ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَضَاهَا فِي الْأُمِّيَّةِ. فَهَذَا الْعِلْمُ الْجَدِيدُ الَّذِي أَيَّدَ حُجَّةَ الْقُرْآنِ الْعَقْلِيَّةَ فِي هَذَا الْعَصْرِ، لَهُ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ نَظَائِرُ أَشَرْنَا إِلَى بَعْضِهَا آنِفًا، وَبَيَّنَّا كَثِيرًا مِنْهَا فِي تَفْسِيرِنَا هَذَا، وَهُوَ مِمَّا يَمْتَازُ بِهِ عَلَى جَمِيعِ التَّفَاسِيرِ بِفَضْلِ اللهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ غَافِلِينَ عَنْهُ تَبَعًا لِغَفْلَتِهِمْ عَنِ الْقُرْآنِ نَفْسِهِ، وَعَدَمِ شُعُورِهِمْ بِالْحَاجَةِ إِلَى هِدَايَتِهِ، بِصَدِّ دُعَاةِ التَّقْلِيدِ الْمُعَمَّمِينَ
263
إِيَّاهُمْ عَنْهُ، وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنْ تَرَى أَسَاطِينَ الْمُفَسِّرِينَ لَمْ يَفْهَمُوا مِنَ الْآيَةِ أَنَّ فِيهَا جَوَابًا عَنِ الشِّقِّ الْأَوَّلِ مِنِ اقْتِرَاحِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِقُرْآنٍ آخَرَ، وَقَدْ هَدَانَا اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ مَعَ بُرْهَانِهِ بِفَضْلِهِ، وَكَمْ تَرَكَ الْأَوَّلُ لِلْآخَرِ! !
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ) هَذِهِ تَتِمَّةُ الرَّدِّ عَلَى اقْتِرَاحِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا بِبَيَانِ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ الْوَاقِعِ، وَهُوَ أَنَّ تَبْدِيلَ الْقُرْآنِ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الرَّسُولِ فِي نَفْسِهِ، وَلَا مِمَّا أَذِنَ اللهُ لَهُ بِهِ، بَلْ يُعَاقِبُهُ عَلَيْهِ أَشَدَّ الْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ إِنْ فُرِضَ وُقُوعُهُ مِنْهُ - لِأَنَّهُ كَلَامُهُ الْخَاصُّ بِهِ - وَثَانِيًا بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ كَلَامُ اللهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ، ثُمَّ عَزَّزَ هَاتَيْنِ الْحُجَّتَيْنِ بِثَالِثَةٍ أَدَبِيَّةٍ، وَهِيَ أَنَّ شَرَّ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ وَالْإِجْرَامِ فِي الْبَشَرِ شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا افْتِرَاءُ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ، وَهُوَ مَا اقْتَرَحُوهُ عَلَيْهِ بِجُحُودِهِمْ، وَثَانِيهِمَا التَّكْذِيبُ بِآيَاتِ اللهِ، وَهُوَ مَا اجْتَرَحُوهُ بِإِجْرَامِهِمْ. وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، أَيْ لَا أَحَدَ أَظْلَمُ عِنْدَ اللهِ وَأَجْدَرُ بِغَضَبِهِ وَعِقَابِهِ مِنْ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ
مِنَ الظَّالِمِينَ، وَأَنَا أَنْعِي عَلَيْكُمُ الثَّانِيَ مِنْهُمَا، فَكَيْفَ أَرْضَى لِنَفْسِي بِالْأَوَّلِ وَهُوَ شَرٌّ مِنْهُ؟ وَأَيُّ فَائِدَةٍ لِي مِنْ هَذَا الْإِجْرَامِ الْعَظِيمِ وَأَنَا أُرِيدُ الْإِصْلَاحَ وَأَدْعُو إِلَيْهِ وَأَحْتَمِلُ الْمَشَاقَّ فِي سَبِيلِهِ، وَأَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ أَيْ لَا يَفُوزُونَ بِمَطْلُوبِهِمُ الَّذِي يَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِ بِالْكَذِبِ وَالزُّورِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ (٦: ٢١ و٩٣ و١٤٤) وَفِي آيَةٍ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (٧: ٣٧) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُنَّ فِي ج ٨ تَفْسِيرِ).
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ).
هَذِهِ الْآيَةُ فِي دَحْضِ شُبْهَتِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى وَهِي الشَّفَاعَةُ، وَتَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ بُطْلَانُهَا وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى وُجُوبِ عِبَادَةِ الرَّبِّ الْخَالِقِ الْمُدَبِّرِ وَحْدَهُ، وَصَرَّحَ هُنَا بِإِسْنَادِ هَذَا الشِّرْكِ إِلَيْهِمْ وَبِاحْتِجَاجِهِمْ عَلَيْهِ بِالشَّفَاعَةِ. ثُمَّ لَقَّنَ رَسُولَهُ الْحُجَّةَ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الِاحْتِجَاجِ فَقَالَ:
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ) الْكَلَامُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ بَيَانِ
264
شِرْكِهِمْ وَسَخَافَتِهِمْ فِيهِ، وَمُكَابَرَتِهِمْ فِي جُحُودِ الْحَقِّ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَيْهِ الْوَحْيُ، أَيْ وَيَعْبُدُونَ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا مِنَ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا مِنْ دُونِ اللهِ أَيْ غَيْرِ اللهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهَا حَالَ كَوْنِهِمْ مُتَجَاوِزِينَ مَا يَجِبُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، لَا أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهَا وَحْدَهَا، فَمَا مَعْنَى كَوْنِهِمْ مُشْرِكِينَ إِلَّا أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهُ وَيَعْبُدُونَ غَيْرَهُ (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (١٢: ١٠٦) وَفِي وَصْفِهَا بِأَنَّهَا لَا تَضُرُّهُمْ وَلَا تَنْفَعُهُمْ إِيذَانٌ بِسَبَبِ عِبَادَتِهَا وَضَلَالِهِمْ فِيهِ، وَتَذْكِيرٌ بِأَنَّهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى نَفْعِ مَنْ يَعْبُدُهُ، وَضُرِّ مَنْ يَكْفُرُهُ، وَيُشْرِكُ بِعِبَادَتِهِ غَيْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَأَصْلُ غَرِيزَةِ الْعِبَادَةِ الْفِطْرِيَّةِ فِي الْبَشَرِ، فِي سَذَاجَتِهِمُ الَّتِي لَا تَلْقِينَ فِيهَا لِحَقٍّ وَلَا
بَاطِلٍ، هِيَ الشُّعُورُ الْبَاطِنُ بِأَنَّ فِي الْوُجُودِ قُوَّةً غَيْبِيَّةً وَسُلْطَانًا عُلْوِيًّا عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْخَلْقِ بِالنَّفْعِ لِمَنْ شَاءَ، وَإِيقَاعِ الضُّرِّ عَلَى مَنْ شَاءَ وَكَشْفِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ عَمَّنْ شَاءَ، غَيْرَ مُقَيَّدٍ فِي ذَلِكَ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُسَخَّرَةِ لِلنَّاسِ، فَمَنِ اطَّلَعَ عَلَى تَوَارِيخِ الْبَشَرِ فِي كُلِّ طَوْرٍ مِنْ أَطْوَارِ حَيَاتِهِمُ الْبَدَوِيَّةِ وَالْحَضَرِيَّةِ، يَظْهَرُ لَهُ أَنَّ هَذَا هُوَ أَصْلُ التَّدَيُّنِ الْغَرِيزِيِّ فِيهِمْ، وَأَمَّا صُوَرُ التَّعَبُّدِ وَتَسْمِيَةُ الْمَعْبُودَاتِ فَمِنْهَا مَا هُوَ مِنِ اجْتِهَادِهِمْ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مِنْ تَلْقِينِ دُعَاةِ الدِّينِ فِيهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ. فَكُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ، فَإِنَّمَا عَبَدَهُ مَنْ عَبَدَهُ لِشُبْهَةٍ فَهِمَ مِنْهَا قُدْرَتَهُ عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ بِسُلْطَانٍ لَهُ فَوْقَ الْأَسْبَابِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى أَوَّلُهَا تَفْسِيرُ الْعِبَادَةِ مِنْ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَأَوْسَطُهَا وَأَبْسَطُهَا تَفْسِيرُ قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَبِيهِ آزَرَ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَمِنْ آخِرِهَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ مَا جَاءَ فِي بَيَانِ الرُّكْنِ الْأَوَّلِ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ، وَفِي الْكَلَامِ عَلَى الْخَوَارِقِ مِنْ بَحْثِ الْوَحْيِ الِاسْتِطْرَادِيِّ.
فَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ هَذِهِ الْمَعْبُودَاتِ لَا تَضُرُّهُمْ وَلَا تَنْفَعُهُمْ - هُوَ بَيَانَ عَجْزِهَا عَنِ النَّفْعِ وَالضُّرِّ؛ لِأَنَّهَا إِمَّا جَمَادَاتٌ مَصْنُوعَةٌ كَالْأَوْثَانِ الْمُتَّخَذَةِ مِنَ الْحِجَارَةِ أَوِ الْخَشَبِ، وَالْأَصْنَامِ الْمُتَّخَذَةِ مِنَ الْمَعَادِنِ وَكَذَا الْحِجَارَةِ، أَوْ غَيْرُ مَصْنُوعَةٍ كَاللَّاتِ وَهِيَ صَخْرَةٌ كَانَتْ بِالطَّائِفِ يُلَتُّ عَلَيْهَا السَّوِيقُ ثُمَّ عُظِّمَتْ حَتَّى عُبِدَتْ، وَإِمَّا أَشْجَارٌ كَالْعُزَّى مَعْبُودَةِ قُرَيْشٍ، وَالشَّجَرَةِ الَّتِي قَطَعَهَا الشَّيْخُ مُحَمَّدُ عَبْدِ الْوَهَّابِ فِي نَجْدٍ، وَشَجَرَةِ الْمَنْضُورَةِ الَّتِي يَقْصِدُهَا النِّسَاءُ فِي مِصْرَ لِأَجْلِ الْحَبَلِ، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ قَدْ وُضِعَتْ ذِكْرَى لِبَعْضِ الصَّالِحِينَ مِنَ الْبَشَرِ كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي أَصْنَامِ قَوْمِ نُوحٍ، ثُمَّ انْتَقَلَتْ عِبَادَتُهُمْ إِلَى الْعَرَبِ، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ فِيهَا أَرْوَاحًا مِنَ الْجِنِّ كَمَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ قَطْعِ شَجَرَةِ الْعُزَّى أَوْ شَجَرَاتِهَا الثَّلَاثِ، إِذْ ظَهَرَتْ عِنْدَ قَطْعِهَا لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ امْرَأَةٌ سَوْدَاءٌ عُرْيَانَةٌ نَاشِرَةٌ شَعْرَهَا، كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهَا جِنِّيَّةٌ، فَأَرَادَتْ أَنْ تُوَاثِبَهُ وَتُخِيفَهُ فَقَتَلَهَا، فَهِيَ كَالْقُبُورِ الَّتِي تُشَرَّفُ وَتُجَصَّصُ وَيُوضَعُ عَلَيْهَا السُّتُورُ وَتُبْنَى عَلَيْهَا الْقِبَابُ، لِمِثْلِ السَّبَبِ الَّذِي وَضَعُوا لَهُ تَمَاثِيلَ الْأَوْثَانِ، وَعَبَدَةُ
265
هَذِهِ الْقُبُورِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْمَدْفُونِينَ فِيهَا أَحْيَاءٌ يَقْضُونَ حَاجَاتِ مَنْ يَدْعُونَهُمْ وَيَسْتَغِيثُونَهُمْ، وَعُلَمَاءُ الْخُرَافَاتِ يَقُولُونَ لَهُمْ إِنَّ عَمَلَهُمْ هَذَا شَرْعِيٌّ.
نَعَمْ لَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا مِنْ نَفْيِ ضَرِّهَا وَنَفْعِهَا أَنَّهَا جَمَادَاتٌ لَا عَمَلَ لَهَا فَقَطْ كَمَا قِيلَ، وَإِنْ كَانَتِ الْحُجَّةُ عَلَى عِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ أَظْهَرَ مِنَ الْحُجَّةِ عَلَى عِبَادَةِ الثَّعَابِينِ وَالْبَقَرِ وَالْقُرُودِ - وَلَا يَزَالُ لَهَا بَقِيَّةٌ فِي الْهِنْدِ - وَعَلَى عِبَادَةِ الْبَشَرِ الَّتِي هِيَ أَسَاسُ النَّصْرَانِيَّةِ الْآرِيَّةِ الَّتِي وَضَعَهَا الْإِمْبِرَاطُورُ قُسْطَنْطِينُ، وَمَنِ اتَّبَعَ سَنَنَ النَّصَارَى وَالْهُنُودِ مِنْ جَهَلَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ بَيَانُ بُطْلَانِ الشِّرْكِ بِالْأُلُوهِيَّةِ، وَهُوَ عِبَادَةُ غَيْرِ اللهِ مَهْمَا يَكُنِ الْمَعْبُودُ، وَبُطْلَانِ الشِّرْكِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَهُوَ قِسْمَانِ: ادِّعَاءُ وَسَاطَتِهِمْ فِي الْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ، وَاحْتِجَاجِهِمْ عَلَيْهِمْ بِشَفَاعَتِهِمْ عِنْدَ اللهِ. وَهُوَ كَذِبٌ فِي التَّشْرِيعِ الَّذِي هُوَ حَقُّ الرَّبِّ وَحْدَهُ وَلَا يُعْلَمُ إِلَّا بِوَحْيِهِ. بَيَانُ الْأَوَّلِ: أَنَّ كُلَّ مَا عُبِدَ وَمَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ حَتَّى الْجِنَّ وَالْمَلَائِكَةَ لَا يَمْلِكُونَ لِعَابِدِيهِمُ النَّفْعَ وَالضُّرَّ بِالْقُدْرَةِ الذَّاتِيَّةِ الْغَيْبِيَّةِ، الَّتِي هِيَ فَوْقَ الْأَسْبَابِ الَّتِي مَنَحَهَا الْخَالِقُ لِلْمَخْلُوقَاتِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، لَا بِذَوَاتِهِمْ وَكَرَامَاتِهِمْ، وَلَا بِتَأْثِيرٍ خَاصٍّ لَهُمْ عِنْدَ الْخَالِقِ يَحْمِلُونَهُ بِهِ عَلَى نَفْعِ مَنْ شَاءُوا أَوْ ضُرِّ مَا شَاءُوا أَوْ كَشَفِ الضُّرِّ عَنْهُ، كَمَا يَعْتَقِدُ عُبَّادُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ مِنَ الْبَشَرِ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ؛ وَلِهَذَا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى النَّصَارَى فِي عِبَادَتِهِمْ لِلْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ: (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٥: ٧٦) وَهَذِهِ حُجَّةٌ عَلَى عَبَدَةِ الْقُبُورِ وَعَلَى أَصْحَابِ الْعَمَائِمِ الَّذِينَ يَتَأَوَّلُونَ لَهُمْ عِبَادَتَهُمْ بِمَا يَظُنُّونَ أَنَّهُ يُبْعِدُهُمْ عَنْ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ، بِقَوْلِهِمْ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءَ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ كَالشُّهَدَاءِ فَهُمْ يَضُرُّونَ وَيَنْفَعُونَ لَا كَالْأَصْنَامِ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلنَّصَارَى: إِنَّ الْمَسِيحَ لَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا بِعِبَادَتِهِمْ لَهُ عَلَى مَا آتَاهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الدَّجَّالِينَ مِنَ الشُّيُوخِ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ الْمَسِيحَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَدَوِيِّ وَالْحُسَيْنِ وَالسَّيِّدَةِ زَيْنَبَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ لِمَنْ يَطْلُبُهُ مِنْهُمْ، وَحَيَاتُهُ لَا تَزَالُ فِي اعْتِقَادِهِمْ حَيَاةً عُنْصُرِيَّةً وَحَيَاتُهُمْ بَرْزَخِيَّةٌ وَمُعْجِزَاتُهُ قَطْعِيَّةٌ وَكَرَامَاتُهُمْ غَيْرُ قَطْعِيَّةٍ.
كَذَلِكَ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَأَفْضَلَهُمْ أَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ بِنَفْيِ مِلْكِهِ لِضُرِّ النَّاسِ وَنَفْعِهِمْ وَهُوَ حَيٌّ كَمَا يَأْتِي فِي الْآيَةِ (٤٩) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَسَبَقَ مِثْلُهَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ (٧: ١٨٨).
(وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ) أَيْ يَقُولُونَ فِي سَبَبِ عِبَادَتِهِمْ لَهُمْ، مَعَ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ بِأَنْفُسِهِمْ لِإِيمَانِهِمْ بِأَنَّ الرَّبَّ الْخَالِقَ هُوَ اللهُ تَعَالَى: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ فَنَحْنُ نَعْبُدُهُمْ بِتَعْظِيمِ هَيَاكِلِهِمْ وَتَطْيِيبِهَا بِالْعِطْرِ وَالطَّوَافِ بِهَا وَبِتَقْدِيمِ النُّذُورِ لَهُمْ، وَالْإِهْلَالِ عِنْدَ ذَبْحِ الْقَرَابِينِ بِأَسْمَائِهِمْ، وَبِدُعَائِهِمْ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ يُقَرِّبُونَنَا إِلَيْهِ زُلْفَى فَيَدْفَعُ بِجَاهِهِمْ عَنَّا الْبَلَاءَ، وَيُعْطِينَا مَا نَطْلُبُ مِنَ النَّعْمَاءِ، هَذَا مَا يَقُولُهُ مُنْكِرُو الْبَعْثِ مِنْهُمْ
266
وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَ اللهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ. عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا فَرَضُوا وُجُوَدَهَا، زَعَمَ مُجْرِمُوهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِيهَا كَمَا كَانُوا فِي الدُّنْيَا، كَمَا حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (٣٤: ٣٥) وَقَوْلِهِ فِي الْإِنْسَانِ الْكَافِرِ: (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى) (٤١: ٥٠) وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ مِنْ كِبَارِ مُجْرِمِيهِمْ قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ شَفَعَتْ لِيَ اللَّاتُ وَالْعُزَّى. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللهِ، يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَعْبُودِيهِمْ يَشْفَعُونَ لَهُمْ فِيهَا كَمَا يَشْفَعُونَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ أَسَاسَ عَقِيدَةِ الشِّرْكِ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَطْلُبُونَهُ مِنَ اللهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِوَسَاطَةِ الْمُقَرِّبِينَ عِنْدَهُ لِأَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُهُمُ الْقُرْبُ مِنَ اللهِ وَالْحُظْوَةُ عِنْدَهُ بِأَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُمْ مُدَنَّسَةٌ بِالْمَعَاصِي، بِخِلَافِ دِينِ التَّوْحِيدِ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ عَلَى الْعَاصِي أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ تَائِبًا إِلَيْهِ طَالِبًا مَغْفِرَتَهُ وَرَحْمَتَهُ.
(قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) أَيْ قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ جَهَالَتَهُمْ وَافْتِرَاءَهُمْ عَلَى رَبِّهِمْ: أَتُخَبِّرُونَ اللهَ تَعَالَى وَتُعْلِمُونَهُ بِشَيْءٍ لَا يَعْلَمُهُ مِنْ أَمْرِ هَؤُلَاءِ الشُّفَعَاءِ فِي السَّمَاوَاتِ مِنْ مَلَائِكَتِهِ وَلَا فِي الْأَرْضِ مِنْ خَوَاصِّ خَلْقِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِمَا شُفَعَاءُ يَشْفَعُونَ لَكُمْ عِنْدَهُ لَكَانَ أَعْلَمَ بِهِمْ مِنْكُمْ؛ فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، فَكَيْفَ يَخْفَى عَلَيْهِ مَنْ لَهُمْ مِنَ الْمَكَانَةِ عِنْدَهُ أَنْ جَعْلَهُمْ وُسَطَاءَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي قَضَاءِ حَاجِهِمْ مِنْ نَفْعٍ وَضُرٍّ، وَفِي تَقْرِيبِهِمْ إِلَيْهِ زُلْفَى كَالْوُسَطَاءِ عِنْدَ مُلُوكِ الْبَشَرِ، الْجَاهِلِينَ بِأُمُورِ رَعِيَّتِهِمْ وَالْعَاجِزِينَ
عَنْ تَنْفِيذِ مَشِيئَتِهِمْ فِيهِمْ بِدُونِ وَسَاطَةِ الْوُزَرَاءِ وَالْحُجَّابِ وَالْقُوَّادِ، (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أَيْ تَنْزِيهًا لَهُ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا عَمَّا يُشْرِكُونَ بِهِ مِنَ الشُّفَعَاءِ وَالْوُسَطَاءِ. وَمَا يَفْتَرُونَهُ عَلَيْهِ بِجَعْلِهِمْ هَذَا دِينًا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ. فَهَذَا تَذْيِيلٌ لِلْجَوَابِ مُبَيِّنٌ لِمَا فِي هَذَا الشِّرْكِ مِنْ إِهَانَةِ مَقَامِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ، وَتَشْبِيهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، بِعَبِيدِهِ مِنَ الْمُلُوكِ الْجَاهِلِينَ الْعَاجِزِينَ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (تُشْرِكُونَ) بِتَاءِ الْخِطَابِ، عَلَى أَنَّهُ تَتِمَّةٌ لِلْجَوَابِ. وَحِكْمَةُ الْقِرَاءَتَيْنِ تَنْزِيهُهُ تَعَالَى عَنْ شِرْكِ الْجَمِيعِ مِنْ غَائِبٍ مَحْكِيٍّ عَنْهُ وَحَاضِرٍ مُخَاطَبٍ.
وَفِي هَذَا الْجَوَابِ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ أَنَّ شُئُونَ الرَّبِّ وَسَائِرَ مَا فِي عَالَمِ الْغَيْبِ تَوْقِيفِيٌّ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِخَبَرِ الْوَحْيِ، وَمِنْهُ اتِّخَاذُ الْوُسَطَاءِ عِنْدَ اللهِ مِمَّا ذُكِرَ وَأَنَّهُ عَيْنُ الشِّرْكِ. وَلَكِنَّ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ مَنْ يُثْبِتُونَ هَذِهِ الْوَسَاطَةَ بِالرَّأْيِ. وَيُحَرِّفُونَ مَا يَنْقُضُهَا مِنَ الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا كَأَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ، حَتَّى إِنَّهُمْ يُبِيحُونَ دُعَاءَ الْمَوْتَى وَاسْتِغَاثَتَهُمْ عِنْدَ قُبُورِهِمْ. وَيَحْتَجُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فِيهِمْ، وَبِأَنَّ الْإِفْرِنْجَ أَثْبَتُوا وُجُودَ الْأَرْوَاحِ وَعَلَاقَتَهَا بِالنَّاسِ، وَلَكِنَّ الَّذِينَ قَالُوا بِهَذَا مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَهُمْ أَقَلُّهُمْ، لَمْ يَقُولُوا إِنَّهَا تَنْفَعُهُمْ وَتَضُرُّهُمْ، أَوْ تَشْفَعُ عِنْدَ اللهِ لَهُمْ، وَلَوْ قَالُوا هَذَا لَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ قَوْلَهُمْ حُجَّةً نُعَارِضُ بِهَا نُصُوصَ دِينِنَا أَوْ نَتَأَوَّلُهَا لِتُوَافِقِهَا،
267
وَلِمَشْيَخَةِ الْأَزْهَرِ الرَّسْمِيَّةِ مَجَلَّةٌ تَنْشُرُ بِاسْمِهَا هَذِهِ الْبِدَعُ وَالْخُرَافَاتُ فِي جَمِيعِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَتَطْعَنُ عَلَى الْمُعْتَصِمِينَ بِالسُّنَّةِ وَسِيرَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِينَ وَعَلَى الْمُعْتَصِمِينَ بِالْقُرْآنِ أَيْضًا وَهُوَ حَبْلُ اللهِ الْمَتِينُ، لِزَعْمِهِمْ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ هُوَ أَخْذُ الدِّينِ كُلِّهِ عَنْ كُتُبِ مُقَلِّدَةِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، حَتَّى الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ دُونَ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ.
(وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السِّيَاقِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا، أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ دَأْبُهُمْ فِي تَكْذِيبِهِمْ لِلْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ إِلَّا كَدَأْبِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ،
وَلَمْ يَكُونُوا فِي اسْتِعْجَالِ نَبِيِّهِمُ الْعَذَابَ إِلَّا كَالَّذِينِ اسْتَعْجَلُوا رُسُلَهُمُ الْعَذَابَ أَيْضًا، وَتَقَدَّمَ فِيهِ بَيَانُ بَعْضِ طِبَاعِ الْبَشَرِ وَلَا سِيَّمَا الْكُفَّارِ فِي الرُّعُونَةِ وَالْعَجَلَةِ، وَفِي الضَّرَاعَةِ إِلَى اللهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ عِنْدَ الشِّدَّةِ وَنِسْيَانِهِ عِنْدَ الرَّخَاءِ، وَفِي الْإِشْرَاكِ بِاللهِ بِدَعْوَى أَنَّ لَهُمْ شُفَعَاءَ عِنْدَ اللهِ يَدْفَعُونَ عَنْهُمُ الضُّرَّ وَيَجْلِبُونَ لَهُمُ النَّفْعَ بِوَجَاهَتِهِمْ عِنْدَهُ، ثُمَّ جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي بَيَانِ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ مِنَ الْوَحْدَةِ، وَمَا صَارُوا عَلَيْهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالْفُرْقَةِ، فَالتَّنَاسُبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا قَبْلَهَا فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ.
(وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا) قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالنَّاسِ هُنَا الْعَرَبُ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا حُنَفَاءَ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى أَنْ ظَهَرَ فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ لُحَيٍّ الَّذِي ابْتَدَعَ لَهُمْ عِبَادَةَ غَيْرِ اللهِ وَصَنَعَ لَهُمُ الْأَصْنَامَ - كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ - فَاخْتَلَفُوا بِأَنْ أَشْرَكَ بَعْضُهُمْ وَثَبَتَ عَلَى الْحَنِيفِيَّةِ آخَرُونَ.
وَقِيلَ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ، إِنَّ الْمُرَادَ الْجِنْسُ الْبَشَرِيُّ فِي جُمْلَتِهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى الْفِطْرَةِ، إِذْ كَانُوا يَعِيشُونَ عِيشَةَ السَّذَاجَةِ وَالْوَحْدَةِ كَأُسْرَةٍ وَاحِدَةٍ، حَتَّى كَثُرُوا وَتَفَرَّقُوا فَصَارُوا عَشَائِرَ فَقَبَائِلَ فَشُعُوبًا تَخْتَلِفُ حَاجَاتُهَا وَتَتَعَارَضُ مَنَافِعُهَا، فَتَتَعَادَى وَتَتَقَاتَلُ فِي التَّنَازُعِ فِيهَا، فَبَعَثَ اللهُ فِيهِمُ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ لِهِدَايَتِهِمْ، وَإِزَالَةِ الِاخْتِلَافِ بِكِتَابِ اللهِ وَوَحْيِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ نَفْسِهِ أَيْضًا بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَاتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهِمْ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ هَذَا فِي تَفْسِيرِ (٢: ٢١٣) وَأَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَهَا.
268
(وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أَيْ وَلَوْلَا كَلِمَةُ حَقٍّ فَاصِلَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ فِي جَعْلِ جَزَاءِ النَّاسِ الْعَامِّ فِي الْآخِرَةِ، لَعَجَّلَهُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِإِهْلَاكِ الْمُبْطِلِينَ الْبَاغِينَ مِنْهُمْ، فَالْمُرَادُ مِنَ الْكَلِمَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ: (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٩٣) وَمِثْلُهُ فِي سُوَرٍ أُخْرَى.
وَالْآيَةُ تَتَضَمَّنُ الْوَعِيدَ عَلَى اخْتِلَافِ النَّاسِ الْمُفْضِي إِلَى الشِّقَاقِ وَالْعُدْوَانِ، وَلَا سِيَّمَا الِاخْتِلَافِ فِي كِتَابِ اللهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ لِإِزَالَةِ الشِّقَاقِ بِحُكْمِهِ، وَإِدَالَةِ الْوَحْدَةِ
وَالْوِفَاقِ مِنْهُ، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَحِكْمَتُهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ (٢١٣) وَفِي غَيْرِهَا، وَسَنَعُودُ إِلَى بَيَانِ حِكْمَتِهِ وَحِكْمَةِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ مُسْتَعِدًّا لِلِاخْتِلَافِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَةِ هُودٍ (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً) (١١: ١١٨) إِلَخْ.
(وَيَقُولُونَ لَوْلَا أَنْزِلُ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظَرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظَرِينَ).
الْكَلَامُ فِي مُنْكِرِي الْوَحْيِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ، حَكَى عَنْهُمْ عَجَبَهُمْ مِنَ الْوَحْيِ إِلَى بَشَرٍ مِثْلِهِمْ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنْوَاعِ الْحُجَجِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِبُطْلَانِ شِرْكِهِمْ وَإِنْكَارِهِمْ لِلْبَعْثِ، ثُمَّ حَكَى عَنْهُمْ مُطَالَبَةَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْإِتْيَانِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا الْقُرْآنِ، الدَّالِّ بِأُسْلُوبِهِ وَنَظْمِهِ وَعُلُومِهِ وَهِدَايَتِهِ عَلَى أَنَّهُ وَحْيٌّ مِنْ كَلَامِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ تَبْدِيلِهِ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِمَا عَلِمْتَ. ثُمَّ حَكَى عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الِاحْتِجَاجَ عَلَى إِنْكَارِ نُبُوَّتِهِ بِعَدَمِ إِنْزَالِ رَبِّهِ عَلَيْهِ آيَةً كَوْنِيَّةً غَيْرَ هَذَا الْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ عَلَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ مَعَ الرَّدِّ عَلَيْهَا. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ مَا قَبْلَهَا مِنْ حِكَايَاتِ أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ وَأَعْمَالِهِمْ فِي جُحُودِ الرِّسَالَةِ، وَمِنْ دَعْوَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ، لَا عَلَى آخَرِ مَا حَكَاهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا) (١٨) خَاصَّةً لِقُرْبِهِ وَكَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ؛ فَإِنَّ الْمَحْكِيَّ هُنَا غَيْرُ مُشَارِكٍ لِلْمَحْكِيِّ قَبْلَهُ فِي خَاصَّةِ مَوْضُوعِهِ أَوْ مَا يُنَاسِبُهُ، وَلَا عَلَى مَا حَكَاهُ عَنْهُمْ مِنْ طَلَبِ الْإِتْيَانِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ تَبْدِيلِهِ خَاصَّةً وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ، لِبُعْدِهِ وَلِلِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمَا فِي حِكَايَةِ ذَاكَ بِالْمَاضِي وَهُوَ: (قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا) (١٥) وَحِكَايَةِ هَذَا بِالْمُضَارِعِ إِلَخْ.
269
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ فِي تَرْجِيحِهِ: إِنَّ الْمُضَارِعَ هُنَا بِمَعْنَى الْمَاضِي هُنَاكَ، وَإِنَّمَا آثَرَ الْمُضَارِعَ عَلَى الْمَاضِي لِيَدُلَّ عَلَى اسْتِمْرَارِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَنَّهَا مِنْ دَأْبِهِمْ وَعَادَتِهِمْ، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنِ اسْتِحْضَارِ صُورَتِهَا الشَّنِيعَةِ اهـ. وَقَدْ أَخْطَأَ فِي التَّرْجِيحِ وَبَاعَدَ، وَإِنْ سَدَّدَ فِي التَّعْلِيلِ وَقَارَبَ، وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْمَعْنَى الْجَامِعَ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ فِي هَذَا
السِّيَاقِ حِكَايَةُ أَنْوَاعِ جُحُودِهِمْ فِي جُمْلَتِهَا، وَأَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْمُضَارِعِ فِي هَذِهِ وَمَا قَبْلَهَا وَفِيمَا سَيَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) (٣٨) وَقَوْلِهِ: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (٤٨) إِنَّمَا هُوَ لِمَا يَتَكَرَّرُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ فِي الْجُحُودِ؛ فَإِنَّ اقْتِرَاحَ نُزُولِ آيَةٍ كَوْنِيَّةٍ عَلَيْهِ قَدْ تَكَرَّرَ مِنْهُمْ، وَذُكِرَ فِي سُورٍ مِنْهَا مَا نَزَلَ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ (يُونُسَ) وَمِنْهَا مَا نَزَلَ بَعْدَهَا كَمَا سَنُوَضِّحُهُ بِشَوَاهِدِهِ، فَمَعْنَى الْآيَةِ هَكَذَا.
وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ أَيْ قَدْ قَالُوا وَلَا يَزَالُونَ يَقُولُونَ: هَلَّا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آيَةٌ كَوْنِيَّةٌ كَآيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ يُحَدِّثُنَا عَنْهُمْ، حَكَى سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ هَذَا الِاقْتِرَاحَ هُنَا مُجْمَلًا وَأَجَابَ عَنْهُ جَوَابًا مُجْمَلًا؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَدْ سَبَقَ مُفَصَّلًا فِي سُوَرٍ أُخْرَى، وَقَدْ جَهِلَ هَذَا كُفَّارُ الْإِفْرِنْجِ وَتَلَامِيذُهُمْ مِنْ مَلَاحِدَةِ مِصْرَ، فَقَالُوا فِي مِثْلِهِ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي مَكَّةَ يَفِرُّ مِنْ مُنَاظَرَةِ الْمُشْرِكِينَ (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) وَالْآيَاتُ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى وَبِيَدِهِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهَا خَوَارِقُ فَوْقَ قُدْرَةِ الْبَشَرِ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَالْغَيْبُ لِلَّهِ لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، فَإِنْ كَانَ قَدَّرَ إِنْزَالَ آيَةٍ عَلِيَّ فَهُوَ يَعْلَمُ وَقْتَهَا وَيُنَزِّلُهَا فِيهِ، وَأَنَا لَا أَعْلَمُ إِلَّا مَا أَوْحَاهُ إِلَيَّ فَانْتَظَرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ لِمَا يَفْعَلُهُ بِي وَبِكُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ حِكَايَةِ رَمْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِافْتِرَاءِ الْقُرْآنِ: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٤٦: ٩) وَيُفَسِّرُ مَا يَنْتَظِرُهُ وَيَنْتَظِرُونَهُ مِنْهُ قَوْلُهُ فِي أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ: (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (١٠٢) وَفِيهِ إِنْذَارٌ لَهُمْ بِالْعَذَابِ وَهُوَ قِسْمَانِ: عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ لِمَنْ أُوتُوا مَا اقْتَرَحُوا عَلَى رُسُلِهِمْ مِنَ الْآيَاتِ فَأَصَرُّوا عَلَى الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ، وَعَذَابُ مَنْ لَمْ يُؤْتَوْا ذَلِكَ وَهُوَ خِذْلَانُهُمْ وَنَصْرُ الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَمَا وَرَاءَهُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ.
حَكَى اللهُ تَعَالَى عَنْهُمُ اقْتِرَاحَ آيَةٍ أَوْ آيَاتٍ مُبْهَمَةٍ فِي بَعْضِ السُّورِ، وَاقْتِرَاحَ آيَاتٍ مُعَيَّنَةٍ فِي سُوَرٍ أُخْرَى، مِنْهَا مَا نَزَلَ بَعْدَ هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ الْحِجْرُ (١٥: ٦ - ٨) فَالْأَنْعَامُ (٦: ٨ و٩ ٣٩ - ٤١ و١٠٩ و١١١) فَالْأَنْبِيَاءُ (٢١: ٥) فَالْعَنْكَبُوتُ
(٢٩: ٥٠) فَالرَّعْدُ (١٣: ٧ و٢٧) وَفِيهَا أَجْوِبَةٌ أُخْرَى، فَأَمَّا الْأَنْعَامُ فَفِيهَا تَفْصِيلٌ لِكَوْنِ الْآيَاتِ لَا تَزِيدُهُمْ إِلَّا عِنَادًا وَإِصْرَارًا عَلَى الْجُحُودِ فَتَحِقُّ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَتَنَافِي مُرَادَ
270
اللهِ تَعَالَى مِنْ بَعْثَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا فِي الْجُزْءَيْنِ ٧ و٨ مِنْ تَفْسِيرِنَا هَذَا فَيُرَاجَعْ، ثُمَّ أَجْمَلَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ: (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) (٢١: ٦) ثُمَّ أَجَابَ عَنْهَا فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ بِقَوْلِهِ: (أَوْ لَمَ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلَنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) (٢٩: ٥١) ؟
لَكِنَّهُ كَانَ قَدْ فَصَّلَ مُقْتَرَحَاتِهِمْ مَعَ الرَّدِّ عَلَيْهَا فِي السُّوَرِ الَّتِي أُنْزِلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ كُلِّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا (٢٥: ٧ و٨) ؟ ثُمَّ حَكَى عَنْهُمْ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ (١٧) أَنَّهُمْ طَالَبُوهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوَاحِدَةٍ مِنْ بِضْعِ آيَاتٍ وَعَلَّقُوا إِيمَانَهُمْ عَلَى إِجَابَةِ طَلَبِهِمْ، فَقَالَ بَعْدَ بَيَانِ عَجْزِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ، وَمَا صَرَّفَهُ فِيهِ لِلنَّاسِ مِنْ جَمِيعِ ضُرُوبِ الْأَمْثَالِ: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا) (١٧: ٩٠) إِلَخْ. الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ، ثُمَّ لَقَّنَ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرَّدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسُولًا قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا) (١٧: ٩٣ و٩٥) أَيْ سَبِّحْ رَبَّكَ فِي جَوَابِهِمْ، تَسْبِيحَ التَّعَجُّبِ مِنْ قَوْلِهِمْ، وَذَكِّرْهُمْ بِأَنَّكَ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ، وَلَيْسَ فِي قُدْرَةِ الْبَشَرِ أَنْ يَأْتُوا بِالْآيَاتِ الْخَارِقَةِ لِسُنَنِ الْكَوْنِ، وَأَنَّ آفَتَهُمْ هِيَ آفَةُ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ لَمْ يَعْقِلُوا مَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الْهُدَى، وَأَنَّهُ مَتَى تَبَيَّنَ وَجَبَ عَلَى الْعَاقِلِ اتِّبَاعُهُ لِذَاتِهِ، فَاحْتَقَرُوا الرُّسُلَ الَّذِينَ جَاءُوهُمْ بِهِ لِأَنَّهُمْ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ، وَاقْتَرَحُوا أَنْ تَجِيئَهُمْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ فِيهَا كَالْبَشَرِ يُمْكِنُهُمُ التَّلَقِّي عَنْهُمْ لَنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مَلَكًا، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ إِذَا نَزَّلَ الْمَلَكَ فَهُوَ لَا يَنْزِلُ إِلَّا بِالْعَذَابِ، إِلَّا أَنْ يُجْعَلَ بَشَرًا، وَإِذًا لَاحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ مِثْلُهُمْ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ حِكَايَةً لِخِطَابِهِمْ لِلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ: (مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ
إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ) (١٥: ٧ و٨) وَقَالَ فِي الْأَنْعَامِ: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) (٦: ٨ و٩).
وَلَقَّنَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ (بَنِي إِسْرَائِيلَ) حُجَّةً أُخْرَى فِي حِكْمَةِ عَدَمِ نُزُولِ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ عَلَيْهِ أَوْ سَبَبَهُ، وَهِيَ قَوْلُهُ: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) (١٧: ٥٩) أَيْ وَمَا صَرَفَنَا عَنْ إِرْسَالِ الْآيَاتِ اللَّاتِي اقْتَرَحَتْهَا قُرَيْشٌ، إِلَّا تَكْذِيبُ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ هُمْ أَمْثَالُهُمْ فِي الطَّبْعِ وَالْعَادَةِ كَعَادٍ وَثَمُودَ، وَأَنَّهَا لَوْ أُرْسِلَتْ لَكَذَّبُوا بِهَا تَكْذِيبَ أُولَئِكَ وَاسْتَوْجَبُوا
271
عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ عَلَى مَا مَضَتْ بِهِ سُنَّتُنَا، وَقَدْ قَضَيْنَا أَلَّا نَسْتَأْصِلَهُمْ لِأَنَّهُمْ أُمَّةُ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ الْبَاقِيَةُ، وَأَنَّهُ هُوَ رَحْمَتُهُ الْعَامَّةُ الشَّامِلَةُ؛ وَلِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ أَوْ يُولَدُ لَهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضَ الْأُمَمِ الْمُهْلَكَةِ بِتَكْذِيبِ الْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ، فَنَذْكُرُهُ مَعَ عِبَارَةِ الْبَيْضَاوِيِّ الْوَجِيزَةِ فِي تَفْسِيرِهِ وَهُوَ:
(وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ) لِسُؤَالِهِمْ: مُبْصِرَةً بَيِّنَةً ذَاتَ إِبْصَارٍ أَوْ بَصَائِرَ أَوْ جَاعِلَتَهُمْ ذَوِي بَصَائِرَ فَظَلَمُوا بِهَا أَيْ فَكَفَرُوا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِسَبَبِ عَقْرِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ أَيِ الْمُقْتَرَحَةِ إِلَّا تَخْوِيفًا (١٧: ٥٩) مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ الْمُسْتَأْصَلِ، فَإِنْ لَمْ يَخَافُوا نَزَلَ اهـ.
وَفِي سُورَةِ الْقَصَصِ وَقَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ الْفُرْقَانِ وَقَبْلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، تَفْصِيلٌ لِقِصَّةِ مُوسَى فِي مَوْلِدِهِ وَنَشْأَتِهِ وَفِرَارِهِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِلَى مَدْيَنَ وَبَعْثَتِهِ فِي طُورِ سَيْنَاءَ إِلَخْ. وَقَدْ صَرَّحَ فِي آخِرِهَا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى رِسَالَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ أَمْرِهَا شَيْئًا، فَهِيَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ كَمَا تَرَاهُ فِي الْآيَاتِ (٢٨: ٤٤ - ٤٦) مِنْهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ نَصُّهَا فِي (مَبَاحِثِ الْوَحْيِ ج ١١ تَفْسِيرٍ) ثُمَّ قَالَ: (وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ) (٢٨: ٤٧ و٤٨) إِلَخْ.
فَجُمْلَةُ مَا وَرَدَ فِي اقْتِرَاحِ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ مِنْ مُجْمَلٍ وَمُفَصَّلٍ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَهُوَ مُقَرِّرٌ؛ لِمَا عُلِمَ بِالْقَطْعِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ حُجَّتَهُ عَلَى رِسَالَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ هَذَا الْقُرْآنَ، الْمُشْتَمِلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ وَالْإِصْلَاحِيَّةِ
وَأَخْبَارِ الْغَيْبِ وَإِعْجَازِ الْأُسْلُوبِ وَالنَّظْمِ وَالتَّأْثِيرِ فِي الْهِدَايَةِ إِلَى آخَرِ مَا فَصَّلْنَاهُ فِي الْفَصْلِ الِاسْتِطْرَادِيِّ الَّذِي عَقَدْنَاهُ لِإِثْبَاتِ الْوَحْيِ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ (ج ١١ تَفْسِيرٍ) وَقَدْ آتَى اللهُ رَسُولَهُ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ آيَاتٍ أُخْرَى عِلْمِيَّةً وَكَوْنِيَّةً، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهَا حُجَّةً عَلَى رِسَالَتِهِ وَلَا أَمَرَهُ بِالتَّحَدِّي بِهَا، وَإِنَّمَا كَانَتْ تَكُونُ لِضَرُورَاتٍ اشْتَدَّتْ حَاجَةُ الْأُمَّةِ إِلَيْهَا كَاسْتِجَابَةِ بَعْضِ أَدْعِيَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ سَابِقًا.
وَيُؤَيِّدُ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ الْمَأْخُوذَةَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: ((مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا أُعْطِيَ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) وَقَدْ يُعَارِضُهُ آيَةُ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ مَعَ مَا وَرَدَ فِي أَحَادِيثِ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، مِنْ أَنَّ قُرَيْشًا سَأَلُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آيَةً عَلَى نُبُوَّتِهِ فَانْشَقَّ الْقَمَرُ فَكَانَ فِرْقَتَيْنِ، وَلَكِنَّ فِي الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي انْشِقَاقِهِ عِلَلًا فِي مَتْنِهَا وَأَسَانِيدِهَا، وَإِشْكَالَاتٍ عِلْمِيَّةً وَعَقْلِيَّةً وَتَارِيخِيَّةً فَصَّلْنَاهَا فِي الْمُجَلَّدِ
272
الثَّلَاثِينَ مِنَ الْمَنَارِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ الْمُؤَيَّدَةُ بِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ الصَّرِيحِ فِي حَصْرِ مُعْجِزَةِ نُبُوَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقُرْآنِ، وَكَوْنَ الْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ تَقْتَضِي إِجَابَةُ مُقْتَرِحِيهَا عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ، هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَنْهَضُ لِمُعَارَضَتِهِ شَيْءٌ، وَسَنَعُودُ إِلَيْهَا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْقَمَرِ إِنْ أَحْيَانَا اللهُ تَعَالَى وَوَفَّقَنَا لِإِتْمَامِ التَّفْسِيرِ بِفَضْلِهِ.
(وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ
عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
لَمَّا كَانَ الْجَوَابُ عَنِ اقْتِرَاحِهِمُ الْآيَةَ الْكَوْنِيَّةَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى النُّبُوَّةِ يَتَضَمَّنُ - بِمَعُونَةٍ مَا يُفَصِّلُهُ مِنَ الْآيَاتِ - أَنَّ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَانِدِينَ لَا يَقْتَنِعُونَ بِالْآيَاتِ، وَأَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْهَا بِأَعْيُنِهِمْ يُكَابِرُونَ حِسَّهُمْ وَلَا يُؤْمِنُونَ، ضَرَبَ اللهُ تَعَالَى مَثَلًا لَهُ فِي آيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ فِي أَفْعَالِهِ وَحِكَمِهِ فِيهَا، وَمَا لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَانِدِينَ مِنَ الْمَكْرِ فِيهَا وَكَوْنِهَا لَا تَزِيدُهُمْ إِلَّا ضَلَالًا فَقَالَ:
(وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ هَذِهِ الشَّرْطِيَّةُ مُنْتَظِمَةٌ مَعَ أُخْتَيْهَا فِي الْآيَتَيْنِ ١٢ و١٥ فِي نَسَقٍ وَاحِدٍ، وَالذَّوْقُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: إِدْرَاكُ الطَّعْمِ بِالْفَمِ، وَالْمُدْرِكُ لَهُ
273
عَصَبٌ خَاصٌّ فِي اللِّسَانِ، وَاسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي إِدْرَاكِ غَيْرِهِ مِنَ الْمُلَائِمَاتِ كَالرَّحْمَةِ وَالنِّعْمَةِ، وَالْمُؤْلِمَاتِ كَالْعَذَابِ وَالنِّقْمَةِ، وَالضَّرَّاءُ الْحَالَةُ مِنَ الضُّرِّ الْمُقَابِلِ لِلنَّفْعِ، وَيُقَابِلُهَا السَّرَّاءُ مِنَ السُّرُورِ، أَيْ وَإِذَا كَشَفْنَا ضَرَّاءَ مَسَّ النَّاسَ أَلَمُهَا، بِرَحْمَةٍ مِنَّا أَذَقْنَاهُمْ لَذَّتَهَا عَلَى أَتَمِّهَا؛ لِأَنَّ الشُّعُورَ بِهَا عَقِبَ زَوَالِ ضِدِّهَا يَكُونُ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ _ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا ((إِذَا)) هَذِهِ تُسَمَّى الْفُجَائِيَّةُ، وَالْجُمْلَةُ جَوَابٌ لِلشَّرْطِ، أَيْ مَا كَانَ مِنْهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ بَادَرُوا إِلَى الْمَكْرِ، وَأَسْرَعُوا بِالْمُفَاجَأَةِ بِهِ فِي مَقَامِ الشُّكْرِ، فَإِذَا كَانَتِ الرَّحْمَةُ مَطَرًا أَحْيَا الْأَرْضَ، وَأَنْبَتَ الزَّرْعَ، وَدَرَّ بِهِ الضَّرْعُ بَعْدَ جَدَبٍ وَقَحْطٍ أَهْلَكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، قَالُوا: مُطِرْنَا بِالْأَنْوَاءِ، وَإِذَا كَانَتْ نَجَاةً مِنْ هَلَكَةٍ وَأَعْوَزَتْهُمْ أَسْبَابُهَا، عَلَّلُوهَا بِالْمُصَادَفَاتِ، وَإِذَا كَانَ سَبَبَهَا دُعَاءُ نَبِيِّهِمْ أَنْكَرُوا
إِكْرَامَ اللهِ لَهُ وَتَأْيِيدَهُ بِهَا، كَمَا فَعَلَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ عَقِبَ آيَاتِ مُوسَى، وَكَمَا فَعَلَ مُشْرِكُو مَكَّةَ إِثْرَ الْقَحْطِ الَّذِي أَصَابَهُمْ بِدُعَاءِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِمْ، ثُمَّ رُفِعَ عَنْهُمْ بِدُعَائِهِ، فَمَا زَادَهُمْ ذَلِكَ إِلَّا كُفْرًا وَجُحُودًا وَمَكْرًا وَكَنُودًا.
أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا اسْتَعْصَوْا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا عَلَيْهِمْ بِسِنِينَ كَسِنِيِّ يُوسُفَ، فَأَصَابَهُمْ قَحْطٌ وَجُهْدٌ حَتَّى أَكَلُوا الْعِظَامَ وَالْمَيْتَةَ مِنَ الْجَهْدِ، حَتَّى جَعَلَ أَحَدُهُمْ يَرَى مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنَ الْجُوعِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) (٤٤: ١٠ و١١) فَأَتَى رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ اسْتَقِ لِمُضَرَ فَإِنَّهَا قَدْ هَلَكَتْ. فَقَالَ: ((مُضَرُ؟)) مُتَعَجِّبًا. ؟ وَفِي رِوَايَةٍ فَجَاءَهُ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ جِئْتَ تَأْمُرُنَا بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا فَادْعُ اللهَ، فَدَعَا لَهُمْ فَكَشَفَ اللهُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ وَمُطِرُوا، فَعَادُوا إِلَى حَالِهِمْ وَمَكْرِهِمُ الْأَوَّلِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٨: ٣٠) الْآيَةَ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا وَتَفْسِيرِ آيَةِ ٧: ٩٩ وَآيَةِ (٣: ٥٤) مَعْنَى الْمَكْرِ فِي اللُّغَةِ وَكَوْنِهِ حَسَنًا وَسَيِّئًا وَمَعْنَى إِسْنَادِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى: وَخُلَاصَتُهُ: أَنَّ الْمَكْرَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّدْبِيرِ الْخَفِيِّ الَّذِي يُفْضِي بِالْمَمْكُورِ بِهِ إِلَى مَا لَا يَحْتَسِبُهُ وَلَا يَتَوَقَّعُهُ، وَأَنَّ مَكْرَهُ تَعَالَى وَهُوَ تَدْبِيرُهُ الَّذِي يَخْفَى عَلَى النَّاسِ، إِنَّمَا يَكُونُ بِإِقَامَةِ سُنَنِهِ وَإِتْمَامِ حُكْمِهِ فِي نِظَامِ الْعَالَمِ وَكُلُّهُ حَقٌّ وَعَدْلٌ وَحُسْنٌ، وَلَكِنْ مَا يَسُوءُ النَّاسَ مِنْهُ يُسَمُّونَهُ شَرًّا وَسُوءًا، وَإِنْ كَانَ جَزَاءً عَدْلًا، وَيُرَاجَعْ تَحْقِيقُهُ فِي الْجُزْءِ ٣ و٩ مِنَ التَّفْسِيرِ (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُسْرِعُونَ فِي الْمَكْرِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْمُفَاجَأَةُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَسْرَعُ مَكْرًا مِنْكُمْ؛ إِذْ سَبَقَ فِي تَدْبِيرِهِ لِأُمُورِ الْعَالَمِ وَتَقْدِيرِهِ لِلْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، أَنْ يُعَاقِبَكُمْ عَلَى مَكْرِكُمْ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ، وَأَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ: (إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ) يَعْنِي الْحَفَظَةَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ وَكَّلَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِإِحْصَاءِ
274
أَعْمَالِ النَّاسِ وَكَتْبِهَا لِلْحِسَابِ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ. وَكِتَابَةُ الْمَكْرِ عِبَارَةٌ عَنْ كِتَابَةِ مُتَعَلِّقِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي كَانَ هُوَ الْبَاعِثَ عَلَيْهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تُكْتَبَ نِيَّتُهَا وَهِيَ الْمَعْنَى
الْمَصْدَرِيُّ لِلْمَكْرِ.
وَالْجُمْلَةُ تَتِمَّةُ الْجَوَابِ الَّذِي لَقَّنَهُ اللهُ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُبَلِّغُهُ عَنْهُ عَزَّ وَجَلَّ بِلَفْظِهِ الْمُوحَى إِلَيْهِ لَا بِمَعْنَاهُ، وَلِذَلِكَ يَدْخُلُ فِي التَّبْلِيغِ لَفْظُ " قُلْ " وَهُوَ خِطَابُ اللهِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ مَقُولِهِ الْخَاصِّ بِهِمْ كَقَوْلِهِ: (قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ) (١٠٩: ١) وَأَمْثَالُهُ الْكَثِيرَةُ فِي الْقُرْآنِ، بَلْ أَقُولُ: إِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلَّغَهُمُ الْآيَةَ بِرُمَّتِهَا: مَا حَكَاهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وَمَا أَمَرَهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ بِهِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي ضِمْنِ السُّورَةِ كُلِّهَا لَا وَحْدَهُ، وَمِثْلُ هَذَا يُقَالُ فِي أَمْثَالِهِ.
فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادَ أَنْ يَقُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمْ كَلِمَةَ: ((اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا)) مِنْ قَبْلِ نَفْسِهِ؛ فَيَسْتَشْكِلَ الِالْتِفَاتُ فِيهَا عَنِ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ فِي: (إِنَّ رُسُلَنَا) بَلْ هُوَ جَارٍ عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِيهِ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي تَصْوِيرِ تَسْخِيرِ اللهِ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ فِي كِتَابَةِ الْأَعْمَالِ مِنَ التَّعْبِيرِ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ ((إِنَّ رُسُلَهُ يَكْتُبُونَ)) إِلَخْ؛ لِأَنَّ فِي ضَمِيرَ الْجَمْعِ مِنْ تَصْوِيرِ الْعَظْمَةِ فِي هَذَا التَّدْبِيرِ الْعَظِيمِ، وَالنِّظَامِ الدَّقِيقِ، مَا يَشْعُرُ بِهِ كُلُّ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ سَيِّدَةِ اللُّغَاتِ، الَّتِي اعْتَرَفَ عُلَمَاءُ اللُّغَاتِ مِنَ الْإِفْرِنْجِ بِأَنَّهَا تَفُوقُ جَمِيعَ لُغَاتِهِمْ، فِي التَّعْبِيرِ عَنْ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى وَكَمَالِهِ وَعَظَمَتِهِ. وَمِثْلُ هَذَا الِالْتِفَاتِ فِيهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ الْكَهْفِ: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) (١٨: ١٠٩) وَقَرَأَ نَافِعٌ وَيَعْقُوبُ (يَمْكُرُونَ) بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَفَائِدَتُهُ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ ذَلِكَ شَامِلٌ لِلْغَائِبِينَ كَالْحَاضِرِينَ.
وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي كِتَابَةِ الْمَلَائِكَةِ الْحَفَظَةِ لِأَعْمَالِ النَّاسِ وَحِكْمَتِهَا فِي تَفْسِيرِ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً (٦: ٦١) مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَشَرَحْنَا قَبْلَهَا مَسْأَلَةَ كِتَابَةِ مَقَادِيرِ الْخَلْقِ كُلِّهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) (٦: ٥٩) مِنْهَا فَيُرَاجِعُ الْمَوْضُوعُ كُلُّهُ فِي جُزْءِ التَّفْسِيرِ السَّابِعِ مَنْ شَاءَ، وَمَنِ اكْتَفَى بِالْإِجْمَالِ فَحَسْبُهُ الْإِيمَانُ بِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَكْتُبُ الْأَعْمَالَ كِتَابَةً غَيْبِيَّةً لَمْ يُكَلِّفْنَا اللهُ تَعَالَى مَعْرِفَةَ صِفَتِهَا، وَإِنَّمَا كَلَّفَنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِأَنَّ لَهُ نِظَامًا حَكِيمًا فِي إِحْصَائِهَا؛ لِأَجْلِ مُرَاقَبَتِنَا لَهُ فِيهَا؛ لِنَلْتَزِمَ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ وَالْخَيْرَ وَنَجْتَنِبَ أَضْدَادَهَا.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ اسْمَ التَّفْضِيلِ: (أَسْرَعُ) فِيهَا عَلَى أَصْلِهِ مِنَ الْفِعْلِ الثُّلَاثِيِّ: سَرُعَ كَضَخُمَ وَحَسُنَ سَرْعًا وَسُرْعَةً فَهُوَ سَرِعٌ وَسَرِيعٌ وَسَرَاعٌ وَالْمُسْتَعْمَلُ بِكَثْرَةٍ الرُّبَاعِيُّ أَسْرَعَ، وَفِي اللِّسَانِ أَنْ سِيبَوَيْهِ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: أَسْرَعَ طَلَبُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ وَتَكَلُّفُهُ كَأَنَّهُ أَسْرَعَ
275
الْمَشْيَ أَيْ عَجَّلَهُ، وَأَمَّا سَرُعَ فَكَأَنَّهَا غَرِيزَةٌ، وَأَنَّ ابْنَ جِنِّيٍّ اسْتَعْمَلَ أَسْرَعَ مُتَعَدِّيًا، انْتَهَى. وَجَوَّزَ بَعْضُ النُّحَاةِ كَوْنَ اسْمِ التَّفْضِيلِ مِثْلِ ((أَسْرَعُ)) مُطْلَقًا، أَوْ إِذَا لَمْ تَكُنْ هَمْزَتُهُ لِلتَّعْدِيَةِ.
ثُمَّ ضَرَبَ اللهُ تَعَالَى مَثَلًا لِهَؤُلَاءِ النَّاسِ هُوَ مِنْ أَبْلَغِ أَمْثَالِ الْقُرْآنِ فَقَالَ: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) السَّيْرُ الْمُضِيُّ وَالِانْتِقَالُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ وَالتَّسْيِيرُ جَعْلُ الشَّيْءِ أَوِ الشَّخْصِ يَسِيرُ بِتَسْخِيرِهِ أَوْ إِعْطَائِهِ مَا يَسِيرُ عَلَيْهِ مِنْ دَابَّةٍ أَوْ مَرْكَّبَةٍ أَوْ سَفِينَةٍ، أَيْ إِنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا وَهَبَكُمْ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى السَّيْرِ، وَمَا سَخَّرَ لَكُمْ مِنَ الْإِبِلِ وَالدَّوَابِّ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ (وَزَادَنَا فِي هَذَا الْعَصْرِ الْقِطَارَاتِ وَالسَّيَّارَاتِ الْبُخَارِيَّةَ وَالطَّيَّارَاتِ الَّتِي تَسِيرُ فِي الْجَوَاءِ) (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) أَيْ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي إِحْدَى حَوَادِثِ سَيْرِكُمُ الْبَحْرِيِّ رَاكِبِينَ فِي الْفُلْكِ الَّتِي سَخَّرَهَا لَكُمْ، وَالْفُلْكُ بِالضَّمِّ اسْمٌ لِلسَّفِينَةِ الْمُفْرَدَةِ وَلِجَمْعِهَا وَهُوَ السُّفُنُ وَالسَّفَائِنُ (مُفْرَدُهُ وَجَمْعُهُ وَاحِدٌ) وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْجَمْعُ إِذْ قَالَ: (وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) أَيْ وَجَرَتْ هَذِهِ الْفُلْكُ بِمَنْ فِيهَا بِسَبَبِ رِيحٍ طَيِّبَةٍ، أَيْ رُخَاءٍ مُوَاتِيَةٍ لَهُمْ فِي جِهَةِ سِيَرِهِمْ، وَالطِّيبُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَا يُوَافِقُ الْغَرَضَ وَالْمَنْفَعَةَ؛ يُقَالُ: رِزْقٌ طَيِّبٌ، وَنَفْسٌ طَيِّبَةٌ، وَبَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ، وَشَجَرَةٌ طَيِّبَةٌ، وَفِي قَوْلِهِ: (بِهِمْ) الْتِفَاتٌ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ فَائِدَتُهُ _ كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ _ الْمُبَالَغَةُ، كَأَنَّهُ يَذْكُرُ لِغَيْرِهِمْ حَالَهُمْ لِيُعْجِبَهُمْ مِنْهَا وَيَسْتَدْعِيَ مِنْهُمُ الْإِنْكَارَ وَالتَّقْبِيحَ لَهَا لِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ كُفْرِ النِّعْمَةِ وَفَرِحُوا بِهَا لِمَا يَكُونُ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنَ الرَّاحَةِ وَالِانْتِعَاشِ وَالْأَمْنِ مِنْ دُوَارِ الْبَحْرِ وَالتَّمَتُّعِ بِمَنْظَرِهِ الْجَمِيلِ، فِي ذَلِكَ الْهَوَاءِ الْعَلِيلِ جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ
أَيْ جَاءَتِ الْفُلْكَ أَوِ الرِّيحَ الطَّيِّبَةَ، أَيْ لَاقَتْهَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ قَوِيَّةٌ.
يُقَالُ: عَصَفَتِ الرِّيحُ فَهِيَ عَاصِفٌ وَعَاصِفَةٌ أَيْ تَعْصِفُ الْأَشْيَاءَ فَتَكُونُ كَعَصْفِ النَّبَاتِ وَهُوَ الْحُطَامُ الْمُتَكَسِّرَةُ مِنْهُ: (وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ أَيْ وَاضْطَرَبَ الْبَحْرُ وَتَمَوَّجَ سَطْحُهُ كُلُّهُ، فَتَلَقَّاهُمْ مَوْجُهُ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ وَالنَّوَاحِي بِتَأْثِيرِ الرِّيحِ، فَهِيَ أَنْوَاعٌ مِنْهَا مَا يَهُبُّ مِنْ نَاحِيَةٍ وَاحِدَةٍ كَالرِّيَاحِ الْأَرْبَعِ، وَمِنْهَا النَّكْبَاءُ وَهِي الْمُنْحَرِفَةُ الَّتِي تَقَعُ بَيْنَ رِيحَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، وَمِنْهَا الْمُتَنَاوِحَةُ الَّتِي تَهُبُّ مِنْ جَمِيعِ النَّوَاحِي، وَمِنْهَا الْإِعْصَارُ وَهِي الرِّيحُ الَّتِي تَدُورُ فَتَكُونُ عَمُودِيَّةً فَيَرْتَفِعُ بِهَا مَا تَدُورُ عَلَيْهِ مِنَ التُّرَابِ وَالْحَصَى مِنَ الْأَرْضِ، وَالْمَاءِ مِنْ سَطْحِ الْبَحْرِ بِمَا عَلَيْهِ وَمَا فِيهِ مَنْ سَمَكٍ وَغَيْرِهِ ثُمَّ يُلْقَى فِي مَكَانٍ آخَرَ (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) أَيِ اعْتَقَدُوا اعْتِقَادًا رَاجِحًا أَنَّهُمْ هَلَكُوا بِإِحَاطَةِ الْمَوْجِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، كَمَا يُحِيطُ الْعَدُوُّ الْمُحَارِبُ بِعَدُوِّهِ إِذْ يُطَوِّقُهُ بِمَا يَقْطَعُ عَلَيْهِ سُبُلَ النَّجَاةِ. ذَلِكَ بِأَنَّ فِعْلَ الْعَاصِفِ يَهْبِطُ بِهِمْ فِي لُجَجِ الْبَحْرِ تَارَةً كَأَنَّهُمْ سَقَطُوا فِي هَاوِيَةٍ سَحِيقَةٍ، وَلَا يَلْبَثُ أَنْ يَثِبَ بِهِمْ إِلَى أَعْلَى غَوَارِبِ الْمَوْجِ كَأَنَّهُمْ فِي قُنَّةِ جَبَلٍ شَاهِقٍ أَصَابَهُ رَجْفَةُ زَلْزَلَةٍ شَدِيدَةٍ (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) هَذَا جَوَابٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) إِلَخْ، أَيْ حَتَّى إِذَا مَا نَزَلَ بِهِمْ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ
276
نُذُرِ الْعَذَابِ، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ دُونَ النَّجَاةِ جَمِيعُ الْأَسْبَابِ، دَعَوُا اللهَ فِي كَشْفِهِ عَنْهُمْ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، لَا يَتَوَجَّهُونَ مَعَهُ إِلَى وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ، وَلَا نِدٍّ وَلَا شَرِيكٍ، مِمَّنْ كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ بِهِمْ إِلَيْهِ فِي حَالِ الرَّخَاءِ، عَازِمِينَ عَلَى طَاعَتِهِ قَائِلِينَ: (لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أَيْ نُقْسِمُ لَكَ يَا رَبَّنَا لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ التَّهْلُكَةِ أَوِ الْعَاصِفَةِ لَنَكُونَنَّ لَكَ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّاكِرِينَ لِنَعْمَائِكَ لَا نَكْفُرُ مِنْهَا شَيْئًا، وَلَا نُشْرِكُ بِكَ أَحَدًا، وَلَا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ وَلِيًّا وَلَا شَفِيعًا، وَلَا نَتَوَجَّهُ فِي تَفْرِيجِ كُرُوبِنَا وَقَضَاءِ حَاجِنَا إِلَى وَثَنٍ وَلَا صَنَمٍ، وَلَا إِلَى وَلِيٍّ وَلَا نَبِيٍّ، وَلَا مَلِكٍ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا بَيَانٌ صَرِيحٌ لِكَوْنِ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يَدْعُونَ فِي أَوْقَاتِ الشَّدَائِدِ وَتَقَطُّعِ الْأَسْبَابِ بِهِمْ إِلَّا اللهَ رَبَّهُمْ، وَلَكِنْ مَنْ لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ مِنْ مُسْلِمِي هَذَا الزَّمَانِ بِزَعْمِهِمْ لَا يَدْعُونَ عِنْدَ أَشَدِّ الضِّيقِ إِلَّا مَعْبُودِيهِمْ مِنَ الْمَيِّتِينَ، كَالْبَدَوِيِّ وَالرِّفَاعِيِّ وَالدُّسُوقِيِّ
وَالْجِيلَانِيِّ وَالْمَتْبُولِيِّ وَأَبِي سَرِيعٍ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ، وَتَجِدُ مِنْ حَمْلَةِ الْعَمَائِمِ الْأَزْهَرِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ وَلَا سِيَّمَا سَدَنَةِ الْمَشَاهِدِ الْمَعْبُودَةِ الَّذِينَ يَتَمَتَّعُونَ بِأَوْقَافِهَا وَنُذُورِهَا، مَنْ يُغْرِيهِمْ بِشِرْكِهِمْ وَيَتَأَوَّلُهُ لَهُمْ بِتَسْمِيَتِهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ كَالتَّوَسُّلِ وَغَيْرِهِ.
وَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِي مِصْرَ وَسُورِيَةَ حِكَايَةً يَتَنَاقَلُونَهَا رُبَّمَا تَكَرَّرَتْ فِي الْقُطْرَيْنِ لِتُشَابُهِ أَهْلِهِمَا وَأَكْثَرِ مُسْلِمِي هَذَا الْعَصْرِ فِي خُرَافَاتِهِمْ، وَمُلَخَّصُهَا أَنَّ جَمَاعَةً رَكِبُوا الْبَحْرَ فَهَاجَ بِهِمْ حَتَّى أَشْرَفُوا عَلَى الْغَرَقِ فَصَارُوا يَسْتَغِيثُونَ مُعْتَقَدِيهِمْ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: يَا سَيِّدُ يَا بَدَوِيُّ، وَبَعْضُهُمْ يَصِيحُ يَا رِفَاعِيُّ، وَآخَرُ يَهْتِفُ: يَا عَبْدَ الْقَادِرِ يَا جِيلَانِيُّ..... إِلَخْ وَكَانَ فِيهِمْ رَجُلٌ مُوَحِّدٌ ضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا فَقَالَ: يَارَبِّ أَغْرِقْ أَغْرِقْ، مَا بَقِيَ أَحَدٌ يَعْرِفُكَ.
وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قَالَ السَّيِّدُ حَسَنُ صِدِّيقٍ الْهِنْدِيُّ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْآيَةِ مِنْ تَفْسِيرِهِ فَتْحِ الرَّحْمَنِ: وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ جُبِلُوا عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى اللهِ فِي الشَّدَائِدِ، وَأَنَّ الْمُضْطَرَّ يُجَابُ دُعَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى أَصْنَامِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَمَا شَابَهَهَا. فَيَا عَجَبًا لِمَا حَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ طَوَائِفَ يَعْتَقِدُونَ فِي الْأَمْوَاتِ، فَإِذَا عَرَضَتْ لَهُمْ فِي الْبَحْرِ مِثْلُ هَذِهِ الْحَالَةِ، دَعَوُا الْأَمْوَاتَ وَلَمْ يُخْلِصُوا الدُّعَاءَ لِلَّهِ كَمَا فَعَلَهُ الْمُشْرِكُونَ، كَمَا تَوَاتَرَ ذَلِكَ إِلَيْنَا تَوَاتُرًا يَحْصُلُ بِهِ الْقَطْعُ، فَانْظُرْ هَدَاكَ اللهُ مَا فَعَلَتْ هَذِهِ الِاعْتِقَادَاتُ الشَّيْطَانِيَّةُ؟ وَأَيْنَ وَصَلَ أَهْلُهَا؟ وَإِلَى أَيْنَ رَمَى بِهِمُ الشَّيْطَانُ؟ وَكَيْفَ اقْتَادَهُمْ وَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ حَتَّى انْقَادُوا لَهُ انْقِيَادًا مَا كَانَ يَطْمَعُ فِي مِثْلِهِ وَلَا فِي بَعْضِهِ مِنْ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)).
وَقَالَ السَّيِّدُ مَحْمُودٌ الْأُلُوسِيُّ الْعِرَاقِيُّ فِي تَفْسِيرِهَا مِنْ رُوحِ الْمَعَانِي مَا نَصُّهُ:
((أَيْ دَعَوْهُ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ إِشْرَاكٍ لِرُجُوعِهِمْ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ إِلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْهَا كُلُّ أَحَدٍ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَأَنَّهُ لَا مُتَصَرِّفَ إِلَّا اللهُ سُبْحَانَهُ الْمَرْكُوزُ فِي طَبَائِعِ الْعَالَمِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ
277
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِنْ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنِّسَائِيُّ
وَغَيْرُهُمَا عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ فَرَّ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ فَرَكِبَ الْبَحْرَ فَأَصَابَتْهُمْ عَاصِفٌ فَقَالَ أَصْحَابُ السَّفِينَةِ لِأَهْلِ السَّفِينَةِ: أَخْلِصُوا فَإِنَّ آلِهَتَكُمْ لَا تُغْنِي عَنْكُمْ شَيْئًا، فَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَئِنْ لَمْ يُنْجِنِي فِي الْبَحْرِ إِلَّا الْإِخْلَاصُ مَا يُنْجِينِي فِي الْبَرِّ غَيْرُهُ، اللهُمَّ إِنَّ لَكَ عَهْدًا إِنْ أَنْتَ عَافَيْتَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ أَنْ آتِيَ مُحَمَّدًا حَتَّى أَضَعَ يَدِيَ فِي يَدِهِ فَلْأَجِدَنَّهُ عَفُوًّا كَرِيمًا، قَالَ: فَجَاءَ فَأَسْلَمَ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عِكْرِمَةَ لَمَّا رَكِبَ السَّفِينَةَ وَأَخَذَتْهُمُ الرِّيحُ فَجَعَلُوا يَدْعُونَ اللهَ تَعَالَى وَيُوَحِّدُونَهُ قَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا مَكَانٌ لَا يَنْفَعُ فِيهِ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، قَالَ: فَهَذَا إِلَهُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي يَدْعُونَا إِلَيْهِ فَارْجِعُوا بِنَا، فَرَجَعَ وَأَسْلَمَ، ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ تَخْصِيصَ الدُّعَاءِ فَقَطْ بِهِ سُبْحَانَهُ، بَلْ تَخْصِيصَ الْعِبَادَةِ بِهِ تَعَالَى أَيْضًا، لِأَنَّهُمْ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ لَا يَكُونُونَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَدْعُونَ غَيْرَهُ تَعَالَى فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ النَّاسَ الْيَوْمَ إِذَا اعْتَرَاهُمْ أَمْرٌ خَطِيرٌ، وَخَطْبٌ جَسِيمٌ فِي بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ، دَعَوْا مَنْ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَلَا يَرَى وَلَا يَسْمَعُ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَدْعُو الْخِضْرَ وَإِلْيَاسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُنَادِي أَبَا الْخَمِيسِ وَالْعَبَّاسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَغِيثُ بِأَحَدِ الْأَئِمَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَضْرَعُ إِلَى شَيْخٍ مِنْ مَشَايِخِ الْأُمَّةِ، وَلَا تَرَى فِيهِمْ أَحَدًا يَخُصُّ مَوْلَاهُ، بِتَضَرُّعِهِ وَدُعَاهُ، وَلَا يَكَادُ يَمُرُّ لَهُ بِبَالٍ، أَنَّهُ لَوْ دَعَا اللهَ تَعَالَى وَحْدَهُ يَنْجُو مِنْ هَاتِيكَ الْأَهْوَالِ، فَبِاللهِ تَعَالَى عَلَيْكَ قُلْ لِي أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ أَهْدَى سَبِيلًا، وَأَيُّ الدَّاعِيَيْنِ أَقُومُ قِيلًا! وَإِلَى اللهِ تَعَالَى الْمُشْتَكَى مِنْ زَمَانٍ عَصَفَتْ فِيهِ رِيحُ الْجَهَالَةِ وَتَلَاطَمَتْ أَمْوَاجُ الضَّلَالَةِ، وَخُرِّقَتْ سَفِينَةُ الشَّرِيعَةِ، وَاتُّخِذَتِ الِاسْتِغَاثَةُ بِغَيْرِ اللهِ تَعَالَى لِلنَّجَاةِ ذَرِيعَةً، وَتَعَذَّرَ عَلَى الْعَارِفِينَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَحَالَتْ دُونَ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ صُنُوفُ الْحُتُوفِ اهـ.
أَقُولُ - يَعْنِي الشِّهَابُ الْأَلُوسِيُّ رَحِمَهُ اللهُ - إِنَّ فُشُوَّ هَذَا الشِّرْكِ فِي النَّاسِ عَامَّتِهِمْ، وَشُيُوخِ الْبِدَعِ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ حُكَّامِهِمْ، جَعَلَ نَهْيَ الْعَارِفِينَ عَنْهُ، وَأَمْرَهُمْ بِالتَّوْحِيدِ الْمَحْضِ، مِنَ الْأُمُورِ الْمُتَعَذِّرَةِ، الَّتِي يُخْشَى عَلَى الْمُجَاهِرِ بِهَا الْحُتُوفُ
وَالْهَلَكَةُ. وَنَحْنُ مَا أَمْكَنَنَا هَذِهِ الْمُجَاهَرَةُ فِي مِصْرَ إِلَّا بِمَا رَسَخَ فِيهَا مِنَ الْحُرِّيَّةِ الْمُطْلَقَةِ بِتَفَرْنُجِ الْحُكُومَةِ. وَلَمَّا جَهَرْتُ بِهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فِي دَرْسٍ عَامٍّ بِالْمَسْجِدِ الْحُسَيْنِيِّ سَنَةَ ١٣١٦ هَاجَ عَلَيَّ النَّاسُ هَيْجَةً شُؤْمَى، وَحَاوَلَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَقْتُلَنِي جَهْرًا، فَمَا يَقُولُ شَيْخُ الْأَزْهَرِ وَمُحَرِّرُو مَجَلَّةِ الْمَشْيَخَةِ (نُورِ الْإِسْلَامِ) فِي السَّيِّدِ الْأَلُوسِيِّ وَفِي السَّيِّدِ حَسَنِ صِدِّيقٍ؟ لَا يَبْعُدُ أَنْ تَطْعَنَ هَذِهِ الْمَجَلَّةُ فِي دِينِهِمَا وَعَقِيدَتِهِمَا كَمَا طَعَنَتْ عَلَى دِينِ الْإِمَامِ الشَّوْكَانِيِّ فِي جُزْئِهَا الَّذِي صَدَرَ أَثْنَاءَ كِتَابَتِنَا لِتَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ.
278
(اهْتِدَاءُ بَارِجٍ إِنْكِلِيزِيٍّ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا)
سَاقَ اللهُ تَعَالَى نُسْخَةً مِنْ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ بِاللُّغَةِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ إِلَى بَارِجٍ مِنْ رَبَابِينِ الْبَوَاخِرِ الْكُبْرَى الَّتِي تَمْخُرُ الْبِحَارَ بَيْنَ إِنْكِلْتِرَةَ وَالْهِنْدِ، فَرَأَى فِيهَا تَرْجَمَةَ هَذِهِ الْآيَةِ فَرَاعَتْهُ بَلَاغَةُ وَصْفِهَا لِطُغْيَانِ الْبَحْرِ وَاصْطِخَابِهِ، وَمَا تَفْعَلُهُ الرِّيَاحُ الْمَوْسِمِيَّةُ الْعَاتِيَةُ بِالْبَوَاخِرِ وَالْبَوَارِجِ الْعَظِيمَةِ فِي الْمُحِيطِ الْهِنْدِيِّ فِي فَصْلِ الصَّيْفِ، فَطَفِقَ يَتَأَمَّلُ سَائِرَ الْآيَاتِ فِي وَصْفِ الْبَحْرِ، وَالسَّفَائِنِ الْكُبْرَى فِيهِ الَّتِي وُجِدَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا نَظِيرٌ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَلَهُ الْجَوَارِي الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ) (٥٥: ١٩ - ٢٤) وَرَأَى أَنَّ الْمُتَرْجِمَ الْإِنْكِلِيزِيَّ يَنْقُلُ عَنْ أَشْهَرِ تَفَاسِيرِ الْقُرْآنِ لِبَعْضِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، الَّتِي أُلِّفَتْ بَعْدَ افْتِتَاحِ الْعَرَبِ لِلْمَمَالِكِ وَاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى الْبِحَارِ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْرَفُونَ مَا عَرَفَهُ الْإِنْكِلِيزُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ، أَنَّ اللُّؤْلُؤَ وَالْمَرْجَانَ يَخْرُجُ مِنَ الْبِحَارِ الْحُلْوَةِ كَمَا يَخْرُجُ مِنَ الْبِحَارِ الْمَالِحَةِ، فَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) بِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ مُجْتَمَعِهِمَا الصَّادِقِ بِأَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّهُ بِزَعْمِهِمْ يَخْرُجُ مِنَ الْبَحْرِ الْمِلْحُ فَقَطْ، غَافِلِينَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) (٣٥: ١٢) وَنَبَّهَ نَظَرَهُ تَشْبِيهُ الْجَوَارِي الْمُنْشَآتِ بِالْأَعْلَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ) (٤٢: ٣٢، ٣٣) وَالْعَلَمُ الْجَبَلُ، وَأَصْلُهَا أَعْلَامُ الطَّرِيقِ الْعَالِيَةُ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَا الْمَسَالِكُ، أَطَالَ الْفِكْرَ هَذَا
الرُّبَّانُ الْإِنْكِلِيزِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فَتَعَمَّدَ أَنْ يَعْرِفَ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ فِي بَعْضِ ثُغُورِ الْهِنْدِ، فَسَأَلَهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ نَبِيَّكُمْ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَافَرَ فِي الْبِحَارِ؟ قَالُوا: لَا إِنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ أَنَّهُ سَافَرَ فِي الْبَحْرِ قَطُّ، فَاعْتَقَدَ أَنَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِمَّا ذُكِرَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِهَذَا النَّبِيِّ الْعَظِيمِ، وَأَعْظَمُ مِنْهُ مَا فِيهِ مِنْ آيَاتِ التَّوْحِيدِ وَالتَّشْرِيعِ وَالتَّهْذِيبِ، الَّتِي هِيَ أَكْمَلُ وَأَقْرَبُ إِلَى الْعَقْلِ وَالْفِكْرَةِ مِنْ كُلِّ مَا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَأَسْلَمَ عَنْ عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ، وَظَلَّ زَمَنًا طَوِيلًا يَتَعَبَّدُ بِمَا يَفْهَمُهُ مِنْ تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ، حَتَّى أُتِيحَ لَهُ تَرْكُ عَمَلِهِ فِي الْبِحَارِ فَأَقَامَ فِي مِصْرَ وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ وَعَاشَرَ فُضَلَاءَ الْمِصْرِيِّينَ، وَهُوَ مِسْتَرْ عَبْدُ اللهِ بِرَاوِنْ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَأَنَا قَدْ أَدْرَكْتُهُ وَعَرَفْتُهُ، وَلَا يَزَالُ فِي مِصْرَ مَنْ يَعْرِفُهُ وَقَدْ ضَرَبَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِهِ الْمَثَلَ فِي صَلَاتِهِ الَّتِي كَانَ يُصَلِّيهَا فِي الْبَحْرِ بِقَدْرِ مَا يَفْهَمُ مِنَ الْقُرْآنِ بِكُلِّ خُشُوعٍ وَتَوَجُّهٍ إِلَى اللهِ تَعَالَى، فِي كَلَامٍ لَهُ فِي رُوحِ الصَّلَاةِ وَمَغْزَاهَا، وَصُورَتِهَا وَأَرْكَانِهَا، قَالَ: قَدْ كَانَتْ تِلْكَ الصَّلَاةُ أَقْرَبَ إِلَى مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى وَقَبُولِهِ مِنَ الصَّلَاةِ الصُّورِيَّةِ التَّقْلِيدِيَّةِ، الَّتِي يُمَثِّلُهَا مَنْ لَا يَخْطُرُ فِي قُلُوبِهِمْ فِيهَا أَنَّهُمْ مُتَوَجِّهُونَ إِلَى اللهِ وَمُنَاجُونَ لَهُ، مَعَ اسْتِشْعَارِ عَظَمَتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ إِلَخْ.
279
قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ: (فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ) أَيْ إِذَا هُمْ يُفَاجِئُونَ النَّاسَ فِي الْأَرْضِ الَّتِي يَهْبِطُونَ إِلَيْهَا بِالْبَغْيِ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ الظُّلْمُ وَالْعُدْوَانُ وَالْإِفْسَادُ، يَمْنَعُونَ فِي ذَلِكَ وَيُصِرُّونَ عَلَيْهِ، وَأَصْلُ الْبَغْيِ طَلَبُ مَا زَادَ عَلَى الْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ، إِلَى الْإِفْرَاطِ الْمُفْضِي إِلَى الْفَسَادِ وَالِاخْتِلَالِ، مِنْ بَغَى الْجُرْحُ إِذَا زَادَ حَتَّى تَرَامَى إِلَى الْفَسَادِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: بَغَتِ السَّمَاءُ، إِذَا تَجَاوَزَتْ فِي الْمَطَرِ الْحَدَّ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهِ لِلزَّرْعِ وَالشَّجَرِ وَإِمْدَادِ الْيَنَابِيعِ، وَبَغَتِ الْمَرْأَةُ إِذَا تَجَاوَزَتْ فِي بُضْعِهَا الْحَقَّ الْخَاصَّ بِالزَّوْجِ إِلَى الْفُجُورِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ كَمَا وَصَفَهُ بِغَيْرِ الْحَقِّ فَتَكُونُ الصِّفَةُ كَاشِفَةً لِلْوَاقِعِ لِلتَّذْكِيرِ بِقُبْحِهِ وَسُوءِ حَالِ أَهْلِهِ، وَقَدْ يَكُونُ الْبَغْيُ - وَهُوَ تُجَاوُزُ حَدِّ الِاعْتِدَالِ - بِحَقٍّ إِذَا كَانَ عِقَابًا عَلَى مِثْلِهِ أَوْ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، كَمَا يَقَعُ فِي الْحُرُوبِ وَقِتَالِ الْبُغَاةِ مِنِ اضْطِرَارِ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْمُعْتَدَى عَلَيْهِمْ، إِلَى تَجَاوُزِ الْحُدُودِ فِي أَثْنَاءِ الدِّفَاعِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ
الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) إِلَى قَوْلِهِ: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (٤٢: ٣٩ - ٤٢) وَقَالَ فِي بَيَانِ أُصُولِ الْجَرَائِمِ: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (٧: ٣٣) إِلَخْ.
(يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ) هَذَا الْتِفَاتٌ عَنْ حِكَايَةِ الْمَثَلِ إِلَى مُخَاطَبَةِ الْبُغَاةِ أَيْنَمَا كَانُوا، وَفِي أَيِّ زَمَانٍ وُجِدُوا، مَبْدُوءًا بِالنِّدَاءِ الَّذِي يَصِيحُ بِهِ الْوَاعِظُ الْمُنْذِرُ بِالْبَعِيدِ فِي مَكَانِهِ، أَوِ الْغَافِلِ الَّذِي يُشْبِهُ الْغَائِبَ فِي حَاجَتِهِ إِلَى مَنْ يَصِيحُ بِهِ لِيُنَبِّهَهُ، يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الضَّالُّونَ عَنْ رُشْدِهِمْ، الْغَافِلُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، حَسْبُكُمْ بَغْيًا عَلَى الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْكُمْ، وَغُرُورًا بِكِبْرِيَائِكُمْ وَقُوَّتِكُمْ، إِنَّمَا بَغْيُكُمْ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ لِأَنَّ عَاقِبَةَ وَبَالِهِ عَائِدَةٌ عَلَيْكُمْ، أَوْ لِأَنَّ مَنْ تَبْغُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْمِكُمْ أَوْ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِكُمْ، كَقَوْلِهِ: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (٤: ٢٩) الْمُرَادُ بِهِ: وَلَا يَقْتُلْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَالشَّرُّ دَاعِيَةُ الشَّرِّ، مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا: أَيْ حَالَ كَوْنِ بَغْيِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ الزَّائِلَةِ، فَهُوَ يَنْقَضِي وَعَقَابِيلُهُ بَاقِيَةٌ، وَأَقَلُّهَا تَوْبِيخُ الْوِجْدَانِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ ((مَتَاعَ)) بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمَا قَبْلَهُ وَفِيهِ وَجْهَانِ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ هُوَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ أَيْ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ هَذَا التَّمَتُّعِ الْقَلِيلِ تَرْجِعُونَ إِلَيْنَا وَحْدَنَا فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ دَائِمًا مِنَ الظُّلْمِ وَالْبَغْيِ وَالتَّمَتُّعِ بِالْبَاطِلِ مُصِرِّينَ فَنُجَازِيكُمْ بِهِ.
دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْبَغْيَ يُجَازَى أَصْحَابُهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ إِنْذَارُ أَهْلِهِ الرُّجُوعَ إِلَى اللهِ، وَإِنْبَاؤُهُ إِيَّاهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ، إِذِ الْمُرَادُ بِهِ لَازِمُهُ وَهُوَ الْجَزَاءُ بِهِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ مِثْلُهُ فِي التَّنْزِيلِ. وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ) وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((مَا مِنْ ذَنْبٍ يُعَجِّلُ اللهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ
280
فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ النَّجَّارِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا: ((احْذَرُوا الْبَغْيَ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عُقُوبَةٍ هِيَ أَحْضُرُ مِنْ عُقُوبَةِ الْبَغْيِ)) ! ! وَالتِّرْمِذِيُّ
وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ: ((أَسْرَعُ الْخَيْرِ ثَوَابًا الْبِرُّ وَصِلَةُ الرَّحِمِ، وَأَسْرَعُ الشَّرِّ عُقُوبَةً الْبَغْيُ وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ)) وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا: ((لَوْ بَغَى جَبَلٌ عَلَى جَبَلٍ لَدُكَّ الْبَاغِي)) وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا، وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِزِيَادَةِ: ((لَدُكَّ الْبَاغِي مِنْهُمَا)) أَخْرَجَهُ ابْنٌ لَالٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ وَالدَّيْلَمِيُّ فِي مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((ثَلَاثٌ هُنَّ رَوَاجِعُ عَلَى أَهْلِهَا. الْمَكْرُ وَالنَّكْثُ وَالْبَغْيُ)) ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ) (١٠: ٢٣)، (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) (٣٥: ٤٣)، (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ) (٤٨: ١٠) وَالْمُرَادُ نَكْثُ الْعُهُودِ مَعَ اللهِ أَوْ مَعَ النَّاسِ.
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ أَبِي بَكَرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لَا تَبْغِ وَلَا تَكُنْ بَاغِيًا)) فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ: (إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ) وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِثْلَهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ.
وَأَقُولُ: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَرْجِعَ فِي تَحْقِيقِ الْحَقِّ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ، إِلَى سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْعُمْرَانِ وَطَبَائِعِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ الَّتِي تُثْبِتُهَا وَقَائِعُ التَّارِيخِ، فَهِي الَّتِي تُفَسِّرُ لَنَا أَنَّ الْبَغْيَ - وَهُوَ مِنْ أَخَصِّ ضُرُوبِ الظُّلْمِ لِلنَّاسِ - يَرْجِعُ عَلَى فَاعِلِهِ، ذَلِكَ بِأَنَّهُ سَبَبٌ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ الْأَفْرَادِ، وَإِيقَادِ نِيرَانِ الْفِتَنِ وَالثَّوْرَاتِ فِي الْأَقْوَامِ، فَالْفَرْدُ الَّذِي يَبْغِي عَلَى مِثْلِهِ يَخْلُقُ لَهُ بَغْيُهُ عَدُوًّا أَوْ أَعْدَاءً مِمَّنْ يَبْغِي عَلَيْهِمْ، وَمِمَّنْ يَكْرَهُونَ الْبَغْيَ وَأَهْلَهُ، فَوُجُودُ الْأَعْدَاءِ وَالْمُبْغِضِينَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْعُقُوبَةِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِيعُوا إِيذَاءَ الْبَاغِي لِعَجْزِهِمْ، فَكَيْفَ إِذَا قَدَرُوا وَفَعَلُوا وَهُوَ الْغَالِبُ؟ وَأَمَّا بَغْيُ الْمُلُوكِ وَالْحُكَّامِ عَلَى الْأَقْوَامِ وَالشُّعُوبِ فَأَهْوَنُ عَاقِبَتِهِ عَدَاوَتُهُمْ وَالطَّعْنُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ تُفْضِي إِلَى اغْتِيَالِ أَشْخَاصِهِمْ، أَوْ إِلَى ثَلِّ عُرُوشِهِمْ وَالْقَضَاءِ عَلَى حُكْمِهِمْ، إِمَّا بِثَوْرَةٍ مِنَ الشَّعْبِ تَسْتَبْدِلُ بِهَا عَرْشًا بِعَرْشٍ، أَوْ نَوْعًا مِنَ الْحُكْمِ بِنَوْعٍ آخَرَ، وَإِمَّا بِإِغَارَةِ دَوْلَةٍ قَوِيَّةٍ عَلَى الدَّوْلَةِ الَّتِي يُضْعِفُهَا الْبَغْيُ تَسْلُبُهَا اسْتِقْلَالَهَا، وَتَسْتَوْلِي عَلَى بِلَادِهَا، وَلَا تَنْسَ مَا تَكَرَّرَ عَلَيْكَ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ مِنْ أَنَّ ذُنُوبَ الْأَفْرَادِ مِنْ بَغْيٍ وَظُلْمٍ وَغَيْرِهِمَا لَا يَطَّرِدُ الْعِقَابُ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا بِخِلَافِ ذُنُوبِ الْأُمَمِ
وَالدُّوَلِ، فَإِنَّ عِقَابَهَا أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ لِظُلْمِهَا وَفَسَادِهَا، وَإِنَّمَا يُوَفَّى كُلُّ أَحَدٍ جَزَاءَهُ فِي الْآخِرَةِ.
281
(فَإِنْ قِيلَ) إِنَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا تَسْتَغِيثُ رَبَّهَا مِنْ بَغْيِ دُوَلِ أُورُبَّةَ وَظُلْمِهَا، فَمَا لَنَا لَا نَرَى بَغْيَهَا يَعُودُ وَبَالُهُ عَلَيْهَا، وَمَا لَنَا لَا نَرَى وَعِيدَهُ تَعَالَى لِلظَّالِمِينَ نَازِلًا بِهَا، وَمُدِيلًا لِلشُّعُوبِ الشَّرْقِيَّةِ الْمَظْلُومَةِ مِنْهَا وَمِنْ شُعُوبِهَا الْمُؤَيِّدَةِ لَهَا؟.
(قُلْنَا) : إِنَّ هَذَا السُّؤَالَ مَا جَاءَ إِلَّا مِنَ الْغَفْلَةِ عَنِ الْأَمْرِ الْوَاقِعِ، وَالْجَهْلِ بِسُنَنِ اللهِ فِي الْعُمْرَانِ، فَإِنَّ فِي بِلَادِ هَذِهِ الدُّوَلِ مِنَ الْمَصَائِبِ وَالنَّوَائِبِ وَالْجَوَائِحِ وَالْفَقْرِ مَا هُوَ أَشَدُّ مِمَّا فِي بَعْضِ بِلَادِ الشَّرْقِ، وَإِنَّهَا قَدْ قَتَلَتْ مِنْ رِجَالِهَا فِي الْحَرْبِ الْأَخِيرَةِ الْعَامَّةِ، أَضْعَافَ مَنْ قَتَلَتْهُمْ بَغْيًا وَعُدْوَانًا مَنْ أَهْلِ الشَّرْقِ مُنْذُ اعْتَدَتْ عَلَيْهِمْ إِلَى الْيَوْمِ، وَإِنَّهَا قَدْ خَرَّبَتْ مِنْ عُمْرَانِهَا أَكْثَرَ مِمَّا خَرَّبَتْ فِي الشَّرْقِ، وَإِنَّهَا قَدْ خَسِرَتْ مِنْ أَمْوَالِهَا فِي أَرْبَعِ سِنِينَ أَضْعَافَ مَا رَبِحَتْ مِنَ الشَّرْقِ فِي مِائَةِ سَنَةٍ، وَإِنَّ مَا بَيْنَ شُعُوبِهَا بَعْضِهَا لِبَعْضٍ مِنَ الْأَحْقَادِ وَالْأَضْغَانِ، وَتَرَبُّصِ الدَّوَائِرِ لِلْوَثَبَانِ، وَالْفَتْكِ بِالْأَرْوَاحِ وَتَدْمِيرِ الْعُمْرَانِ، لَأَشَدُّ مِمَّا فِي قُلُوبِ شُعُوبِ الشَّرْقِ لِظَالِمِيهِمْ وَمُسْتَذِلِّيهِمْ مِنْهُمْ - فَهَذَا بَعْضُ انْتِقَامِ الْعَدْلِ الْإِلَهِيِّ الْمُشَاهَدِ.
فَأَمَّا الْجَوَائِحُ السَّمَاوِيَّةُ فَلَا يَعْتَبِرُونَ بِهَا؛ لِأَنَّهُمْ يُسْنِدُونَهَا إِلَى أَسْبَابِهَا مَا صَحَّ مِنْهَا وَمَا لَمْ يَصِحَّ، فَمَكْرُهُمْ فِي آيَاتِهِ أَشَدُّ مِنْ مَكْرِ مَنْ قَبْلَهُمْ. وَأَمَّا الْمَصَائِبُ الْكَسْبِيَّةُ فَيَتَوَخَّوْنَ تَخْفِيفَهَا، وَتَلَافِيَ شُرُورِهَا، بِالْمُفَاوَضَاتِ وَالْمُؤْتَمَرَاتِ، وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ.
وَأَمَّا مَا نَتَمَنَّاهُ مِنَ الْإِدَالَةِ لِشُعُوبِنَا مِنْهُمْ فَلَا نَزَالُ غَيْرَ أَهْلٍ لَهُ لِمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْجَهْلِ وَفَسَادِ الْأَخْلَاقِ، وَالتَّقَاطُعِ وَالتَّخَاذُلِ، وَتَرْكِ كُلِّ مَا هَدَاهَا اللهُ إِلَيْهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَسْبَابِ السِّيَادَةِ وَالِاسْتِخْلَافِ فِي الْأَرْضِ كَمَا نَبَّهْنَا إِلَيْهِ آنِفًا، وَشَرَحْنَاهُ فِي تَفْسِيرِنَا هَذَا لِآيَاتِ كِتَابِهِ مِرَارًا، وَمِنَ الْمُكَابَرَةِ لِلْحِسِّ أَنْ نُنْكِرَ أَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي بِلَادِنَا مِنْ عُمْرَانٍ فَهُوَ مِنْ عَمَلِهِمْ، وَإِنْ كَانَ جُلُّهُ لِمَصْلَحَتِهِمْ، وَأَنَّ مَنْ يُسْتَخْدَمُونَ مِنْ مُلُوكِنَا وَأُمَرَائِنَا وَحُكَّامِنَا هُمْ شَرٌّ عَلَيْنَا مِنْهُمْ، بَلْ لَمْ يَسُودُونَا وَيَغْلِبُونَا فِي قُطْرٍ مِنْ أَقْطَارِنَا، إِلَّا بِمُسَاعَدَةِ سَادَتِنَا وَكُبَرَائِنَا إِيَّاهُمْ عَلَيْنَا (ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (٨: ٥٣) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُ (فِي ص ٣٢ - ٤١ ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ). تَعْلَمْ أَنَّنَا إِذَا غَيَّرْنَا مَا بِأَنْفُسِنَا الْآنَ، بِمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُنَا مِنْ إِيمَانٍ وَأَخْلَاقٍ
تَتْبَعُهَا الْأَعْمَالُ، وَأَوَّلُهَا الْجِهَادُ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا سُلِبَ مِنَّا يَرْجِعُ إِلَيْنَا، وَنُزَادُ عَلَيْهِ بِالسِّيَادَةِ عَلَى غَيْرِنَا، وَلَوِ اتَّبَعُوا هُمْ كِتَابَنَا كُلَّهُ لَأَصْلَحُوا الْأَرْضَ كُلَّهَا.
ضَرَبَ اللهُ هَذَا الْمَثَلَ هُنَا لِلْكَافِرِينَ بِنِعَمِهِ مِنَ الْبَاغِينَ فِي الْأَرْضِ وَالظَّالِمِينَ لِلنَّاسِ، فَذَكَرَ مِنْ إِخْلَاصِهِمْ فِي دُعَائِهِ عِنْدَ الشِّدَّةِ أَنَّهُمْ يُقْسِمُونَ لَهُ لَئِنْ أَنْجَاهُمْ مِنْهَا، لَيَكُونُنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لَهُ عَلَيْهَا، وَضَرَبَهُ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ لِلْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَتِهِ، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِرُبُوبِيَّتِهِ، فَقَالَ: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) (٢٩: ٦٥)
282
وَضَرَبَهُ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ لُقْمَانَ لِجَمِيعِ أَصْنَافِ النَّاسِ فَقَالَ: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) (٣١: ٣١ و٣٢) الْخَتَّارُ الْكَفُورُ هُنَا: ضِدٌّ مُقَابِلٌ: لِلصَّبَّارِ الشَّكُورِ فِيمَا قَبْلَهُ، وَالْخَتْرُ: الْغَدْرُ الَّذِي يُحْمَلُ عَلَيْهِ ضَعْفُ الْإِرَادَةِ.
وَالْعِبْرَةُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ، وَعَنِ الْكَافِرِينَ بِنِعَمِهِ، وَعَنِ الْخَتَّارِينَ الْفَاقِدِينَ لِفَضِيلَتَيِ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ، أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ يَدْعُونَهُ فِي شِدَّةِ الضِّيقِ وَمُسَاوَرَةِ خَطَرِ الْبَحْرِ لَهُمْ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، لَا يَتَوَجَّهُونَ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّنِ اتَّخَذُوهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى بِعِبَادَتِهِمْ لَهُمْ، وَتَوَسُّلِهِمْ بِهِمْ وَاتِّخَاذِهِمْ وُسَطَاءَ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَقْتَرِفُونَ هَذَا الشِّرْكَ وَمَا يُنَاسِبُهُ مِنَ الْبَغْيِ وَالظُّلْمِ وَكُفْرِ النِّعْمَةِ بِعَدَمِ إِسْنَادِهَا إِلَى الْمُنْعِمِ الْحَقِيقِيِّ فِي أَوْقَاتِ التَّمَتُّعِ بِهَا وَالسَّلَامَةِ مِنْ مُنَغِّصَاتِهَا، وَأَنَّ الَّذِينَ يَثْبُتُونَ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَشُكْرِهِ هُمُ الْمُقْتَصِدُونَ، أَيِ الْمُعْتَدِلُونَ فِي عَقَائِدِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ فَلَا تُقَنِّطُهُمُ الشِّدَّةُ، وَلَا تُبَطِّرُهُمُ النِّعْمَةُ.
وَلَكِنْ يُوجَدُ فِي زَمَانِنَا مَنْ هُمْ أَشَدُّ شِرْكًا وَكُفْرًا بِالنِّعَمِ وَالْمُنْعِمِ، وَهُمْ قَوْمٌ يَدْعُونَ غَيْرَهُ مِنْ دُونِهِ فِي أَشَدِّ أَوْقَاتِ الضِّيقِ وَالْخَطَرِ، وَيَدَّعُونَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ مُوَحِّدُونَ؛ لِأَنَّهُمْ يَنْطِقُونَ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ الْمَوْرُوثَةِ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ مَعْنَاهَا، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) (٤٧: ١٩) وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ.
(إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
283
لَمَّا كَانَ سَبَبُ مَا ذُكِرَ مِنَ الْبَغْيِ فِي الْأَرْضِ وَإِفْسَادِ الْعُمْرَانِ، هُوَ الْإِفْرَاطُ فِي حُبِّ التَّمَتُّعِ بِمَا فِي الدُّنْيَا مِنَ الزِّينَةِ وَاللَّذَّاتِ، ضَرَبَ لَهَا مَثَلًا بَلِيغًا يَصْرِفُ الْعَاقِلَ عَنِ الْغُرُورِ بِهَا، وَيَهْدِيهِ إِلَى الْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ فِيهَا، وَاجْتِنَابِ التَّوَسُّلِ إِلَيْهَا بِالْبَغْيِ وَالظُّلْمِ، وَحُبِّ الْعُلُوِّ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَشْبِيهِ زِينَتِهَا وَنَعِيمِهَا فِي افْتِتَانِ النَّاسِ بِهِمَا وَسُرْعَةِ زَوَالِهِمَا بَعْدَ تَمَكُّنِهِمْ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، بِحَالِ الْأَرْضِ يَسُوقُ اللهُ إِلَيْهَا الْمَطَرَ فَتُنْبِتُ أَنْوَاعَ النَّبَاتِ الَّذِي يَسُرُّ النَّاظِرِينَ بِبَهْجَتِهِ، فَلَا يَلْبَثُ أَنْ تَنْزِلَ بِهِ جَائِحَةٌ تَحُسُّهُ وَتَسْتَأْصِلُهُ قُبَيْلَ بُدُوِ صَلَاحِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
(إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ) أَيْ لَا شَبَهَ لَهَا فِي صُورَتِهَا وَمَآلِهَا إِلَّا مَاءُ الْمَطَرِ فِي جُمْلَةِ حَالِهِ الْآتِيَةِ (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ) أَيْ فَأَنْبَتَتِ الْأَرْضُ أَزْوَاجًا شَتَّى مِنَ النَّبَاتِ تَشَابَكَتْ بِسَبَبِهِ وَاخْتَلَطَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ فِي تَجَاوُرِهَا وَتَقَارُبِهَا، عَلَى كَثْرَتِهَا وَاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ) بَيَانٌ لِأَزْوَاجِ النَّبَاتِ وَكَوْنِهَا شَتَّى كَافِيَةً لِلنَّاسِ فِي أَقْوَاتِهِمْ وَمَرَاعِي أَنْعَامِهِمْ، وَكُلِّ مَرَامِي آمَالِهِمْ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ) أَيْ حَتَّى كَانَتِ الْأَرْضُ بِهَا فِي خُضْرَةِ زُرُوعِهَا السُّنْدُسِيَّةِ، وَأَلْوَانِ أَزْهَارِهَا الرَّبِيعِيَّةِ، كَالْعَرُوسِ إِذَا أَخَذَتْ حُلِيَّهَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْجَوَاهِرِ، وَحُلَلَهَا مِنَ الْحَرِيرِ الْمُلَوَّنِ بِالْأَلْوَانِ الْمُخْتَلِفَةِ ذَاتِ الْبَهْجَةِ، فَتَحَلَّتْ وَازَّيَّنَتْ بِهَا اسْتِعْدَادًا لِلِقَاءِ الزَّوْجِ - وَلَا تَغْفُلْ عَنْ حُسْنِ
الِاسْتِعَارَةِ فِي أَخْذِ الْأَرْضِ زِينَتَهَا، حَتَّى كَانَ اسْتِكْمَالُ جَمَالِهَا، كَأَنَّهُ فِعْلُ عَاقِلٍ حَرِيصٍ عَلَى مُنْتَهَى الْإِبْدَاعِ وَالْإِتْقَانِ فِيهَا (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (٢٧: ٨٨) وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا مُتَمَكِّنُونَ مِنَ التَّمَتُّعِ بِثَمَرَاتِهَا، وَادِّخَارِ غَلَّاتِهَا، أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا أَيْ نَزَلَ بِهَا فِي هَذَا الْحَالِ أَمْرُنَا الْمُقَدَّرُ لِإِهْلَاكِهَا؛ بِجَائِحَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَيْلًا وَهُمْ نَائِمُونَ، أَوْ نَهَارًا وَهُمْ غَافِلُونَ فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا أَيْ كَالْأَرْضِ الْمَحْصُودَةِ الَّتِي قُطِعَتْ وَاسْتُؤْصِلَ زَرْعُهَا، فَالْحَصِيدُ يُشَبَّهُ بِهِ الْهَالِكُ مِنَ الْأَحْيَاءِ، كَمَا قَالَ فِي أَهْلِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمَةِ الْمُهْلَكَةِ: (جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ) (٢١: ١٥) وَيُشْبِهُ هَذَا الْهَلَاكُ فِي نُزُولِهِ فِي وَقْتٍ لَا يَتَوَقَّعُهُ فِيهِ أَهْلُهُ قَوْلُهُ: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوْ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضَحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (٧: ٩٧ و٩٨) (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) أَيْ هَلَكَتْ فَجْأَةً فَلَمْ يَبْقَ مِنْ زُرُوعِهَا شَيْءٌ، حَتَّى كَأَنَّهَا لَمْ تُنْبِتْ وَلَمْ تَمْكُثْ قَائِمَةً نَضِرَةً بِالْأَمْسِ، يُقَالُ: غَنِيَ فِي الْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ
284
طَوِيلًا كَأَنَّهُ اسْتَغْنَى بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، قَالَ تَعَالَى فِي الْأَقْوَامِ الْهَالِكِينَ فِي أَرْضِهِمْ: (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) (٧: ٩٢) وَالْأَمْسُ: الْوَقْتُ الْمَاضِي. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: وَالْأَمْسُ مَثَلٌ فِي الْوَقْتِ الْقَرِيبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ آنِفًا انْتَهَى. وَأَمَّا أَمْسُ غَيْرُ مُعَرَّفٍ فَهُوَ اسْمٌ لِلْيَوْمِ الَّذِي قَبْلَ يَوْمِكَ (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أَيْ كَهَذَا الْمَثَلِ فِي جَلَائِهِ وَتَمْثِيلِهِ لِحَقِيقَةِ حَالِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَغُرُورِ النَّاسِ فِيهَا وَسُرْعَةِ زَوَالِهَا، عِنْدَ تَعَلُّقِ الْآمَالِ بِنَوَالِهَا، نُفَصِّلُ الْآيَاتِ فِي حَقَائِقِ التَّوْحِيدِ، وَأُصُولِ التَّشْرِيعِ، وَأَمْثَالِ الْوَعْظِ وَالتَّهْذِيبِ، وَكُلِّ مَا فِيهِ صَلَاحُ النَّاسِ فِي عَقَائِدِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ، وَاسْتِعْدَادِهِمْ لِمَعَادِهِمْ، لِقَوْمٍ يَسْتَعْمِلُونَ عُقُولَهُمْ وَأَفْكَارَهُمْ فِيهَا، وَيَزِنُونَ أَعْمَالَهُمْ بِمَوَازِينِهَا، فَيَتَبَيَّنُونَ رِبْحَهَا وَخُسْرَانَهَا.
وَالْعِبْرَةُ لِمُسْلِمِي عَصْرِنَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ الْمُنَزَّلَةِ وَأَمْثَالِهَا، الَّتِي اهْتَدَى بِهَا الشَّعْبُ الْعَرَبِيُّ فَخَرَجَ مِنْ شِرْكِهِ وَخُرَافَاتِهِ وَأُمِّيَّتِهِ وَبَدَاوَتِهِ إِلَى نُورِ التَّوْحِيدِ وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْحَضَارَةِ، ثُمَّ اهْتَدَى بِدَعْوَتِهِ إِلَيْهَا الْمَلَايِينُ مِنْ شُعُوبِ الْعَجَمِ، فَشَارَكَتْهُ فِي هَذِهِ السَّعَادَةِ وَالنِّعَمِ _ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ حَظٌّ مِنْهَا إِلَّا تَرْتِيلَهَا بِالنَّغَمَاتِ فِي بَعْضِ الْمَوَاسِمِ
وَالْمَآتِمِ، وَلَا يَخْطُرُ لَهُمْ بِبَالٍ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمُ التَّفَكُّرُ لِلِاهْتِدَاءِ بِهَا، وَلَوْ تَفَكَّرُوا لَاهْتَدَوْا، وَإِذًا لَعَلِمُوا أَنَّ كُلَّ مَا يَشْكُو مِنْهُ الْبَشَرُ مِنَ الشَّقَاءِ بِالْأَمْرَاضِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ، وَالرَّذَائِلِ النَّفْسِيَّةِ، وَالْعَدَاوَاتِ الْقَوْمِيَّةِ، وَالْحُرُوبِ الدَّوْلِيَّةِ، فَإِنَّمَا سَبَبُهُ التَّنَافُسُ فِي مَتَاعِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأَنَّ مَنْ تَفَكَّرَ فِي هَذَا وَكَانَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْهُ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَلْتَزِمَ الْقَصْدَ وَالِاعْتِدَالَ فِي حَيَاتِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ، وَيَصْرِفَ جُلَّ مَالِهِ وَهِمَّتِهِ فِي إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ وَعِزَّةِ أَهْلِ مِلَّتِهِ، وَقُوَّةِ دَوْلَتِهِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِآخِرَتِهِ، فَيَكُونَ مِنْ أَهْلِ سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ.
وَمَا صَرَفَ النَّاسَ عَنْ هَذَا الِاهْتِدَاءِ بِكِتَابِ اللهِ، وَهُوَ أَعْلَى وَأَكْمَلُ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ، إِلَّا عُلَمَاءُ السُّوءِ الْمُقَلِّدُونَ الْجَامِدُونَ، وَزَعْمُهُمُ الْبَاطِلُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي الْبَشَرِ أَحَدٌ أَهْلًا لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ وَبِبَيَانِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا يُسَمُّونَهُ الِاجْتِهَادَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ أَصْبَحَ ضَرْبًا مِنَ الْمُحَالِ، وَقَدْ أَنْشَأَتْ مَشْيَخَةُ الْأَزْهَرِ فِي هَذَا الْعَهْدِ - وَهِيَ أَكْبَرُ الْمَعَاهِدِ الدِّينِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ - مَجَلَّةً رَسْمِيَّةً شَهْرِيَّةً بَاسِمِ (نُورِ الْإِسْلَامِ) تُصَرِّحُ بِهَذِهِ الْجَهَالَةِ، وَتَطْعَنُ عَلَى الدُّعَاةِ إِلَى هَذِهِ الْهِدَايَةِ، وَإِلَى تَرْكِ الْبِدَعِ، وَاتِّبَاعِ السُّنَنِ، وَإِنَّهَا لَدَرْكَةٌ مِنْ عَدَاوَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ لَمْ يَبْلُغُوا قَعْرَهَا إِلَّا بِخِذْلَانٍ مِنَ اللهِ.
285
(وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
لَمَّا بَيَّنَ عَزَّ وَجَلَّ غُرُورَ الْمُشْرِكِينَ الْجَاهِلِينَ بِمَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، قَفَّى عَلَيْهِ بِبَيَانِ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ وَوَصْفِ حَالِ الْمُحْسِنِينَ وَالْمُسِيئِينَ فِيهَا فَقَالَ:
(وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ) الْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ
وَقَرِينَةُ الْمُقَابَلَةِ أَيْ ذَاكَ الْإِيثَارُ لِمَتَاعِ الدُّنْيَا وَالْإِسْرَافُ وَالْبَغْيُ فِيهِ، هُوَ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ، فَيَسُوقُ مُتَّبِعِيهِ إِلَى النَّارِ، دَارِ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ، وَاللهُ يَدْعُو عِبَادَهُ إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَهِي الْجَنَّةُ، وَفِي الْمُرَادِ بِـ ((السَّلَامِ)) الَّذِي أُضِيفَتْ إِلَيْهِ ((الدَّارُ)) وُجُوهٌ يَصِحُّ أَنْ تُرَادَ كُلُّهَا (أَوَّلُهَا) أَنَّهُ السَّلَامَةُ مِنْ جَمِيعِ الشَّوَائِبِ وَالْمَصَائِبِ وَالْمَعَايِبِ، وَالنَّقَائِصِ وَالْأَكْدَارِ، وَالْعَدَاوَةِ، وَالْخِصَامِ، (الثَّانِي) أَنَّهُ تَحِيَّةُ اللهِ وَمَلَائِكَتِهِ لِأَهْلِهَا، وَتَحِيَّةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ الدَّالَّةُ عَلَى تَحَابِّهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ قَرِيبًا. (ثَالِثُهَا) أَنَّ ((السَّلَامَ)) مِنْ أَسْمَائِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأُضِيفَتْ دَارُ النَّعِيمِ إِلَيْهِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهَا، وَهُوَ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ كَالْعَدْلِ، وَيَدُلُّ عَلَى كَمَالِ التَّنْزِيهِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ إِضَافَةُ هَذِهِ الدَّارِ إِلَى ضَمِيرِ الذَّاتِ (دَارِي).
(وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَيْ يَدْعُو كُلَّ أَحَدٍ إِلَى دُخُولِ ((دَارِ السَّلَامِ)) وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَعْوِيقٍ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَقِيمٌ لَا عِوَجَ فِيهِ وَلَا الْتِوَاءَ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ عَقَائِدُهُ وَفَضَائِلُهُ وَعِبَادَاتُهُ وَأَحْكَامُهُ، وَالْهِدَايَةُ فِي الْأَصْلِ الدَّلَالَةُ بِلُطْفٍ، وَتَكُونُ بِالتَّشْرِيعِ وَهُوَ بَيَانُهُ، وَهِيَ عَامَّةٌ، وَبِالتَّوْفِيقِ لِلسَّيْرِ عَلَيْهِ وَالِاسْتِقَامَةِ
الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْغَايَةِ، وَهِيَ خَاصَّةٌ بِالْمُسْتَعِدِّينَ لِذَلِكَ كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَهِي الْمُرَادَةُ هُنَا وَلِذَلِكَ قَيَّدَهَا بِالْمَشِيئَةِ.
(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) هَذَا بَيَانٌ لِصِفَةِ الَّذِينَ هَدَاهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْإِسْلَامِ، فَوَصَلُوا بِالسَّيْرِ عَلَيْهِ إِلَى غَايَتِهِ وَهِيَ ((دَارُ السَّلَامِ)) أَيْ لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا أَعْمَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا الْمَثُوبَةُ ((الْحُسْنَى)) أَيِ الَّتِي تَزِيدُ فِي الْحُسْنِ عَلَى إِحْسَانِهِمْ، وَهِيَ مُضَاعَفَتُهَا بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهَا أَوْ أَكْثَرَ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) (٥٣: ٣١) وَلَهُمْ زِيَادَةٌ عَلَى هَذِهِ الْحُسْنَى، وَهِيَ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ عَلَى أَعْمَالِهِمْ بَعْدَ مُضَاعَفَتِهَا الَّتِي هِيَ مِنْ جَزَائِهَا مَهْمَا تَكُنْ حَسَنَةً، كَمَا قَالَ: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) (٤: ١٧٣) وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الطُّرُقِ الْعَدِيدَةِ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ هِي النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللهِ الْكَرِيمِ، وَهُوَ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْكَمَالِ الرُّوحَانِيِّ الَّذِي لَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْمُتَّقُونَ الْمُحْسِنُونَ الْعَارِفُونَ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِيهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (ص ١١٢ وَمَا بَعْدَهَا ج ٩ ط الْهَيْئَةِ) بِمَا يُقَرِّبُهُ
مِنَ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ الْعَصْرِيِّ، وَيَدْحَضُ شُبُهَاتِ الْمُعْتَزِلَةِ الْمُنْكِرِينَ لَهُ بِزَعْمِهِمْ أَنَّهُ مُحَالٌ عَقَلًا، وَمَا هَذَا الْمُحَالُ إِلَّا نَظَرِيَّاتُ عُقُولِهِمُ الَّتِي تَقِيسُ عَالَمَ الْغَيْبِ عَلَى عَالَمِ الشَّهَادَةِ، وَقَدْ ظَهَرَ فِي هَذَا الْعَصْرِ مِنْ عُلُومِ الْمَادَّةِ مَا لَمْ يَكُنْ يَقْبَلُهُ عَقْلٌ مِنَ الْعُقُولِ الْمُقَيَّدَةِ بِتِلْكَ النَّظَرِيَّاتِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الْفَلْسَفَةِ الْيُونَانِيَّةِ وَالْكَلَامِ الْجَهْمِيِّ، فَكَيْفَ يَكُونُ عَالَمُ الْغَيْبِ الْإِلَهِيِّ مُقَيَّدًا بِهَا؟ !
وَثَمَّ وَرَاءَ الْعَقْلِ عِلْمٌ يَدُقُّ عَنْ مَدَارِكِ غَايَاتِ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ
(وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ) رَهِقَ الرَّجُلُ الشَّيْءَ (كَتَعِبَ) أَدْرَكَهُ وَرَهِقَهُ الشَّيْءُ كَالدِّينِ وَالذُّلُّ غَشِيَهُ، وَغَلَبَ عَلَيْهِ حَتَّى غَطَّاهُ وَحَجَبَهُ: (وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا) (١٨: ٧٣) لَا تُكَلِّفْنِي مَا يَعْسُرُ عَلَيَّ، وَالْقَتَرُ: الدُّخَانُ السَّاطِعُ مِنَ الشِّوَاءِ وَالْحَطَبِ وَكُلُّ غَبَرَةٍ فِيهَا سَوَادٌ أَيْ لَا يَغْشَى وُجُوهَهُمْ فِي الْآخِرَةِ شَيْءٌ مِمَّا يَغْشَى وُجُوهَ الْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ مِنَ الْكُسُوفِ وَالظُّلْمَةِ وَالذِّلَّةِ، كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا فِي الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذُكِرَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ دَارِ السَّلَامِ وَالْإِكْرَامِ، خَالِدُونَ مُقِيمُونَ فِيهَا لَا يَبْرَحُونَهَا وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا جَزَاءً وِفَاقًا، لَا يُزَادُونَ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّونَ بِسَيِّئَاتِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ شَيْئًا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أَيْ تَغْشَاهُمْ ذِلَّةُ الْفَضِيحَةِ وَكُسُوفُ الْخِزْيِ بِمَا يُظْهِرُهُ حِسَابُهُمْ مِنْ شِرْكٍ وَظُلْمٍ وَزُورٍ وَفُجُورٍ (مَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ) مَا لَهُمْ مِنْ أَحَدٍ وَلَا مِنْ شَيْءٍ يَعْصِمُهُمْ وَيَمْنَعُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ، كَالَّذِينِ اتَّخَذُوهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الشُّرَكَاءِ، وَزَعَمُوهُمْ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالشُّفَعَاءِ. وَانْتَحَلُوهُمْ مِنَ الْوَسَائِلِ وَالْوُسَطَاءِ؛ لِأَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي تَنْقَطِعُ فِيهِ الْأَسْبَابُ الَّتِي مَضَتْ بِهَا سُنَنُ اللهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا، فَأَنَّى تُفِيدُ فِيهِ الْمَزَاعِمُ الشِّرْكِيَّةُ الْوَهْمِيَّةُ: (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (٨٢: ١٩)
أَوْ مَا لَهُمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَنْ فَضْلِهِ مِنْ عَاصِمٍ يَحْفَظُهُمْ مِنْ عَذَابِهِ كَعَفْوِهِ وَمَغْفِرَتِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، كَالشُّفَعَاءِ الَّذِينَ يَشْفَعُونَ بِإِذْنِهِ لِمَنِ ارْتَضَى مِنْ عِبَادِهِ إِظْهَارًا لِكَرَامَتِهِمْ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الشَّفَاعَةَ الْخَاصَّةَ لَا نَصِيبَ فِيهَا لِمُنْتَحِلِي الشَّفَاعَةِ الشِّرْكِيَّةِ، الَّذِينَ كَانُوا يَزْعُمُونَ فِي الدُّنْيَا أَنَّ لِشُفَعَائِهِمْ تَأْثِيرًا فِي مَشِيئَةِ اللهِ وَأَفْعَالِهِ، حَتَّى يَحْمِلُوهُ عَلَى فِعْلِ مَا لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ لَوْلَا شَفَاعَتُهُمْ، فَيَجْعَلُونَ ذَاتَهُ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالَهُ مَعْلُولَةً تَابِعَةً لِمَا يَطْلُبُونَهُ مِنْهُ، وَأَمَّا
شَفَاعَةُ الْإِيمَانِ الصَّحِيحَةُ فَهِيَ تَابِعَةٌ لِمَشِيئَتِهِ وَلِمَرْضَاتِهِ (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) (٢١: ٢٨) (كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا) أَيْ كَأَنَّمَا قُدَّ لِوُجُوهِهِمْ قِطَعٌ مِنْ أَدِيمِ اللَّيْلِ، حَالَةَ كَوْنِهِ حَالِكًا مُظْلِمًا، لَيْسَ فِيهِ بَصِيصٌ مِنْ نُورِ قَمَرٍ طَالِعٍ، وَلَا نَجْمٍ ثَاقِبٍ، فَأُغْشِيَتْهَا قِطْعَةً بَعْدَ قِطْعَةٍ، فَصَارَتْ ظُلُمَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَإِنَّهُ لَتَشْبِيهٌ عَظِيمٌ فِي بَلَاغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي خِذْلَانِهِمْ وَفَضِيحَتِهِمُ الَّتِي تَكْسِفُ نُورَ الْفِطْرَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ سَوَادَ وُجُوهِهِمْ حَقِيقِيٌّ وَمَجَازِيٌّ (أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أَيْ أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذَكَرَهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ، خَالِدُونَ فِيهَا لَا يَبْرَحُونَهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ مَأْوًى سِوَاهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي آيَةٍ أُخْرَى. وَقَدْ يَدْخُلُهَا بَعْضُ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ فَيُعَاقَبُونَ عَلَى مَا اجْتَرَحُوا مِنَ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنْهَا.
هَذَا الْوَصْفُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ لَهُ نَظِيرٌ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَعْمَى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) (٨: ٣٨ - ٤٢) وَفِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) (٧٥: ٢٢ - ٢٥) وَهَذِهِ الْمُقَابَلَةُ فِي سُورَةِ الْقِيَامَةِ تُرَجِّحُ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْحُسْنَى فِي آيَةِ يُونُسَ هِيَ مَرْتَبَةُ النَّظَرِ إِلَى الرَّبِّ، فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا وَأَوْلَادَنَا وَأَهْلَ بَيْتِنَا وَإِخْوَانِنَا الصَّادِقِينَ مِنْ أَهْلِهَا.
(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينِ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لِغَافِلِينَ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ).
هَذَا لَوْنٌ آخَرُ مِنْ أَلْوَانِ الْبَيَانِ لِعَقِيدَةِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَقَدْ بَيَّنَّا حِكْمَةَ هَذَا
التَّكْرَارِ الْمُخْتَلِفِ الْأَسَالِيبِ وَالْأَلْوَانِ وَأَمْثَالِهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ وَإِعْجَازِهِ.
(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا) أَيْ وَاذْكُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِفَرِيقَيِ النَّاسِ الَّذِينَ ضَرَبْنَا لَهُمْ مَا سَبَقَ مِنَ الْأَمْثَالِ، وَبَيَّنَّا مَا يَعْمَلُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ، يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا فِي مَوْقِفِ الْحِسَابِ لَا يَتَخَلَّفُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، أَوِ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ: (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ) وَفِي بَعْضِ الْآيَاتِ: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ) (٢٥: ١٧) (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ) أَيْ ثُمَّ نَقُولُ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ بَعْدَ وُقُوفٍ طَوِيلٍ لَا يُخَاطَبُ فِيهِ أَحَدٌ بِشَيْءٍ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْآيَاتِ: الْزَمُوا مَكَانَكُمْ لَا تَبْرَحُوهُ حَتَّى تَنْظُرُوا مَا يُفْعَلُ بِكُمْ: وَأَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ أَيِ الْزَمُوهُ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ، أَيِ الَّذِينَ جَعَلْتُمُوهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ؛ لِنَفْصِلَ بَيْنَكُمْ فِيمَا كَانَ مَنْ سَبَبِ عِبَادَتِكُمْ لَهُمْ وَمَا يَقُولُ كُلٌّ مِنْكُمْ فِيهَا فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ أَيْ فَرَّقْنَا بَيْنَ الشُّرَكَاءِ وَمَنْ أَشْرَكُوهُمْ مَعَ اللهِ، وَمَيَّزْنَا بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُمَيَّزُ بَيْنَ الْخُصُومِ عِنْدَ الْحِسَابِ، وَالتَّزْيِيلُ مِنْ زَالَهُ يَزَالُهُ كَنَالَهُ يَنَالُهُ بِمَعْنَى نَحَّاهُ (وَهُوَ يَأْتِي) وَزَايَلْتُهُ فَارَقْتُهُ وَتَزَيَّلُوا تَمَيَّزُوا بِافْتِرَاقِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي أَهْلِ مَكَّةَ وَاخْتِلَاطِ مُؤْمِنِيهِمْ بِكُفَّارِهِمْ قَبْلَ الْفَتْحِ: (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (٤٨: ٢٥) أَوِ الْمُرَادُ مِنَ التَّزْيِيلِ وَالتَّفْرِيقِ تَقْطِيعُ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الصِّلَاتِ وَمَا لِلْمُشْرِكِينَ فِي الشُّرَكَاءِ مِنَ الْآمَالِ، وَكُلٌّ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيحٌ، وَالْعِبَادَةُ الشِّرْكِيَّةُ أَنْوَاعٌ وَالْمَعْبُودَاتُ وَالْمَعْبُودُونَ أَنْوَاعٌ يَصِحُّ فِي بَعْضِهِمْ مَا لَا يَصِحُّ فِي الْآخَرِ؛ وَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ مَعْنَى حَشْرِ الْفَرِيقَيْنِ وَحِسَابِهِمْ فِي سُوَرٍ أُخْرَى، بَعْضُهَا فِي عِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ وَعِبَادَةِ الْجِنِّ، وَبَعْضُهَا فِي عِبَادَةِ الْبَشَرِ، وَمَا اتُّخِذَ لَهُمْ مِنَ التَّمَاثِيلِ وَالصُّوَرِ، وَمِثْلُهَا الْقُبُورُ الْمُعَظَّمَةُ وَسَنُشِيرُ إِلَى شَوَاهِدِهِ: (وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ) أَيْ مَا كُنْتُمْ تَخُصُّونَنَا بِالْعِبَادَةِ، وَإِنَّمَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَهْوَاءَكُمْ وَشَهَوَاتِكُمْ وَشَيَاطِينَكُمُ الْمُغْوِيَةَ لَكُمْ، وَتَتَّخِذُونَ أَسْمَاءَنَا وَتَمَاثِيلَنَا هَيَاكِلَ وَمَوَاسِمَ لِمَنَافِعِكُمْ وَمَصَالِحِكُمْ، وَلَيْسَ هَذَا شَأْنَ الْعُبُودِيَّةِ الصَّادِقَةِ لِلْمَعْبُودِ الْحَقِّ، الَّذِي يُطَاعُ وَيُعْبَدُ لِأَنَّهُ صَاحِبُ السُّلْطَانِ الْأَعْلَى عَلَى الْخَلْقِ، وَبِيَدِهِ تَدْبِيرُ الْأَمْرِ، وَمَصَادِرُ النَّفْعِ وَالضُّرِّ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُمْ يَتَبَرَّءُونَ مِنْهُمْ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي آيَاتٍ أُخْرَى.
(فَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) أَيْ فَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا وَحَكَمًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، فَهُوَ الْعَلِيمُ بِحَالِنَا وَحَالِكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لِغَافِلِينَ أَيْ إِنَّنَا كُنَّا فِي غَفْلَةٍ عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَا نَنْظُرُ إِلَيْهَا وَلَا نُفَكِّرُ فِيهَا، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْغَفْلَةِ عَنْهَا عَدَمُ الرِّضَا بِهَا.
(هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ) أَيْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَهُوَ مَوْقِفُ الْحِسَابِ، أَوْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوِ الْيَوْمِ تَخْتَبِرُ كُلُّ نَفْسٍ مِنْ عَابِدَةٍ وَمَعْبُودَةٍ وَمُؤْمِنَةٍ وَجَاحِدَةٍ وَشَاكِرَةٍ وَكَافِرَةٍ، مَا قَدَّمَتْ فِي حَيَاتِهَا الدُّنْيَا مِنْ عَمَلٍ، وَمَا كَانَ لِكَسْبِهَا فِي صِفَاتِهَا مِنْ أَثَرٍ، مَنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَنَفْعٍ وَضُرٍّ
بِمَا تَرَى مِنَ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ، وَكَوْنِهِ ثَمَرَةً طَبِيعِيَّةً لَهُ، لَا شَأْنَ فِيهِ لِوَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ، وَلَا مَعْبُودٍ وَلَا شَرِيكٍ. وَهُنَالِكَ مَوَاقِفُ وَأَوْقَاتٌ أُخْرَى لَا سُؤَالَ فِيهَا وَلَا جِدَالَ، تُغْنِي فِيهَا دَلَالَةُ الْحَالِ عَنِ الْمَقَالِ، وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ) أَيْ أُرْجِعُوا إِلَى اللهِ الَّذِي هُوَ مَوْلَاهُمُ الْحَقُّ، دُونَ مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ بِالْبَاطِلِ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالشُّفَعَاءِ، وَالْأَنْدَادِ وَالشُّرَكَاءِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَسْمَاءِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ كَقَوْلِهِ: (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) (٥: ٤٨ و١٠٥، ١١: ٤)، (إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) (٦: ١٦٤، ٣٩: ٧)، (إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ) (٦: ١٠٨) (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (٢٤: ٤٢، ٣٥: ١٨) (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (٥: ١٨، ٤٢: ١٥، ٦٤: ٣) (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) أَيْ وَضَاعَ وَذَهَبَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَهُ عَلَيْهِ مِنَ الشُّفَعَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ فَلَمْ يَجِدُوا أَحَدًا يَنْصُرُهُمْ وَلَا يُنْقِذُهُمْ (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (٨٢: ١٩).
هَذِهِ الْآيَاتُ فِي مَوْقِفِ الْمُشْرِكِينَ مَعَ الشُّرَكَاءِ، وَالْمَرْءُوسِينَ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، وَالْمُتَكَبِّرِينَ مَعَ الضُّعَفَاءِ وَالْمُضِلِّينَ مَعَ الضَّالِّينَ، وَالْغَاوِينَ مَعَ الْمُغْوِينَ، قَدْ تَكَرَّرَ بَيَانُهَا فِي سُوَرٍ أُخْرَى مُجْمَلًا مُبْهَمًا، وَفِي بَعْضِهَا مُفَصَّلًا وَمُبَيَّنًا فَمِنْهَا مَا يَسْأَلُ اللهُ فِيهِ الْعَابِدِينَ، وَمِنْهَا مَا يَسْأَلُ فِيهِ الْمَعْبُودِينَ، مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَمِنْهَا مَا عَيَّنَ فِيهِ اسْمَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ، وَفِي كُلٍّ مِنْهَا يَتَبَرَّأُ الْمُضِلُّونَ مِنَ الضَّالِّينَ، فَتُرَاجَعُ فِيهَا سُورَةُ الْفُرْقَانِ ٢٥: ١٧ - ١٩ وَسُورَةُ الْأَنْعَامِ ٦: ٢٢ - ٢٤ وَسُورَةُ سَبَأٍ ٣٤: ٤٠ - ٤٢ وَسُورَةُ الْقَصَصِ ٢٨: ٦٢ - ٦٤ وَمِنْهَا مَا يَتَنَاقَشُ فِيهَا الْفَرِيقَانِ فَرَاجِعْ سُورَةَ إِبْرَاهِيمَ ١٤: ٢١ و٢٢ وَسُورَةَ الصَّافَّاتِ ٣٧: ٢٢ و٢٣ فَبِمُرَاجَعَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا وَمَا فِي مَعْنَاهَا كَآيَاتِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ٢: ١٦٦، ١٦٧ وَمَعَ تَفْسِيرِنَا لِهَاتَيْنِ (ج٢) يَتَبَيَّنُ لَكَ مَا يُفَسِّرُ بِهِ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَقَدْ بَيَّنَّا حِكْمَةَ هَذَا التَّكْرَارِ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي دَلَّلْنَا عَلَيْهِ آنِفًا.
(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ).
هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ أُسْلُوبِ إِقَامَةِ الْحُجَجِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ، وَهُوَ أُسْلُوبُ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ، وَيَلِيهِ إِثْبَاتُ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَالْقُرْآنِ.
(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُعَانِدِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ بِمَا يُنْزِلُهُ مِنَ الْمَطَرِ، وَمِنَ الْأَرْضِ بِمَا يُنْبِتُهُ فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ النَّبَاتِ نَجْمِهِ وَشَجَرِهِ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَتَأْكُلُ أَنْعَامُكُمْ؟ (وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ) بَلْ قُلْ لَهُمْ أَيْضًا: مَنْ يَمْلِكُ مَا تَتَمَتَّعُونَ بِهِ أَنْتُمْ وَغَيْرُكُمْ مِنْ حَوَاسِّ السَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ، الَّتِي لَوْلَاهَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ مِنْ أَمْرِ الْعَالَمِ شَيْئًا، بَلْ تَكُونُ الْأَنْعَامُ وَالْحَشَرَاتُ وَكَذَا الشَّجَرُ خَيْرًا مِنْكُمْ بِاسْتِغْنَائِهَا عَمَّنْ يَقُومُ بِضَرُورَاتِ مَعَاشِهَا، مَنْ يَمْلِكُ خَلْقَ هَذِهِ الْحَوَاسِّ وَهِبَتِهَا لِلنَّاسِ، وَحِفْظِهَا مِنَ الْآفَاتِ وَخَصَّ هَاتَيْنِ الْحَاسَّتَيْنِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ عَلَيْهِمَا مَدَارَ الْحَيَاةِ الْحَيَوَانِيَّةِ وَكَمَالَ الْبَشَرِيَّةِ، وَتَحْصِيلَ الْعُلُومِ الْأَوَّلِيَّةِ، يَشْعُرُ بِذَلِكَ الْمَسْئُولُونَ بِمُجَرَّدِ إِلْقَاءِ السُّؤَالِ، وَكُلَّمَا ازْدَادُوا فِيهِ تَفَكُّرًا ازْدَادُوا عِلْمًا وَإِعْجَابًا وَإِكْبَارًا لِإِنْعَامِ اللهِ تَعَالَى بِهِمَا وَإِيمَانًا بِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ غَيْرُهُ عَلَيْهِمَا، وَلَا سِيَّمَا إِدْرَاكَ الْكَلَامِ بِحَاسَّةِ السَّمْعِ، وَمَا يَرْسُمُهُ صَوْتُ الْمُتَكَلِّمِ فِي الْهَوَاءِ مِنْ مَعْلُومَاتِهِ الَّتِي يُدْلِي بِهَا إِلَى غَيْرِهِ فَتَتَكَيَّفُ بِهَا كُلُّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِهِ (أَيِ الْهَوَاءُ) فَتُقْرَعُ بِهِ طَبْلَةُ كُلِّ أُذُنٍ مِنْ آذَانِ السَّامِعِينَ وَإِنْ كَثُرُوا،
فَيَنْقُلُهَا الْعَصَبُ الْمُتَّصِلُ بِهَا إِلَى مَرْكَزِ إِدْرَاكِ الْكَلَامِ مِنْ دِمَاغِهِ، فَيُدْرِكُ مَعْنَاهَا الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ بِهَا بِأَقْوَى مِمَّا يُدْرِكُهُ مَنْ قَرَأَهَا مَخْطُوطَةً فِي كِتَابٍ، لِمَا لِجَرْسِ الصَّوْتِ مِنَ التَّأْثِيرِ الْخَاصِّ، فَمَنْ ذَا الَّذِي خَلَقَ هَذِهِ الْآيَاتِ؟ وَمَنْ ذَا الَّذِي أَلْهَمَهَا إِيدَاعَ هَذِهِ الْمَعَانِي فِي الْأَصْوَاتِ وَمَنْ ذَا الَّذِي وَضَعَ هَذَا النِّظَامَ فِي الْهَوَاءِ؟.
ثُمَّ إِذَا ازْدَادَ عِلْمًا بِإِدْرَاكِ الْبَصَرِ لِلْمُبْصِرَاتِ، وَمَا لَهَا مِنَ الْمَقَادِيرِ وَالْأَلْوَانِ وَالصِّفَاتِ، وَمَا لِلْعَيْنِ الْبَاصِرَةِ مِنَ الشَّكْلِ الْمُحَدَّبِ، وَمَا لَهَا مِنَ الطَّبَقَاتِ وَالرُّطُوبَاتِ، الْمُوَافِقَةِ لِسُنَنِ اللهِ فِي النُّورِ الَّذِي تُدْرِكُ بِهِ الْمَرْئِيَّاتِ، مِمَّا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي الْأَسْفَارِ وَمُوجَزٌ فِي الْمُخْتَصَرَاتِ، ازْدَادَ يَقِينًا بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ الدَّالَّةِ عَلَى عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ فِي الْكَائِنَاتِ، وَإِنْ غَفَلَ عَنْهَا الْمَشْغُولُونَ عَنْ عَظَمَةِ الصَّانِعِ بِعَظَمَةِ الْمَصْنُوعَاتِ، وَقَدْ وَحَّدَ السَّمْعَ لِأَنَّ إِدْرَاكَهُ لِجِنْسٍ وَاحِدٍ هُوَ الْأَصْوَاتُ وَجَمَعَ الْبَصَرَ لِتَعَدُّدِ أَجْنَاسِ الْمُبْصَرَاتِ.
(وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) أَيْ وَمَنْ ذَا الَّذِي يَمْلِكُ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ، فَيُخْرِجُ الْأَحْيَاءَ وَالْأَمْوَاتَ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ فِيمَا تَعْرِفُونَ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي تَحْدُثُ وَتَتَجَدَّدُ، وَفِيمَا لَا تَعْرِفُونَ؟ فَمِمَّا كَانُوا يَعْرِفُونَ أَنَّ النَّبَاتَ يُخْرَجُ مِنَ الْأَرْضِ الْمَيْتَةِ
291
بَعْدَ إِحْيَاءِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهَا بِمَاءِ الْمَطَرِ النَّازِلِ عَلَيْهَا مِنَ السَّمَاءِ، أَوِ النَّابِعِ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ سَلَكَهُ اللهُ تَعَالَى فِيهَا كَمَا قَالَ: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ) (٣٩: ٢١) الْآيَةَ بَلْ كَانَتِ الْحَيَاةُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَهُمْ قِسْمَيْنِ: حَيَاةُ النَّبَاتِ وَآيَتُهَا النُّمُوُّ، وَحَيَاةُ الْحَيَوَانِ وَآيَتُهَا النُّمُوُّ وَالْإِحْسَاسُ وَالْحَرَكَةُ بِالْإِرَادَةِ، وَكَانُوا يَعُدُّونَ وَصْفَ الْأَرْضِ بِالْحَيَاةِ مَجَازًا وَلَمْ يَكُونُوا يَصِفُونَ أُصُولَ الْأَحْيَاءِ بِالْحَيَاةِ كَالْحَبِّ وَالنَّوَى وَبَيْضِ الْحَيَوَانِ وَمَنِيِّهِ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِخْرَاجَ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ وَالْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ بِخُرُوجِ النَّخْلَةِ مِنَ النَّوَاةِ وَالطَّائِرِ مِنَ الْبَيْضَةِ وَعَكْسِهِمَا وَمَا يُشَابِهُهُمَا، وَهُوَ تَفْسِيرٌ صَحِيحٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَيَاةِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ، وَتَحْصُلُ بِهِ الدَّلَالَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنَ الْآيَةِ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَرَحْمَتِهِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ وَضْعَ قَوَاعِدَ فَنِّيَّةٍ لِلْحَيَاةِ وَأَنْوَاعِهَا وَتَحْدِيدَ وَظَائِفِهَا، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ تَفْسِيرُهَا بِمَا يَتَّفِقُ وَقَوَاعِدَ الْفُنُونِ وَتَجَارِبَ الْعُلُومِ الَّتِي تَزْدَادُ عَصْرًا بَعْدَ عَصْرٍ، فَإِذَا كَانَ أَهْلُهَا
يُثْبِتُونَ أَنَّ فِي أُصُولِ النَّبَاتِ مِنْ بَذْرٍ وَنَوَى وَبَيْضٍ وَمَنِيٍّ حَيَاةً، فَهُمْ يُثْبِتُونَ أَيْضًا أَنَّ أُصُولَ الْأَحْيَاءِ فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا خَرَجَتْ مِنْ مَادَّةٍ مَيِّتَةٍ، فَإِنَّ الْأَرْضَ عِنْدَهُمْ كَانَتْ كُتْلَةً نَارِيَّةً مُلْتَهِبَةً انْفَصَلَتْ مِنَ الشَّمْسِ، ثُمَّ صَارَتْ مَاءً، ثُمَّ نَبَتَتِ الْيَابِسَةُ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ تَكَوَّنَ مِنَ الْمَاءِ النَّبَاتُ وَالْحَيَوَانُ فِي أَطْوَارٍ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهَا، وَيُثْبِتُونَ أَيْضًا أَنَّ الْغِذَاءَ مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي يُحْرَقُ بِالنَّارِ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ دَمٌ، وَمِنْ هَذَا الدَّمِ يَكُونُ الْبَيْضُ وَالْمَنِيُّ الْمُشْتَمِلَانِ عَلَى مَادَّةِ الْحَيَاةِ، وَيُثْبِتُونَ أَيْضًا أَنَّ بَعْضَ مَوَادِّ الْبَدَنِ الْحَيَّةِ تَمُوتُ وَتَخْرُجُ مِنْهُ مَعَ الْبُخَارِ وَالْعَرَقِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يُفْرِزُهُ الْبَدَنُ وَيَلْفِظُهُ، وَيَتَجَدَّدُ فِيهِ مَوَادٌّ حَيَّةٌ جَدِيدَةٌ تَحُلُّ مَحَلَّ مَا انْدَثَرَ وَخَرَجَ مِنْهُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ: إِثْبَاتُ قُدْرَةِ الْخَالِقِ وَتَدْبِيرِهِ وَنِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ وَهُوَ عَامٌّ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْفَنِّ وَمُحْدَثَاتِ الْعِلْمِ، بَلْ تَزِيدُهُ كَمَالًا لِلْمُؤْمِنِ الْمُعْتَبِرِ، وَقَدْ تَكُونُ حِجَابًا لِغَيْرِهِ تَحْجُبُهُ عَنْ رَبِّهِ، فَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَيَاةِ أَنَّ الْحَيَّ لَا يَخْرُجُ إِلَّا مِنْ حَيٍّ، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ الْحَيَاةُ الْأَوْلَى مِنْ خَلْقِ اللهِ الْحَيِّ لِذَاتِهِ الْمُحْيِي لِغَيْرِهِ.
وَوَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ تَفْسِيرُ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْمَعْنَوِيَّيْنِ مِنْهُمَا، كَخُرُوجِ الْمُؤْمِنِ مِنْ سُلَالَةِ الْكَافِرِ، وَالْعَالِمِ مِنَ الْجَاهِلِ، وَالْبَرِّ مِنَ الْفَاجِرِ وَعَكْسِهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ (٣: ٢٧) الْوَارِدِ فِيهَا لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِسِيَاقِهَا. وَهُنَاكَ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ عَنْ سَلْمَانَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَكَذَا ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَرَاجِعْهُ فِي تَفْسِيرِهَا مِنَ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ وَسِيَاقُ هَذِهِ الْآيَاتِ هُنَا يُنَاسِبُ مَا فَسَّرْنَاهَا بِهِ مِنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
292
(وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) فِي الْخَلِيقَةِ كُلِّهَا بِمَا أَوْدَعَهُ فِي كُلٍّ مِنْهَا مِنَ السُّنَنِ وَقَدَّرَهُ مِنَ النِّظَامِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ التَّدْبِيرِ عِنْدَ ذِكْرِهِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) أَيْ فَسَيَكُونُ جَوَابُهُمْ عَنْ هَذِهِ الِاسْتِفْهَامَاتِ الْخَمْسِ أَنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ كُلِّهِ هُوَ اللهُ رَبُّ
كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ؛ إِذْ لَا جَوَابَ غَيْرُهُ وَهُمْ لَا يَجْهَلُونَهُ، فَالِاسْتِفْهَامُ عَنْهُ لِحَمْلِهِمْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: (فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ) أَيْ فَقُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَتَعْلَمُونَ هَذَا وَتُقِرُّونَ بِهِ، فَلَا تَتَّقُونَ سُخْطَ اللهِ وَعِقَابَهُ لَكُمْ بِشِرْكِكُمْ بِهِ، وَعِبَادَتِكُمْ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ شَيْئًا، وَهُوَ الْمَالِكُ لَهَا كُلِّهَا؟ !.
(فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ) هَذِهِ فَذْلَكَةُ مَا تَقَدَّمَ، أَيْ فَذَلِكُمُ الَّذِي يَفْعَلُ مَا ذُكِرَ اللهُ رَبُّكُمْ، أَيِ الْمُرَبِّي لَكُمْ بِنِعَمِهِ وَالْمُدَبِّرُ لِأُمُورِكُمْ، الْحَقُّ الثَّابِتُ بِذَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الْحَيُّ بِذَاتِهِ، الْمُحْيِي لِغَيْرِهِ، الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ، الْمُقِيمُ لِغَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ هُوَ رَبُّكُمُ الْحَقُّ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ، وَالْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ دُونَ سِوَاهُ (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ) الِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، وَفِي الْجُمْلَةِ إِدْمَاجٌ بِمَا يُسَمُّونَهُ الِاحْتِبَاكَ، أَيْ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الْبَاطِلُ؟ وَمَاذَا بَعْدَ الْهُدَى إِلَّا الضَّلَالُ؟ وَالْوَاسِطَةُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ مَمْنُوعَةٌ كَالْعَقَائِدِ، فَالَّذِي يَفْعَلُ تِلْكَ الْأُمُورَ هُوَ الرَّبُّ الْحَقُّ، فَالْقَوْلُ بِرُبُوبِيَّةِ مَا سِوَاهُ بَاطِلٌ، وَهُوَ الْإِلَهُ الَّذِي يُعْبَدُ بِحَقٍّ، وَعِبَادَتُهُ وَحْدَهُ هِي الْهُدَى، فَمَا سِوَاهَا مِنْ عِبَادَةِ الشُّرَكَاءِ وَالْوُسَطَاءِ ضَلَالٌ، فَكُلُّ مَنْ يَعْبُدُ غَيْرَهُ مَعَهُ فَهُوَ مُشْرِكٌ مُبْطِلٌ ضَالٌّ (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) أَيْ فَكَيْفَ تُصْرَفُونَ وَتَتَحَوَّلُونَ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَعَنِ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالِ، بَعْدَ الْعِلْمِ وَالْإِقْرَارِ بِمَا كَانَ بِهِ اللهُ هُوَ الرَّبَّ الْحَقَّ، وَإِنَّمَا الْإِلَهُ الْحَقُّ، الَّذِي يُعْبَدُ بِالْحَقِّ، هُوَ الرَّبُّ الْحَقُّ، فَمَا بَالُكُمْ تُقِرُّونَ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ دُونَ تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ؟ فَتَتَّخِذُونَ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى وَلَا تَتَحَقَّقُ الْأُلُوهِيَّةُ إِلَّا بِتَحَقُّقِ الرُّبُوبِيَّةِ؟.
فَالْآيَةُ تُقَرِّرُ أَنَّ التَّوْحِيدَ لَا يَصِحُّ مَعَ الْفَصْلِ بَيْنَ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، وَقَدْ جَهِلَ هَذَا بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، الَّذِينَ أَخَذُوا عَقِيدَتَهُمْ مِنْ بَعْضِ الْكُتُبِ الْكَلَامِيَّةِ الْمُبْتَدِعَةِ وَجَهِلُوا عَقَائِدَ الْقُرْآنِ، فَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَفْهُومَيِ الرَّبِّ وَالْإِلَهِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ إِنَّمَا وَحَّدَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَاصَدَقِ الشَّرْعِيِّ، لَا فِي الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ، وَاحْتُجَّ بِهَذَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ هُنَا وَفِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَغَيْرُهُ مِنْ قَبْلِهِ وَمِنْ بَعْدِهِ.
وَفِي الْآيَةِ مِنْ قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ وَأُصُولِ التَّشْرِيعِ وَالْعِلْمِ، أَنَّ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فِيهِمَا
293
ضِدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَأَنَّ الْهُدَى وَالضَّلَالَ ضِدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَلِهَذَا الْأَصْلِ فُرُوعٌ كَثِيرَةٌ فِي الدِّينِ وَالْعِلْمِ الْعَقْلِيِّ. وَفِيهَا مِنْ حَسَنَاتِ الْإِيجَازِ فِي التَّعْبِيرِ مَا يُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ الْبَدِيعِ بِالِاحْتِبَاكِ، وَهُوَ أَنْ يُحْذَفَ مِنْ كُلٍّ مِنَ الْمُتَقَابِلَيْنِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مُقَابِلُهُ فِي الْآخَرِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الْآيَةِ أَتَمَّ الظُّهُورِ، وَإِنْ غَفَلَ عَنْهُ الْجُمْهُورُ.
(كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا) أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الَّذِي حَقَّتْ بِهِ كَلِمَةُ رَبِّكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ فِي وَحْدَةِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ، وَكَوْنِ الْحَقِّ لَيْسَ بَعْدَهُ لِتَارِكِهِ إِلَّا الْبَاطِلُ، وَالْهُدَى لَيْسَ وَرَاءَهُ لِلنَّاكِبِ عَنْهُ إِلَّا الضَّلَالُ ((حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ)) : أَيْ سُنَّتُهُ أَوْ وَعِيدُهُ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا، أَيْ خَرَجُوا مِنْ حَظِيرَةِ الْحَقِّ وَهُوَ تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ وَهِدَايَةُ الدِّينِ الْحَقِّ. فَفِي كَلِمَةِ الرَّبِّ وَجْهَانِ، لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَصْلٌ فِي الْقُرْآنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا كَلِمَةُ التَّكْوِينِ، وَهِيَ سُنَّتُهُ فِي الْفَاسِقِينَ الْخَارِجِينَ مِنْ نُورِ الْفِطْرَةِ وَاسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ، الَّذِينَ لَا يَتَوَجَّهُونَ إِلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ؛ لِرُسُوخِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَاطْمِئْنَانِهِمْ بِهِ بِالتَّقْلِيدِ وَالْعَمَلِ فَقَوْلُهُ: (أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) عَلَى هَذَا بَيَانٌ لِلْكَلِمَةِ أَوْ بَدَلٌ مِنْهَا، أَيِ اقْتَضَتْ سُنَّتُهُ فِي غَرَائِزِ الْبَشَرِ وَأَخْلَاقِهِمْ (أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) بِمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ رُسُلُنَا مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْهُدَى مَهْمَا تَكُنْ آيَاتُهُمْ بَيِّنَةً، وَحُجَجُهُمْ قَوِيَّةً ظَاهِرَةً، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ مَنْعًا قَهْرِيًّا مُسْتَأْنَفًا بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ مِنْهُ بِاخْتِيَارِهِمْ تَرْجِيحًا لِلْكُفْرِ عَلَيْهِ.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) (١٠: ٩٦ و٩٧).
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا كَلِمَةُ خِطَابِ التَّكْلِيفِ بِوَعِيدِ الْفَاسِقِينَ الْكَافِرِينَ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الم السَّجْدَةِ: (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ) (٣٢: ٢٠) وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ غَافِرٍ: (وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ) (٤٠: ٦) وَيَكُونُ قَوْلُهُ: (أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) عَلَى هَذَا تَعْلِيلًا لِمَا قَبْلَهُ بِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ لِأَنَّهُمْ أَوْ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ.
وَكُلٌّ مِنَ الْوَجْهَيْنِ حَقٌّ ظَاهِرٌ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ هُنَا.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ (كَلِمَةُ) فِي آيَتَيْ يُونُسَ وَآيَةِ غَافِرٍ بِالْجَمْعِ (كَلِمَاتُ) وَلِأَجْلِ ذَلِكَ رُسِمَتْ فِي الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ بِالتَّاءِ الْمَبْسُوطَةِ (كَلِمَتُ) وَوَجْهُ قِرَاءَةِ الْجَمْعِ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى بِوَجْهَيْهِ قَدْ تَعَدَّدَ وَتَكَرَّرَ فِي آيَاتِ الْكِتَابِ.
(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ).
(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) لَمْ يَعْطِفْ هَذَا الْأَمْرَ وَلَا مَا بَعْدَهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ تَلْقِينِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الِاحْتِجَاجَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَلَاغَةِ فِيهِ الْفَصْلُ كَأَمْثَالِهِ مِمَّا يُسْرَدُ سَرْدًا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفْرَدَاتِ وَالْجُمَلِ. أَيْ قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: هَلْ أَحَدٌ مِنْ شُرَكَائِكُمُ الَّذِينَ عَبَدْتُمُوهُمْ مَعَ اللهِ أَوْ مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لَهُ هَذَا الشَّأْنُ فِي الْكَوْنِ، وَهُوَ بَدْءُ الْخَلْقِ فِي طَوْرٍ ثُمَّ إِعَادَتُهُ فِي طَوْرٍ آخَرَ سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْأَصْنَامِ الْمَنْصُوبَةِ، أَوْ مِنَ الْأَرْوَاحِ الَّتِي تَزْعُمُونَ أَنَّهَا حَالَّةٌ فِيهَا، أَوْ مِنَ الْكَوَاكِبِ السَّمَاوِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْأَحْيَاءِ كَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ وَلَمَّا كَانَ هَذَا السُّؤَالُ مِمَّا لَا يُجِيبُونَ عَنْهُ كَمَا أَجَابُوا عَنْ أَسْئِلَةِ الْخِطَابِ الْأَوَّلِ، لِإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَالْمَعَادَ - لَا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ شُرَكَاءَهُمْ تَفْعَلُ ذَلِكَ - لَقَّنَ اللهُ رَسُولَهُ الْجَوَابَ (قُلِ اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) فَأَدْمَجَ إِثْبَاتَ الْبَعْثِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِيهِ وَيَسْتَلْزِمُهُ، فَإِنَّ الرَّبَّ الْقَادِرَ عَلَى بَدْءِ الْخَلْقِ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى إِعَادَتِهِ بِالْأَوْلَى، عَلَى أَنَّ الَّذِي يُنْكِرُونَهُ هُوَ إِعَادَتُهُ تَعَالَى لِلْأَحْيَاءِ
الْحَيَوَانِيَّةِ دُونَ مَا دُونَهَا مِنَ الْأَحْيَاءِ النَّبَاتِيَّةِ، فَهُمْ يُشَاهِدُونَ بَدْءَ خَلْقِ النَّبَاتِ فِي الْأَرْضِ عِنْدَمَا يُصِيبُهَا مَاءُ الْمَطَرِ فِي فَصْلِ الشِّتَاءِ، وَمَوْتَهُ بِجَفَافِهَا فِي فَصْلِ الصَّيْفِ وَالْخَرِيفِ ثُمَّ إِعَادَتَهُ بِمِثْلِ مَا بَدَأَهُ بِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَيُقِرُّونَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ هَذَا الْبَدْءَ وَالْإِعَادَةَ؛ لِأَنَّهُمْ يُشَاهِدُونَ كُلًّا مِنْهُمَا، فَهُمْ أَسْرَى الْحِسِّ وَالْعِيَانِ، ثُمَّ يُنْكِرُونَ قُدْرَتَهُ عَلَى إِعَادَةِ خَلْقِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُشَاهِدُوا أَحَدًا مِنْهُمْ حَيِيَ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَقَدْ فَقَدُوا الْعِلْمَ بِبُرْهَانِ الْقِيَاسِ، وَإِنَّنَا لَا نَزَالُ نَرَى أَمْثَالًا لَهُمْ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ مِمَّنْ تَعَلَّمُوا الْمَنْطِقَ وَطُرُقَ الِاسْتِدْلَالِ. وَعَرَفُوا مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَ
295
مِنْ سُلْطَانِ الْأَرْوَاحِ فِي عَالَمِ الْأَجْسَامِ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ أَنْ يُرْشِدَهُمْ إِلَى جَهْلِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَيُنَبِّهَهُمْ لِلتَّفْكِيرِ فِي أَمْرِهِمْ بِقَوْلِهِ: (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أَيْ فَكَيْفَ تُصْرَفُونَ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ مِنْ دَوَاعِي الْفِطْرَةِ وَخَاصَّةِ الْعَقْلِ فِي التَّفْكِيرِ، لِلْعِلْمِ بِالْحَقَائِقِ وَالْبَحْثِ عَنِ الْمَصِيرِ؟.
(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) ؟ هَذَا سُؤَالٌ عَنْ شَأْنٍ آخَرَ مِنْ شُئُونِ الرُّبُوبِيَّةِ، الْمُقْتَضِيَةِ لِاسْتِحْقَاقِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَتَوْحِيدِ الْعِبَادَةِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، وَهُوَ الْهِدَايَةُ الَّتِي تَتِمُّ بِهَا حِكْمَةُ الْخَلْقِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ذِكْرُهَا عَقِبَهُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) (٢٦: ٧٨) (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (٢٠: ٥٠)، (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) (٨٧: ٢، ٣) وَهِيَ أَنْوَاعُ هِدَايَةِ الْفِطْرَةِ وَالْغَرِيزَةِ، وَهِدَايَةِ الْحَوَّاسِ، وَهِدَايَةِ الْعَقْلِ، وَهِدَايَةِ التَّفَكُّرِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِكُلِّ ذَلِكَ، وَهِدَايَةِ الدِّينِ، وَهُوَ لِلنَّوْعِ الْبَشَرِيِّ فِي جُمْلَتِهِ كَالْعَقْلِ لِأَفْرَادِهِ، وَهِدَايَةِ التَّوْفِيقِ الْمُوصِّلِ بِالْفِعْلِ إِلَى الْغَايَةِ بِتَوْجِيهِ النَّفْسِ إِلَى طَلَبِ الْحَقِّ وَتَسْهِيلِ سَبِيلِهِ وَمَنْعِ الصَّوَارِفِ عَنْهُ. وَلَمَّا كَانَ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَدَّعُوا أَنَّ أَحَدًا مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَشْرَكُوهُمْ فِي عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى، بِادِّعَاءِ التَّقْرِيبِ إِلَيْهِ وَالشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ، يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ مِنْ نَاحِيَةِ الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ، وَلَا مِنْ نَاحِيَةِ التَّشْرِيعِ، لَقَّنَ اللهُ رَسُولَهُ الْجَوَابَ بِقَوْلِهِ (قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ) فِعْلُ الْهُدَى يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (١: ٦)، (وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) (٤٨: ٢) (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (٢٩: ٦٩) وَيَتَعَدَّى بِإِلَى كَقَوْلِهِ: (وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٦: ٨٧)، (وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥: ١٦) (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) (٧٢: ٢)، (وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ) (٣٨: ٢٢) وَبِاللَّامِ كَقَوْلِهِ
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا) (٧: ٤٣) (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (١٧: ٩)، (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ) (٤٩: ١٧) فَتَعْدِيَتُهُ بِنَفْسِهِ تُفِيدُ اتِّصَالَ الْهِدَايَةِ بِمُتَعَلِّقِهَا مُبَاشَرَةً، وَتَعْدِيَتُهُ بِـ ((اللَّامِ)) تُفِيدُ التَّقْوِيَةَ أَوِ الْعِلَّةَ وَالسَّبَبِيَّةَ، وَبِـ ((إِلَى)) لِلْغَايَةِ الَّتِي تَنْتَهِي إِلَيْهَا الْهِدَايَةُ، فَهِيَ تَشْمَلُ مُقَدِّمَاتِهَا وَأَسْبَابَهَا مِنْ حَيْثُ كَوْنِهَا مُوَصِّلَةً إِلَى الْمُنْتَهَى الْمَقْصُودِ لِلْهَادِي السَّائِقِ إِلَيْهَا، وَقَدْ يَكُونُ قَصْدُهُ مَجْهُولًا لِمُطِيعِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الشَّيْطَانِ: (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ) (٢٢: ٤) وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْزِيلِ فِي مَوْضِعِهِ اللَّائِقِ بِهِ، يَعْلَمُ ذَلِكَ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ سَلِيمٌ فِي هَذِهِ اللُّغَةِ الدَّقِيقَةِ الْعَالِيَةِ. وَقَدْ جَمَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيْنَ التَّعْدِيَةِ بِالْحَرْفَيْنِ، وَبَيْنَ تَرْكِ التَّعْدِيَةِ وَهُوَ حَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ الدَّالِّ عَلَى الْعُمُومِ، وَكُلٌّ مِنْهَا وَقَعَ فِي مَوْقِعِهِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْبَلَاغَةُ فَهَاكَهُ فَلَمْ نَرَ أَحَدًا بَيَّنَهُ.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَدْ عَدَّاهُ بِإِلَى فِي حَيِّزِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ؛ لِلْإِيذَانِ بِأَنَّهُ لَا أَحَدَ مِنْ هَؤُلَاءِ الشُّرَكَاءِ الْمُتَّخَذِينَ بِالْبَاطِلِ يَدُلُّ النَّاسَ عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي يَنْتَهِي سَالِكُهُ إِلَى الْحَقِّ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ وَهُوَ التَّشْرِيعُ، فَهُوَ يَنْفِي الْمُقَدِّمَاتِ وَنَتَائِجَهَا، وَالْأَسْبَابَ وَمُسَبِّبَاتِهَا، وَلَوْ عَدَّاهُ بِنَفْسِهِ لَمَا أَفَادَ
296
إِلَّا إِنْكَارَ هِدَايَةِ الْإِيصَالِ إِلَى الْحَقِّ بِالْفِعْلِ، دُونَ هِدَايَةِ التَّشْرِيعِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهِ، وَلَوْ عَدَّاهُ بِاللَّامِ لَكَانَ بِمَعْنَى تَعْدِيَتِهِ بِنَفْسِهِ إِنْ كَانَتِ اللَّامُ لِلتَّقْوِيَةِ أَوْ لِإِنْكَارِ هِدَايَةٍ يُقْصَدُ بِهَا الْحَقُّ إِنْ كَانَتْ لِلتَّعْلِيلِ، وَالْأَوَّلُ أَعَمُّ وَأَبْلَغُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.
وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ تَعْدِيَتُهُ بِاللَّامِ فَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْأَوَّلَ، وَإِذَا جَرَيْنَا عَلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِ اللَّامِ بِمَعْنَيَيْهَا عَلَى مَذْهَبِنَا الَّذِي اتَّبَعْنَا فِيهِ الْإِمَامَيْنِ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ جَرِيرٍ، يَكُونُ مَعْنَاهُ: قُلِ اللهُ يَهْدِي لِمَا هُوَ الْحَقُّ لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ الْمُهْتَدُونَ بِهِ عَلَى الْحَقِّ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ: أَيْ حَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ فَهُوَ فِي الشِّقِّ الثَّانِي مِنْ قَوْلِهِ: (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى) قَرَأَ (يَهِدِّي) يَعْقُوبُ وَحَفْصٌ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِّ وَأَصْلُهُ يَهْتَدِي كَمَا سَيَأْتِي فِي بَحْثِ لُغَةِ الْكَلِمَةِ، وَقَرَأَهَا حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّخْفِيفِ كَيَرْمِي، وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ مَعَ مَا قَبْلَهُمَا نَصًّا وَاقْتِضَاءً: أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَيَهْدِي لَهُ وَيَهْدِيهِ - وَهُوَ اللهُ تَعَالَى - أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ فِيمَا يُشَرِّعُهُ، أَمْ مَنْ لَا يَهْدِي غَيْرَهُ وَلَا هُوَ يَهْتَدِي بِنَفْسِهِ مِمَّنْ عُبِدَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَنْ يَهْدِيَهُ غَيْرُهُ، أَيِ اللهُ تَعَالَى
إِذْ لَا هَادِيَ غَيْرُهُ؟ وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مَنْ أَعَمِّ الْأَحْوَالِ؛ لِأَنَّ مَنْ نَفَى عَنْهُمُ الْهِدَايَةَ مِمَّنِ اتَّخَذُوا شُرَكَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى يَشْمَلُ الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ وَعُزَيْرًا وَالْمَلَائِكَةَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَهَؤُلَاءِ كَانُوا يَهْدُونَ إِلَى الْحَقِّ بِهِدَايَةِ اللهِ وَوَحْيِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْأَنْبِيَاءِ مِنْ سُورَتِهِمْ: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) (٢١: ٧٣) وَقَالَ النَّحَّاسُ: الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ، كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ لَا يَسْمَعُ غَيْرَهُ إِلَّا أَنْ يَسْمَعَ، أَيْ لَكِنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَسْمَعَ، فَمَعْنَى (إِلَّا أَنْ يُهْدَى) لَكِنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يُهْدَى انْتَهَى. فَيَا لَلَّهِ الْعَجَبُ مِنْ هَذِهِ الْبَلَاغَةِ الَّتِي يَظْهَرُ لِلْمُدَقِّقِينَ فِي تَعْبِيرِ الْقُرْآنِ مِنْ بَدَائِعِهَا فِي كُلِّ عَصْرٍ مَا فَاتَ أَسَاطِينَ بُلَغَاءِ الْمُفَسِّرِينَ فِيمَا قَبْلَهُ.
(فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) هَذَا تَعْجِيبٌ مِنْ حَالِهِمْ فِي جَعْلِهِمْ مَنْ هَذِهِ حَالُهُمْ مِنَ الْعَجْزِ الْمُطْلَقِ شُرَكَاءَ مَعَ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، أَوْرَدَهُ بِاسْتِفْهَامَيْنِ تَقْرِيعِيَّيْنِ مُتَوَالِيَيْنِ، وَالْمَعْنَى: أَيُّ شَيْءٍ أَصَابَكُمْ، وَمَاذَا حَلَّ بِكُمْ حَتَّى اتَّخَذْتُمْ شُرَكَاءَ هَذِهِ حَالُهُمْ وَصِفَتُهُمْ، فَجَعَلْتُمُوهُمْ وُسَطَاءَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمُ الَّذِي لَا خَالِقَ وَلَا رَازِقَ وَلَا مُدَبِّرَ وَلَا هَادِيَ لَكُمْ وَلَا لِأَحَدٍ مِنْهُمْ سِوَاهُ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ بِجَوَازِ عِبَادَتِهِمْ، وَبِمَا زَعَمْتُمْ مِنْ وَسَاطَتِهِمْ وَشَفَاعَتِهِمْ عِنْدَهُ بِدُونِ إِذْنِهِ؟.
وَمِنَ الْقِرَاءَاتِ اللَّفْظِيَّةِ الَّتِي لَا يَخْتَلِفُ بِهَا الْمَعْنَى، قِرَاءَةُ ((يَهِدِّي)) الْمُشَدَّدَةِ الدَّالِ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْهَاءِ بِنَقْلِ حَرَكَةِ التَّاءِ فِي أَصْلِهَا (يَهْتَدِي) إِلَى الْهَاءِ وَإِدْغَامِهَا فِيهَا، وَقِرَاءَتِهَا بِكَسْرِهِمَا مَعًا فَالْهَاءُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَالْيَاءُ لِمُنَاسَبَتِهَا لَهَا، وَقِرَاءَتُهَا بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ لِمُنَاسَبَةِ الدَّالِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ حَفْصٍ الَّتِي عَلَيْهَا أَهْلُ بِلَادِنَا.
(وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) هَذَا بَيَانٌ لِحَالِ الْمُشْرِكِينَ الِاعْتِقَادِيَّةِ، فِي إِثْرِ إِقَامَةِ أَنْوَاعِ
الْحُجَجِ عَلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ، بِأُسْلُوبِ الْأَسْئِلَةِ وَالْأَجْوِبَةِ الْمُفِيدَةِ لِلْعِلْمِ، وَالْهَادِيَةِ إِلَى الْحَقِّ، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي شُرَكَائِهِمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ الْمَطْلُوبِ فِي الْعَقَائِدِ الدَّالِّ عَلَى ارْتِقَاءِ الْعَقْلِ وَعُلُوِّ النَّفْسِ، وَهُوَ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَتَّبِعُونَ فِي شِرْكِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ لِغَيْرِ رَبِّهِمْ، وَلَا فِي إِنْكَارِهِمْ لِلْبَعْثِ، وَتَكْذِيبِهِمْ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا ضَرْبًا مِنْ ضُرُوبِ الظَّنِّ، قَدْ يَكُونُ ضَعِيفًا كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ تَنْكِيرُهُ، وَذَلِكَ كَاسْتِبْعَادِ غَيْرِ
الْمَأْلُوفِ، وَقِيَاسِ الْغَائِبِ وَالْمَجْهُولِ عَلَى الْحَاضِرِ وَالْمَعْرُوفِ، وَتَقْلِيدِ الْآبَاءِ ثِقَةً بِهِمْ وَتَعْظِيمًا لِشَأْنِهِمْ أَنْ يَكُونُوا عَلَى بَاطِلٍ فِي اعْتِقَادِهِمْ، وَضَلَالٍ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَأَمَّا غَيْرُ الْأَكْثَرِ فَكَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ هُوَ الْحَقُّ وَالْهُدَى، وَأَنَّ أَصْنَامَهُمْ وَغَيْرَهَا مِمَّا عَبَدُوا لَا تَنْفَعُ وَلَا تَشْفَعُ، وَلَكِنَّهُمْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ، وَيُكَذِّبُونَ رَسُولَهُ عِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ، وَضَنًّا بِرِيَاسَتِهِمْ وَزَعَامَتِهِمْ أَنْ يَهْبِطُوا مِنْهَا إِلَى اتِّبَاعِ مَنْ دُونَهُمْ ثَرْوَةً وَقُوَّةً وَمَكَانَةً فِي قَوْمِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْبِيرُ بِالْأَكْثَرِ جَاءَ عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ. فَإِنَّهُ تَارَةً يَحْكُمُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ، وَتَارَةً يَسْتَثْنِي مِنَ الِاسْتِغْرَاقِ وَالْإِطْلَاقِ الْقَلِيلَ مِنْهُمْ، كَمَا تَقَدَّمَ نَظَائِرُهُ مِنْ قَبْلُ. فَيَكُونُ الْحُكْمُ عَلَى الْأَكْثَرِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّهُ يَقِلُّ فِيهِمْ ذُو الْعِلْمِ، فَإِنْ قِيلَ: وَمَا حُكْمُ اللهِ فِي الظَّنِّ؟ فَالْجَوَابُ: (إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) مِنَ الْإِغْنَاءِ وَلَوْ قَلِيلًا، أَيْ لَا يَجْعَلُ صَاحِبَهُ غَنِيًّا بِعِلْمِ الْيَقِينِ فِي الْحَقِّ، فَيَكُونُ أَيِ الظَّنُّ بَدَلًا مِنَ الْيَقِينِ فِي شَيْءٍ مِمَّا يُطْلَبُ فِيهِ الْيَقِينُ كَالدِّينِ؛ فَإِنَّ الْحَقَّ هُوَ الْأَمْرُ الثَّابِتُ الْمُتَحَقِّقُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِي ثُبُوتِهِ وَتَحَقُّقِهِ، وَالْمَظْنُونُ وَإِنْ كَانَ رَاجِحًا عِنْدَ صَاحِبِهِ عُرْضَةٌ لِلشَّكِّ، يَتَزَلْزَلُ وَيَزُولُ إِذَا عَصَفَتْ بِهِ أَيُّ عَاصِفَةٍ مِنَ الشُّبَهَاتِ، وَالْإِغْنَاءُ يَتَعَدَّى بِـ ((عَنْ)) كَقَوْلِهِ: (مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ) (٧: ٤٨) (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ) (٦٩: ٢٨) (فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ) (١١: ١٠١) وَقَدْ عُدِّيَ هُنَا بِـ ((مِنْ)) وَفِي مِثْلِهِ مِنْ سُورَةِ النَّجْمِ، وَفِي قَوْلِهِ فِي ظِلِّ دُخَانِ النَّارِ (لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) (٧٧: ٣١) وَقَوْلِهِ فِي الضَّرِيعِ مِنْ طَعَامِ أَهْلِهَا: (لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) (٨٨: ٧) فَعُدِّيَ بِـ ((مِنْ)) لِإِفَادَةِ الْقِلَّةِ أَوْ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى الْبَدَلِ أَيْ إِنَّ ظِلَّ دُخَانِ النَّارِ لَا وَارِفَ يَمْنَعُ الْحَرَّ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ بِأَنْ يُقَلِّلَهُ أَوْ يُزِيلَهُ وَيَكُونَ بَدَلًا مِنْهُ، وَإِنَّ الضَّرِيعَ الَّذِي هُوَ طَعَامُ أَهْلِ النَّارِ لَا يُسْمِنُ الْبَدَنَ بِالتَّغْذِيَةِ الْكَافِيَةِ، وَلَا يُقَلِّلُ الْجُوعَ أَوْ يُزِيلُهُ فَيَكُونُ بَدَلًا مِنَ الطَّعَامِ الرَّدِيءِ التَّغْذِيَةِ.
وَاسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ بِهَذِهِ الْآيَةِ هُنَا وَفِي سُورَةِ النَّجْمِ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ وَاجِبٌ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ الْمُقَلِّدَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَيَدْخُلُ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ الْإِيمَانُ بِوُجُوبِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ الْقَطْعِيَّةِ، وَالْإِيمَانُ بِتَحْرِيمِ الْمَحْظُورَاتِ الْقَطْعِيَّةِ كَذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ الْيَقِينَ الْمَشْرُوطَ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ
شَرْعًا هُوَ الْيَقِينُ اللُّغَوِيُّ، وَهُوَ
298
الِاعْتِقَادُ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا شَكَّ مَعَهُ - لَا الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ عِنْدَ نُظَّارِ الْفَلْسَفَةِ وَالْمَنْطِقِ الْمُؤَلَّفُ مِنْ عِلْمَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ الشَّيْءَ كَذَا (وَالثَّانِي) أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا كَذَا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْأَحْكَامَ الْعَمَلِيَّةَ يَكْفِي فِيهَا الدَّلِيلُ الظَّنِّيُّ، فَفِيهِ أَنَّ الدَّلِيلَ الظَّنِّيَّ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْإِيمَانُ بِالْمَظْنُونِ، بَلِ التَّصْدِيقُ بِالْمَظْنُونِ لَا يُسَمَّى إِيمَانًا. وَإِنَّمَا يَعْمَلُ فِي الِاجْتِهَادِيَّاتِ خُرُوجًا مِنَ الْحَيْرَةِ وَالتَّرْجِيحِ بِهَوَى النَّفْسِ.
(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) هَذِهِ قَضِيَّةٌ ثَانِيَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ خَاصَّةٌ بِالْعَمَلِ، شَأْنُهَا أَنْ يُسْأَلَ عَنْهَا بَعْدَ الْقَضِيَّةِ الَّتِي قَبْلَهَا فِي الِاعْتِقَادِ، فَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ بِمُقْتَضَى اعْتِقَادَاتِهِمُ الظَّنِّيَّةِ وَالْقَطْعِيَّةِ، فَهُوَ يُحَاسِبُهُمْ وَيُجَازِيهِمْ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ مِنْهَا بِحَسَبِهِ، فَالْجَزَاءُ عَلَى مُخَالَفَةِ الِاعْتِقَادِ الْقَطْعِيِّ بِصِدْقِ الرَّسُولِ مِنْ تَكْذِيبٍ وَجُحُودٍ أَشَدُّ أَنْوَاعِ الْجَزَاءِ. وَيَلِيهِ التَّكْذِيبُ بِاتِّبَاعِ الظَّنِّ كَالتَّقْلِيدِ. وَمِنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ الصَّدُّ عَنِ الْإِيمَانِ وَإِيذَاءُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ بِأَنْوَاعِهِ، وَمِنْهَا سَائِرُ الشُّرُورِ وَالْمَعَاصِي الشَّخْصِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ كَالْقَتْلِ وَالْفَاحِشَةِ وَالسُّكْرِ وَالرِّبَا إِلَخْ.
وَالْعِبْرَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْقُرْآنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا، وَهُمَا مِنْ آيَاتِهِ الْمُحْكَمَاتِ فِي أُصُولِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، أَنْ يَكُونَ غَرَضُهُ مِنْ حَيَاتِهِ تَزْكِيَةَ نَفْسِهِ وَتَكْمِيلَهَا بِاتِّبَاعِ الْحَقِّ فِي كُلِّ اعْتِقَادٍ، وَالْهُدَى وَهُوَ الصَّلَاحُ فِي كُلِّ عَمَلٍ، وَبِنَاؤُهُمَا عَلَى أَسَاسِ الْعِلْمِ دُونَ الظَّنِّ وَمَا دُونَهُ مِنَ الْخَرْصِ وَالْوَهْمِ، فَالْعِلْمُ الْمُفِيدُ لِلْحَقِّ وَالْمُبَيِّنُ لِلْهُدَى فِي الدِّينِ هُوَ مَا كَانَ قَطْعِيَّ الرِّوَايَةِ وَالدَّلَالَةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الْجَمَاعَةُ الْأُولَى، وَهُوَ الشَّرْعُ الْعَامُّ الَّذِي لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِينَ التَّفَرُّقُ وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ، فَهُوَ مَنَاطُ وَحْدَتِهِمْ، وَرَابِطَةُ جَامِعَتِهِمْ، وَمَا دُونَهُ مِمَّا لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ فَلَا يُؤْخَذُ بِهِ فِي الِاعْتِقَادِ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ لِلِاجْتِهَادِ فِي الْأَعْمَالِ، اجْتِهَادِ الْأَفْرَادِ فِي الْأَعْمَالِ الشَّخْصِيَّةِ، وَاجْتِهَادِ أُولِي الْأَمْرِ فِي الْقَضَاءِ وَالْإِدَارَةِ وَالسِّيَاسَةِ، مَعَ تَقْيِيدِهِمْ فِيهِ بِالشُّورَى فِي اسْتِبَانَةِ الْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ وَالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، كَمَا فَصَّلْنَاهُ مِنْ قَبْلُ فِي مَوَاضِعِهِ.
وَقَدْ غَفَلَ عَنْ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ، فَحَكَمَ بِتَحْرِيمِ بَعْضِ الْعَادَاتِ الْمُبَاحَةِ فِي الْأَصْلِ كَلِعْبِ الشَّطْرَنْجِ، وَكَذَا الْمُسْتَحَبَّةِ كَمُلَاعَبَةِ الرَّجُلِ لِزَوْجِهِ، وَسَمَاعِ الْغَنَاءِ، بِشُبْهَةِ أَنَّهَا مِنَ الْبَاطِلِ أَوْ مِنَ الضَّلَالِ، وَلَا يَثْبُتُ تَحْرِيمُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ
فَضْلًا عَنْ قَطْعِيٍّ وِفَاقًا لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيِّ الْمُخَالِفِ فِيهِ لِلرِّوَايَةِ عَنْ إِمَامِهِ، وَأَمَّا الْمُقَلِّدُونَ مِنَ الْمُنْتَمِينَ فِي الْفِقْهِ إِلَى كُلِّ مَذْهَبٍ، فَقَدْ حَرَّمُوا عَلَى النَّاسِ مَا لَا يُحْصَى بِالرَّأْيِ وَالْأَقْيِسَةِ الْوَهْمِيَّةِ، الَّتِي هِيَ دُونَ الْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ، وَهَدْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الشُّبَهَاتِ الِاحْتِيَاطُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ: ((الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيَّنٌ)) الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَاسْتِفْتَاءُ (الْوِجْدَانِ) لِحَدِيثِ: ((اسْتَفْتِ نَفْسَكَ)) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ.
299
وَإِنَّمَا الْبَاطِلُ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا ثَبَتَ بُطْلَانُهُ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ قَطْعِيٍّ، كَمَا أَنَّ الْحَقَّ فِيهَا مَا ثَبَتَتْ حَقِّيَّتُهُ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَبَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ هِيَ مَا لَا دَلِيلَ فِيهِ بِخِلَافِ الِاعْتِقَادِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَمِنَ الْأَشْيَاءِ الْعَمَلِيَّةِ مَا الْأَصْلُ فِيهِ الْإِبَاحَةُ وَهُوَ النَّافِعُ، وَمِنْهُ مَا سَكَتَ الشَّارِعُ عَنْ فَرْضِهِ وَعَنْ تَحْرِيمِهِ وَعَنْ قَوَاعِدِ حُدُودِهِ كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا)) كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ فِي الْأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ وَقَدْ حَقَّقْنَا هَذَا الْبَحْثَ فِي تَفْسِيرِ: (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) (٥: ١٠١) مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ السَّادِسِ.
وَالَّذِي أُرِيدُ أَنْ أُذَكِّرَ بِهِ كُلَّ مُسْلِمٍ هُنَا أَنَّهُ لَا يُوجَدُ الْآنَ فِي الْأَرْضِ دِينٌ مُتَّبَعٌ. وَلَا قَانُونٌ دَوْلِيٌّ مُنَفَّذٌ، وَلَا نِظَامٌ حِزْبِيٌّ وَلَا جَمَاعِيٌّ مُلْتَزَمٌ يَفْرِضُ عَلَى النَّاسِ الْحَقَّ وَالْهُدَى فَرْضًا دِينِيًّا، وَالِاعْتِمَادُ فِي اسْتِبَانَتِهِمَا عَلَى الْعِلْمِ الصَّحِيحِ، وَحَصْرِ الِاجْتِهَادِ وَالتَّرْجِيحِ فِيمَا سِوَاهُمَا.
وَالِاعْتِمَادُ فِيهِ عَلَى الْوِجْدَانِ فِي الشَّخْصِيَّاتِ، وَالشُّورَى فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ. وَلَنْ يَصْلُحَ حَالُ الْبَشَرِ الْفَرْدِيُّ وَلَا الِاجْتِمَاعِيُّ وَالدَّوْلِيُّ إِلَّا بِهَذِهِ الْأُصُولِ الَّتِي فَرَضَهَا الْإِسْلَامُ، وَجَعَلَهَا دِينًا يُدَانُ اللهُ بِهِ لَيْسَ لِأَحَدٍ تَجَاوُزُهُ، وَقَدْ عَجَزَتْ عُلُومُ الْبَشَرِ عَلَى اتِّسَاعِهَا، وَعُقُولُهُمْ عَلَى ارْتِقَائِهَا عَنِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا بِغَيْرِهَا، فَهُمْ كُلَّمَا ازْدَادُوا عِلْمًا يَزْدَادُونَ بَاطِلًا وَضَلَالًا وَبَغْيًا، خِلَافًا لِدُعَاةِ حَضَارَتِهِمُ الْكَاذِبِينَ.
قَالَ شَيْخُ فَلَاسِفَةِ الْأَخْلَاقِ وَعِلْمِ الِاجْتِمَاعِ فِي هَذَا الْقَرْنِ (وَهُوَ هِرْبِرْت سِبِنْسَر الْإِنْكِلِيزِيُّ) لِحَكِيمِ الْإِسْلَامِ شَيْخِنَا الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ؟ إِنَّ فَكْرَةَ الْحَقِّ قَدْ زَالَتْ مِنْ عُقُولِ أُمَمِ أُورُبَّةَ أَلْبَتَّةَ، فَلَا يَعْرِفُونَ حَقًّا إِلَّا لِلْقُوَّةِ، وَإِنَّ الْأَفْكَارَ الْمَادِّيَّةَ قَدْ أَفْسَدَتْ أَخْلَاقَهُمْ، وَإِنَّهُ لَا يَرَى مِنْ سَبِيلٍ إِلَى عِلَاجِهِمْ، وَإِنَّهُ لَا يَزَالُ بَعْضُهُمْ يَخْتَبِطُ بِبَعْضٍ - وَلَعَلَّهُ ذَكَرَ الْحَرْبَ - لِيَتَبَيَّنَ أَيُّهُمُ الْأَقْوَى لِيَسُودَ الْعَالَمَ.
وَقَدْ وَقَعَ مَا تَوَقَّعَهُ هَذَا الْحَكِيمُ فِي سَنَةِ ١٩٠٣ بِالْحَرْبِ الْكُبْرَى مُدَّةَ أَرْبَعِ سِنِينَ (مِنْ ١٩١٤ - ١٩١٨) فَازْدَادَتِ الْأُمَمُ وَالدُّوَلُ شَقَاءً وَفَسَادًا وَطُغْيَانًا وَإِبَاحَةً، حَتَّى جَزَمَ كَثِيرٌ مِنْ عُقَلَائِهِمْ بِأَنَّهُ لَا عِلَاجَ لِهَذَا الْفَسَادِ فِي الْبَشَرِ إِلَّا الْهِدَايَةُ الرُّوحِيَّةُ الدِّينِيَّةُ، وَسَيَعْقِدُونَ لِذَلِكَ مُؤْتَمَرًا عَامًّا فِي الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ الْأَمِيرِكَانِيَّةِ، وَلَنْ يَجِدُوا الْعِلَاجَ الْمَطْلُوبَ إِلَّا فِي هَذِهِ الْأُصُولِ مِنَ الْقُرْآنِ وَمَا فَصَّلْنَاهَا بِهِ فِي مَبَاحِثِ (الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ) مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، ثُمَّ جَمَعْنَاهُ فِي كِتَابٍ مُسْتَقِلٍّ مَعَ زِيَادَةٍ فِي تَفْصِيلِهِ، فَعَسَى أَنْ يَسْبِقَهُمُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ وَنَشْرِهِ.
300
(وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ).
بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَاجِزًا كَغَيْرِهِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ فِي هِدَايَتِهِ، وَفِي عِلْمِهِ وَلُغَتِهِ - وَمَا تَلَاهُ مِنْ إِقَامَةِ الْحُجَجِ عَلَى بُطْلَانِ شِرْكِهِمْ، وَمَا بَعْدَهُ مِنْ بَيَانِ حَالِهِمْ فِي اتِّبَاعِ أَكْثَرِهِمْ لِأَدْنَى الظَّنِّ وَأَضْعَفِهِ فِي عَقَائِدِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ - عَادَ إِلَى تَفْنِيدِ رَأْيِهِمُ الْأَفِينِ فِي الطَّعْنِ عَلَى الْقُرْآنِ بِمُقْتَضَى الظَّنِّ الضَّعِيفِ مِنَ الْأَكْثَرِينَ، وَالْجَحُودِ الْعِنَادِيِّ مِنَ الْأَقَلِّينَ، كَالزُّعَمَاءِ الْمُسْتَكْبِرِينَ، فَقَالَ: (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللهِ) النَّفْيُ هُنَا لِلشَّأْنِ الَّذِي هُوَ أَبْلَغُ وَآكَدُ مِنْ نَفْيِ الشَّيْءِ مُبَاشَرَةً كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا، وَإِنْ غَفَلَ عَنْ ذَلِكَ مَنْ أَعْرَبَهُ إِعْرَابًا آخَرَ لِقِصَرِ نَظَرِهِ عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ، دُونَ مَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ مِنَ الْمُبَالَغَةِ
فِي الرَّدِّ، أَيْ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ فِي عُلُوِّ شَأْنِهِ، الْمُحَلَّى لَهُ فِي أُسْلُوبِهِ وَنَظْمِهِ، وَعُلُومِهِ الْعَالِيَةِ، وَحِكْمَتِهِ السَّامِيَةِ، وَتَشْرِيعِهِ الْعَادِلِ، وَآدَابِهِ الْمُثْلَى، وَتَمْحِيصِهِ لِلْحَقَائِقِ الْإِلَهِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَإِنْبَائِهِ بِالْغُيُوبِ الْمَاضِيَةِ وَالْآتِيَةِ، وَجَعْلِ الْمَقْصِدِ مِنْ إِصْلَاحِهِ مَا بَيَّنَهُ آنِفًا مِنَ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالْهُدَى، وَاجْتِنَابِ الضَّلَالِ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى، وَالِاعْتِمَادِ فِيهِمَا عَلَى الْعِلْمِ الصَّحِيحِ - مَا كَانَ وَمَا صَحَّ وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَفْتَرِيَهُ أَحَدٌ عَلَى اللهِ مِنْ دُونِهِ وَيُسْنِدَهُ إِلَيْهِ ; إِذْ لَا يَقْدِرُ غَيْرُهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ، فَإِنْ فُرِضَ أَنَّ بَشَرًا يَسْتَطِيعُ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِهِ، فَلَنْ يَكُونَ إِلَّا بَشَرًا أَرْقَى وَأَكْمَلَ مِنْ جَمِيعِ الْحُكَمَاءِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَكَذَا الْمَلَائِكَةِ وَمِثْلُهُ لَنْ يَفْتَرِيَ عَلَى اللهِ، بَلْ قَالَ أَشَدُّ الْكُفَّارِ عِنَادًا وَعَدَاوَةً لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللهُ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَكْذِبْ عَلَى بَشَرٍ قَطُّ أَفَيَكْذِبُ عَلَى اللهِ؟ !.
301
(وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أَيْ وَلَكِنْ كَانَ تَصْدِيقَ الَّذِي سَبَقَهُ مِنَ الْوَحْيِ لِرُسُلِ اللهِ تَعَالَى بِالْإِجْمَالِ كَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى صَلَّى الله عَلَيْهِمْ بِدَعْوَتِهِ إِلَى أُصُولِ دِينِ اللهِ الْإِسْلَامِ، الَّتِي دَعَوْا إِلَيْهَا مِنَ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، بَعْدَ أَنْ نَسِيَ بَعْضُ ذَلِكَ بَقَايَا أَتْبَاعِهِمْ وَضَلُّوا عَنْ بَعْضٍ، وَشَوَّهُوهُ بِالتَّقَالِيدِ الْمُبْتَدَعَةِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ مُحَمَّدٌ الْأُمِّيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ تَصْدِيقَ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ جَاءَ وَفَاقًا لِمَا دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ لِأَهْلِ حَرَمِ اللهِ، وَلِمَا بَشَّرَ بِهِ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ كَمَا بَيَّنَّاهُ بِالتَّفْصِيلِ، فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) (٧: ١٥٧) مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ التَّاسِعِ، وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ.
(وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ) الْإِلَهِيِّ أَيْ جِنْسِهِ، وَهُوَ مَا شَرَّعَهُ اللهُ تَعَالَى لِيَكْتُبَ وَيَهْتَدِيَ بِهِ جَمِيعُ الْبَشَرِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالشَّرَائِعِ وَالْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ وَشُئُونِ الِاجْتِمَاعِ وَسُنَنِ اللهِ فِي خَلْقِهِ (لَا رَيْبَ فِيهِ) هُوَ لَا رَيْبَ فِيهِ، أَوْ حَالَ كَوْنِهِ لَا رَيْبَ فِيهِ، أَيْ لَيْسَ فِيهِ مَثَارٌ لِلشَّكِّ وَلَا مَوْضِعٌ لِلرَّيْبِ ; لِأَنَّهُ الْحَقُّ وَالْهُدَى مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ وَحْيِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) (٤: ٨٢).
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) انْتِقَالٌ مِنْ بَيَانِ كَوْنِهِ أَجَلَّ وَأَعْلَى مِنْ أَنْ يُفْتَرَى لِعَجْزِ الْخَلْقِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، إِلَى حِكَايَةِ زَعْمِ هَؤُلَاءِ الْجَاهِلِينَ وَالْمُعَانِدِينَ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - افْتَرَاهُ،
وَالِاسْتِفْهَامُ فِيهِ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعْجِيبِ، أَوِ التَّمْهِيدِ بِهِ إِلَى الرَّدِّ عَلَيْهِ بِتَحَدِّي التَّعْجِيزِ، وَهُوَ: (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) فِي أُسْلُوبِهِ وَنَظْمِهِ وَتَأْثِيرِهِ وَهِدَايَتِهِ وَعِلْمِهِ، مُفْتَرَاةٍ فِي مَوْضُوعِهَا، لَا تَلْتَزِمُونَ أَنْ تَكُونَ حَقًّا فِي أَخْبَارِهَا، (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) وَاطْلُبُوا لِلْمُظَاهَرَةِ لَكُمْ وَالْإِعَانَةِ عَلَى ذَلِكَ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ دُعَاءَهُمْ مَنْ دُونِ اللهِ فَإِنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ يَعْجِزُونَ عَنْ ذَلِكَ مِثْلَكُمْ، فَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) (١٧: ٨٨) وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، وَقَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ يُونُسَ (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) فِي زَعْمِكُمْ أَنِّي افْتَرَيْتُهُ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ لَفْظَ سُورَةٍ هُنَا يَصْدُقُ بِالْقَصِيرَةِ كَالطَّوِيلَةِ، وَبَيَّنَّا وَجْهَهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ التَّحَدِّي مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (٢: ٢٣) وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ تَنْكِيرِ السُّورَةِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ التَّنْكِيرَ لِلتَّعْظِيمِ، أَوْ لِنَوْعٍ مِنَ السُّورِ يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ كَالسُّوَرِ الَّتِي فِيهَا قَصَصُ الْأَنْبِيَاءِ وَأَخْبَارُ وَعِيدِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ; لِأَنَّ الِافْتِرَاءَ تَتَعَلَّقُ تُهْمَتُهُ بِالْإِخْبَارِ لَا بِالْإِنْشَاءِ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ، كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَرَجَّحَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ السُّورَةُ الطَّوِيلَةُ، أَيْ مِثْلُ هَذِهِ السُّورَةِ نَفْسِهَا (يُونُسَ) فِي اشْتِمَالِهَا عَلَى أُصُولِ الدِّينِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، كَمَا يُطْلَقُ لَفْظُ الْكِتَابِ أَوْ كِتَابٍ أَحْيَانًا وَيُرَادُ بِهِ السُّورَةُ الْوَاحِدَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا، كَقَوْلِ مَنْ قَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ
302
(المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) (٧: ١ و٢) أَيْ هَذِهِ السُّورَةُ كِتَابٌ إِلَخْ وَمِنْ تَنْكِيرِ لَفْظِ ((سُورَةٍ)) الْمُرَادِ بِهَا النَّوْعُ دُونَ الْوَحْدَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) (٤٧: ٢٠) أَيْ يُفْرَضُ فِيهَا الْقِتَالُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ: (فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ) (٤٧: ٢٠) الْآيَةَ. وَسَنَعُودُ إِلَى هَذَا الْبَحْثِ فِي تَفْسِيرِ التَّحَدِّي بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرِيَاتٍ مِنْ سُورَةِ هُودٍ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّهُ مَا كَانَ لِعَاقِلٍ مِثْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَتَحَدَّاهُمْ هَذَا التَّحَدِّيَ، لَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا مُوقِنًا بِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ فِي جُمْلَتِهِ وَلَا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، لَا أَفْرَادُ الْعُلَمَاءِ وَالْبُلَغَاءِ مِنْهُمْ وَلَا جَمَاعَاتُهُمْ وَلَا جُمْلَتُهُمْ، إِنْ
فُرِضَ إِمْكَانُ اجْتِمَاعِهِمْ وَتَعَاوُنِهِمْ وَمُظَاهَرَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، فَلَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَهُ وَأَلَّفَهُ لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ بِرَأْيِهِ - كَمَا ارْتَأَى بَعْضُ الْمُعْجَبِينَ بِعَقْلِهِ وَذَكَائِهِ وَعُلُوِّ أَفْكَارِهِ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَعُلَمَاءِ الْمَادِّيِّينَ الْمُتَأَخِّرِينَ - لَكَانَ عَقْلُهُ وَذَكَاؤُهُ وَعُلُوُّ فِكْرِهِ مَانِعَاتٍ لَهُ مِنْ هَذَا الْجَزْمِ بِعَجْزِ عُقَلَاءِ الْخَلْقِ مِنَ الْعَوَالِمِ الظَّاهِرَةِ ((الْإِنْسِ)) وَالْخَفِيَّةِ ((الْجِنِّ)) عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِ مَا أَتَى هُوَ بِهِ ; فَإِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ مُتَوَسِّطِ الذَّكَاءِ وَالْفِكْرِ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا أَمْكَنَهُ مِنَ الْأَمْرِ فَهُوَ يُمْكِنُ غَيْرَهُ، بَلْ لَا يَأْمَنُ أَنْ يُوجَدَ مَنْ هُوَ أَقْدَرُ عَلَيْهِ مِنْهُ، فَهَذِهِ آيَةٌ بَيِّنَةٌ لِلْعَقْلِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُوقِنًا بِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ هُوَ كَغَيْرِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وَهِيَ إِحْدَى حُجَجِ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا مُفْتَرِيًا لَهُ. (فَإِنْ قِيلَ) إِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَعْتَقِدَ عَجْزَ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ وَحْيًا مِنْ نَفْسِهِ، مُعْتَقِدًا، أَنَّهُ مِنْ رَبِّهِ. (قُلْنَا أَوَّلًا) إِنَّ دَعْوَى الْوَحْيِ النَّفْسِيِّ بَاطِلَةٌ بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ. (وَثَانِيًا) إِنَّ عَجْزَ غَيْرِهِ مِمَّنْ كَانُوا أَفْصَحَ مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَى عَجْزِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
ثُمَّ إِنَّ أَكْثَرَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَمَنْ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، يَعْتَمِدُونَ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى نَبُّوتِهِ وَرِسَالَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى تَحَدِّيهِ لِلْعَرَبِ بِالْقُرْآنِ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ إِجْمَالًا، أَوْ بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ فَبِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرِيَاتٍ فَبِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ فِي أُمِّيَّتِهِ، وَبِمَا ظَهَرَ مِنْ عَجْزِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ عَنْ ذَلِكَ ; إِذْ لَوْ قَدَرَ أَحَدٌ عَلَى الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهُ لَفَعَلُوا ; لِتَوَفُّرِ الدَّوَاعِي مِنْ أَعْدَائِهِ عَلَى تَكْذِيبِ دَعَوَاهُ وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ اسْتِفْحَالِ قُوَّتِهِ، وَاضْطِرَارِهِمْ إِلَى بَذْلِ أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي مُكَافَحَتِهِ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ الْفَرْقُ الْوَاضِحُ بَيْنَ تَحَدِّيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقُرْآنِ، وَتَحِدِّي بَعْضِ الدَّجَّالِينَ الْمَغْرُورِينَ بِبَعْضِ مَا هَذَوَا بِهِ مِنْ نَثْرٍ وَنَظْمٍ وَسَمَّوْهُ وَحْيًا، كَالْبَابِ وَالْبَهَاءِ وَالْقَادَيَانِيِّ، فَإِنَّهُ كَانَ سُخْرِيَةً لِلْعُلَمَاءِ وَالْبُلَغَاءِ، وَقَدْ أَخْفَى الْبَهَائِيُّونَ كِتَابَهُ (الْأَقْدَسَ) عَنِ النَّاسِ.
303
ثُمَّ إِنَّ أَكْثَرَهُمْ عَلَى أَنَّ تَحَدِّيَ الْعَرَبِ إِنَّمَا كَانَ بِمَا امْتَازَ بِهِ مِنَ الْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ اللُّغَوِيَّةِ.
وَقَدْ صَنَّفُوا فِي بَيَانِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بِهَا كُتُبًا مُسْتَقِلَّةً، وَلَمْ يُوَفُّوهُ حَقَّهُ مِنْ نَاحِيَتِهَا وَلَا سِيَّمَا نَظْمِهِ الْعَجِيبِ بَلَهَ النَّوَاحِي الْمَعْنَوِيَّةِ. (وَقَالُوا) إِنَّ وَجْهَ الدَّلَالَةِ فِي ذَلِكَ عَلَى صِدْقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دَعْوَى النُّبُوَّةِ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، هُوَ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَصْدِيقَهُ
لَهُ كَأَنَّهُ قَالَ ((صَدَقَ عَبْدِي فِيمَا يُبَلِّغُهُ عَنِّي)) وَلِذَلِكَ رَجَّحُوا أَنَّ هَذِهِ الدَّلَالَةَ وَضْعِيَّةٌ كَدَلَالَةِ الْكَلَامِ الْإِلَهِيِّ، وَقِيلَ: إِنَّهَا عَقْلِيَّةٌ وَتَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْبَقَرَةِ.
وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ فِي إِعْجَازِهِ بِالْبَلَاغَةِ قَدِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ، حَتَّى الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ كَانُوا أَقْرَبَ إِلَى فَهْمِهِ وَامْتِيَازِهِ بِهَا مِنْ أَهْلِ عَصْرِنَا. قَالَ الْفَرِيقَانِ: إِنَّ لِكُلِّ بَلِيغٍ مِنْ فُصَحَاءِ كُلَّ أُمَّةٍ أُسْلُوبًا يَمْتَازُ بِهِ، وَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ تَقُولُونَ إِنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَفْصَحَ قُرَيْشٍ وَهُمْ أَفْصَحُ الْعَرَبِ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يَمْتَازَ فِيهِمْ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ وَالنَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ كَمَا امْتَازَ بَعْضُ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ بِأُسْلُوبٍ خَاصٍّ وَكَمَا امْتَازَ شَكْسِبِيرُ فِي شُعَرَاءِ الْإِنْكِلِيزِ وَفِيكْتُورْ هُيُغُو فِي الشُّعَرَاءِ الْفَرَنْسِيسِ، فَعَجْزُ الْعَرَبِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ فِي بَلَاغَتِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
(وَنَقُولُ) إِنَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ يَذُوبُ فَيَزُولُ إِذَا عُرِضَ عَلَى الْأَشِعَّةِ الَّتِي اقْتَبَسْنَاهَا مِنْ ضِيَاءِ شَمْسِ الْقُرْآنِ، فِي إِعْجَازَيْهِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ، ثُمَّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ (١٥، ١٦) مِنْهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ فِي إِحْدَى مُقَدِّمَاتِهِ: إِنَّ مُحَمِّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَفْصَحَ قُرَيْشٍ وَأَبْلَغَهَمْ فِي لُغَتِهِ، فَقَدْ بَيَّنَّا بِالنَّقْلِ الثَّابِتِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ يُذْكَرُ فِي فُحُولِ فُصَحَائِهِمْ وَلَا فِي وَسَطِهِمْ بَلْ لَمْ يَكُنْ يُعَدُّ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا صَارَ كَلَامُهُ مُمْتَازًا بِالْفَصَاحَةِ وَالْبَلَاغَةِ بِمَا اسْتَفَادَهُ مِنْ وَحْيِ الْقُرْآنِ، كَمَا اسْتَفَادَ مَنْ دُونَهُ مِنْهُ، عَلَى أَنَّهُ ظَلَّ كَكَلَامِ غَيْرِهِ مِنَ الْبَشَرِ فِي الْبُعْدِ عَنْ مُشَابَهَةِ نَظْمِ الْقُرْآنِ وَأُسْلُوبِهِ وَتَأْثِيرِهِ، وَهَذَا التَّفَاوُتُ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي كَلَامِ بُلَغَاءِ الْبَشَرِ.
(فَإِنْ قِيلَ) إِنَّ مَا يَظْهَرُ فِي السُّوَرِ الطَّوِيلَةِ مِنْ رَوْعَةِ الْبَلَاغَةِ وَبَرَاعَةِ النَّظْمِ لَا يَظْهَرُ فِي السُّوَرِ الْقَصِيرَةِ. (قُلْنَا) لَكِنَّ النَّاسَ عَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَةِ السُّورِ الْقِصَارِ كَغَيْرِهَا، وَلِخَفَاءِ وَجْهِ الْإِعْجَازِ فِيهَا عَلَى بَعْضِهِمْ قَالَ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ: إِنَّ عَجْزَهُمْ كَانَ بِصَرْفِ اللهِ تَعَالَى لِقُدَرِهِمْ عَنِ الْمُعَارَضَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ التَّحَدِّيَ إِنَّمَا كَانَ بِسُورَةٍ طَوِيلَةٍ كَمَا نَقَلْنَاهُ آنِفًا عَنِ الرَّازِيِّ وَوَجَّهْنَاهُ بِأَظْهَرِ مِمَّا وَجَّهَهُ بِهِ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مِمَّا أَرَادُوهُ مِنْ تُهْمَةِ افْتِرَائِهِ.
وَبَيَانُهُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ التَّحَدِّي بِسُورَةٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَاةٍ خَاصًّا بِالسُّوَرِ الَّتِي فِيهَا قَصَصُ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ بِالتَّفْصِيلِ، فَهَذِهِ كُلُّهَا مِنَ السُّوَرِ الطَّوِيلَةِ كَالْأَعْرَافِ وَيُونُسَ وَهُودٍ وَالْحِجْرِ وَطَهَ
304
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالطَّوَاسِينِ وَالْعَنْكَبُوتِ، وَإِنْ كَانَ يَعُمُّ السُّوَرَ
الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى نُذُرِ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ الْمُكَذِّبِينَ لِرُسُلِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ لِدَعْوَتِهِمْ لَهُمْ فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ بَعْضُ سُورِ الْمُفَصَّلِ أَيْضًا كَالذَّارِيَاتِ وَالنَّجْمِ وَالْقَمَرِ وَالْحَاقَّةِ وَالْفَجْرِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ عَلَى كُلٍّ مِنَ التَّقْدِيرَيْنِ شَيْءٌ مِنَ السُّوَرِ الْقَصِيرَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَالتَّحَدِّي فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَسُورَةِ هُودٍ وَسُورَةِ الطُّورِ مَبْنِيٌّ عَلَى تُهْمَةِ الِافْتِرَاءِ وَالتَّكْذِيبِ كَمَا تَرَى إِيضَاحَهُ فِي آيَةِ: (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) (٣٩) الَّتِي تَلِي هَذَا.
وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا فِي هَذِهِ السُّوَرِ مِنَ الْمُفَصَّلِ مِنَ التَّعْبِيرِ عَنِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ بِالْعِبَارَاتِ الْعَدِيدَةِ مَعَ تَعَدُّدِ أَسَالِيبِهَا، وَاخْتِلَافِ نَظْمِهَا، وَأَنْوَاعِ فَوَاصِلِهَا، وَأَلْوَانِ بَيَانِهَا، وَقَوَارِعِ نُذُرِهَا، وَصَوَادِعِ وَعِيدِهَا، وَقَابِلِيَّتِهَا لِلتَّرْتِيلِ بِالنَّغَمَاتِ الْمُؤَثِّرَةِ اللَّائِقَةِ بِكُلٍّ مِنْهَا، فَأَجْدِرْ بِهِ إِنْ كَانَ قَدْ أُوتِيَ حَظًّا مِنْ بَيَانِ هَذِهِ اللُّغَةِ وَالشُّعُورِ الذَّوْقِيِّ بِبَلَاغَتِهَا، أَنْ يَقْتَنِعَ بِأَنَّ إِعْجَازَهَا اللُّغَوِيَّ كَإِعْجَازِ قَصَصِ السُّوَرِ الطَّوِيلَةِ أَوْ أَظْهَرَ، بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ مَوْضُوعِهَا حَقًّا مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ تَعَالَى أَمْ لَا، وَأَنْ يَتَجَلَّى لَهُ سِرُّ تَأْثِيرِهَا الْعَجِيبِ فِي أُولَئِكَ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ بُلَغَاءِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ - وَهُوَ فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنْهُمْ - بِعِبَارَتِهِ الْمَشْهُورَةِ وَمِنْهَا قَوْلُهُ: ((وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَلَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ)) وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا بَيَّنَّاهُ فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ، وَأَنْ يَعْلَمَ صِدْقَ الْإِمَامِ عَبْدِ الْقَاهِرِ فِي قَوْلِهِ: ((أَسَالَ عَلَيْهِمُ الْوَادِيَ عَجْزًا، وَأَخَذَ عَلَيْهِمْ مَنَافِذَ الْقَوْلِ أَخْذًا)) عِلْمًا ذَوْقِيًّا وِجْدَانِيًّا.
وَأَمَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ مِنْ بَلَاغَةِ هَذِهِ اللُّغَةِ إِلَّا الْقَوَاعِدَ الْفَنِّيَّةَ، وَأَمْثِلَتَهَا الْجُزْئِيَّةَ الْمُدَوَّنَةَ فِي مِثْلِ مُخْتَصَرِ السَّعْدِ التَّفْتَازَانِيِّ وَمُطَوَّلَةٍ مِنْ كُتُبِ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ، فَأَجْدَرُ بِهِ أَنْ يُطَبِّقَهَا عَلَى كُلِّ كَلَامٍ وَنَاهِيكَ بِهِ إِذَا عَدَّ مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْمُتَنَطِّعُونَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فِيمَا يُسَمُّونَهُ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ، وَشُرُوطِ الْفَصَاحَةِ وَعُيُوبِهَا، وَقَدْ سَمِعْتُ أَنَّ بَعْضَهُمْ مَجَّ ذَوْقَهُ بَعْضُ فَوَاصِلِ سُورَةِ الْقَمَرِ، فَكَانَ بَعْضُ الْمُسْتَشْرِقِينَ أَصَحَّ مِنْهُ فَهْمًا وَذَوْقًا، إِذْ قَالَ إِنَّهَا مِنْ أَبْلَغِ سُوَرِ الْقُرْآنِ أَوْ أَبْلَغِهَا كُلِّهَا بِلَا اسْتِثْنَاءٍ.
(فَإِنْ قِيلَ) إِنَّ التَّحَدِّيَ فِي السُّوَرِ الثَّلَاثِ: (يُونُسَ، وَهُودٍ، وَالطَّوْرِ) جَاءَ رَدًّا عَلَى تُهْمَةِ الِافْتِرَاءِ وَالتَّقَوُّلِ كَمَا قُلْتُمْ، فَيَظْهَرُ فِيهِ أَنْ يَخْتَصَّ بِالسُّوَرِ الَّتِي تَظْهَرُ فِيهَا تُهْمَةُ الِافْتِرَاءِ كَمَا قَرَّرْتُمْ وَلَكِنَّ التَّحَدِّيَ فِي آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ (قُلْنَا) لَكِنَّهُ
جَوَابٌ لِلْمُرْتَابِينَ فِيهِ وَهُمُ الْمُكَذِّبُونَ، فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ ; لِأَنَّهُ نَزَلَ بَعْدَهُ. وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ وَهُنَّ مَكِّيَّاتٌ. فَإِنْ مَنَعْنَا هَذَا وَقُلْنَا إِنَّ التَّنْكِيرَ فِيهَا يَصْدُقُ بِأَصْغَرِ سُورَةٍ وَهِي الْكَوْثَرُ، وَسَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ فِيهَا إِعْجَازُ النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ (قُلْنَا) إِنَّهَا مُعْجِزَةٌ بِمَا فِيهَا مِنَ الْإِيجَازِ وَخَبَرَيِ الْغَيْبِ فِي أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا كَمَا شَرَحْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مِنَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ. وَفِي الْجِلَالَيْنِ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا فَقَدَ قَالَ: فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ: هِيَ مِثْلُهُ فِي الْبَلَاغَةِ وَحُسْنِ النَّظْمِ وَالْإِخْبَارِ عَنِ الْغَيْبِ اهـ. وَقَالَ فِي آيَةِ يُونُسَ: هِيَ مِثْلُهُ فِي الْفَصَاحَةِ
305
وَالْبَلَاغَةِ عَلَى وَجْهِ الِافْتِرَاءِ اهـ. وَإِعْجَازُ السُّوَرِ الصَّغِيرَةِ الْمَعْنَوِيُّ بِالْهُدَى وَالنُّورِ وَإِصْلَاحِ الْقُلُوبِ لَا يُكَابِرُ فِيهِ إِلَّا الْجَهُولُ الْمَحْجُوبُ.
(بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) هَذَا إِضْرَابٌ عَنْ بَعْضِ مَا يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُمْ: (افَتَرَاهُ) وَمَا يَسْتَلْزِمُهُ كَكَوْنِهِمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَكْذِبُ، أَوْ أَنَّ الْقُرْآنَ فِي جُمْلَتِهِ افْتِرَاءٌ مِنْهُ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ تَحَرِّيَهُ الصِّدْقَ فِي كُلِّ مَا يَقُولُهُ، وَانْتِقَالٌ إِلَى بَيَانِ مَوْضُوعِ تَكْذِيبِهِمْ بِظَنِّهِمْ أَنَّهُ مُحَالٌ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ مَا أَنْذَرَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا لَهُ وَيَتَّبِعُوهُ، وَقَدْ وَصَفَهُمْ بِعَدَمِ إِحَاطَتِهِمْ بِعِلْمِهِ، أَيْ لَمْ يَعْلَمُوهُ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهِ وَنَوَاحِيهِ، وَبِأَنَّهُ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ، أَيْ مِصْدَاقُهُ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ مَعَ تَوَقُّعِ إِتْيَانِهِ، وَبِتَشْبِيهِ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ بِتَكْذِيبِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بِمِثْلِهِ، فَبَيَّنَ مَا كَذَّبُوا بِهِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ.
فَالْوَصْفُ (الْأَوَّلُ) لِمَا كَذَّبُوا بِهِ أَنَّهُ مَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ فَيَكُونُ تَكْذِيبُهُمْ صَحِيحًا، وَإِنَّمَا ظَنُّوا ظَنًّا، وَالظَّنُّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (وَالثَّانِي) قَوْلُهُ: وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ أَيْ وَلَمْ يَأْتِهِمْ إِلَى الْآنَ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ وَيَكُونُ مِصْدَاقًا لَهُ بِالْفِعْلِ، وَإِتْيَانُهُ مُتَوَقَّعٌ بَلْ آتٍ لَا بُدَّ مِنْهُ، وَقَدْ خَبَّطَ الْمُفَسِّرُونَ الْفَنِّيُّونَ فِي مَعْنَى هَذَا التَّأْوِيلِ مُنْذُ الْقُرُونِ الْوُسْطَى ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا الْقُرْآنَ بِلُغَتِهِ الْحُرَّةِ الْفُصْحَى، بَلْ بِلُغَةِ اصْطِلَاحَاتِهِمُ الْفَنِّيَّةِ وَلَا سِيَّمَا أُصُولِ الْفِقْهِ وَالْكَلَامِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُمْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يَفْهَمُوا مَعْنَاهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُمْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ وَجْهُ الْإِعْجَازِ فِيهِ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا أَوْ ذَاكَ لَكَانُوا مَعْذُورِينَ بِالتَّكْذِيبِ طَبْعًا، وَسَبَبُ مِثْلِ هَذَا الْغَلَطِ جَعْلُهُمُ التَّأْوِيلَ تَارَةً بِمَعْنَاهُ عِنْدَ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ وَهُوَ رَدِيفُ التَّفْسِيرِ، وَتَارَةً بِمَعْنَاهُ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ الظَّاهِرِ إِلَى مَعْنًى
يَحْتَمِلُهُ فِي اللُّغَةِ بِشَرْطِ مُوَافَقَتِهِ لِلشَّرْعِ ; لِتَخْرُجَ تَأْوِيلَاتُ الْبَاطِنِيَّةِ وَغُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ.
وَقَدْ جَمَعَ الرَّازِيُّ كَعَادَتِهِ كُلَّ مَا رَآهُ مُحْتَمَلًا مِنْ هَذَا التَّكْذِيبِ فِي خَمْسَةِ وُجُوهٍ:
(١) تَكْذِيبُ قَصَصِ الْقُرْآنِ، وَذَكَرَ لَهَا ثَلَاثَ صُوَرٍ. (٢) حُرُوفُ التَّهَجِّي فِي أَوَائِلِ بَعْضِ السُّورِ إِذْ لَمْ يَفْهَمُوا مِنْهَا شَيْئًا، وَزَعَمَ أَنَّ اللهَ أَجَابَ عَنْهَا بِآيَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي الْمُحْكَمَاتِ وَالْمُتَشَابِهَاتِ. (٣) ظُهُورُ الْقُرْآنِ مَنَجَّمًا شَيْئًا فَشَيْئًا. (٤) أَخْبَارُ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ. (٥) الْعِبَادَاتُ، قَالُوا إِنَّ اللهَ مُسْتَغْنٍ عَنْ عِبَادَتِنَا، وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ بَاطِلَةٌ لَا يُحْتَمَلُ إِرَادَةُ شَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا الرَّابِعُ، وَفَسَّرَ عَدَمَ إِتْيَانِهِمْ بِجَهْلِهِمْ حَقِيقَتَهَا وَحِكَمَهَا، وَهُوَ بَاطِلٌ، وَنَاهِيكَ بِحَمْلِهَا عَلَى الْحُرُوفِ الْمُفْرَدَةِ فِي أَوَّلِ السُّوَرِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِكَلَامٍ فَيُكَذَّبَ أَوْ يُصَدَّقَ. ثُمَّ قَالَ: ((قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: قَوْلُهُ (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ غَيْرَ عَارِفٍ بِالتَّأْوِيلَاتِ وَقَعَ فِي الْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ ; لِأَنَّ ظَوَاهِرَ النُّصُوصِ قَدْ يُوجَدُ فِيهَا مَا تَكُونُ مُتَعَارِضَةً، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْإِنْسَانُ وَجْهَ التَّأْوِيلِ فِيهَا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ لَيْسَ بِحَقٍّ. أَمَّا إِذَا عَرَفَ وَجْهَ التَّأْوِيلِ طَبَّقَ التَّنْزِيلَ
306
عَلَى التَّأْوِيلِ، فَيَصِيرُ نُورًا عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ)) اهـ.
وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي عَزَاهُ إِلَى أَهْلِ التَّحْقِيقِ بَاطِلٌ بَعِيدٌ عَنِ الْحَقِّ، وَحُكْمُ عَلَى كِتَابِ اللهِ بِمَا عَابَهُ مِنَ اتِّبَاعِ الظَّنِّ، وَمَا أَهْلُ التَّحْقِيقِ فِي عُرْفِهِ إِلَّا نُظَّارُ عِلْمِ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ، وَهُوَ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَمَا وَلَّدَ الْبِدَعَ الْمُضِلَّةَ إِلَّا الِاشْتِغَالُ بِهِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ الَّذِي قَالَ فِيهِ مَا قَالَ لَا يَصِحُّ فِي اللُّغَةِ، وَلَا أَصْلَ لَهُ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا فِي الْمَأْثُورِ عَنْ أَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - وَلَا عَنْ أَئِمَّةِ سَلَفِ الْأُمَّةِ كَمَا سَتَرَاهُ قَرِيبًا.
وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فِي لُغَةِ الْقُرْآنِ فَلَهُ مَعْنًى وَاحِدٌ لَا مَعْنَى لَهُ سِوَاهُ، وَهُوَ عَاقِبَةُ الشَّيْءِ وَمَآلُهُ الَّذِي يَئُولُ إِلَيْهِ مِنْ بَيَانِ مِصْدَاقِهِ الْمُرَادِ مِنْهُ بِالْفِعْلِ، كَمَا قُلْنَا آنِفًا وَبَيَّنَّاهُ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْمُحْكَمَاتِ وَالْمُتَشَابِهَاتِ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، الَّتِي أَطَالَ الرَّازِيُّ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهَا فَأَخْطَأَ مَحَجَّةَ الصَّوَابِ، وَحُرِمَ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ، فَكَانَ أَجْدَرَ بِالْخَطَأِ هُنَا وَقَدِ الْتَزَمَ الِاخْتِصَارَ، وَأَوْضَحُ الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ مَا عَلِمْتَ مِنْ حَمْلِهِ التَّأْوِيلَ عَلَى الْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ، غَفْلَتُهُ عَنْ نَفْيِ إِتْيَانِهِ بِحَرْفِ (لَمَّا) الدَّالِّ عَلَى تَوَقُّعِهِ ; إِذْ مَعْنَاهُ أَنَّ تَأْوِيلَهُ لَمْ يَأْتِهِمْ إِلَى الْآنَ وَإِتْيَانُهُ مُتَوَقَّعٌ بَعْدَهُ، وَغَفْلَتُهُ عَنْ تَشْبِيهِ تَكْذِيبِهِمْ بِتَكْذِيبِ مَنْ
قَبْلَهُمْ فِي الْجُمْلَةِ الْآتِيَةِ. وَالْمُتَبَادَرُ مِنْهُ أَنَّهُ وَعِيدُ اللهِ إِيَّاهُمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ وَنَصْرِهِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ مَا فَسَّرَ الْآيَةَ بِهِ إِمَامُ الْمُفَسِّرِينَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ قَالَ:
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَا بِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ يَا مُحَمَّدُ تَكْذِيبُكَ، وَلَكِنْ بِهِمُ التَّكْذِيبُ بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ وَعِيدِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِرَبِّهِمْ. (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) يَقُولُ: وَلَمَّا يَأْتِهِمْ بَعْدُ بَيَانُ مَا يَئُولُ ذَلِكَ الْوَعِيدُ الَّذِي تَوَعَّدَهُمُ اللهُ فِي هَذَا الْقُرْآنِ: (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: كَمَا كَذَّبَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ يَا مُحَمَّدُ بِوَعِيدِ اللهِ، كَذَلِكَ كَذَّبَ الْأُمَمُ الَّتِي خَلَتْ قَبْلَهُمْ بِوَعِيدِ اللهِ إِيَّاهُمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِرَبِّهِمُ انْتَهَى. وَكَذَلِكَ قَالَ الْبَغَوَيُّ فِي تَفْسِيرِ التَّأْوِيلِ لِأَنَّهُ مُحَدِّثٌ فَقِيهٌ غَيْرُ مُتَكَلِّمٍ، وَتَبِعَهُمَا الْجَلَالُ هُنَا وَفِي آيَةِ الْأَعْرَافِ الْآتِي ذِكْرُهَا.
الْوَصْفُ (الثَّالِثُ) التَّشْبِيهُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْإِجْمَالِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) شَبَّهَ تَكْذِيبَ مُشْرِكِي مَكَّةَ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَكْذِيبِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ مُشْرِكِي الْأُمَمِ لِرُسُلِهِمْ بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ، قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ تَأْوِيلُهُ مِنْ عَذَابِ اللهِ الَّذِي أَوْعَدَهُمْ بِهِ، كَمَا تَرَى فِي قَصَصِهِمُ الْمُفَسَّرَةِ فِي السُّوَرِ الْعَدِيدَةِ وَلَا سِيَّمَا سُورَةِ الشُّعَرَاءِ الْمَبْدُوءَةِ فِيهَا بِقَوْلِهِ: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) (٢٦: ١٠٥) (كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ) (٢٦: ١٢٣) (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ) (٢٦: ١٤١) ثُمَّ ذَكَرَ لَفْظَ التَّكْذِيبِ فِي وَعِيدِهِمْ كَقَوْلِ هُودٍ لِقَوْمِهِ:
307
(إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) إِلَى قَوْلِهِ: (فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً) (٢٦: ١٣٥ - ١٣٩) إِلَخْ. وَقَوْلِ صَالِحٍ لِقَوْمِهِ بَعْدَهُمْ إِذْ أَتَتْهُمْ آيَةُ النَّاقَةِ: (وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ) (٢٦: ١٥٦ - ١٥٨) إِلَخْ فَهَذَا تَأْوِيلُهُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ هُنَا: (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) أَيْ فَانْظُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَوِ الْعَاقِلُ الْمُعْتَبِرُ، كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ بِتَكْذِيبِ رُسُلِهِمْ، وَهُوَ تَأْوِيلُ وَعِيدِهِمْ لَهُمْ ; لِتَعْلَمَ مَصِيرَ الظَّالِمِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ، وَهَذِهِ الْعَاقِبَةُ مُبَيَّنَةٌ بِالْإِجْمَالِ فِي قَوْلِهِ: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٢٩: ٤٠) وَسَيَأْتِي مَا يُؤَيِّدُ مَا قَرَّرْنَاهُ كُلَّهُ قَرِيبًا فِي الْآيَاتِ (٤٦ - ٥٥).
وَقَدْ أَنْذَرَ قَوْمَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ قَبْلَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِهَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فِي سُوَرٍ كَثِيرَةٍ، كَمَا أَنْذَرَهُمْ عَذَابَ الْآخِرَةِ، وَكَذَّبَهُ الْمُعَانِدُونَ الْمُقَلِّدُونَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا ظَانِّينَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ، لَا غَيْرَ فَاهِمِينَ لِمَعْنَاهُ أَوْ لِإِعْجَازِهِ، وَلَكِنْ قَضَتْ حِكْمَتُهُ تَعَالَى حِفْظَ قَوْمِهِ مِنْ تَكْذِيبِ أَكْثَرِهِمْ وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنْ أَخْذِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ لَهُمْ. وَارْجِعْ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) (٧: ٥٣) إِلَخْ تَعْلَمْ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنَّ مَا قَرَّرْنَاهُ هُوَ حَقُّ الْيَقِينِ الَّذِي لَا تَقَبْلُ غَيْرَهُ لُغَةُ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَّفِقُ مَعَ سَائِرِ الْآيَاتِ، وَأَنَّ مَا قَرَّرَهُ الرَّازِيُّ هُوَ الْبَاطِلُ وَالضَّلَالُ الْمُبِينُ الَّذِي تَدْحَضُهُ الْآيَةُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِمَّا ذَكَرْنَا بَعْضَهُ وَأَشَرْنَا إِلَى بَعْضٍ فَعَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَ شَيْخِنَا رَحِمَهُ اللهُ فِينَا إِذْ قَالَ:
وَيَخْرُجُ وَحْيُ اللهِ لِلنَّاسِ عَارِيًا مِنَ الرَّأْيِ وَالتَّأْوِيلِ يَهْدِي وَيُلْهِمُ
(اسْتِطْرَادٌ فِي الْمُتَكَلِّمِينَ وَتَفْسِيرِ إِمَامِهِمُ الرَّازِيِّ)
اعْلَمْ أَنَّ الْفَخْرَ الرَّازِيَّ كَانَ إِمَامَ نُظَّارِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ فِي عَصْرِهِ، وَأَنَّ عُلَمَاءَ النَّظَرِ اعْتَرَفُوا لَهُ بِهَذِهِ الْإِمَامَةِ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مِنْ أَقَلِّهِمْ حَظًّا مِنْ عَلَمِ السُّنَّةِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ، وَأَئِمَّةِ السَّلَفِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُحَدِّثِينَ، بَلْ وَصَفَهُ الْحَافِظُ الذَّهَبِيُّ إِمَامُ عِلْمِ الرِّجَالِ فِي عَصْرِهِ بِالْجَهْلِ بِالْحَدِيثِ، فَلَمْ يَجِدِ التَّاجُ السُّبْكِيُّ مَا يُدَافِعُ بِهِ عَنْهُ لِأَنَّهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْأَشْعَرِيَّةِ الشَّافِعِيَّةِ إِلَّا الِاعْتِرَافَ بِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَغِلْ بِهَذَا الْعِلْمِ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، فَلَا مَعْنَى لِطَعْنٍ عَلَيْهِ بِجَهْلِهِ وَلَا بِذِكْرِهِ فِي رِجَالِهِ الْمَجْرُوحِينَ وَلَا الْعُدُولِ.
أَمَّا عِلْمُهُ بِالْكَلَامِ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ فِي وَصْفِ كِتَابِهِ (مُحَصِّلِ أَفْكَارِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ) مَا يُنْبِئُكَ بِحَقِيقَتِهِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ وَهُوَ:
308
مُحَصِّلٌ فِي أُصُولِ الدِّينِ حَاصِلُهُ مِنْ بَعْدِ تَحْصِيلِهِ عِلْمٌ بِلَا دِينِ
رَأْسُ الْغَوَايَةِ فِي الْعَقْلِ السَّقِيمِ فَمَا فِيهِ فَأَكْثَرُهُ وَحْيُ الشَّيَاطِينِ
وَلِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ مُصَنَّفٌ مُسْتَقِلٌّ فِي نَقْضِ كِتَابِهِ (أَسَاسِ التَّقْدِيسِ) وَفِيهِ. وَلَوْلَا أَنْ تَصَدَّى لِإِحْيَاءِ شُبُهَاتِهِ فِي هَذَا الْعَهْدِ اثْنَانِ مِنْ مُكْثِرِي النَّشْرِ فِي
الصُّحُفِ لِلْمَبَاحِثِ الدِّينِيَّةِ أَحَدُهُمَا شَيْخٌ أَزْهَرِيٌّ، وَثَانِيهِمَا كَاتِبٌ مَدَنِيٌّ، لَمَا أَبْدَيْنَا وَأَعَدْنَا فِي تَفْنِيدِ بِدَعِهِ الْكَلَامِيَّةِ الْمُخَالِفَةِ لِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي يَجْهَلَانِهَا ; لِأَنَّ بِضَاعَةَ الْأَوَّلِ نَظَرِيَّاتُ مُتَكَلِّمِي الْقُرُونِ الْوُسْطَى عَلَى قِلَّةِ مَنْ يَفْهَمُهَا مِنْهُمُ الْيَوْمَ وَبِضَاعَةَ الثَّانِي نَظَرِيَّاتُ بَعْضِ الْإِفْرِنْجِ، وَلَمَّا رَأَيَا نَظَرِيَّةَ الرَّازِيِّ فِي التَّأْوِيلِ تُؤَيِّدُ فَهْمَهُمَا الْبَاطِلَ، أَرَادَ الثَّانِي تَرْوِيجَهَا فِي سُوقِ الْعَامَّةِ بِتَسْمِيَتِهِ إِمَامَ الْمُفَسِّرِينَ، وَمَا كَانَ إِلَّا إِمَامَ الْمُتَكَلِّمِينَ.
وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ فَقَدِ اشْتُهِرَ قَوْلُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ: إِنَّ فِيهِ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا التَّفْسِيرَ كَمَا فِي كِتَابِ الْإِتْقَانِ وَالْحَقِّ أَنَّ هَذِهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مَا هُوَ الْغَرَضُ الَّذِي امْتَازَ بِهِ تَفْسِيرُهُ وَهُوَ نَقْلُ آرَاءِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَحُجَجِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشَاعِرَةِ.
فَلْيَنْظُرِ الْقَارِئُ الْمُسْتَقِلُّ الْفَهْمِ كَيْفَ فَعَلَ تَقْلِيدُ الْمُسْلِمِينَ لِهَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي دِينِهِمْ: يَنْقُلُ لَهُمْ مُتَكَلِّمٌ مُفَسِّرٌ عَنْ مُتَكَلِّمٍ مَجْهُولٍ زَعَمَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّحْقِيقِ، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنَ الْقُرْآنِ الَّتِي لَمْ يَعْرِفْ لُغَتَهَا وَلَا مَعْنَاهَا النَّاقِلُ وَلَا الْمَنْقُولُ عَنْهُ ((تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ غَيْرَ عَارِفٍ بِالتَّأْوِيلَاتِ (الَّتِي ابْتَدَعُوهَا) وَقَعَ فِي الْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ)) وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِمَا هُوَ بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ نَكْتَفِي مِنْهَا بِمَا لَا يَخْفَى عَلَى عَامِيٍّ ذَكِيٍّ وَلَا بَلِيدٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ بِالنُّصُوصِ إِذَا رَأَى فِيهَا مَا هُوَ مُتَعَارِضٌ ; فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَبْحَثَ عَنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَاتِ بِمُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ الَّتِي وَضَعَهَا عُلَمَاءُ الْأُصُولِ فِي (كِتَابِ التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ) إِذَا رَأَى أَنَّهُ أَهْلٌ لِذَلِكَ وَفِي حَاجَةِ إِلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَ هَذَا الْبَحْثَ إِلَى أَهْلِهِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُمْ أَعْرَفُ بِهِ، وَلَا يَكُونُ هَذَا التَّعَارُضُ الصُّورِيُّ سَبَبًا لِشَكِّهِ فِي الْقُرْآنِ أَوْ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ مِمَّا يَكُونُ بِهِ مُبْتَدِعًا أَوْ كَافِرًا، وَلَوْ صَحَّ قَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ لَوَجَبَ تَحْرِيمُ قِرَاءَةِ كِتَابِ اللهِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ عَلَى كُلِّ مَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِقَاعِدَتِهِمْ هَذِهِ، وَبِتَعَلُّمِ عِلْمِ الْكَلَامِ وَعِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ قَبْلَ تِلَاوَتِهِ لِأَجْلِهَا، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِهَدْيِ السَّلَفِ وَأَقْوَالِ أَئِمَّتِهِ، وَهَذَا تَقْيِيدٌ لِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَصَدٌّ عَنْهُ بِتَأْوِيلَاتِهِمُ الْمُبْتَدَعَةِ بَعْدَ عَصْرِ النُّورِ الْأَوَّلِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَيَلْزَمُ بِهِ أَنْ يَحْكُمُوا عَلَى أَكْثَرِ مَنْ يَقْرَءُونَهُ بِالْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ، وَالْحَقُّ أَنَّ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي فُتِنُوا بِهَا هِي الْمَثَارُ الْأَكْبَرُ لِلشُّكُوكِ وَالْبِدَعِ الَّتِي هِيَ بَرِيدُ الْكُفْرِ، وَأَنَّ كِتَابَ اللهِ كُلَّهُ هُدًى وَنُورٌ، وَأَصَحُّ بَيَانٍ لَهُ سُنَّةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَيْرُ الْمُهْتَدِينَ بِهَا سَلَفُ الْأُمَّةِ وَحُفَّاظُ السُّنَّةِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ الصَّالِحِ وُجُوبُ الْإِيمَانِ بِكُلِّ مَا وَصَفَ اللهَ تَعَالَى بِهِ
309
نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا صَحَّ مِنْ وَصْفِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْطِيلٍ لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ يَجْعَلُهُ كَاللَّغْوِ، وَلَا تَمْثِيلٍ بِتَشْبِيهٍ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ يُعَدُّ مِنَ النَّقْصِ، وَلَا تَأْوِيلٍ يُخْرِجُ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ عَنْ مَعْنَاهُ بِمَحْضِ الرَّأْيِ.
وَاعْلَمْ أَيُّهَا الْقَارِئُ أَنَّ الْخَوَاطِرَ الَّتِي تَعْرِضُ لِبَعْضِ النَّاسِ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ تَعَالَى، لَا تَنْقُصُ إِيمَانَ الْمُوقِنِ بِكِتَابِهِ وَصِدْقِ رَسُولِهِ الْمُتَّبِعِ لَهُمَا، كَمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِيمَنْ يُوَسْوِسُ لَهُ الشَّيْطَانُ: مَنْ خَلَقَ اللهَ؟ وَفِيمَنْ أَوْصَى بِحَرْقِ جُثَّتِهِ لِئَلَّا يَبْعَثَهُ اللهُ وَيُعَذِّبَهُ. قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْوَسْوَسَةِ فَقَالُوا إِنَّ أَحَدَنَا لِيَجِدَ فِي نَفْسِهِ مَا لَأْنَ يَحْتَرِقُ حَتَّى يَصِيرَ حُمَمَةً) أَيْ فَحْمَةً) أَوْ يَخِرَّ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ؟ قَالَ ((ذَلِكَ مَحْضُ الْإِيمَانِ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ، يَعْنِي أَنَّ الْوَسْوَسَةَ لَا يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْهَا، وَأَنَّ كَرَاهَةَ الْمُؤْمِنِ لَهَا دَلِيلٌ عَلَى إِيمَانِهِ الْمَحْضِ الْخَالِصِ.
هَذَا وَإِنَّ أَكْثَرَ كِبَارِ النُّظَّارِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ قَدْ رَجَعُوا إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي الْإِيمَانِ بِظَاهِرِ النُّصُوصِ، وَفِي مُقَدِّمَتِهِمْ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِهِ لِلْبُخَارِيِّ (مِنْ كِتَابِ التَّوْحِيدِ) وَمِنْ قَبْلِهِ وَالِدُهُ الْإِمَامُ الْجُوَيْنِيُّ الَّذِي نَقَلَ السُّبْكِيُّ فِي تَرْجَمَتِهِ أَنَّ عُلَمَاءَ عَصْرِهِ قَالُوا: لَوْ بَعَثَ اللهُ تَعَالَى نَبِيًّا فِي هَذَا الْعَصْرِ لَكَانَ الْجُوَيْنِيَّ، وَمِنْ بَعْدِهِمَا أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي آخِرِ عُمْرِهِ، وَنُقِلَ مِثْلُ هَذَا عَنِ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ أَيْضًا رَحِمَهُمُ اللهُ وَرَحِمَنَا وَعَفَا عَنْهُمْ وَعَنَّا، وَقَدْ صَرَّحَ الْغَزَالِيُّ مِنْ قَبْلِ رُجُوعِهِ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ أَنَّ عِلْمَ الْكَلَامِ لَيْسَ مِنْ عُلُومِ الدِّينِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِحِرَاسَةِ الْعَقِيدَةِ كَالْحَرَسِ لِلْحَاجِّ (وَأَقُولُ) إِنَّمَا رَاجَتْ كُتُبُهُ فِي عَصْرِهِمْ ; لِأَنَّهَا وُضِعَتْ لِلرَّدِّ عَلَى مَلَاحِدَتِهِمْ وَمُبْتَدِعَتِهِمْ وَلَا تَنْفَعُ فِي الرَّدِّ عَلَى مَلَاحِدَةِ هَذَا الْعَصْرِ وَلَا مُبْتَدِعَتِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا.
وَأَمَّا تَلْقِينُ الْمُسْلِمِينَ أَنْفُسِهِمْ لِلْعَقَائِدِ وَقَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ، فَيَجِبُ أَنْ يُعْتَمَدَ فِيهَا عَلَى آيَاتِ الْقُرْآنِ، وَالْمَأْثُورِ فِي الْأَحَادِيثِ، وَسِيرَةِ الصَّحَابَةِ وَعُلَمَاءِ التَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْهُدَى قَبْلَ ظُهُورِ الْبِدَعِ، وَمِنْ أَكْبَرِ الضَّلَالِ أَنْ يُعْتَمَدَ فِيهَا عَلَى أَقْوَالِ الْمُتَكَلِّمِينَ، فَتُجْعَلَ أَصْلًا تُرَدُّ إِلَيْهَا آيَاتُ الْقُرْآنِ الْمُبِينِ، إِيثَارًا لِبَيَانِهِمْ عَلَى بَيَانِهِ.
وَإِنْ تَعَجَبْ فَعَجَبٌ جَعْلُهُمْ عَقِيدَةَ السَّنُوسِيَّةِ الصُّغْرَى الْأَسَاسَ الْأَوَّلَ لِتَعْلِيمِ
التَّوْحِيدِ فِي الْأَزْهَرِ وَغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ نَظَرِيَّاتٌ كَلَامِيَّةٌ غَيْرُ شَرْعِيَّةٍ، وَقَدْ أَخْطَأَ مُحْشُوهَا وَشُرَّاحُهَا فِي جَعْلِ التَّوْحِيدِ عِبَارَةً عَنْ نَفْيِ الْكَمِّ الْمُتَّصِلِ وَالْكَمِّ الْمُنْفَصِلِ فِي ذَاتِ اللهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، أَوِ الْمُنْفَصِلِ فِي أَفْعَالِهِ فَقَطْ، وَهِيَ فَلْسَفَةٌ مُبْتَدَعَةٌ لَا يَعْرِفُهَا الشَّرْعُ وَلَا تَدُلُّ عَلَيْهَا اللُّغَةُ، كَمَا أَخْطَأَ مُؤَلِّفُهَا فِي تَفْسِيرِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) بِلَازِمٍ مِنْ لَوَازِمِهَا لَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَاهَا الَّذِي لِأَجْلِهِ جُعِلَتْ عُنْوَانَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَتَحْكُمُ فِي صِفَاتِ اللهِ بِالظَّنِّ الَّذِي ذَمَّهُ اللهُ بِأَنَّهُ لَا يُغْنِي
310
مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، فَزَعَمَ أَنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ يَتَعَلَّقَانِ بِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ، يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى يَسْمَعُ ذَوَاتِ الْجَوَاهِرِ وَأَعْرَاضَهَا كَالْأَلْوَانِ وَالصِّفَاتِ، وَيَرَى الْأَصْوَاتَ وَيُبْصِرُ اللُّغَاتِ. غَافِلًا عَنْ ذَلِكَ وَعَنْ قَوْلِهِ: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (٢: ١٦٩) وَمَعَ هَذَا زَعَمَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ فِي الْآخِرَةِ لِأَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ إِمَامُ الْمُوَحِّدِينَ، الَّذِي آتَاهُ حُجَّتَهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى قَوْمِهِ وَهُمْ عُلَمَاءُ عَصْرِهِ وَعَلَى سَائِرِ الْعَالَمِينَ، وَاطْمِئْنَانَ الْقَلْبِ بِكَيْفِيَّةِ إِحْيَائِهِ تَعَالَى لِلْمَيِّتِينَ، فَكَيْفَ يَحْتَاجُ بَعْدَ كَشْفِ الْحُجُبِ فِي الْآخِرَةِ إِلَى نَظَرِيَّاتِ السَّنُوسِيِّ وَمَنْ فَوْقَهُ مِنْ نُظَّارِ الْمُتَكَلِّمِينَ؟ ؟
وَقَدْ صَرَّحَ السَّيِّدُ الْأُلُوسِيُّ تَبَعًا لِغَيْرِهِ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ الْعَارِفِينَ، بِمَا حَقَّقْنَاهُ هُنَا فِي عِلْمِ الْكَلَامِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ الظَّنِّ فِي بَابِ الْإِشَارَةِ مِنْ هَذَا السِّيَاقِ فَقَالَ مَا نَصُّهُ: (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) (٣٦) ذَمٌّ لَهُمْ بِعَدَمِ الْعِلْمِ بِمَا يَجِبُ لِمَوْلَاهُمْ وَمَا يَمْتَنِعُ وَمَا يَجُوزُ، وَلَا يَكَادُ يَنْجُو مِنْ هَذَا الذَّمِّ إِلَّا قَلِيلٌ، وَمِنْهُمُ الَّذِينَ عَرَفُوهُ جَلَّ شَأْنُهُ بِهِ لَا بِالْفِكْرِ، بَلْ يَكَادُ يَقْصُرُ الْعِلْمُ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ أَدِلَّةَ أَهْلِ الرُّسُومِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ مُتَعَارِضَةٌ، وَكَلِمَاتُهُمْ مُتَجَاذِبَةٌ، فَلَا تَكَادُ تَرَى دَلِيلًا سَالِمًا مِنْ قِيلَ وَقَالَ، وَنِزَاعٍ وَجِدَالٍ، وَالْوُقُوفُ عَلَى عِلْمٍ مِنْ ذَلِكَ مَعَ ذَلِكَ أَمْرٌ أَبَعْدُ مِنَ الْعَيُّوقِ، وَأَعَزُّ مِنْ بَيْضِ الْأَنُوقِ.
لَقَدْ طُفْتُ فِي تِلْكَ الْمَعَاهِدِ كُلِّهَا وَسَرَّحْتُ طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ
فَلَمْ أَرَ إِلَّا وَاضِعًا كَفَّ حَائِرٍ عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارِعًا سِنَّ نَادِمِ
فَمَنْ أَرَادَ النَّجَاةَ فَلْيَفْعَلْ مَا فَعَلَ لِيَحْصُلَ لَهُ مَا حَصَلَ لَهُمْ، أَوَّلًا فَلْيَتَّبِعِ السَّلَفَ الصَّالِحَ فِيمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ، غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِمَقَالَاتِ الْفَلَاسِفَةِ وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّتِي لَا تَزِيدُ طَالِبَ الْحَقِّ إِلَّا شَكًّا)) اهـ.
(وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ).
311
لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ حَالَ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ فِي اتِّهَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِافْتِرَاءِ الْقُرْآنِ، وَبِتَكْذِيبِهِمْ بِوَعِيدِهِ لَهُمْ، بَيَّنَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ أَقْسَامَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ فِي تَكْذِيبِهِمْ وَمُسْتَقَبْلِ أَمْرِهِمْ أَوْ حَالِهِمْ وَمُسْتَقْبَلِهِمْ فِي الْإِيمَانِ، وَفِي عَمَلِ الْمُكَذِّبِينَ بِمُقْتَضَى تَكْذِيبِهِمْ، وَعَمَلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمُقْتَضَى رِسَالَتِهِ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ فِيهِمْ فَقَالَ: (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ) يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَإِنَّ قَوْمَكَ لَنْ يَكُونُوا كَأُولَئِكَ الظَّالِمِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، الَّذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمْ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ، بَلْ سَيَكُونُ قَوْمُكَ قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ سَيُؤْمِنُ بِهَذَا الْقُرْآنِ، وَقِسْمٌ لَا يُؤْمِنُ بِهِ أَبَدًا (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) فِي الْأَرْضِ بِالشِّرْكِ وَالظُّلْمِ وَالْبَغْيِ لِفَسَادِ فِطْرَتِهِمْ وَفَقْدِهِمُ الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَانِ، وَهُمُ الَّذِينَ يُعَذِّبُهُمْ فِي الدُّنْيَا فَيُخْزِيهِمْ وَيَنْصُرُكَ عَلَيْهِمْ، وَيَجْزِيهِمْ فِي الْآخِرَةِ بِفَسَادِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ فِي بَيَانِ حَالِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ وَهِيَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يُؤْمِنُ بِهِ فِي الْبَاطِنِ وَإِنَّمَا يُكَذِّبُهُ فِي الظَّاهِرِ عِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ جَهْلًا وَتَقْلِيدًا، وَمِنْ هَذَا الْفَرِيقِ مَنْ فَقَدَ الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَانِ وَهُمُ الْأَقَلُّونَ، وَسَيَأْتِي وَصْفُ حَالِهِمْ فِي الْآيَاتِ ٤٢ - ٤٤ قَرِيبًا وَلَهُ وَجْهٌ. وَأَمَّا الَّذِي لَيْسَ لَهُ وَجْهٌ صَحِيحٌ فَهُوَ قَوْلُ مَنْ فَسَّرُوا التَّأْوِيلَ بِالْمَعْنَى الِاصْطِلَاحِيِّ الَّذِي بَيَّنَّا فَسَادَهُ: إِنَّ هَذَا بَيَانٌ لِحَالِهِمْ بَعْدَ إِتْيَانِ التَّأْوِيلِ الْمُتَوَقَّعِ أَيْ سَيَكُونُ مِنْهُمْ حِينَئِذٍ مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ، لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ وَلَا مَعْنَى لِإِتْيَانِهِ، وَأَنَّهُ مَتَى جَاءَ تَأْوِيلُهُ الْمُرَادُ وَهُوَ وُقُوعُ الْعَذَابِ، يَكُونُ الْإِيمَانُ بِهِ اضْطِرَارِيًّا عَامًّا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ
الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) (٧: ٥٣) وَتَأْوِيلُهُ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ أَوْ بِقِيَامِ السَّاعَةِ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُمْ مَعَهُ الْإِيمَانُ إِذْ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ، بَلْ يُقَالُ لَهُمْ حِينَئِذٍ: (آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) كَمَا يَأْتِي فِي الْآيَةِ (٥١) وَانْظُرْ تَفْصِيلَهُ فِي آخِرِ سُورَةِ الْمُؤْمِنِ (غَافِرٍ) (٤٠: ٨٢ - ٨٥) وَسَنُبَيِّنُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (٤٦) عَدَمَ وُقُوعِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَفِي الْآيَةِ تَسْلِيَةٌ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُؤَكِّدُهَا مَا بَعْدَهَا وَهُوَ:
(وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) أَيْ وَإِنْ أَصَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ فَقُلْ لَهُمْ: لِي عَمَلِي بِمُقْتَضَى رِسَالَتِي وَهُوَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ، وَالْإِنْذَارُ وَالتَّبْشِيرُ، وَمَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنَ الْعِبَادَةِ وَالْإِصْلَاحِ، وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِمُسَيْطِرٍ وَلَا بِجَبَّارِ، وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، بِمُقْتَضَى تَكْذِيبِكُمْ وَشِرْكِكُمْ،
312
وَهُوَ الظُّلْمُ وَالْفَسَادُ، الَّذِي تُجْزَوْنَ بِهِ يَوْمَ الْحِسَابِ، وَيُقَالُ لَكُمْ: (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) كَمَا يَأْتِي فِي الْآيَةِ (٥٢) مِنْ هَذَا السِّيَاقِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا) (١٧: ٨٤) (أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) فَلَا يُؤَاخِذُ اللهُ أَحَدًا مِنَّا بِعَمَلِ الْآخَرِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) (١١: ٣٥) وَقَوْلِهِ: (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) (٢٦: ٢١٦).
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَسْمَعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).
لَمَّا أَنْبَأَ اللهُ رَسُولَهُ بِأَنَّ مِنْ قَوْمِهِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَذَا الْقُرْآنِ حَالًا وَلَا اسْتِقْبَالًا، إِذْ لَا يَنْفَعُهُمُ الْبَيَانُ مَهْمَا يَكُنْ نَاصِعًا، وَلَا يَنْفَعُهُمُ الْبُرْهَانُ وَإِنْ كَانَ قَاطِعًا، وَأَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ فِي الْمُصِرِّينَ عَلَى تَكْذِيبِهِ مِنْهُمْ بَعْدَمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ، الَّتِي دَمْغَتْهُمْ
بِالْحُجَجِ الْبَيِّنَاتِ، أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ، وَيَنْتَظِرَ أَمْرَ اللهِ فِيهِمْ، كَانَ مِنْ شَأْنِ هَذَا النَّبَأِ أَنْ يُثِيرَ عَجَبَهُ لِغَرَابَتِهِ فِي نَفْسِهِ، وَأَنْ يَسُوءَهُ لِمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ مِنَ انْتِقَامِ اللهِ مِنْهُمْ، بَيَّنَ لَهُ مَثَلَ الَّذِينَ فَقَدُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَانِ، وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ مِنْ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ، وَكَوْنِ مُصِيبَتِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَلَا حَوْلَ لَهُ وَلَا قُوَّةَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ، فَقَالَ:
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) أَيْ يُصِيخُونَ بِأَسْمَاعِهِمْ مُصْغِينَ إِلَيْكَ إِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ، أَوْ بَيَّنْتَ مَا فِيهِ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ وَالْأَحْكَامِ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ إِذْ يَسْتَمِعُونَ ; إِذْ لَا يَتَدَبَّرُونَ الْقَوْلَ وَلَا يَعْقِلُونَ مَا يُرَادُ بِهِ. وَلَا يَفْقَهُونَ مَا يَرْمِي إِلَيْهِ ; لِأَنَّ الِاسْتِمَاعَ إِلَيْكَ مَقْصُودٌ عِنْدَهُمْ
لِذَاتِهِ لَا لِمَا يُرَادُ بِهِ، وَهِيَ بَلَاغَتُهُ فِي غَرَابَةِ نَظْمِهِ، وَجَرْسِ الصَّوْتِ بِتَرْتِيلِهِ، كَمَنْ يَسْتَمِعُ إِلَى طَائِرٍ يُغَرِّدُ عَلَى فَنَنِهِ ; لِيَسْتَمْتِعَ بِصَوْتِهِ لَا لِيفْهَمَ مِنْهُ، كَمَا قَالَ: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) (٢١: ٢ و٣) أَوْ كَالْبَهَائِمِ يَصِيحُ بِهَا الرَّاعِي فَتَرْفَعُ رُءُوسَهَا لِاسْتِمَاعِ صَوْتِهِ الَّذِي رَاعَهَا فَصَرَفَهَا عَنْ رَعْيِهَا، كَمَا قَالَ: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (٢: ١٧١) أَوْ كَمَا قَالَ: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا) (٦: ٢٥) وَالْقَاعِدَةُ الطَّبِيعِيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ أَنَّ الْأُمُورَ بِمَقَاصِدِهَا. وَنَحْنُ نَرَى كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَقْصِدُونَ قُرَّاءَ الْقُرْآنِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ أَوْ فِي الْمَآتِمِ، لِيَسْتَمِعُوا إِلَى فُلَانٍ الْقَارِئِ الْحَسَنِ الصَّوْتِ لِغَرَضِ التَّلَذُّذِ بِتَرْتِيلِهِ وَتَوْقِيعِ صَوْتِهِ أَوْ بَلَاغَتِهِ، وَلَا أَحَدَ مِنْهُمْ يَنْتَفِعُ بِشَيْءٍ مِنْ مَوَاعِظِ الْقُرْآنِ وَنُذُرِهِ، وَحِكَمِهِ وَعِبَرِهِ، وَلَا عَقَائِدِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَمِنْهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ سَمِعْتُ بِأُذُنِي مِنْ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَسْتَمِعُ الْقُرْآنَ وَيَعْجَبُ مِنْ شِدَّةِ تَأْثِيرِهِ وَتَغَلْغُلِهِ فِي أَعْمَاقِ الْقَلْبِ وَهُوَ لَا يُؤْمِنُ بِهِ ; وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ) هَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ، يَعْنِي أَنَّ السَّمَاعَ النَّافِعَ لِلْمُسْتَمِعِ هُوَ مَا عَقَلَ بِهِ مَا يَسْمَعُهُ وَفَقِهَهُ وَعَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ، فَمَنْ فَقَدَ هَذَا كَانَ كَالْأَصَمِّ الَّذِي لَا يَسْمَعُ، وَأَنْتَ أَيُّهَا الرَّسُولُ لَمْ تُؤْتَ الْقُدْرَةَ عَلَى إِسْمَاعِ الصُّمِّ أَيْ فَاقِدِي حَاسَّةِ السَّمْعِ حَقِيقَةً، فَكَذَلِكَ لَا تَسْتَطِيعُ الْإِسْمَاعَ النَّافِعَ لِلصُّمِّ مَجَازًا وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ
مَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَفْقَهُونَ مَعْنَاهُ فَيَهْتَدُوا بِهِ. وَالْبَلَاغَةُ فِي ظَاهِرِ تَعْبِيرِ الْآيَةِ وَصْفُهُمْ بِفَقْدِ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ مَعًا، وَهُوَ مَجَازٌ قَطْعًا ; لِأَنَّ مَنْ فَقَدَ الْحِسَّ وَالْعَقْلَ حَقِيقَةً لَا يَكُونُ مُكَلَّفًا. وَإِذْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْعَقْلِ الْمَنْفِيِّ هَنَا عَقْلَ الْكَلَامِ وَفِقْهَهُ، فَهُوَ يَقْتَضِي ثُبُوتَ السَّمَاعِ وَنَفْيَ الصَّمَمِ الْحَقِيقِيَّيْنِ.
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) أَيْ يُوَجِّهُ أَشِعَّةَ بَصَرِهِ إِلَيْكَ عِنْدَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَلَكِنَّهُ لَا يُبْصِرُ مَا آتَاكَ اللهُ مِنْ نُورِ الْإِيمَانِ، وَهِيبَةِ الْخُشُوعِ لِلدَّيَّانِ، وَكَمَالِ الْخَلْقِ وَالْخُلُقِ، وَأَمَارَاتِ الْهَدْيِ وَالْحَقِّ، وَآيَاتِ الْتِزَامِ الصِّدْقِ، الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا أَحَدُ أُولِي الْبَصِيرَةِ بِقَوْلِهِ عِنْدَمَا رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَاللهِ مَا هَذَا بِوَجْهِ كَذَّابٍ، وَقَالَ فِيهِ آخَرُ:
لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيِّنِةٌ كَانَتْ بَدِيهَتُهُ تُنْبِيكَ بِالْخَبَرِ
وَقَالَ حَكِيمٌ إِفْرِنْجِيٌّ: كَانَ مُحَمَّدٌ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي حَالَةِ وَلَهٍ وَتَأَثُّرٍ وَتَأْثِيرٍ، فَيَجْذِبُ بِهِ
إِلَى الْإِيمَانِ أَضْعَافَ مَنْ جَذَبَتْهُمْ آيَاتُ مُوسَى وَعِيسَى (عَلَيْهِمُ السَّلَامُ).
وَمَنْ فَقَدَ الْبَصِيرَةَ الْعَقْلِيَّةَ وَالْقَلْبِيَّةَ فِيمَا يَرَاهُ بِبَصَرِهِ، فَجَمَعَ بَيْنَ وُجُودِ النَّظَرِ الْحِسِّيِّ بِالْعَيْنَيْنِ، وَعَدَمِ النَّظَرِ الْمَعْنَوِيِّ بِالْعَقْلِ، فَهُوَ مَحْرُومٌ مِنْ هِدَايَةِ الْبَصَرِ، وَهِي الْبَصِيرَةُ الَّتِي يَمْتَازُ بِهَا الْإِنْسَانُ عَنْ بَصَرِ الْحَيَوَانِ، فَكَأَنَّهُ أَعْمَى الْعَيْنَيْنِ (أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ) أَيْ أَنَّكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ لَسْتَ بِقَادِرٍ عَلَى هِدَايَةِ الْعُمْيِ بِدَلَائِلِ الْبَصَرِ الْحِسِّيَّةِ، فَكَذَلِكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى هِدَايَتِهِمْ بِدَلَائِلِهِ الْعَقْلِيَّةِ، وَلَوْ كَانُوا فَاقِدِينَ لِنِعْمَةِ الْبَصِيرَةِ الَّتِي تُدْرِكُهَا، وَقَدْ أَسْنَدَ فِعْلَ الِاسْتِمَاعِ إِلَى الْجَمِيعِ لِكَثْرَةِ تَفَاوُتِ الْمُسْتَمِعِينَ وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فِيهِ، وَأَسْنَدَ فِعْلَ النَّظَرِ إِلَى الْمُفْرَدِ لِأَنَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَلَكِنَّهُ أَفْرَدَ السَّمْعَ وَجَمَعَ الْأَبْصَارَ فِي بِضْعِ آيَاتٍ مِنْهَا (٣١) مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِهَا.
وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَتَيْنِ: أَنَّ هِدَايَةَ الدِّينِ كَهِدَايَةِ الْحِسِّ، وَلَا تَكُونُ إِلَّا لِلْمُسْتَعِدِّ لَهَا بِهِدَايَةِ الْعَقْلِ، وَأَنَّ هِدَايَةَ الْعَقْلِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِتَوَجُّهٍ النَّفْسِ وَصِحَّةِ الْقَصْدِ، وَهَذَا الصِّنْفُ مِنَ الْكُفَّارِ قَدِ انْصَرَفَتْ أَنْفُسُهُمْ عَنِ اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ فِي الدَّلَائِلِ الْبَصَرِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ لِإِدْرَاكِ مَطْلَبٍ مِنَ الْمَطَالِبِ مِمَّا وَرَاءَ شَهَوَاتِهِمْ وَتَقَالِيدِهِمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ فَقَدُوا نِعْمَةَ الْعَقْلِ الْغَرِيزِيِّ وَلَا نِعْمَةَ الْحَوَّاسِ، بَلِ اسْتِعْمَالَهَا النَّافِعَ - كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا
وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (٧: ١٧٩) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا لِلِاعْتِبَارِ وَالِاتِّعَاظِ. وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بَيَانًا مُسْتَأْنَفًا بِمَا يُبْطِلُ الْقَوْلَ بِالْجَبْرِ فَقَالَ:
(إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا) أَيِ اللهُ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِ وَلَا مِنْ سُنَنِهِ فِي خَلْقِ النَّاسِ أَنْ يَنْقُصَهُمْ شَيْئًا مِنَ الْأَسْبَابِ، الَّتِي يَهْتَدُونَ بِاسْتِعْمَالِهَا إِلَى مَا فِيهِ خَيْرُهُمْ وَمَنَافِعُهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهِي الْحَوَاسُّ وَالْعَقْلُ وَسَائِرُ الْقُوَى فَالظُّلْمُ هُنَا بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ نَقْصُ مَا تَقْتَضِي الْخِلْقَةُ الْكَامِلَةُ وَجُودَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا) (١٨: ٣٣) (وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أَيْ يَظْلِمُونَهَا وَحْدَهَا ; لِأَنَّ عِقَابَ ظُلْمِهِمْ وَاقِعٌ عَلَيْهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَهُمْ يَجْنُونَ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ بِمَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ هِدَايَاتِ الْمَشَاعِرِ وَالْعَقْلِ وَالدِّينِ، وَهُوَ عَدَمُ اسْتِعْمَالِهَا فِيمَا مَنَحَهُمْ إِيَّاهَا
لِأَجْلِهِ مِنَ اتِّبَاعِ الْحَقِّ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْهُدَى فِي الْأَعْمَالِ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الْمُوَصِّلُ إِلَى سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ، الْمُنَجِّي مِنْ عَذَابِهِمَا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (وَلَكِنْ) بِتَخْفِيفِ النُّونِ وَ (النَّاسُ) بِالرَّفْعِ.
وَقَدْ وَضَعَ الِاسْمَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ إِذْ قَالَ: (وَلَكِنَّ النَّاسَ وَلَمْ يَقُلْ: ((وَلَكِنَّهُمْ)) لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ هَذَا الظُّلْمَ خَاصٌّ بِهِمْ دُونَ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ ; فَإِنَّهَا لَا تَعْدُو فِي اسْتِعْمَالِ مَشَاعِرِهَا وَقُوَاهَا مَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ مِنْ حِفْظِ حَيَاتِهَا الشَّخْصِيَّةِ، وَالنَّوْعِيَّةِ، وَأَمَّا النَّاسُ فَقَدْ يَسْتَعْمِلُونَهَا فِيمَا يَضُرُّهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الْحَيَوَانِيَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَفِي حَيَاتِهِمُ الرُّوحِيَّةِ الْأُخْرَوِيَّةِ، كَمَا قَالَ: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) (٢٥: ٤٤) وَقَدَّمَ الْمَفْعُولَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى عَامِلِهِ لِإِفَادَةِ قَصْرِ هَذَا الظُّلْمِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، أَوْ دُونَ رَبِّهِمُ الَّذِي كَفَرُوا بِنِعَمِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى، فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ (٢: ٥٤) وَسُورَةِ الْأَعْرَافِ: (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٧: ١٦٠).
هَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ نَفْيِ ظُلْمِ النَّاسِ عَنِ اللهِ تَعَالَى وَقَصْرِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَظْلِمُهُمْ بِعِقَابِهِ لَهُمْ شَيْئًا بِأَنْ يُعَاقِبَهُمْ عَلَى غَيْرِ ذَنْبٍ أَوْ يَزِيدَ عَلَى قَدْرِ الذَّنْبِ وَلَكِنَّ النَّاسَ هُمُ الَّذِينَ يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، عَلَى قَاعِدَةِ: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا) (٦: ١٦٤) الْآيَةَ. فَرَاجِعْ
تَفْسِيرَهَا مَعَ مَا هُنَا، وَحَاسِبْ نَفْسَكَ، وَذَكِّرْ غَيْرَكَ، وَلَا تَجْعَلُوا هَذِهِ الْحِكَمَ الْبَلِيغَةَ حِكَايَةً لِلتَّسْلِيَةِ بِهَجْوِ الْكُفَّارِ، فَإِنَّمَا هِيَ حَقَائِقُ هَادِيَةٌ لِلْمَوْعِظَةِ وَالِاسْتِبْصَارِ.
(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ).
هَذِهِ الْآيَةُ لِلتَّذْكِيرِ بِمِقْدَارِ ظُلْمِ الْمُشْرِكِينَ لِأَنْفُسِهِمْ وَخَسَارَتِهِمْ لَهَا فِي الْآخِرَةِ، بِتَكْذِيبِهِمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكُفْرِهِمْ بِالْقُرْآنِ وَوَعِيدِهِ لَهُمْ، وَغُرُورِهِمْ بِدُنْيَاهُمُ الْحَقِيرَةِ مِصْدَاقًا لِلْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، قَالَ: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) أَيْ وَاذْكُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لَهُمْ أَوْ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ يَحْشُرُهُمُ اللهُ - وَهَذِهِ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ عَنْ عَاصِمٍ وَقَرَأَهَا الْبَاقُونَ (نَحْشُرُهُمْ) بِالنُّونِ أَيْ نَجْمَعُهُمْ بِبَعْثِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ
316
وَنَسُوقُهُمْ إِلَى مَوَاقِفِ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ أَيْ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَمْكُثُوا فِي الدُّنْيَا إِلَّا مُدَّةً قَلِيلَةً مِنَ النَّهَارِ رَيْثَمَا يَعْرِفُ فِيهَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا كَأُولِي الْقُرْبَى وَالْجِيرَانِ ثُمَّ زَالَتْ ; فَإِنَّ السَّاعَةَ يُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ فِي قِلَّةِ الْمُدَّةِ. فَالتَّشْبِيهُ بَيَانٌ لِحَالِهِمْ فِي تَذَكُّرِهِمْ لِلدُّنْيَا. يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا الَّتِي غَرَّتْهُمْ بِمَتَاعِهَا الْحَقِيرِ الزَّائِلِ قَصِيرَةٌ سَتَزُولُ بِعَذَابِهِمْ أَوْ مَوْتِهِمْ وَسَيُقَدِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قِصَرَهَا بِسَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ لَا تَسَعُ أَكْثَرَ مِنَ التَّعَارُفِ الْقَلِيلِ، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَحْقَافِ: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ) (٤٦: ٣٥) وَفِي سُورَةِ الرُّومِ: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ) (٣٠: ٥٥) وَفِي مَعْنَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ النَّازِعَاتِ عَنِ السَّاعَةِ: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) (٧٩: ٤٦) وَفِي آيَاتٍ أُخْرَى أَنَّ أَهْلِ الْمَوْقِفِ يَخْتَلِفُونَ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ، أَيْ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ
الْيَوْمِ ; فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ آيَةِ سُورَةِ الرُّومِ (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (٣٠: ٥٦) وَفِي سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢٣: ١١٢ - ١١٤) وَفِي سُورَةِ طَهَ يَخْتَلِفُونَ بَيْنَ الْيَوْمِ وَالْعَشْرِ، وَقِيلَ إِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ يَوْمَ يُحْشَرُونَ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَتَفَارَقُوا لِقِصَرِ مُدَّةِ الْفِرَاقِ، وَثَمَّ أَقْوَالٌ أُخْرَى فِي التَّشْبِيهِ يُبْطِلُهَا مَا أَوْرَدْنَا مِنَ الْآيَاتِ فِي شَوَاهِدِهِ:
(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ) أَيْ خَسِرُوا السَّعَادَةَ الْأَبَدِيَّةَ ; إِذْ لَمْ يَسْتَعِدُّوا لَهُ بِالْإِيمَانِ وَعَمِلِ الصَّالِحَاتِ الْمُزَكِّيَةِ لِلنَّفْسِ، الْمُرَقِّيَّةِ لِلرُّوحِ، بِمَا تَكُونُ أَهْلًا لِكَرَامَتِهِ وَمَثُوبَتِهِ، وَرِضْوَانِهِ الْأَكْبَرِ فِي جَنَّاتِهِ، فَآثَرُوا عَلَيْهَا حَيَاةَ الدُّنْيَا الْقَصِيرَةَ الْحَقِيرَةِ الْمُنَغَّصَةَ بِالْأَكْدَارِ، السَّرِيعَةَ الزَّوَالِ الَّتِي يُقَدِّرُونَهَا يَوْمَ الْحَشْرِ بِسَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ، وَالْجُمْلَةُ بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ مِنْهُ تَعَالَى لِخُسْرَانِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ ; وَبِذَلِكَ ذَكَرَهُمْ بِصِفَتِهِمُ الْمُقْتَضِيَةِ لَهُ وَهِي التَّكْذِيبُ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ (وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) فِيمَا اخْتَارُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ إِيثَارِ الْخَسِيسِ الْفَانِي، عَلَى النَّفِيسِ الْخَالِدِ الْبَاقِي، أَوْ هِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ (قَدْ خَسِرَ) أَيْ خَسِرُوا تِجَارَتَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ، وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ إِلَى أَسْبَابِ النَّجَاةِ وَالرِّبْحِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي هِيَ ثَمَرَاتُ الْإِيمَانِ كَمَا قَالَ: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) (٢: ١٦) وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَ اللهِ تَعَالَى فِي الْآيَاتِ ٧، ١١، ١٥ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ خُسْرَانِهِمْ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ (٦: ٣١).
317
(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعَدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا
وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجْلٌ إِذَا جَاءَ أَجْلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينِ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجَزِينَ وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
318
هَذِهِ الْآيَاتُ تَتِمَّةُ الرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي تَكْذِيبِ مَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ مِنَ الْعِقَابِ الَّذِي سَبَقَ فِي الْآيَةِ ٣٩ وَمَا بَعْدَهَا.
(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) هَذِهِ جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ زِيدَتْ ((مَا)) فِي حَرْفِ الشَّرْطِ ((إِنْ)) وَنُونُ التَّوْكِيدِ فِي فِعْلِهِ فَكَانَ تَوْكِيدُهُ مُزْدَوَجًا، وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ تَأْكِيدُ وُقُوعِ مَا وَعَدَ اللهُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعِقَابِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِشَرْطِهِ فِيهِمَا، لَا يَتَخَلَّفُ مِنْهُمَا شَيْءٌ فِي جُمْلَتِهِمَا، سَوَاءٌ أَرَى اللهُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْضَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْهُ وَشَاهَدَهُ، أَمْ تَوَفَّاهُ قَبْلَ إِرَادَتِهِ إِيَّاهُ فَإِبْهَامُ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ لِلْحِكْمَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لَهُ فِي أَوَائِلِ الْبَعْثَةِ مِنْ جِهَةِ قُرْبِهِ أَوْ بُعْدِهِ وَرُؤْيَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ وَعَدَمِ رُؤْيَتِهِ
لَا يُفِيدُهُمْ شَيْئًا، وَسَنُبَيِّنُ هَذِهِ الْحِكْمَةَ فِي إِبْهَامِهِ. فَالْمَعْنَى: وَإِنْ نُرِيَنَّكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ مِنَ الْعِقَابِ فِي الدُّنْيَا فَذَاكَ - وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ سَيُرِيهِ بَعْضَهُ لَا كُلَّهُ، (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) بِقَبْضِكَ إِلَيْنَا قَبْلَ إِرَاءَتِكَ إِيَّاهُ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ وَعَلَيْنَا حِسَابُهُمْ حَيْثُ يَكُونُ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْهُ وَهُوَ عِقَابُ الْآخِرَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا جَوَابَ الشَّرْطِ بِقِسْمَيْهِ، وَالْمَعْنَى: فَإِلَيْنَا وَحْدَنَا يَرْجِعُ أَمْرُهُمْ فِي الْحَالَيْنِ (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ) بَعْدَكَ أَوْ مُطْلَقًا فَيَجْزِيهِمْ بِهِ عَلَى عِلْمٍ وَشَهَادَةٍ حَقٍّ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهُمْ مِمَّا حَكَاهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي تَرَبُّصِهِمْ مَوْتَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْتِرَاحَتِهُمْ مِنْ دَعْوَتِهِ وَنُذُرِهِ بِمَوْتِهِ كَمَا تَرَاهُ فِي سُورَةِ الطُّورِ وَآخَرِ سُورَةِ طَهَ، فَالْعَذَابُ وَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ.
وَقَدْ وَرَدَ بِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) (٤٠: ٧٧) وَيَلِيهَا آيَةٌ بِمَعْنَى الْآيَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ ذُكِرَ فِيهَا الرُّسُلُ وَكَوْنُ آيَاتِهِمْ بِإِذْنِ اللهِ لَا مِنْ كَسْبِهِمْ، وَالْقَضَاءُ عَلَى أَقْوَامِهِمْ بِالْهَلَاكِ بَعْدَهَا، وَمِنْهَا قَوْلُهُ بَعْدَ آيَةٍ فِي إِرْسَالِ الرُّسُلِ وَكَوْنِ آيَاتِهِمْ إِنَّمَا هِيَ بِإِذْنِ اللهِ وَلِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ: (وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ) (١٣: ٤٠) وَمَا بَعْدَهَا فِي مَعْنَى السِّيَاقِ الَّذِي هُنَا، وَقَوْلُهُ: (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) (٤٣: ٤١، ٤٢) وَقَبْلَهَا: (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (٤٣: ٤٠) وَهُوَ بِمَعْنَى مَا قَبْلَ هَذِهِ أَيْضًا.
وَقَدْ أَبْهَمَ أَمْرَ عَذَابِ الدُّنْيَا فِي كُلِّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَآيَاتٍ أُخْرَى، فَلَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّهُ سَيَقَعُ بِهِمْ مَا وَقَعَ بِالْأُمَمِ الَّتِي كَذَّبَتِ الرُّسُلَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَهُوَ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٢٣: ٩٣، ٩٤) أَيْ كَمَا هِيَ سُنَّتُكَ فِي رُسُلِكَ الْأَوَّلِينَ، وَقَدْ أَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ فَقَالَ: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (٨: ٣٣).
319
وَحِكْمَةُ هَذَا الْإِبْهَامِ التَّخْوِيفُ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْوَعِيدِ، مَعَ عِلْمِهِ تَعَالَى أَنَّ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ لَنْ يَقَعَ عَلَى قَوْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَنَّ شَرْطَهُ أَنْ يَجِيئَهُمْ مَا اقْتَرَحُوا مِنْ آيَةٍ كَوْنِيَّةٍ
وَيُصِرُّوا بَعْدَهُ التَّكْذِيبَ، وَلَنْ يَقَعَ، وَلَكِنْ فِي آيَةِ يُونُسَ هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى سَيُرِي رَسُولَهُ بَعْدَ نُزُولِهَا بَعْضَ الَّذِي يَعِدُهُمْ لَا كُلَّهُ، وَقَدْ أَنْجَزَ لَهُ ذَلِكَ فَأَرَاهُ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْقَحْطِ وَالْمَجَاعَةِ بِدُعَائِهِ عَلَيْهِمْ، وَنَصْرِهِ عَلَيْهِمْ أَعْظَمَ النَّصْرِ فِي أَوَّلِ مَعْرَكَةٍ هَاجَمَهُ بِهَا رُؤَسَاؤُهُمْ وَصَنَادِيدُهُمْ وَهِيَ غَزْوَةُ بَدْرٍ، وَفِي غَيْرِهَا إِلَى فَتْحِ عَاصِمَتِهِمُ الْكُبْرَى أُمِّ الْقُرَى، وَإِكْمَالِ الدِّينِ وَدُخُولِ النَّاسِ فِيهِ أَفْوَاجًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي مَوَاضِعِهِ.
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ) أَيْ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ رَسُولًا بَعَثَهُ فِيهَا فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، يُبَيِّنُ لَهُمْ أُصُولَ دِينِهِ الثَّلَاثَةَ: الْإِيمَانُ بِاللهِ، وَالْيَوْمُ الْآخِرُ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ الْمُنَاسِبُ لِحَالِ زَمَنِهِمْ: (فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ) وَقَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ: قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أَيْ قَضَى اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) فِي قَضَائِهِ تَعَالَى كَمَا تَقَدَّمَ وَسَيَأْتِي تَأْكِيدُهُ قَرِيبًا) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ) أَيْ وَيَقُولُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ لِلنَّبِيِّ وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: مَتَى يَقَعُ هَذَا الْوَعْدُ الَّذِي تَعِدُونَنَا بِهِ (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) فِي قَوْلِكُمْ إِنَّ اللهَ تَعَالَى سَيَنْتَقِمُ لَكُمْ مِنَّا وَيَنْصُرُكُمْ عَلَيْنَا، أَيْ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: (حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا) (١٩: ٧٥) وَقَوْلِهِ (حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا) (٧٢: ٢٤ - ٢٦) إِلَخْ.
وَهَاهُنَا لَقَّنَ اللهُ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَوَابَ بِقَوْلِهِ: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا) أَيْ إِنَّنِي بَشَرٌ رَسُولٌ لَا أَمَلِكُ لِنَفْسِي - فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا - شَيْئًا مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الضُّرِّ فَأَدْفَعَهُ عَنْهَا وَلَا النَّفْعِ فَأَجْلِبَهُ لَهَا، مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَقْدِرُ غَيْرِي عَلَيْهَا، وَلَيْسَ مِنْهَا إِنْزَالُ الْعَذَابِ بِالْكُفَّارِ الْمُعَانِدِينَ، وَلَا هِبَةُ النَّصْرِ لِلْمُؤْمِنِينَ (إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ) أَيْ لَكِنْ مَا شَاءَ اللهُ مِنْ ذَلِكَ كَانَ مَتَى شَاءَ لِي فِيهِ ; لِأَنَّهُ خَاصٌّ بِالرُّبُوبِيَّةِ دُونَ الرِّسَالَةِ الَّتِي وَظِيفَتُهَا التَّبْلِيغُ لَا التَّكْوِينُ. هَكَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ هُنَا مُنْقَطِعٌ وَلَهُ أَمْثَالٌ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَهُوَ مَنْ أَظْهَرِهَا الصَّرِيحِ فِي هَذَا
الْمَقَامِ: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٧: ١٨٨) وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ فِي تَقْدِيمِ ذِكْرِ الضُّرِّ عَلَى النَّفْعِ وَتَأْخِيرِهِ لِاخْتِلَافِ الْمَقَامِ، فَقَدْ قُدِّمَ الضُّرُّ فِي آيَةِ يُونُسَ لِأَنَّهَا جَوَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ عَنْ مِيعَادِ الْعَذَابِ الَّذِي أُنْذِرُوا بِهِ، وَهُوَ مِنَ الضُّرِّ، وَقُدِّمَ النَّفْعُ فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ لِأَنَّ الْمَقَامَ بَيَانُ الْحَقِيقَةِ فِي نَفْسِهَا، وَهُوَ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْكَوْنِ بِغَيْرِ الْأَسْبَابِ الْعَامَّةِ فَضْلًا عَنْ مِلْكِهِ لِغَيْرِهِ، وَالْمُنَاسِبُ فِي هَذَا تَقْدِيمُ النَّفْعِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ مِنْ تَصَرُّفِ
الْإِنْسَانِ وَسَعْيِهِ لِنَفْسِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَنْفِيُّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَامًّا لِمَا يَمْلِكُهُ الْإِنْسَانُ بِالْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ تَعَالَى أَنْ أَمْلِكَهُ بِمَا أَعْطَانِي مِنَ الْكَسْبِ الِاخْتِيَارِيِّ مَعَ تَيْسِيرِ أَسْبَابِهِ لِي، وَأَمَّا الْآيَاتُ الْخَارِقَةُ لِلْعَادَةِ فَهِيَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، لَا مِمَّا يَمْلِكُهُ رُسُلُهُ.
وَقَدْ أَجَابَ سُبْحَانَهُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِقَوْلِهِ: (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) لِبَقَائِهَا وَهَلَاكِهَا، عَلِمَهُ اللهُ وَقَدَّرَهُ لَهَا لَا يَعْلَمُهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ (إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) أَيْ فَلَا يَمْلِكُ رَسُولُهُمْ مِنْ دُونِهِ تَعَالَى أَنْ يُقَدِّمَهُ وَلَا أَنْ يُؤَخِّرَهُ سَاعَةً عَنِ الزَّمَانِ الْمُقَدَّرِ لَهُ وَإِنْ قَلَّتْ وَلَا أَنْ يَطْلُبَ ذَلِكَ مِنْهُ تَعَالَى، وَهُوَ مَعْنَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ السِّينُ وَالتَّاءُ فِي الْأَصْلِ. وَقَدْ حَقَّقْنَا مَعْنَى هَذَا النَّصِّ فِي آيَةِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ (٧: ٣٤) بِلَفْظِهِ فَاسْتَغْرَقَ أَرْبَعَ وَرَقَاتٍ مِنْ جُزْءِ التَّفْسِيرِ الثَّامِنِ فَلْيُرَاجِعْهُ مَنْ شَاءَ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ هُنَالِكَ: (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ) إِلَخْ وَقَالَ هُنَا: (إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ) إِلَخْ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَا هُنَا أَبْلَغُ فِي نَفْيِ تَأْخِيرِ الْوَعِيدِ لِأَنَّهُ تَفْنِيدٌ لِاسْتِعْجَالِهِمْ بِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَ الْجُمْلَةَ الشَّرْطِيَّةَ وَصْفًا لِلْأَجَلِ مُرْتَبِطًا بِهِ مُبَاشَرَةً لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ، وَمَا هُنَالِكَ إِخْبَارٌ بِآجَالِ الْأُمَمِ مُبْتَدَأٌ وَمَا بَعْدَهُ تَفْرِيعٌ عَلَيْهِ، فَهُوَ لَا يَدُلُّ عَلَى لُزُومِهِ لَهُ بِلَا مُهْمَلَةٍ كَالَّذِي هُنَا. وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا السُّؤَالُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَعَ جَوَابِهِ فِي سُوَرٍ أُخْرَى، وَأَشْبَهَهُ بِمَا هُنَا سِيَاقُ سُورَةِ النَّمْلِ وَأُجِيبَ فِيهَا بِقَوْلِهِ:
(قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) (٢٧: ٧٢) وَهُوَ مِنْ رَدِفَهُ إِذَا لَحِقَهُ وَتَبِعَهُ، وَعُدِّيَ بِاللَّامِ لِتَأْكِيدِهِ أَوْ تَضْمِينِهِ مَعْنًى يُنَاسِبُهُ.
وَقَدْ بَلَغَ مِنْ جَهْلِ الْخُرَافِيِّينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِتَوْحِيدِ اللهِ، أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ النُّصُوصِ مِنْ آيَاتِ التَّوْحِيدِ لَمْ تَصُدَّ الْجَاهِلِينَ بِهِ مِنْهُمْ عَنْ دَعْوَى قُدْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ - حَتَّى الْمَيِّتِينَ مِنْهُمْ - عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي نَفْعِهِمْ وَضُرِّهِمْ، مِمَّا لَمْ يَجْعَلْهُ اللهُ تَعَالَى مِنَ الْكَسْبِ الْمَقْدُورِ لَهُمْ بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ فِي الْأَسْبَابِ، بَلْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَتَصَرَّفُونَ فِي الْكَوْنِ كُلِّهِ، كَالَّذِينِ يُسَمُّونَهُمُ الْأَقْطَابَ الْأَرْبَعَةَ. وَأَنَّ بَعْضَ كِبَارِ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ فِي هَذَا الْعَصْرِ يَكْتُبُ هَذَا حَتَّى فِي مَجَلَّةِ الْأَزْهَرِ الرَّسْمِيَّةِ (نُورِ الْإِسْلَامِ) فَيُفْتِي بِجَوَازِ دُعَاءِ غَيْرِ اللهِ مِنَ الْمَوْتَى وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ فِي كُلِّ مَا يَعْجِزُونَ عَنْهُ مِنْ جَلْبِ نَفْعٍ وَدَفْعِ ضُرٍّ، وَأَلَّفَ بَعْضُهُمْ كِتَابًا فِي إِثْبَاتِ ذَلِكَ، وَكَوْنِ الْمَيِّتِينَ مِنَ الصَّالِحِينَ يَنْفَعُونَ وَيَضُرُّونَ بِأَنْفُسِهِمْ، وَيَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ فَيَقْضُونَ حَوَائِجَ مَنْ يَدْعُونَهُمْ وَيَسْتَغِيثُونَ بِهِمْ. قَالَ فِي فَتْحِ الْبَيَانِ بَعْدَ نَقْلِهِ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ عَنْ أَئِمَّةِ الْمُفَسِّرِينَ وَتَرْجِيحِهِ مَا نَصُّهُ:
((وَفِي هَذَا أَعْظَمُ وَازِعٍ وَأَبْلَغُ زَاجِرٍ لِمَنْ صَارَ دَيْدَنَهُ وَهَجِيرَاهُ الْمُنَادَاةُ لِرَسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوِ الِاسْتِغَاثَةُ بِهِ عِنْدَ نُزُولِ النَّوَازِلِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهَا إِلَّا اللهُ سُبْحَانَهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ صَارَ يَطْلُبُ مِنَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِهِ إِلَّا اللهُ سُبْحَانَهُ ;
321
فَإِنَّ هَذَا مَقَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي خَلَقَ الْأَنْبِيَاءَ وَالصَّالِحِينَ وَجَمِيعَ الْمَخْلُوقِينَ، وَرَزَقَهُمْ وَأَحْيَاهُمْ وَيُمِيتُهُمْ، فَكَيْفَ يُطْلَبُ مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ مَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ صَالِحٍ مِنَ الصَّالِحِينَ مَا هُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَيْهِ؟ وَيُتْرَكُ الطَّلَبُ لِرَبِّ الْأَرْبَابِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ الْخَالِقِ الرَّازِقِ الْمُعْطِي الْمَانِعِ؟ وَحَسْبُكَ بِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ مَوْعِظَةٍ، فَإِنَّ هَذَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَخَاتَمُ الرُّسُلِ يَأْمُرُهُ اللهُ بِأَنْ يَقُولَ لِعِبَادِهِ (لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا) فَكَيْفَ يَمْلِكُهُ لِغَيْرِهِ؟ وَكَيْفَ يَمْلِكُهُ غَيْرُهُ - مِمَّنْ رُتْبَتُهُ دُونَ رُتْبَتِهِ وَمَنْزِلَتُهُ لَا تَبْلُغُ إِلَى مَنْزِلَتِهِ - لِنَفْسِهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَمْلِكَهُ لِغَيْرِهِ؟
((فَيَا عَجَبًا لِقَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى قُبُورِ الْأَمْوَاتِ الَّذِينَ قَدْ صَارُوا تَحْتَ أَطْبَاقِ الثَّرَى، وَيَطْلُبُونَ مِنْهُمْ مَنِ الْحَوَائِجِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ! كَيْفَ لَا يَتَيَقَّظُونَ لِمَا
وَقَعُوا فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَلَا يَنْتَبِهُونَ لِمَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِمَعْنَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) وَمَدْلُولِ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١١٢: ١) ((وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا اطِّلَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى مَا يَقَعُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَلَا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَحُولُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الرُّجُوعِ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى بَلْ إِلَى مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهَا ; فَإِنَّ أُولَئِكَ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ، الْمُحْيِي الْمُمِيتُ، الضَّارُّ النَّافِعُ، وَإِنَّمَا يَجْعَلُونَ أَصْنَامَهُمْ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ وَمُقَرِّبِينَ لَهُمْ إِلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ لَهُمْ قُدْرَةً عَلَى الضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وَيُنَادُونَهُمْ تَارَةً عَلَى الِاسْتِقْلَالِ وَتَارَةً مَعَ ذِي الْجَلَالِ وَكَفَاكَ مِنْ شَرٍّ سَمَاعُهُ، وَاللهُ نَاصِرُ دِينِهِ، وَمُطَهِّرُ شَرِيعَتِهِ مِنْ أَوَضَارِ الشِّرْكِ وَأَدْنَاسِ الْكُفْرِ. وَلَقَدْ تَوَسَّلَ الشَّيْطَانُ أَخْزَاهُ اللهُ بِهَذِهِ الذَّرِيعَةِ إِلَى مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُهُ وَيَنْثَلِجُ بِهِ صَدْرُهُ مِنْ كُفْرِ كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُبَارَكَةِ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (١٨: ١٠٤) ((إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)) اهـ.
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا) أَيْ قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: أَخْبَرُونِي عَنْ حَالِكُمْ وَمَا يُمْكِنُكُمْ فِعْلُهُ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ فِي وَقْتِ مَبِيتِكُمْ فِي اللَّيْلِ، أَوْ وَقْتِ اشْتِغَالِكُمْ بِلَهْوِكُمْ وَلَعِبِكُمْ أَوْ أُمُورِ مَعَاشِكُمْ بِالنَّهَارِ، وَهُوَ لَا يَعْدُوهُمَا (كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَاتِ ٤، ٩٧، ٩٨ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ) (مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) أَيَّ شَيْءٍ أَوْ أَيَّ نَوْعٍ يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ الْمُكَذِّبُونَ الْآنَ؟ أَعَذَابَ الدُّنْيَا أَمْ قِيَامَ السَّاعَةِ؟ أَيًّا مَا اسْتَعْجَلُوا فَهُوَ حَمَاقَةٌ وَجَهَالَةٌ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ مِنْكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ، أَيْ أَنَّ جُمْلَةَ الِاسْتِفْهَامِ جَوَابٌ لِلشَّرْطِ فِيمَا قَبْلَهَا، وَفِيهِ بَحْثٌ لِلنُّحَاةِ الَّذِينَ أَوْجَبُوا اقْتِرَانَ مِثْلِ هَذَا الْجَوَابِ بِالْفَاءِ وَخَالَفَهُمْ غَيْرُهُمْ لَا نَعْرِضُ لَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) (٦: ٤٧) وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِهَا وَتَفْسِيرِ مَا قَبْلَهَا أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِي (أَرَأَيْتُمْ) وَ (أَرَأَيْتَكُمْ) مُسْتَعْمَلٌ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى أَخْبِرُونِي عَنْ حَالِكُمْ وَمَا يَكُونُ مِنْ عَمَلِكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ ذَلِكَ؟.
322
(أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) قَرَأَ الْجُمْهُورُ ((ثُمَّ)) بِالضَّمِّ وَهِيَ حَرْفُ عَطْفٍ يَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ وَالتَّأَخُّرِ وَالتَّرَاخِي، وَقُرِئَ بِالْفَتْحِ وَهُوَ اسْمُ إِشَارَةٍ بِمَعْنَى هُنَالِكَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَمَعْنَى قَوْلِهِ (أَثُمَّ) فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: أَهُنَالِكَ؟ وَلَيْسَ ((ثُمَّ)) هَاهُنَا الَّتِي تَأْتِي بِمَعْنَى الْعَطْفِ. انْتَهَى.
وَلَمْ يَضْبُطْهَا بِفَتْحِ الثَّاءِ فَظَاهِرُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَضْمُومَةَ تَأْتِي ظَرْفًا أَيْضًا وَهَذَا لَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ، بَلْ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي الْمُغْنِي وَقَدْ نَقَلَهُ عَنْهُ: وَهَذَا وَهْمٌ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ ثُمَّ الْمَضْمُومَةُ الثَّاءِ بَالْمَفْتُوحَتِهَا اهـ.
وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَهَذَا اسْتِفْهَامٌ آخَرُ مَعْطُوفٌ عَلَى فِعْلٍ مُقَدَّرٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ عُلِمَ مِمَّا قَبْلَهُ مِنْ إِنْكَارِ اسْتِعْجَالِ مُجْرِمِيهِمْ بِالْعَذَابِ، كَمَا يُقَدَّرُ مِثْلُهُ بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ الدَّاخِلِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ) (٧: ٦٣) ؟ وَقَوْلِهِ: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا) (٢٣: ١١٥) وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ، أَيَسْتَعْجِلُ بِالْعَذَابِ مُجْرِمُوكُمُ الَّذِينَ هُمْ أَحَقُّ بِالْخَوْفِ مِنْهُ بَدَلًا مِنَ الْإِيمَانِ الَّذِي يَدْفَعُهُ عَنْهُمْ وَعَنْكُمْ، ثُمَّ إِذَا وَقَعَ بِالْفِعْلِ آمَنْتُمْ بِهِ إِذْ لَا يَنْفَعُ الْإِيمَانُ ; لِأَنَّهُ صَارَ ضَرُورِيًّا بِالْمُشَاهَدَةِ وَالْعِيَانِ، لَا تَصْدِيقًا لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِيلَ لَكُمْ حِينَئِذٍ مِنْ قِبَلِ اللهِ تَعَالَى تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا: (آلْآنَ) آمَنْتُمْ بِهِ اضْطِرَارًا (وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) تَكْذِيبًا بِهِ وَاسْتِكْبَارًا؟ وَقَرَأَ نَافِعٌ (الَانَ) بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَإِلْقَاءِ حَرَكَتِهَا عَلَى اللَّامِ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَالِاسْتِعْجَالُ يَتَضَمَّنُ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّكْذِيبِ الْمُقَابِلِ لِلْإِيمَانِ، وَسَيَأْتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِيمَانُ فِرْعَوْنَ عِنْدَ إِدْرَاكِ الْغَرَقِ إِيَّاهُ وَأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (٩١). (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) ((قِيلَ)) هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى ((قِيلَ)) الْمُقَدَّرَةِ قَبْلَ (آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) أَيْ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينِ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ بِالرِّسَالَةِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْفَسَادِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ: (ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ) الْخُلْدُ كَالْخُلُودِ مَصْدَرُ خَلَدَ الشَّيْءُ إِذَا بَقِيَ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَتَغَيَّرُ، وَخَلَدَ الشَّخْصُ فِي الْمَكَانِ إِذَا طَالَ مُكْثُهُ فِيهِ، لَا يَرْحَلُ وَلَا هُوَ بِصَدَدِ التَّحَوُّلِ عَنْهُ. وَظَاهِرُ إِضَافَةِ الْعَذَابِ إِلَى (الْخُلْدِ) أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْبَقَاءُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مُؤْلِمَةٍ، وَيَحْتَمِلُ إِرَادَةَ الْعَذَابِ الْخَالِدِ الدَّائِمِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي الْأَكْثَرِ وَالْمُقَيَّدَةِ بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ (٦: ١٢٨) وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا وَفِي سُورَةِ هُودٍ وَسَيَأْتِي.
(هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أَيْ لَا تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَهُ بِاخْتِيَارِكُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَالْعَزْمِ عَلَى الثَّبَاتِ عَلَيْهِ وَعَدَمِ التَّحَوُّلِ عَنْهُ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الظُّلْمِ ; لِأَنَّهُ أَثَرٌ لَازِمٌ لِتَدْسِيَةِ النَّفْسِ وَإِفْسَادِهَا بِالظُّلْمِ، حَتَّى لَمْ تَعُدْ أَهْلًا لِجِوَارِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ وَلَيْسَ عَذَابًا أُنُفًا مِنْ خَارِجِهَا، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) (٦: ١٣٩).
(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ) النَّبَأُ الْخَبَرُ الْمُهِمُّ ذُو الْفَائِدَةِ الْعَظِيمَةِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ طَلَبُهُ، وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ بَعْضِ الْكُفَّارِ وَالْمُكَذِّبِينَ ; فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى يَقِينٍ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ وَإِنَّمَا كَانُوا ظَانِّينَ مُسْتَبْعِدِينَ، بَيْنَ مُعَانِدِينَ وَمُقَلِّدِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَذَا السِّيَاقِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) (٣٦) وَالْمَعْنَى: وَيَسْأَلُونَكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ أَنْ تُنَبِّئَهُمْ عَنْ هَذَا الْعَذَابِ الَّذِي تَعِدُهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَحَقٌّ هُوَ سَيَقَعُ بِالْفِعْلِ؟ أَمْ هُوَ إِرْهَابٌ وَتَخْوِيفٌ؟ (قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ) إِيْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْيَاءِ الْخَفِيفَةِ حَرْفُ جَوَابٍ وَتَصْدِيقٍ بِمَعْنَى نَعَمْ، وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ مَعَ الْقَسَمِ؛ أَيْ نَعَمْ أُقْسِمُ لَكُمْ بِرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَاقِعٌ، كَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الطُّورِ بَعْدَ الْقِسْمِ: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ) (٥٢: ٧ و٨) وَقَدْ أَكَّدَهُ هُنَا بِالْقَسَمِ وَبِإِنَّ مَعَ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) لِلَّهِ تَعَالَى عَنْ إِنْزَالِهِ بِكُمْ، وَلَا بِفَائِتِيهِ هَرَبًا مِنْهُ، وَقَدْ عَلِمَ مُؤْمِنُو الْجِنِّ مَا جَهِلْتُمْ إِذْ قَالُوا كَمَا حَكَى الله عَنْهُمْ: (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا) (٧٢: ١٢).
وَقَدِ اسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ السُّؤَالَ بِاسْتِبْعَادِ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ حَقِيقِّيًا مِنَ الْمُكَذِّبِينَ وَالْجَوَابُ بِزَعْمِهِمْ أَنَّ تَأْكِيدَهُ بِالْقَسَمْ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُؤَكِّدَاتِ اللَّفْظِيَّةِ لَا يُقْنِعُ السَّائِلِينَ، وَمَنْ عَرَفَ أَخْلَاقَ الْعَرَبِ فِي زَمَنِ الْبَعْثَةِ لَمْ يَسْتَشْكِلِ السُّؤَالَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ السَّائِلُونَ مِنَ الْمُعَانِدِينَ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّهَكُّمِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، أَوْ كَمَا قِيلَ: إِنَّمَا سَأَلُوا أَهْوَ جِدٌّ أَمْ هَزْلٌ، فَأَرَادُوا مِنَ الْحَقِّ لَازِمَهُ وَهُوَ الْجِدُّ لَا مُقَابِلَ الْبَاطِلِ، وَالْمَعْرُوفُ مِنْ أَخْلَاقِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ أَنَّهُ كَانَ يَقِلُّ فِيهِمُ الْكَذِبُ لِعَزَّةِ أَنْفُسِهِمْ، وَعَدَمِ خُضُوعِهِمْ لِرِيَاسَةٍ اسْتِبْدَادِيَّةٍ تَضْطَرُّهُمْ إِلَيْهِ، وَكَانُوا
يَهَابُونَ الْأَيْمَانَ الْبَاطِلَةَ وَيَخَافُونَهَا، وَمِنَ الْمَنْقُولِ عَنْهُمْ أَنَّ الْأَيْمَانَ الْفَاجِرَةَ تَدَعُ الدِّيَارَ بِلَاقِعَ، وَنَاهِيكَ بِمَا اشْتُهِرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْذُ صِغَرِهِ مِنَ الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ حَتَّى لَقَّبُوهُ بِالْأَمِينِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَسْأَلُهُ عَنْ نُبُوَّتِهِ وَعَنِ الشَّرَائِعِ وَيَسْتَحْلِفُهُ فَإِذَا حَلَفَ اطْمَأَنَّ لِصِدْقِهِ وَاتَّبَعَهُ، وَإِنَّ صِدْقَ عَرَبِ الْجَاهِلِيَّةِ لِيَقِلُّ مِثْلُهُ فِي رِجَالِ الدِّينِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ حَتَّى الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ.
رَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الثَّلَاثَةُ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: ((بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي السَّجْدَةِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ، فَأَنَاخَهُ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ ثُمَّ قَالَ: أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ قُلْنَا: هَذَا الرَّجُلُ الْأَبْيَضُ الْمُتَّكِئُ فَقَالَ: ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((قَدْ أَجَبْتُكَ)) فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِي الْمَسْأَلَةِ فَلَا تَجِدْ عَلَيَّ فِي نَفْسِكَ، قَالَ: ((سَلْ عَمَّا بَدَالَكَ)) فَقَالَ: أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ آللَّهُ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ قَالَ: ((اللهُمَّ نَعَمْ)) قَالَ أَنْشُدُكَ بِاللهِ آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟ قَالَ: ((اللهُمَّ نَعَمْ)) قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللهِ آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنَ السَّنَةِ؟ قَالَ: ((اللهُمَّ نَعَمْ)) قَالَ أَنْشُدُكَ بِاللهِ آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا
324
فَتُقَسِّمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا؟ قَالَ: ((اللهُمَّ نَعَمْ)) قَالَ: آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي، وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ)) وَلَفْظُ مُسْلِمٍ عَنْهُ: قَالَ أَنَسٌ نُهِينَا فِي الْقُرْآنِ أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَيْءٍ فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرَّجُلُ الْعَاقِلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَيَسْأَلُهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ، فَجَاءَ رَجُلٌ مَنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَتَانَا رَسُولُكَ فَزَعَمَ أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ اللهَ أَرْسَلَكَ، قَالَ: ((صَدَقَ)) قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ؟ قَالَ: ((اللهُ)) قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ الْأَرْضَ؟ قَالَ ((اللهُ)) قَالَ: فَمَنْ نَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ فَجَعَلَ فِيهَا مَا جَعَلَ؟ قَالَ: ((اللهُ)) قَالَ: فَبِالَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ وَخَلَقَ الْأَرْضَ وَنَصَبَ الْجِبَالَ آللَّهُ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ ((نَعَمْ)) (ثُمَّ سَأَلَهُ بِالَّذِي أَرْسَلَهُ عَنْ كُلٍّ مِنَ الصَّلَوَاتِ وَالزَّكَاةِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَالْحَجِّ.
فَأَجَابَ نَعَمْ) ثُمَّ وَلَّى وَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَزِيدُ عَلَيْهِنَّ وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُنَّ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ)).
وَزَادَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنَّهُ قَالَ لَهُ أَيْضًا: آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْمُرَنَا أَنْ نَعْبُدَهُ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ نَخْلَعَ هَذِهِ الْأَنْدَادَ الَّتِي كَانَ آبَاؤُنَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ؟ قَالَ: ((اللهُمَّ نَعَمْ)) وَأَنَّهُ كَانَ أَشْعَرَ ذَا غَدِيرَتَيْنِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((إِنْ صَدَقَ ذُو الْعَقِيصَتَيْنِ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ)) وَذَكَرَ أَنَّهُ خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَكَانَ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: بِئْسَتِ اللَّاتُ وَالْعُزَّى. قَالُوا: مَهْ يَا ضِمَامُ، اتَّقِ الْبَرَصَ وَالْجُذَامَ، اتَّقِ الْجُنُونَ. قَالَ: وَيْلَكْمُ إِنَّهُمَا وَاللهِ مَا يَضُرَّانِ وَلَا يَنْفَعَانِ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ بَعَثَ إِلَيْكُمْ رَسُولًا وَأَنْزَلَ كِتَابًا اسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِمَّا كُنْتُمْ فِيهِ، وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ قَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِهِ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ فَوَاللهِ مَا أَمْسَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي حَاضِرِهِ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ إِلَّا مُسْلِمًا.
وَأَقُولُ: إِنَّ فَائِدَةَ السُّؤَالِ عَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَالْجِبَالَ وَمَا فِيهَا ثُمَّ ذِكْرَهُ فِي الْقَسَمِ، أَنَّ اسْتِحْضَارَ ذَلِكَ فِيهِ يَكُونُ أَحْرَى أَنْ يُلْتَزَمَ فِي الْجَوَابِ الصِّدْقُ وَتَعْظِيمُ الْقَسَمِ وَالْخَوْفُ مِنْ عَاقِبَةِ الْحِنْثِ، وَقَدْ خَفِيَ هَذَا كُلُّهُ عَلَى الْمُفَسِّرِينَ لِأَنَّهُمُ اعْتَادُوا إِثْبَاتَ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ بِالْأَدِلَّةِ النَّظَرِيَّةِ الْجَدَلِيَّةِ الَّتِي وُضِعَتْ لِلْجَاحِدِينَ الْمُجَادِلِينَ بِالْبَاطِلِ، وَجَهِلَ هَذِهِ الْحَقَائِقَ أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ مِنَ الْإِفْرِنْجِ، وَلَا سِيَّمَا السِّيَاسِيِّينَ رِجَالِ الْكَنِيسَةِ الْكَاثُولِيكِيَّةِ وَدُعَاةِ التَّنْصِيرِ الْبُرُوتِسْتَنْتِيُّ الْمَطْبُوعِينَ عَلَى الْكَذِبِ وَالْكَسْبِ بِهِ وَالْأَخْذِ بِقَوْلِ رُؤَسَائِهِمْ: ((إِنَّ الْغَايَةَ تُبَرِّرُ الْوَاسِطَةَ)) يَعْنُونَ أَنَّ اقْتِرَافَ الْكَذِبِ وَسَائِرِ الرَّذَائِلِ لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْكَنِيسَةِ فَضِيلَةٌ - جَهِلَ هَؤُلَاءِ أَنَّ عُبَّادَ الْأَصْنَامِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمُ احْتِرَامًا لِلصِّدْقِ، فَضْلًا عَنِ الْإِسْلَامِ وَكِتَابِهِ وَنَبِيِّهِ
325
فَأَبَاحُوا لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ افْتِرَاءِ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ، وَكِتَابِهِ وَخَاتَمِ رُسُلِهِ، مَا لَمْ يَخْطُرْ مِثْلُهُ فِي بَالِ الشَّيْطَانِ قَبْلَهُمْ فَيُوَسْوِسَ بِهِ لِغَيْرِهِمْ:
لَقَدْ كَذَبُوا عَلَى الْإِسْلَامِ كِذْبًا تَزُولُ الشُّمُّ مِنْهُ مُزَلْزَلَاتِ
أَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ) (١٦: ١٠٥) وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي هَدْيِهِ: ((يُطْبَعُ
الْمُؤْمِنُ عَلَى كُلِّ خُلُقٍ لَيْسَ الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ)) رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -.
(وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ) أَيْ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ تَلَبَّسَتْ بِهَذَا الظُّلْمِ جَمِيعَ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمِلْكِ وَالزِّينَةِ وَصُنُوفِ النَّعِيمِ وَأَمْكَنَهَا أَنْ تَفْتَدِيَ بِهِ، أَيْ تَجْعَلُهُ فِدَاءً لَهَا مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ذُو قُوَّةٍ يُنْقِذُهَا مِنْهُ بِذُلِّهَا لَهُ، لَافْتَدَتْ بِهِ كُلِّهِ لَا تَدَّخِرُ مِنْهُ شَيْئًا (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ) إِسْرَارُ الشَّيْءِ إِخْفَاؤُهُ وَكِتْمَانُهُ، وَإِسْرَارُ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ خَفْضُ الصَّوْتِ بِهِ، فَهُوَ ضِدُّ إِعْلَانِهِ وَالْجَهْرِ بِهِ، وَمِنْهُ (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) (٦٧: ١٣) (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ) ٢١: ١١٠) وَاسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى الْجَهْرِ مُطْلَقًا فَهُوَ ضِدٌّ وَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ، وَالنَّدَمُ وَالنَّدَامَةُ مَا يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْأَلَمِ وَالْحَسْرَةِ عَقِبَ كُلِّ فِعْلٍ يَظْهَرُ لَهُ ضَرَرُهُ، وَقَدْ يَجْهَرُ بِهِ بِالْكَلَامِ كَقَوْلِهِ: (يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ) (٣٩: ٥٦) أَوْ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَقَدْ يُخْفِيهِ وَيَكْتُمُهُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ مِنْ إِعْلَانِهِ أَوِ اتِّقَاءً لِلشَّمَاتَةِ أَوِ الْإِهَانَةِ بِهِ، أَيْ وَأَسَرَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ ظَلَمُوا نَدَامَتَهُمْ وَحَسْرَتَهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ أَوْ كَتَمُوهَا فِي قُلُوبِهِمْ (لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ) أَيْ رَأَوْا مَبَادِيَهُ عِيَانًا بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ وَأَيْقَنُوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا لَا مَصْرِفَ لَهُمْ عَنْهَا، وَقَدْ يُعَبَّرُ بِرُؤْيَتِهِ عَنْ وُقُوعِهِ وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ لِقَوْلِهِ: (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) أَيْ وَقَضَى اللهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خُصُومِهِمْ بِالْعَدْلِ وَالْحَقِّ، فَإِذَا أُرِيدَ بِالظُّلْمِ الْكُفْرُ وَالتَّكْذِيبُ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْإِيذَاءِ فَخُصُومُهُمُ الرُّسُلُ وَالْمُؤْمِنُونَ بِهِمْ، وَكَذَا مَنْ أَضَلُّوهُمْ وَظَلَمُوهُمْ مِنَ الْمَرْءُوسِينَ وَالضُّعَفَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يُغْرُونَهُمْ بِالْكُفْرِ وَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ ظَاهِرُ السِّيَاقِ هُنَا وَفِي سُورَةِ سَبَأٍ بَعْدَ حِكَايَةِ مُجَادَلَةِ الظَّالِمِينَ وَالْمَظْلُومِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (٣٤: ٣٣) وَإِنْ أُرِيدَ بِالظُّلْمِ مَا يَعُمُّ ظُلْمَهُمْ لِلنَّاسِ فِي الْأَحْكَامِ وَهَضْمَ الْحُقُوقِ كَانَ كُلُّ مَظْلُومٍ خَصْمًا لِظَالِمِهِ (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) أَيْ لَا يَظْلِمُهُمُ اللهُ كَمَا ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَظَلَمُوا أَتْبَاعَهُمْ وَمُقَلِّدِيهِمْ، بَلْ هُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَظَلَمُوا غَيْرَهُمْ. وَالْآيَاتُ فِي نَدَمِ الظَّالِمِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
مَعْرُوفَةٌ كَقَوْلِهِ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّبَأِ: (إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا) (٧٨: ٤٠) وَقَوْلِهِ: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا) (٢٥: ٢٧ و٢٨)
وَغَيْرِ ذَلِكَ.
ثُمَّ قَفَّى عَلَى ذَلِكَ بِالدَّلِيلِ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى إِنْفَاذِ حُكْمِهِ وَإِنْجَازِ وَعْدِهِ وَكَوْنِ هَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ لَا يُعْجِزُونَهُ، وَلَا يَسْتَطِيعُونَ الِافْتِدَاءَ مِنْ عَذَابِهِ، فَقَالَ: (أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْنَا مِرَارًا: إِنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ عِبَارَةٌ عَنْ جَمْعِ الْعَالَمِ، وَهُوَ تَعَالَى مَالِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَلِكُهُمَا، وَلَهُ كُلُّ مَنْ فِيهِمَا مِنَ الْعُقَلَاءِ، وَمَا فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ، وَقَدْ نَطَقَتِ الْآيَاتُ بِهَذَا كُلِّهِ وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ، فَهَاهُنَا غَلَّبَ غَيْرَ الْعُقَلَاءِ بِمُنَاسَبَةِ مَا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى غُرُورِ الْكَافِرِينَ وَالظَّالِمِينَ بِمَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ بِهِ، وَتَعَذُّرِ الِافْتِدَاءِ بِشَيْءٍ مِنْهُ، وَسَيَأْتِي تَغْلِيبُ الْعُقَلَاءِ فِي الْآيَةِ ٦٦ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ لِاقْتِضَاءِ الْمُنَاسِبَةِ لَهُ، وَصَدَّرَ الْجُمْلَةَ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ (أَلَا) الَّذِي يُفْتَتَحُ بِهِ الْكَلَامُ لِتَنْبِيهِ الْغَافِلِينَ عَنْ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَإِنْ كَانُوا يَعْرِفُونَهَا لِكَثْرَةِ ذُهُولِ النَّاسِ عَنْ تَذَكُّرِ أَمْثَالِهَا، وَالْمَعْنَى: لِيَتَذَكَّرِ النَّاسِي وَلْيَتَنَبَّهِ الْغَافِلُ وَلْيَعْلَمِ الْجَاهِلُ أَنَّ لِلَّهِ وَحْدَهُ مَا فِي الْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ وَعَالَمِ الْأَرْضِ يَتَصَرَّفُ فِيهَا حَيْثُ يَشَاءُ، فَيُعْطِي مَنْ يَشَاءُ وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَاءُ، وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ، وَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْ دُونِهِ شَيْئًا مِنَ التَّصَرُّفِ وَالْفِدَاءِ، فِي يَوْمِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ (أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) أَعَادَ فِيهِ حَرْفَ التَّنْبِيهِ تَأْكِيدًا لِتَمْيِيزِهِ بِهَذَا التَّنْبِيهِ عَمَّا سَبَقَهُ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ هُنَا بِذَاتِهِ وَإِنَّمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ، أَيْ كُلُّ مَا وَعَدَ بِهِ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ حَقٌّ وَاقِعٌ لَا رَيْبَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ وَعْدُ الْمَالِكِ الْقَادِرِ عَلَى إِنْجَازِ مَا وَعَدَ لَا يُعْجِزُهُ مِنْهُ شَيْءٌ (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) يَعْنِي بِأَكْثَرِهِمُ الْكُفَّارَ مُنْكِرِي الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ أَيْ لَا يَعْلَمُونَ أَمْرَ الْآخِرَةِ لَا مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَلَا مِنْ طَرِيقِ الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
(هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ) بِقُدْرَتِهِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ النَّظَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ، وَقَدْ بَسَطْنَاهُ
فِي تَفْسِيرِ الْآيَتَيْنِ ٣١ و٣٤ (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) عِنْدَمَا يُحْيِيكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ وَيَحْشُرُكُمْ لِيُحَاسِبَكُمْ وَيَجْزِيَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ، فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِمَا قَبْلَهُ بِالْإِيجَازِ، وَجُمْلَةُ هَذِهِ الْآيَاتِ خَاتِمَةُ هَذَا السِّيَاقِ.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).
هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي مَوْضُوعِ تَشْرِيعِ الْقُرْآنِ الْعَمَلِيِّ التَّهْذِيبِيِّ جَاءَ بَعْدَ بَيَانِ عَقَائِدِهِ الثَّلَاثِ: (التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَالْبَعْثِ) وَتَأْيِيدِهَا بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى كَوْنِهِ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَعَلَى صِدْقِ
وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَالرَّدِّ عَلَى مُكَذِّبِيهِ، وَقَدْ أَجْمَلَ فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى فِي جَمِيعِ مَقَاصِدِ هَذَا التَّشْرِيعِ وَإِصْلَاحِهِ لِلنَّاسِ بِمَا يُظْهِرُ بِهِ لِلْعَاقِلِ أَنَّهُ حَقٌّ وَخَيْرٌ وَصَلَاحٌ بِذَاتِهِ لَا يَصِحُّ لِعَاقِلٍ أَنْ يُمَارِيَ فِيهِ، وَلَا أَنْ يَحْتَاجَ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ فَقَالَ:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أَيْ قَدْ جَاءَكُمْ كِتَابٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ مَوْعِظَةٍ حَسَنَةٍ لِإِصْلَاحِ أَخْلَاقِكُمْ وَأَعْمَالِكُمُ الظَّاهِرَةِ، وَحِكْمَةٌ بَالِغَةٌ لِإِصْلَاحِ خَفَايَا أَنْفُسِكُمْ وَشِفَاءِ أَمْرَاضِهَا الْبَاطِنَةِ، وَهِدَايَةٌ وَاضِحَةٌ لِلصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الْمُوَصِّلِ إِلَى سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَرَحْمَةٌ خَاصَّةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ هِيَ شَجْنَةٌ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الْعَامَّةِ لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، يَتَرَاحَمُونَ بِهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَتَكْمُلُ بِهَا رَحْمَتُهُ تَعَالَى لَهُمْ، وَرَحْمَتُهُ لِلْعَالِمِينَ بِرَسُولِهِ إِلَيْهِمْ وَبِهِمْ، وَقَدْ عَرَفَ هَذَا مِنْ تَارِيخِهِمْ أَشْهَرُ فَلَاسِفَةِ التَّارِيخِ مِنَ الْإِفْرِنْجِ فَقَالَ: ((مَا عَرَفَ التَّارِيخُ فَاتِحًا أَعْدَلَ وَلَا أَرْحَمَ مِنَ الْعَرَبِ)) فَكَأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلنَّاسِ، بَعْدَ بَيَانِ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ الْأَرْبَعَةِ لِلْقُرْآنِ. فَمَا بَالُكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ تُكَذِّبُونَ بِمَا لَمْ تُحِيطُوا بِهِ عِلْمًا مِنْ أَخْبَارِ هَذَا الْكِتَابِ، الَّتِي هِيَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ عَنِ الْمَآلِ وَالْمَآبِ، وَلَا تُفَكِّرُونَ
فِي آدَابِهِ وَمَوَاعِظِهِ، وَأَحْكَامِهِ وَحِكَمِهِ، وَهِدَايَةِ نَوَامِيسِهِ وَسُنَنِهِ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ، الَّتِي لَا يُمَارِي فِيهَا عَالِمٌ وَلَا يُكَابِرُ فِيهَا عَاقِلٌ؟ حَتَّى إِنَّ أَشَدَّ أَعْدَاءِ الرَّسُولِ إِيذَاءً لَهُ وَصَدًّا عَنْ دَعْوَتِهِ فِي أَوَّلِ ظُهُورِهَا لَمْ يَسْتَطِيعُوا الطَّعْنَ عَلَى مَا دَعَا إِلَيْهِ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْخَيْرِ وَالْبِرِّ، وَمَا نَهَى عَنْهُ مِنَ الرَّذَائِلِ وَالشُّرُورِ وَالْفُجُورِ، كَأَبِي سُفْيَانَ عِنْدَمَا سَأَلَهُ هِرَقْلُ قَيْصَرُ الرُّومِ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عِنْدَمَا سَأَلَهُ أَصْحَمَةُ نَجَاشِيُّ الْحَبَشَةِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَدْ خَفِيَ عَلَى بَعْضِ الْجَاحِدِينَ وَالْمُقَلِّدِينَ لَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَبْلَ تَعْمِيمِ نَشْرِ الْقُرْآنِ فِيهِمْ، وَقَبْلَ ظُهُورِ مَا كَانَ لَهُ مِنَ التَّأْثِيرِ الْعَظِيمِ بَعْدَ انْتِشَارِ الْإِسْلَامِ فِي الْعَرَبِ، وَمِنَ الْإِصْلَاحِ الدِّينِيِّ وَالْمَدَنِيِّ فِي شُعُوبِ الْعَجَمِ، أَفَلَيْسَ مِنَ الْعَجَبِ الْعُجَابِ أَنْ يُمَارِيَ بِهِ أَحَدٌ بَعْدَ ذَلِكَ وَيُصَدِّقُ مَا يَفْتَرِيهِ عَلَيْهِ دُعَاةُ الْكَنِيسَةِ وَرِجَالُ السِّيَاسَةِ مِنَ الْإِفْرِنْجِ وَتَلَامِيذُهُمْ وَهُمْ أَكْذَبُ الْبَشَرِ؟ !.
أَجْمَلَتِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ هَذَا الْإِصْلَاحَ الْقُرْآنِيَّ لِأَنْفُسِ الْبَشَرِ فِي أَرْبَعِ قَضَايَا أَوْ مَسَائِلَ نُكِّرْنَ فِي اللَّفْظِ لِتَعْظِيمِ أَمْرِهِنَّ، أَوْ لِبَيَانِ أَنَّهُنَّ نَوْعٌ خَاصٌّ لَمْ يَعْهَدِ النَّاسُ مِثْلَهُنَّ، فِي كَمَالِهِنَّ الْمَعْنَوِيِّ وَبَيَانِهِنَّ اللَّفْظِيِّ، وَقَوْلُهُ: (مِنْ رَبِّكُمْ) لِلتَّذْكِيرِ بِمَا يَزِيدُهَا تَعْظِيمًا، وَوُجُوبِ الِاتِّعَاظِ بِهَا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ; لِأَنَّهَا مِنْ مَالِكِ أَمْرِ النَّاسِ وَمُرَبِّيهِمْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ.
(الْأُولَى: الْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ) وَهِي اسْمٌ مِنَ الْوَعْظِ أَيِ الْوَصِيَّةُ بِالْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَاجْتِنَابُ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، بِأَسَالِيبِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ الَّتِي يَرِقُّ لَهَا الْقَلْبُ، فَتَبْعَثُ عَلَى الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حُقُوقِ النِّسَاءِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ) (٢: ٢٣١)
328
الْآيَةَ، وَفِي الَّتِي بَعْدَهَا: (ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (٢: ٢٣٢) وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ الرِّبَا وَالْأَمْرِ بِطَاعَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالتَّرْغِيبِ فِي الْإِنْفَاقِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ وَالْعَفْوِ عَنِ النَّاسِ، وَمَا أَعَدَّهُ اللهُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْجَزَاءِ (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (٣: ١٣٧ و١٣٨) وَيَلِيهِ الْكَلَامُ فِي الْجِهَادِ وَغَزْوَةِ أُحُدٍ، وَفِي سُورَةِ
النِّسَاءِ: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) (٤: ٥٨) الْآيَةَ، وَتَقَدَّمَ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْثِلَةِ الْوَعْظِ وَسَيَأْتِي غَيْرُهُ مِمَّا يُفَسِّرُ مُرَادَهُ تَعَالَى مِنْ مَوْعِظَتِهِ الرَّبَّانِيَّةِ، فَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَتَمَارَى عَاقِلَانِ فِي حُسْنِهَا وَمَنْفَعَتِهَا لِلْعِبَادِ فِي أَعْمَالِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ؟ كَلَّا إِنَّهَا مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صَلَاحُ الْعِبَادِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.
(الثَّانِيَةُ: شِفَاءُ مَا فِي الصُّدُورِ) أَيْ شِفَاءُ جَمِيعِ مَا فِي الْقُلُوبِ مِنْ أَدْوَاءِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، وَسَائِرِ الْأَمْرَاضِ النَّفْسِيَّةِ الَّتِي يَشْعُرُ صَاحِبُهَا ذُو الضَّمِيرِ الْحَيِّ بِضِيقِ الصَّدْرِ، مِنْ شَكٍّ فِي الْإِيمَانِ، وَمُخَالَفَةٍ لِلْوِجْدَانِ، وَإِضْمَارٍ لِلْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ، وَحُبٍّ لِلْبَاطِلِ وَالظُّلْمِ وَالشَّرِّ، وَبُغْضٍ لِلْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْخَيْرِ.
قَالَ الرَّاغِبُ: قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ حَيْثُمَا ذَكَرَ اللهُ الْقَلْبَ فَإِشَارَةٌ إِلَى الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ نَحْوُ: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ) (٥٠: ٣٧) وَحَيْثُمَا ذَكَرَ الصَّدْرَ فَإِشَارَةٌ إِلَى ذَلِكَ وَإِلَى سَائِرِ الْقُوَى مِنَ الشَّهْوَةِ وَالْهَوَى وَالْغَضَبِ وَنَحْوِهَا، وَقَوْلُهُ: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) (٢٠: ٢٥) فَسُؤَالُ الْإِصْلَاحِ قَوَّاهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) (٩: ١٤) إِشَارَةٌ إِلَى اشْتِفَائِهِمْ. وَقَوْلُهُ: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٢٢: ٤٦) أَيِ الْعُقُولُ الَّتِي هِيَ مُنْدَسَّةٌ فِيمَا بَيْنَ سَائِرِ الْقُوَى وَلَيْسَتْ مُهْتَدِيَةً وَاللهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ انْتَهَى. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الصَّدْرَ يُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الْقَلْبِ الْحِسِّيِّ الَّذِي فِيهِ وَعِلَاقَتُهُ ظَاهِرَةٌ، وَعَلَى الْقَلْبِ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي هُوَ لِلنَّفْسِ كَالْقَلْبِ الْحِسِّيِّ لِلْبَدَنِ لِأَنَّهُ لُبُّهَا، وَمَرْكَزُ شُعُورِ مَدَارِكِهَا وَانْفِعَالَاتِهَا، دُونَ الدِّمَاغِ فَإِنَّ النَّفْسَ لَا تَشْعُرُ بِمَا يَنْطَبِعُ فِيهِ مِنَ الْمُدْرَكَاتِ مِنَ انْشِرَاحٍ وَبَسْطٍ وَحَرَجٍ وَضِيقٍ وَقَبْضٍ، فَجَمِيعُ الْإِدْرَاكَاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْوِجْدَانِيَّةِ تُوصَفُ بِهَا الْقُلُوبُ حَقِيقَةً وَالصُّدُورُ مَجَازًا، وَتَكُونُ فَاعِلَةً وَمُفَعْوِلَةً وَصَفَاتٍ لِلْأَفْعَالِ الْعَامِلَةِ فِيهِمَا، وَأَمَّا الْعَقْلُ فِي اللُّغَةِ فَهُوَ الْحَكَمُ الصَّحِيحُ فِي بَعْضِ الْإِدْرَاكَاتِ وَلَوَازِمِهَا مِنْ حُسْنٍ وَقُبْحٍ وَصَلَاحٍ وَفَسَادٍ، وَنَفْعٍ وَضُرٍّ، وَمَرْكَزُهُ الدِّمَاغُ قَطْعًا، فَأَمْرَاضُ الصُّدُورِ وَالْقُلُوبِ تَشْمَلُ الْجَهْلَ وَسُوءَ الظَّنِّ، وَالشَّكَّ
329
فِي الْإِيمَانِ وَالنِّفَاقَ، وَالْحِقْدَ وَالضَّغَنَ وَالْحَسَدَ، وَسُوءَ النِّيَّةِ وَخُبْثَ الطَّوِيَّةِ وَفَسَادَ السَّرِيرَةِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَالشَّوَاهِدُ عَلَى هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الشِّفَاءَ فِي الْآيَةِ يَشْمَلُ شِفَاءَ الْأَمْرَاضِ الْبَدَنِيَّةِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنِّي أَشْتَكِي صَدْرِي فَقَالَ: ((اقْرَأِ الْقُرْآنَ؛ يَقُولُ اللهُ: (وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ) وَفِيهِ أَنَّ ضِيقَ الصَّدْرِ فِي الْغَالِبِ أَلَمٌ نَفْسِيٌّ لَا بَدَنِيٌّ، قَدْ يَكُونُ سَبَبُهُ دِينِيًّا وَقَدْ يَكُونُ دُنْيَوِيًّا كَالْخَوْفِ وَالْحَاجَةِ، وَقِرَاءَةُ الْمُؤْمِنِ لِلْقُرْآنِ تَنْفَعُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ: (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) (٦: ١٢٥) وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ سُورَةِ الْحِجْرِ: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (١٥: ٩٧ - ٩٩) وَالتَّسْبِيحُ بِحَمْدِ اللهِ وَالسُّجُودُ لَهُ وَعِبَادَتُهُ بِالصَّلَاةِ وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ أَعْظَمُ أَسْبَابِ انْشِرَاحِ الصَّدْرِ، كَمَا قَالَ: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) (٣٩: ٢٢) الْآيَةَ.
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعَ حَلْقِهِ قَالَ: ((عَلَيْكَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْعَسَلِ، فَالْقُرْآنُ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ، وَالْعَسَلُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ)) وَهُوَ عَلَى ضَعْفِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا قِيلَ إِذْ مَعْنَاهُ اقْرَأِ الْقُرْآنَ، تَعْلَمْ مِنْهُ مَا يُفِيدُكَ، إِذْ فِيهِ أَنَّ الْقُرْآنَ شِفَاءٌ لِأَمْرَاضِ الصُّدُورِ وَالْعَسَلَ شِفَاءٌ لِأَمْرَاضِ الْبَدَنِ، فَهُوَ كَوَصْفِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعَسَلَ لِمَنْ شَكَا لَهُ اسْتِطْلَاقَ بَطْنِ ابْنِ أَخِيهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الطِّبِّ الْحَدِيثِ أَنَّ الْعَسَلَ مُطَهِّرٌ طِبِّيٌّ وَمُضَادٌّ لِلْفَسَادِ، وَاسْتِطْلَاقُ الْبَطْنِ يَكُونُ مِنْ فَسَادٍ فِي الْأَمْعَاءِ، وَكَذَا وَجَعُ الْحَلْقِ بِالْتِهَابِ اللَّوْزَتَيْنِ وَنَحْوِهِ وَالْعَسَلُ مُطَهِّرٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَقَدْ رَوَى أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ الْقُرْآنَ شِفَاءً لِمَا فِي الصُّدُورِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ شِفَاءً لِأَمْرَاضِكُمْ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ تَنْكِيرَ الشِّفَاءِ فِي آيَةِ الْعَسَلِ يَدُلُّ عَلَى الْخُصُوصِ لَا الْعُمُومِ. عَلَى أَنَّ الرُّقْيَةَ بِالْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا قَدْ تُفِيدُ فِي شِفَاءِ بَعْضِ الْأَمْرَاضِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الرَّاقِي قَوِيَّ الْإِيمَانِ وَالْمَرْقِيُّ حَسَنَ الِاعْتِقَادِ، وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ.
(الثَّالِثَةُ: الْهُدَى) وَهُوَ بَيَانُ الْحَقِّ الْمُنْقِذُ مِنَ الضَّلَالِ فِي الِاعْتِقَادِ وَالْبُرْهَانِ،
وَفِي الْعَمَلِ بِبَيَانِ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ فِي أَحْكَامِ الْأَعْمَالِ، وَهُوَ مَا فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ، وَبَيَّنَّا أَنْوَاعَهُ فِي مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ مِنْ مَبَاحِثِ الْوَحْيِ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ بِأَنْوَاعِهَا الدِّينِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ وَأَنْوَاعِهِ فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ وَأَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
330
(الرَّابِعَةُ: الرَّحْمَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ) وَهِيَ مَا تُثْمِرُهُ لَهُمْ هِدَايَةُ الْقُرْآنِ وَتُفِيضُهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِمُ الْخَاصَّةِ، وَهِيَ صِفَةُ كَمَالٍ مِنْ آثَارِهَا إِغَاثَةُ الْمَلْهُوفِ، وَبَذْلُ الْمَعْرُوفِ وَكَفُّ الظُّلْمِ، وَمَنْعُ التَّعَدِّي وَالْبَغْيِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ وَالْبَرِّ، وَمُقَاوَمَةِ الشَّرِّ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (٤٨: ٢٩) وَبِقَوْلِهِ: (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) (٩٠: ١٧).
وَهَذِهِ الصِّفَاتُ الْأَرْبَعُ مُرَتَّبَةٌ عَلَى سُنَّةِ الْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ، فَالْمَوْعِظَةُ: التَّعَالِيمُ الَّتِي تُشْعِرُ النَّفْسَ بِنَقْصِهَا وَخَطَرِ أَمْرَاضِهَا الِاعْتِقَادِيَّةِ وَالْخُلُقِيَّةِ، وَتُزْعِجُهَا إِلَى مُدَاوَاتِهَا وَطَلَبِ الشِّفَاءِ مِنْهَا، وَالشِّفَاءُ تَخْلِيَةٌ يُتْبِعُهَا طَلَبُ التَّحْلِيَةِ بِالصِّحَّةِ الْكَامِلَةِ، وَالْعَافِيَةُ التَّامَّةُ، وَهُوَ الْهُدَى، وَمِنْ ثَمَرَاتِهِ هَذِهِ الرَّحْمَةُ الَّتِي لَا تُوجَدُ عَلَى كَمَالِهَا إِلَّا فِي الْمُؤْمِنِينَ الْمُهْتَدِينَ، وَلَا يُحَرِّمُهَا إِلَّا الْكَافِرُونَ الْمَادِّيُّونَ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا ضَعْفٌ فِي الْقَلْبِ، يَجْعَلُ صَاحِبَهُ كَالْمُضْطَرِّ إِلَى الْإِحْسَانِ وَالْعَطْفِ، وَمَا هَذَا الْقَوْلُ إِلَّا مِنْ فَسَادِ الْفِطْرَةِ، وَقَسْوَةِ الْقَلْبِ وَفَلْسَفَةِ الْكُفْرِ، فَلَقَدْ كَانَ أَشْجَعُ النَّاسِ وَأَقْوَاهُمْ بَدَنًا وَقَلْبًا، أَرْحَمَ النَّاسِ وَأَشَدَّهُمْ عَطْفًا، وَهُوَ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ الَّذِي وَصَفَهُ رَبُّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ قَوْلِهِ: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (٩: ١٢٨) بَلْ جَعَلَهُ عَيْنَ الرَّحْمَةِ فِي قَوْلِهِ: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (٢١: ١٠٧) وَكَذَلِكَ كَانَ أَصْحَابُهُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - حَتَّى كَانَ مَنْ يُوصَفُ بِالشِّدَّةِ وَالْقَسْوَةِ كَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - صَارَ مِنْ أَرْحَمِ النَّاسِ وَسِيرَتُهُ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفَةٌ.
وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ)) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ وَهُوَ وَفِي الصَّلَاةِ بُكَاءَ طِفْلٍ تَجَوَّزَ فِي صَلَاتِهِ، أَيِ اخْتَصَرَ وَخَفَّفَ رَحْمَةً بِهِ وَبِأُمِّهِ، وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ بِلَالًا - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مَرَّ بِصَفِيَّةَ وَبِابْنَةِ عَمٍّ لَهَا عَلَى قَتْلَى قَوْمِهِمَا الْيَهُودِ بَعْدَ انْتِهَاءِ غَزْوَةِ قُرَيْظَةَ فَصَكَّتِ ابْنَةُ عَمِّهَا وَجْهَهَا وَحَثَتْ عَلَيْهِ التُّرَابَ وَهِيَ تَصِيحُ وَتَبْكِي، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ: ((أَنُزِعَتِ الرَّحْمَةُ مِنْ قَلْبِكَ حَتَّى مَرَرْتَ بِالْمَرْأَتَيْنِ عَلَى قَتْلَاهُمَا)) وَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ
إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّكُمْ تُقَبِّلُونَ أَوْلَادَكُمْ وَمَا نُقَبِّلُهُمْ. فَقَالَ: ((أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِنْ قَلْبِكَ)) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -.
بَلْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَدِيدَ الرَّحْمَةِ بِالْبَهَائِمِ وَالطَّيْرِ وَالْحَشَرَاتِ، وَطَالَمَا أَوْصَى بِهَا وَلَا سِيَّمَا صِغَارِهَا وَأُمَّهَاتِهَا. جَاءَهُ مَرَّةً رَجُلٌ وَعَلَيْهِ كِسَاءٌ وَفِي يَدِهِ شَيْءٌ قَدِ الْتَفَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّنِي لَمَّا رَأَيْتُكَ أَقْبَلْتَ، فَمَرَرْتُ بِغَيْطَةِ شَجَرٍ فَسَمِعْتُ فِيهَا أَصْوَاتَ فِرَاخِ طَائِرٍ فَأَخَذْتُهُنَّ فَوَضَعَتْهُنَّ فِي كِسَائِي فَجَاءَتْ أُمُّهُنَّ فَاسْتَدَارَتْ عَلَى رَأْسِي وَكَشَفْتُ لَهَا عَنْهُنَّ فَوَقَعَتْ عَلَيْهِنَّ فَلَفَفْتُهَا مَعَهُنَّ بِكِسَائِي فَهُنَّ أُولَاءِ مَعِي، فَقَالَ: ((ضَعْهُنَّ (قَالَ) فَفَعَلْتُ فَأَبَتْ أُمُّهُنَّ إِلَّا
331
لُزُومَهُنَّ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((أَتَعْجَبُونَ لِرَحْمَةِ أُمِّ الْأَفْرَاخِ بِفِرَاخِهَا؟ قَالُوا نَعَمْ، قَالَ: ((وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ أُمِّ الْأَفْرَاخِ بِفِرَاخِهَا، ارْجِعْ بِهِنَّ حَتَّى تَضَعَهُنَّ حَيْثُ أَخَذْتَهُنَّ، وَأُمُّهُنَّ مَعَهُنَّ))، فَرَجَعَ بِهِنَّ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَرَوَى مَالِكٌ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِهِ مَرْفُوعًا حَدِيثَيْنِ خُلَاصَتُهُمَا أَنَّ اللهَ غَفَرَ لِرَجُلٍ وَلِامْرَأَةٍ بَغِيٍّ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا رَأَى كَلْبًا قَدِ اشْتَدَّ بِهِ الْعَطَشُ فَرَحِمَهُ وَأَخْرَجَ لَهُ الْمَاءَ مِنَ الْبِئْرِ بِخُفِّهِ فَسَقَاهُ، قَالُوا لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟ فَقَالَ: ((فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ)) وَرَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ عَنْ غَيْرِهِ بِلَفْظِ ((فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ)).
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ)) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَرَوَيْنَاهُ مُسَلْسَلًا بِالْأَوَّلِيَّةِ مِنْ طَرِيقِ أُسْتَاذِنَا الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ أَبِي الْمَحَاسِنِ الْقَاوَقْجِيِّ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ فِيهَا يَتَعَاطَفُونَ وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوُحُوشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) - وَفِي رِوَايَةٍ - وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ النَّارِ)) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) (١٥: ٤٩، ٥٠) وَيَقُولُ: (إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (١٢: ٨٧) وَيَقُولُ: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلَا
يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (٧: ٩٩) وَمَا دَامَ الْمُؤْمِنُ حَيًّا فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَخَافَ اللهَ خَوْفًا يُرْهِبُهُ وَيَزْجُرُهُ عَنْ مَعَاصِيهِ، وَأَنْ يَرْجُوَهُ رَجَاءً يُرَغِّبُهُ فِي ثَوَابِهِ وَمَا يُرْضِيهِ وَمَا عِنْدَ اللهِ مَجْهُولٌ لَنَا، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ أَبِي الْحَسَنِ الشَّاذْلِيِّ قَدَّسَ اللهُ سِرَّهُ: ((وَقَدْ أَبْهَمْتَ الْأَمْرَ عَلَيْنَا لِنَرْجُوَ وَنَخَافَ، فَآمِنْ خَوْفَنَا، وَلَا تُخَيِّبْ رَجَاءَنَا)) اللهُمَّ آمِينْ.
خَاطِبَ اللهُ تَعَالَى بِمَا تَقَدَّمَ كُلِّهِ أُمَّةَ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَهُمْ جَمِيعُ النَّاسِ، فَمَوْعِظَةُ الْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنْ شِفَاءٍ مِنْ أَمْرَاضِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَالرَّذَائِلِ، وَهُدَاهُ إِلَى الْحَقِّ وَالْفَضَائِلِ مُوَجَّهَاتٌ إِلَى الْجَمِيعِ، وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا تُثْمِرُهُ الثَّلَاثُ مِنَ الرَّحْمَةِ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِهَا، ثُمَّ خَاطَبَ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يُبَلِّغَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ يَحِقُّ لَهُمْ أَنْ يَفْرَحُوا بِفَضْلِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِنِعْمَةِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَبِهَذِهِ الرَّحْمَةِ الْخَاصَّةِ بِهِمْ لِاسْتِجْمَاعِهِمْ كُلَّ مَا ذُكِرَ قَبْلَهَا مِنْ مَقَاصِدِ تَشْرِيعِهِ فَقَالَ:
(قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) فَضْلُ اللهِ عَلَى جَمِيعِ عِبَادِهِ عَظِيمٌ وَهُوَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ أَعْظَمُ، وَرَحْمَتُهُ الْعَامَّةُ لَهُمْ وَبِهِمْ وَاسِعَةٌ، وَرَحْمَتُهُ الْخَاصَّةُ بِالْمُؤْمِنِينَ أَوْسَعُ، وَبِكُلٍّ
332
مِنَ النَّوْعَيْنِ نَطَقَ الْقُرْآنُ، وَقَدْ مَنَّ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِالْجَمْعِ لَهُمْ بَيْنَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ فِي آيَاتٍ، وَبِكُلٍّ مِنْهُمَا فِي آيَاتٍ، وَقَالَ بَعْدَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي آيَتَيْنِ مِنْ سُورَةِ النُّورِ: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢٤: ٢١) وَإِنَّ دُخُولَ الْبَاءِ عَلَى كُلٍّ مِنَ الْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ هُنَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِقْلَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْفَرَحِ بِهِ فَهُوَ يَرُدُّ مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَيَرُدُّهُ أَيْضًا مَا رُوِيَ مِنَ الْمَأْثُورِ فِي تَفْسِيرِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِمَعْنًى، وَمِنْهُ مَا رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا ((فَضْلُ اللهِ الْقُرْآنُ وَرَحْمَتُهُ أَنْ جَعَلَكُمْ مِنْ أَهْلِهِ)) وَرُوِيَ عَنِ الْبَرَاءِ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَوْقُوفًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَتَانِ (إِحْدَاهُمَا) إِنَّ فَضَلَّ اللهِ: الْقُرْآنُ، وَرَحْمَتَهُ: الْإِسْلَامُ وَ (الثَّانِيَةُ) إِنَّ الْفَضْلَ: الْعِلْمُ، وَالرَّحْمَةَ: مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَعَنِ الْحَسَنِ وَالضِّحَاكِ وَقَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَنْهُ، فَضْلُ اللهِ: الْإِيمَانُ، وَرَحْمَتُهُ: الْقُرْآنُ. وَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي صَحِيحَةٌ فِي نَفْسِهَا لَا فِي رِوَايَتِهَا. وَأَظْهَرُهَا فِي الْآيَةِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَا قَبْلَهَا وَالْجَامِعُ لِمَعَانِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا، أَنَّ فَضْلَ اللهِ: تَوْفِيقُهُ إِيَّاهُمْ لِتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ بِالْمَوْعِظَةِ
وَالشِّفَاءِ وَالْهُدَى الَّتِي امْتَازَ بِهَا الْقُرْآنُ، وَرَحْمَتُهُ ثَمَرَتُهَا الَّتِي فَضَلُوا بِهَا جَمِيعَ النَّاسِ فَكَانُوا أَرْحَمَهُمْ، بَعْدَ أَنْ كَانُوا أَعْدَلَهُمْ وَأَبَرَّهُمْ بِهِمْ، فَقَدْ أَمَرَهُمْ هَذَا الْقُرْآنُ بِالْبَرِّ وَالْعَدْلِ وَإِقَامَةِ الْقِسْطِ فِي الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَأَمْرَهُمْ بِالرَّحْمَةِ حَتَّى فِي الْمُحَارِبِينَ لَهُمْ بِقَدْرِ مَا يَدْفَعُ شَرَّهُمْ كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي الْمَقْصِدِ الثَّامِنِ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ، وَلَوْلَا مُرَاعَاةُ هَذَا التَّنَاسُبِ لَقُلْتُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِفَضْلِهِ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (٢: ١٤٣) الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (٣٠: ١١٠) الْآيَةَ وَلَكِنْ مَا قَلْتُهُ يَدْخُلُ فِي مَعْنَاهُ وَيُوَافِقُهُ وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ.
وَالْفَرَحُ كَالسُّرُورِ: انْفِعَالٌ نَفْسِيٌّ بِنِعْمَةٍ حِسِّيَّةٍ أَوْ مَعْنَوِيَّةٍ يَلَذُّ الْقَلْبَ وَيَشْرَحُ الصَّدْرَ وَضِدَّهُمَا الْأَسَى وَالْحُزْنُ وَهُمَا مِنَ الْوِجْدَانِ الطَّبِيعِيِّ لَا يُمْدَحَانِ وَلَا يُذُمَّانِ لِذَاتِهِمَا، بَلْ حُكْمُهُمَا حُكْمُ سَبَبِهِمَا أَوْ أَثَرِهِمَا فِي النَّفْسِ وَالْعَمَلِ، خِلَافًا لِبَعْضِ النَّاسِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فِيهِمَا، فَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى هُنَا بِالْفَرَحِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَمَدَحَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْفَرَحِ فِي قَوْلِهِ: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) (٣٠: ٤، ٥) وَهَذَا فَرَحٌ بِأَمْرٍ دِينِيٍّ وَدُنْيَوِيٍّ، ثُمَّ قَالَ فِيهَا: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا) (٣٠: ٣٦) وَقَالَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَهْتَدُونَ بِالْقُرْآنِ: (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) (١٣: ٣٦) الْآيَةَ.
وَذَمَّ سُبْحَانَهُ الْفَرَحَ بِالْبَاطِلِ وَفَرَحَ الْبَطَرِ وَالْغُرُورِ بِالْمَالِ وَمَتَاعِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا فِي عِدَّةِ آيَاتٍ مَعْرُوفَةٍ. وَجَعَلَ الِاعْتِدَالَ بَيْنَ الْفَرَحِ وَالْأَسَى وَالْحُزْنِ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ تَرْبِيَتِهِمْ بِالْمَصَائِبِ الْمُقَدَّرَةِ فِي كِتَابِ اللهِ (لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (٥٧: ٢٣)
333
وَتَقَدَّمَ تَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِي الْحُزْنِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ (٩: ٤٠)، (٣٦٩ وَمَا بَعْدَهَا ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ).
وَالتَّعْبِيرُ فِي غَايَةِ الْبَلَاغَةِ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي التَّقْرِيرِ، فَإِنَّ أَصْلَ الْمَعْنَى بِدُونِهِمَا: قُلْ لِيَفْرَحُوا بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ، فَأَخَّرَ الْأَمْرَ وَقَدَّمَ عَلَيْهِ مُتَعَلِّقَهُ لِإِفَادَةِ الِاخْتِصَاصِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُفْرَحَ بِهِ فَهُوَ فَضْلُ اللهِ وَرَحْمَتُهُ، وَأَدْخَلَ عَلَيْهِ ((الْفَاءَ)) لِإِفَادَةِ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ فَصَارَ فِيهِمَا ((فَلْيَفْرَحُوا)) دُونَ
مَا يَجْمَعُونَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمُبَيَّنِ فِي آخِرِ الْآيَةِ ثُمَّ أَدْخَلَ عَلَى الْأَمْرِ (فَبِذَلِكَ) لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ وَالتَّقْرِيرِ، وَتَفْصِيلِ مَبَاحِثِهِ فِي الْإِعْرَابِ أَكْثَرَ مِمَّا قُلْنَا، وَبَسْطُهُ يُشْغِلُ عَنِ الْمَعْنَى وَالِاعْتِبَارِ بِهِ، وَهُوَ خُرُوجٌ عَنْ مَنْهَجِنَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ.
ثُمَّ قَالَ: (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أَيْ أَنَّ الْفَرَحَ بِفَضْلِهِ وَبِرَحْمَتِهِ أَفْضَلُ وَأَنْفَعُ لَهُمْ مِمَّا يَجْمَعُونَهُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ وَسَائِرِ مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، مَعَ فَقْدِهِمَا لَا لِأَنَّهُ سَبَبُ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ، الْمُفَضَّلَةِ عَلَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، كَمَا اشْتُهِرَ فِيمَا خَطَّتْهُ الْأَقْلَامُ وَلَاكَتْهُ الْأَلْسِنَةُ، بَلْ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَجْمَعُ بَيْنَ سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ كَمَا حَصَلَ بِالْفِعْلِ إِذْ كَانَتْ هِدَايَةُ الْإِسْلَامِ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ سَبَبًا لِمَا نَالَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي الْعُصُورِ الْأُولَى مِنَ الْمُلْكِ الْوَاسِعِ، وَالْمَالِ الْكَثِيرِ، مَعَ الصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ، وَالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَالْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ، وَالْعِزِّ الْكَبِيرِ، فَلَمَّا صَارَ جَمْعُ الْمَالِ وَمَتَاعُ الدُّنْيَا وَفَرَحُ الْبَطَرِ بِهِ هُوَ الْمَقْصُودَ لَهُمْ بِالذَّاتِ، وَتَرَكُوا هِدَايَةَ الدِّينِ فِي إِنْفَاقِهِ وَالشُّكْرِ عَلَيْهِ، ذَهَبَتْ دُنْيَاهُمْ مِنْ أَيْدِيهِمْ إِلَى أَيْدِي أَعْدَائِهِمْ كَمَا شَرَحْنَاهُ مِرَارًا.
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضِلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ).
هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى مُنْكِرِي الْوَحْيِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِفِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهِمْ لَا يُنْكِرُونَهُ وَلَا يُجَادِلُونَ فِيهِ، تَعْزِيزًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنْوَاعِ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى إِثْبَاتِهِ، وَدَفْعِ شُبُهَاتِهِمْ عَلَيْهِ وَهَذِهِ الْحُجَّةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَاعِدَةِ كَوْنِ التَّشْرِيعِ الْعَمَلِيِّ فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ هُوَ حَقُّ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ،
334
وَقَاعِدَةِ كَوْنِ الْأَصْلِ فِي الْأَرْزَاقِ وَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا الْخَلْقُ الْإِبَاحَةَ، وَقَاعِدَةِ كَوْنِ انْتِحَالِ الْعَبِيدِ حَقَّ التَّشْرِيعِ
الْخَاصِّ بِرَبِّهِمُ افْتِرَاءً عَلَيْهِ وَكُفْرًا بِهِ، يَسْتَحِقُّ فَاعِلُوهُ أَشَدَّ عِقَابِهِ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الشَّهَادَةَ عَلَى صِدْقِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كَوْنِهِ مُبَلِّغًا لِهَذَا الْقُرْآنِ عَنْهُ تَعَالَى، مُؤَكَّدًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحُجَجِ عَلَى صِدْقِهِ، وَعَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ كَلَامَ اللهِ الْمُعْجِزَ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أَيْ أَخْبِرُونِي أَيُّهَا الْجَاحِدُونَ لِلْوَحْيِ وَالتَّشْرِيعِ الْإِلَهِيِّ (مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ) أَيْ هَذَا الَّذِي أَفَاضَهُ اللهُ عَلَيْكُمْ مِنْ سَمَاءِ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ مِنْ رِزْقٍ تَعِيشُونَ بِهِ مِنْ نَبَاتٍ وَحَيَوَانٍ، وَكُلُّ عَطَاءٍ مِنْهُ تَعَالَى يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْإِنْزَالِ كَقَوْلِهِ: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) (٣٩: ٦) وَقَوْلِهِ: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) (٥٧: ٢٥) - (فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا) أَيْ فَتَرَتَّبَ عَلَى إِنْزَالِهِ لِمَنْفَعَتِكُمْ أَنْ جَعَلْتُمْ بَعْضَهُ حَرَامًا وَبَعْضَهُ حَلَالًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ هَذَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا) إِلَى قَوْلِهِ: (قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هَذَا) (٦: ١٣٦ - ١٥٠) الْآيَاتِ وَفِي مَعْنَاهَا قَوْلُهُ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ: (مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (٥: ١٠٣) أَيْ يَفْتَرُونَ عَلَيْهِ بِتَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ، وَقَالَ هُنَا وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ الِاسْتِخْبَارِ: (قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ) هَذَا الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّقْرِيرِ وَمُدَّتْ هَمْزَتُهُ لِدُخُولِهَا عَلَى أَلْفِ اسْمِ الْجَلَالَةِ، أَيْ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ حَقُّ أَنْ يُحَرِّمُ عَلَى النَّاسِ وَيُحِلَّ لَهُمْ إِلَّا رَبُّهُمُ اللهُ، فَهَلِ اللهُ هُوَ الَّذِي أَذِنَ لَكُمْ بِذَلِكَ بِوَحْيٍ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ؟ (أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) بِزَعْمِكُمْ أَنَّهُ حَرَّمَهَا عَلَيْكُمْ أَيْ لَا مَنْدُوحَةَ لَكُمْ عَنِ الْإِقْرَارِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ: إِمَّا دَعْوَى الْإِذْنِ مِنَ اللهِ لَكُمْ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَهُوَ اعْتِرَافٌ بِالْوَحْيِ وَأَنْتُمْ تُنْكِرُونَهُ وَتُلِحُّونَ وَتَلِجُّونَ فِي الْإِنْكَارِ، وَتَزْعُمُونَ أَنَّهُ مُحَالٌ عَلَيْهِ تَعَالَى أَنْ يُوحِيَ إِلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَإِمَّا الِافْتِرَاءُ عَلَى اللهِ؟ وَهُوَ الَّذِي يَلْزَمُكُمْ بِإِنْكَارِ الْأَوَّلِ؛ إِذْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَ ((أَمْ)) مُتَّصِلَةً،
فَيَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ اللهَ لَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، بَلْ أَنْتُمْ تَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَالْغَايَةُ وَاحِدَةٌ وَأَصْلُ الْفَرْيِ قَطْعُ الْجِلْدِ لِمَصْلَحَةٍ وَالِافْتِرَاءُ تَكَلُّفُهُ وَغَلَبَ فِي تَعَمُّدِ الْكَذِبِ.
قَالَ الْكَرْخِيُّ فِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ: وَكَفَى بِهِ زَاجِرًا لِمَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ إِتْقَانٍ، كَبَعْضِ فُقَهَاءِ هَذَا الزَّمَانِ، وَقَالَ الْعِمَادُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: وَقَدْ أَنْكَرَ اللهُ عَلَى مَنْ حَرَّمَ مَا أَحَلَّ اللهُ أَوْ أَحَلَّ مَا حَرَّمَ بِمُجَرَّدِ الْآرَاءِ وَالْأَهْوَاءِ الَّتِي لَا مُسْتَنَدَ لَهَا، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهَا اهـ. وَنَحْنُ نَقُولُ: وَكَفَى بِهِ زَاجِرًا
335
لِمَنْ يُحَرِّمُونَ عَلَى النَّاسِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللهُ تَعَالَى بِنَصِّ كِتَابِهِ، كَالتَّحْرِيمِ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ، أَوْ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحَدِيثِ غَيْرِ قَطْعِيِّ الرِّوَايَةِ وَالدَّلَالَةِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا، وَالْمَرْوِيُّ عَنِ السَّلَفِ أَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ، وَهُوَ أَصْلُ مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْكَرْخِيِّ مِنْهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا مِرَارًا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يُوسُفَ: لَمْ يَكُونُوا يَقُولُونَ فِي شَيْءٍ إِنَّهُ حَرَامٌ إِلَّا مَا كَانَ بَيِّنًا فِي كِتَابِ اللهِ بِلَا تَفْسِيرٍ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوَاعِدُ أَشَرْنَا إِلَى ثَلَاثٍ مِنْهَا:
(الْقَاعِدَةُ الْأُولَى) أَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ مَا خَلَقَهُ اللهُ تَعَالَى لِلنَّاسِ مِنَ الْأَرْزَاقِ نَبَاتِهَا وَحَيَوَانِهَا الْإِبَاحَةُ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ بُطْلَانَ قَوْلِ مَنْ يُحَرِّمُونَ أَكَلَ اللُّحُومَ، وَلَهُمْ عَلَى هَذَا شُبْهَتَانِ:
(الشُّبْهَةُ الْأُولَى) قَدِيمَةٌ وَهِيَ زَعْمُهُمْ أَنِّ أَكْلَ لَحْمِ الْحَيَوَانِ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَذْكِيَتِهِ بِالذَّبْحِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ تَعْذِيبٌ مُسْتَقْبَحٌ عَقْلًا، وَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ جَهْلٌ، فَإِنَّ التَّذْكِيَةَ الشَّرْعِيَّةَ لَيْسَتْ تَعْذِيبًا وَرُبَّمَا كَانَتْ أَهْوَنَ مِنْ مَوْتِهِ بِسَبَبٍ آخَرَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَوْتِ كَافْتِرَاسِ سَبُعٍ أَوْ تَرَدٍّ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ، أَوِ انْخِنَاقٍ بَيْنَ شَجَرَتَيْنِ مَثَلًا، أَوْ نِطَاحٍ، أَوْ وَقْذِ رَاعٍ قَاسٍ أَوْ مُتَعَدٍّ آخَرَ. وَقَدْ حَرَّمَ اللهُ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ (٥: ٣) أَكْلَ مَا مَاتَ بِسَبَبٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ كَالَّذِي يَمُوتُ حَتْفِ أَنْفِهِ وَنَهَى الشَّرْعُ عَنْ تَعْذِيبِ أَيِّ ذِي رُوحٍ وَحَثَّ عَلَى رَحْمَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ الرَّحْمَةِ، وَقَالَ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَالذَّبْحُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يُؤْلِمُ
الْحَيَوَانَ إِلَّا لَحْظَةً قَصِيرَةً، وَالْحَيَوَانَاتُ لَا تَشْعُرُ بِالْأَلَمِ بِقَدْرِ مَا يَشْعُرُ بِهِ الْبَشَرُ كَمَا قَرَّرَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ هَذَا الشَّأْنِ.
(الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ) حَادِثَةٌ وَهِيَ مَا يَزْعُمُهُ النَّبَاتِيُّونَ الَّذِينَ يُفَضِّلُونَ الْأَغْذِيَةَ النَّبَاتِيَّةَ عَلَى الْحَيَوَانِيَّةِ مِنْ كَوْنِ أَكْلِ اللُّحُومِ ضَارًّا لِلنَّاسِ، وَجَوَابُنَا عَنْهَا أَنَّهُمْ إِنْ زَعَمُوا أَنَّ أَكْلَ اللَّحْمِ يَضُرُّ كُلَّ آكِلٍ مِنْهُمْ مُطْلَقًا فَهَذَا زَعْمٌ تُبْطِلُهُ التَّجَارِبُ وَيُنْكِرُهُ أَكْثَرُ أَطِبَّاءِ الْعَالَمِ، وَإِنْ قَالُوا إِنَّهُ يَضُرُّ بَعْضَهُمْ كَأَصْحَابِ أَمْرَاضِ التَّرَفِ وَضِعَافِ الْمَعِدَةِ (كَالرَّئْيَةِ وَالنِّقْرِسِ) فَهَذَا لَا يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ بِالْإِطْلَاقِ، وَحُكْمُ الشَّرْعِ فِي الْمَضَارِّ الْحَظْرُ، وَمِنْهُ عَامٌّ وَخَاصٌّ.
(الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ) أَنَّ تَشْرِيعَ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ الدِّينِيِّ هُوَ حَقُّ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ وَأَنَّ جَعْلَهُ لِغَيْرِهِ شِرْكٌ بِهِ، وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ بِدَلَالَةِ الْآيَاتِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ.
336
(الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ) أَنَّ مَا خَلَقَهُ اللهُ وَسَخَّرَهُ لَنَا مِنْ سَائِرِ مَنَافِعِ الْكَوْنِ فَالْأَصْلُ فِيهِ الْإِبَاحَةُ كَالرِّزْقِ وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْفَحْوَى، وَبِنَاءُ الْمِنَّةِ فِيهِ عَلَى كَوْنِهِ مِنْهُ تَعَالَى، وَهُوَ صَرِيحُ قَوْلِهِ (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) (٢: ٢٩).
(وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) سَجَّلَ عَلَيْهِمْ جَرِيمَةَ افْتِرَاءِ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ وَهُوَ اخْتِلَاقُهُ، وَقَفَّى عَلَيْهِ بِالْوَعِيدِ عَلَيْهِ مُشِيرًا إِلَى مَا يَكُونُ مِنْ سُوءِ حَالِهِمْ وَشَدَّةِ عِقَابِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالْمَعْنَى أَيُّ شَيْءٍ ظَنُّهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي تُجْزَى فِيهِ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ أَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يُتْرَكُونَ بِغَيْرِ عِقَابٍ عَلَى جَرِيمَةِ افْتِرَاءِ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ وَهُوَ تَعَمُّدُهُ فِي حَقٍّ خَاصٍّ بِرُبُوبِيَّتِهِ، فَهُوَ نِزَاعٌ لَهُ فِيهَا وَشِرْكٌ بِهِ، كَمَا قَالَ: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) (٤٢: ٢١) الْآيَةَ. فَوَيْلٌ لِلْمُعَمِّمِينَ مِنْ جُهَلَاءِ الْمُقَلِّدِينَ، الَّذِينَ يُحَرِّمُونَ عَلَى النَّاسِ وَيُحِلُّونَ لَهُمْ بِتَقْلِيدِ بَعْضِ الْمُؤَلِّفِينَ، أَوْ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى، وَالرَّأْيِ فِي الدِّينِ، وَهُمْ يَتْلُونَ قَوْلَهُ: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) إِلَى قَوْلِهِ: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)
(١٦: ١١٦، ١١٧).
(إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) هَذِهِ الْآيَةُ بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ يَتَضَمَّنُ بِمَفْهُومِهِ تَعْلِيلًا لِمَا فُهِمَ مِمَّا قَبْلَهَا مِنْ عِقَابِ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللهِ بِكَوْنِهِ عَدْلًا اسْتَحَقُّوهُ بِظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ لَا ظُلْمًا مِنْهُ، وَهُوَ إِثْبَاتُ فَضْلِهِ عَلَى النَّاسِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُؤَكَّدَةِ أَشَدَّ التَّوْكِيدِ، فَأَفَادَ أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْفَضْلِ الْعَظِيمِ عَلَيْهِمْ لِمُجَرَّدِ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ ظَالِمًا لَهُمْ إِذَا قَابَلُوا أَكْبَرَ فَضْلِهِ وَنِعَمِهِ، بِأَشَدِّ الْكُفْرِ وَأَنْكَرِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَفْهُومُ مِنَ الْآيَتَيْنِ مِنْ أَغْرَبِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ لِلْبَشَرِ. وَالْمَعْنَى: تَاللهِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ عَلَى النَّاسِ فِي كُلِّ مَا خَلَقَهُ لَهُمْ مِنَ الرِّزْقِ وَكُلِّ مَا شَرَعَهُ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ، وَمِنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ الْأَصْلَ فِيمَا أَنْزَلَهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الرِّزْقِ الْإِبَاحَةَ وَجَعَلَ حَقَّ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ لَهُ وَحْدَهُ عَزَّ وَجَلَّ، لِكَيْلَا يَتَحَكَّمَ فِيهِمْ أَمْثَالُهُمْ مِنْ عِبَادِهِ، كَالَّذِينِ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ - بَرَاءَةٌ - وَهُوَ لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ إِلَّا مَا هُوَ ضَارٌّ بِهِمْ، وَلِهَذَا أَبَاحَ لَهُمْ مَا حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ إِذَا اضْطُرُّوا إِلَيْهِ وَكَانَ تَرْكُهُ أَضَرَّ مِنْ تَنَاوُلِهِ، وَحَصَرَ أُصُولَ مُحَرَّمَاتِ الطَّعَامِ فِي قَوْلِهِ: (لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦: ١٤٥) وَفَصَّلَ أَنْوَاعَ الْمَيْتَةِ الْمُحَرَّمَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ (٥: ٣) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَتَيْنِ (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ) فَضْلَهُ عَلَيْهِمْ كَمَا يَجِبُ، كَمَا قَالَ: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (٣٤: ١٣) فَيَجْنُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِتَحْرِيمِ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ عَلَيْهِمْ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُفْرِ نِعَمِهِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ كَالْغُلُوِّ فِي الزُّهْدِ، وَتَرْكِ الزِّينَةِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ، وَفِي ضِدِّ ذَلِكَ مِنَ الْإِسْرَافِ فِي الْأَكْلِ
وَالشُّرْبِ، وَزِينَةِ اللِّبَاسِ، ابْتِغَاءَ الشُّهْرَةِ وَالْخُيَلَاءِ وَالتَّكَبُّرِ عَلَى النَّاسِ، وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ تَحْرِيمُهُ تَعَبُّدًا وَالْإِسْلَامُ يَأْمُرُ بِالْوَسَطِ وَالِاعْتِدَالِ (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ) (٦٥: ٧) الْآيَةَ
أَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَبِي الْحَوْصِ، وَهُوَ عَوْفُ بْنُ مَالِكِ بْنِ نَضْلَةَ
يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا رَثُّ الْهَيْئَةِ فَقَالَ: ((هَلْ لَكَ مَالٌ؟)) قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: ((مِنْ أَيِّ الْمَالِ)) ؟ قُلْتُ مِنْ كُلِّ الْمَالِ مِنَ الْإِبِلِ وَالرَّقِيقِ وَالْخَيْلِ وَالْغَنَمِ فَقَالَ: ((إِذَا آتَاكَ اللهُ مَالًا فَلْيَرَ عَلَيْكَ)) الْحَدِيثَ وَفِي رِوَايَةِ أَصْحَابِ السُّنَنِ الثَّلَاثَةِ عَنْهُ: ((إِذَا آتَاكَ اللهُ مَالًا فَلْيُرَ أَثَرُ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْكَ وَكَرَامَتُهُ)) وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالضِّيَاءُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ مَرْفُوعًا: ((إِذَا آتَاكَ اللهُ مَالًا فَلْيُرَ عَلَيْكَ فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَهُ عَلَى عَبْدِهِ حَسَنًا، وَلَا يُحِبُّ الْبُؤْسَ وَلَا التَّبَاؤُسَ)) وَالشُّكْرُ نِصْفُ الْإِيمَانِ بِحَسْبِ مُتَعَلِّقَاتِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَحْوَالِ، وَهِيَ مَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ لِرَبِّهِ وَلِعِبَادِهِ مِنَ اسْتِعْمَالِ نِعَمِهِ عَلَيْهِ فِيمَا يُرْضِيهِ مِنْ أَحْكَامِ شَرْعِهِ، وَمُوَافَقَةِ سُنَنِهِ وَحِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ الصَّبْرُ، وَهُوَ مَا يَجِبُ فِي حَالِ وُقُوعِ الْمَكَارِهِ وَالِابْتِلَاءِ مِنْ عَمَلٍ بَدَنِيٍّ وَنَفْسِيٍّ وَيُضَادُّ الشُّكْرَ الْكُفْرُ وَهُوَ قِسْمَانِ: كُفْرُ النِّعَمِ، وَكُفْرُ الْمُنْعِمِ، وَأَنْصَحُ لِلْقَارِئِ أَنْ يُطَالِعَ كِتَابَ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ فِي الْمُجَلَّدِ الرَّابِعِ مِنْ إِحْيَاءِ الْعُلُومِ لِلْغَزَالِيِّ.
(وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ).
لَمَّا ذَكَّرَ تَعَالَى عِبَادَهُ بِفَضْلِهِ، وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ شُكْرِهِ، وَبِكَوْنِ أَكْثَرِهِمْ لَا يَشْكُرُونَهُ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ - عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ تَذْكِيرَهُ لَهُمْ بِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِشُئُونِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ كُلِّهَا، صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا، جَلِيلِهَا وَحَقِيرِهَا، وَبِكُلِّ مَا فِي الْعَوَالِمِ عُلْوِيِّهَا وَسُفْلِيِّهَا، لِيُحَاسِبُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى تَقْصِيرِهِمْ فِي ذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَبَدَأَ بِخِطَابِ أَعْظَمِهِمْ شَأْنًا فِي أَعْظَمِ شُئُونِهِ فَقَالَ: وَمَا تَكُونُ أَيُّهَا الرَّسُولُ فِي شَأْنٍ أَيْ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِكَ الْمُهِمَّةِ الْخَاصَّةِ
بِكَ أَوِ الْعَامَّةِ
338
الَّتِي تُعَالِجُ بِهَا أَمْرَ الْأُمَّةِ)) فِي الدَّعْوَةِ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، إِنْذَارًا وَتَبْشِيرًا، وَتَعْلِيمًا وَعَمَلًا: (وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) أَيْ وَمَا تَتْلُو مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الشَّأْنِ مِنْ قُرْآنٍ أُنْزِلَ عَلَيْكَ، تَعَبُّدًا بِهِ أَوْ تَبْلِيغًا لَهُ، فَـ ((مِنْ)) الْأُولَى لِلتَّعْلِيلِ وَالثَّانِيَةُ لِلتَّبْعِيضِ، أَوِ الضَّمِيرُ فِي (مِنْهُ) لِلْكِتَابِ لِأَنَّ السِّيَاقَ بَلِ السُّورَةَ كُلَّهَا فِيهِ، وَإِضْمَارُهُ قَبْلَ الذِّكْرِ ثُمَّ بَيَانُهُ تَفْخِيمٌ لَهُ وَقِيلَ لِلَّهِ، لِذِكْرِهِ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا. وَالتَّعْبِيرُ فِي خِطَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشَّأْنِ وَهُوَ الْأَمْرُ الْعَظِيمُ أَوْ ذُو الْبَالِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أُمُورِهِ وَأَعْمَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَتْ عَظِيمَةً حَتَّى الْعَادَاتِ مِنْهَا، لِأَنَّهُ كَانَ قُدْوَةً صَالِحَةً فِيهَا كُلِّهَا (وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ) هَذَا خِطَابٌ عَامٌّ لِلْأُمَّةِ كُلِّهَا فِي كُلِّ شُئُونِهَا وَأَعْمَالِهَا، بَعْدَ خِطَابِ رَأْسِهَا وَسَيِّدِهَا فِي أَخَصِّ شُئُونِهِ وَأَعْلَاهَا، فَتُذَكِّرُكَ الْآيَةُ فِي أَخْصَرِ الْأَلْفَاظِ وَأَقْصَرِهَا بِأَفْضَلِ مَا أَتَاكَ اللهُ مِنْ هِدَايَةٍ وَنِعْمَةٍ، وَتَنْتَقِلُ بِكَ إِلَى كُلِّ عَمَلٍ تَعْمَلُهُ مِنْ شُكْرٍ وَكُفْرٍ وَإِنْ كَانَ كَمِثْقَالِ ذَرَّةٍ، فَإِنَّ مَجِيءَ. (عَمَلٍ) نَكِرَةً مَنْفِيَّةً يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَدُخُولَ (مِنَ) التَّبْعِيضِيَّةِ عَلَيْهِ يُؤَكِّدُ هَذَا الْعُمُومَ، فَيَشْمَلُ أَدَقَّ الْأَعْمَالِ وَأَحْقَرَهَا وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٩٩: ٧، ٨) (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا) أَيْ رُقَبَاءَ مُطَّلِعِينَ عَلَيْكُمْ إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ أَيْ تَخُوضُونَ وَتَنْدَفِعُونَ فِيهِ، فَنَحْفَظُهُ لِنَجْزِيَكُمْ بِهِ، وَأَصْلُ الْإِفَاضَةِ فِي الشَّيْءِ أَوْ مِنَ الْمَكَانِ الِانْدِفَاعُ فِيهِ بِقُوَّةٍ أَوْ بِكَثْرَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ (٢: ١٩٨) (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ) أَيْ وَمَا يَبَعْدُ عَنْهُ وَلَا يَغِيبُ عَنْ عِلْمِهِ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ ((يَعْزُبُ)) بِضَمِّ الزَّايِ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ فِيهَا - وَأَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَزَبَ الرَّجُلُ يَعْزُبُ بِإِبِلِهِ، أَيْ يَبَعْدُ وَيَغِيبُ فِي طَلَبِ الْكَلَأِ الْعَازِبِ وَهُوَ مَا يَكُونُ بِفَلَاةٍ بَعِيدَةٍ حَيْثُ لَا زَرْعَ، وَيُقَالُ: رَجُلٌ عَزَبٌ بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ مُنْفَرِدٌ، وَمِنْهُ: رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ عَزَبٌ أَيْ مُنْفَرِدٌ لَا زَوْجَ لَهُ أَوْ لَهَا وَيُقَالُ: أَمِرْأَةٌ عَزَبَةٌ وَاخْتُلِفَ فِي أَعْزَبَ وَعَزْبَاءَ. وَنَفِيُ عُزُوبِ الشَّيْءِ عَنِ الرَّبِّ تَعَالَى أَخَصُّ وَأَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْغَيْبَةِ أَوِ الْخَفَاءِ عَنْهُ، كَمَا أَنَّ الْإِفَاضَةَ فِي الْعَمَلِ أَخَصُّ مِنْ إِتْيَانِهِ مُطْلَقًا، وَحِكْمَةُ تَخْصِيصِهَا بِالذِّكْرِ دُونَ اللَّفْظِ الْأَعَمِّ مِنْهَا، هِيَ أَنَّ مَا يَفِيضُ فِيهِ الْإِنْسَانُ مُهْتَمًّا بِهِ مُنْدَفِعًا فِيهِ جَدِيرٌ بِأَلَّا
يَنْسَى أَوْ يَغْفُلُ عَنْ مُرَاقَبَةِ رَبِّهِ فِيهِ وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْهِ، فَاللَّفْظُ يُذَكِّرُهُ بِهِ تَذْكِيرًا مُنَبِّهًا مُؤَثِّرًا، وَكَذَلِكَ لَفْظُ (يَعْزُبُ) الدَّالُّ عَلَى الْخَفَاءِ وَالْبَعْدِ مَعًا، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ إِنَّ مَا شَأْنُهُ أَنْ يَبْعُدَ وَيَخْفَى عَلَيْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ لَا يَغِيبُ عَنْ عِلْمِ رَبِّكُمْ، فَإِنَّهُ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ، أَيْ أَقَلُّ شَيْءٍ يَبْلُغُ وَزْنُهُ ثِقَلَ ذَرَّةٍ وَهِي النَّمْلَةُ الصَّغِيرَةُ يُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ فِي الصِّغَرِ وَالْخِفَّةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الدَّقِيقَةِ مِنَ الْهَبَاءِ وَهُوَ الْغُبَارُ الَّذِي لَا يُرَى إِلَّا فِي ضَوْءِ الشَّمْسِ الدَّاخِلِ مِنَ الْكُوَى إِلَى الْبُيُوتِ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ أَيْ فِي الْوُجُودِ سُفْلِيِّهِ وَعُلْوِيِّهِ، وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْأَرْضِ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَعَ أَهْلِهَا وَأَخَّرَهُ فِي آيَةِ سَبَأٍ (٣٤: ٣) وَقَدَّمَ السَّمَاءَ لِأَنَّهَا فِي سِيَاقِ ثَنَائِهِ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ وَوَصَفَهُ بِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ فَنَاسَبَ تَقْدِيمَ السَّمَاءِ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ، فَإِنَّ فِيهَا مِنَ الشُّمُوسِ وَعَوَالِمِهَا مَا يَبْعُدُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ مَسَافَةَ أُلُوفِ
339
الْأُلُوفِ مِنَ السِّنِينَ الَّتِي تُقَدَّرُ أَبْعَادُهَا بِسُرْعَةِ النُّورِ، كَمَا ثَبَتَ فِي عِلْمِ هَذَا الْعَصْرِ (وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ) هَذَا كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ قَائِمٌ بِرَأْسِهِ، مُؤَكِّدٌ لِمَا قَبْلَهُ بِتَعْبِيرٍ أَدَقَّ وَأَشْمَلَ وَ (لَا) فِيهِ نَافِيَةٌ لِلْجِنْسِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، أَيْ وَلَا شَيْءَ أَصْغَرَ مِنَ الذَّرَّةِ وَهُوَ مَا لَا تُبْصِرُونَهُ مِنْ دَقَائِقِ الْكَوْنِ كَمَا قَالَ: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ) (٦٩: ٣٨ و٣٩) وَلَا أَكْبَرَ مِنْهَا وَإِنْ عَظُمَ مِقْدَارُهُ كَعَرْشِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ بِـ ((أَصْغُرُ)) بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، وَلَا يَخْفَى تَوْجِيهُهُ فِي الْإِعْرَابِ عَلَى أَهْلِهِ. قَدَّمَ ذِكْرَ الْأَصْغَرِ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَهَمُّ فِي سِيَاقِ الْعِلْمِ بِالْخَفِيِّ، وَعَطَفَ عَلَيْهِ الْأَكْبَرَ لِإِفَادَةِ الْإِحَاطَةِ وَكَوْنِ الْأَكْبَرِ لَا يَكْبُرُ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّ الْأَصْغَرَ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ (إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) أَيْ إِلَّا وَهُوَ مَعْلُومٌ وَمَحْصِيٌّ عِنْدَهُ وَمَرْقُومٌ فِي كِتَابٍ عَظِيمِ الشَّأْنِ تَامِّ الْبَيَانِ، وَهُوَ الْكِتَابُ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ مَقَادِيرُ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا إِكْمَالًا لِلنِّظَامِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبِينِ فِي تَفْسِيرِ: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) (٦: ٥٩) الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ فَرَاجِعْهُ فِي (ص ٣٨١ وَمَا بَعْدَهَا ج ٧ ط الْهَيْئَةِ) مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ. وَفِي الْآيَةِ إِشَارَةٌ إِلَى مَا فِي الْوُجُودِ مِنْ أَشْيَاءَ لَا تُدْرِكُهَا الْأَبْصَارُ، وَقَدْ رُؤِيَ كَثِيرٌ مِنْهَا فِي هَذَا الْعَصْرِ بِالْآلَاتِ الَّتِي تُكَبِّرُ الْمَرْئِيَّاتِ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا يَخْطُرُ فِي الْبَالِ فِي عَصْرِ التَّنْزِيلِ فَهُوَ مِنْ دَقَائِقِ تَعْبِيرِ الْقُرْآنِ، الَّتِي تَظْهَرُ حِكْمَتُهَا
لِلنَّاسِ آنًا بَعْدَ آنٍ، وَتَقَدَّمَ التَّذْكِيرُ بِمَا لَهَا مِنَ الْأَمْثَالِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَنْوَاعِ الْإِعْجَازِ.
(أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى لِعِبَادِهِ سَعَةَ عِلْمِهِ، وَمُرَاقَبَتَهُ لِعِبَادِهِ، وَإِحْصَاءَهُ أَعْمَالَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَجَزَاءَهُمْ عَلَيْهَا، وَذَكَّرَهُمْ بِفَضْلِهِ، وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ شُكْرِهِ، بَيَّنَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ حَالَ الشَّاكِرِينَ الْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ لَهُمْ أَحْسَنُ الْجَزَاءِ فِي يَوْمِ الدِّينِ فَقَالَ: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ) افْتُتِحَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِكَلِمَةِ (أَلَا) لِلتَّنْبِيهِ وَتَوْجِيهِ الْفِكْرِ لَهَا، وَالْأَوْلِيَاءُ: جَمْعُ وَلِيٍّ وَهُوَ وَصْفٌ مِنَ الْوَلَاءِ وَالتَّوَالِي، وَمِنَ الْوِلَايَةِ وَالتَّوَلِّي، فَيُطْلَقُ عَلَى الْقَرِيبِ بِالنَّسَبِ وَبِالْمَكَانَةِ وَالصَّدَاقَةِ، وَعَلَى النَّصِيرِ، وَالْمُتَوَلِّي لِلْأَمْرِ وَالْحُكْمِ أَوْ عَلَى الْيَتِيمِ وَالْقَاصِرِ الْمُدَبِّرُ لِشُئُونِهِ، وَيُوصَفُ بِهِ الْعَبْدُ وَالرَّبُّ تَعَالَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) (٢: ٢٥٧) وَفَصَّلْنَا الْكَلَامَ فِي تَفْسِيرِهِ
340
بِمَا بَيَّنَّا بِهِ وِلَايَةَ اللهِ الْعَامَّةَ وَالْخَاصَّةَ لِعِبَادِهِ، وَوِلَايَتَهُمْ لَهُ، أَوْ لِلشَّيْطَانِ وَالطَّاغُوتِ، وَوِلَايَةَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَضَلَالِ بَعْضِهِمْ بِجَعْلِ وِلَايَةِ اللهِ الْخَاصَّةَ بِهِ لِبَعْضِ عِبَادِهِ، (وَهُمُ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمْ أَوْلِيَاءَ اللهِ بِمَا يَسْلُبُهُمُ اسْتِحْقَاقَ هَذَا اللَّقَبِ، وَذَكَرْنَا فِي شَوَاهِدِ ذَلِكَ التَّفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةَ.
أَوْلِيَاءُ اللهِ أَضْدَادُ أَعْدَائِهِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ، وَالْكَافِرِينَ بِنِعَمِهِ، فَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ كَمَا نَطَقَتْ بِهِ الْآيَةُ، وَهُمْ دَرَجَاتٌ أَعْلَاهُمْ دَرَجَةً هُمُ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَحُبِّهِ وَالْحُبِّ فِيهِ، وَالْوِلَايَةِ لَهُ، فَلَا يَتَّخِذُونَ لَهُ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ مِنْ نَوْعِ حُبِّهِ، وَلَا يَتَّخِذُونَ مِنْ دُونِهِ وَلِيًّا وَلَا شَفِيعًا يُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى، وَلَا وَكِيلًا وَلَا نَصِيرًا فِيمَا يَخْرُجُ عَنْ تَوْفِيقِهِمْ لِإِقَامَةِ سُنَنِهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، وَيَتَوَلَّوْنَ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٦: ٥١) وَقَالَ:
(مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) (٣٢: ٤) وَقَالَ: (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) (٣٣: ١٧) وَقَالَ فِي آيَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ مِنْهَا: (وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا) (٣٣: ٣، ٤٨) وَالْآيَاتُ كَثِيرَةٌ فِي تَوَلِّيهِمْ لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَتَوَلِّيهِ لَهُمْ بِالْهِدَايَةِ وَالْعِنَايَةِ وَالْإِعَانَةِ وَالنَّصْرِ وَالتَّوْفِيقِ.
وَحَسْبُنَا هُنَا مَا نَفَاهُ عَنْهُمْ وَمَا وَصَفَهُمْ بِهِ ثُمَّ مَا زَفَّهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْبِشَارَةِ، فَأَمَّا مَا نَفَاهُ مُخْبِرًا بِهِ عَنْهُمْ فَقَوْلُهُ: (لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) وَهُوَ مَا نَفَاهُ عَنْ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ وَالْمُصْلِحِينَ وَالْمُتَّقِينَ فِي الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ (رَاجِعْ ٢: ٦٢، ٥: ٦٩ و٦: ٤٨، ٧: ٣٥، ٤٩ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا) فَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ حَيْثُ يَتَحَقَّقُ هَذَا عَلَى أَتَمِّ وَجْهٍ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ فَلَا خَوْفَ يَقَعُ عَلَيْهِمْ وَيُرْهَقُونَ بِهِ مِمَّا يَخَافُ الْكُفَّارُ وَالْفُسَّاقُ وَالظَّالِمُونَ مِنْ أَهْوَالِ الْمَوْقِفِ وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ إِبْعَادِهِمْ عَنْ جَهَنَّمَ: (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) (٢١: ١٠٣) الْآيَةَ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا تَرَكُوا وَرَاءَهُمْ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلَا يَخَافُونَ مِمَّا يَخَافُ غَيْرُهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَضُعَفَاءِ الْإِيمَانِ وَعَبِيدِ الدُّنْيَا مِنْ مَكْرُوهٍ يُتَوَقَّعُ كَلِقَاءِ الْعَدُوِّ، قَالَ: (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٣: ١٧٥) أَوْ بَخْسٍ فِي الْحُقُوقِ أَوْ رَهَقٍ يَغْشَاهُمْ بِالظُّلْمِ وَالذُّلِّ، قَالَ: (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا) (٧٢: ١٣) (وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) مِنْ مَكْرُوهٍ أَوْ ذَهَابِ مَحْبُوبٍ وَقَعَ بِالْفِعْلِ كَمَا قَالَ: (لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ) (٥٧: ٢٣) وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَ فِي الدُّنْيَا كَخَوْفِ الْكُفَّارِ وَلَا يَحْزَنُونَ كَحُزْنِهِمْ، وَسَنَذْكُرُ نَفْيَ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ عَنْهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ وَأَمَّا أَصْلُ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ فَهُوَ مِنَ الْأَعْرَاضِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي لَا يَسْلَمُ مِنْهَا أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُونَ الصَّالِحُونَ أَصْبَرَ النَّاسِ وَأَرْضَاهُمْ بِسُنَنِ اللهِ، اعْتِقَادًا وَعِلْمًا بِأَنَّهُ إِذَا ابْتَلَاهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا يُخِيفُ أَوْ يُحْزِنُ فَإِنَّمَا يُرَبِّيهِمْ بِذَلِكَ لِتَكْمِيلِ نُفُوسِهِمْ وَتَمْحِيصِهَا بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ الَّذِي يَزْدَادُ بِهِ أَجْرُهُمْ كَمَا صَرَّحَتْ بِذَلِكَ الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ.
وَأَمَّا مَا وَصَفَهُمْ وَعَرَّفَهُمْ بِهِ فَقَوْلُهُ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) فَهَذَا اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ حَالِ هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءِ النَّفْسِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ. أَيْ هُمُ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمَلَكَةِ التَّقْوَى لَهُ عَزَّ
وَجَلَّ، وَمَا تَقْتَضِيهِ مِنْ عَمَلٍ. وَعَبَّرَ عَنْ إِيمَانِهِمْ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي لِبَيَانِ أَنَّهُ كَانَ كَامِلًا بِالْيَقِينِ، لَمْ يُزَلْزِلْهُ شَكٌّ وَلَمْ يَحْصُلْ بِالتَّدْرِيجِ، وَعَنْ تَقْوَاهُمْ بِالْفِعْلِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ لِأَنَّ التَّقْوَى تَتَجَدَّدُ دَائِمًا بِحَسَبِ مُتَعَلَّقَاتِهَا: مِنْ كَسْبٍ وَحَرْبٍ، وَشَهْوَةٍ وَغَضَبٍ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ فِيهَا أَنَّهَا اتِّقَاءُ كُلِّ مَا لَا يُرْضِي اللهَ تَعَالَى مِنْ تَرْكِ وَاجِبٍ وَمَنْدُوبٍ، وَفِعْلِ مُحَرَّمٍ وَمَكْرُوهٍ، وَاتِّقَاءِ مُخَالَفَةِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ مِنْ أَسْبَابِ الصِّحَّةِ وَالْقُوَّةِ وَالنَّصْرِ وَالْعِزَّةِ وَسِيَادَةِ الْأُمَّةِ. وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ أَهَمِّهَا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٨: ٢٩).
وَأَمَّا الْبُشْرَى الَّتِي زَفَّهَا إِلَيْهِمْ فَهِيَ قَوْلُهُ: (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) الْبُشْرَى: الْخَبَرُ السَّارُّ الَّذِي تَنْبَسِطُ بِهِ بَشَرَةُ الْوَجْهِ فَيَتَهَلَّلُ وَتَبْرُقُ أَسَارِيرُهُ. وَهَذِهِ الْبُشْرَى مُبَيَّنَةٌ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ يُرَادُ بِهَا مُتَعَلِّقُهَا الَّذِي يُبَشَّرُونَ بِهِ، وَلَمْ يُذْكَرْ هُنَا لِيَشْمَلَ كُلَّ مَا بُشِّرُوا بِهِ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَمَّا الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَأَهُمُّهَا الْبِشَارَةُ بِالنَّصْرِ، وَبِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ فِي كُلِّ أَمْرٍ، وَبِاسْتِخْلَافِهِمْ فِي الْأَرْضِ مَا أَقَامُوا شَرْعَ اللهِ وَسُنَنَهُ، وَنَصَرُوا دِينَهُ وَأَعْلَوْا كَلِمَتَهُ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَمِنْ أَكْمَلِهَا وَأَجْمَعِهَا لِمَعَانِي الْآيَةِ لِأَكْمَلِهِمْ قَوْلُهُ: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (٤١: ٣٠ - ٣٢) الْمَشْهُورُ فِي تَنَزُّلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ يَكُونُ عِنْدَ الْبَعْثِ، وَكَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ شُمُولِهِ لِمَا فِي الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ أَمَدَّ بِهِمْ أَصْحَابَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ: (وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ (٨: ١٠) الْآيَةَ. ثُمَّ قَالَ: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) (٨: ١٢) وَقَدْ يَكُونُ مِنْهُ إِلْهَامُ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا عِنْدَ
التِّرْمِذِيَّ وَالنَّسَائِيِّ ((إِنْ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلِكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلِكِ فَإِيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللهِ فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ الْأُخْرَى فَيَتَعَوَّذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ)).
(لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ) أَيْ لَا تَغْيِيرَ وَلَا خُلْفَ فِي مَوَاعِيدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمِنْهَا هَذِهِ الْبِشَارَاتُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ (ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذُكِرَ مِنَ الْبُشْرَى بِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يَعْلُوهُ فَوْزٌ وَإِنَّمَا هُوَ ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ الْحَقِّ، وَالتَّقْوَى الْعَامَّةُ فِي حُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ الْخَلْقِ.
342
مَا وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ فِي الْأَوْلِيَاءِ:
ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ بَعْضَ الْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهَا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ مُتَّصِلُ الْإِسْنَادِ، وَأَقْرَبُ مَا رَوَوْهُ فِي تَفْسِيرِهَا إِلَى اصْطِلَاحِهِمْ فِي الْأَوْلِيَاءِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمَرْفُوعُ: ((إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ عِبَادًا يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ)) قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ ((هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا فِي اللهِ مِنْ غَيْرِ أَمْوَالٍ وَلَا أَنْسَابٍ، وُجُوهُهُمْ نُورٌ، عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ)) ثُمَّ قَرَأَ: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦٢) أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ شَيْخِهِ أَبِي هِشَامٍ الرِّفَاعِيِّ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ كَثِيرٍ الْعِجْلِيُّ الْكُوفِيُّ، قَالَ الْبُخَارِيُّ: رَأَيْتُهُمْ مُجْمِعِينَ عَلَى ضَعْفِهِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِمِثْلِ سَنَدِ ابْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ عَنْهُ إِلَّا أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ بَيْنَ أَبِي زُرْعَةَ وَعَمْرٍو، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَلَمْ أَرَهُ فِي تَفْسِيرِ السُّورَةِ مِنَ الْمُسْتَدْرَكِ وَمَا كُلُّ مَا صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ بِصَحِيحٍ، وَمَتْنُ هَذَا الْحَدِيثِ مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، مُوَافِقٌ لِقَوْلِ بَعْضِ أَوْلِيَاءِ الشَّيَاطِينِ: إِنَّ الْوَلِيَّ أَفْضَلُ مِنَ النَّبِيِّ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ وِلَايَةَ النَّبِيِّ أَفْضَلُ مِنْ نُبُوَّتِهِ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ شَيْطَانِيٌّ.
وَمِثْلُهُ حَدِيثُ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا ((يَأْتِي مِنْ أَفْنَاءِ النَّاسِ وَنَوَازِعِ الْقَبَائِلِ قَوْمٌ لَمْ تَتَّصِلْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ مُتَقَارِبَةٌ، تَحَابُّوا فِي اللهِ، وَتَصَافَوْا فِي اللهِ، يَضَعُ
اللهُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ فَيُجْلِسُهُمْ عَلَيْهَا، يَفْزَعُ النَّاسُ وَلَا يَفْزَعُونَ، وَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللهِ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)) وَالْحَدِيثُ مُطَوَّلٌ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقٍ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، وَفِيهِ مَقَالٌ لَهُمْ أَهْوَنُهُ مَا اكْتَفَى بِهِ الْحَافِظُ فِي التَّقْرِيبِ وَهُوَ أَنَّهُ صَدُوقٌ كَثِيرُ الْإِرْسَالِ وَالْأَوْهَامِ، وَذَكَرَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ: أَنَّهُ مِمَّا قِيلَ فِيهِ إِنَّهُ يَرْوِي الْمُنْكَرَاتِ عَنِ الثِّقَاتِ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ هُوَ سَاقِطٌ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: ضَعِيفٌ جِدًّا.
وَوَرَدَ عِدَّةُ رِوَايَاتٍ مَرْفُوعَةٍ وَآثَارٌ فِي تَفْسِيرِ الْبُشْرَى فِي الدُّنْيَا بِالرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ، يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوِ الْمُؤْمِنُ أَوْ تُرَى لَهُ. وَعَلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمُجَاهِدٌ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَيَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَعَطَاءُ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ مِنَ التَّابِعِينَ وَغَيْرُهُمْ وَفَسَّرَهَا بَعْضُهُمْ بِآيَةِ ((حَمِ)) السَّجْدَةِ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا آنِفًا مَعَ تَفْسِيرِهَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ هُمُ الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا ذُكِرَ اللهُ لِرُؤْيَتِهِمْ وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ مَرْفُوعًا وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُمَا قَالَا: إِذَا لَمْ يَكُنِ الْعُلَمَاءُ أَوْلِيَاءَ اللهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِيٌّ، قَالَ النَّوَوِيُّ وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ. فَهَذِهِ خُلَاصَةُ الرِّوَايَاتِ فِي الْآيَةِ.
وَإِنَّنَا لَمْ نَرَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي الْأَوْلِيَاءِ مَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى كَلَامِ الصُّوفِيَّةِ مِنْهُ إِلَى
343
كَلَامِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا حَدِيثَ: ((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِحَرْبٍ)) إِلَخْ. وَقَدِ انْفَرَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ وَفِي سَنَدِهِ غَرَابَةٌ كَمَتْنِهِ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: هَذَا الْحَدِيثُ تَفَرَّدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ دُونَ بَقِيَّةِ أَصْحَابِ الْكُتُبِ، خَرَّجَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ كَرَامَةَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدٍ - إِلَى أَنْ قَالَ - وَهُوَ مِنْ غَرَائِبِ الصَّحِيحِ، تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ كَرَامَةَ عَنْ خَالِدٍ وَلَيْسَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مَعَ أَنَّ خَالِدَ بْنَ مَخْلَدٍ الْقَطْوَانِيَّ تَكَلَّمَ فِيهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ وَقَالُوا لَهُ مَنَاكِيرُ (ثُمَّ قَالَ) وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ لَا تَخْلُو كُلُّهَا مِنْ مَقَالٍ. وَذَكَرَ الْحَافِظُ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ اخْتِلَافًا فِي أَئِمَّةِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ فِي خَالِدٍ، وَمِنْهُ تَصْرِيحُ جَمَاعَةٍ بِرِوَايَتِهِ لِلْمَنَاكِيرِ وَمِنْهُ: فِي (الْمِيزَانِ) لِلذَّهَبِيِّ قَالَ: أَبُو حَاتِمٍ يُكْتَبُ حَدِيثُهُ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَقَالَ الْأَزْدِيُّ: فِي حَدِيثِهِ بَعْضُ الْمَنَاكِيرِ وَهُوَ عِنْدَنَا فِي عِدَادِ أَهْلِ الصِّدْقِ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ سَعْدٍ: كَانَ مُنْكَرَ الْحَدِيثِ مُتَشَيِّعًا
مُفْرِطًا فِي التَّشَيُّعِ وَكَتَبُوا عَنْهُ لِلضَّرُورَةِ، وَذَكَرَ بَعْضَ هَذَا الْجُرْحِ وَغَيْرَهُ فِي مُقَدِّمَةِ (فَتْحِ الْبَارِي) وَأَجَابَ عَنْهُ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ التَّشَيُّعَ لَا يَضُرُّ مِثْلَهُ، وَأَمَّا الْمَنَاكِيرُ فَقَدْ تَتَبَّعَهَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِهِ وَأَوْرَدَهَا فِي كَامِلِهِ وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِمَّا أَخْرَجَهُ لَهُ الْبُخَارِيُّ (قَالَ) بَلْ لَمْ أَرَ لَهُ عِنْدَهُ مِنْ أَفْرَادِهِ سِوَى حَدِيثٍ وَاحِدٍ وَهُوَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: ((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا)) الْحَدِيثَ اهـ.
(أَقُولُ) وَأَمَّا الْغَرَابَةُ فِي مَتْنِ هَذَا الْحَدِيثِ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ((وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ)) إِلَى آخَرِ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ، وَقَدْ أَوَّلَهُ الْعُلَمَاءُ وَبَيَّنْتُ أَمْثِلَةَ تَأْوِيلٍ لَهُ عِنْدِي فِي الْكَلَامِ عَلَى حُبِّ اللهِ تَعَالَى مِنْ تَفْسِيرِ (٩: ٢٤ ص ٢١٤ ج ١٠ ط الْهَيْئَةِ) فَرَاجِعْهُ يُغْنِكَ عَنْ ذِكْرِهِ كُلِّهِ هُنَا.
(أَوْلِيَاءُ الْخَيَالِ وَأَوْلِيَاءُ الطَّاغُوتِ وَالشَّيْطَانِ)
ذَلِكَ مَا فَسَّرْنَا بِهِ الْآيَتَيْنِ بِشَوَاهِدَ مِمَّا فِي مَعْنَاهُمَا مِنَ الْآيَاتِ، وَالْقُرْآنُ خَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ وَأَصَحُّهُ، وَكُلُّ مَا خَالَفَهُ وَخَرَجَ عَنْهُ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَعَزَّرْنَاهُ بِأَمْثَلِ مَا رُوِيَ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ فِيهِمَا، فَأَوْلِيَاءُ اللهِ الَّذِينَ يَشْهَدُ لَهُمْ كِتَابُهُ بِالْوِلَايَةِ لَهُ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الصَّالِحُونَ الْمُتَّقُونَ، وَلَكِنِ اشْتُهِرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ عَصْرِ السَّلَفِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ عَالَمٌ خَيَالِيٌّ غَيْرُ مَعْقُولٍ، لَهُمْ مِنَ الْخَصَائِصِ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ، وَالتَّصَرُّفِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَوْقَ كُلِّ مَا وَرَدَ فِي كِتَابِ اللهِ وَأَخْبَارِ رَسُولِهِ الصَّادِقَةِ فِي أَنْبِيَاءِ اللهِ الْمُرْسَلِينَ، بَلْ فَوْقَ كُلِّ مَا وَصَفَ بِهِ جَمِيعُ الْوَثَنِيِّينَ آلِهَتَهُمْ وَأَرْبَابَهُمُ الَّتِي اتَّخَذُوهَا مِنْ دُونِ اللهِ، وَيَنْقُلُونَ مِثْلَ هَذِهِ الدَّعَاوَى عَنْ بَعْضِ مَنِ اشْتُهِرُوا بِالْوِلَايَةِ مِمَّنْ لَهُمْ ذِكْرٌ فِي التَّارِيخِ، وَمَنْ لَا ذِكْرَ لَهُمْ إِلَّا فِي كُتُبِ الْأَدْعِيَاءِ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ بِهِمْ، مِمَّنْ يُسَمَّوْنَ بِالْمُتَصَوِّفَةِ وَأَهْلِ الطَّرِيقِ، يَنْقُلُونَ عَنْهُمْ مَا يُؤَيِّدُونَ بِهِ مَزَاعِمَهُمُ الْخُرَافِيَّةَ الشِّرْكِيَّةَ كَمَا تَرَى فِيمَا نَنْقُلُهُ مِنَ الشَّوَاهِدِ الْآتِيَةِ:
وَلَئِنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مُنْكِرٌ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِكِتَابِ رَبِّهِمْ وَحَدِيثِ نَبِيِّهِمْ مُفَسِّرٌ أَوْ مُحَدِّثٌ
344
لَيَقُولُنَّ هَذَا ضَالٌّ مُضِلٌّ مُنْكِرٌ لِلْكَرَامَاتِ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ وَقَرَءُوا عَلَيْهِ (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦٢) وَهَلْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢: ٦٢) وَغَيْرِهِ مِمَّا أَوْرَدْنَا مِنَ الشَّوَاهِدِ آنِفًا، نَعَمْ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ دَرَجَاتٌ أَشَرْنَا آنِفًا إِلَى أَدْنَاهَا وَأَعْلَاهَا، وَفَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِيهِمْ فِي الْكَلَامِ عَلَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ مِنْ تَفْسِيرِ (٩: ٢٤).
هَذِهِ الْوِلَايَةِ الْخَيَالِيَّةِ الْمُبْتَدَعَةِ مِنْ مُحْدَثَاتِ الصُّوفِيَّةِ أَلْبَسُوهَا أَوَّلًا ثَوْبَ الشَّرِيعَةِ وَجَعَلُوا لِلشَّرِيعَةِ مُقَابِلًا سَمَّوْهُ الْحَقِيقَةَ، ثُمَّ صَارُوا يُلْبِسُونَهَا عَلَيْهَا لَبْسًا، وَيَبْعُدُونَ بِهَا عَنْهَا مَعْنًى وَحِسًّا بِقَدْرِ مَا يَبْعُدُونَ عَنِ الِاتِّبَاعِ، وَيُوغِلُونَ فِي الِابْتِدَاعِ، وَاعْتَبِرْ فِي ذَلِكَ بِسِيرَةِ سَلَفِهِمُ الْأَوَّلِينَ كَالْحَارِثِ الْمُحَاسَبِيِّ وَالسَّرِيِّ السَّقَطِيِّ وَمَنْصُورِ بْنِ عَمَّارٍ وَالْجُنَيْدِ وَالشِّبْلِيِّ وَجُمْهُورِ رِجَالِ رِسَالَةِ الْقُشَيْرِيِّ، وَمِثْلِ أَبِي إِسْمَاعِيلَ الْهَرَوِيِّ وَسِيرَةِ مَنْ بَعْدَهُمْ، فَإِنَّ أَكْثَرَ أُولَئِكَ قَدْ رَوَوُا الْحَدِيثَ وَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، وَكَانُوا يَتَحَرَّوْنَ الِاعْتِصَامَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيَحْذَرُونَ وَيُحَذِّرُونَ أَتْبَاعَهُمْ مِنَ الْبِدَعِ، وَيَحُثُّونَ عَلَى اتِّبَاعِ السَّلَفِ، مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ وَأَئِمَّةِ آلِ الْبَيْتِ وَحُفَّاظِ السُّنَّةِ وَعُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ كَالْأَرْبَعَةِ وَطَبَقَتِهِمْ، وَلَوْلَا هَذَا لَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غُلَاةِ مُتَصَوِّفَةِ الْقُرُونِ الْوُسْطَى وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ وَالدَّجَّالِينَ أَصْحَابِ الدَّعَاوَى الْعَرِيضَةِ وَالْخُرَافَاتِ الشَّنِيعَةِ مِثْلُ مَا بَيْنَ صُوفِيَّةِ الْبُرْهُمِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَكِتَابِهِمُ (الْفِيدَا) وَكِتَابِهِ الْقُرْآنِ.
أَمْرِرْ بِبَصَرِكَ عَلَى طَبَقَاتِ الشَّعَرَانِيِّ الْكُبْرَى، فَإِنَّكَ لَا تَرَى فِيهَا فَرْقًا كَبِيرًا بَيْنَ سِيرَةِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَأَئِمَّةِ التَّصَوُّفِ فِي الْعِبَادَةِ وَالتَّقْوَى وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ ثُمَّ انْظُرْ فِي سِيرَةِ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ صُوفِيَّةِ الْقُرُونِ الْوُسْطَى ثُمَّ قَرْنِ الْمُؤَلِّفِ وَهُوَ الْعَاشِرُ وَتَأَمَّلْ وَوَازِنْ تَرَ فِي أَوْلِيَاءِ الشَّعَرَانِيِّ الْمَجَانِينَ وَالْمُجَّانَ وَالْقَذِرِينَ الَّذِينَ تَتَنَاثَرُ الْحَشَرَاتُ مِنْ رُءُوسِهِمْ وَلِحَاهُمْ وَثِيَابِهِمُ الَّتِي لَا يَغْسِلُونَهَا حَتَّى تَبْلَى أَوْ فِي السَّنَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً تَجِدْ ذَلِكَ الْبَوْنَ الشَّاسِعَ فِيهِمْ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُفَضِّلُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي الِاتِّحَادَ بِاللهِ أَوِ الْأُلُوهِيَّةَ.
تَأَمَّلْ مَا كَتَبَهُ فِي تَرْجَمَةِ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمُ الْأَقْطَابَ الْأَرْبَعَةَ، فَإِنَّكَ لَا تَجِدُ فِيهِ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ كَانَ يَنْفَعُ النَّاسَ بِعُلُومِ الشَّرْعِ إِلَّا الشَّيْخَ عَبْدَ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيَّ، وَتَجِدُ أَنَّ الشَّيْخَ أَحْمَدَ الرِّفَاعِيَّ كَانَ يُوَبِّخُهُ عُلَمَاءُ عَصْرِهِ، وَيُخَاطِبُونَهُ بِلَقَبِ الدَّجَّالِ وَيَرْمُونَهُ
بِالْجَمْعِ بَيْنَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ وَأَمَّا الدُّسُوقِيُّ فَكَتَبَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِالْعَجَمِيِّ وَالسُّرْيَانِيِّ وَالْعِبْرَانِيِّ وَالزَّنْجِيِّ وَسَائِرِ لُغَاتِ الطُّيُورِ وَالْوُحُوشِ، وَنَقَلَ عَنْهُ كِتَابًا مِنْ هَذِهِ اللُّغَاتِ أَرْسَلَهُ إِلَى أَحَدِ مُرِيدِيهِ، وَهُوَ خَلْطٌ مُخْتَرَعٌ لَيْسَ مِنْهَا فِي شَيْءٍ وَسَلَامًا مِثْلَهُ أَرْسَلَهُ مَعَ أَحَدِ الْحُجَّاجِ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
345
مِنْهُ قَوْلُهُ: ((موز الرموز، عموز النهوز، سلاحات أفق، فردنانية امق، شوامق اليرامق حيد وفرقيد وفرغاط الْأَسْبَاط، إِلَخْ، فَمَا مَعْنَى هَذَا وَأَيُّ فَائِدَةٍ لِلنَّاسِ فِيهِ؟.
وَنَقَلَ عَنْهُ كَلَامًا مِنَ الْمَعْهُودِ مِنْ أَمْثَالِهِ الصُّوفِيَّةِ مِنْهُ النَّافِعُ وَالضَّارُّ، فَمِنَ الْحَقِّ النَّافِعِ مَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ تَغْلِبْ عَلَيْهِمُ الْأَحْوَالُ لَمَا قَالُوا فِي التَّفْسِيرِ إِلَّا صَحِيحَ الْمَأْثُورِ، وَمِنَ الضَّارِّ الَّذِي أَفْسَدَ عَلَى الْمُصَدِّقِينَ بِوِلَايَةِ هَؤُلَاءِ النَّاسِ دِينَهُمْ وَهُوَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ قَوْلُهُ: وَكَانَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يَقُولُ: أَنَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مُنَاجَاتِهِ، أَنَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فِي حَمَلَاتِهِ أَنَا كُلُّ وَلِيٍّ فِي الْأَرْضِ خَلَقْتُهُ بِيَدَيَّ، أُلْبِسُ مِنْهُمْ مَنْ شِئْتُ، أَنَا فِي السَّمَاءِ شَاهَدْتُ رَبِّي وَعَلَى الْكُرْسِيِّ خَاطَبْتُهُ أَنَا بِيَدِيَّ أَبْوَابُ النَّارِ غَلَّقْتُهَا، وَبِيَدِيَّ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ فَتَّحْتُهَا، مَنْ زَارَنِي أَسْكَنْتُهُ جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ إِلَخْ، وَقَوْلُهُ وَهُوَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ:
(وَاعْلَمْ يَا وَلَدِي أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ مُتَّصِلُونَ بِاللهِ، وَمَا كَانَ وَلِيٌّ مُتَّصِلٌ بِاللهِ إِلَّا وَهُوَ يُنَاجِي رَبَّهُ كَمَا كَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يُنَاجِي رَبَّهُ، وَمَا مِنْ وَلِيٍّ إِلَّا وَهُوَ يَحْمِلُ عَلَى الْكُفَّارِ كَمَا كَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يَحْمِلُ، وَقَدْ كُنْتُ أَنَا وَأَوْلِيَاءُ اللهِ أَشْيَاخًا فِي الْأَزَلِ، بَيْنَ يَدَيْ قَدِيمِ الْأَزَلِ، وَبَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَنِي مِنْ نُورِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَمَرَنِي أَنْ أَخْلَعَ عَلَى جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ بِيَدِي فَخَلَعْتُ عَلَيْهِمْ بِيَدِي، وَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا إِبْرَاهِيمُ أَنْتَ نَقِيبٌ عَلَيْهِمْ فَكُنْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخِي عَبْدُ الْقَادِرِ خَلْفِي وَابْنُ الرِّفَاعِيِّ خَلْفَ عَبْدِ الْقَادِرِ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ لِي: ((يَا إِبْرَاهِيمُ سِرْ إِلَى مَالِكٍ وَقُلْ لَهُ يُغْلِقِ النِّيرَانَ، وَسِرْ إِلَى رَضْوَانَ وَقُلْ لَهُ يَفْتَحُ الْجِنَانَ، فَفَعَلَ مَالِكٌ مَا أُمِرَ بِهِ، وَرَضْوَانَ مَا أُمِرَ بِهِ)) إِلَخْ وَلَهُ مَا هُوَ أَغْرَبُ مِنْهُ.
وَذَكَرَ الشَّعَرَانِيُّ أَنَّهُ أَطَالَ فِي هَذَا الْكَلَامِ وَهُوَ مِنْ مَقَامِ الِاسْتِطَالَةِ، تُعْطِي
الرُّتْبَةُ صَاحِبَهَا أَنْ يَنْطِقَ بِمَا يَنْطِقُ بِهِ، وَقَدْ سَبَقَهُ إِلَى نَحْوِ ذَلِكَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْجِيلِيُّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَغَيْرُهُ فَلَا يَنْبَغِي مُخَالَفَتُهُ إِلَّا بِنَصٍّ صَرِيحٍ اهـ.
وَنَقُولُ: إِنَّ مُثْبِتَ هَذِهِ الدَّعَاوَى الْمُنْكَرَةَ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ مِنْ شُئُونِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَلَائِكَتِهِ وَأَكْرَمِ رُسُلِهِ وَجَنَّتِهِ وَنَارِهِ، هُوَ الَّذِي يَحْتَاجُ فِي إِثْبَاتِهِ إِلَى النَّصِّ الصَّرِيحِ دُونَ مُنْكِرِهِ فَإِنَّهُ يَتْبَعُ الْأَصْلَ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ، وَسَنَذْكُرُ مَا انْتَهَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ الدَّعَاوَى فِي إِفْسَادِ الدِّينِ، وَإِضْلَالِ الْمَلَايِينِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
جَاءَ فِي كُتُبِ الرِّفَاعِيَّةِ أَنَّ الشَّيْخَ أَحْمَدَ الرِّفَاعِيَّ مَسَّ بِيَدِهِ سَمَكَةً، فَأَرَادُوا شَيَّهَا بِالنَّارِ فَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهَا النَّارُ. فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: وَعَدَنِي الْعَزِيزُ أَنَّ كُلَّ مَا لَمَسَتْهُ يَدُ هَذَا اللَّاشِ حَمِيدٌ لَا تَحْرِقُهُ النَّارُ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَجَاءَ فِيهَا أَنَّ سَيِّدِي أَحْمَدَ الرِّفَاعِيَّ كَانَ يُمِيتُ وَيُحْيِي
346
وَيُسْعِدُ وَيُشْقِي، وَيُفْقِرُ وَيُغْنِي، وَأَنَّهُ وَصَلَ إِلَى مَقَامٍ صَارَتِ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ فِي رِجْلِهِ كَالْخَلْخَالِ وَفِي الْبَهْجَةِ الرِّفَاعِيَّةِ أَنَّ سَيِّدَهُمْ أَحْمَدَ الرِّفَاعِيَّ بَاعَ بُسْتَانًا فِي الْجَنَّةِ لِبَعْضِ النَّاسِ وَذَكَرَ لَهُ حُدُودًا أَرْبَعَةً. وَقَدْ نَقَلْتُ هَذَا وَمَا قَبْلَهُ فِي كِتَابِي (الْحِكْمَةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي مُحَاكَمَةِ الْقَادِرِيَّةِ وَالرِّفَاعِيَّةِ).
وَجَاءَ فِي بَعْضِ كُتُبِ مَنَاقِبِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلِيِّ أَنَّهُ مَاتَ بَعْضُ مُرِيدِيهِ، فَشَكَتْ إِلَيْهِ أُمُّهُ وَبَكَتْ فَرَقَّ لَهَا فَطَارَ وَرَاءَ مَلَكِ الْمَوْتِ فِي الْمَسَاءِ وَهُوَ صَاعِدٌ إِلَى السَّمَاءِ يَحْمِلُ فِي زِنْبِيلٍ مَا قَبَضَ مِنَ الْأَرْوَاحِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُعْطِيَهُ رُوحَ مُرِيدِهِ أَوْ أَنْ يَرُدَّهَا إِلَيْهِ فَامْتَنَعَ، فَجَذَبَ الزِّنْبِيلَ مِنْهُ فَأَفْلَتَ فَسَقَطَ جَمِيعُ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْأَرْوَاحِ فَذَهَبَتْ كُلُّ رُوحٍ إِلَى جَسَدِهَا، فَصَعِدَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى رَبِّهِ وَشَكَا لَهُ مَا فَعَلَهُ عَبْدُ الْقَادِرِ فَأَجَابَهُ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ بِمَا امْتَنَعْنَا مِنْ نَقْلِهِ، إِذْ نَقَلْنَا هَذِهِ الْخُرَافَةَ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمُجَلَّدِ التَّاسِعِ مِنَ الْمَنَارِ تَنْزِيهًا وَأَدَبًا مَعَ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ.
وَنَقَلْنَا ثَمَّ أَنَّ خَطِيبًا خَطَبَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْهِنْدَ ذَاكِرًا مَنَاقِبَ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ فَقَالَ إِنَّ حِدَأَةً خَطَفَتْ قِطْعَةَ لَحْمٍ مِمَّا ذُبِحَ لِلشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ فِي مَوْلِدِهِ - كَمَا كَانُوا يَذْبَحُونَ لِلْأَصْنَامِ - فَوَقَعَتْ عَظْمَتُهَا فِي مَقْبَرَةٍ فَغَفَرَ اللهُ تَعَالَى لِجَمِيعِ مَنْ دُفِنَ فِيهَا كَرَامَةً لِلشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ، وَيَا وَيْلَ مَنْ يُنْكِرُ أَمْثَالَ هَذِهِ الْخُرَافَاتِ فَيُسْتَهْدَفُ لِرَمْيِهِ بِمُخَالَفَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى
(أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١٠: ٦٢) وَإِنْكَارِ الْكَرَامَاتِ وَقَوْلِ اللَّقَانِيِّ:
وَأَثْبِتَنْ لِلْأَوْلِيَا الْكَرَامَهْ وَمَنْ نَفَاهَا فَانْبِذَنْ كَلَامَهُ
وَمِنْ هَذِهِ الْكَرَامَاتِ بِزَعْمِهِمْ ادِّعَاءُ الْوَحْيِ وَلَا يُنَافِيهَا عِنْدَهُمْ مُعَارَضَةُ الْقُرْآنِ وَعِبَادَةُ الشَّيْطَانِ وَعِلْمُ الْغَيْبِ، وَمِلْكُ النَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَتَدْبِيرُ الْأَمْرِ، وَتَرْكُ الْفَرَائِضِ وَارْتِكَابُ الْفَوَاحِشِ ; لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ مِنْ أَوْلِيَائِهِمْ إِلَّا صُورِيَّةً لِمَصْلَحَةٍ وَكَذَا الْكُفْرُ الصَّرِيحُ كَمَا تَرَى فِي الشَّوَاهِدِ الْآتِيَةِ:
(الشَّاهِدُ الْأَوَّلُ كَرَامَاتُ وَلِيٍّ شَيْطَانِيٍّ مُوَحِّدِ أُلُوهِيَّةِ إِبْلِيسَ).
قَالَ الشَّعَرَانِيُّ فِي تَرْجَمَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْحَضَرِيِّ: ((كَانَ مِنْ أَصْحَابِ جَدِّي - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -، وَكَانَ يَتَكَلَّمُ بِالْغَرَائِبِ وَالْعَجَائِبِ مِنْ دَقَائِقِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ مَا دَامَ صَاحِيًا، فَإِذَا قَوِيَ عَلَيْهِ الْحَالُ تَكَلَّمَ بِأَلْفَاظٍ لَا يُطِيقُ أَحَدٌ سَمَاعَهَا فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ يُرَى فِي كَذَا كَذَا بَلَدًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَأَخْبَرَنِي الشَّيْخُ أَبُو الْفَضْلِ السَّرَسِيُّ أَنَّهُ جَاءَهُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَسَأَلُوهُ الْخُطْبَةَ فَقَالَ: بِسْمِ اللهِ فَطَلَعَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَجَّدَهُ ثُمَّ قَالَ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ لَكُمْ إِلَّا إِبْلِيسُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. فَقَالَ النَّاسُ: كَفَرَ، فَسَلَّ السَّيْفَ وَنَزَلَ فَهَرَبَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مِنَ الْجَامِعِ فَجَلَسَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ إِلَى أَذَانِ الْعَصْرِ، وَمَا تَجَرَّأَ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ الْجَامِعَ، ثُمَّ جَاءَ بَعْضُ أَهْلِ الْبِلَادِ الْمُجَاوِرَةِ فَأَخْبَرَ أَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ أَنَّهُ خَطَبَ عِنْدَهُمْ وَصَلَّى بِهِمْ، قَالَ فَعَدَدْنَا لَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ ثَلَاثِينَ خُطْبَةً، هَذَا وَنَحْنُ نَرَاهُ جَالِسًا عِنْدَنَا فِي بَلَدِنَا.
347
((وَأَخْبَرَنِي الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْقَلَعِيُّ أَنَّ السُّلْطَانَ قَايْتَبَايْ كَانَ إِذَا رَآهُ قَاصِدًا لَهُ تَحَوَّلَ وَدَخَلَ الْبَيْتَ خَوْفًا أَنْ يَبْطِشَ بِهِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ، وَكَانَ إِذَا أَمْسَكَ أَحَدًا يُمْسِكُهُ مِنْ لِحْيَتِهِ وَيَصِيرُ يَبْصُقُ عَلَى وَجْهِهِ وَيَصْفَعُهُ حَتَّى يَبْدُوَ لَهُ إِطْلَاقُهُ، وَكَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَكْبَرُ النَّاسِ أَنْ يَذْهَبَ حَتَّى يَفْرَغَ مِنْ ضَرْبِهِ، وَكَانَ يَقُولُ: لَا يَكْمُلُ الرَّجُلُ حَتَّى يَكُونَ مَقَامُهُ تَحْتَ الْعَرْشِ عَلَى الدَّوَامِ، وَكَانَ يَقُولُ الْأَرْضُ بَيْنَ يَدَيَّ كَالْإِنَاءِ الَّذِي آكُلُ مِنْهُ، وَأَجْسَادُ الْخَلَائِقِ كَالْقَوَارِيرِ أَرَى مَا فِي بَوَاطِنِهِمْ، تُوُفِّيَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - سَنَةَ سَبْعٍ وَتِسْعِينَ وَثَمَانِمَائَةٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - اهـ. ص ٩٤ ج ٢ طَبَقَاتٍ.
(أَقُولُ) لَوْلَا أَنَّ سُلْطَانَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مَجْنُونٌ بِالْخُرَافَاتِ مِثْلُهُمْ، لَمَا كَانَ لِمِثْلِ هَذَا الْمَجْنُونِ مَأْوًى إِلَّا الْبِيمَارَسْتَانُ يَكُفُّ كُفْرَهُ وَشَرَّهُ عَنْهُمْ.
(الشَّاهِدُ الثَّانِي كَرَامَةُ وَلِيِّ الْعَاهِرَاتِ وَالزُّنَاةِ الْفَاعِلِ بِالْأَتَانِ)
قَالَ فِي تَرْجَمَةِ مَنْ سَمَّاهُ (سَيِّدِي عَلِيُّ وَحِيشٍ مِنْ مَجَاذِيبِ النِّحَارِيَّةِ) كَانَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) مِنْ أَعْيَانِ الْمَجَاذِيبِ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ، وَكَانَ يَأْتِي مِصْرَ وَالْمَحَلَّةَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْبِلَادِ وَلَهُ كَرَامَاتٌ وَخَوَارِقُ، وَاجْتَمَعْتُ بِهِ يَوْمًا فِي خَطٍّ بَيْنَ الْقَصْرَيْنِ فَقَالَ لِي: وَدِّينِي لِلزَّلَبَانِيِّ فَوَدَّيْتُهُ لَهُ فَدَعَا لِي وَقَالَ: اللهُ يُصَبِّرُكَ عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْكَ مِنَ الْبَلْوَى. وَأَخْبَرَنِي الشَّيْخُ مُحَمَّدٌ الطَّنِيخِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى قَالَ: كَانَ الشَّيْخُ وَحِيشٌ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) يُقِيمُ عِنْدَنَا فِي الْمَحَلَّةِ فِي خَانِ بَنَاتِ الْخَطَأِ (أَيِ الْعَاهِرَاتِ) وَكَانَ كُلُّ مَنْ خَرَجَ يَقُولُ لَهُ قِفْ حَتَّى أَشْفَعَ فِيكَ عِنْدَ اللهِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ، فَيَشْفَعُ فِيهِ، وَكَانَ يَحْبِسُ بَعْضَهُمُ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَخْرُجَ حَتَّى يُجَابَ فِي شَفَاعَتِهِ، وَقَالَ يَوْمًا لِبَنَاتِ الْخَطَأِ: اخْرُجُوا فَإِنَّ الْخَانَ رَائِحٌ يُطْبِقُ عَلَيْكُمْ فَمَا سَمِعَ مِنْهُنَّ إِلَّا وَاحِدَةً فَخَرَجَتْ وَوَقَعَ عَلَى الْبَاقِي فَمِتْنَ كُلُّهُنَّ، وَكَانَ إِذَا رَأَى شَيْخَ بَلَدٍ أَوْ غَيْرَهُ يُنْزِلُهُ مِنْ عَلَى الْحِمَارَةِ وَيَقُولُ لَهُ امْسِكْ رَأْسَهَا حَتَّى أَفْعَلَ فِيهَا: فَإِنْ أَبَى شَيْخُ الْبَلَدِ تَسَمَّرَ فِي الْأَرْضِ لَا يَسْتَطِيعُ يَمْشِي خُطْوَةً، وَإِنْ سَمَحَ حَصَلَ لَهُ خَجَلٌ عَظِيمٌ وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ، وَكَانَ لَهُ أَحْوَالٌ غَرِيبَةٌ، وَقَدْ أَخْبَرْتُ عَنْهُ سَيِّدِي مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَقَالَ: هَؤُلَاءِ يُخَيِّلُونَ لِلنَّاسِ هَذِهِ الْأَفْعَالَ وَلَيْسَ لَهَا حَقِيقَةٌ)) اهـ. (ص ١٢٩ مِنْهُ) وَوِلَايَةُ هَذَا الْمَجْنُونِ أَنَّهُ قَوَّادٌ لِلْعَاهِرَاتِ بِضَمَانِهِ الْمَغْفِرَةَ لِمَنْ يَفْجُرُ بِهِنَّ بِشَفَاعَتِهِ، وَأَضَلُّ مِنْهُ عُلَمَاءُ الْخُرَافَاتِ الْمُدَّعُونَ لِكَرَامَتِهِ.
(الشَّاهِدُ الثَّالِثُ وِلَايَةُ مَجْنُونٍ مُعَارِضٍ لِلْقُرْآنِ بِالْكُفْرِ وَالْهَذَيَانِ)
قَالَ فِي تَرْجَمَةِ الشَّيْخِ شَعْبَانَ الْمَجْذُوبِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّصْرِيفِ بِمِصْرَ الْمَحْرُوسَةِ وَنَقَلَ عَنْ شَيْخِهِ عَلِيٍّ الْخَوَّاصِّ أَنَّ اللهَ تَعَالَى كَانَ يُطْلِعُهُ عَلَى جَمِيعِ مَا يَقَعُ فِي السَّنَةِ عِنْدَ رُؤْيَةِ هِلَالِهَا وَأَنَّهُ كَانَ يَسْأَلُهُ عَمَّا يُشْكِلُ عَلَيْهِ (ثُمَّ قَالَ) وَكَانَ يَقْرَأُ سُوَرًا غَيْرَ السُّوَرِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ عَلَى
348
كَرَاسِيِّ الْمَسَاجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَكَانَ الْعَامِّيُّ يَظُنُّ أَنَّهَا مِنَ الْقُرْآنِ لِشَبَهِهَا بِالْآيَاتِ فِي الْفَوَاصِلِ.
((وَقَدْ سَمِعْتُهُ مَرَّةً يَقْرَأُ عَلَى بَابِ دَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ فِي الْبُيُوتِ فَصَغَيْتُ إِلَى مَا يَقُولُ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: وَمَا أَنْتُمْ فِي تَصْدِيقِ هُودٍ بِصَادِقِينَ، وَلَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ لَنَا قَوْمًا بِالْمُؤْتَفِكَاتِ يَضْرِبُونَنَا، وَيَأْخُذُونَ أَمْوَالَنَا وَمَا لَنَا مِنْ نَاصِرِينَ، ثُمَّ قَالَ: اللهُمَّ
اجْعَلْ ثَوَابَ مَا قَرَأْنَاهُ مِنَ الْكَلَامِ الْعَزِيزِ فِي صَحَائِفِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ - إِلَى آخَرِ مَا قَالَ)).
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ عُرْيَانًا دَائِمًا إِلَّا أَنَّهُ يَسْتُرُ سَوْأَتَيْهِ بِقِطْعَةِ جِلْدٍ أَوْ بِسَاطٍ أَوْ حَصِيرٍ لِأَنَّهُ كَانَ يُحَرِّمُ كُلَّ مَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ زِينَةِ الدُّنْيَا قَالَ: ((وَكَانَتِ الْخَلَائِقُ تَعْتَقِدُهُ اعْتِقَادًا زَائِدًا لَمْ أَسْمَعْ قَطُّ أَنَّ أَحَدًا يُنْكِرُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ حَالِهِ، بَلْ يَعُدُّونَ رُؤْيَتَهُ عِيدًا عِنْدَهُمْ تَحْنِينًا عَلَيْهِ مِنَ اللهِ تَعَالَى مَاتَ سَنَةَ نَيِّفٍ وَتِسْعِمِائَةٍ)) اهـ ص ١٦٠ مِنْهُ.
(أَقُولُ) إِذَا كَانَ الشَّعَرَانِيُّ مِنْ أَكْبَرِ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ وَمُؤَلِّفِيهِ يَعُدُّ هَذَا الْمَجْنُونَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللهِ، وَيَتَرَضَّى عَنْهُ كُلَّمَا ذَكَرَهُ وَإِنْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ فِي سَطْرٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ شَيْخُهُ عَلِيٌّ الْخَوَاصُّ يَتَلَقَّى عَنْهُ حَلَّ مُشْكِلَاتِ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَيَعْتَمِدُ عَلَى كَشْفِهِ، فَهَلْ نَكُونُ مُخْطِئِينَ إِذَا قُلْنَا إِنَّ جَمِيعَ مَنْ شَهِدَ لَهُمْ بِالْوِلَايَةِ وَالْكَرَامَةِ كَانُوا خُرَافِيِّينَ مَجَانِينَ مِثْلَهُ، وَأَيُّ قِيمَةٍ كَانَتْ فِي عَصْرِهِ لِلْعَقْلِ وَالْعِلْمِ وَالدِّينِ؟ وَهَلْ يُوجَدُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْجُنُونَ كَانَ تَخَبُّطًا شَيْطَانِيًّا لَا جَذْبًا إِلَهِيًّا أَقْوَى مِنْ مُعَارَضَةِ صَاحِبِهِ لِلْقُرْآنِ بِمِثْلِ مَا نَقَلَهُ الشَّعَرَانِيُّ مِمَّا سَمِعَهُ وَرَآهُ مِنْهُ وَرَوَاهُ عَنْهُ مِنَ الْهَذَيَانِ؟.
(شَوَاهِدُ أُخْرَى عَنِ الْمَعْرُوفِ بِالتِّجَانِيِّ تَابِعَةٌ لِمَا قَبْلَهَا)
كَانَ مِنْ فَسَادِ هَذَا التَّصَوُّفِ الَّذِي بَثَّهُ الشَّعَرَانِيُّ وَأَمْثَالُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ، أَنْ وُجِدَ فِي الْمَغْرِبِ الْأَقْصَى فِي الْقَرْنِ الثَّالِثَ عَشَرَ لِلْهِجْرَةِ شَيْخٌ اسْمُهُ الشَّيْخُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ التِّجَانِيُّ، صَارَ لَهُ طَرِيقَةٌ مِنْ أَشْهَرِ الطُّرُقِ امْتَدَّتْ مِنَ الْمَغْرِبِ الْأَقْصَى إِلَى السُّودَانِ الْفَرَنْسِيِّ وَالْجَزَائِرِ فَتُونُسَ فَمِصْرَ، وَصَارَ لَهَا مِئَاتُ الْأُلُوفِ مِنَ الْأَتْبَاعِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْغُلُوِّ فِي الدَّعَاوَى وَالْخُرَافَاتِ وَالِابْتِدَاعِ وَتَفْضِيلِ شَيْخِهَا نَفْسَهُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ سَبَقَهُ مِنْ أَقْطَابِ الْأَوْلِيَاءِ وَكَذَا الْأَنْبِيَاءِ بِأُمُورٍ مِنْهَا ضَمَانُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ وَلِأُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ وَأَتْبَاعِهِ وَلِكُلِّ مَنْ يُكْرِمُهُ وَيُحْسِنُ إِلَيْهِ وَلَوْ بِالطَّعَامِ أَعْلَى مَنَازِلِ الْجَنَّةِ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلَا عِقَابٍ ; لِأَنَّ جَمِيعَ مَعَاصِيهِمْ وَتَبِعَاتِهِمْ تُغْفَرُ لَهُمْ لِأَجْلِهِ إِلَخْ، كَانَ الْغَرَضُ مِنْ طَرِيقَتِهِ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ وَطَعَامِهِمْ وَالْجَاهَ عِنْدَهُمْ خِلَافًا لِجَمِيعِ صُوفِيَّةِ الْعَالَمِ، وَقَدْ أَلَّفَ أَحَدُ أَتْبَاعِهِ كِتَابًا كَبِيرًا فِي مَنَاقِبِهِ وَكَرَامَاتِهِ وَأَوْرَادِهِ تَلَقَّاهَا مِنْ لِسَانِهِ وَقَلَمِهِ، هَدَمَ بِهَا هَدْيَ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مُدَّعِيًا أَنَّهُ تَلَقَّاهَا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَمَّاهُ (جَوَاهِرَ الْمَعَانِي) وَهَاكَ بَعْضَ الشَّوَاهِدِ مِنْهُ:
349
(الشَّاهِدُ الرَّابِعُ ضَمَانُ دُخُولِ الْجَنَّةِ لِكُلِّ مَنْ لَهُ عَلَاقَةٌ بِالتِّجَانِيِّ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عِقَابٍ).
قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ.
((قَالَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) أَخْبَرَنِي سَيِّدُ الْوُجُودِ يَقَظَةً لَا مَنَامًا قَالَ لِي: أَنْتَ مِنَ الْآمَنِينَ وَكُلُّ مَنْ رَآكَ مِنَ الْآمَنِينَ إِنْ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ، وَكُلُّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ بِخِدْمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَكُلُّ مَنْ أَطْعَمَكَ (!) يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عِقَابٍ.
(ثُمَّ قَالَ) فَلَمَّا رَأَيْتُ مَا صَدَرَ لِي مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمَحَبَّةِ وَصَرَّحَ لِي بِهَا تَذَكَّرْتُ الْأَحْبَابَ وَمَنْ وَصَلَنِي إِحْسَانُهُمْ، وَمَنْ تَعَلَّقَ بِي بِخِدْمَةٍ، وَأَنَا أَسْمَعُ أَكْثَرَهُمْ يَقُولُونَ لِي نُحَاسِبُكَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ إِنْ دَخَلْنَا النَّارَ وَأَنْتَ تَرَى، فَأَقُولُ لَهُمْ: لَا أَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، فَلَمَّا رَأَيْتُ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْمَحَبَّةَ سَأَلْتُهُ لِكُلِّ مَنْ أَحَبَّنِي وَلَمْ يُعَادِنِي بَعْدَهَا، وَلِكُلِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فَأَكْثَرَ وَلَمْ يُعَادِنِي (؟) بَعْدَهَا، وَآكَدُ ذَلِكَ مِنْ أَطْعَمَنِي طَعَامَهُ (! !) قَالَ: كُلُّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عِقَابٍ)).
((قَالَ: وَسَأَلْتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكُلِّ مْنَ أَخَذَ عَنِّي ذِكْرًا أَنْ تُغْفَرَ لَهُمْ جَمِيعُ ذُنُوبِهِمْ مَا تَقَدَّمَ مِنْهَا وَمَا تَأَخَّرَ، وَأَنْ تُؤَدَّى عَنْهُمْ تَبَعَاتُهُمْ مِنْ خَزَائِنِ فَضْلِ اللهِ لَا مِنْ حَسَنَاتِهِمْ، وَأَنْ يَرْفَعَ اللهُ عَنْهُمْ مُحَاسَبَتَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنْ يَكُونُوا آمَنِينَ مِنْ عَذَابِ اللهِ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَأَنْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عِقَابٍ فِي أَوَّلِ الزُّمْرَةِ الْأُولَى، وَأَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مَعِي فِي عِلِّيِّينَ فِي جِوَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ لِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ضَمِنْتُ لَهُمْ هَذَا كُلَّهُ ضَمَانَةً لَا تَنْقَطِعُ حَتَّى تُجَاوِرَنِي أَنْتَ وَهُمْ فِي عِلِّيِّينَ.
(قَالَ الْمُؤَلِّفُ) ثُمَّ اعْلَمْ أَنِّي بَعْدَ مَا كَتَبْتُ هَذَا مِنْ سَمَاعِهِ وَإِمْلَائِهِ عَلَيْنَا (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) مِنْ حَفْظِهِ وَلَفْظِهِ اطَّلَعْتُ عَلَى مَا أَرْسُمُهُ، مِنْ خَطِّهِ، وَنَصِّهِ:
((أَسْأَلُ مِنْ فَضْلِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَضْمَنَ لِي دُخُولَ الْجَنَّةِ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عِقَابٍ أَنَا وَكُلُّ أَبٍ وَأُمٍّ وَلَدَنِي مِنْ أَبَوَيَّ إِلَى أَوَّلِ أَبٍ وَأُمٍّ لِي فِي الْإِسْلَامِ مِنْ جِهَةِ أَبِي وَمِنْ جِهَةِ أُمِّي، وَجَمِيعُ مَا وَلَدَ آبَائِي وَأُمَّهَاتِي مِنْ أَبَوَيَّ إِلَى الْجَدِّ الْحَادِي عَشَرَ وَالْجَدَّةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ (؟) مِنْ جِهَةِ أَبِي وَمِنْ جِهَةِ أُمِّي مِنْ كُلِّ مَا تَنَاسَلَ مِنْهُمْ (؟) مِنْ وَقْتِهِمْ إِلَى أَنْ يَمُوتَ سَيِّدُنَا عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ مِنْ جَمِيعِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَالصِّغَارِ
وَالْكِبَارِ، وَكُلُّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيَّ بِإِحْسَانٍ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فَأَكْثَرَ، مِنْ خُرُوجِي مِنْ بَطْنِ أُمِّي إِلَى مَوْتِي، وَكُلُّ مَنْ لَهُ عَلَيَّ مَشْيَخَةٌ فِي عِلْمٍ أَوْ ذِكْرٍ أَوْ سِرٍّ مِنْ كُلِّ مَنْ لَمْ يُعَادِنِي مِنْ جَمِيعِ هَؤُلَاءِ. وَأَمَّا مَنْ عَادَانِي أَوْ أَبْغَضَنِي فَلَا، وَكُلُّ مَنْ أَحَبَّنِي وَلَمْ يُعَادِنِي (؟) وَكُلُّ مَنْ وَالَانِي وَاتَّخَذَنِي شَيْخًا أَوْ أَخَذَ عَنِّي ذِكْرًا، وَكُلُّ مَنْ زَارَنِي وَكُلُّ مَنْ خَدَمَنِي أَوْ قَضَى لِي حَاجَةً أَوْ دَعَا لِي، كُلُّ هَؤُلَاءِ مِنْ خُرُوجِي مِنْ بَطْنِ أُمِّي إِلَى مَوْتِي وَآبَائِهِمْ (؟) وَأُمَّهَاتِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَبَنَاتِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَوَالِدِي أَزْوَاجِهِمْ يَضْمَنُ لِي سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ
350
وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنْ أَمُوتَ أَنَا وَكُلُّ حَيٍّ مِنْهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَأَنْ يُؤَمِّنَنَا اللهُ وَجَمِيعَهُمْ مِنْ جَمِيعِ عَذَابِهِ، وَعِقَابِهِ وَتَهْوِيلِهِ وَتَخْوِيفِهِ وَرُعْبِهِ وَجَمِيعِ الشُّرُورِ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْمُسْتَقَرِّ فِي الْجَنَّةِ وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَلِجَمِيعِهِمْ جَمِيعَ الذُّنُوبِ مَا تَقَدَّمَ مِنْهَا وَمَا تَأَخَّرَ وَأَنْ تُؤَدِّيَ عَنِّي وَعَنْهُمْ جَمِيعَ تَبِعَاتِنَا وَتَبِعَاتِهِمْ، وَجَمِيعَ مَظَالِمِنَا وَمَظَالِمِهِمْ مِنْ خَزَائِنِ فَضْلِ اللهِ لَا مِنْ حَسَنَاتِنَا، وَأَنْ يُؤَمِّنَنِي اللهُ وَجَمِيعَهُمْ مِنْ جَمِيعِ مُحَاسَبَتِهِ وَمُنَاقَشَةِ سُؤَالِهِ عَنِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنْ يُظِلَّنِيَ اللهُ وَجَمِيعَهُمْ فِي ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنْ يُجِيزَنِي رُبِّيَ أَنَا وَكُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَذْكُورِينَ عَلَى الصِّرَاطِ أَسْرَعَ مِنْ طَرْفَةِ الْعَيْنِ عَلَى كَوَاهِلِ الْمَلَائِكَةِ، وَأَنْ يَسْقِيَنِيَ اللهُ وَجَمِيعَهُمْ مِنْ حَوْضِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنْ يُدْخِلَنِي رَبِّي وَجَمِيعَهُمْ جَنَّتَهُ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عِقَابٍ فِي أَوَّلِ الزُّمْرَةِ الْأُولَى وَأَنْ يَجْعَلَنِي رَبِّي وَجَمِيعَهُمْ مُسْتَقِرِّينَ فِي الْجَنَّةِ فِي عِلِّيِّينَ مِنْ جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ وَمِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ. أَسْأَلُ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ بِاللهِ أَنْ يَضْمَنَ لِي وَلِجَمِيعِ الَّذِينَ ذَكَرْتُهُمْ فِي هَذَا الْكِتَابِ كُلَّ مَا طَلَبْتُهُ مِنَ اللهِ لِي وَلَهُمْ فِي هَذَا الْكِتَابِ بِكَمَالِهِ كُلِّهِ، ضَمَانًا يُوَصِّلُنِي وَجَمِيعَ الَّذِينَ ذَكَرْتُهُمْ فِي هَذَا الْكِتَابِ إِلَى كُلِّ مَا طَلَبْتُهُ مِنَ اللهِ لِي وَلَهُمْ (كَذَا بِهَذَا التَّكْرَارِ) فَأَجَابَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ الشَّرِيفِ: كُلُّ مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ ضَمِنْتُهُ لَكَ ضَمَانَةً لَا تَتَخَلَّفُ عَنْكَ وَعَنْهُمْ أَبَدًا إِلَى أَنْ تَكُونَ أَنْتَ وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْتَ فِي جِوَارِي فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ، وَضَمِنْتُ لَكَ جَمِيعَ مَا طَلَبْتَ مِنَّا ضَمَانَةً لَا يُخْلَفُ عَلَيْكَ الْوَعْدُ فِيهَا وَالسَّلَامُ، انْتَهَى بِحُرُوفِهِ وَلَحْنِهِ وَتَكْرَارِهِ مِنْ ص ٩١ و٩٢ ج١ - قَالَ الْمُؤَلِّفُ:
ثُمَّ قَالَ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) وَكُلُّ هَذَا وَقَعَ يَقَظَةً لَا مَنَامًا. ثُمَّ قَالَ: وَأَنْتُمْ وَجَمِيعُ الْأَحْبَابِ لَا تَحْتَاجُونَ إِلَى رُؤْيَتِي إِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى رُؤْيَتِي مَنْ لَمْ يَكُنْ حَبِيبًا يَعْنِي تَابِعًا وَلَا آخِذًا
عَنِّي ذِكْرًا وَلَا أَكَلْتُ طَعَامَهُ، وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ ضَمِنَهُمْ لِي بِلَا شَرْطِ رُؤْيَةٍ مَعَ زِيَادَةِ أَنَّهُمْ مَعِي فِي عِلِّيِّينَ)) وَلَوْ رُوِيَ هَذَا عَنْهُ فِي حَيَاتِهِ لَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ مُفْتَرًى عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ثُمَّ قَالَ التِّجَانِيُّ: وَأَمَّا مَنْ رَآنِي فَقَطْ غَايَتُهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عِقَابٍ، وَلَا مَطْمَعَ لَهُ فِي عِلِّيِّينَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ ذَكَرْتُهُمْ وَهُمْ أَحْبَابُنَا وَمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْنَا وَمَنْ أَخَذَ عَنَّا ذِكْرًا فَإِنَّهُ يَسْتَقِرُّ فِي عِلِّيِّينَ مَعَنَا. وَقَدْ ضُمِنَ لَنَا هَذَا بِوَعْدٍ صَادِقٍ لَا خُلْفَ فِيهِ إِلَّا أَنِّي اسْتَثْنَيْتُ مَنْ عَادَانِي بَعْدَ الْمَحَبَّةِ وَالْإِحْسَانِ فَلَا مَطْمَعَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كُنْتُمْ مُتَمَسِّكِينَ بِمَحَبَّتِنَا فَأَبْشِرُوا بِمَا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ فَإِنَّهُ وَاقِعٌ لِجَمِيعِ الْأَحْبَابِ قَطْعًا اهـ.
وَهَاهُنَا ذَكَرَ مُؤَلِّفُ الْكِتَابِ أَنَّ هَذِهِ الْكَرَامَةَ الْعَظِيمَةَ الْمِقْدَارِ، وَهِيَ دُخُولُ الْجَنَّةِ بِلَا حِسَابٍ وَلَا عِقَابٍ لِمَنْ ذَكَرَهُمْ، لَمْ تَقَعْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ قَبْلَهُ إِلَخْ، وَيَزِيدُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَضْمَنْ مِثْلَ هَذَا فِي حَيَاتِهِ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَا خَوَاصِّ أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - حَتَّى الْعَدَدِ الْقَلِيلِ الَّذِينَ بَشَّرَهُمْ بِالْجَنَّةِ كَالْعَشَرَةِ لَمْ يَضْمَنْ لَهُمْ مَا زَعَمَ
351
التِّجَانِيُّ أَنَّهُ ضَمِنَهُ لِمَنْ لَا يُحْصَى عَدَدًا مِنْ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ وَأَتْبَاعِهِ، وَلَا يُوجَدُ فِي شَرِيعَتِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَذِنَ لَهُ بِمِثْلِ هَذَا، بَلْ قَاعِدَةُ دِينِهِ وَشَرِيعَتِهِ أَنَّ الْغُرْمَ بِالْغُنْمِ، فَمَنْ تُضَاعَفُ حَسَنَاتُهُمْ تُضَاعَفُ سَيِّئَاتُهُمْ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فِي خِطَابِ نِسَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ.
وَصَحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (٢٦: ٢١٤) جَمَعَهُمْ وَكَانَ مِمَّا قَالَهُ لَهُمْ: ((اعْمَلُوا لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا)) قَالَ هَذَا لِعَمِّهِ وَعَمَّتِهِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - وَلِبِنْتِهِ السَّيِّدَةِ فَاطِمَةَ سَيِّدَةِ النِّسَاءِ عَلَيْهَا السَّلَامُ، فَكَلَامُ التِّجَانِيِّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ جَمِيعَ أَتْبَاعِهِ وَأَقَارِبِهِ وَمُحِبِّيهِ وَالْمُحْسِنِينَ إِلَيْهِ يَكُونُونَ فِي عِلِّيِّينَ فَوْقَ أَتْبَاعِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَمُحِبِّيهِمْ، وَإِلَّا لَمَا بَقِيَ لِلْجَنَّاتِ السَّبْعِ أَحَدٌ يَسْكُنُهُنَّ وَهُوَ افْتِرَاءٌ لَمْ يَتَجَرَّأْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُجَازِفِينَ قَبْلَهُ.
(الشَّاهِدُ الْخَامِسُ عَنْهُ تَفْضِيلُ أَوْرَادِهِ الْمُبْتَدَعَةِ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ الْمَأْثُورَةِ).
ذَكَرَ مُؤَلَّفُ هَذَا الْكِتَابِ صَلَاةً عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَمُّونَهَا صَلَاةَ الْفَاتِحِ، وَغَلَا فِيمَا زَعَمَهُ مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ يَقَظَةً بِهَا وَالْغُلُوِّ فِي ثَوَابِهَا وَهَذَا نَصُّهَا:
((اللهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الْفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ، وَالْخَاتَمِ لِمَا سَبَقَ، نَاصِرِ الْحَقِّ بِالْحَقِّ، وَالْهَادِي
إِلَى صِرَاطِكَ الْمُسْتَقِيمِ، صَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ حَقَّ قَدْرِهِ وَمِقْدَارِهِ الْعَظِيمِ)) وَذَكَرَ أَنَّ شَيْخَهُ التِّجَانِيَّ كَانَ يَقْرَؤُهَا ثُمَّ تَرَكَهَا لِصَلَاةٍ أُخْرَى الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ مِنْهَا بِسَبْعِينَ أَلْفَ خَتْمَةٍ مِنْ دَلَائِلِ الْخَيْرَاتِ، فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالرُّجُوعِ إِلَيْهَا وَقَالَ فِي ص ٩٦ مِنَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مَا نَصُّهُ:
((فَلَمَّا أَمَرَنِي عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقِرَاءَتِهَا سَأَلْتُهُ عَنْ فَضْلِهَا فَأَخْبَرَنِي أَوَّلًا بِأَنَّ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ تَعْدِلُ مِنَ الْقُرْآنِ سِتَّ مَرَّاتٍ ثُمَّ أَخْبَرَنِي ثَانِيًا أَنَّ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ مِنْهَا تَعْدِلُ مَنْ كُلِّ تَسْبِيحٍ وَقَعَ فِي الْكَوْنِ وَمِنْ كُلِّ ذِكْرٍ وَمِنْ كُلِّ دُعَاءٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ وَمِنَ الْقُرْآنِ سِتَّةَ آلَافِ مَرَّةٍ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَذْكَارِ)).
(قَالَ) ((وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَدْعِيَاءِ (كَذَا) دُعَاءُ السَّيْفِيِّ، فَفِي الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مِنْهُ ثَوَابُ صَوْمِ رَمَضَانَ وَقِيَامُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَعِبَادَةُ سَنَةٍ كَمَا أَخْبَرَنِي بِهِ سَيِّدُنَا عَنْ سَيِّدِ الْوُجُودِ.
((وَأَعْظَمُ مِنْ دُعَاءِ السَّيْفِيِّ دُعَاءُ: يَا مَنْ أَظْهَرَ الْجَمِيلَ إِلَخْ. وَأَنَّهُ هَدِيَّةٌ مِنْ جِبْرِيلَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَتْ مَلَائِكَةُ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ عَلَى أَنْ يَصِفُوهُ لَمَا وَصَفُوهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَكُلُّ وَاحِدٍ يَصِفُ مَا لَا يَصِفُهُ الْآخَرُ فَلَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ. وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنَّ اللهَ يَقُولُ فِيهِ: ((أُعْطِيهِ مِنَ الثَّوَابِ بِقَدْرِ مَا خَلَقْتُ فِي سَبْعِ سَمَاوَاتٍ وَفِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَفِي الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَعَدَدِ الْقَطْرِ وَالْمَطَرِ وَالْبِحَارِ، وَعَدَدِ الْحَصَى وَالرَّمْلِ،)) وَمِنْ جُمْلَتِهَا
352
أَيْضًا أَنَّ اللهَ يُعْطِيهِ ثَوَابَ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا أَنَّ اللهَ يُعْطِيهِ ثَوَابَ سَبْعِينَ نَبِيًّا كُلُّهُمْ بَلَّغُوا الرِّسَالَةَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. (قَالَ) وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ثَابِتٌ فِي صَحِيفَةِ عُمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ إِلَخْ.
وَصَرَّحَ الْمُؤَلِّفُ بِأَنَّ هَذَا الْكَذِبَ أَمْلَاهُ شَيْخُهُ التِّجَانِيُّ. ثُمَّ قَالَ عَنْ شَيْخِهِ:
((وَأَمَّا صَلَاةُ الْفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ فَإِنِّي سَأَلْتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهَا فَأَخْبَرَنِي أَوَّلًا أَنَّهَا بِسِتِّمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ، فَقُلْتُ لَهُ هَلْ فِي جَمِيعِ تِلْكَ الصَّلَوَاتِ أَجْرُ مَنْ صَلَّى صَلَاةً مُفْرَدَةً؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا مَعْنَاهُ: نَعَمْ يَحْصُلُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنْهَا أَجْرُ مَنْ صَلَّى بِسِتِّمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ مُفْرَدَةٍ.
وَسَأَلْتُهُ: هَلْ يَقُومُ مِنْهَا طَائِرٌ الَّذِي لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ جَنَاحٍ إِلَخْ. الْحَدِيثَ. أَمْ يَقُومُ مِنْهَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ طَائِرٍ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ وَثَوَابِ تَسْبِيحِهِمْ لِقَارِئِهَا؟ فَقَالَ: بَلْ يَقُومُ مِنْهَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ طَائِرٍ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ.
وَقَالَ فِي ص ٩٧ فَسَأَلْتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ حَدِيثِ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ تَعْدِلُ أَرْبَعَمِائَةِ غَزْوَةٍ
كُلُّ غَزْوَةٍ تَعْدِلُ أَرْبَعَمِائَةِ حَجَّةٍ صَحِيحٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بَلْ صَحِيحٌ فَسَأَلْتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عَدَدِ هَذِهِ الْغَزَوَاتِ هَلْ يَقُومُ مِنْ صَلَاةِ الْفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ إِلَخْ مَرَّةً أَرْبَعُمِائَةِ غَزْوَةٍ أَمْ يَقُومُ أَرْبَعُمِائَةِ غَزْوَةٍ صَلَاةً مِنَ السِّتِّمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ وَكُلُّ صَلَاةٍ عَلَى انْفِرَادِهَا أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفِ غَزْوَةٍ؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ صَلَاةَ الْفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ بِسِتِّمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ وَكُلُّ صَلَاةٍ مِنَ السِّتِّمِائَةِ أَلْفٍ بِأَرْبَعِمِائَةِ غَزْوَةٍ ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّ مَنْ صَلَّى بِهَا، أَيْ بِالْفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ إِلَخْ مَرَّةً حَصَلَ لَهُ ثَوَابُ مَا إِذَا صَلَّى بِكُلِّ صَلَاةٍ وَقَعَتْ فِي الْعَالَمِ مِنْ كُلِّ جِنٍّ وَإِنْسٍ وَمَلَكٍ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ مِنْ أَوَّلِ الْعَالَمِ إِلَى وَقْتِ تَلَفُّظِ الذَّاكِرِ بِهَا، أَيْ كَأَنَّهُ صَلَّى بِكُلِّ صَلَاةٍ سِتَّمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ مِنْ جَمِيعِ صَلَاةِ الْمُصَلِّينَ عُمُومًا: مَلَكًا وَجِنًّا وَإِنْسًا وَكُلُّ صَلَاةٍ مِنْ ذَلِكَ بِأَرْبَعِمِائَةِ غَزْوَةٍ وَكُلُّ صَلَاةٍ مِنْ ذَلِكَ بِزَوْجَةٍ مِنَ الْحُورِ وَمَحْوِ عَشْرِ سَيِّئَاتٍ وَثُبُوتِ عَشْرِ حَسَنَاتٍ وَرَفْعِ عَشْرِ دَرَجَاتٍ، وَأَنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى صَاحِبِهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ (قَالَ الشَّيْخُ رَضِيَ اللهُ عِنْهُ) فَإِذَا تَأَمَّلْتَ هَذَا بِقَلْبِكَ عَلِمْتَ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا تَقُومُ لَهَا عِبَادَةٌ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ فَكَيْفَ مَنَّ صَلَّى بِهَا مَرَّاتٍ مَاذَا لَهَا مِنَ الْفَضْلِ عِنْدَ اللهِ وَهَذَا حَاصِلٌ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنْهَا اهـ.
ثُمَّ إِنَّهُ ذَكَرَ مَا هُوَ فَوْقَ ذَلِكَ مِنَ الْمُبَالَغَاتِ الْجُنُونِيَّةِ الَّتِي لَا يَعْقِلُهَا دِمَاغُهُ، وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ فِيهَا لِلْعُقُولِ، وَمِنْهَا مَا عَدَّهُ مِنْ ثَوَابِ مَلَايِينِ الْأُمَمِ وَالْمَلَائِكَةِ، وَلَمْ يُفَضَّلْ عَلَيْهَا إِلَّا الدُّعَاءُ بِالِاسْمِ الْأَعْظَمِ وَهُوَ هَذَا بِزَعْمِهِمْ (اهم سقك حلع يص) قَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي ص ١٠٢ مَا نَصُّهُ: (فَائِدَةٌ) قَالَ الشَّيْخُ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) عَدَدُ أَلْسِنَةِ الطَّائِرِ الَّذِي يَخْلُقُهُ اللهُ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ جَنَاحٍ إِلَخْ الْحَدِيثَ أَلْفُ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفٍ إِلَى أَنْ تَعُدَّ ثَمَانِيَ مَرَاتِبَ وَسِتَّمِائَةٍ وَثَمَانُونَ أَلْفَ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفٍ إِلَى أَنْ تَعُدَّ سَبْعَ مَرَاتِبَ وَسَبْعَمِائَةِ
353
أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفٍ إِلَى أَنْ تَعُدَّ خَمْسَ مَرَاتِبَ فَهَذَا مَجْمُوعُ عَدَدِ أَلْسِنَتِهِ، وَكُلُّ لِسَانٍ يُسَبِّحُ اللهَ تَعَالَى بِسَبْعِينَ أَلْفَ لُغَةٍ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ، وَكُلُّ ثَوَابِهَا لِلْمُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كُلِّ مَرَّةٍ، هَذَا فِي غَيْرِ الْيَاقُوتَةِ الْفَرِيدَةِ وَهِي الْفَاتِحُ لِمَا أُغْلِقَ إِلَخْ، وَأَمَّا فِيهَا فَإِنَّهُ يُخْلَقُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ طَائِرٍ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. فَسُبْحَانُ الْمُتَفَضِّلِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ مِنْ غَيْرِ مِنَّةٍ وَلَا عِلَّةٍ اهـ. مَنْ خَطِّ سَيِّدِنَا وَحَبِيبِنَا وَخَازِنِ سِرِّ سَيِّدِنَا أَبِي عَبْدِ اللهِ سَيِّدِي مُحَمَّدِ بْنِ الْمِشْرِيِّ حَفِظَهُ اللهُ اهـ.
(الشَّاهِدُ السَّادِسُ عَنِ التِّجَانِيِّ دَعْوَاهُ مَوْتَ مَنْ يَكْرَهُهُ كَافِرًا)
وَفِي هَذَا الْكِتَابِ مِنَ الْعَقَائِدِ الزَّائِغَةِ الْمُخَالِفَةِ لِعَقَائِدِ جَمِيعِ السَّلَفِ وَحُفَّاظِ السُّنَنِ وَأَئِمَّةِ الْفِقْهِ وَالْمُفَسِّرِينَ وَعُلَمَاءِ الْكَلَامِ، مَا نَعْهَدُ مِثْلَهُ عَنِ الْبَاطِنِيَّةِ وَأَهْلِ الْوَحْدَةِ وَالِاتِّحَادِ وَسَائِرِ غُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ وَلِعِلْمِ التِّجَانِيِّ وَأَمْثَالِهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ إِلْمَامٌ بِالضَّرُورِيَّاتِ مِنْ عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ جَعَلُوا مَنْ أَصُولِ طَرِيقَتِهِمُ التَّسْلِيمَ لَهُمْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
وَقَدْ بَالَغَ التِّجَانِيُّ فِيمَا يُلَقِّنُهُ لِأَتْبَاعِهِ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الِاعْتِرَاضِ وَالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ، حَتَّى زَعَمَ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ وَكَرِهَ عَمَلَهُ أَوْ طَعَنَ فِيهِ أَوْ أَبْغَضَهُ يَمُوتُ كَافِرًا قَطْعًا ; وَهَذِهِ الدَّعْوَى بَاطِلَةٌ كَدَعْوَى دُخُولِ أَتْبَاعِهِ وَأُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ الْجَنَّةَ قَطْعًا، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ تَعَالَى. وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْقَطْعِ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ إِلَّا بِنَصٍّ مِنَ الشَّارِعِ. وَإِنَّمَا الْقَطْعِيُّ أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَنْ مَاتَ عَلَى الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَأَنَّ الْخَوَاتِيمَ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ تَعَالَى.
وَلَوْلَا أَنَّ لَهُ أَتْبَاعًا فِي مِصْرَ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ لَمَا سَوَّدْنَا صَحَائِفَ هَذَا التَّفْسِيرِ بِذِكْرِ خُرَافَاتِهِ وَضَلَالَاتِهِ، وَقَدِ اسْتَفْتَانِي بَعْضُ الْمُنْكِرِينَ لِدَعْوَاهُمْ تَلَقِّيَ شَيْخِهِمْ لِأَوْرَادِهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْيَقَظَةِ، وَحُضُورَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَجَالِسِ حَضْرَتِهِمْ، عَنْ دَعْوَى رُؤْيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْيَقَظَةِ وَالتَّلَقِّي عَنْهُ، فَأَفْتَيْتُ فِي الْمَنَارِ بِبُطْلَانِهَا، فَلَجَأَ بَعْضُهُمْ إِلَى مَجَلَّةِ مَشْيَخَةِ الْأَزْهَرِ (نُورِ الْإِسْلَامِ) فَاسْتَفْتَوْهَا فِي ذَلِكَ فَأَفْتَاهُمْ مُفْتِيهَا الدِّجَوِيُّ الدَّجَّالُ بِمَا يَتَّخِذُونَهُ حُجَّةً عَلَى كُلِّ مَا افْتَرَاهُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحْتَجًّا بِأَنَّ الْأَرْضَ لَا تَأْكُلُ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ يَرُدُّونَ السَّلَامَ عَلَى مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ، وَالْحَقُّ أَنَّ كُلَّ مَا وَرَدَ فِي حَيَاةِ الشُّهَدَاءِ، وَالْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَهُوَ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ الَّتِي لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا وَلَا يَتَعَدَّى فِيهَا مَا صَحَّ مِنْهَا عَنِ الْمَعْصُومِ بِإِجْمَاعِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ.
هَذَا وَإِنِّي لَا أَجْهَلُ أَنَّ لِلتِّجَانِيَّةِ فِي الْمَغْرِبِ وَالسُّودَانِ الْفَرَنْسِيِّ، حَسَنَاتٍ فِي مُقَاوَمَةِ التَّنْصِيرِ وَالِاسْتِعْمَارِ الْمُعَادِي لِلْإِسْلَامِ كَالْقَادِرِيَّةِ وَالسَّنُوسِيَّةِ، وَلَكِنَّ كِتَابَهُمْ (جَوَاهِرَ الْمَعَانِي) قَدْ فَضَحَهُمْ فَضَائِحَ لَا يَقْبَلُهَا مُسْلِمٌ يَعْرِفُ ضَرُورِيَّاتِ الْإِسْلَامِ، وَسَتَعْلَمُ قِيمَةَ حَسَنَاتِهِمْ وَغَيْرَهَا مِمَّا سَنَنْقُلُهُ فِي كَرَامَاتِ أَمْثَالِهِمْ عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ.
354
(تَقْلِيدُ الْبَابِ وَالْبَهَاءِ وَالْقَادْيَانِيُّ لِغُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ)
(فِي دَعْوَى الْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ)
قَدْ جَرَّأَ هَؤُلَاءِ الْغُلَاةُ مِنَ الصُّوفِيَّةِ إِخْوَانَهُمْ فِي الِابْتِدَاعِ عَلَى دَعْوَى الْوَحْيِ وَالتَّلَقِّي عَنِ اللهِ تَعَالَى كَالْأَنْبِيَاءِ حَتَّى ادَّعَى بَعْضُهُمُ النُّبُوَّةَ نَفْسَهَا، بَلِ ادَّعَى بَعْضُهُمُ الْأُلُوهِيَّةَ، وَإِنَّكَ لِتَجِدُ مِنْ كَلَامِ الْبَابِ مُؤَسِّسِ فَرْقَةِ الْبَابِيَّةِ، وَالْبَهَاءِ مُؤَسِّسِ دِيَانَةِ الْبَهَائِيَّةِ عَلَى أَنْقَاضِ، الْبَابِيَّةِ، وَغُلَامِ أَحْمَدِ الْقَادَيَانِيِّ - مَسِيحِ الْهِنْدِ الدَّجَّالِ - أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ قَدِ ادَّعَوُا الْوَحْيَ مِنَ اللهِ لَهُمْ، وَتَجِدُ كَلَامَهُمْ فِي الْغُلُوِّ فِي أَنْفُسِهِمْ مَمْزُوجًا بِاصْطِلَاحَاتِ الصُّوفِيَّةِ، فَلَمْ يُفْسِدِ الْإِسْلَامَ عَلَى أَهْلِهِ بِدَعَةٌ وَلَا فَلْسَفَةٌ وَلَا رِوَايَةٌ وَلَا رَأْيٌ، كَمَا أَفْسَدَ أَدْعِيَاءُ الْوِلَايَةِ وَالْكَشْفِ، فَإِنَّ أَصْلَ هَذَا الدِّينِ كِتَابُ اللهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِجْمَاعِ أَهْلِهِ، وَبِبَدَاهَةِ الْعَقْلِ أَيْضًا، فَأَمَّا الْبَابِيَّةُ فَقَدِ انْحَصَرُوا فِي الْبَهَائِيَّةِ، وَهَؤُلَاءِ كَانَ لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَكْبَرِ الدُّهَاةِ يَسُوسُهُمْ فَمَاتَ فَانْحَطَّ شَأْنُهُمْ، وَوَقَعَ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمْ عَلَى الزَّعَامَةِ وَظَهَرَ لِلْمُسْلِمِينَ تَلْبِيسُهُمُ الْبَاطِنِيُّ فَقَلَّمَا يَنْخَدِعُ بِدَعْوَتِهِمْ أَحَدٌ بَعْدَهُ، وَزَعِيمُهُمُ الْوَارِثُ لَهُ قَدْ تَرَبَّى تَرْبِيَةً إِنْكِلِيزِيَّةً مَفْضُوحَةً، فَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ تَأْوِيلَاتِ عَبَّاسٍ أَفَنْدِي الصُّوفِيَّةِ الْفَلْسَفِيَّةِ الْبَاطِنِيَّةِ.
وَأَمَّا الْقَادَيَانِيَّةُ فَقَدْ نَشِطُوا لِلدَّعَايَةِ وَهُمْ يُؤَمِّلُونَ أَنْ يُوجِدُوا فِي بَقِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَا أَوْجَدَتِ الْمَسِيحِيَّةُ فِي الْيَهُودِ، أَعْنِي إِحْدَاثَ مِلَّةٍ جَدِيدَةٍ تُسَمَّى الْمَسِيحِيَّةَ الْأَحْمَدِيَّةَ، وَسَيَفْتَضِحُونَ ; لِأَنَّ زَعِيمَهُمْ وَمَسِيحَهُمْ رَجُلٌ مَجْنُونٌ، وَالْعَصْرُ يُطْلَبُ تَجْدِيدًا لِلْإِسْلَامِ لَا تَقْدِيسَ فِيهِ إِلَّا لِلَّهِ، وَجَمِيعُ كُتُبِ مَسِيحِهِمْ غُلَامِ أَحْمَدَ تَدُورُ عَلَى تَقْدِيسِ نَفْسِهِ كَالْبَهَاءِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَخْلُفْهُ رَجُلٌ دَاهِيَةٌ كَعَبَّاسٍ عَبْدِ الْبَهَاءِ، يُخْفِي كُتُبَهُ عَنِ الْعُقَلَاءِ وَيَتَصَرَّفُ فِي التَّأْوِيلِ لِدَعْوَتِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ الدَّهَاءِ وَكَيْفَ يَتَسَنَّى لَهُمْ إِخْفَاءُ كُتُبِهِ، وَقَدْ طَبَعَهَا وَنَشَرَهَا فِي عَصْرِهِ، وَفِيهَا أَقْوَى الْحُجَجِ عَلَى ضَلَالِهِ وَإِضْلَالِهِ، وَخِزْيِهِ وَنَكَالِهِ؟.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الصُّوفِيَّةَ ثَلَاثُ فِرَقٍ: صُوفِيَّةُ الْأَخْلَاقِ الْمُهْتَدِينَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَسِيرَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَهُمْ مِنْ خِيَارِ أَوْلِيَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَصُوفِيَّةُ الْفَلْسَفَةِ
الْهِنْدِيَّةِ الَّذِينَ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ صُوفِيَّةَ الْحَقَائِقِ، وَغُلَاتُهُمْ كَغُلَاةِ الشِّيعَةِ الْبَاطِنِيَّةِ شَرُّ الْمُبْتَدِعَةِ الْهَادِمِينَ لِلدِّينِ، وَصُوفِيَّةُ التَّقْلِيدِ وَهُمْ أَهْلُ الطَّرَائِقِ وَالزَّوَايَا الْكُسَالَى، وَإِنْ هُمْ إِلَّا صُوفِيَّةُ أَكْلٍ وَاحْتِفَالَاتٍ، وَبِدَعٍ وَخُرَافَاتٍ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، وَهَاكَ مَا وَعَدْنَا بِهِ مِنْ رَأْيِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ، فِي أَوْلِيَاءِ اللهِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ، وَنُقَفِّي عَلَيْهِ بِشَوَاهِدَ فِي هَذَا الزَّمَانِ.
355
(كِتَابُ الْفُرْقَانِ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ)
(اسْتِمْتَاعُ الْبَشَرِ وَالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَتَمَثُّلُهُمْ بِصُوَرِ الْأَوْلِيَاءِ وَالْقِدِّيسِينَ)
هَذَا الْكِتَابُ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ أَحْمَدَ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، بَيَّنَ فِيهِ تَحْقِيقَ الْحَقِّ فِي أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ، وَمِنْ أَهَمِّ مَبَاحِثِهِ مُلَابَسَةُ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ لِلنَّاسِ وَتَلْبِيسُهُمْ عَلَيْهِمْ، وَاسْتِمْتَاعُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ، وَظُهُورُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي صُوَرِ مَشَايِخِهِمْ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَالْخِضْرِ وَالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَالْإِيحَاءُ إِلَى بَعْضِهِمْ فِيمَا يُضِلُّهُمْ وَيُغْوِيهِمْ، وَظُهُورُ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ فِيمَا هُوَ نَافِعٌ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَقَعَ لَهُ هُوَ نَفْسُهُ، وَفِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ مَبَاحِثِ التَّفْسِيرِ وَهَدْيِ السُّنَّةِ وَالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمُعْجِزَاتِ وَالْكَرَامَاتِ وَبَيْنَ السِّحْرِ وَالْكِهَانَةِ وَاسْتِخْدَامِ الْجِنِّ وَالتَّأْوِيلِ الْبَاطِلِ وَوُجُوبِ الِاتِّبَاعِ مَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ، وَحِكَايَاتُ اسْتِخْدَامِ الْجِنِّ كَثِيرَةٌ فِي قَدِيمِ الْأُمَمِ كُلِّهَا وَحَدِيثِهَا، وَأَكْثَرُ الَّذِينَ يَدَّعُونَهَا أَوْ كُلُّهُمْ دَجَّالُونَ مُحْتَالُونَ عَلَى أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَأَكْثَرُ مَنْ يَتَمَثَّلُونَ لَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مِنْهُمْ، وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ مُحَقِّقٌ وَصِدِّيقٌ لَا يَرْمِي الْقَوْلَ عَلَى عَوَاهِنِهِ.
وَمِمَّا قَالَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنَّهُ قَدْ تَوَاتَرَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى رُؤْيَةُ مَنْ يَقُولُ لَهُمْ إِنَّهُ الْخِضْرُ وَإِنَّهُمْ صَادِقُونَ فِي قَوْلِهِمْ، وَلَكِنَّ الَّذِي يَتَرَاءَى لَهُمْ وَيَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ شَيْطَانٌ لَا الْخِضْرُ الَّذِي ثَبَتَ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ وَمِثْلُ ذَلِكَ ظُهُورُ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّصَارَى عَقِبَ رَفْعِهِ وَبَعْدَهُ إِلَى الْآنِ ثُمَّ قَالَ:
((وَأَصْحَابُ الْحَلَّاجِ لَمَّا قُتِلَ كَانَ يَأْتِيهِمْ مَنْ يَقُولُ أَنَا الْحَلَّاجُ فَيَرَوْنَهُ فِي صُورَتِهِ،
وَكَذَلِكَ شَيْخٌ بِمِصْرَ يُقَالُ لَهُ الدِّسُوقِيُّ بَعْدَ أَنْ مَاتَ كَانَ يَأْتِي أَصْحَابَهُ مِنْ جِهَتِهِ رَسَائِلُ وَكُتُبٌ مَكْتُوبَةٌ، وَأَرَانِي صَادِقٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الْكِتَابَ الَّذِي أَرْسَلَهُ فَرَأَيْتُهُ بِخَطِّ الْجِنِّ - وَقَدْ رَأَيْتُ خَطَّ الْجِنِّ غَيْرَ مَرَّةٍ - وَفِيهِ كَلَامٌ مِنَ الْجِنِّ، وَذَاكَ الْمُعْتَقِدُ يَعْتَقِدُ أَنَّ الشَّيْخَ حَيٌّ، وَكَانَ يَقُولُ انْتَقَلَ ثُمَّ مَاتَ، وَكَذَلِكَ شَيْخٌ آخَرُ كَانَ بِالْمَشْرِقِ وَكَانَ لَهُ خَوَارِقُ مِنَ الْجِنِّ، وَقِيلَ: كَانَ بَعْدَ هَذَا يَأْتِي خَوَاصَّ أَصْحَابِهِ فِي صُورَتِهِ فَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ هُوَ. وَالَّذِينَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ بَقَاءَ عَلِيٍّ أَوْ بَقَاءَ مُحَمَّدِ بْنِ خَلِيفَةَ قَدْ كَانَ يَأْتِي إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِمْ جِنِّيٌ فِي صُورَتِهِ، وَهَكَذَا مُنْتَظَرُ الرَّافِضَةِ قَدْ يَرَاهُ أَحَدُهُمْ أَحْيَانًا وَيَكُونُ الْمَرْئِيُّ جِنِّيًّا.
((فَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ وَاقِعٌ كَثِيرًا، وَكُلَّمَا كَانَ الْقَوْمُ أَجْهَلَ كَانَ عِنْدَهُمْ أَكْثَرَ، فَفِي الْمُشْرِكِينَ أَكْثَرُ مِمَّا فِي النَّصَارَى، وَهُوَ فِي النَّصَارَى كَمَا هُوَ فِي الدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ يُسْلِمُ بِسَبَبِهَا نَاسٌ وَيَتُوبُ بِسَبَبِهَا نَاسٌ يَكُونُونَ أَضَلَّ مِنْ أَصْحَابِهَا فَيَنْتَقِلُونَ بِسَبَبِهَا إِلَى مَا هُوَ
356
خَيْرٌ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ، كَالشَّيْخِ الَّذِي فِيهِ كَذِبٌ وَفُجُورٌ مِنَ الْإِنْسِ قَدْ يَأْتِيهِ قَوْمٌ كُفَّارٌ فَيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَيُسْلِمُونَ وَيَصِيرُونَ خَيْرًا مِمَّا كَانُوا وَإِنْ كَانَ قَصْدُ ذَلِكَ الرَّجُلِ فَاسِدًا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((إِنَّ اللهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ وَبِأَقْوَامٍ لَا خَلَاقَ لَهُمْ)) وَهَذَا كَانَ كَالْحُجَجِ وَالْأَدِلَّةِ الَّتِي يَذْكُرُهَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالرَّأْيِ فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ بِهَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبَاطِلِ، وَيَقْوَى بِهَا قُلُوبُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ، وَإِنْ كَانَتْ فِي نَفْسِهَا بَاطِلَةً فَغَيْرُهَا أَبْطَلُ مِنْهَا وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ دَرَجَاتٌ، فَيَنْتَفِعُ بِهَا أَقْوَامٌ يَنْتَقِلُونَ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، ((وَقَدْ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ مُبْتَدِعَةُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى الْكَفَّارِ، فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَانْتَفَعُوا بِذَلِكَ وَصَارُوا مُسْلِمِينَ مُبْتَدِعِينَ، وَهُوَ
خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَكُونُوا كُفَّارًا وَكَذَلِكَ بَعْضُ الْمُلُوكِ قَدْ يَغْزُو غَزْوًا يَظْلِمُ فِيهِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارَ وَيَكُونُ آثِمًا بِذَلِكَ، وَمَعَ هَذَا فَيَحْصُلُ بِهِ نَفْعُ خَلْقٍ كَثِيرٍ كَانُوا كُفَّارًا فَصَارُوا مُسْلِمِينَ، وَذَاكَ كَانَ شَرًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَائِمِ بِالْوَاجِبِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُفَّارِ فَهُوَ خَيْرٌ، وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْفَضَائِلِ وَالْأَحْكَامِ وَالْقَصَصِ، قَدْ يَسْمَعُهَا أَقْوَامٌ فَيَنْتَقِلُونَ بِهَا إِلَى خَيْرٍ مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ كَذِبًا وَهَذَا كَالرَّجُلِ يُسْلِمُ رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا وَرَهْبَةً مِنَ السَّيْفِ، ثُمَّ إِذَا أَسْلَمَ وَطَالَ مُكْثُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ دَخَلَ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ، فَنَفْسُ ذُلِّ الْكُفْرِ عَلَيْهِ وَانْقِهَارِهِ وَدُخُولِهِ فِي حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَبْقَى كَافِرًا، فَانْتَقَلَ إِلَى خَيْرٍ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ وَخَفَّ الشَّرُّ الَّذِي كَانَ فِيهِ، ثُمَّ إِذَا أَرَادَ اللهُ هِدَايَتَهُ أَدْخَلَ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ، وَاللهُ تَعَالَى بَعَثَ الرُّسُلَ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا، وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَعْلِيلِهَا، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا الْخَلْقَ بِغَايَةِ الْإِمْكَانِ، وَنَقَلَ كُلَّ شَخْصٍ إِلَى خَيْرٍ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ بِحَسْبِ الْإِمْكَانِ، (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (٤٦: ١٩) وَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ يَرُدُّونَ بَاطِلًا بِبَاطِلٍ وَبِدَعَةً بِبِدْعَةٍ، لَكِنْ قَدْ يَرُدُّونَ بَاطِلَ الْكُفَّارِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ بِبَاطِلِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَصِيرُ الْكَافِرُ مُسْلِمًا مُبْتَدِعًا، وَأَخَصُّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُرُدُّ الْبِدَعَ الظَّاهِرَةَ كَبِدْعَةِ الرَّافِضَةِ بِبِدْعَةٍ أَخَفَّ مِنْهَا وَهِيَ بِدْعَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَصْنَافَ الْبِدَعِ، انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ.
(أَقُولُ) كُلُّ الْمُشَاهَدَاتِ الَّتِي نَقَلَ خَبَرَهَا شَيْخُ الْإِسْلَامِ هُنَا مَشْهُورَةٌ عَنْ أَهْلِ عَصْرِهِ وَأَهْلِ عَصْرِنَا، وَقَدْ نَقَلَ عَنِ الشِّيعَةِ أَنَّهُمْ يَسْتَفْتُونَ الْمَهْدِيَّ الْمُنْتَظَرَ فِي بَعْضِ الْمُشْكِلَاتِ، فَيَضَعُونَ
357
وَرَقَةَ الِاسْتِفْتَاءِ فِي كُلِّ شَجَرَةٍ ثُمَّ يَجِدُونَ الْفَتْوَى مَكْتُوبَةً عَلَيْهَا وَأَنَّهَا عِنْدَهُمْ مِنْ أَقْوَى الْحُجَجِ أَوْ أَقْوَاهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْمَنَارِ، وَمِنْ هَذَا مَا يَكُونُ مِنْ حِيَلِ شَيَاطِينِ النَّاسِ وَتَزْوِيرِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُمْ شَرٌّ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ.
(بَعْضُ حِكَايَاتِ النَّصَارَى الْمُعَاصِرِينَ فِي رُؤْيَةِ الْمَسِيحِ وَمَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ).
إِنَّ الَّذِينَ يَتَرَاءَى لَهُمُ الْمَسِيحُ أَوْ أُمُّهُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَوْ غَيْرُهُمَا مِنَ الْقِدِّيسِينَ عِنْدَهُمْ كَثِيرُونَ، وَمِنَ الرِّجَالِ الْمَشْهُورِينَ بِهَذَا فِي هَذَا الزَّمَانِ رَشِيدٌ بِكُّ مُطْرَانُ وَهُوَ وَجِيهٌ سُورِيٌّ مِنْ بَعْلَبَكَّ مَشْهُورٌ يُقِيمُ فِي أُورُبَّةَ وَيَكُونُ غَالِبًا فِي (بَارِيسَ) فَهُوَ يَرَى أَوْ يَتَرَاءَى لَهُ مِثَالُ السَّيِّدَةِ مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ فِي الْيَقَظَةِ كَثِيرًا وَيَسْأَلُهَا عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا يُشْكِلُ عَلَيْهِ فَتُجِيبُهُ. وَحَدَّثَنِي الْأَمِيرُ شَكِيبُ أَرْسَلَانُ عَنْهُ أَنَّهُ سَأَلَهَا مَرَّةً عَنْ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَجَابَتْهُ مُثْنِيَةً عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَنَاءً عَظِيمًا لَمْ أَحْفَظْهُ.
وَقَرَأْتُ فِي جَرِيدَةِ مِرْآةِ الْغَرْبِ الْغَرْبِيَّةِ الَّتِي صَدَرَتْ فِي (نِيويُورْكَ) فِي مَارِسَ سَنَةَ ١٩٣٣ رِسَالَةً مِنْ عَمَّانَ عَاصِمَةِ إِمَارَةِ شَرْقِ الْأُرْدُنِّ كُتِبَتْ فِي ٢٦ مِنْ كَانُونَ الثَّانِي (يَنَايِرَ) سَنَةَ ١٩٢٣ (الْمُوَافِقِ ٢٩ رَمَضَانَ سَنَةَ ١٣٥١) مُلَخَّصُهَا أَنَّ امْرَأَةً نَصْرَانِيَّةً فِي عَمَّانَ اسْمُهَا حِنَّةُ بِنْتُ إِلْيَاسَ غَابِي الْمُلَقَّبِ صِهْرَ اللهِ مُتَزَوِّجَةً وَلَهَا أَوْلَادٌ وَأَخٌ، فَقِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ بِالتَّقْوَى عَرَضَ لَهَا مُنْذُ سَنَةٍ وَنِصْفٍ نَزِيفٌ دَمَوِيٌّ عَقِبَ الْوِلَادَةِ وَأُرِيدَ عَمَلُ عَمَلِيَّةٍ جِرَاحِيَّةٍ لَهَا فَأُرْشِدَتْ إِلَى التَّوَجُّهِ أَوَّلًا إِلَى الطَّبِيبِ السَّمَاوِيِّ، فَدَعَتْ يَسُوعَ لَيْلًا ثُمَّ ذَهَبَتْ إِلَى الْكَنِيسَةِ بَعْدَ مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ لِتُصَلِّيَ وَهِيَ فِي حَالِ غَيْبُوبَةٍ أَوْ عَقِبَ رُؤْيَا، فَرَأَتِ الْكَنِيسَةَ خَالِيَةً وَشَاهَدَتْ فِي الْهَيْكَلِ شَخْصًا يُحِيطُ بِهِ نُورٌ عَظِيمٌ فَاشْتَدَّ خَوْفُهَا وَرُعْبُهَا، فَدَعَاهَا وَقَالَ لَهَا: لَا تَخَافِي أَنَا الْمَسِيحُ، فَرَكَعَتْ عَلَى قَدَمَيْهِ وَقَالَتْ لَهُ اشْفِنِي يَا سَيِّدُ، فَقَالَ لَهَا: حَسَبُ إِيمَانِكِ يَكُونُ لَكِ، فَبَرِئَتْ وَقَرَّرَ الْأَطِبَّاءُ بَعْدَ فَحْصِهَا أَنَّهُ لَمْ تَبْقَ حَاجَةٌ إِلَى الْعَمَلِيَّةِ الْجِرَاحِيَّةِ فَازْدَادَتْ عِبَادَةً وَتَقْوَى.
((وَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ ك٢ مِنْ ((يَنَايِرَ)) شَعَرَتْ فِي مُنْتَصَفِ السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ بِيَدٍ تَهُزُّهَا مِنَ الْكَتِفِ، فَفَتَحَتْ عَيْنَيْهَا فَإِذَا نُورٌ عَظِيمٌ فِي الْغُرْفَةِ وَفِي وَسَطِ النُّورِ شَخْصُ الْمَلَاكِ يَقُولُ لَهَا: سَيَحْدُثُ ضِيقٌ عَظِيمٌ فِي الْعَالَمِ، وَلَكِنْ لَا تَخَافُوا وَسَتَكُونُ لَكُمْ هَذِهِ الْعَلَامَةُ - وَكَانَ بِيَدِهِ كَأْسٌ فَغَمَسَ الْيَدَ الْأُخْرَى فِي الْكَأْسِ وَبِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ وَضَعَ عَلَى جَبِينِهَا عَلَامَةً ثُمَّ تَرَكَهَا وَقَالَ: اعْطُوا مَجْدَ اللهِ فَقَامَتْ وَصَارَتْ تُمَجِّدُ اللهَ بِصَوْتٍ عَالٍ فَهَبَّ أَهْلُهَا وَقَالُوا لَهَا: مَاذَا جَرَى لَكِ؟ فَقَالَتْ:
أَلَمْ تَرَوُا النُّورَ وَتَسْمَعُوا الصَّوْتَ؟ قَالُوا لَا، قَالَتْ: جِيئُونِي بِالضَّوْءِ، فَلَمَّا أَحْضَرُوا الْقِنْدِيلَ رَأَوْا فِي جَبِينِهَا عَلَامَةَ طَائِرٍ يُشْبِهُ النَّسْرَ صَافًّا جَنَاحَيْهِ مُمْتَدًّا عَلَى طُولِ جَبِينِهَا وَعَرْضِهِ (أَيْ جَبْهَتِهَا) وَلَيْسَ مَاسًّا لِلْحَاجِبَيْنِ وَلَا شَعْرِ الرَّأْسِ، وَلَوْنُهُ عُنَّابِيٌّ كَالدَّمِ وَرَسْمُهُ مُتْقَنٌ كَأَنَّهُ رَسْمُ فَنَّانٍ عَظِيمٍ)).
358
وَقَالَتْ كَاتِبَةُ الرِّسَالَةِ: إِنَّ أَهْلَ عَمَّانَ لَمَّا عَلِمُوا بِهَذِهِ الْحَادِثَةِ أَقَبَلَ النَّاسُ مِنْ وَطَنِيِّينَ وَأَجَانِبَ عَلَى اخْتِلَافِ أَدْيَانِهِمْ فَشَاهَدُوا هَذَا الرَّسْمَ وَعُنِيَ الْأَطِبَّاءُ بِإِزَالَتِهِ فَعَجَزُوا، وَإِنَّ الَّذِينَ شَاهَدُوهَا يُعَدُّونَ بِالْمِئَاتِ، ثُمَّ نَقَلَتْ عَنْ قِسِّيسٍ مَعْرُوفٍ جَاءَ مِنْ نَابْلُسَ وَكَتَبَ عَنْهَا مَا يَأْتِي مُلَخَّصًا:
(قَالَتْ إِنَّهُ ظَهَرَ لَهَا الْمَلَاكُ مَرَّةً ثَانِيَةً فِي لَيْلَةِ السَّبْتِ السَّابِعَةِ مِنَ الشَّهْرِ نَفْسِهِ (يَنَايِرَ) وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبِينِهَا فَزَالَتِ الْعَلَامَةُ، فَقَالَتْ لَهُ يَارَبِّ ارْفَعِ الضَّيِّقَ عَنِ الْعَالَمِ، فَقَالَ: ((سَيَرَوْنَ)) أَعْمَالَ اللهِ)) قَالَتْ: ارْحَمْنَا يَا رَبِّ، قَالَ: ((تَكْفِيكُمْ نِعْمَتِي)) وَفِي ثَانِي لَيْلَةٍ أَفَاقَ أَهْلُهَا فَوَجَدُوهَا وَاقِفَةً تَتَكَلَّمُ بِالْعِبْرَانِيِّ فَكَتَبُوا مَا قَالَتْهُ وَتَرْجَمُوهُ بِالنَّهَارِ فَإِذَا هُوَ تَسْبِيحٌ وَتَمْجِيدٌ لِلَّهِ ثُمَّ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهَا فِي اللَّيَالِي التَّالِيَةِ بِاللُّغَاتِ الْأَلْمَانِيَّةِ وَالْفَرَنْسِيَّةِ وَالطَّلْيَانِيَّةِ وَفِي الْخَامِسَةِ وَثُلُثٍ بِالْعَرَبِيِّ وَالْيُونَانِيِّ، وَكَانَتْ تَرْتِيلَةُ الْعَرَبِيِّ مِنْ نَظْمِهَا وَقَوْلِهَا ((اصْفَحْ عَنْ ذَنْبِي يَا رَبِّي، خُذْنِي يَا رَبِّي، خُذْنِي إِلَى أُورْشَلِيمَ)) ثُمَّ لَمْ يَحْدُثْ شَيْءٌ. إِلَّا أَنَّ الْمَلَاكَ ظَهَرَ لَهَا لَيْلَةَ ١٧ مِنَ الشَّهْرِ وَوَضَعَ عَلَيْهَا الْعَلَامَةَ وَقَالَ: ((لِتَكُنْ هَذِهِ الْعَلَامَةُ مُبَارَكَةً ثُمَّ اخْتَفَى، ثُمَّ ظَهَرَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ وَمَحَا الْعَلَامَةَ. انْتَهَى بِاخْتِصَارٍ وَبِلَفْظِهِ إِلَّا تَصْحِيحَ كُلَيْمَاتٍ قَلِيلَةٍ.
(أَقُولُ) سُئِلَ بَعْضُ أُدَبَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي عَمَّانَ كِتَابَةً عَنْ هَذِهِ الْحِكَايَةِ، وَعَمَّا رُوِيَ فِي بَعْضِ الْجَرَائِدِ مِنْ رُؤْيَةِ مَوْتَى مِنَ الصَّحَابَةِ لَمْ تَبْلَ أَجْسَادُهُمْ وَلَا لَفَائِفُهُمْ فَأَنْكَرَهَا. وَقَدْ سَبَقَ لِي تَحْقِيقٌ لِأَمْثَالِ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ مُلَخَّصُهُ أَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ مَحْضٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ تَخَيُّلٌ وَلَّدَتْهُ الْأَوْهَامُ يُشْبِهُ الرُّؤَى وَالْأَحْلَامَ، وَمِنْهَا مَا هُوَ رُؤْيَةٌ لِشَيْءٍ مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ مِنْ عَالَمِ الْأَرْوَاحِ الَّتِي تَتَمَثَّلُ بِأَجْسَامٍ لَطِيفَةٍ جِدًّا لَا يُدْرِكُهَا إِلَّا بَعْضُ النَّاسِ فِي أَحْوَالٍ خَاصَّةٍ قَرِيبَةٍ مِنَ التَّجَرُّدِ مِنْ كَثَافَةِ الْحِسِّ، وَمِنْهَا مَا يَتَمَثَّلُ بِصُورَةٍ مَادِّيَّةٍ كَثِيفَةٍ كَمَا صَحَّ مِنْ رُؤْيَةِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - لِلْمَلَكِ
وَلِلْجِنِّ، وَالْمُشْتَغِلُونَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ بِمُعَالَجَةِ رُؤْيَةِ الْأَرْوَاحِ يُسَمُّونَ صَاحِبَ الِاسْتِعْدَادِ الْخَاصِّ لِرُؤْيَةِ الْأَرْوَاحِ بِالْوَسِيطِ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَنَا أَنَّ أَكْثَرَ الْمُدَّعِينَ لِذَلِكَ أُولُو كَذِبٍ وَحِيَلٍ وَتَلْبِيسٍ، وَأَنَّ أَقَلَّهُمْ يَرَوْنَ بَعْضَ الشَّيَاطِينِ مِنْ جُنْدِ إِبْلِيسَ، وَلَا سِيَّمَا شَيَاطِينِ الْمَوْتَى وَقُرَنَائِهِمُ الْعَارِفِينَ بِأَحْوَالِهِمْ، وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ يَقُولُ مَا قَرَأْتَ آنِفًا، وَهَذَا الَّذِي يَقُولُهُ لَا يُنْكِرُ أَحَدٌ مِنَ الصُّوفِيَّةِ وُقُوعَهُ لِكِبَارِ شُيُوخِهِمْ، بَلْ أَثْبَتُوا أَنَّ الشَّيْطَانَ يَتَرَاءَى لَهُمْ وَيُلَقِّنُهُمْ كَلَامًا مُدَّعِيًا أَنَّهُ رَبُّهُمْ، كَمَا حَكَاهُ الشَّعَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ الْجِيلَانِيِّ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ كَانَ الْقُطْبَ الْغَوْثَ الْأَكْبَرَ.
وَمُلَخَّصُهُ أَنَّهُ رَأَى نُورًا عَظِيمًا مَلَأَ الْأُفُقَ وَسَمِعَ مِنْهُ صَوْتًا يُخَاطِبُهُ بِأَنَّهُ رَبُّهُ وَقَدْ أَحَلَّ لَهُ الْمُحَرَّمَاتِ، فَقَالَ لَهُ: اخْسَأْ يَا لِعَيْنُ، فَتَحَوَّلَ النُّورُ ظَلَامًا وَدُخَانًا، وَقَالَ لَهُ قَدْ نَجَوْتَ مِنِّي بِفَقِهِكَ إِلَخْ. وَأَنَّهُ فَتَنَ بِهَذَا كَثِيرِينَ مِنْ كِبَارِ الشُّيُوخِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ جَمِيعَ غُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ قَدِ ادَّعَوْا أَنَّ اللهَ خَاطَبَهُمْ بِالْحَقَائِقِ وَكَشَفَ لَهُمْ مِنْهَا مَا لَمْ يَكْشِفْهُ لِغَيْرِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُمْ يَتَعَارَضُونَ فِي دَعَاوِيهِمُ الشَّيْطَانِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
359
وَلِلشَّيْخِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الشَّعَرَانِيِّ كِتَابٌ صَغِيرٌ سَمَّاهُ (الْأَنْوَارَ الْمُقَدَّسَةَ، فِي بَيَانِ آدَابِ الْعُبُودِيَّةِ) مَطْبُوعٌ مَعَ كِتَابِهِ الطَّبَقَاتِ، ذَكَرَ فِي أَوَّلِهِ أَنَّهُ سَمِعَ وَهُوَ فِي حَالَةٍ بَيْنِ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ هَاتِفًا يَسْمَعُ صَوْتَهُ وَلَا يَرَى شَخْصَهُ يَقُولُ لَهُ عَلَى لِسَانِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَلَامًا ذَكَرَهُ قَالَ: ((فَمَا اسْتَتَمَّ هَذَا الْكَلَامُ وَبَقِيَ عِنْدِي شَهْوَةُ نَفْسٍ لِمَقَامٍ مِنْ مَقَامِ الْأَوْلِيَاءِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ ثُمَّ بَسَطَ الْكَلَامَ عَلَى مُرَادِهِمْ بِالْهَاتِفِ وَعَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ: ((خَوْفًا أَنْ يَتَوَهَّمَ أَحَدٌ مِنَ الْقَاصِرِينَ الَّذِينَ لَا مَعْرِفَةَ عِنْدِهِمْ بِمَرَاتِبِ الْوَحْيِ أَنَّ ذَلِكَ وَحَيٌّ كَوَحْيِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَأَقُولُ: ((اعْلَمْ أَنَّ الْهَاتِفَ الْمَذْكُورَ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَلَكًا أَوْ وَلِيًّا أَوْ مِنْ صَالِحِي الْجِنِّ أَوْ هُوَ الْخِضْرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْخِضْرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيٌّ بَاقٍ لَمْ يَمُتْ، وَقَدِ اجْتَمَعْنَا بِمَنِ اجْتَمَعَ بِهِ وَبِالْمَهْدِيِّ وَأَخَذَ عَنْهُمَا طَرِيقَ الْقَوْمِ إِلَخْ.
ثُمَّ إِنَّهُ جَعَلَ الْوَحْيَ أَقْسَامًا وَضُرُوبًا كَثِيرَةً وَذَكَرَ مِنْهَا الْكَهَانَةَ وَالزَّجْرَ - أَيْ وَهُوَ أَسْفَلَهَا - وَوَحْيَ التَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ الْخَاصَّ بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَمَا بَيْنَهُمَا.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَرَاءِ مِنَ الْإِخْوَانِ سَأَلَهُ أَنْ يُمْلِيَ عَلَيَّ إِلْقَاءَ الْهَاتِفِ الَّذِي سَمِعَهُ جُمْلَةً
مِمَّا فَهِمَهُ مِنْ آدَابِ الْعُبُودِيَّةِ وَآدَابِ طَلَبِ الْعِلْمِ وَآدَابِ الْفُقَرَاءِ عُمُومًا وَخُصُوصًا ((وَمَا يَدْخُلُ عَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ مِنَ الدَّسَائِسِ فِي مَقَاصِدِهِمْ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ لَهُمْ بِالْمِرْصَادِ وَلَا يَنْجُو مِنْهُ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنْ عِبَادِ اللهِ)) وَهَذَا مَحَلُّ الشَّاهِدِ.
وَأَقُولُ: إِنَّ هَاتِفَهُ الَّذِي جَعَلَهُ الْأَصْلَ لِهَذَا التَّأْلِيفِ هُوَ مِنْ دَسَائِسِ الشَّيْطَانِ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُوَافِقٍ لِلشَّرْعِ الْمَعْصُومِ، بَلْ فِي هَذَا الْكِتَابِ كَثِيرٌ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لَهُ وَكَذَا كِتَابِهِ الطَّبَقَاتِ فَهِيَ مَنْ أَشَدِّ الْكُتُبِ إِفْسَادًا لِلدِّينِ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ وَآدَابِهِ بِمَا فِيهَا مِنْ وَحْيِ الشَّيَاطِينِ، فَقَدْ أَصْبَحَ الْمَلَايِينُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مُشْرِكِينَ بِاللهِ تَعَالَى بِعِبَادَةِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمُ الْأَوْلِيَاءَ وَقَبُولِ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ مِنْ وَحْيِ الشَّيَاطِينِ، وَهُمْ يَتَّبِعُونَ الدَّجَّالِينَ وَمُدَّعِي عِلْمِ الْغَيْبِ وَقَضَاءِ الْحَوَائِجِ بِالْكَرَامَاتِ أَوِ اسْتِخْدَامِ الْجِنِّ، وَهَؤُلَاءِ الدَّجَّالُونَ يَسْلُبُونَ أَمْوَالَهُمْ، وَيَهْتِكُونَ أَعْرَاضَهُمْ، وَفِي نَصِّ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى أَنَّ الْجِنَّ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، وَأَصْبَحَ فَرِيقٌ آخَرُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ تَلَقَّوُا الْعُلُومَ الْعَصْرِيَّةَ وَتَرَبَّوْا تَرْبِيَةً اسْتِقْلَالِيَّةً، يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينٌ خُرَافِيٌّ كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ.
عَلَى أَنَّ مِنْ دُعَاةِ الْأَدْيَانِ وَالنِّحَلِ الْجَدِيدَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ التَّصَوُّفِ مَنْ أَلْبَسُوا دَعَايَتَهُمْ ثَوْبَ الْمَدَنِيَّةِ الْعَصْرِيَّةِ، وَهُمْ يَبُثُّونَهَا فِي بِلَادِ الْإِفْرِنْجِ كَالْبَهَائِيَّةِ وَالْقَادَيَانِيَّةِ الْأَحْمَدِيَّةِ، وَكُلُّ خِلَابَتِهِمْ مُسْتَمَدَّةٌ مِنْ تَأْوِيلَاتِ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ ادَّعَوُا الْوَحْيَ وَادَّعَوُا الْأُلُوهِيَّةَ مِنْ طَرِيقِ وَحْدَةِ الْوُجُودِ وَغَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَالْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ قَدْ جَعَلَهَا اللهُ وَسَطَا بَيْنَ الْغَالِينَ وَالْمُقَصِّرِينَ، مِنَ الْمُعَطَّلِينَ وَالْمُشْرِكِينَ،
360
فَهِيَ لَا تَعْبُدُ إِلَّا اللهَ، وَلَا تُؤْمِنُ بِوَحْيٍ وَلَا نُبُوَّةٍ لِأَحَدٍ بَعْدَ مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَلَا بِتَشْرِيعٍ دِينِيٍّ إِلَّا مَا جَاءَ بِهِ عَنِ اللهِ، وَلَا بِوِلَايَةٍ إِلَّا مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ اللهِ، وَقَدْ صَارَ الْمُعْتَصِمُونَ بِهَذَا فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْبِلَادِ، الَّتِي انْتَشَرَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَسَادُ، جَمَاعَاتٍ قَلِيلَةَ الْأَفْرَادِ، فَإِنْ لَمْ يَنْصُرْهَا اللهُ ضَاعَ فِيهَا الْإِسْلَامُ.
(اسْتِطْرَادٌ، فِي أَصْلِ الْإِسْلَامِ، وَمَا طَرَأَ عَلَيْهِ مِنَ الْفَسَادِ)
(مِنْ طَرِيقِ السِّيَاسَةِ وَالْفَلْسَفَةِ وَالتَّصَوُّفِ)
أَيُّهَا الْقَارِئُ لِهَذَا التَّفْسِيرِ، قَدْ آنَ أَنْ أُصَارِحَكَ بِمَسَائِلَ مُخْتَصَرَةٍ هِيَ ثَمَرَةُ عِلْمٍ وَعَمَلٍ وَعِبَادَةٍ وَرِيَاضَةٍ وَتَصَوُّفٍ وَتَعْلِيمٍ وَتَصْنِيفٍ وَمُنَاظَرَاتٍ وَمُحَاجَّةٍ فِي مُدَّةِ نِصْفِ قَرْنٍ كَامِلٍ، لَمْ يَشْغَلْنِي عَنْهَا مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا شَاغِلٌ، وَإِنَّهَا لَكَلِمَاتٌ فِي حَقِيقَةِ دِينِ اللهِ وَعُلَمَائِهِ وَعِبَادِهِ صَادِرَةٌ عَنْ بَصِيرَةٍ وَتَجْرِبَةٍ، فَتَأَمَّلْهَا بِإِخْلَاصٍ وَاسْتِقْلَالِ فِكْرٍ، وَلَا يَصُدَنَّكَ عَنِ النَّظَرِ فِيهَا لِذَاتِهَا وَالِاعْتِمَادِ فِي ثُبُوتِهَا عَلَى مَصَادِرِهَا، حِرْمَانُ الْمُعَاصِرَةِ، وَاحْتِقَارُ الْأَحْيَاءِ، وَتَقْدِيسُ شُهْرَةِ الْأَمْوَاتِ، وَاتِّهَامُ قَائِلِهَا بِالْغُرُورِ وَالدَّعْوَى، فَإِنْ عَرَضَ لَكَ رَيْبٌ أَوْ شُبْهَةٌ فِي شَيْءٍ مِنْهَا فَارْجِعْ إِلَى مَصَادِرِهَا وَدَلَائِلِهَا، أَوِ ارْجِعْ إِلَى كَاتِبِهَا فَاسْأَلْهُ عَنْهَا، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ غَرَضَكَ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ لِذَاتِهِ، دُونَ التَّعَصُّبِ وَالْجَدَلِ، أَوِ التَّحَرُّفِ لِمَذْهَبٍ أَوِ التَّحَيُّزِ إِلَى فِئَةٍ.
(الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى) أَنَّ هَذَا الدِّينَ (الْإِسْلَامَ) وَحْيٌ إِلَهِيٌّ إِلَى نَبِيٍّ أُمِّيٍّ ظَهَرَ فِي أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ جَاهِلِيَّةٍ ; لِيُعَلِّمَهَا الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُزَكِّيَهَا بِالْعِلْمِ وَالْعَدْلِ وَالْفَضِيلَةِ، فَيَجْعَلَهَا بِهِ مُعَلِّمَةً وَهَادِيَةً لِجَمِيعِ شُعُوبِ التَّعْطِيلِ وَالْأَدْيَانِ وَالْفَلْسَفَةِ وَالْحَضَارَةِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ شَهِدَ فِي كِتَابِهِ بِأَنَّهُ أَكْمَلَ هَذَا الدِّينَ لِعِبَادِهِ فِي آخِرِ عُمْرِ نَبِيِّهِ، لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ بَعْدَهُ عَقِيدَةً وَلَا عِبَادَةً وَلَا تَحْرِيمًا دِينِيًّا مُطْلَقًا، وَلَا تَشْرِيعًا مَدَنِيًّا، إِلَّا مَا أَذِنَ بِهِ لِأُولِي الْأَمْرِ مِنَ الِاجْتِهَادِ عَلَى أَسَاسِ نُصُوصِهِ وَقَوَاعِدِهِ، فَكَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ وَأَفْقَهَهُمْ بِهِ وَأَصَّحَهُمْ دَعْوَةً إِلَيْهِ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَالْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، أُولَئِكَ الْأُمِّيُّونَ الَّذِينَ تَلَقَّوْهُ عَنْ ذَلِكَ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَهُمْ خُلَفَاؤُهُ وَأَصْحَابُهُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - فَهَذِهِ إِحْدَى مُعْجِزَاتِهِ إِذْ لَوْ كَانَ هَذَا الدِّينُ وَضْعًا بَشَرِيًّا لَكَانَ كَسَائِرِ الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي تَظْهَرُ مَبَادِئُهَا الْأُولَى نَاقِصَةً ثُمَّ تَنْمَى (وَفِي لُغَةٍ ضَعِيفَةٍ اشْتُهِرَتْ تَنْمُو) وَتَتَكَامَلُ بِالتَّدْرِيجِ، فَهَذِهِ سُنَّةٌ مِنَ السُّنَنِ الْمُطَّرِدَةِ فِي عُلُومِ الْبَشَرِ.
(الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ) مِنَ الْبَرَاهِينِ الْعِلْمِيَّةِ الثَّابِتَةِ بِالشَّوَاهِدِ الْعَمَلِيَّةِ، عَلَى أَنَّ هَذَا الدِّينَ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدِ اهْتَدَوْا بِإِرْشَادِهِ إِلَى الْبَحْثِ وَالنَّظَرِ فِي جَمِيعِ أُمُورِ الْعَالَمِ السَّمَاوِيِّ وَالْأَرْضِيِّ، وَلَا سِيَّمَا نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَعُلُومِهِ وَفَلْسَفَتِهِ وَأَدْيَانِهِ وَنُظُمِهِ وَتَشْرِيعِهِ وَآدَابِ شُعُوبِهِ فَازْدَادُوا بِكُلٍّ مِنْ ذَلِكَ عِلْمًا بِحَقِّيَّةِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَظَهَرَ لِلرَّاسِخِينَ فِي عِلْمِهِ أَنَّ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أُولَئِكَ الْأُمِّيُّونَ الْأَوَّلُونَ أَوْ أَكْثَرُهُمْ هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ كُلَّ مَا خَالَفَ نُصُوصَهُ الْقَطْعِيَّةَ مِنَ الْعَقَائِدِ
361
وَالْآرَاءِ وَالْأَفْكَارِ الْبَشَرِيَّةِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَمِنْهُ جَمِيعُ نَظَرِيَّاتِ الْمُتَكَلِّمِينَ الْعَقْلِيَّةِ، وَكَشْفُ فَلْسَفَةِ الصُّوفِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ، وَأَنَّ الْمَصْلَحَةَ لِلْمُسْلِمِينَ وَلِلْبَشَرِ كَافَّةً أَنْ يَقْصُرُوا هِدَايَةَ الدِّينِ عَلَى نُصُوصِ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلَةِ، وَمَا بَيَّنَهُ مِنْ سُنَّةِ الرَّسُولِ الْمُتَّبَعَةِ، وَسِيرَةِ خُلَفَائِهِ وَجُمْهُورِ عِتْرَتِهِ وَأَصْحَابِهِ قَبْلَ فُشُوِّ الِابْتِدَاعِ وَالتَّفَرُّقِ فِي الْمِلَّةِ، ثُمَّ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ مِنْ مُجْتَهَدِي الْأُمَّةِ، وَأَنْ يَعْذُرَ بَعْضُهَمْ بَعْضًا فِيمَا لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْأُصُولِ مِنَ الْمَسَائِلِ غَيْرِ الْقَطْعِيَّةِ فِي الدِّينِ فَلَا يَجْعَلُوهُ سَبَبًا لِلتَّفَرُّقِ وَالشِّقَاقِ، بِالتَّعَصُّبِ لِلْمَذَاهِبِ وَالشِّيَعِ وَالْأَحْزَابِ ; لِئَلَّا يَكُونُوا مِمَّنْ قَالَ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ فِيهِمْ: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (٦: ١٥٩) فَاسْتَحَقُّوا وَعِيدَ قَوْلِهِ: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) (٦: ٦٥) وَقَوْلِهِ: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (٣: ١٠٥).
(الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) أَنَّ الْبِدَعَ الَّتِي فَرَّقَتِ الْأُمَّةَ فِي أُصُولِ دِينِهَا وَجَعَلَتْهَا شِيَعًا تُؤْثِرُ كُلُّ شِيعَةٍ أَتْبَاعَ زُعَمَائِهَا وَمَذَاهِبِهَا عَلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَهَدْيِ سَلَفِهِ الصَّالِحِ بِالتَّأْوِيلِ، مِنْ حَيْثُ تَدَّعِي أَنَّ أَئِمَّتَهَا أَعْلَمُ مِنْ مُخَالِفِيهِمْ بِتَأْوِيلِ الْكِتَابِ وَالْحَدِيثِ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ مُؤَيَّدٌ بِالْكَشْفِ وَبَعْضَهُمْ بِالْعِصْمَةِ، فَهُمْ أَحَقُّ بِأَنْ يُقَلَّدُوا وَيُتَّبَعُوا، وَلَكِنَّ الْأَعْلَمَ إِنَّمَا يُعْلَمُ بِالدَّلِيلِ لَا بِالتَّقْلِيدِ، وَإِنَّمَا تُفْهَمُ النُّصُوصُ بِقَوَاعِدِ اللُّغَةِ وَالسُّنَّةِ الْعَمَلِيَّةِ لَا بِمَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّأْوِيلِ، وَلِهَذِهِ الْبِدَعِ الْمُفَرِّقَةِ ثَلَاثُ مَثَارَاتٍ مِنْ أَرْكَانِ حَضَارَةِ الْأُمَمِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ: السِّيَاسَةُ وَالسُّلْطَانُ، وَالْعِلْمُ الْعَقْلِيُّ وَالْعُرْفَانُ
وَفَلْسَفَةُ التَّعَبُّدِ وَالْوِجْدَانِ، وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ دَعْوَى عِلْمِ الْغَيْبِ الْمُسَمَّى بِالْكَشْفِ، وَالْكَرَامَاتِ الشَّامِلَةِ لِدَعْوَى التَّصَرُّفِ فِي الْكَوْنِ، وَنَقُولُ فِي كُلٍّ مِنْهَا كَلِمَةً:
(١) السِّيَاسَةُ الدَّوْلِيَّةُ وَكَانَ مَثَارَهَا الْأَوَّلَ مَا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -، ثُمَّ كَانَ أَشَدَّهَا إِفْسَادًا مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالشِّيعَةِ، وَقَدْ زَالَتِ الْخِلَافَةُ وَضَاعَتْ سِيَادَةُ الْأُمَّةِ مِنْ أَكْثَرِ الْعَالَمِ، وَمَفَاسِدُهَا لَا تَزَالُ مَاثِلَةً، بِمَا لِلزُّعَمَاءِ الْمُسْتَغِلِّينَ لَهَا مِنَ الْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ الزَّائِلَةِ، وَإِنَّهَا لَعَصَبِيَّةٌ قَضَتْهَا السِّيَاسَةُ، وَسَتَقْضِي عَلَيْهَا السِّيَاسَةُ، وَقَدْ زَالَتِ السُّلْطَةُ الدِّينِيَّةُ مِنْ بَعْضِ مَمَالِكِ الْمُسْلِمِينَ وَبَقِيَ لَهَا بَقِيَّةٌ فِي بَعْضٍ، وَبَعْضُهَا مُذَبْذَبَةٌ بَيْنَ بَيْنَ، وَلَا مَحَلَّ لِبَسْطِ ذَلِكَ هُنَا وَلَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الْوَقْتِ. إِلَّا التَّذْكِيرُ بِأَنَّ الْمُنْتَمِينَ إِلَى مَذَاهِبِ السُّنَّةِ قَدْ غَلَبَهُمْ جَهَلَةُ الْأَعَاجِمِ عَلَى خِلَافَتِهِمْ بَعْدَ أَنْ جَعَلُوهَا عَصَبِيَّةً وِرَاثِيَّةً، فَلَمْ يَعْمَلُوا أَيَّ عَمَلٍ لِتَقْوِيَتِهَا بَعْدَ ضَعْفِهَا، وَلَا لِإِحْيَائِهَا بَعْدَ مَوْتِهَا وَلَمْ يَضَعُوا نِظَامًا لِلِاسْتِعْدَادِ لِذَلِكَ عِنْدَ سُنُوحِ الْفُرْصَةِ كَمَا فَعَلَ الْكَاثُولِيكُ بِنِظَامِ الْفَاتِيكَانِ الْبَابَوِيِّ، وَكَانَتِ الزَّيْدِيَّةُ مِنَ الشِّيعَةِ الْمُعْتَدِلَةِ أَشَدَّ حَزْمًا وَاعْتِصَامًا مِنْهُمْ بِنَصْبِ إِمَامٍ بَعْدَ إِمَامٍ لَهُمْ فِي جِبَالِ الْيَمَنِ يَتَوَلَّوْنَهُ وَيُقَاتِلُونَ مَعَهُ بَيْدَ أَنَّهُمْ قَصَّرُوا فِي وَضْعِ نِظَامٍ لِتَعْمِيمِ الدَّعْوَةِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لَهُ بِالْعِلْمِ وَالْمَالِ وَالْقُوَّةِ.
362
وَلَكِنَّ غُلَاةَ الشِّيعَةِ نَقَضُوا أَرْكَانَ الْإِسْلَامِ مِنْ أَسَاسِهِ بِدَعَايَةِ عِصْمَةِ الْأَئِمَّةِ، وَتَأْوِيلِ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَكَانَ هَذَا أَصْلَ كُلِّ ابْتِدَاعٍ مُخْرِجٍ مِنَ الْمِلَّةِ، إِذِ انْتَهَى بِأَهْلِهِ إِلَى ادِّعَاءِ الْوَحْيِ وَادِّعَاءِ الْأُلُوهِيَّةِ، فَخَرَجُوا مِنَ الْمِلَّةِ سِرًّا فَعَلَانِيَةً.
(٢) النَّظَرِيَّاتُ الْعَقْلِيَّةُ وَتَحْكِيمُهَا فِي النُّصُوصِ النَّقْلِيَّةِ، وَكَانَ أَضَرَّهَا وَشَرَّهَا ذَلِكَ التَّنَازُعُ بَيْنَ أَئِمَّةِ الِاتِّبَاعِ وَعَلَى رَأْسِهِمُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَدُعَاةِ الِابْتِدَاعِ مِنْ مُتَكَلِّمِي نُظَّارِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ، وَلَوْلَا تَدَخُّلُ سُلْطَانِ الْعَبَّاسِيِّينَ فِي نَصْرِ فَرِيقٍ عَلَى فَرِيقٍ، لَمَا وَصَلَتْ إِلَى ذَلِكَ الْحَدِّ مِنَ الشِّقَاقِ وَالتَّفْرِيقِ، وَقَدْ ضَعُفَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ فِي أَكْثَرِ الْأَمْصَارِ الْإِسْلَامِيَّةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا دُوَلٌ تَنْصُرُ بَعْضَ أَهْلِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَمَتَى تَوَطَّدَتْ حُرِّيَّةُ الْعِلْمِ كَانَ النَّصْرُ وَالْفَلْجُ لِأَهْلِ الْحَقِّ، وَسَيَمُوتُ مَا بَقِيَ مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ بِمَوْتِ الْفَلْسَفَةِ الْيُونَانِيَّةِ الَّتِي بُنِيَ عَلَى قَوَاعِدِهَا
وَنَظَرِيَّاتِهَا، بَلْ هِيَ قَدْ مَاتَتْ وَصَارَتْ مِنْ مَوَارِيثِ التَّارِيخِ الْعِلْمِيَّةِ، وَمَاتَ هُوَ وَإِنْ بَقِيَتْ لَهُ بَقِيَّةٌ تَقْلِيدِيَّةٌ فِي بَعْضِ الْمَدَارِسِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَسَيَخْلُفُهُ عِلْمٌ آخَرُ فِي حِرَاسَةِ الْعَقَائِدِ مِنْ شُبُهَاتِ الْعِلْمِ وَفَلْسَفَةِ هَذَا الْعَصْرِ، مَعَ إِبْقَاءِ الْخَلْطِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ عَقَائِدِ الدِّينِ وَمُحَاوَلَةِ تَحْكِيمِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي الْآخَرِ، كَمَا فَعَلَ نُظَّارُنَا الْمُتَقَدِّمُونَ فَجَنَوْا عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِمَا أَضْعَفَ سُلْطَانَ الدِّينِ فِي أَدَاءِ وَظِيفَتِهِ وَهِيَ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ، بِمَا يُوقِفُهَا عِنْدَ حُدُودِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَالْفَضِيلَةِ وَعَمَلِ الْبِرِّ، وَأَضْعَفَ سُلْطَانَ الْعِلْمِ فِي أَدَاءِ وَظِيفَتِهِ وَهِيَ إِظْهَارُ سُنَنِ اللهِ فِي الْعَالَمِ وَتَسْخِيرِ قُوَى الطَّبِيعَةِ لِمَنَافِعِ النَّاسِ، وَفِاقًا لِمَا أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ((أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأُمُورِ دُنْيَاكُمْ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَلَوْ بَقِينَا عَلَى تَأْوِيلِ الْمُتَكَلِّمِينَ لَهَانَ الْأَمْرُ ; لِأَنَّهُمْ يَجْرُونَ فِيهِ عَلَى قَوَاعِدِ اللُّغَةِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَمُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ، وَلَكِنْ نَبَتَتْ نَابِتَةٌ وَدَعَايَةٌ لِتَحْكِيمِ نَظَرِيَّاتِ الْعِلْمِ الْعَصْرِيِّ وَالنَّظَرِيَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ فِي نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا بِتَأْوِيلٍ يُوَافِقُ اللُّغَةَ وَأُصُولَ الشَّرْعِ كَمَا يَقُولُ الْمُتَكَلِّمُونَ بَلْ يَتْرُكُ مَدْلُولَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِأَنَّهَا غَيْرُ مُرَادَةٍ وَلَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِالْمُرَادِ مِنْهَا، وَلِبَعْضِ الدُّعَاةِ إِلَى هَذَا الْإِلْحَادِ فِي مِصْرَ كُتُبٌ تُطْبَعُ وَمَقَالَاتٌ تُنْشَرُ فِي الصُّحُفِ مُصَرِّحَةٌ بِهَذَا، وَمَشْيَخَةُ الْأَزْهَرِ تُقِرُّهَا لِأَنَّهَا لَا تَفْهَمُهَا.
(٣) دَعْوَى الْكَرَامَاتِ وَالْكَشْفِ، وَتَحْكِيمُهُ فِي عَقَائِدِ الدِّينِ وَعِبَادَاتِهِ وَآدَابِهِ وَتَفْسِيرِ نُصُوصِهِ، وَفِي أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَقَدْ نَجَمَتِ الْبِدَعُ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ صَغِيرَةً كَقُرُونِ الْمَعْزِ ثُمَّ كَبِرَتْ فَصَارَتْ كَقُرُونِ الْوُعُولِ الَّتِي تُنَاطِحُ الصُّخُورَ، هَاجَمَهَا عُلَمَاءُ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ يُؤَيِّدُهُمُ الْخُلَفَاءُ وَالْمُلُوكُ فَانْهَزَمَتْ أَمَامَهُمْ، حَتَّى إِذَا مَا ضَعُفَ الْعِلْمُ فَصَارَ تَقْلِيدِيًّا، وَضَعُفَ الْحُكْمُ فَصَارَ إِرْثًا جَهْلِيًّا، وَصَارَ صُوفِيَّةُ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ مِثْلِ الشَّعَرَانِيِّ وَسَلَاطِينُ مِصْرَ مِثْلَ قَايْتَبَايْ، خَضَعَتْ رِقَابُ الْمُسْلِمِينَ لِوِلَايَةِ مِثْلِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْحَضَرِيِّ الَّذِي يَصْعَدُ الْمِنْبَرَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَيَخْطُبُهُمْ فَيَقُولُ: ((أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ لَكُمْ إِلَّا إِبْلِيسُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
363
وَالسَّلَامُ)) ثُمَّ يَنْزِلُ فَيَسُلُّ السَّيْفَ فَيَهْرُبُ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمَسْجِدِ فَلَمْ يَتَجَرَّأْ أَحَدٌ عَلَى دُخُولِهِ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ وَيَزْعُمُ الشَّعَرَانِيُّ أَنَّ هَذَا الْوَلِيَّ الشَّيْطَانِيَّ نَفْسَهُ قَدْ خَطَبَ خُطْبَةَ الْجُمُعَةِ يَوْمَئِذٍ فِي
ثَلَاثِينَ مَسْجِدًا مِنْ مَسَاجِدِ الْقُطْرِ الْمِصْرِيِّ، بِنَاءً عَلَى قَاعِدَتِهِمْ أَنَّ الْوَلِيَّ قَدْ يَتَمَثَّلُ بِالصُّوَرِ الْكَثِيرَةِ فِي الْأَمْكِنَةِ الْمُخْتَلِفَةِ، كَالشَّيَاطِينِ وَالْمَلَائِكَةِ، وَهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا.
وَمِثْلُهُ ذَلِكَ الْوَلِيُّ الَّذِي كَانَ يُعَارِضُ الْقُرْآنَ بِالْهَذَيَانِ، وَالْوَلِيُّ الَّذِي كَانَ يَسْكُنُ فِي مَاخُورِ الْمُومِسَاتِ ; لِيَشْفَعَ لِكُلِّ مَنْ يَأْتِيهِنَّ عِنْدَ اللهِ وَيُمْسِكُهُ عِنْدَهُنَّ إِلَى أَنْ يُخْبِرَهُ كَشْفُهُ الشَّيْطَانِيَّ بِقَبُولِ شَفَاعَتِهِ فِيهِ وَمَغْفِرَةِ اللهِ لَهُ. وَكَانَ مِنْ كَرَامَاتِهِ إِتْيَانُ الْأَتَانِ - فَهَذَا الْكُفْرُ وَالشِّرْكُ وَالْإِلْحَادُ وَمُعَارَضَةُ الْقُرْآنِ، وَاجْتِرَاحُ كَبَائِرِ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، كُلُّهُ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَمْثَالِهِ مِنْ كَرَامَاتِ أَوْلِيَاءِ اللهِ الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَيُطِيعُ أَمْرَهُمْ رَضْوَانُ خَازِنُ الْجِنَانِ، وَمَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ، كَمَا نَقَلَهُ الشَّعَرَانِيُّ عَنِ الدُّسُوقِيِّ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، وَقَدْ رَسَخَتْ هَذِهِ الْخُرَافَاتُ فِي قُلُوبِ الْمَلَايِينِ مِنْ مُسْلِمِي مِصْرَ وَأَمْثَالِهَا مِنَ الْأَقْطَارِ، فَهُمْ يَعْتَمِدُونَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءِ فِي أُمُورِ دُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ.
وَإِنَّكَ لِتَجِدُ أَكْثَرَهُمْ يَحْتَجُّ عَلَى ذَلِكَ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا هَذَا الْبَيَانَ فِي صَدَدِ تَفْسِيرِهَا وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) (٣٩: ٣٤، ٤٢: ٢٢) فَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لِهَؤُلَاءِ الْأَوْلِيَاءِ الْخَيَالِيِّينَ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى يُعْطِيهِمْ كُلَّ مَا أَرَادُوا لِأَنْفُسِهِمْ وَلِغَيْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا يَزْعُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّ مِنْهُمْ أَقْطَابًا مُتَصَرِّفِينَ (أَوْ مُدْرِكِينَ) بِالْكَوْنِ كُلِّهِ، وَهَذَا افْتِرَاءٌ عَلَى اللهِ وَتَحْرِيفٌ لِكِتَابِهِ الْعَزِيزِ بِمَا هُوَ شِرْكٌ بِهِ سُبْحَانَهُ، وَإِنَّمَا وَرَدَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي عِدَّةِ سُوَرٍ فِي جَزَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ، لَا فِي أَوْلِيَاءِ الْخَيَالِ الْخُرَافِيِّ الْمَزْعُومِ، رَاجِعْ سُورَةَ النَّحْلِ (١٦: ٣٠ - ٣٢) وَسُورَةَ الْفُرْقَانِ (٢٥: ١٥، ١٦) وَسُورَةَ الزُّمَرِ (٣٩: ٣٣، ٣٤) وَسُورَةَ الشُّورَى (٤٢: ٢٢) وَسُورَةَ ق (٥٠: ٣١ - ٣٥).
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْفِتَنِ الْمُضِلَّةِ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ عَنِ الِاعْتِصَامِ بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ الْمُبَيِّنَةِ لَهُ عَلَى النَّهْجِ الَّذِي اهْتَدَى بِهِ سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الصَّالِحُ لَا يَقُومُ لِشَيْءٍ مِنْهَا حُجَّةٌ عَقْلِيَّةٌ ظَاهِرَةٌ وَلَا كَشْفِيَّةٌ بَاطِنَةٌ، وَلَوْ صَحَّ أَنَّهَا مِنَ الْإِسْلَامِ لَكَانَ مَا جَاءَ الرَّسُولَ نَاقِصًا ثُمَّ كَمَلَ بِهَا.
(بُطْلَانُ تَأْوِيلِ النُّصُوصِ لِلنَّظَرِيَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ، بَلَهَ الْبَاطِنِيَّةِ)
أَمَّا النَّظَرِيَّاتُ الْعَقْلِيَّةُ الَّتِي يَتَأَوَّلُ النُّصُوصَ لِأَجْلِهَا عُلَمَاءُ الْكَلَامِ، فَقَدْ ظَهَرَ بُطْلَانُهَا وَبُطْلَانُ الْفَلْسَفَةِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَيْهَا لِعُلَمَاءِ هَذَا الْعَصْرِ وَفَلَاسِفَتِهِ، وَقَدْ أَجْمَعَ هَؤُلَاءِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ النَّظَرِيَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ الْفَلْسَفِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ الْمُسَلَّمَةِ الْيَوْمَ لِأَنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ غَيْرِهَا فِي بَابِهَا، لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ يُعَدُّ مِنَ الْحَقَائِقِ الْقَطْعِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ الثَّابِتَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ نَقْضُهَا، بَلْ كُلُّهَا قَابِلَةٌ لِلنَّقْضِ وَالْبُطْلَانِ،
364
كَمَا ثَبَتَ بُطْلَانُ مِثْلِهَا مِنْ مُسَلَّمَاتِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ إِلَى السِّنِينَ الْأَخِيرَةِ مِنْ هَذَا الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ الْمِيلَادِيِّ، الَّتِي تَرَجَّحَ فِيهَا أَنَّ كُلَّ مَا عُرِفَ فِي هَذَا الْكَوْنِ مِنْ مَظَاهِرِ الْمَادَّةِ وَالْقُوَّةِ هُوَ مَظْهَرٌ لِتَرْكِيبٍ خَاصٍّ مَجْهُولٍ لِجُزْئَيِ الْكَهْرَبَاءِ الْإِيجَابِيِّ وَالسَّلْبِيِّ، الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِكَلِمَتَيِ (الْبُرُوتُونِ وَالْإِلِكْتِرُونِ) فَبَطَلَتْ بِهَذَا جَمِيعُ النَّظَرِيَّاتِ الْعِلْمِيَّةِ فِي الْمَادَّةِ وَالْقُوَّةِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ إِذَنْ تَأْوِيلُ نَصٍّ دِينِيٍّ قَطْعِيِّ الرِّوَايَةِ وَالدَّلَالَةِ فِي خَبَرٍ عَنْ عَالَمِ الْغَيْبِ مِنَ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ، لِنَظَرِيَّةٍ ظَنِّيَّةٍ فِي عَالَمِ الشَّهَادَةِ مِنَ الرَّأْيِ الْبَشَرِيِّ؟.
وَإِذَا بَطَلَ تَأْوِيلُ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ الْمَبْنِيِّ عَلَى قَوَاعِدِ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ وَمُرَاعَاةِ مَدْلُولَاتِ اللُّغَةِ، وَاشْتِرَاطِ عَدَمِ الْمُخَالَفَةِ لِأَصْلٍ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ، وَبَطَلَ تَأْوِيلُ الْمُعَاصِرِينَ لِمَا يُخَالِفُ الْعُلُومَ الْعَصْرِيَّةَ، فَأَجْدَرُ بِتَأْوِيلَاتِ الْبَاطِنِيَّةِ أَنْ تَكُونَ أَشَدَّ بُطْلَانًا لِأَنَّهَا تَحْكُمُ فِي اللُّغَةِ بِمَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مُفْرَدَاتُهَا، وَلَا قَوَاعِدُ نَحْوِهَا وَبَيَانِهَا، وَنَاقِضَةٌ لِأُصُولِ الشَّرْعِ وَقَوَاعِدِهِ الْقَطْعِيَّةِ الثَّابِتَةِ بِالْإِجْمَاعِ الْمُتَوَاتِرِ، وَالْعَمَلِ الَّذِي لَا مَجَالَ لِلتَّأْوِيلِ وَلَا لِلتَّحْرِيفِ فِيهِ، كَتَأْوِيلِ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ الْقَرَامِطَةِ السَّابِقَيْنِ، وَالْبَهَائِيَّةِ وَالْقَادَيَانِيَّةِ اللَّاحِقَيْنِ، الْبَهَائِيَّةِ الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى أُلُوهِيَّةِ الْبَهَاءِ، وَالْقَادَيَانِيَّةِ الَّذِينَ يَدْعُونَ إِلَى نُبُوَّةِ مِيرْزَا غُلَامِ أَحْمَدَ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَسْتَدِلُّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ مُخَالِفًا لِلُغَتِهِمَا عَلَى دِينِهِ الْجَدِيدِ الَّذِي غَايَتُهُ أَنْ يَتْبَعَهُ النَّاسُ وَيُقَدِّسُوهُ.
بُطْلَانُ الْأَخْذِ بِالْكَشْفِ فِي الدِّينِ:
وَأَمَّا الْكَشْفُ فَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ إِدْرَاكِ النَّفْسِ النَّاطِقَةِ غَيْرُ ثَابِتٍ وَلَا مُطَّرِدٌ، فَلَيْسَ بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ وَلَا شَرْعِيٍّ، وَإِنَّمَا هُوَ إِدْرَاكَاتٌ نَاقِصَةٌ تُخْطِئُ وَتُصِيبُ، وَقَدْ عُرِفَتْ أَسْبَابُهُ الطَّبِيعِيَّةُ وَأَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ فِطْرِيٌّ، وَمِنْهَا مَا هُوَ كَسْبِيٌّ وَصِنَاعِيٌّ، كَالتَّنْوِيمِ الْمِغْنَاطِيسِيِّ الْمَعْرُوفِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَمَا يُسَمُّونَهُ قِرَاءَةَ الْأَفْكَارِ وَمُرَاسَلَةَ الْأَفْكَارِ، وَيُشَبِّهُونَهُ بِنَقْلِ الْأَخْبَارِ بِخُطُوطِ الْأَسْلَاكِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ وَبِدُونِهَا، وَهُوَ يَقَعُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَيَعْتَرِفُ بِهِ صُوفِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ لِصُوفِيَّةِ الْهِنْدُوسِ وَغَيْرِهِمْ، كَمَا يَعْتَرِفُونَ بِتَلْبِيسِ الشَّيَاطِينِ عَلَيْهِمْ فِيهِ، وَقِلَّةٌ مَنْ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْكَشْفِ الشَّيْطَانِيِّ وَالْكَشْفِ الْحَقِيقِيِّ مِنْهُمْ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى حَقِيقِيًّا إِلَّا مَا وَافَقَ نَصًّا قَطْعِيًّا.
وَمِنْ دَلَائِلِ الْخَطَأِ وَالتَّلْبِيسِ وَالتَّخَيُّلَاتِ فِي الْكَشْفِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ النُّورَانِيَّ تَعَارُضُ أَهْلِهِ وَتَنَاقُضُهُمْ فِيهِ، وَمَا يَذْكُرُونَهُ فِيهِ مِنْ مَعْلُومَاتِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ بِاخْتِلَافِ مَعْلُومَاتِهِمُ الْفَنِّيَّةِ وَالْخُرَافِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ، فَتَرَى بَعْضَهُمْ يَذْكُرُ فِي كَشْفِهِ جَبَلَ قَافٍ الْمُحِيطَ بِالْأَرْضِ وَالْحَيَّةَ الْمُحِيطَةَ بِهِ كَمَا تَرَاهُ فِي تَرْجَمَةِ الشَّعَرَانِيِّ لِلشَّيْخِ أَبِي مَدْيَنَ وَهُوَ مِنَ الْخُرَافَاتِ الَّتِي لَا حَقِيقَةَ لَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُ فِي كَشْفِهِ الْأَفْلَاكَ وَكَوَاكِبَهَا عَلَى الطَّرِيقَةِ الْيُونَانِيَّةِ الْبَاطِلَةِ أَيْضًا. وَأَكْثَرُهُمْ يَذْكُرُونَ فِي كَشْفِهِمُ الْأَحَادِيثَ الْمَوْضُوعَةَ، فَإِنِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِمْ أَوْ عَلَى الْمَفْتُونِينَ بِكَشْفِهِمْ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ
365
قَالُوا: إِنَّ الْحَدِيثَ قَدْ صَحَّ فِي كَشْفِنَا وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فِي رِوَايَاتِكُمْ، وَكَشْفُنَا أَصَحُّ لِأَنَّهُ مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ وَعِلْمُكُمْ ظَنِّيٌّ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ كَشْفًا هَذَا شَأْنُهُ وَشَأْنُ أَهْلِهِ إِنْ صَحَّ أَنْ يُصَدَّقَ فِيمَا لَا يُخَالِفُ نُصُوصَ الشَّرْعِ وَعَقَائِدَهُ وَأَحْكَامَهُ، فَلَا يَصِحُّ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ أَنْ يُصَدِّقَ مِنْهُ مَا يُخَالِفُهُمَا، وَأَنْ يُثْبِتَ مَنْ أَمْرِ عَالَمِ الْغَيْبِ مَا لَمْ يَثْبُتْ بِهِمَا، وَمَا أَغْنَانَا عَنْ هَذَا كُلِّهِ، وَفِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ أَنَّ الْإِلْهَامَ - وَهُوَ الْكَشْفُ الصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ، ((لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِعَدَمِ ثِقَةِ مَنْ لَيْسَ مَعْصُومًا بِخَوَاطِرِهِ خِلَافًا لِبَعْضِ الصُّوفِيَّةِ)) أَيْ وَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ لِأَنَّهُمْ خَالَفُوا بِهِ الْأُصُولَ كَمَا خَالَفُوا النُّصُوصَ.
الْكَرَامَاتُ لَا تَدُلُّ عَلَى الْوِلَايَةِ فَضْلًا عَنِ الْعِصْمَةِ:
وَأَمَّا الْكَرَامَاتُ فَهِيَ نَوْعٌ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ الَّتِي تُرْوَى عَنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَدْيَانِ وَالْمِلَلِ، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاءُ الْكَلَامِ إِنَّهَا تَقَعُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ، وَالنَّبِيِّ وَالسَّاحِرِ، وَيَخْتَلِفُ اسْمُهَا بِاخْتِلَافِ مَنْ ظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ، فَتُسَمَّى مُعْجِزَةً لِلنَّبِيِّ الْمُرْسَلِ إِذَا تَحَدَّى بِهَا، وَكَرَامَةً لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ الْمُتَّبِعِ لِلرَّسُولِ، وَمَعُونَةً لِمَنْ دُونَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِدْرَاجًا لِلْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ.
وَصَحَّتِ الْأَحَادِيثُ بِأَنَّ الدَّجَّالَ يَظْهَرُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْخَوَارِقِ الْكُبْرَى مَا قَلَّمَا كَانَ مِثْلُهُ فِي الْمُعْجِزَاتِ حَتَّى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى. وَقَالَ أَئِمَّةُ الصُّوفِيَّةِ الْعَارِفُونَ: إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ وَيَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ فَلَا تَعْتَدُّوا بِهِ (أَوْ كَلِمَةً بِهَذَا الْمَعْنَى) حَتَّى تَرَوْهُ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الشَّرْعِيَّيْنِ، وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ الْخَلَّاطُونَ مِنْهُمْ، فَفِي الْبَابِ الثَّالِثِ مِنْ كِتَابِ (الْأَنْوَارِ الْقُدْسِيَّةِ) لِلشَّعْرِانِيِّ ((وَظُهُورُ الْكَرَامَاتِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْوِلَايَةِ وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ امْتِثَالُ أَوَامِرِ اللهِ وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ، فَيَكُونُ أَمْرُهُ مَضْبُوطًا عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَالْقُرْآنُ يَشْهَدُ بِوِلَايَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ فِيهِ أَحَدٌ)) إِلَخْ. وَهَذَا عَيْنُ مَا حَقَّقْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ.
وَمِنْ خَلْطِهِ أَنَّ أَكْثَرَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ كَلَامِهِمْ فِي طَبَقَاتِهِمْ مُخَالِفٌ لِشَرْطِهِ، فَهُوَ يُبْطِلُ وِلَايَةَ أَكْثَرِ رِجَالِ أَهْلِهَا مِنَ الْعُقَلَاءِ فَضْلًا عَنِ الْمَجَاذِيبِ الْمَجَانِينِ، فَإِنَّهُمْ لَا يُعَدُّونَ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ الْعَارِفِينَ ; لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ.
وَمِنْهُ، وَفِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْهُ: ((فَلَوْ رَأَيْنَا الصُّوفِيَّ يَتَرَبَّعُ فِي الْهَوَاءِ لَا يُعْبَأُ بِهِ إِلَّا إِذَا امْتَثَلَ أَمْرَ اللهِ وَاجْتَنَبَ نَهْيَهَ فِي الْمُحَرَّمَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مُخَاطِبًا بِتَرْكِهَا كُلَّ الْخَلْقِ الْمُكَلَّفِينَ لَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَمَنِ ادَّعَى أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى حَالَةً أَسْقَطَتْ عَنْهُ التَّكَالِيفَ الشَّرْعِيَّةَ مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ أَمَارَةٍ تُصَدِّقُهُ عَلَى دَعْوَاهُ فَهُوَ كَاذِبٌ، كَمَنْ يَشْطَحُ مِنْ شُهُودٍ فِي حَضْرَةٍ خَيَالِيَّةٍ عَلَى اللهِ وَعَلَى أَهْلِ اللهِ، وَلَا يَرْفَعُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ رَأْسًا، وَلَا يَقِفُ عِنْدَ حُدُودِ اللهِ تَعَالَى مَعَ وُجُودِ عَقْلِ التَّكْلِيفِ عِنْدَهُ، فَهَذَا مَطْرُودٌ عَنْ بَابِ الْحَقِّ، مُبَعْدٌ
366
عَنْ مَقْعَدِ صِدْقٍ، وَحَرَامٌ عَلَى الْفَقِيهِ وَغَيْرِهِ أَنْ يُسَلِّمَ لِمِثْلِ هَذَا)) اهـ. وَهُوَ يُخَالِفُ هَذَا الْحَقَّ فِي مَوَاضِعَ أُخْرَى.
ثُمَّ قَالَ (فِي آخِرِ ص ٨ مِنْهُ) وَاعْلَمْ أَنَّ طَرِيقَ الْقَوْمِ عَلَى وَفْقِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَنْ خَالَفَهُمَا خَرَجَ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ كَمَا قَالَ سَيِّدُ الطَّائِفَةِ أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْدُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، فَلَا تَظُنَّ أَنَّهُمْ كَانُوا كَحَالِ غَالِبِ الْمَنْسُوبَيْنِ إِلَى التَّصَوُّفِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَتُسِيءَ الظَّنَّ بِهِمْ، إِنَّمَا كَانُوا - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - عَالِمِينَ بِأَسْرَارِ الشَّرِيعَةِ، قَائِمِينَ صَائِمِينَ زَاهِدِينَ وَرِعِينَ خَائِفِينَ وَجِلِينَ كَمَا يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ تَرَاجِمِهِمْ وَطَبَقَاتِهِمْ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ مَنْ أَنْكَرَ عَلَى الْمُتَشَبِّهِينَ بِالْمُتَشَبِّهِينَ بِالْمُتَشَبِّهِينَ بِالْمُتَشَبِّهِينَ بِالْمُتَشَبِّهِينَ بِالْمُتَشَبِّهِينَ سِتَّ مَرَّاتٍ مِنْهُمْ، فَكُلُّ قَرْنٍ مِنْهُمْ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ قَبْلَهُ يَصِحُّ عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ إِذِ ادَّعَى أَنَّهُ عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ، لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَزَالُوا رَاجِعِينَ الْقَهْقَرَى وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ)) الْحَدِيثَ اهـ.
أَقُولُ: إِنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ قَدْ ذَرَّ قَرْنُهُ فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الثَّانِي وَظَهَرَ الشُّذُوذُ فِي الْمُنْتَحِلِينَ لَهُ فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ الَّذِي تُوُفِّيَ سَنَةَ ٢٠٢ هـ. إِذَا تَصَوَّفَ الرَّجُلُ فِي الصَّبَاحِ لَا يَأْتِي الْمَسَاءُ - أَوْ قَالَ الْعَصْرُ - إِلَّا وَهُوَ مَجْنُونٌ. وَأَنْكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ الَّذِي تُوُفِّيَ سَنَةَ ٢٤١ هـ. بَعْدَهُ عَلَى خِيَارِهِمْ، وَنَهَى عَنْ قِرَاءَةِ كُتُبِ الْحَارِثِ الْمُحَاسَبِيِّ عَلَى الْتِزَامِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ عِلْمًا وَعَمَلًا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ، وَقَدْ تُوُفِّيَ الْحَارِثُ فِي سَنَةِ ٢٤٣ هـ. وَهُوَ أُسْتَاذُ أَكَابِرِ الْبَغْدَادِيِّينَ، وَمِمَّنْ أَخَذَ عَنْهُ سَيِّدُ الطَّائِفَةِ أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْدُ، فَإِذَا قُلْنَا إِنَّ الشَّعَرَانِيَّ يَعُدُّ أَهْلَ قَرْنِهِ الْعَاشِرِ فِي الدَّرَجَةِ السَّادِسَةِ مِنَ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالصُّوفِيَّةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُدُّ أَهْلَ الْقَرْنِ الْخَامِسِ أَوَّلَ الْمُتَشَبِّهِينَ الَّذِينَ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ أَنْكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ الْغُرُورِ مِنَ الْإِحْيَاءِ عَلَى الْمُتَشَبِّهِينَ بِهِمْ وَعَدَّ مِنْهُمْ فِرَقًا مِنْ أَهْلِ الْمُكَاشَفَاتِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الْخَامِسِ فَإِنَّ الْغَزَالِيَّ تُوُفِّيَ سَنَةَ ٥٠٥ هـ. وَكَانَ قَدْ تَابَ إِلَى اللهِ مِنْ عُلُومِ التَّصَوُّفِ وَالْكَلَامِ وَانْقَطَعَ إِلَى عِلْمِ السُّنَّةِ: ثُمَّ إِنَّ ابْنَ الْحَاجِّ الْمَالِكِيِّ الْمُتَوَفَّى سَنَةِ ٧٣٧ هـ. تَكَلَّمَ فِي كِتَابِهِ الْمَدْخَلِ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالْمَشَايِخِ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ فِي الْقَرْنِ الثَّامِنِ وَبَيَّنَ مَا لَهُمْ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ وَفَنَّدَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنَ الْكَرَامَاتِ. وَقَامَ فِي هَذَا الْقَرْنِ أَيْضًا شَيْخُ الْإِسْلَامِ، مِدْرَهُ السُّنَّةِ الْأَكْبَرُ، وَقَامِعُ الْبِدَعِ الْأَقْهَرُ، أَحْمَدُ بْنُ تَيْمِيَّةَ، نَبَذَ مَنْ قَبْلَهِ، وَأَغْنَى عَمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُ، وَعَلَى كُتُبِهِ وَكُتُبِ تِلْمِيذِهِ ابْنِ الْقَيِّمِ الْمُعَوَّلُ.
367
تَفْضِيلُ أَهْلِ الْحَدِيثِ عَلَى غَيْرِهِمْ:
وَمِمَّا كَتَبَهُ الشَّعَرَانِيُّ فِي كِتَابِهِ هَذَا مِنَ الْحَقِّ بَيْنَ الْأَبَاطِيلِ قَوْلُهُ فِي الْبَابِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِهِ الْمَذْكُورِ - وَهُوَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ - مَا نَصُّهُ:
((وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَا مَتَّ بِالْإِرْثِ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، إِلَّا الْمُحَدِّثُونَ الَّذِينَ رَوَوُا الْأَحَادِيثَ بِالسَّنَدِ الْمُتَّصِلِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا قَالَهُ شَيْخُنَا، فَلَهُمْ حَظٌّ فِي الرِّسَالَةِ لِأَنَّهُمْ نَقْلَةُ الْوَحْيِ، وَهُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ فِي التَّبْلِيغِ، وَالْفُقَهَاءِ بِلَا مَعْرِفَةِ دَلِيلِهِمْ لَيْسَ لَهُمْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ، فَلَا يُحْشَرُونَ مَعَ الرُّسُلِ إِنَّمَا يُحْشَرُونَ فِي عَامَّةِ النَّاسِ، فَلَا يَنْطَبِقُ اسْمُ الْعُلَمَاءِ حَقِيقَةً إِلَّا عَلَى أَهْلِ الْحَدِيثِ. وَكَذَلِكَ الْعُبَّادُ وَالزُّهَّادُ وَغَيْرُهُمْ مَنْ أَهْلِ الْآخِرَةِ، إِذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ حُكْمُهُمْ حُكْمُ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، فَيُحْشَرُونَ مَعَ عُمُومِ النَّاسِ وَيَتَمَيَّزُونَ عَنْهُمْ بِأَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَةِ لَا غَيْرَ كَمَا أَنَّ الْفُقَهَاءَ يُمَيَّزُونَ عَنِ الْعَامَّةِ فِي الدُّنْيَا، لَا غَيْرَ)) اهـ.
وَلَكِنَّ بَعْضَ مَنْ يُسَمَّوْنَ كِبَارَ الْعُلَمَاءِ فِي زَمَانِنَا يُفَضِّلُونَ خُرَافَاتِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالْمُتَصَوِّفَةِ فِي الدَّرَجَةِ السَّادِسَةِ إِلَى الْعَاشِرَةِ وَآرَاءَ مُقَلِّدِي الْفُقَهَاءِ فِي الدَّرَجَةِ الْخَامِسَةِ - وَهِي السُّفْلَى - عَلَى عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ وَفُقَهَائِهِ وَحُكَمَائِهِ، وَيَطْعَنُونَ فِي الْمُحَدِّثِينَ وَكُلِّ مَنْ يَهْتَدِي بِالْحَدِيثِ قَوْلًا وَكِتَابَةً بَلْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ مَنْ يَعْمَلُ بِالْحَدِيثِ فَهُوَ زِنْدِيقٌ! !.
إِقْرَارُ مُتَقَدِّمِي الصُّوفِيَّةِ وَمُتَأَخَّرِيهِمْ بِوُجُوبِ اتِّبَاعِ السَّلَفِ:
تَوَاتَرَ عَنْ شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّ أَصْلَ طَرِيقِهِمُ اتِّبَاعُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمُوَافَقَةُ السَّلَفِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا وَتَجِدُ مِثْلَ هَذَا فِي كَلَامِ الصُّوفِيَّةِ الشَّاذِّينَ الَّذِينَ خَلَطُوا الْبِدَعَ بِالسُّنَنِ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ عُلُومَهُمْ عَنِ اللهِ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ مُبَاشَرَةً، وَأَنَّ عُلَمَاءَ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ يَأْخُذُونَ عُلُومَهُمْ عَنِ الْمَيِّتِينَ كَالْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَهَذَا أَسَاسُ الِابْتِدَاعِ بَلِ الْمُرُوقِ مِنَ الدِّينِ. وَمِمَّا نَقَلَهُ الشَّعَرَانِيِّ عَنِ الشَّيْخِ إِبْرَاهِيمَ الدُّسُوقِيِّ مِنَ الْخَلْطِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مَا نَصُّهُ:
((وَكَانَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - يَقُولُ أَسْلَمُ التَّفْسِيرِ مَا كَانَ مَرْوِيًّا عَنِ السَّلَفِ، وَأَنْكَرُهُ مَا فُتِحَ بِهِ عَلَى الْقُلُوبِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَلَوْلَا مُحَرِّكُ قُلُوبِنَا لَمَا نَطَقْتُ إِلَّا بِمَا
وَرَدَ عَنِ السَّلَفِ، فَإِذَا حَرَّكَ قُلُوبَنَا وَارِدٌ اسْتَفْتَحْنَا بَابَ رَبِّنَا وَسَأَلْنَاهُ الْفَهْمَ فِي كَلَامِهِ فَنَتَكَلَّمُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِقَدْرِ مَا يَفْتَحُهُ عَلَى قُلُوبِنَا، فَسَلِّمُوا لَنَا تَسْلَمُوا، فَإِنَّنَا فَخَّارَةٌ فَارِغَةٌ، وَالْعِلْمُ عِلْمُ اللهِ تَعَالَى)) اهـ.
أَقُولُ: مِنْ أَيْنَ نَعْلَمُ أَوْ يَعْلَمُونَ هُمْ أَنَّ خَوَاطِرَهُمُ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْوَارِدَاتِ مِنَ الْإِلْهَامِ الْإِلَهِيِّ لَا مِنَ الْوَسْوَاسِ الشَّيْطَانِيِّ، وَكَيْفَ نُسَلِّمُ لَهُمْ مَا لَا نَعْلَمُ، وَالْإِلْهَامُ الصَّحِيحُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ كَمَا تَقَدَّمَ؟ ثُمَّ كَيْفَ لَا نُنْكِرُ عَلَيْهِمْ مَا تَرَاهُ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَآثَارِ السَّلَفِ، وَمُوَافِقًا لِإِلْحَادِ الْبَاطِنِيَّةِ أَوْ بِدَعِ الْخَلَفِ، وَإِنَّا وَإِيَّاهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَصِحُّ الْخِلَافُ فِيهِ؟
368
فَثَبَتَ إِذًا أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ تَعَالَى الَّذِينَ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، هُمْ مَنْ عَرَّفَهُمْ تَعَالَى بِقَوْلِهِ الْحَقِّ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) وَأَنَّهُمْ دَرَجَاتٌ كَمَا بَيَّنَهَا اللهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (٣٥: ٣٢) فَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ: مَنْ يُقَصِّرُ فِي اتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَلَوْ بِتَرْكِ بَعْضِ الْفَضَائِلِ، وَالْمُقْتَصِدُ: مَنْ يَتْرُكُ مَا نُهِيَ عَنْهُ، وَيَفْعَلُ مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ الْقَاصِرَةِ عَلَى نَفْسِهِ، وَالسَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ: مَنْ يَزِيدُ عَلَى التَّقَرُّبِ بِالنَّوَافِلِ، وَالتَّكَمُّلِ بِالْفَضَائِلِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَ التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ وَالتَّأَدُّبِ وَالتَّأْدِيبِ، حَتَّى يَكُونَ إِمَامًا لِلْمُتَّقِينَ، فَهَذِهِ دَرَجَةُ الْمُقَرَّبِينَ مِنْ شُهَدَاءِ اللهِ وَالصِّدِّيقِينِ وَمَا قَبْلَهَا دَرَجَةُ الصَّالِحِينَ مِنَ الْأَبْرَارِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، فَرَاجِعْ سُورَتَيِ الْوَاقِعَةِ وَالْمُطَفِّفِينَ، فَفِيهِمَا بَيَانٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) (٤: ٦٩) وَهِيَ تَفْسِيرٌ لِدُعَائِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (١: ٦، ٧).
وَبِهَذَا تَقُومُ حُجَّةُ اللهِ عَلَى الْعَالَمِينِ بِأَنَّ هَذَا الدِّينَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَقَدْ أَكْمَلَهُ لَنَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ اللهُ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا خَاتَمَ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَنَّهُ لَوْ صَحَّ شَيْءٌ مِمَّا ابْتَدَعَهُ النَّاسُ فِيهِ بِفَلْسَفَتِهِمُ الْعَقْلِيَّةِ أَوِ النَّفْسِيَّةِ أَوْ بِمَا ادَّعَوْهُ مِنَ الْكَشْفِ لَمَا صَحَّتْ شَهَادَةُ اللهِ بِإِكْمَالِهِ، وَلَا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِهِ لَا مِنْ عِنْدِ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَهَذَا كُلُّ غَرَضِنَا مِنْ هَذَا الْبَحْثِ، وَقَدْ أُظْهِرَ بِهِ الْحَقُّ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
(وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَّاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ).
369
بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ حَالَ أَوْلِيَائِهِ وَصِفَتَهُمْ وَمَا بَشَّرَهُمْ بِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَكَوْنَهُ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِهِ فِيمَا بَشَّرَهُمْ وَوَعَدَهُمْ، كَمَا أَنَّهُ لَا تَبْدِيلَ لَهَا فِيمَا أَوْعَدَ بِهِ أَعْدَاءَهُ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ هَذَا يَتَضَمَّنُ الْوَعْدَ بِنَصْرِهِ وَنَصْرِ مَنْ آمَنَ لَهُ وَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللهِ وَأَنْصَارُ دِينِهِ عَلَى ضَعْفِهِمْ وَفَقْرِهِمْ، وَكَانَتِ الْعِزَّةُ أَيِ الْقُوَّةُ وَالْغَلَبَةُ فِي مَكَّةَ لَا تَزَالُ لِلْمُشْرِكِينَ بِكَثْرَتِهِمُ الَّتِي يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِقَوْلِهِمْ: وَإِنَّمَا الْعِزَّةُ لِلْكَاثِرِ، وَكَانُوا لِغُرُورِهِمْ بِكَثْرَتِهِمْ وَثَرْوَتِهِمْ يُكَذِّبُونَ بِوَعْدِ اللهِ وَكَانَ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالطَّبْعِ كَمَا قَالَ: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ) (٦: ٣٣) الْآيَةَ. قَالَ تَعَالَى مُسَلِّيًا لَهُ وَمُؤَكَّدًا وَعْدَهُ لَهُ وَلِأَوْلِيَائِهِ، وَوَعِيدَهُ لِأَعْدَائِهِمْ وَأَعْدَائِهِ.
وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ نَهَاهُ عَنِ الْحُزْنِ وَالْغَمِّ مِنْ قَوْلِهِمُ الَّذِي يَقُولُونَهُ فِي تَكْذِيبِهِ الَّذِي تَقَدَّمَ مُفَصَّلًا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، فَحَذَفَ مَقُولَ الْقَوْلِ لِلْعِلْمِ بِهِ وَبَيَّنَ لَهُ سَبَبَ هَذَا النَّهْيِ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) أَيْ إِنَّ الْغَلَبَةَ وَالْقُوَّةَ وَالْمَنَعَةَ لِلَّهِ جَمِيعَهَا لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْ دُونِهِ شَيْئًا مِنْهَا، فَهُوَ يَهَبُهَا لِمَنْ يَشَاءُ وَيَحْرِمُهَا مَنْ يَشَاءُ، وَلَيْسَتْ لِلْكَثْرَةِ دَائِمًا كَمَا يَدَّعُونَ، فَكَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ، وَقَدْ وَعَدَ بِهَا رُسُلَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِمْ وَاتَّبَعُوهُمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ، كَمَا قَالَ: (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٥٨: ٢١) وَ (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (٤٠: ٥١) وَ (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (٦٣: ٨) فَعِزَّتُهُ تَعَالَى ذَاتِيَّةٌ لَهُ، وَعِزَّةُ رَسُولِهِ
وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَمِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا قَالَ: (وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ) (٣: ٢٦) وَقَرَأَ نَافِعٌ (يُحْزِنْكَ) بِضَمِّ الْيَاءِ مَنْ أَحْزَنَهُ وَهِيَ لُغَةٌ، وَقُرِئَ (أَنَّ الْعِزَّةَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَنَّ لِحَذْفِ لَامِهَا، وَهِيَ لِلتَّعْلِيلِ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالْكَسْرِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ (هُوَ السَّمِيعُ) لِمَا يَقُولُونَ مِنْ تَكْذِيبٍ بِالْحَقِّ وَادِّعَاءٍ لِلشِّرْكِ (الْعَلِيمُ) بِمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ إِيذَاءٍ وَكَيْدٍ وَمَكْرٍ، فَهُوَ يُذِلُّهُمْ وَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ، وَهَذَا اسْتِئْنَافٌ آخَرُ فِي تَقْرِيرِ مَضْمُونِ الْأَوَّلِ وَهُوَ تَسْلِيَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَأْكِيدُ وَعْدِهِ بِالْعِزَّةِ وَوَعِيدَ تَكْذِيبِهِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى كَوْنِ الْعِزَّةِ لَهُ جَمِيعًا وَالْجَزَاءِ بِيَدِهِ بِقَوْلِهِ مُسْتَأْنِفًا أَيْضًا وَمُفْتَتِحًا بِأَدَاةِ التَّنَبُّهِ:
(أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) مِنْ عَابِدٍ وَمَعْبُودٍ فَهُوَ رَبُّهُمْ وَمَالِكُهُمْ وَهُمْ عَبِيدُهُ الْمَرْبُوبُونَ الْمَمْلُوكُونَ لَهُ (وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكَاءَ) لَهُ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَمُلْكِهِ، أَيْ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ غَيْرَ اللهِ بِدُعَائِهِمْ فِي الشَّدَائِدِ، وَاسْتِغَاثَتِهِمْ فِي النَّوَازِلِ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِمْ بِالنُّذُورِ وَالْقَرَابِينِ وَالْوَسَائِلِ لَا يَتَّبِعُونَ شُرَكَاءَ لَهُ فِي تَدْبِيرِ أُمُورِ عِبَادِهِ يَنْفَعُونَهُمْ أَوْ يَكْشِفُونَ الضُّرَّ عَنْهُمْ، إِذْ لَا شُرَكَاءَ لَهُ (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) أَيْ مَا يَتَّبِعُونَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا ظَنَّهُمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ أَوْلِيَاءَ لِلَّهِ وَشُفَعَاءَ عِنْدَهُ، فَهُمْ يَتَوَسَّلُونَ بِهِمْ وَبِتَمَاثِيلِهِمْ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُمْ يَقِيسُونَهُ عَلَى مُلُوكِهِمُ الظَّالِمِينَ الْمُتَكَبِّرِينَ، الَّذِينَ لَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ أَحَدٌ
مِنْ رَعَايَاهُمْ إِلَّا بِوَسَائِلِ حُجَّابِهِ وَوُسَائِطِهِ وَوُزَرَائِهِ (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أَيْ وَمَا هُمْ فِي اتِّبَاعِ هَذَا الظَّنِّ الَّذِي لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، إِلَّا يَخْرُصُونَ خَرْصًا، أَيْ يَحْزِرُونَ حَزْرًا، أَوْ يَكْذِبُونَ كَذِبًا، أَصْلُ الْخَرَصِ: الْحَزْرُ وَالتَّقْدِيرُ لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا يَجْرِي عَلَى قِيَاسٍ مِنْ وَزْنٍ أَوْ كَيْلٍ أَوْ ذِرَاعٍ، بَلْ هُوَ كَخَرَصِ الثَّمَرِ عَلَى الشَّجَرِ وَالْحَبِّ فِي الزَّرْعِ، وَلِكَثْرَةِ الْخَطَأِ فِيهِ أُطْلِقَ عَلَى لَازِمِهِ الْغَالِبِ وَهُوَ الْكَذِبُ، فَالظَّنُّ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ يَكُونُ مِنْ أَضْعَفِ الظَّنِّ وَأَبَعْدِهِ عَنِ الْحَقِّ، مِثَالُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنْ قِيَاسِ الرَّبِّ فِي تَدْبِيرِ أُمُورِ عِبَادِهِ عَلَى الْمُلُوكِ، وَهَذَا قِيَاسٌ شَيْطَانِيٌّ سَمِعْتُهُ مِنْ جَمِيعِ طَبَقَاتِ الْجَاهِلِينَ لِعَقَائِدِ الْإِسْلَامِ، وَتَوْحِيدِ الرَّحْمَنِ، حَتَّى مَنْ يُلَقَّبُونَ بِالْعُلَمَاءِ وَالْبَاشَوَاتِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُمْ فِي وَسَائِلِهِمُ الَّذِينَ يُسَمُّونَهُمُ الْأَوْلِيَاءَ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّهُمْ، وَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ أَحَدًا فَإِنَّهُ يَقَبْلُ وَسَاطَتَهُ
وَشَفَاعَتَهُ، فَيَقِيسُونَ تَأْثِيرَ عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ عِنْدَهُ تَعَالَى، عَلَى تَأْثِيرِ أَصْدِقَاءِ الْمُلُوكِ وَالْوُجَهَاءِ وَمَعْشُوقِيهِمْ فِي قَبُولِهِمْ مِنْهُمْ جَمِيعَ مَا يَطْلُبُونَهُ، وَيَجْهَلُونَ أَنَّ أَفْعَالَ اللهِ تَعَالَى إِنَّمَا تَجْرِي بِمُقْتَضَى مَشِيئَتِهِ الْأَزَلِيَّةِ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ الذَّاتِيِّ الْمُحِيطِ وَحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ الْعَادِلَةِ، وَأَنَّ صِفَاتِهِ تَعَالَى كَامِلَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا الْحَوَادِثُ وَأَنَّ جَمِيعَ أَوْلِيَائِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَمَلَائِكَتِهِ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لَهُ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) (١٧: ٥٧) أَيْ إِنَّ أَقْرَبَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ وَيَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِ تَعَالَى بِهِمْ كَالْمَسِيحِ وَالْمَلَائِكَةِ وَمَنْ دُونَهَمْ هُمْ يَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِ رَاجِينَ خَائِفِينَ، لَا كَأَعْوَانِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ لَا يَقُومُ أَمْرُ مَلِكِهِمْ بِدُونِهِمْ، وَمَعْشُوقِيهِمُ الَّذِينَ لَا يَتِمُّ تَمَتُّعُهُمُ الشَّهْوَانِيُّ إِلَّا بِهِمْ.
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا) هَذَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى مَضْمُونِ مَا قَبْلَهُ مِنْ نَفْيِ وُجُودِ شُرَكَاءَ لَهُ فِي الْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ، وَلَا بِالشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ فِي التَّصَرُّفِ وَالتَّدْبِيرِ؛ أَيْ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْوَقْتَ قَسَمَيْنِ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ وَمَشِيئَتِهِ بِدُونِ مُسَاعِدٍ وَلَا شَفِيعٍ، بَلْ بِمَحْضِ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالرَّحْمَةِ الشَّامِلَةِ: أَحَدُهُمَا اللَّيْلُ جَعَلَهُ مُظْلِمًا لِأَجْلِ أَنْ تَسْكُنُوا فِيهِ بَعْدَ طُولِ الْحَرَكَةِ وَالتَّقَلُّبِ فِي الْأَرْضِ، تَسْتَرِيحُونَ مِنَ التَّعَبِ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، وَثَانِيهِمَا النَّهَارُ جَعَلَهُ مُضِيئًا ذَا إِبْصَارٍ لِتَنْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ، وَتَقُومُوا بِجَمِيعِ أَعْمَالِ الْعُمْرَانِ وَالْكَسْبِ، وَالشُّكْرِ لِلرَّبِّ، فَالْمُبْصِرُ هُنَا مُعْطَى الْإِبْصَارِ سَبَبَهُ حِسِّيًّا كَانَ أَوْ مَعْنَوِيًّا، فَالْأَوَّلُ قَوْلُهُ تَعَالَى (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) (١٧: ١٢) الْآيَةَ. وَالثَّانِي قَوْلُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا: (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) (١٧: ٥٩) أَيْ آيَةً مُفِيدَةً لِلْبَصِيرَةِ وَالْحُجَّةِ عَلَى صِدْقِ رَسُولِهِمْ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٢٧: ١٣).
وَقَالَ قُطْرُبٌ: تَقُولُ الْعَرَبُ: أَظْلَمَ اللَّيْلُ وَأَبْصَرَ النَّهَارُ وَأَضَاءَ بِمَعْنَى صَارَ ذَا ظُلْمَةٍ وَذَا إِبْصَارٍ
وَذَا ضِيَاءٍ اهـ. وَقَدْ تَكَرَّرَ التَّذْكِيرُ فِي التَّنْزِيلِ بِآيَاتِ اللهِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ خَلْقِهِمَا وَتَقْدِيرِهِمَا وَمَنَافِعِ النَّاسِ فِيهِمَا، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ احْتِبَاكٌ وَهُوَ أَنَّهُ حَذَفَ مِنْ كُلٍّ مِنْ آيَتَيِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَا أَثْبَتَ مُقَابِلَهُ فِي الْأُخْرَى وَالْعَكْسُ، وَفِي قَوْلِهِ
تَعَالَى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) مِثْلُهُ، أَيْ إِنَّ فِيمَا ذُكِرَ لَدَلَائِلَ بَيِّنَاتٍ، وَآيَاتٍ أَيَّ آيَاتٍ، عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ مَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ مِنَ التَّذْكِيرِ بِحِكَمِهِ تَعَالَى وَنَعَمِهِ فِيهَا سَمَاعَ فِقْهٍ وَتَدَبُّرٍ، وَيُبْصِرُونَ مَا فِي الْكَائِنَاتِ مِنَ السُّنَنِ الْحَكِيمَةِ إِبْصَارَ تَأَمُّلٍ، ذَكَرَ الْآيَاتِ السَّمْعِيَّةَ الْمُنَاسِبَةَ لِلَّيْلِ الَّذِي قَدَّمَ ذِكْرَهُ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى الْآيَاتِ الْبَصَرِيَّةِ الْمُنَاسِبَةِ لِلنَّهَارِ وَتَذْكِيرٌ بِهَا، وَهُوَ أَبْلَغُ الْإِيجَازِ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي مَقَامِ الْإِطْنَابِ مِنْ سُورَةِ الْقَصَصِ بِقَوْلِهِ: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٢٨: ٧١ - ٧٣) وَأَحْسِنْ بِذَلِكَ الْإِطْنَابِ تَفْسِيرًا لِمَا هُنَا مِنَ الْإِيجَازِ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا مَوْقِعُهُ مِنْ بَلَاغَةِ الْإِعْجَازِ.
(قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لَا يَفْلَحُونَ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعِهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ).
هَذِهِ الْآيَاتُ حِكَايَةٌ لِنَوْعٍ آخَرَ مِنَ الْكُفْرِ بِاللهِ تَعَالَى قَرِيبٍ مِنْ كُفْرِ اتِّخَاذِ الشُّرَكَاءِ لَهُ وَهُوَ زَعْمُهُمْ أَنَّهُ اتَّخَذَ وَلَدًا، وَقَدِ اشْتَرَكَ فِيهِ عُبَّادُ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ وَبَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَحَكَاهُ عَنْهُمْ مَفْصُولًا لَا لِأَنَّهُ نَوْعٌ مُسْتَقِلٌّ وَتَعَقَّبَهُ بِالْإِبْطَالِ.
(قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا) فَزَعَمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللهِ، وَقَالَتِ
النَّصَارَى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، وَقَالَ بَعْضُ الْيَهُودِ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ (وَيَرَى بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ أَنَّ عُزَيْرًا هُوَ أُوزِيرُوسُ أَحَدُ آلِهَةِ قُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ) (سُبْحَانَهُ) كَلِمَةُ التَّسْبِيحِ مَعْنَاهَا التَّنْزِيهُ
وَالتَّقْدِيسُ، أَيْ تَسْبِيحًا لَهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ، وَتُقَالُ فِي مَقَامِ التَّعَجُّبِ، وَيَصِحُّ هُنَا جَمْعُ الْمَعْنَيَيْنِ كِلَيْهِمَا، وَقَفَّى عَلَى هَذَا التَّنْزِيهِ وَالتَّعَجُّبِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ فَقَالَ: (هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) أَيْ هُوَ الْغَنِيُّ بِذَاتِهِ عَنِ الْوَلَدِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا فِي الْوُجُودِ مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ مِلْكٌ وَعَبِيدٌ لَهُ لَا يَحْتَاجُ مِنْهَا إِلَى شَيْءٍ، وَيَحْتَاجُ إِلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ، وَلَا يُشْبِهُهُ أَوْ يُجَانِسُهُ مِنْهَا شَيْءٌ، فَالْإِنْسَانُ يَحْتَاجُ إِلَى الْوَلَدِ لِأُمُورٍ مِنْهَا بَقَاءُ ذِكْرِهِ بِهِ وَبِذَرِّيَّتِهِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ قُوَّةٌ وَعُصْبَةٌ لَهُ يَعْتَزُّ بِهِ هُوَ وَعَشِيرَتُهُ، وَمِنْهَا أَنَّ وُجُودَهُ زِينَةٌ لَهُ فِي دَارِهِ يَلْهُو بِهِ فِي صِغَرِهِ، وَيُفَاخِرُ بِهِ أَقْرَانَهُ فِي كِبَرِهِ وَمِنْهَا أَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِقَضَاءِ مَصَالِحِهِ وَتَنْمِيَةِ ثَرْوَتِهِ، وَقَدْ يَحْتَاجُ إِلَى رِفْدِهِ وَبِرِّهِ، عِنْدَ عَجْزِهِ أَوْ فَقْرِهِ، وَاللهُ تَعَالَى لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَنَافِعِ لِأَنَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ بِذَاتِهِ لِذَاتِهِ أَزَلًا وَأَبَدًا (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا) ((إِنْ)) هُنَا نَافِيَةٌ وَ ((مِنْ)) مُؤَكِّدَةٌ لِهَذَا النَّفْيِ مُفِيدَةٌ لِعُمُومِهِ، وَالسُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ وَالْبُرْهَانُ، وَالْجُمْلَةُ تَجْهِيلٌ لَهُمْ وَرَدٌّ عَلَيْهِمْ، أَيْ مَا عِنْدَكُمْ أَيُّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ بِهَذَا الْقَوْلِ الَّذِي تَقُولُونَهُ مِنْ غَيْرِ عَقْلٍ وَعِلْمٍ وَلَا وَحْيٍ إِلَهِيٍّ، وَتُعَارِضُونَ بِهِ هَذَا الْبُرْهَانَ الْعَقْلِيَّ، وَهُوَ تَنْزِيهُ اللهِ وَغِنَاهُ الْمُطْلَقُ عَنِ الْوَلَدِ وَغَيْرِهِ، وَكَوْنُهُ الْمَالِكَ لِكُلِّ شَيْءٍ مِمَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) هَذَا اسْتِفْهَامُ تَبْكِيتٍ وَتَوْبِيخٍ عَلَى أَقْبَحِ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى مَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ مَجِيءِ مَا يَنْقُضُهُ مِنَ الْعِلْمِ الْبُرْهَانِيِّ، وَالْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ، قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ وَغَيْرُهُ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ قَوْلٍ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فَهُوَ جَهَالَةٌ، وَأَنَّ الْعَقَائِدَ لَا بُدَّ لَهَا مَنْ قَاطِعٍ، وَأَنَّ التَّقْلِيدَ فِيهَا غَيْرُ سَائِغٍ اهـ. وَقَدْ تَقَدَّمَ حِكَايَةُ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ عَنِ الْكُفَّارِ عَامَّةً وَعَنِ النَّصَارَى خَاصَّةً فِي سُورِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ وَالْمَائِدَةِ وَالْأَنْعَامِ، وَسَيَأْتِي فِي سُوَرٍ أُخْرَى مَعَ إِبْطَالِهِ وَتَفْنِيدِهِ بِالدَّلَائِلِ وَوُجُوهِ
الْحُجَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَسَالِيبِ، أَوِ التَّقْرِيعِ وَالتَّأْنِيبِ، وَالْإِنْذَارِ وَالْوَعِيدِ.
(قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) بِاتِّخَاذِهِمُ الشُّرَكَاءَ لَهُ، أَوْ بِزَعْمِهِمُ اتِّخَاذَهُ وَلَدًا لِنَفْسِهِ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَغَيْرِهِ مِنْ مَسَائِلِ التَّشْرِيعِ، أَوْ بِدَعْوَى وِلَايَتِهِمْ وَإِطْلَاعِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى أَسْرَارِ خَلْقِهِ وَتَصْرِيفِهِ لَهُمْ فِي مُلْكِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ١٧، ٥٩، ٦٠ (لَا يُفْلِحُونَ) أَيْ لَا يَفُوزُونَ بِمَا يُؤَمِّلُونَ مِنَ النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَالتَّمَتُّعِ بِنَعِيمِهَا بِشَفَاعَةِ الْوَلَدِ أَوِ الشُّرَكَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ لَهُ تَعَالَى أَوْ فِدَائِهِمْ لَهُمْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ.
(مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا) هَذَا جَوَابٌ لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ قَدْ يَرُدُّ عَلَى نَفْيِ فَلَاحِهِمْ بِالْإِطْلَاقِ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ مَنَافِعُ الدُّنْيَا، وَالْمُفْتَرُونَ عَلَى اللهِ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الِافْتِرَاءِ الْمَقْبُولَةِ عِنْدَ الْجَاهِلِينَ،
لَهُمْ كَثِيرٌ مِنَ الْمَنَافِعِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينِ، وَأَكْثَرُ الْبَشَرِ لَا يَزَالُونَ جَاهِلِينَ يَخْضَعُونَ لِهَؤُلَاءِ الزُّعَمَاءِ الْمُلَبِّسِينَ، فَهُوَ يَقُولُ: هَذَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ - أَوْ لَهُمْ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا حَقِيرٌ يَتَلَهَّوْنَ بِهِ فِي حَيَاةٍ قَصِيرَةٍ، فَأَمَّا قِلَّتُهُ وَحَقَارَتُهُ فَيَدُلُّ عَلَيْهَا تَنْكِيرُهُ مَعَ الْقَرِينَةِ، وَأَمَّا قِصَرُ الْحَيَاةِ الَّتِي يَكُونُ فِي بَعْضِهَا فَمَعْلُومٌ بِالِاخْتِيَارِ، فَمَهْمَا يَبْلُغْ هَذَا الْمَتَاعُ مِنْ كَثْرَةِ الْمَالِ وَعَظَمَةِ الْجَاهِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، فَلَا يَكُونُ إِلَّا قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا عِنْدَ اللهِ فِي الْآخِرَةِ لِلصَّادِقِينَ الْمُتَّقِينَ كَمَا صَرَّحَتْ بِهِ الْآيَاتُ الْكَثِيرَةُ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا لَهُمْ مِنْ ضِدِّ ذَلِكَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: (ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ) بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَمَا فِيهِ مِنْ أَهْوَالِ الْحَشْرِ وَالْحِسَابِ وَالْعَرْضِ (ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) بِآيَاتِنَا وَنِعَمِنَا، وَبِالِافْتِرَاءِ عَلَيْنَا، وَتَكْذِيبِ رُسُلِنَا أَوِ الْكَذِبِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ فِي الْحِسَابِ بِأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَهُ بِظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّنَا لَا نَظْلِمُهُمْ شَيْئًا، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ تَعَالَى وَمَا يَلِيهِ مِنَ الْجَزَاءِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا.
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ).
هَذَا سِيَاقٌ جَدِيدٌ مُتَّصِلٌ بِمَا سَبَقَ مِنْ مَقَاصِدِ هَذِهِ السُّورَةِ أَتَمَّ الِاتِّصَالِ، بِتَفْصِيلِهِ لِبَعْضِ مَا فِيهَا مِنْ إِجْمَالٍ، وَهُوَ الِاحْتِجَاجُ عَلَى مُشْرِكِي مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا وَسَائِرِ مَنْ تَبْلُغُهُمُ الدَّعْوَةُ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ، بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى سَيَخْذُلُهُمْ وَيَنْصُرُ رَسُولَهُ عَلَيْهِمْ كَمَا نَصَرَ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ عَلَى أَقْوَامِهِمُ الْمُجْرِمِينَ، فَأَهْلَكَهُمْ وَأَنْجَى الْمُؤْمِنِينَ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِهَا قَوْلُهُ: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) (١٣)
إِلَى آخَرِ الْآيَةِ ١٤ ثُمَّ قَالَ فِي الرَّدِّ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ بِمَا وَعَدَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) (٣٩) ثُمَّ قَالَ (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (٤٧) جَاءَ هَذَا فِي سِيَاقِ إِقَامَةِ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دَعْوَى الْوَحْيِ، وَكَوْنِ الْقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ اللهِ لَا مِنْ عِنْدِهِ وَرَأْيِهِ وَكَلَامِهِ، وَالْحُجَجِ عَلَى مَضْمُونِ الدَّعْوَى مِنَ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَالتَّفَنُّنِ فِيهَا، وَالتَّكْرَارِ الْبَلِيغِ لِمَقَاصِدِهَا، وَإِنْذَارِ أُولَئِكَ الْمُكَذِّبِينَ بِهَا، فَنَاسَبَ أَنْ يُفَصِّلَ لَهُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الْإِجْمَالِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَجَاءَ بِهِ مَعْطُوفًا لِأَنَّهُ مُرْتَبِطٌ بِهِ مُتَمِّمٌ لَهُ بِخِلَافِ سَرْدِ قَصَصِ الرُّسُلِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ حَيْثُ بَدَأَهُ بِقَوْلِهِ: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) (٧: ٥٩) لِأَنَّ هَذِهِ الْقَصَصَ أُورِدَتْ هُنَاكَ مُسْتَقِلَّةً،
لَا تَفْسِيرًا، وَلَا تَفْصِيلًا لِمُجْمَلٍ قَبْلَهَا، وَأَمَّا مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَاتِ لِمَا قَبْلَهَا مُبَاشَرَةً بِكَوْنِهَا مِنْ جِنْسِ مَوْضُوعِهَا الْعَامِّ، فَلَا تَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي بِهَا كَانَتِ الْبَلَاغَةُ فَلْسَفَةً عَقْلِيَّةً نَفْسِيَّةً، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ) أَيْ وَاقْرَأْ أَيُّهَا الرَّسُولُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ لَكَ مِنْ قَوْمِكَ، فِيمَا أَوْعَدْتُهُمْ مِنْ عِقَابِ اللهِ لَهُمْ عَلَى سَابِقِ سُنَّتِهِ فِي الْمُكَذِّبِينَ لِرُسُلِهِ مِنْ قَبْلِكَ، خَبَرَ نُوحٍ ذِي الشَّأْنِ الْعَظِيمِ: (إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ) أَيْ نَبَأَهُ حِينَ قَالَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ فَكَذَّبُوهُ، (فَأَغْرَقْنَاهُمْ وَنَجَّيْنَاهُ هُوَ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ) - لَا جَمِيعَ أَنْبَاءِ قِصَّتِهِ مَعَهُمْ (الْمُفَصَّلَةِ فِي سُورَةِ هُودٍ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ وَوُضِعَتْ بَعْدَهَا فِي الْمُصْحَفِ) لِيَعْلَمُوا مِنْ هَذَا النَّبَأِ الْخَاصِّ سُنَّتَهُ تَعَالَى فِي نَصْرِ رُسُلِهِ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَأَنَّهُ كَذَلِكَ يَنْصُرُكَ عَلَيْهِمْ، فَيُهْلِكُ الْمُكَذِّبِينَ لَكَ الْمَغْرُورِينَ بِكَثْرَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ وَقِلَّةِ مَنِ اتَّبَعَكَ وَضَعْفِهِمْ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الضُّعَفَاءَ سَيَكُونُونَ خَلَائِفَ الْأَرْضِ فِي قَوْمِهِمْ وَغَيْرِ قَوْمِهِمْ مِنْ سُكَّانِ الْأَرْضِ، قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ بَعْدَ أَنْ طَالَ مُكْثُهُ فِيهِمْ يَدْعُوهُمْ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ وَالْإِصْلَاحِ فِي الْأَرْضِ فَمَلُّوا مَقَامَهُ، وَسَئِمُوا وَعْظَهُ وَائْتَمَرُوا بِهِ: يَا قَوْمِي إِنْ كَانَ قَدْ كَبُرَ أَيْ شَقَّ وَعَظُمَ عَلَيْكُمْ قِيَامِي فِيكُمْ، أَوْ مَكَانِي مِنَ الْقِيَامِ بِمَا أَقُومُ بِهِ مِنْ دَعْوَتِكُمْ إِلَى عِبَادَةِ رَبِّكُمْ، وَتَذْكِيرِي إِيَّاكُمْ بِآيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَوُجُوبِ عِبَادَتِهِ وَشُكْرِهِ، وَالرَّجَاءِ فِي ثَوَابِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، وَالْخَوْفِ مِنْ عِقَابِهِ لِلْمُشْرِكِينَ الْمُجْرِمِينَ - التَّذْكِيرُ: يُطْلَقُ عَلَى الْإِعْلَامِ بِالْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ فِي أَنْفُسِ النَّاسِ وَفِي الْآفَاقِ فَيُدْرِكُهَا الْعَقْلُ وَتَقْتَضِيهَا الْفِطْرَةُ، حَتَّى يَكُونَ بَيَانُهَا تَذْكِيرًا أَوْ كَالتَّذْكِيرِ لِمَنْ فَقِهَهَا بِشَيْءٍ كَانَ يَعْرِفُهُ بِالْقُوَّةِ، فَعَرَفَهُ بِالْفِعْلِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْوَعْظِ وَالنُّصْحِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى عَوَاقِبِ الْأُمُورِ، وَسَيَأْتِي فِي السُّورَةِ التَّالِيَةِ قَوْلُهُ لَهُمْ: (وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ) (١١: ٣٤) الْآيَةَ (فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ) دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَسْتَضْعِفُونَهُمْ، أَيْ إِنْ كَانَ كَبُرَ
375
عَلَيْكُمْ ذَلِكَ وَأَرَدْتُمُ التَّفَصِّيَ مِنْهُ بِالْإِيقَاعِ بِي، فَإِنَّنِي قَدْ وَكَّلْتُ أَمْرِي إِلَى
اللهِ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَاعْتَمَدْتُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ بَعْدَ أَنْ أَدَّيْتُ رِسَالَتَهُ بِقَدْرِ طَاقَتِي (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ) مِنْ أَجْمَعَ الْأَمْرَ كَالسَّفَرِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِهِمَا وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ إِذَا عَزَمَ عَلَيْهِ عَزْمًا لَا تَرَدُّدَ فِيهِ، قِيلَ أَصْلُهُ جَمْعُ مَا تَفَرَّقَ مِنْ أَسْبَابِهِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، وَأَجْمَعَ الْقَوْمُ عَلَى الشَّيْءِ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ كُلُّهُمْ لَمْ يَشِذَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ، أَيْ أَجْمِعُوا مَا تُرِيدُونَ مِنْ أَمْرِكُمْ مِنْ شُرَكَائِكُمُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ، وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ وَادْعُوَا شُرَكَاءَكُمْ لِيُعِينُوكُمْ كَمَا تَزْعُمُونَ كَمَا أَدْعُو رَبِّي وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ: (ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ) الَّذِي تَعْتَزِمُونَهُ (عَلَيْكُمْ غُمَّةً) أَيْ خَفِيًّا فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْحَيْرَةِ أَوِ اللَّبْسِ الَّذِي يَقْتَضِي التَّرَدُّدَ فِي الْإِنْقَاذِ، بَعْدَ الْعَزْمِ وَالْإِجْمَاعِ، بَلْ كُونُوا عَلَى عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ فِيهِ لِكَيْلَا تَتَحَوَّلُوا عَنْهُ بِظُهُورِ الْخَطَأِ أَوِ التَّرَدُّدِ فِي كَوْنِهِ هُوَ الصَّوَابَ (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ) ذَلِكَ الْأَمْرَ بَعْدَ إِجْمَاعِهِ وَاعْتِزَامِهِ وَبَعْدَ اسْتِبَانَتِهِ التَّامَّةِ الَّتِي لَا غُمَّةَ فِيهَا وَلَا الْتِبَاسَ بِأَنْ تُنَفِّذُوهُ بِالْفِعْلِ، فَالْقَضَاءُ يُطْلَقُ بِمَعْنَى أَدَاءِ الشَّيْءِ وَتَنْفِيذِهِ وَإِتْمَامِهِ وَمِنْهُ: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ) (٢٨: ٢٩) (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ) (٣٣: ٢٣) وَ (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا) (٣٣: ٣٧) وَتَعْدِيَتُهُ بِإِلَى لِإِفَادَةِ إِبْلَاغِهِ وَإِيصَالِهِ إِلَى مُتَعَلِّقِهِ بِالْفِعْلِ كَمَا قَالَ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ آيَةَ رَقْمِ ١١ (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) وَيُطْلَقُ بِمَعْنَى الْحُكْمِ بِالشَّيْءِ، وَإِذَا عُدِّيَ هَذَا بِإِلَى يُفِيدُ تَبْلِيغَ خَبَرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ) (١٧: ٤) إِلَخْ. وَقَوْلِهِ: (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) (١٥: ٦٦)، (وَلَا تُنْظِرُونِ) أَيْ لَا تُمْهِلُونِي بِتَأْخِيرِ هَذَا الْقَضَاءِ وَتَنْفِيذِهِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ تِلْكَ الْمُقَدِّمَاتِ كُلِّهَا.
هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَبْلَغِ آيَاتِ الْقُرْآنِ عِبَارَةً، وَأَجْمَعِهَا عَلَى إِيجَازِهَا لِلْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ مِنْ عِلْمِ النَّفْسِ، وَدَرَجَةِ إِيمَانِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُرْسَلِينَ وَثِقَتِهِمْ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَشَجَاعَتِهِمْ وَاحْتِقَارِهِمْ لِكُلِّ مَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ أَسْبَابِ الْخَوْفِ مِنْ غَيْرِهِ وَالرَّجَاءِ فِيمَا سِوَاهُ، وَبَيَانِ خَاتَمِهِمْ لِسُنَّتِهِ تَعَالَى فِيهِمْ وَفِي أَقْوَامِهِمْ، وَحَسُنِ وَعْظِهِ لَهُمْ بِوَحْيِ رَبِّهِ تَعَالَى فَهُوَ يَضْرِبُ لِحَالِهِ وَمَقَامِهِ مَعَهُمْ مَثَلَ نُوحٍ مَعَ قَوْمِهِ فِي غُرُورِ كُلٍّ مِنْهُمْ بِكَثْرَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ وَاحْتِقَارِهِمْ لِرَسُولِهِ وَلِمَنْ آمَنَ مَعَهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، وَلِمَا
يَعْتَزُّ بِهِ كُلٌّ مِنَ الرَّسُولَيْنِ مِنَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ فِي النَّصْرِ وَالْعِزَّةِ وَحُسْنِ الْعَاقِبَةِ، وَالْجَزْمِ بِإِهْلَاكِ الْمُصِرِّينَ عَلَى تَكْذِيبِهِ وَنَجَاةِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّبِعِينَ لَهُ بِجَعْلِهِمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَأَصْحَابَ السُّلْطَانِ فِيهَا. صَوَّرَتِ الْآيَةُ لِأَهْلِ مَكَّةَ الْبُلَغَاءِ هَذِهِ الْمَعَانِيَ بِمُطَالَبَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ عَلَى كَثْرَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ - الْمَشْهُورُ فِي تَوَارِيخِ الْأُمَمِ وَظَوَاهِرِ الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ أَنَّهُمْ جَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ - بِأَنْ يَفْعَلُوا مَا اسْتَطَاعُوا مِنَ الْإِيقَاعِ بِهِ وَاكْتِفَاءِ أَمْرِهِ وَالِاسْتِرَاحَةِ مِنْ دَعْوَتِهِ، مُطَالَبَةَ الْقَوِيِّ الْعَزِيزِ الْمُذِلِّ بِبَأْسِهِ، وَالْمُعْتَصِمِ بِإِيمَانِهِ بِوَعْدِ رَبِّهِ وَتَوَكُّلِهِ عَلَيْهِ، لِلضَّعِيفِ الْعَاجِزِ عَنْ تَنْفِيذِ مُرَادِهِ مَهْمَا يَكُنْ مِنَ اسْتِيفَائِهِ لِجَمِيعِ أَسْبَابِهِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْكَسْبِيَّةِ، إِذْ أَمَرَهُمْ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأَوْلَى بِإِجْمَاعِ
376
أَمْرِهِمْ بِالْعَزِيمَةِ الصَّادِقَةِ وَقُوَّةِ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ، حَتَّى لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ مُوجِبَاتِهَا مُتَفَرِّقًا بَيْنَهُمْ، وَأَنْ يَضُمُّوا إِلَى هَذِهِ الْقُوَّةِ النَّفْسِيَّةِ الْكَسْبِيَّةِ قُوَّةَ الْإِيمَانِ الْمَعْنَوِيَّةِ بِشُرَكَائِهِمْ وَآلِهَتِهِمْ، وَلَمَّا كَانَتِ الْعَزِيمَةُ الصَّادِقَةُ الْمُجَمَّعَةُ قَدْ يَعْرِضُ لَهَا الْوَهْنُ أَوِ الْعِلَلُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْفَسْخِ قَبْلَ التَّنْفِيذِ، نَهَاهُمْ أَنْ يَكُونَ فِي أَمْرِهِمُ الَّذِي أَجْمَعُوا شَيْءٌ مِنَ الْغُمَّةِ وَالْخَفَاءِ الَّذِي يَقْتَضِي ذَلِكَ.
(فَإِنْ قِيلَ) : إِنَّ إِجْمَاعَ الْعَزْمِ فِي الْأَمْرِ لَا يَكُونُ بَعْدَ الْجَزْمِ بِالْعِلْمِ بِالْمُقْتَضَى لَهُ الْبَاعِثِ إِذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ غُمَّةً امْتَنَعَ إِجْمَاعُهُ كَمَا يَمْتَنِعُ إِجْمَاعُ الصِّيَامِ مِنَ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ رَمَضَانَ إِذَا غُمَّ الْهِلَالُ فِي لَيْلَةِ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ، وَلِهَذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ((صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ)) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ غَيْرُهُمْ عَنْ غَيْرِهِ، فَالْأَمْرُ بِإِجْمَاعِ الْأَمْرِ يُغْنِي عَنِ النَّهْيِ أَنْ يَكُونَ غُمَّةً، فَمَا حِكْمَةُ ذِكْرِهِ بَعْدَهُ وَعَطْفِهِ عَلَيْهِ بِـ (ثُمَّ) الدَّالَّةِ عَلَى تَأَخُّرِهِ عَنْهُ فِي الرُّتْبَةِ؟ (قُلْتُ) : يَكْفِي فِي إِجْمَاعِ الْأَمْرِ عَلَى الْإِيقَاعِ بِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَعْتَقِدُوا أَنَّهُ مَصْلَحَةٌ لَهُمْ غَيْرُ مُعَارَضَةٍ بِمَفْسَدَةٍ أَرْجَحَ مِنْهَا، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَعْرِضَ لَهُمْ قَبْلَ تَنْفِيذِهِ شَيْءٌ مِنَ الْغُمَّةِ وَالْحَيْرَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْفَسْخِ أَوِ التَّرَدُّدِ فَمِنْ ثَمَّ اقْتَضَتِ الْمُبَالَغَةُ فِي أَمْرِ التَّعْجِيزِ الْمَذْكُورَةِ أَنْ يُؤَكِّدَ بِهَذَا النَّهْيِ عَنِ الْغُمَّةِ فِي الْمُسْتَقَبْلِ وَاقْتَضَتِ الْبَلَاغَةُ أَنْ يَعْطِفَ بِـ (ثُمَّ) لِأَنَّ مَرْتَبَتَهُ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ مَرْتَبَةِ ذَلِكَ الْأَمْرِ وَمَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنَ الْعِلْمِ بِالْمُقْتَضَى لَهُ، كَمَا أَنَّ مَرْتَبَةَ قَضَاءِ ذَلِكَ الْأَمْرِ وَتَنْفِيذِهِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ مَرْتَبَةِ الْأَمْرِ
الْأَوَّلِ وَالنَّهْيِ كِلْتَيْهِمَا، وَلِذَلِكَ عُطِفَا عَلَيْهِمَا مَعًا بِـ (ثُمَّ)، وَأُكِّدَ هَذَا الْأَمْرُ الثَّانِي بِالنَّهْيِ عَنِ الْإِنْظَارِ مَعْطُوفًا بِالْوَاوِ الَّتِي تُفِيدُ مُطْلَقَ الْجَمْعِ لِاتِّحَادِ زَمَنِهِمَا وَرُتْبَتِهِمَا فَلَا تَرْتِيبَ بَيْنِهِمَا.
وَقَرَأَ نَافِعٌ (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ مِنَ الْجَمْعِ، أَيِ اجْمَعُوا مَا تَفَرَّقَ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: (وَشُرَكَاءَكُمْ) مَفْعُولًا بِهِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ، لَا مَفْعُولًا مَعَهُ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّلَمِيُّ وَعِيسَى الثَّقَفِيُّ (وَشُرَكَاؤُكُمْ) بِالرَّفْعِ أَيْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ شَاذَّةٌ مُخَالِفَةٌ لِخَطِّ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ فَلَا تُتْلَى فِي الصَّلَاةِ، وَقُرِئَ ((أَفْضُوا إِلَيَّ)) مِنَ الْإِفْضَاءِ إِلَى الشَّيْءِ وَهُوَ الْوُصُولُ وَالِانْتِهَاءُ إِلَيْهِ مُبَاشَرَةً وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَصْحِيفٌ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ وَاحِدًا لَا يَخْتَلِفُ.
(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أَيِ انْصَرَفْتُمْ عَنِّي مُصِرِّينَ عَلَى إِعْرَاضِكُمْ عَنْ تَذْكِيرِي (فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) أَيْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ عَلَى هَذَا التَّذْكِيرِ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ مِنْ مَسَائِلِ الدَّعْوَةِ وَالنُّصْحِ أَدْنَى شَيْءٍ مِنَ الْأَجْرِ وَالْمُكَافَآتِ فَتَتَوَلَّوْا لِثِقَلِهِ عَلَيْكُمْ، أَوْ فَيَضُرُّنِي أَنْ يَفُوتَ عَلَيَّ وَأُحْرَمَهُ فَأُبَالِيَ بِتَوَلِّيكُمْ (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) أَيْ مَا أَجْرِي وَثَوَابِي عَلَى دَعْوَتِكُمْ وَتَذْكِيرِكُمْ إِلَّا عَلَى اللهِ الَّذِي أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ، فَهُوَ يُوَفِّينِي إِيَّاهُ سَوَاءٌ آمَنْتُمْ أَوْ تَوَلَّيْتُمْ (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أَيِ الْمُنْقَادِينَ الْمُذْعِنِينَ بِالْفِعْلِ لِمَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ أَسْلَمْتُمْ أَمْ كَفَرْتُمْ، فَلَا أَتْرُكُ شَيْئًا مِمَّا أَمَرْتُكُمْ بِهِ (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) (١١: ٨٨).
377
(فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) أَيْ فَأَصَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِهِ بَعْدَ أَنْ أَقَامَ لَهُمُ الْحُجَّةَ بِقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ عَلَى حَقِّيَّةِ دَعْوَتِهِ، وَبَرَاءَتِهِ مَنْ كُلِّ خَوْفٍ مِنْهُمْ إِذَا كَذَّبُوا، وَرَجَاءٍ فِيهِمْ إِذَا آمَنُوا، فَنَجَّيْنَاهُ هُوَ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ الَّتِي كَانَ يَصْنَعُهَا بِأَمْرِنَا لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَلَفْظُ ((الْفُلْكِ)) هُنَا مُفْرَدٌ وَهُوَ السَّفِينَةُ كَمَا عَبَّرَ بِهِ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ، وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى الْجَمْعِ أَيْضًا كَمَا قَالَ: (وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ) (١٦: ١٤) وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِالْقَرَائِنِ، إِنْ لَمْ تُوصَفْ بِالْجَمْعِ كَالْمَوَاخِرِ (وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ) يَخْلُفُونَ الْمُكَذِّبِينَ فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا عَلَى قِلَّتِهِمْ (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) بَعْدَ أَنْ أَنْذَرَهُمْ وَأَوْعَدَهُمُ الْعَذَابَ، أَيْ وَأَغْرَقْنَاهُمْ لِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا (فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ)
أَيْ فَانْظُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ بِعَيْنِ بَصِيرَتِكَ وَعَقْلِكَ، كَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَةُ الْقَوْمِ الَّذِينَ أَنْذَرَهُمْ رَسُولُهُمْ وُقُوعَ عَذَابِ اللهِ عَلَيْهِمْ فَأَصَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِهِ، فَكَذَا تَكُونُ عَاقِبَةُ مَنْ يُصِرُّونَ عَلَى تَكْذِيبِكَ مِنْ قَوْمِكَ، وَكَذَلِكَ تَكُونُ عَاقِبَةُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّبِعِينَ لَكَ.
قَدَّمَ ذِكْرَ تَنْجِيَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِخْلَافَهُمْ عَلَى إِغْرَاقِ الْمُكَذِّبِينَ وَقَطْعِ دَابِرِهِمْ، لِأَنَّهُ هُوَ الْأَهَمُّ فِي سِيَاقِ صِدْقِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَوَّلُهُمَا تَقْدِيمُ مِصْدَاقِ الْوَعْدِ لِتَسْلِيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَسْرِيَةِ حُزْنِهِ عَلَى قَوْمِهِ وَمِنْهُمْ، وَثَانِيهِمَا كَوْنُهُ هُوَ الْأَظْهَرَ فِي الْحُجَّةِ عَلَى أَنَّهُمَا (أَيِ الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ) مِنَ اللهِ تَعَالَى الْقَادِرِ عَلَى إِيقَاعِهِمَا، عَلَى خِلَافِ مَا يَعْتَقِدُ الْمُشْرِكُونَ الْمُكَذِّبُونَ الْمَغْرُورُونَ بِكَثْرَتِهِمْ وَقِلَّةِ أَتْبَاعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَخِلَافُ الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ فِي الْمَصَائِبِ الْعَامَّةِ فِي الْعَادَةِ وَهُوَ أَنَّهَا تُصِيبُ الصَّالِحَ وَالطَّالِحَ عَلَى سَوَاءٍ، فَلَا تَمْيِيزَ فِيهَا وَلَا اسْتِثْنَاءَ، وَلَكِنَّهُ هُوَ الَّذِي جَرَتْ بِهِ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِي مُكَذِّبِي الرُّسُلِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ فَكَانَ آيَةً لَهُمْ، فَلَوْلَا أَنَّ الْأَمْرَ بِيَدِ اللهِ عَلَى وَفْقِ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ لَمَا هَلَكَ الْأُلُوفُ الْكَثِيرُونَ، وَنَجَا أَفْرَادٌ قَلِيلُونَ لَهُمْ صِفَةٌ خَاصَّةٌ أَخْرَجَهُمْ مِنْهُمْ تَصْدِيقًا لِخَبَرِ رَسُولِهِمْ، وَمَا سِيقَ هَذَا النَّبَأُ هُنَا إِلَّا لِتَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى. وَغَفَلَ عَنْهُ الْبَاحِثُونَ عَنْ نُكْتَةِ الْبَلَاغَةِ فِي الْعُدُولِ عَنِ الضَّمِيرِ إِلَى الِاسْمِ الْمَوْصُولِ فَقَالُوا: إِنَّهَا تَعْجِيلُ الْمَسَرَّةِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْإِيذَانُ بِأَنَّ الرَّحْمَةَ مُقَدِّمَةٌ عَلَى الْعَذَابِ وَلَكِنْ مَا قُلْنَاهُ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ لِذَاتِهِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ السِّيَاقُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مُلْهِمِ الصَّوَابِ.
(ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسَلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ).
بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عِبْرَةً أُخْرَى مَنْ عِبَرِ مُكَذِّبِي الرُّسُلِ وَسُنَّةً مِنْ سُنَنِهِ فِيهِمْ، تَكْمِلَةً لِمَا بَيَّنَهُ فِي حَالِ قَوْمِ نُوحٍ مَعَ رَسُولِهِمْ، عَسَى أَنْ يَعْتَبِرَ بِهَا أَهْلُ مَكَّةَ فَيَعْلَمُوا كَيْفَ
يَتَّقُونَ عَاقِبَةَ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّ كُلَّ سُوءٍ وَضُرٍّ عُلِمَ سَبَبُهُ أَمْكَنَ اتِّقَاؤُهُ بِاتِّقَاءِ سَبَبِهِ، إِذَا كَانَ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ الِاخْتِيَارِيِّ كَالْكُفْرِ وَالِاعْتِدَاءِ وَالظُّلْمِ.
(ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ) أَيْ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِ نُوحٍ رُسُلًا مِثْلَهُ
إِلَى أَقْوَامِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا مِثْلَ قَوْمِهِ فِيمَا يَأْتِي مِنْ خَبَرِهِمْ مَعَهُمْ، وَلِهَذَا أَفْرَدَ كَلِمَةَ (قَوْمِهِمْ) فِيمَا يَظْهَرُ لَنَا مِنْهُ، وَالْمُرَادُ: أَرْسَلَنَا كُلَّ رَسُولٍ مِنْهُمْ إِلَى قَوْمِهِ كَهُودٍ إِلَى عَادٍ وَصَالِحٍ إِلَى ثَمُودَ، وَلَمْ يُرْسَلْ رَسُولٌ مِنْهُمْ إِلَى كُلِّ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِهِ إِلَّا شُعَيْبًا، أُرْسِلَ إِلَى قَوْمِهِ أَهْلِ مَدِينَ وَإِلَى جِيرَانِهِمْ أَصْحَابِ الْمُؤْتَفِكَةِ لِاتِّحَادِهِمَا فِي اللُّغَةِ وَالْوَطَنِ، وَإِنَّمَا أُرْسِلَ مُحَمَّدٌ وَحْدَهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً (فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) أَيْ فَجَاءَ كُلُّ رَسُولٍ مِنْهُمْ قَوْمَهُ بِالْبَيِّنَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى رِسَالَتِهِ وَصِحَّةِ مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، بِحَسْبِ أَفْهَامِهِمْ وَأَحْوَالِهِمُ الْعَقْلِيَّةِ: (فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) أَيْ فَمَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يُؤْمِنَ الْمُتَأَخِّرُ مِنْهُمْ بِمَا كَذَّبَ بِهِ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ قَبْلُ مِمَّنْ كَانَ مِثْلَهُ فِي سَبَبِ كُفْرِهِ، وَهُوَ اسْتِكْبَارُ الرُّؤَسَاءِ، وَتَقْلِيدُ الدَّهْمَاءِ لِلْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ (كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) أَيْ مِثْلُ هَذَا الطَّبْعِ، وَعَلَى غِرَارِ هَذِهِ السُّنَّةِ الَّتِي اطَّرَدَتْ فِيهِمْ، (نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) مَثَلُهُمْ فِي كُلِّ قَوْمٍ كَقَوْمِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ إِذَا كَانُوا مِثْلَهُمْ: (وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا) (١٧: ٧٧) وَ (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا) (٣٣: ٦٢، ٤٨: ٢٣) فَأَمَّا الطَّبْعُ عَلَى الْقُلُوبِ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ قَبُولِهَا شَيْئًا غَيْرَ مَا رَسَخَ فِيهَا وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا مِمَّا يُخَالِفُهُ كَقَبُولِ الْجَاهِلِ الْمُقَلِّدِ الدَّلِيلَ الْعِلْمِيَّ عَلَى بُطْلَانِ اعْتِقَادِ التَّقْلِيدِيِّ وَرُجُوعِ الْمُعَانِدِ عَنْ عِنَادِهِ وَكِبَرِهِ النَّفْسِيِّ (وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي تَفْسِيرِهَا مَا سَبَقَ فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ فِي سُورِ النِّسَاءِ وَالْأَعْرَافِ وَالتَّوْبَةِ، وَمَثَلُهُ تَفْسِيرُ: (خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ آيَةَ (٧).
وَأَمَّا الِاعْتِدَاءُ الَّذِي صَارَ وَصْفًا ثَابِتًا لِهَؤُلَاءِ (الْمُعْتَدِينَ) فَمَعْنَاهُ تَجَاوُزُ حُدُودِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ اتِّبَاعًا لِهَوَى النَّفْسِ وَشَهَوَاتِهَا، فَالطَّبْعُ الْمَذْكُورُ أَثَرٌ طَبَعِيٌّ لِلْحَالَةِ النَّفْسِيَّةِ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا بِوَصْفِ الِاعْتِدَاءِ، وَلَيْسَ عِقَابًا أُنُفًا (بِضَمَّتَيْنِ أَيْ جَدِيدًا) خَلَقَهُ اللهُ لِمَنْعِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانُوا مَعْذُورِينَ بِكُفْرِهِمْ وَلَمَا كَانَ فِيهِ عِبْرَةٌ لِغَيْرِهِمْ، بَلْ لَكَانَ حُجَّةً لَهُمْ، وَقَدْ فَهِمَتْ قُرَيْشٌ وَسَائِرُ الْعَرَبِ مَا لَمْ يَفْهَمْهُ مُتَكَلِّمُو الْجَبْرِيَّةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا، وَهُوَ أَنَّهَا وَصْفٌ لِلْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ، وَالسَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ، وَسَنَّتُهُ تَعَالَى فِي دَوَامِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِدَوَامِ الْآخَرِ، لَا بِذَاتِهِ وَكَوْنِهِ خَلْقِيًّا لَا مَفَرَّ مِنْهُ، بَلِ الْمَفَرُّ أَمْرٌ اخْتِيَارِيٌّ مُمْكِنٌ، وَهُوَ تَرْكُ الْمُعَانِدِ لِعِنَادِهِ وَالْمُقَلِّدِ لِتَقْلِيدِهِ، إِيثَارًا لِلْحَقِّ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ، فَهِمُوا هَذَا فَاهْتَدَى الْأَكْثَرُونَ بِالتَّدْرِيجِ، وَهَلَكَ الَّذِينَ اسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَغَيْرِهَا.
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنِ وَمَلَئِهِ بِآيَتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ).
هَذِهِ قِصَّةُ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مَعَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ مُلَخَّصَةً هُنَا فِي ١٩ آيَةً مُفَصَّلَةً مُرَتَّبَةً كَمَا نُبَيِّنُهُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَهَذِهِ الْأَرْبَعُ مِنْهَا فِي اسْتِكْبَارِ فِرْعَوْنِ وَمَلَئِهِ عَنِ الْإِيمَانِ وَزَعْمِهِمْ أَنَّ آيَاتِ اللهِ لِمُوسَى مِنَ السِّحْرِ، وَتَعْلِيلِ تَكْذِيبِهِمْ لَهُ بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ اتِّبَاعَهُ تَحْوِيلٌ لَهُمْ عَنِ التَّقَالِيدِ الْمَوْرُوثَةِ عَنِ الْآبَاءِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَسْلُبُ سُلْطَانَهُمْ مِنْهُمْ وَيَنْفَرِدُ هُوَ وَأَخُوهُ بِمَا يَتَمَتَّعُونَ بِهِ مِنَ الْكِبْرِيَاءِ فِي الْأَرْضِ، وَهَذَا بِمَعْنَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ الْمُخْتَصَرَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَهَاكَ تَفْسِيرَهُنَّ بِالِاخْتِصَارِ:
(ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ) أَيْ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ - الَّذِينَ بَعَثْنَاهُمْ إِلَى أَقْوَامِهِمْ - مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنِ مِصْرَ وَأَشْرَافِ قَوْمِهِ الَّذِينَ هُمْ أَرْكَانُ دَوْلَتِهِ، وَإِلَى قَوْمِهِمُ الْقِبْطِ بِالتَّبَعِ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَعْبَدِينَ لَهُمْ يَكْفُرُونَ بِكُفْرِهِمْ، وَيُؤْمِنُونَ بِإِيمَانِهِمْ أَنْ آمَنُوا (بِآيَاتِنَا) أَيْ بَعَثْنَاهُمَا مُؤَيِّدَيْنِ بِآيَاتِنَا التِّسْعِ الْمُفَصَّلَةِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَغَيْرِهَا (فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ) أَيْ فَاسْتَكْبَرَ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ، أَيْ أَعْرَضُوا عَنِ الْإِيمَانِ كِبْرًا وَعُلُوًّا مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ سَعَةِ الْعِلْمِ وَصِنَاعَةِ السِّحْرِ، وَكَانُوا
قَوْمًا رَاسِخِينَ فِي الْإِجْرَامِ وَهُوَ الظُّلْمُ وَالْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّمْلِ: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (٢٧: ١٤).
(فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ) وَهُوَ آيَاتُنَا الدَّالَّةُ عَلَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ (مِنْ عِنْدِنَا) وَوَحْيِنَا
إِلَى مُوسَى كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ وَغَيْرِهَا، الْمُبْطِلِ لِادِّعَاءِ فِرْعَوْنَ لَهُمَا بِقَوْلِهِ: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) (٧٩: ٢٤) وَقَوْلِهِ: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) (٢٨: ٣٨) (قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) أَيْ أَقْسَمُوا إِنَّ هَذَا الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ إِنَّمَا هُوَ سِحْرٌ بَيِّنٌ ظَاهِرٌ، وَإِنَّمَا السِّحْرُ صِنَاعَةٌ بَاطِلَةٌ هُمْ أَحَذَقُ النَّاسِ بِهَا، فَكَيْفَ يَتَّبِعُونَ مَنْ جَاءَ يُنَازِعُهُمْ سُلْطَانَهُمْ بِهَا، فَمَاذَا قَالَ لَهُمْ مُوسَى؟.
(قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ) أَيْ قَالَ لَهُمْ مُتَعَجِّبًا مِنْ قَوْلِهِمْ أَتَقُولُونَ هَذَا الَّذِي قُلْتُمْ لِلْحَقِّ الظَّاهِرِ، الَّذِي هُوَ أَبَعْدُ الْأَشْيَاءِ عَنْ كَيْدِ السِّحْرِ الْبَاطِلِ، لَمَّا جَاءَكُمْ وَعَرَفْتُمُوهُ وَاسْتَيْقَنَتْهُ أَنْفُسُكُمْ، حَذَفَ مَقُولَ الْقَوْلِ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: (إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) وَكَذَا مَا بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ مُنْكِرًا لَهُ مُتَعَجِّبًا مِنْهُ: (أَسِحْرٌ هَذَا) أَيْ إِنَّ هَذَا الَّذِي تَرَوْنَهُ مِنْ آيَاتِ اللهِ بِأَعْيُنِكُمْ، وَتَرْجُفُ مِنْ عَظَمَتِهِ قُلُوبُكُمْ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سِحْرًا مِنْ جِنْسِ مَا تَصْنَعُهُ أَيْدِيكُمْ، (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) أَيْ وَالْحَالُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَكُمْ أَنَّ السَّاحِرِينَ لَا يَفُوزُونَ فِي أُمُورِ الْجِدِّ الْعَمَلِيَّةِ مِنْ دَعْوَةِ دِينٍ وَتَأْسِيسِ مُلْكٍ وَقَلْبِ نِظَامٍ، وَهُوَ مَا تَتَّهِمُونَنِي بِهِ عَلَى ضَعْفِي وَقُوَّتِكُمْ، لِأَنَّ السِّحْرَ أُمُورُ شَعْوَذَةٍ وَتَخْيِيلٍ، لَا تَلْبَثُ أَنْ تَفْتَضِحَ وَتَزُولَ، يَدُلُّ عَلَى هَذَا جَوَابُهُمْ لَهُ:
(قَالُوا أَجِئْتِنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ) هَذَا اسْتِفْهَامُ تَوْرِيطٍ وَتَقْرِيرٍ، تُجَاهَ مَا أَوْرَدَهُ مُوسَى مِنَ اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ وَالتَّعْجِيبِ، فَحَوَاهُ أَتُقِرُّ وَتَعْتَرِفُ بِأَنَّكَ جِئْتَنَا لِتَصْرِفَنَا وَتَحَوُّلِنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ
آبَاءَنَا وَأَجْدَادَنَا مِنَ الدِّينِ الْقَوْمِيِّ الْوَطَنِيِّ لِنَتِّبِعَ دِينَكَ وَتَكُونَ لَكَ وَلِأَخِيكَ كِبْرِيَاءُ الرِّيَاسَةِ الدِّينِيَّةِ، وَمَا يَتْبَعُهَا مِنْ كِبْرِيَاءِ الْمُلْكِ وَالْعَظَمَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ التَّابِعَةِ لَهَا فِي أَرْضِ مِصْرَ كُلِّهَا؟ يَعْنُونَ أَنَّهُ لَا غَرَضَ لَكَ مِنْ دَعْوَتِكَ إِلَّا هَذَا وَإِنْ لَمْ تَعْتَرِفْ بِهِ اعْتِرَافًا. جَعَلُوا الْخِطَابَ الْخَاصَّ بِالدَّعْوَةِ وَالْغَرَضَ مِنْهَا لِمُوسَى لِأَنَّهُ هُوَ الدَّاعِي لَهُمْ بِالذَّاتِ وَأَشْرَكُوا مَعَهُ أَخَاهُ فِي ثَمَرَةِ الدَّعْوَةِ وَفَائِدَتِهَا لِأَنَّهَا تَكُونُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا بِالضَّرُورَةِ (وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ) أَيْ وَمَا نَحْنُ بِمُتَّبِعِينَ لَكُمَا اتِّبَاعَ إِيمَانٍ وَإِذْعَانٍ فِيمَا يُخْرِجُنَا مِنْ دِينِ آبَائِنَا الَّذِي تُقَلِّدُهُ عَامَّتُنَا، وَيَسْلُبُنَا مُلْكَنَا الَّذِي تَتَمَتَّعُ بِكِبْرِيَائِهِ خَاصَّتُنَا - وَهُمُ الْمَلِكُ وَأَرْكَانُ دَوْلَتِهِ وَبِطَانَتُهُ وَحَوَاشِيهِ - وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ هُمَا اللَّذَانِ كَانَا يَمْنَعَانِ جَمِيعَ الْأَقْوَامِ مِنَ اتِّبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُصْلِحِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ.
(وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ).
هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ فِي خُلَاصَةِ مَا قَاوَمَ بِهِ فِرْعَوْنُ دَعْوَةَ مُوسَى لِتَأْيِيدِ ادِّعَائِهِ أَنَّهُ سَاحِرٌ وَصَرْفِ قَوْمِهِ عَنِ اتِّبَاعِهِ لِعَدَمِ تَمْيِيزِهِمْ بَيْنَ السِّحْرِ وَآيَاتِ اللهِ لَهُ.
(وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ) أَيْ ذَاكَ مَا قَالَهُ مَلَأُ فِرْعَوْنَ لِمُوسَى وَأَخِيهِ بِحَضْرَتِهِ، وَقَالَ فِرْعَوْنُ بَعْدَ مَا رَأَوْا مِنْ إِصْرَارِ مُوسَى عَلَى دَعْوَتِهِ، وَعَدَمِ مُبَالَاتِهِ بِالتَّصْرِيحِ لَهُ بِمَا يَدْعُونَ أَوْ يَظُنُّونَ مِنْ مُرَادِهِ: (ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ وَاسِعِ الْعِلْمِ رَاسِخٍ فِيهِ مُتْقِنٍ لِلسِّحْرِ بِالْعَمَلِ كَمَا عَبَّرَ عَنْهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى (بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) (٦: ٣٧).
(فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ) الْمَطْلُوبُونَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذُكِرَ (قَالَ لَهُمْ مُوسَى) بَعْدَ أَنْ خَيَّرُوهُ بَيْنَ أَنْ يُلْقِيَ مَا عِنْدَهُ أَوَّلًا أَوْ يُلْقُوا هُمْ مَا عِنْدَهُمْ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي سُورَتَيِ
الْأَعْرَافِ وَطَهَ (أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ) لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ إِبْطَالُ الْبَاطِلِ وَإِظْهَارُ الْحَقِّ.
(فَلَمَّا أَلْقَوْا) مَا أَلْقَوْهُ مِنْ حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمُ الصِّنَاعِيَّةِ السِّحْرِيَّةِ (قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) أَيْ هَذَا الَّذِي جِئْتُمْ بِهِ وَأَلْقَيْتُمُوهُ أَمَامَنَا هُوَ السِّحْرُ لَا مَا جِئْتُ بِهِ مِنْ آيَاتِ اللهِ تَعَالَى وَسَمَّاهُ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ سِحْرًا (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) أَيْ سَيُظْهِرُ بُطْلَانَهُ لِلنَّاسِ وَأَنَّهُ صِنَاعَةٌ خَادِعَةٌ، لَا آيَةٌ خَارِقَةٌ صَادِعَةٌ، فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافِيَّةُ لِبَيَانِ مَا يُوقِنُ بِهِ مُوسَى مِنْ مَآلِ هَذَا السِّحْرِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ خَبَرًا لِمَا قَبْلَهَا وَيَكُونَ التَّقْدِيرُ: مَا جِئْتُمْ بِهِ الَّذِي هُوَ السِّحْرُ، إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ بِمَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، وَعَلَّلَ حُكْمَهُ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) وَهُوَ قَاعِدَةٌ عَامَّةٌ مُبَيِّنَةٌ لِسُنَّةِ اللهِ فِي تَنَازُعِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ، وَيَدْخُلُ فِيهَا سِحْرُهُمْ فَإِنَّهُ بَاطِلٌ وَفَسَادٌ، أَيْ لَا يَجْعَلُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ صَالِحًا، وَالسِّحْرُ مِنْ عَمَلِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ الْمُفْسِدِينَ.
(وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ) أَيْ يُثْبِتُ الْحَقَّ الَّذِي فِيهِ صَلَاحُ الْخَلْقِ، وَيَنْصُرُهُ عَلَى مَا يُعَارِضُهُ مِنَ الْبَاطِلِ بِكَلِمَاتِهِ التَّكْوِينِيَّةِ وَهِيَ مُقْتَضَى إِرَادَتِهِ، وَكَلِمَاتِهِ التَّشْرِيعِيَّةِ الَّتِي يُوجِبُهَا إِلَى رُسُلِهِ
وَمِنْهَا وَعْدُهُ بِنَصْرِي عَلَى فِرْعَوْنَ وَإِنْقَاذِ قَوْمِي مِنْ عُبُودِيَّتِهِ وَظُلْمِهِ (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) كَفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ. وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ (٨: ٧، ٨).
(فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لِمَنِ الْمُسْرِفِينَ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَقَالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).
هَذِهِ الْآيَاتُ الْخَمْسُ فِي بَيَانِ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ مُوسَى مَعَ قَوْمِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ أَرْسَلَهُ اللهُ لِيُخْرِجَهُمْ مِنْ مِصْرَ، فِي إِثْرِ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِهِ مَعَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ.
(فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) الْمُتَبَادَرُ إِلَى فَهْمِي أَنَّ عَطْفَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى مَا قَبْلَهَا بِالْفَاءِ لِإِفَادَةِ السَّبَبِيَّةِ أَوِ التَّفْرِيعِ، أَيْ إِنَّ إِصْرَارَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ عَلَى الْكُفْرِ بِمُوسَى بَعْدَ خَيْبَةِ السَّحَرَةِ وَظُهُورِ حَقِّهِ عَلَى بَاطِلِهِمْ، ثُمَّ عَزْمَهُ عَلَى قَتْلِهِ كَمَا أَنْبَأَ اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) (٤٠: ٢٦) يَعْنِي بِالْفَسَادِ الثَّوْرَةَ وَالْخُرُوجَ عَلَى السُّلْطَانِ - كَمَا قَتَلَ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنَ السَّحَرَةِ.
كُلُّ هَذَا أَوْقَعَ الْخَوْفَ وَالرُّعْبَ فِي قُلُوبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْمِ مُوسَى، فَمَا آمَنَ لَهُ إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ وَهُمُ الْأَحْدَاثُ مِنَ الْمُرَاهِقِينَ وَالشُّبَّانُ، وَقِيلَ: قَوْمُ فِرْعَوْنَ، وَلَكِنَّ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنْهُمْ كَانَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ، وَلَا يُقَالُ آمَنَ لَهُ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَهُ مُؤْمِنًا، وَلَمْ يَكُونُوا صِغَارًا، وَالذُّرِّيَّةُ فِي اللُّغَةِ الصِّغَارُ مِنَ الْأَوْلَادِ، قَالَ الرَّاغِبُ: وَإِنْ كَانَ يَقَعُ عَلَى الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ مَعًا فِي التَّعَارُفِ وَيُسْتَعْمَلُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ وَأَصْلُهُ الْجَمْعُ. (عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ) أَيْ آمَنُوا عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ، أَيْ أَشْرَافِ قَوْمِهِمُ الْجُبَنَاءِ الْمُرَائِينَ الَّذِينَ هُمْ عُرَفَاؤُهُمْ عِنْدَ
فِرْعَوْنَ فِيمَا يَطْلُبُ هُوَ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الْمُلُوكَ يَسْتَذِلُّونَ الشُّعُوبَ وَيَسْتَعْبِدُونَهُمْ بِرُؤَسَاءَ وَعُرَفَاءَ مِنْهُمْ وَقِيلَ: مَلَأُ فِرْعَوْنَ وَجَمْعُ ضَمِيرِهِ لِلتَّعْظِيمِ، عَلَى خَوْفٍ مِنْهُ أَنْ يَفْتِنَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ لِمُوسَى وَاتِّبَاعِ دِينِهِ بِالتَّعْذِيبِ وَالْإِرْهَاقِ. الْفُتُونُ: الِابْتِلَاءُ وَالِاخْتِبَارُ الشَّدِيدُ لِلْحَمْلِ عَلَى الشَّيْءِ أَوْ عَلَى تَرْكِهِ وَاسْتُعْمِلَ فِي الِاضْطِهَادِ وَالتَّعْذِيبِ لِلِارْتِدَادِ عَنِ الدِّينِ بِكَثْرَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ) (٨: ٣٩) (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ فِرْعَوْنَ عَاتٍ شَدِيدُ الْعُتُوِّ، مُسْتَبِدٌّ غَالِبٌ قَوِيُّ الْقَهْرِ فِي أَرْضِ مِصْرَ فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يُخَافَ مِنْهُ، فَالْمُرَادُ بِعُلُوِّهِ قَهْرُهُ وَاسْتِبْدَادُهُ كَمَا حَكَى الله عَنْهُ بِقَوْلِهِ:
(وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) (٧: ١٢٧) (وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) أَيِ الْمُتَجَاوِزِينَ حُدُودَ الرَّحْمَةِ وَالْعَدْلِ، إِلَى الظُّلْمِ وَالْقَتْلِ، وَالْعُدْوَانِ وَالْبَغْيِ، وَغَمْطِ الْحَقِّ وَاحْتِقَارِ الْخَلْقِ وَهُوَ مَعْنَى الْكِبْرِيَاءِ.
(وَقَالَ مُوسَى) لِمَنْ آمَنَ مِنْ قَوْمِهِ وَقَدْ رَأَى خَوْفَهُمْ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالِاضْطِهَادِ مُرْشِدًا وَمُثْبِتًا لَهُمْ: (يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) أَيْ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ حَقَّ الْإِيمَانِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا، وَبِوَعْدِهِ فَثِقُوا، إِنْ كُنْتُمْ فِي إِيمَانِكُمْ مُسْتَسْلِمِينَ مُذْعِنِينَ بِالْفِعْلِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِيمَانُ يَقِينًا إِذَا صَدَّقَهُ الْعَمَلُ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى إِيمَانِ جَمِيعِ قَوْمِهِ كَمَا قِيلَ، فَالْإِيمَانُ بِاللهِ غَيْرُ الْإِيمَانِ لِمُوسَى الْمُتَضَمِّنِ لِمَعْنَى الْإِسْلَامِ وَالِاتِّبَاعِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) وَهُمْ قَدْ طَلَبُوا مِنْهُ بَعْدَ نَجَاتِهِمْ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ آلِهَةً مِنَ الْأَصْنَامِ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعَجَلَ الْمَصْنُوعَ وَعَبَدُوهُ.
(فَقَالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أَيْ فَامْتَثَلُوا الْأَمْرَ، إِذْ عَلِمُوا أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ إِنْجَازُ الْوَعْدِ، وَصَرَّحُوا بِهِ فِي الْقَوْلِ، مَعَ الدُّعَاءِ بِأَنْ يَحْفَظَهُمْ مِنْ فِتْنَةِ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ بِالْفِعْلِ، فَإِنَّ التَّوَكُّلَ عَلَى اللهِ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ مَقَامَاتِ الْإِيمَانِ لَا يَكْمُلُ إِلَّا بِالصَّبْرِ عَلَى الشَّدَائِدِ، وَالدُّعَاءَ لَا يَصِحُّ وَلَا يُقْبَلُ فَيُسْتَجَابُ إِلَّا إِذَا كَانَ مَسْبُوقًا أَوْ مُقَارَنًا لِاتِّخَاذِ الْأَسْبَابِ، وَهُوَ أَنْ تَعْمَلَ مَا تَسْتَطِيعُ، وَتَطْلُبَ مِنَ اللهِ أَنْ يُسَخِّرَ لَكَ مَا لَا تَسْتَطِيعُ، وَلَفْظُ (فِتْنَةٍ) هُنَا يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْفَاتِنِ وَالْمَفْتُونِ فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: رَبَّنَا لَا تُسَلِّطْهُمْ عَلَيْنَا فَيَفْتِنُونَا، وَلَا تَفْتِنَّا بِهِمْ فَنَتَوَلَّى عَنِ اتِّبَاعِ نَبِيِّنَا، أَوْ نَضْعُفَ فِيهِ فِرَارًا مِنْ شِدَّةِ ظُلْمِهِمْ لَنَا، وَلَا تَفْتِنْهُمْ بِنَا فَيَزْدَادُوا كُفْرًا وَعِنَادًا وَظُلْمًا بِظُهُورِهِمْ عَلَيْنَا، وَيَظُنُّوا أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَأَنَّنَا عَلَى الْبَاطِلِ وَمِنَ الْمَعْقُولِ وَالثَّابِتِ بِالتَّجَارِبِ أَنَّ سُوءَ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ الْحَقِّ فِي أَيِّ حَالٍ مِنْ ضَعْفٍ أَوْ فَقْرٍ أَوْ عَمَلٍ مَذْمُومٍ، يَجْعَلُهُمْ مَوْضِعًا أَوْ مَوْضُوعًا لَافِتَتَانِ الْكَفَّارِ وَأَهْلِ الْبَاطِلِ بِهِمْ بِاعْتِقَادِ أَنَّهُمْ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا
أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا) (٦: ٥٣) وَقَالَ: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) (٢٥: ٢٠) فَكَيْفَ إِذَا خَذَلَ أَهْلَ الْحَقِّ حَقُّهُمْ، وَكَفَرُوا نِعْمَةَ رَبِّهِمْ؟.
(وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) أَيْ نَجِّنَا مِنْ سُلْطَانِهِمْ وَحُكْمِهِمْ لِأَنَّ حُكْمَ الْكَافِرِ لَا يُطَاقُ، وَمِثْلُ هَذَا الدُّعَاءِ فِي جُمْلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سِيَاقِ التَّأَسِّي بِإِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ فِي أَقْوَالِهِمْ لِقَوْمِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَتَوَكُّلِهِمْ: (رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٦٠: ٤، ٥) وَمَا أَجْدَرَ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ بِهَذِهِ الْأُسْوَةِ وَتَجْدِيدِ الْإِنَابَةِ، وَتَكْرَارُ هَذَا الدُّعَاءِ خَاشِعِينَ مُعْتَبِرِينَ مُسْتَعْبِرِينَ فَقَدْ أَصْبَحُوا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.
(وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا) يُقَالُ تَبَوَّأَ الدَّارَ: اتَّخَذَهَا مُبَوَّءًا أَوْ مَبَاءَةً أَيْ مَسْكَنًا ثَابِتًا وَمَلْجَأً يَبُوءُ إِلَيْهِ، أَيْ يَرْجِعَ كُلَّمَا فَارَقَهُ لِحَاجَةٍ، وَبَوَّأَهَا غَيْرَهُ، وَقَوْلُهُ: (أَنْ تَبَوَّآ) تَفْسِيرٌ لِأَوْحَيْنَا لِأَنَّهُ بِمَعْنَى قُلْنَا لَهُمَا: اتَّخِذُوا لِقَوْمِكُمَا بُيُوتًا فِي مِصْرَ تَكُونُ مَسَاكِنَ وَمَلَاجِئَ يَبُوءُونَ إِلَيْهَا وَيَعْتَصِمُونَ بِهَا. (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) أَيْ مُتَقَابِلَةً فِي وِجْهَةٍ وَاحِدَةٍ، فَالْقِبْلَةُ فِي اللُّغَةِ مَا يُقَابِلُ الْإِنْسَانَ وَيَكُونُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ وَمِنْهُ قِبْلَةُ الصَّلَاةِ وَهِيَ أَخَصُّ وَيَصِحُّ الْجَمْعُ هُنَا بَيْنَ الْمَعْنِيِّينَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) أَيْ فِيهَا مُتَوَجِّهِينَ إِلَى وِجْهَةٍ وَاحِدَةٍ ; لِأَنَّ الِاتِّحَادَ فِي الِاتِّجَاهِ يُسَاعِدُ عَلَى اتِّحَادِ الْقُلُوبِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حِكْمَةِ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ فِي الصَّلَاةِ ((وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ)) وَحِكْمَةُ هَذَا أَنْ يَكُونُوا مُسْتَعِدِّينَ لِتَبْلِيغِهِمَا إِيَّاهُمْ مَا يُهِمُّهُمْ وَيَعْنِيهِمْ مِمَّا بُعِثَا لِأَجْلِهِ، وَهُوَ إِنْجَاؤُهُمْ مِنْ عَذَابِ فِرْعَوْنَ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ بِلَادِهِ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْجِهَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِاسْتِقْبَالِهَا وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ وَهِيَ لَا تُعْلَمُ إِلَّا بِنَصٍّ: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) بِحِفْظِ اللهِ إِيَّاهُمْ مِنْ فِتْنَةِ فِرْعَوْنَ وَمِلْئِهِ الظَّالِمِينَ لَهُمْ وَتَنْجِيَتِهِمْ مِنْ ظُلْمِهِمْ. خَصَّ اللهُ مُوسَى بِهَذَا الْأَمْرِ (التَّبْشِيرِ) لِأَنَّهُ مِنْ أَمْرِ الْوَحْيِ وَالتَّبْلِيغِ الْمَنُوطِ بِهِ، وَأَشْرَكَ هَارُونَ مَعَهُ فِي الْأَمْرِ الَّذِي قَبْلَهُ لِأَنَّهُ تَدْبِيرٌ عَمَلِيٌّ هُوَ وَزِيرُهُ الْمُسَاعِدُ لَهُ عَلَى تَنْفِيذِهِ.
(وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ).
هَاتَانِ الْآيَتَانِ هُمَا الرَّابِطَتَانِ بَيْنَ سِيرَةِ مُوسَى وَهَارُونَ مَعَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ فِي مِصْرَ، وَبَيْنَ مَا انْتَهَتْ إِلَيْهِ مِنْ نَصْرِ اللهِ لَهُ عَلَيْهِ وَإِنْجَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ ظُلْمِهِ. وَإِهْلَاكِهِ عِقَابًا لَهُ كَمَا وَقَعَ لِنُوحٍ مَعَ قَوْمِهِ.
(وَقَالَ مُوسَى) بَعْدَ أَنْ أَعَدَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِلْخُرُوجِ مِنْ مِصْرَ إِعْدَادًا دِينِيًّا دُنْيَوِيًّا، مُتَوَجِّهًا إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي إِتْمَامِ الْأَمْرِ، بَعْدَ قِيَامِهِ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ هُوَ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ مِنَ الْأَسْبَابِ: (رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أَيْ إِنَّكَ أَعْطَيْتَ فِرْعَوْنَ وَأَشْرَافَ قَوْمِهِ وَكُبَرَاءَهُمْ دُونَ دُهَمَائِهِمْ - مِنَ الصُّنَّاعِ وَالزُّرَّاعِ وَالْجُنْدِ وَالْخَدَمِ - زِينَةً مِنَ الْحُلِيِّ وَالْحُلَلِ وَالْآنِيَةِ وَالْمَاعُونِ وَالْأَثَاثِ وَالرِّيَاشِ، وَأَمْوَالًا كَثِيرَةَ الْأَنْوَاعِ وَالْمَقَادِيرِ، يَتَمَتَّعُونَ بِهَا وَيُنْفِقُونَ مِنْهَا فِي حُظُوظِ الدُّنْيَا مِنَ الْعَظَمَةِ الْبَاطِلَةِ وَالشَّهَوَاتِ الْبَدَنِيَّةِ بِدُونِ حِسَابٍ (رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) أَيْ لِتَكُونَ عَاقِبَةُ هَذَا الْعَطَاءِ إِضْلَالَ عِبَادِكَ عَنْ سَبِيلِكَ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى مَرْضَاتِكَ بِاتِّبَاعِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، ذَلِكَ بِأَنَّ الزِّينَةَ سَبَبُ الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَالطُّغْيَانِ عَلَى النَّاسِ، وَكَثْرَةَ الْأَمْوَالِ تُمَكِّنُهُمْ مِنْ ذَلِكَ وَتُخْضِعُ رِقَابَ النَّاسِ لَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) (٩٦: ٦، ٧) وَذَلِكَ دَأْبُ فَرَاعِنَةِ مِصْرَ، بِهِ تَشْهَدُ آثَارُهُمْ وَرِكَازُهُمُ الَّتِي لَا تَزَالُ تُسْتَخْرَجُ
مِنْ بِرَابِيهِمْ وَنَوَاوِيسِ قُبُورِهِمْ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا الَّذِي أَكْتُبُ فِيهِ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَتُحْفَظُ فِي دَارِ الْآثَارِ الْمِصْرِيَّةِ، وَيُوجَدُ مِثْلُهَا دُورٌ أُخْرَى فِي عَوَاصِمِ بِلَادِ الْإِفْرِنْجِ مَلْأَى بِأَمْثَالِهَا، فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: (لِيُضِلُّوا) تُسَمَّى لَامَ الْعَاقِبَةِ وَالصَّيْرُورَةِ وَهِي الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا أَثَرٌ وَغَايَةٌ فِعْلِيَّةٌ لِمُتَعَلِّقِهَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ لَا بِالسَّبَبِيَّةِ وَلَا بِقَصْدِ فَاعِلِ الْفِعْلِ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) (٢٨: ٨) وَيُمَيَّزُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ لَامِ كَيِ الدَّالَّةِ عَلَى عِلَّةِ الْفِعْلِ بِالْقَرِينَةِ، وَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ هُنَا مِنْهَا وَحَمَلُوهَا عَلَى الِاسْتِدْرَاجِ، أَيْ آتَيْتَهُمْ ذَلِكَ لِكَيْ يُضِلُّوا النَّاسَ فَيَسْتَحِقُّوا الْعِقَابَ وَقَدْ يُعَزِّزُهُ قَوْلُهُ: (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ) يُقَالُ: طَمَسَ الْأَثَرُ وَطَمَسَتْهُ الرِّيحُ إِذَا زَالَ حَتَّى لَا يُرَى أَوْ لَا يُعْرَفَ (وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) (٣٦: ٦٦) وَهُوَ يَصْدُقُ بِالْعَمَى وَبِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهَا كَمَا سَبَقَ قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ) (٤٣) وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَمَى هُنَا عَمَى الْبَصِيرَةِ لَا الْبَصَرِ وَالْمَعْنَى هُنَا: رَبَّنَا امْحَقْ أَمْوَالَهَمْ بِالْآفَاتِ الَّتِي تُصِيبُ حَرْثَهُمْ وَأَنْعَامَهُمْ وَتُنْقِصُ مَكَاسِبَهُمْ وَثَمَرَاتِهِمْ وَغَلَّاتِهِمْ فَيَذُوقُوا ذُلَّ الْحَاجَةِ (وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ) أَيِ اطْبَعْ عَلَيْهَا، وَزِدْهَا قَسَاوَةً وَإِصْرَارًا
386
وَعِنَادًا، حَتَّى يَسْتَحِقُّوا تَعْجِيلَ عِقَابِكَ فَتُعَاقِبَهُمْ (فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) هَذَا جَوَابٌ لِلدُّعَاءِ أَوْ دُعَاءٌ آخَرُ بِلَفْظِ النَّهْيِ مُتَمِّمٌ لَهُ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مُوسَى دَعَا بِهَذَا الدُّعَاءِ وَأَمَّنَ هَارُونُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ كَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ، فَاسْتَجَابَ اللهُ تَعَالَى لَهُمَا بِقَوْلِهِ:
(قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا) أَيْ قُبِلَتْ، وَإِذَا قُبِلَتْ نُفِّذَتْ (فَاسْتَقِيمَا) عَلَى مَا أَنْتُمَا عَلَيْهِ مِنْ دَعْوَةِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِلَى الْحَقِّ، وَمِنْ إِعْدَادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِلْخُرُوجِ مِنْ مِصْرَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَامْضِيَا لِأَمْرِي وَهُوَ الِاسْتِقَامَةُ (وَلَا تَتَّبِعَانِّ
سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) أَيْ وَلَا تَسْلُكَانِ طَرِيقَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ سُنَّتِي فِي خَلْقِي وَإِنْجَازِ وَعْدِي لِرُسُلِي، فَتَسْتَعْجِلَا الْأَمْرَ قَبْلَ أَوَانِهِ، وَتَسْتَبْطِئَا وُقُوعَهُ فِي إِبَّانِهِ.
هَذَا - وَإِنَّ فِي قِصَّةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ مَا يُفَسِّرُ اسْتِجَابَةَ هَذَا الدُّعَاءِ، بِمَا يُوَافِقُ مَا قُلْنَاهُ هُنَا مِنْ إِرْسَالِ اللهِ النَّوَازِلَ عَلَى مِصْرَ وَأَهْلِهَا، وَلُجُوءِ فِرْعَوْنَ وَآلِهِ إِلَى مُوسَى عِنْدَ كُلِّ نَازِلَةٍ مِنْهَا لِيَدْعُوَ رَبَّهُ فَيَكْشِفَهَا عَنْهُمْ فَيُؤْمِنُوا بِهِ، حَتَّى إِذَا مَا كَشَفَهَا قَسَّى الرَّبُّ قَلْبَ فِرْعَوْنَ فَأَصَرَّ عَلَى كُفْرِهِ، وَقَدْ فَصَّلْنَا هَذَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ). إِلَى قَوْلِهِ: (وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) (٧: ١٣٣: ١٣٦) مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، وَمِنْهُ تَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا خَالَفَهَا مِنْ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ فِي مَعْنَى الطَّمْسِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ فَهُوَ مِنْ أَبَاطِيلِ الرِّوَايَاتِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ، الَّتِي كَانَ مِنْ مَقَاصِدِ كَعْبِ الْأَحْبَارِ)) وَأَمْثَالِهِ مِنْهَا (كَمَا نَرَى) صَدَّ الْيَهُودِ عَنِ الْإِسْلَامِ، بِمَا يَرَوْنَهُ فِي تَفْسِيرِ الْمُسْلِمِينَ لِلْقُرْآنِ مُخَالِفًا لِمَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُؤَرِّخِينَ فِي وَقَائِعَ عَمَلِيَّةٍ وَأُمُورٍ حِسِّيَّةٍ.
(وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكِ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ).
387
هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ فِي بَيَانِ الْعِبْرَةِ بِآخِرِ الْقِصَّةِ، وَمَا كَانَ مِنْ عَاقِبَةِ تَأْيِيدِ اللهِ لِمُوسَى وَأَخِيهِ الضَّعِيفَيْنِ بِأَنْفُسِهِمَا، عَلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ أَعْظَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ قُوَّةً وَدَوْلَةً.
(وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ) يُقَالُ: جَازَ الْمَكَانَ وَجَاوَزَهُ وَتَجَاوَزَهُ إِذَا ذَهَبَ فِيهِ وَقَطَعَهُ حَتَّى خَلَّفَهُ وَرَاءَهُ. وَأَصْلُهُ مِنْ جَوْزِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ وَهُوَ وَسَطُهُ، وَتَسْمِيَةُ الْجَوْزَاءِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ تَعَرُّضِهَا فِي جَوْزِ السَّمَاءِ أَيْ وَسَطِهَا، وَمُجَاوَزَةُ اللهِ الْبَحْرَ بِهِمْ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ جَاوَزُوهُ بِمَعُونَتِهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَحِفْظِهِ، إِذْ كَانَ آيَةً مِنْ آيَاتِهِ لِنَبِيِّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِفَرْقِهِ تَعَالَى بِهِمُ الْبَحْرَ وَانْفِلَاقِهِ لَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالْأَعْرَافِ: (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا) أَيْ لَحِقَهُمْ فَأَدْرَكَهُمْ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا عَلَيْهِمْ لِيَفْتِكَ بِهِمْ، أَوْ يُعِيدَهُمْ إِلَى مِصْرَ حَيْثُ يَتَعَبَّدُهُمْ وَيَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) أَيْ فَخَاضَ الْبَحْرَ وَرَاءَهُمْ حَتَّى إِذَا وَصَلَ إِلَى حَدِّ الْغَرَقِ: (قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ) أَيْ قَالَ قَبْلَ أَنْ يَغْرَقَ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَحْرَ لَمْ يُطْبِقْ عَلَيْهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً: آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ بِالْحَقِّ إِلَّا الرَّبُّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ جَمَاعَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِدَعْوَةِ مُوسَى: (وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أَيْ وَأَنَا فَرْدٌ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُذْعِنِينَ لَهُ الْمُنْقَادِينَ لِأَمْرِهِ، وَبَعْدَ مَا كَانَ مِنْ كُفْرِ الْجُحُودِ بِآيَاتِهِ وَالْعِنَادِ لِرَسُولِهِ. يَعْنِي أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ، وَالْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ الْإِذْعَانُ وَالْخُضُوعُ بِالْفِعْلِ، بِدُونِ امْتِيَازٍ لِعَظَمَةِ الْمُلْكِ، وَكَانَ مِنْ قَبْلُ جَاحِدًا، أَيْ مُصَدِّقًا غَيْرَ مُذْعِنٍ وَلَا خَاضِعٍ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِ وَفِي آلِهِ: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (٢٧: ١٤) يَعْنِي آيَاتِ مُوسَى. وَهَذِهِ هِي الْعَاقِبَةُ، وَقَدْ أُجِيبَ فِيهَا فِرْعَوْنُ عَنْ دَعْوَاهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى الَّذِي يَعْرِفُ بِلِسَانِ الْحَالِ أَوْ بِقَوْلِ جِبْرِيلَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) :
(آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) أَيْ أَتُسْلِمُ الْآنَ أَوْ تَدَّعِي الْإِسْلَامَ وَإِذْعَانَ الطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ، حَيْثُ لَا مَحَلَّ لَهُ وَلَا إِمْكَانَ، بِمَا حَالَ دُونَهُ مِنَ الْهَلَاكِ، وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلَهُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ الظَّالِمِينَ لِلْعِبَادِ، وَالْمُرَادُ: أَنَّ دَعْوَى الْإِسْلَامِ الْآنَ بَاطِلَةٌ، وَالْإِيمَانَ بِدُونِ الْإِسْلَامِ مَعَ إِمْكَانِهِ لَا يُقْبَلُ،
فَكَيْفَ يُقْبَلُ وَقَدْ صَارَ اضْطِرَارًا لَا مَعْنَى لِقَبُولِهِ ; لِأَنَّهُ انْفِعَالٌ لَا فِعْلٌ لِصَاحِبِهِ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ إِسْلَامَهُ كَانَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
أَتَتْ وَحِيَاضُ الْمَوْتِ بَيْنِي وَبَيْنَهَا وَجَادَتْ بِوَصْلٍ حِينَ لَا يَنْفَعُ الْوَصْلُ
وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُكَذِّبِينَ بِوَعْدِ اللهِ تَعَالَى وَوَعِيدِهِ بِمَا كَانَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى اسْتِعْجَالِ عَذَابِهِ: (أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) (٥١) وَسَيَأْتِي بَعْدَ بِضْعِ آيَاتٍ مِنْهَا أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَنْفَعُ عِنْدَ وُقُوعِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ الَّذِي هُوَ نِهَايَةُ أَجَلِ الْقَوْمِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ عِنْدَ مَوْتِ الشَّخْصِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) (٤: ١٨) وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ إِنَّمَا تَنْفَعُ بِالرُّجُوعِ إِلَى الطَّاعَةِ. عَلَى أَنَّ الْيَائِسَ مِنَ الشَّيْءِ بِالْفِعْلِ، لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي ادِّعَائِهِ إِيَّاهُ أَوْ طَلَبِهِ لَهُ بِالْقَوْلِ، وَلَعَلَّ فِرْعَوْنَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ حِينَئِذٍ أَنَّهُ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ مُوَطِّنٌ نَفْسَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ إِنْ نَجَّاهُ اللهُ تَعَالَى، وَأَنَّهُ كَانَ يَرْجُو بِهَذَا أَنْ يُنَجِّيَهُ اللهُ تَعَالَى كَمَا نَجَّاهُ وَقَوْمَهُ مِنْ كُلِّ نَازِلَةٍ مِنْ عَذَابِ اللهِ حَلَّتْ بِهِ وَبِقَوْمِهِ، إِذْ كَانَ يَقُولُ لِمُوسَى: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) (٧: ١٣٤) وَلَكِنَّ تِلْكَ النَّوَازِلَ إِنَّمَا كَانَتْ لِأَجْلِ إِرْسَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَ مُوسَى فَهِيَ غَايَتُهَا، وَلَمْ تَكُنْ عِقَابًا عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَى كُفْرِ الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ، الَّذِي هُوَ شَرُّ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَأَدَلُّهَا عَلَى خُبْثِ طَوِيَّةِ صَاحِبِهِ، كَهَذَا الْعِقَابِ الْأَخِيرِ بَعْدَ نَجَاةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْهُ رَغْمَ أَنْفِهِ.
(فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) قَالَ أَبُو جَعْفَرِ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِفِرْعَوْنَ: فَالْيَوْمَ نَجْعَلُكَ عَلَى نَجْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ بِبَدَنِكَ، يَنْظُرُ إِلَيْكَ مَنْ كَذَّبَ بِهَلَاكِكَ) لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) يَقُولُ: لِتَكُونَ لِمَنْ بَعْدَكَ مِنَ النَّاسِ عِبْرَةً يَعْتَبِرُونَ بِكَ فَيَنْزَجِرُونَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ وَالْكُفْرِ بِهِ، وَالسَّعْيِ فِي أَرْضِهِ بِالْفَسَادِ. وَالنَّجْوَةُ: الْمَوْضِعُ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ وَمِنْهُ قَوْلُ أَوْسِ بْنِ حَجَرٍ:
فَمَنْ بِعَقْوَتِهِ كَمَنَ بِنَجْوَتِهِ وَالْمَسَّتِكُنُّ كَمَنْ يَمْشِي بِقِرْوَاحِ
ثُمَّ ذَكَرَ رُوَاتِهِ عَمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ. وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: سُمِّيَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ نَجْوَةً وَنَجَاةً وَزَادَ بَعْضُهُمْ: مَنْجًى - لِأَنَّ مَنْ عَلَيْهِ يَنْجُو مِنَ السَّيْلِ، وَإِنَّمَا دَفَعَهُ وَدَفَعَهُمْ إِلَى تَفْسِيرِ الْآيَةِ بِهَذَا الْوَجْهِ مِنَ اللُّغَةِ أَنَّ إِنْجَاءَ الْإِنْسَانِ مِنَ الْغَرَقِ إِنَّمَا يَكُونُ بِخُرُوجِهِ حَيًّا بِبَدَنِهِ وَنَفْسِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي إِنْجَاءِ نُوحٍ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ، وَكُلُّ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْقُرْآنِ بِمَعْنَى النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ كَإِنْجَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ فِرْعَوْنَ وَآلِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ التَّعْبِيرَ بِالتَّنْجِيَةِ تَهَكُّمٌ بِهِ، وَإِنَّ الْحِكْمَةَ بِذِكْرِ الْبَدَنِ أَنَّهُ يُخْرِجُ جَسَدَهُ سَالِمًا لِيُعْرَفَ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْبَدَنِ الدِّرْعُ فَهُوَ مِنْ أَسْمَائِهَا فِي اللُّغَةِ، وَإِنَّمَا مَحَلُّ الْعِبْرَةِ أَنْ يَلْفِظَهُ الْبَحْرُ بِبَدَنِهِ لِيُعْرَفَ فَيَعْتَبِرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ قِيلَ إِنَّهُمْ شَكُّوا فِي غَرَقِهِ، وَيَعْتَبِرَ الْقِبْطُ الَّذِينَ عَبَدُوهُ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ دِرْعَهُ كَانَتْ مَعْرُوفَةً وَإِنَّهَا مِنَ الْمُذَّهَبِ، أَوْ كَانَ لَهُ فَوْقَ دِرْعِ الزَّرَدِ دِرْعٌ أُخْرَى مِنَ الذَّهَبِ، وَلَكِنَّ الدُّرُوعَ تَقْتَضِي رُسُوبَ الْغَرِيقِ فِي الْبَحْرِ إِلَّا أَنْ يَجْرُفَهُ الْمَوْجُ. وَأَمَّا الْعِبْرَةُ لِمَنْ بَعْدَهُ فَهِيَ أَعَمُّ: هِيَ مَا سِيقَتِ الْقِصَّةُ لِأَجْلِهِ مِنْ كَوْنِهَا شَاهِدًا كَالَّتِي قَبْلَهَا عَلَى صِدْقِ وَعْدِ اللهِ لِرُسُلِهِ وَوَعِيدِهِ لِأَعْدَائِهِمْ، كَطُغَاةِ مَكَّةَ الَّتِي أُنْزِلَتْ
389
هَذِهِ الْآيَاتُ بَلْ هَذِهِ السُّورَةُ كُلُّهَا لِإِقَامَةِ حُجَجِ اللهِ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ غَيْرِهِمْ ; لِأَنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) تَعْرِيضٌ بِهِمْ وَأَكَّدَهُ هَذَا التَّأْكِيدَ لِمَا تَقْتَضِيهِ شِدَّةُ الْغَفْلَةِ مِنْ قُوَّةِ التَّنْبِيهِ، أَيْ إِنَّهُمْ لَشَدِيدُو الْغَفْلَةِ عَنْهَا عَلَى شِدَّةِ ظُهُورِهَا فَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِي أَسْبَابِهَا وَنَتَائِجِهَا وَحِكَمِ اللهِ فِيهَا، وَلَا يَعْتَبِرُونَ بِهَا، وَإِنَّمَا يَمُرُّونَ عَلَيْهَا مُعْرِضِينَ كَمَا يَمُرُّونَ عَلَى مَسَارِحِ الْأَنْعَامِ، وَفِيهِ ذَمٌّ لِلْغَفْلَةِ، وَعَدَمِ التَّفَكُّرِ فِي أَسْبَابِ الْحَوَادِثِ وَعَوَاقِبِهَا وَاسْتِبَانَةِ سُنَنِ اللهِ فِيهَا، لِلِاعْتِبَارِ وَالِاتِّعَاظِ بِهَا. وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْقُرْآنِ مِنْهُمْ، كَلَّا إِنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى الْغَافِلِينَ بَرِيءٌ مِنْهُمْ.
(وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنْ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).
هَذِهِ الْآيَةُ خَاتِمَةُ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَمُنْتَهَى الْعِبْرَةِ فِيهَا لِمُكَذِّبِي مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْجَاحِدِينَ مِنْ قَوْمِهِ الْمَغْرُورِينَ بِقُوَّتِهِمْ وَكَثْرَتِهِمْ وَثَرْوَتِهِمْ، فِي مُوسَى وَالْجَاحِدِينَ لِآيَاتِهِ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَقَدْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ عَدَدًا وَأَشَدَّ قُوَّةً، وَأَعْظَمَ زِينَةً وَأَوْفَرَ ثَرْوَةً، وَسُنَّةُ اللهِ فِي مُوسَى وَمَنْ قَبْلَهُ وَاحِدَةٌ، وَقِصَّتُهُ كَقِصَّةِ نُوحٍ فِي الْعَاقِبَةِ وَأَمَّا نَصْرُ اللهِ لِمُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ وَإِنْجَازُ وَعْدِهِ لَهُ، قَدْ جَرَى عَلَى وَجْهٍ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ فِي غَايَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَرِيبًا فِي صُورَتِهِ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَهْلَكَ أَكْثَرَ زُعَمَاءِ أَعْدَائِهِ الْمُشْرِكِينَ، وَأَخْضَعَ لَهُ الْآخَرِينَ، وَجَعَلَ الْعَاقِبَةَ لِأَتْبَاعِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَعْطَاهُمْ أَعْظَمَ مُلْكٍ فِي الْعَالَمِينَ، وَمِنْهُ مَا كَانَ أُعْطِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَهُوَ فِلَسْطِينُ. قَالَ: (وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) قُلْنَا آنِفًا: إِنَّ الْمُبَوَّأَ مَكَانُ الْإِقَامَةِ الْأَمِينُ. وَأُضِيفَ إِلَى الصِّدْقِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى صِدْقِ وَعْدِ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ بِهِ وَهُوَ مَنْزِلُهُمْ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ الْجَنُوبِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ بِفِلَسْطِينَ (وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ) فِيهِ، وَهِي الَّتِي أُشِيرَ إِلَيْهَا فِي وَصْفِ أَرْضِهَا مِنْ كُتُبِهِمْ بِأَنَّهَا تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلًا، وَمَا فِيهَا مِنَ الْغَلَّاتِ وَالثَّمَرَاتِ وَالْأَنْعَامِ، وَكَذَا صَيْدُ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ مَا كَانَ مِنْ وَعْدِ اللهِ لَهُمْ بِهَذِهِ الْأَرْضِ الْمُبَارَكَةِ عَلَى لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، وَمِنْ أَيْلُولَةِ هَذِهِ الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الْعَرَبِ، بَعْدَ حِرْمَانِ الْيَهُودِ مِنْهُ تَصْدِيقًا لِوَعِيدِ أَنْبِيَائِهِمْ لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِنِعَمِ اللهِ تَعَالَى أَوَّلًا ثُمَّ بِكُفْرِهِمْ بِعِيسَى، ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ
390
النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي وَعَدَهُمْ بِهِ عَلَى لِسَانِهِ وَلِسَانِ مَنْ قَبْلَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَأُشِيرُ إِلَيْهِ هُنَا بِقَوْلِهِ: (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ)
عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ هَنَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ رِسَالَتُهُ أَوِ الْقُرْآنُ الَّذِي هُوَ أَكْمَلُ وَأَتَمُّ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ عِلْمِ الدِّينِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سِيَاقِ الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ: (لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) (٤: ١٦٦) وَقَوْلِهِ: (فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) (١١: ١٤) وَقَوْلِهِ: (بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ) (٧: ٥٢) فَقَدْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى بِشَارَةِ أَنْبِيَائِهِمْ بِهِ قَبْلَ بِعْثَتِهِ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ.
وَقَالَ آخَرُونَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ: إِنَّ الْمُرَادَ هَنَا عِلْمُ الدِّينِ مُطْلَقًا، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ كَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ أُوتُوا الْكُتُبَ مِنْ وُجُوهٍ فَصَّلْنَاهَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْعَامَّةِ فِي الِاخْتِلَافِ وَهِيَ (٢: ٢١٣) وَفِي الْآيَةِ ١٩ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَمَا هِيَ بِبَعِيدٍ (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) إِذْ جَعَلُوا الدَّوَاءَ عَيْنَ الدَّاءِ فِي أَمْرِ الدِّينِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابُ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فَاخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ بَغْيًا بَيْنَهُمْ.
(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونُنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَلَا تَكُونُنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ).
هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ فَذْلَكَةُ هَذَا السِّيَاقِ الَّذِي كَانَ ذِكْرُ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ شَوَاهِدَ فِيهِ، وَهِيَ تَقْرِيرُ صِدْقِ الْقُرْآنِ فِي دَعْوَتِهِ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَكَوْنِهِ لَا مَجَالَ لِلِامْتِرَاءِ فِيهِ، وَبَيَانِ الدَّاعِيَةِ النَّفْسِيَّةِ لِلْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتِهِ، وَتَوْجِيهِ الِاعْتِبَارِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ مَقْرُونًا بِالْإِنْذَارِ، بِأُسْلُوبِ التَّعْرِيضِ وَالتَّلَطُّفِ فِي الْعِبَارَةِ، عَلَى حَدِّ: إِيَّاكَ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَةُ: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ) أَيْ فَإِنْ كُنْتَ أَيُّهَا الرَّسُولُ فِي
شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا فِي هَذِهِ الشَّوَاهِدِ مِنْ قِصَّةِ مُوسَى وَنُوحٍ وَغَيْرِهِمَا عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ، الَّذِي ذُكِرَ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي تَقْدِيرِ الشَّكِّ فِي الشَّيْءِ
لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ مَا يَنْفِي احْتِمَالَ وُقُوعِهِ أَوْ ثُبُوتِهِ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا أَوْ خَبَرًا، كَقَوْلِ أَحَدِهِمْ لِابْنِهِ: إِنْ كُنْتَ ابْنِي فَكُنْ شُجَاعًا أَوْ فَلَا تَكُنْ بَخِيلًا، أَوْ فَإِنَّكَ سَتَكُونُ أَوْ سَتَفْعَلُ كَذَا - بَلْ يَفْرِضُونَ سُؤَالَ الدِّيَارِ وَالْأَطْلَالِ أَيْضًا مِنْهُ قَوْلُ الْمَسِيحِ فِي جَوَابِ سُؤَالِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) (٥: ١١٦) وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ مَحِلُّ الشَّاهِدِ، فَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ يَفْرِضُهُ لِيَسْتَدِلَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَوْ قَالَهُ لَعَلِمَهُ اللهُ مِنْهُ.
وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَجْرِي عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ فَيُشَكِّكُ تِلْمِيذَهُ أَوْ مُنَاظِرَهُ فِيمَا لَا شَكَّ فِيهِ عِنْدَهُمَا لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ حُكْمًا آخَرَ. وَيَجِبُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الشَّرْطِ بِـ ((إِنِ)) الَّتِي وُضِعَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِهِ أَوْ تَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ مَا لَا يَقَعُ، دُونَ ((إِذَا)) الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي فِعْلِ شَرْطِهَا الْوُقُوعُ (فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) هَذَا جَوَابُ الشَّرْطِ الْمُقَدَّرِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَشُكَّ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَسْأَلْ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَاهُ فَهْمًا لُغَوِيًّا، وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ خَبَرًا قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ((لَا أَشُكُّ وَلَا أَسْأَلُ)) وَلَمْ يُسَمِّ الصَّحَابِيَّ الَّذِي ذَكَرَهُ فَهُوَ مُرْسَلٌ، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ جِنْسُهُ، أَيْ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ كُتُبَ الْأَنْبِيَاءِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَإِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَا أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مِنَ الشَّوَاهِدِ حَقٌّ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِنْكَارَهُ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْمُرَادَ سُؤَالُ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ، وَتَمِيمٍ الدَّارِيِّ مِنْ عُلَمَاءِ النَّصَارَى وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَالْآيَةُ بَلِ السُّورَةُ نَزَلَتْ فِي مَكَّةَ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ. وَمِمَّا يُؤَكِّدُ كَوْنَ السُّؤَالِ مَفْرُوضًا فَرْضًا قَوْلُهُ: (لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ الْمُؤَكَّدَةُ بِالْقَسَمِ مِنْ رَبِّهِ، تَجْتَثُّ احْتِمَالَ إِرَادَةِ الشَّكِّ وَالسُّؤَالِ بِالْفِعْلِ مِنْ أَصْلِهِ، وَيَزِيدُهَا تَأْكِيدًا قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أَيْ مِنْ فَرِيقِ
الشَّاكِّينَ الَّذِينَ يَحْتَاجُونَ إِلَى السُّؤَالِ، وَهَذَا النَّهْيُ وَالَّذِي بَعْدَهُ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ فَرْضَ وُقُوعِ الشَّكِّ وَالسُّؤَالِ فِيمَا قَبْلَهُمَا عَنْهُ تَعْرِيضٌ بِالشَّاكِّينَ الْمُمْتَرِينَ وَالْمُكَذِّبِينَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَوْمِهِ.
(وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) يَعْنِي أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ فَهُوَ مِنَ الْخَاسِرِينَ، الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْحِرْمَانِ مِنَ الْإِيمَانِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، (ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)، وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَرَحْمَتُهُ لِلْعَالِمِينَ، وَأَنَّ الْمُمْتَرِينَ الشَّاكِّينَ فِيمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ كَالْمُكَذِّبِينَ بِآيَاتٍ بِهَا، وَمَا لَهُ مِنْ رِبْحِ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِلْمُؤْتَمَرِ الْمُنْتَهِي وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْرِيضِ أَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٣٤: ٢٤، ٢٥)
وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا مُوقِعٌ وَتَأْثِيرٌ خَاصٌّ فِي اسْتِمَالَةِ الْكَافِرِينَ إِلَى التَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ فِي مَضْمُونِ الدَّعْوَةِ.
(إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ) أَيْ إِنَّ الَّذِينَ ثَبَتَتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ مِنْ رَبِّكَ وَهِيَ كَلِمَةُ التَّكْوِينِ الدَّالَّةُ عَلَى سُنَّتِهِ فِيمَنْ فَقَدُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلِاهْتِدَاءِ، (لَا يُؤْمِنُونَ) لِرُسُوخِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، وَإِحَاطَةِ خَطَايَاهُمْ وَجَهَالَاتِهِمْ بِهِمْ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ آيَاتِ الْإِيمَانِ، هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (لَا يُؤْمِنُونَ) لَا أَنَّهُ تَعَالَى مَنَعَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ مَنْعًا خَلْقِيًّا قَهْرِيًّا لَا كَسْبَ لَهُمْ فِيهِ وَلَا اخْتِيَارَ. وَهَذَا بِمَعْنَى الْآيَةِ ٣٣ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا.
(وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ كَآيَاتِ مُوسَى الَّتِي اقْتَرَحُوهَا عَلَيْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، وَالْآيَاتُ الْمُنَزَّلَةُ كَآيَاتِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعِلْمِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الدَّالَّةِ بِإِعْجَازِهَا عَلَى كَوْنِهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَعَلَى حَقِّيَّةِ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ وَتُنْذِرُهُمْ إِيَّاهُ (حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) بِأَعْيُنِهِمْ، وَيَذُوقُوهُ بِوُقُوعِهِ بِهِمْ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ إِيمَانُهُمُ اضْطِرَارِيًّا لَا يُعَدُّ فِعْلًا مِنْ أَفْعَالِهِمْ،
وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ عَمَلٌ يُطَهِّرُهُمْ وَيُزَكِّي أَنْفُسَهُمْ، بَلْ يُقَالُ لَهُمْ: (آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) (٥١) كَمَا قِيلَ لِفِرْعَوْنَ: (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (٩١).
(فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةً آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ).
هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ تَفْرِيعٌ عَلَى اللَّوَاتِي قَبْلَهُنَّ، وَتَكْمِيلٌ لَهُنَّ فِي بَيَانِ سُنَّةِ اللهِ فِي الْأُمَمِ مَعَ رُسُلِهِمْ وَفِي خَلْقِ الْبَشَرِ مُسْتَعِدِّينَ لِلْأُمُورِ الْمُتَضَادَّةِ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَفِي تَعَلُّقِ مَشِيئَةِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ بِأَفْعَالِهِ وَأَفْعَالِ عِبَادِهِ وَوُقُوعِهَا عَلَى وَفْقِهِمَا.
(فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا) لَوْلَا هَذِهِ لِلتَّخْصِيصِ كَمَا قَالَ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ،
وَالْمُرَادُ بِالْقَرْيَةِ أَهْلُهَا وَهُمْ أَقْوَامُ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ بُعِثُوا فِي أَهْلِ الْحَضَارَةِ وَالْعُمْرَانِ دُونَ الْبَادِيَةِ، أَيْ فَهَلَّا كَانَ أَهْلُ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَقْوَامِ أُولَئِكَ الرُّسُلِ آمَنَتْ بِدَعْوَتِهِمْ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، (فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا) قَبْلَ وُقُوعِ الْعَذَابِ الَّذِي أُنْذِرُوا بِهِ، أَيْ أَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ قَوْمٌ مِنْهُمْ بَرُمَّتِهِمْ فَإِنَّ التَّخْصِيصَ يَسْتَلْزِمُ الْجَحْدَ (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا) قَبْلَ وُقُوعِ الْعَذَابِ بِهِمْ بِالْفِعْلِ، وَكَانُوا عَلِمُوا بِقُرْبِهِ مِنْ خُرُوجِ نَبِيِّهِمْ مِنْ بَيْنِهِمْ وَرُوِيَ أَنَّهُمْ رَأَوْا عَلَامَاتِهِ، وَيَجُوزُ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ الِاتِّصَالُ وَالِانْفِصَالُ (كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أَيْ صَرَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ نَبِيَّهُمْ خَرَجَ بِدُونِ إِذْنِ اللهِ تَعَالَى لَهُ، فَلَمْ تَتِمَّ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ وَلَا حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، وَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِذَهَابِهِ مُغَاضِبًا لَهُمْ عَلَى قُرْبِ وُقُوعِ الْعَذَابِ
كَمَا أَنْذَرَهُمْ فَتَابُوا وَآمَنُوا فَكَشَفْنَاهُ عَنْهُمْ (وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) أَيْ وَمَتَّعْنَاهُمْ بِمَنَافِعِهَا إِلَى زَمَنٍ مَعْلُومٍ هُوَ عُمْرُهُمُ الطَّبِيعِيُّ الَّذِي يَعِيشُهُ كُلٌّ مِنْهُمْ بِحَسْبِ سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي اسْتِعْدَادِ بِنْيَتِهِ وَمَعِيشَتِهِ. وَقَدْ فَصَّلْنَا الْكَلَامَ فِي الْأَجَلِ الَّذِي يُسَمَّى الطَّبِيعِيَّ وَغَيْرِهِ فِي تَفْسِيرِ: (ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) (٦: ٢) مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَلَا مَحَلَّ لِلْبَحْثِ عَنْ تَعْذِيبِهِمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا فَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فَإِنَّ شَهَادَةَ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ بِالْإِيمَانِ النَّافِعِ ظَاهِرَةٌ فِي قَبُولِهِ مِنْهُمْ، صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَلَى سَابِقِ كُفْرِهِمْ، وَإِنَّمَا يُجَزَوْنَ بِغَيْرِهِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ بَعْدَ الْإِيمَانِ.
هَذَا الَّذِي فَسَّرْنَا بِهِ الْآيَةَ هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ عِبَارَتِهَا، وَالْمُوَافِقُ لِلسِّيَاقِ وَلِسُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي أَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَهْلِ مَكَّةَ وَإِنْذَارُهُمْ، وَحَضٌّ عَلَى أَنْ يَكُونُوا كَقَوْمِ يُونُسَ الَّذِينَ اسْتَحَقُّوا عَذَابَ الْخِزْيِ بِعِنَادِهِمْ، حَتَّى إِذَا أَنْذَرَهُمْ نَبِيُّهُمْ قُرْبَ وُقُوعِهِ وَخَرَجَ مِنْ بَيْنِهِمُ اعْتَبَرُوا وَآمَنُوا قَبْلَ الْيَأْسِ، وَحُلُولِ الْبَأْسِ وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى مَا ثَبَتَ مِنْ خَبَرِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي تَفْسِيرِ سُورَتَيِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّافَّاتِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ فِي جُمْلَتِهِ لِمَا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ.
(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا) أَيْ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ - أَيُّهَا الرَّسُولُ الْحَرِيصُ عَلَى إِيمَانِ النَّاسِ - أَنْ يُؤْمِنَ أَهْلُ الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا لَا يَشِذُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ لَآمَنُوا، بِأَنْ يُلْجِئَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ إِلْجَاءً، وَيُوجِرَهُ فِي قُلُوبِهِمْ إِيجَارًا، وَلَوْ شَاءَ لَخَلَقَهُمْ مُؤْمِنِينَ طَائِعِينَ كَالْمَلَائِكَةِ لَا اسْتِعْدَادَ فِي فِطْرَتِهِمْ لِغَيْرِ الْإِيمَانِ، وَفِي مَعْنَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا) (٦: ١٠٧) وَقَوْلُهُ: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً) (١١: ١١٨) وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ اللهُ أَلَّا يَخْلُقَ هَذَا النَّوْعَ الْمُسَمَّى بِالْإِنْسَانِ الْمُسْتَعِدِّ بِفِطْرَتِهِ لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، الَّذِي يُرَجِّحُ أَحَدَ الْأُمُورِ الْمُمْكِنَةِ الْمُسْتَطَاعَةِ لَهُ عَلَى مَا يُقَابِلُهُ وَيُخَالِفُهُ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، لَفَعَلَ ذَلِكَ وَلَمَا وُجِدَ الْإِنْسَانُ فِي الْأَرْضِ، وَلَكِنِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ أَنْ يَخْلُقَ هَذَا
النَّوْعَ الْعَجِيبَ
وَيَجْعَلَهُ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي قِصَّةِ آدَمَ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفِي آيَاتٍ أُخْرَى، هَكَذَا خَلَقَ اللهُ الْإِنْسَانَ، مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ: (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أَيْ إِنَّ هَذَا لَيْسَ فِي اسْتِطَاعَتِكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، وَلَا مِنْ وَظَائِفِ الرِّسَالَةِ الَّتِي بُعِثْتَ بِهَا أَنْتَ وَسَائِرُ الرُّسُلِ: (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ) (٤٢: ٤٨) (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) (٥٠: ٤٥) وَهَذِهِ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي أَنَّ الدِّينَ لَا يَكُونُ بِالْإِكْرَاهِ أَيْ لَا يُمْكِنُ لِلْبَشَرِ وَلَا يُسْتَطَاعُ، ثُمَّ نَزَلَ عِنْدَ التَّنْفِيذِ (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (٢: ٢٥٦) أَيْ لَا يَجُوزُ وَلَا يَصِحُّ بِهِ، وَذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِنَا سَبَبَ نُزُولِهَا، وَهُوَ عَزْمُ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْعِ أَوْلَادٍ لَهُمْ كَانُوا تَهَوَّدُوا مِنَ الْجَلَاءِ مَعَ بَنِي النَّضِيرِ مِنَ الْحِجَازِ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنْ يُخَيِّرُوهُمْ وَأَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ إِيمَانَ الْمُكْرَهِ بَاطِلٌ لَا يَصِحُّ، لَكِنَّ نَصَارَى الْإِفْرِنْجِ وَمُقَلِّدِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الشَّرْقِ لَا يَسْتَحُونَ مِنَ افْتِرَاءِ الْكَذِبِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَمِنْهُ رَمْيُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يُكْرِهُونَ النَّاسَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَيُخَيِّرُونَهُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّيْفِ يَقُطُّ رِقَابَهُمْ، عَلَى حَدِّ الْمَثَلِ: ((رَمَتْنِي بِدَائِهَا وَانْسَلَّتْ)).
(وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أَيْ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ وَلَا مِنْ شَأْنِهَا فِيمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ مِنَ اسْتِقْلَالِهَا فِي أَفْعَالِهَا، وَلَا مِمَّا أَعْطَاهَا اللهُ مِنَ الِاخْتِيَارِ فِيمَا هَدَاهَا مِنَ النَّجْدَيْنِ، وَمَا أَلْهَمَهَا مِنْ فُجُورِهَا وَتَقْوَاهَا الْفِطْرِيَّيْنِ، أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِرَادَةِ اللهِ وَمُقْتَضَى سُنَّتِهِ فِي اسْتِطَاعَةِ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْمُتَعَارِضَيْنِ، فَهِيَ مُخْتَارَةٌ فِي دَائِرَةِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، وَلَكِنَّهَا غَيْرُ مُسْتَقِلَّةٍ فِي اخْتِيَارِهِمْ أَتَمَّ الِاسْتِقْلَالِ، بَلْ مُقَيَّدَةٌ بِنِظَامِ السُّنَنِ وَالْأَقْدَارِ، فَالْمَنْفِيُّ هُوَ اسْتِطَاعَةُ الْخُرُوجِ عَنْ هَذَا النِّظَامِ الْعَامِّ، لَا الِاسْتِطَاعَةُ الْخَاصَّةُ الْمُوَافِقَةُ لَهُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (٣: ١٤٥) أَيْ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ الْمُوَافِقَةِ لِحِكْمَتِهِ وَسُنَّتِهِ فِي أَسْبَابِ الْمَوْتِ، فَكَمْ مِنْ إِنْسَانٍ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِلْمَوْتِ شَهِيدًا أَوْ مُنْتَحِرًا بِمَا يَتَرَاءَى لَهُ مِنْ أَسْبَابِهِ، ثُمَّ لَا يَمُوتُ بِهَا لِنَقْصِهَا أَوْ لِمُعَارِضٍ مُنَافٍ فِي نِظَامِ الْقَدَرِ الَّذِي لَا يُحِيطُ بِهِ عِلْمًا إِلَّا اللهُ تَعَالَى، وَمَعْنَى الْإِذْنِ فِي اللُّغَةِ الْإِعْلَامُ بِالرُّخْصَةِ فِي الْأَمْرِ أَيْ تَسْهِيلُهُ وَعَدَمُ الْمَانِعِ مِنْهُ.
(وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) هَذَا عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ دَلَالَةَ الضِّدِّ عَلَى الضِّدِّ أَوِ النَّقِيضِ عَلَى النَّقِيضِ، أَيْ وَإِذْ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ بِإِذْنِهِ وَتَيْسِيرِهِ وَمَشِيئَتِهِ الَّتِي تَجْرِي بِقَدَرِهِ وَسُنَّتِهِ، فَهُوَ يَجْعَلُ الْإِذْنَ وَتَيْسِيرَ الْإِيمَانِ لِلَّذِينِ يَعْقِلُونَ آيَاتِهِ فِي كِتَابِهِ وَفِي خَلْقِهِ، وَيُوَازِنُونَ بَيْنَ الْأُمُورِ فَيَخْتَارُونَ خَيْرَ الْأَعْمَالِ عَلَى شَرِّهَا، وَيُرَجِّحُونَ نَفْعَهَا عَلَى ضُرِّهَا بِإِذْنِهِ وَتَيْسِيرِهِ، (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ) أَيِ الْخِذْلَانَ وَالْخِزْيَ الْمُرَجِّحَ لِلْكُفْرِ وَالْفُجُورِ، (عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) وَلَا يَتَدَبَّرُونَ فَهُمْ لِأَفَنِ رَأْيِهِمْ، وَاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ، يَخْتَارُونَ الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْفُجُورَ عَلَى التَّقْوَى، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَفِي الْكَلَامِ
عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَوَاخِرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ، أَنَّ الرِّجْسَ لَفْظٌ يُعَبِّرُ عَنْ أَقْبَحِ الْخُبْثِ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي هُوَ مَبْعَثُ الشَّرِّ وَالْإِثْمِ.
(قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظَرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظَرِينَ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ).
هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ إِرْشَادٌ لِلْعُقَلَاءِ الَّذِينَ يَفْهَمُونَ مِمَّا قَبْلَهَا أَنَّ سُنَّةَ اللهِ تَعَالَى فِي نَوْعِ الْإِنْسَانِ، أَنْ خَلَقَهُ مُسْتَعِدًّا لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَلَهُ الِاخْتِيَارُ لِنَفْسِهِ، وَأَنَّ الرَّسُولَ الْحَرِيصَ عَلَى إِيمَانِ النَّاسِ لَا يَقْدِرُ عَلَى جَعْلِهِمْ مُؤْمِنِينَ، لِأَنَّ اللهَ الْقَادِرَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَشَأْ أَنْ يَجْعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً عَلَى الْإِيمَانِ وَحْدَهُ وَلَا عَلَى الْكُفْرِ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا جَعَلَ مَدَارَ سَعَادَتِهِمْ عَلَى حُسْنِ اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ بِاخْتِيَارِهِمْ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَمَا الرَّسُولُ إِلَّا بَشِيرٌ
وَنَذِيرٌ يُبَيِّنُ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ لِلْعَقْلِ الْمُسْتَنِيرِ، فَالدِّينُ مُسَاعِدٌ لِلْعَقْلِ عَلَى حُسْنِ الِاخْتِيَارِ إِذَا أَحْسَنَ النَّظَرَ وَالتَّفْكِيرَ، وَاللهُ تَعَالَى يَأْمُرُ بِهِمَا بِمِثْلِ قَوْلِهِ: (
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِقَوْمِكَ الَّذِينَ تَحْرِصُ عَلَى هُدَاهُمْ: انْظُرُوا بِعُيُونِ أَبْصَارِكُمْ وَبَصَائِرِكُمْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ آيَاتِ اللهِ الْبَيِّنَاتِ، وَالنِّظَامِ الدَّقِيقِ وَالْعَجِيبِ فِي شَمْسِهَا وَقَمَرِهَا، وَكَوَاكِبِهَا وَنُجُومِهَا، وَبُرُوجِهَا وَمَنَازِلِهَا، وَلَيْلِهَا وَنَهَارِهَا، وَسَحَابِهَا وَمَطَرِهَا، وَهَوَائِهَا وَمَائِهَا، وَبِحَارِهَا وَأَنْهَارِهَا، وَأَشْجَارِهَا وَثِمَارِهَا، وَأَنْوَاعِ حَيَوَانَاتِهَا الْبَرِّيَّةِ وَالْبَحْرِيَّةِ، فَفِي كُلِّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُبْصِرُونَ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى عِلْمِ خَالِقِهَا وَقُدْرَتِهِ، وَمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَوَحْدَةُ النِّظَامِ فِي جُمْلَتِهَا وَفِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا هُوَ الْآيَةُ الْكُبْرَى عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ، ثُمَّ انْظُرُوا مَاذَا فِي أَنْفُسِكُمْ مِنْهَا، كَمَا قَالَ: (وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (٥١: ٢٠ و٢١) إِنَّهُ يُرِيكُمْ كُلَّ هَذِهِ الْآيَاتِ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) يَجُوزُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ النَّفْيُ وَالِاسْتِفْهَامُ، وَالنُّذُرُ فِيهَا جَمْعُ نَذِيرٍ أَوْ إِنْذَارٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةَ عَلَى ظُهُورِ دَلَالَتِهَا، وَالنُّذُرَ التَّشْرِيعِيَّةَ عَلَى بَلَاغَةِ حُجَّتِهَا، لَا فَائِدَةَ فِيهِمَا وَلَا غِنَى لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ
بِاللهِ عَنِ الْإِيمَانِ الَّذِي يَهْدِيهِمْ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِالْآيَاتِ، وَالِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ أَكْمَلَ الدَّلَالَةِ مِنْ وَحْدَانِيَّةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ، وَمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَالِاعْتِبَارِ بِسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، فَفَائِدَةُ الْإِيمَانِ الْأُولَى تَوْجِيهُ عَقْلِ الْإِنْسَانِ إِلَى حُسْنِ الْقَصْدِ فِي نَظَرِهِ فِي الْآيَاتِ، وَالِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا فِيمَا يُزَكِّي نَفْسَهُ بِالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ، وَيَرْفَعُهَا عَنْ أَرْجَاسِ الْأُمُورِ وَسَفْسَافِهَا، وَبِهَذَا تَفْهَمُ مَعْنَى جَعْلِ الرِّجْسِ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالَّذِينِ لَا يَعْقِلُونَ الْمَجَانِينَ الْفَاقِدِينَ لِغَرِيزَةِ الْعَقْلِ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ الَّذِينَ لَا يَسْتَعْمِلُونَ الْعَقْلَ فِي أَفْضَلِ مَا هُوَ مُسْتَعِدٌّ لَهُ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِاللهِ وَتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ، الَّتِي تَجْعَلُهُمْ أَهْلًا لِإِتْمَامِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ وَكَرَامَتِهِ، بِالْتِزَامِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَإِيثَارِ الْخَيْرِ عَلَى الشَّرِّ.
(فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) أَيْ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ مِنْ سُنَّتِنَا فِي الْخَلْقِ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الرُّسُلِ، فَهَلْ يَنْتَظِرُ هَؤُلَاءِ الْكَافِرُونَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ، أَيْ وَقَائِعَهُمْ مَعَ رُسُلِهِمْ مِمَّا بَلَغَهُمْ مَبْدَؤُهُ وَغَايَتُهُ، أَيْ مَا ثَمَّ شَيْءٌ آخَرُ يُنْتَظَرُ (قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) أَيْ قُلْ لَهُمْ مُنْذِرًا وَمُهَدَّدًا: إِذًا فَانْتَظِرُوا مَا سَيَكُونُ مِنْ عَاقِبَتِكُمْ إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظَرِينَ، عَلَى بَيِّنَةٍ مِمَّا وَعَدَ اللهُ وَصَدَقَ وَعْدَهُ لِلْمُرْسَلِينَ، وَإِنَّ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ سَيَكُونُونَ كَمُعَانَدِيهِمْ مِنَ الْهَالِكِينَ.
(ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا) هَذَا التَّعْبِيرُ مِنْ أَعْجَبِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ فِي الْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ، وَهُوَ ذِكْرُ شَيْءٍ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَمْرٍ عَامٍّ كَسُنَّةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ تُسْتَنْبَطُ مِنْ قِصَّةٍ أَوْ قِصَصٍ وَاقِعَةٍ، ثُمَّ يَأْتِي بِجُمْلَةٍ مَعْطُوفَةٍ لَا يَصِحُّ عَطْفُهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنَ الْجُمَلِ، فَيَتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ وُجُوبُ عَطْفِهَا عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ الْعَامِّ، بِحَرْفِ الْعَطْفِ الْمُنَاسِبِ لِلْمَقَامِ، بِحَيْثُ يُسْتَغْنَى بِهِ عَنْ ذِكْرِهِ، وَتَقْدِيرُهُ هُنَا: تِلْكَ سُنَّتُنَا فِي رُسُلِنَا مَعَ قَوْمِهِمْ: يُبَلِّغُونَهُمُ الدَّعْوَةَ، وَيُقِيمُونَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ، وَيُنْذِرُونَهُمْ سُوءَ عَاقِبَةِ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، فَيُؤْمِنُ بَعْضٌ وَيُصِرُّ الْآخَرُونَ، فَنُهْلِكُ الْمُكَذِّبِينَ، ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِمْ (كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) أَيْ كَذَلِكَ الْإِنْجَاءُ نُنَجِّي الْمُؤْمِنِينَ مَعَكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ، وَنُهْلِكُ الْمُصِرِّينَ عَلَى تَكْذِيبِكَ، وَعْدًا حَقًّا عَلَيْنَا لَا نُخْلِفُهُ (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا) (١٧: ٧٧) وَقَدْ صَدَقَ وَعْدُهُ كَمَا قَالَ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: (نُنَجِّي رُسُلَنَا) بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّنْجِيَةِ إِلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ يَعْقُوبَ بِالتَّخْفِيفِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَيَعْقُوبُ (نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْإِنْجَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّ التَّشْدِيدَ يَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ أَوِ التَّكْرَارِ، وَهُوَ الْأَنْسَبُ فِي الْأُولَى لِكَثْرَةِ الْأَقْوَامِ.
(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مَنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونُنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ وَالْآيَتَانِ اللَّتَانِ بَعْدَهَا خَتْمٌ لِلسُّورَةِ بِالنِّدَاءِ الْعَامِّ، فِي الدَّعْوَةِ إِلَى عَقِيدَةِ الْإِسْلَامِ، أَجْمَلَتْ أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا فِي خَاتِمَتِهَا، كَمَا فَصَّلَتْ فِي جُمْلَتِهَا، قَالَ تَعَالَى: (قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) أَيْ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ صِحَّةِ دِينِيَ الَّذِي دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ، أَوْ مِنْ ثَبَاتِي وَاسْتِقَامَتِي عَلَيْهِ، وَتَرْجُونَ تَحْوِيلِي عَنْهُ (فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أَيْ فَلَا أَعْبُدُ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَلَا حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، أَحَدًا مِنَ الَّذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ غَيْرَ اللهِ، مَنْ مَلَكٍ أَوْ بَشَرٍ ; أَوْ كَوْكَبٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ حَجَرٍ، مِمَّا اتَّخَذْتُمْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ (وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) أَيْ يَقْبِضُكُمْ إِلَيْهِ بِالْمَوْتِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فَيُحَاسِبُكُمْ وَيَجْزِيكُمْ، وَلَا يَفْعَلُ أَحَدٌ غَيْرُهُ هَذَا وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: (إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) وَشَرْطُهُ يَدُلُّ عَلَى الشَّكِّ فِي شَكِّهِمْ وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَشُكُّ فِيهِ، لِأَنَّهُ نَزَلَّ دِينَهُ مَنْزِلَةَ مَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَشُكُّوا فِيهِ لِشِدَّةِ ظُهُورِهِ، وَتَأَلُّقِ نُورِهِ، كَمَا بَيَّنَّا مِثْلَهُ فِي تَفْسِيرِ: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى
عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) (٢: ٢٣) الْآيَةَ وَمَا بَعْدَهَا. وَوَصْفُ اللهِ بِتَوَفِّيهِمْ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، لِتَذْكِيرِ كُلٍّ مِنْهُمْ بِمَا لَا يَشُكُّ فِيهِ مِنْ عَاقِبَةِ أَمْرِهِ، وَأَنَّهُ سَيَكُونُ كَمَا وَعَدَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الَّذِينَ وَعَدَهُمُ اللهُ بِالنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِهِ، وَيَنْصُرُهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ وَأَعْدَائِهِ، وَاسْتِخْلَافِهِمْ فِي أَرْضِهِ، وَإِنَّهُ لَإِيجَازٌ بَلِيغٌ.
(وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا) أَيْ أُمِرْتُ بِأَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبِأَنْ أُقِيمَ وَجْهِيَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ حَالَةَ كَوْنِي حَنِيفًا، أَيْ مَائِلًا عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْبَاطِلِ، وَلَكِنِ اخْتِيرَ هُنَا صِيغَةُ الطَّلَبِ وَفِيمَا قَبْلَهُ الْخَبَرُ؛ ذَلِكَ بِأَنَّ الْخَبَرَ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِعَلَاقَةِ هَذَا الْأَمْرِ بِالْمَاضِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ، الْمَوْعُودِينَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ سُنَّةِ اللهِ فِي النَّبِيِّينَ، وَالطَّلَبُ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِعَلَاقَتِهِ هُوَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنَ النَّهْيِ بِالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، مِنْ دَعْوَةِ هَذَا الدِّينِ الْمُوَجَّهَةِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَسَائِرِ النَّاسِ - وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْإِعْرَابِ كَمَا حَقَّقَهُ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ - وَإِقَامَةُ الْوَجْهِ لِلدِّينِ هُنَا وَفِي سُورَةِ الرُّومِ (٣٠ - ٤٣) عِبَارَةٌ عَنِ التَّوَجُّهِ فِيهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ فِي الدُّعَاءِ وَغَيْرِهِ بِدُونِ الْتِفَاتٍ إِلَى غَيْرِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ تَوَجُّهُ الْقَلْبِ، وَفِي مَعْنَاهُ: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا) (٦: ٧٩) وَمِثْلُهُ إِسْلَامُ الْوَجْهِ لِلَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ (٢: ١١٢) وَآلِ عِمْرَانَ (٣: ٢٠) وَالنِّسَاءِ (٤: ١٢٥) وَإِسْلَامُهُ إِلَى اللهِ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ (٣١: ٢٢) وَكَذَا تَوْجِيهُ الْوَجْهِ الْحِسِّيِّ إِلَى الْقِبْلَةِ فِي آيَاتِهَا وَهُوَ الْأَصْلُ فِي اللُّغَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ وِجْهَةُ الْإِنْسَانِ، فَمَنْ تَوَجَّهَ قَلْبُهُ فِي عِبَادَةٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ (وَلَا سِيَّمَا مُخِّ الْعِبَادَةِ وَرُوحِهَا وَهُوَ الدُّعَاءُ) إِلَى غَيْرِ اللهِ فَهُوَ عَابِدٌ لَهُ مُشْرِكٌ بِاللهِ، وَأَكَّدَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ فَقَالَ: (وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أَصْحَابِ الدِّيَانَاتِ الْوَثَنِيَّةِ الْبَاطِلَةِ، الَّذِينَ يَجْعَلُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى حِجَابًا مِنَ الْوُسَطَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالشُّفَعَاءِ يُوَجِّهُونَ قُلُوبَهُمْ إِلَيْهِمْ عِنْدَ الشِّدَّةِ تُصِيبُهُمْ، وَالْحَاجَةِ الَّتِي تَسْتَعْصِي عَلَى كَسْبِهِمْ، وَوُجُوهَهُمْ وَجُمْلَتَهُمْ إِلَى صُوَرِهِمْ وَتَمَاثِيلِهِمْ فِي هَيَاكِلِهِمْ، أَوْ قُبُورِهِمْ فِي مَعَابِدِهِمْ، وَيَدْعُونَهُمْ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ إِمَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِمَّا بِشَفَاعَتِهِمْ وَوَسَاطَتِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَ هَذَا بِالْإِشَارَةِ إِلَى سَبَبِهِ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ وَالنَّهْيِ عَنْ مَثَلِهِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ فَقَالَ:
(وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ) أَيْ وَلَا تَدْعُ غَيْرَهُ تَعَالَى (دُعَاءَ عِبَادَةٍ، وَهُوَ مَا فِيهِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ وَالْجَرْيِ عَلَى غَيْرِ الْمُعْتَادِ فِي طَلَبِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ) لَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ، وَلَا عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ بِوَسَاطَةِ الشُّفَعَاءِ - مَا لَا يَنْفَعُكَ إِنْ دَعْوَتَهُ لَا بِنَفْسِهِ وَلَا بِوَسَاطَتِهِ، وَلَا يَضُرُّكَ إِنْ تَرَكْتَ دُعَاءَهُ وَلَا إِنْ دَعَوْتَ غَيْرَهُ (فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ) أَيْ فَإِنْ فَعَلْتَ هَذَا بِأَنْ دَعَوْتَ غَيْرَهُ فَإِنَّكَ أَيُّهَا الْفَاعِلُ فِي هَذِهِ الْحَالِ مِنْ طَغَامَةِ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمُ الظُّلْمَ الْأَكْبَرَ، وَهُوَ الشِّرْكُ الَّذِي فَسَّرَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (٣١: ١٣) فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ دُعَاءُ اللهِ وَحْدَهُ هُوَ أَعْظَمُ الْعِبَادَةِ وَمُخُّهَا - كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ - كَانَ دُعَاءُ غَيْرِهِ هُوَ مُعْظَمُ الشِّرْكِ وَمُخُّهُ، كَمَا كَرَّرْنَا التَّصْرِيحَ بِهِ بِتَكْرَارِ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ النَّاهِيَةِ عَنْهُ، وَمِنْهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ) (٢١٨) وَقَوْلُهُ: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ) (٤٩) وَقَوْلُهُ قَبْلَهُمَا: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا) (١٢)
وَقَوْلُهُ فِي أَهْلِ الْفُلْكِ (السَّفِينَةِ) الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ إِحَاطَةِ الْخَطَرِ بِهِمْ: (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (٢٢).
وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ مُتَفَرِّقَةٌ فِي السُّورِ، كُرِّرَتْ لِأَجْلِ انْتِزَاعِ هَذَا الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ مِنْ قُلُوبِ الْجُمْهُورِ الْأَكْبَرِ، وَقَدِ انْتُزِعَ مِنْ قُلُوبِ الَّذِينَ أَخَذُوا دِينَهُمْ مِنَ الْقُرْآنِ، وَكَانَ جُلَّ عِبَادَتِهِمْ تَكْرَارُ تِلَاوَتِهِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، ثُمَّ عَادَ بِقَضِّهِ وَقَضِيضِهِ إِلَى الَّذِينَ هَجَرُوا تَدَبُّرَ الْقُرْآنِ وَهُمْ يَدَّعُونَ الْإِسْلَامَ، وَأَكْثَرُهُمْ يَتَلَقَّوْنَ عَقَائِدَهُمْ مِنَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْمُعَاشِرِينَ، وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ مِنَ الْخُرَافِيَّيْنِ الْأُمِّيَّيْنِ، الْجَاهِلِينَ، وَأَكْثَرُ الْقَارِئِينَ مِنْهُمْ عَلَى قِلَّتِهِمْ يَأْخُذُونَهَا مِنْ كُتُبِ مُقَلِّدَةِ مُتَأَخَّرِي الْمُتَكَلِّمِينَ الْجَدَلِيَّةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ الْخُرَافِيَّةِ، وَلَا يَكَادُ مَسْجِدٌ مِنْ مَسَاجِدِهِمْ يَخْلُو مِنْ قَبْرٍ مُشْرِفٍ مَشِيدٍ، تُوقَدُ عَلَيْهِ السُّرُجُ وَالْمَصَابِيحُ، وَقَدْ لَعَنَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاعِلِيهَا، وَيَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، فِي كُلِّ صَبَاحٍ وَمَسَاءٍ، يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ يُقِيمُونَ فِيهَا، وَيَتَقَرَّبُونَ إِلَيْهِمْ بِالْهَدَايَا وَالنُّذُورِ مِنَ الْأُمِّيِّينَ، وَبِعَرَائِضِ
الِاسْتِغَاثَةِ وَالدُّعَاءِ مِنَ الْمُتَعَلِّمِينَ، لِيَكْشِفُوا عَنْهُمُ الضُّرَّ، وَيَهَبُوا لَهُمْ مَا يَرْجُونَ مِنَ النَّفْعِ، وَمِنْ أَمَامِهِمْ وَوَرَائِهِمْ عَمَائِمُ مُكَوَّرَةٌ، وَلِحًى طَوِيلَةٌ أَوْ مُقَصَّرَةٌ، يُسَمُّونَ شِرْكَهُمُ الْأَكْبَرَ تَوَسُّلًا، وَاسْتِغَاثَتَهُمُ اسْتِشْفَاعًا، وَنُذُورَهُمْ لِغَيْرِ اللهِ صَدَقَاتٍ مَشْرُوعَةً، وَطَوَافَهُمْ بِالْقُبُورِ الْمَعْبُودَةِ زِيَارَاتٍ مَقْبُولَةً، وَيَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةَ، بَلْ يُحَرِّفُونَهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا، بِزَعْمِهِمْ أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَالنُّذُورِ لِلْأَوْثَانِ، وَالتَّعْظِيمِ لِلصُّلْبَانِ، كَأَنَّ الْإِشْرَاكَ بِاللهِ جَائِزٌ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ بِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ دُونَ بَعْضٍ، وَمِنَ الْبَلَاءِ الْأَكْبَرِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ بِمِصْرَ أَنْ أَصْدَرَتْ لَهُمْ مَشْيَخَةُ الْأَزْهَرِ الرَّسْمِيَّةُ فِي هَذَا الْعَصْرِ مَجَلَّةً رَسْمِيَّةً دِينِيَّةً، تُفْتِيهِمْ بِشَرْعِيَّةِ كُلِّ هَذِهِ الْبِدَعِ الشَّرِكِيَّةِ الْقُبُورِيَّةِ، سَمَّتْهَا (نُورَ الْإِسْلَامِ) وَأَلَّفَ لَهُمْ أَحَدُ خُطَبَاءِ الْفِتْنَةِ كِتَابًا فِي هَذَا وَاطَأَهُ عَلَيْهِ وَأَمْضَاهُ لَهُ سَبْعُونَ عَالِمًا مِنْ عُلَمَاءِ الْأَزْهَرِ بِزَعْمِهِ، بَلْ طَبَعَ فِي طُرَّتِهِ خَوَاتِمَ بَعْضِهِمْ وَتَوَاقِيعَ آخَرِينَ مِنْهُمْ بِخُطُوطِهِمْ وَذَكَرَ جَمِيعَ أَسْمَائِهِمْ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ، وَبِهِ وَحْدُهُ الْمُسْتَعَانُ لِإِنْقَاذِ الْإِسْلَامِ مِنْ هَذَا الطُّغْيَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَجُّ عَلَى نَفْعِ هَذَا الدُّعَاءِ لِغَيْرِ اللهِ بِالتَّجَارِبِ، كَمَا يَحْتَجُّ الْهُنُودُ الْوَثَنِيُّونَ وَالنَّصَارَى، فَهُوَ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ وَقَدْ أَبْطَلَهُ اللهُ بِقَوْلِهِ:
(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) هَذِهِ الْآيَةُ مُؤَكِّدَةٌ لِمَا قَبْلَهَا دَاحِضَةٌ لِشُبْهَةِ الَّذِينَ يَدْعُونَ غَيْرَ اللهِ بِأَنَّهُمْ طَالَمَا اسْتَفَادُوا مِنْ دُعَائِهِمْ وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِمْ فَشُفِيَتْ أَمْرَاضُهُمْ، وَكُبِتَتْ أَعْدَاؤُهُمْ، وَكُشِفَ الضُّرُّ عَنْهُمْ، وَأُسْدِيَ الْخَيْرُ إِلَيْهِمْ، يَقُولُ تَعَالَى لِكُلِّ مُخَاطَبٍ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ إِلَى تَوْحِيدِ الْإِسْلَامِ، بِكَلَامِ اللهِ وَتَبْلِيغِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ)
400
أَيُّهَا الْإِنْسَانُ (بِضُرٍّ) كَمَرَضٍ يُصِيبُكَ بِمُخَالَفَةِ سُنَنِهِ فِي حِفْظِ الصِّحَّةِ، أَوْ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالثَّمَرَاتِ بِأَسْبَابِهِ لَكَ فِيهِ عِبْرَةٌ، أَوْ ظُلْمٍ يَقَعُ عَلَيْكَ مِنَ الْحُكَّامِ الْمُسْتَبِدِّينَ، أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَعْدَاءِ الْمُعْتَدِينَ (فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) وَقَدْ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا يَعْرِفُهُ خَلْقُهُ بِتَجَارِبِهِمْ، كَكَشْفِ الْأَمْرَاضِ بِمَعْرِفَةِ أَسْبَابِهَا، وَخَوَاصِّ الْعَقَاقِيرِ الَّتِي تُدَاوَى بِهَا، وَتَجَارِبِ الْأَعْمَالِ الْجِرَاحِيَّةِ الَّتِي يُزَاوِلُهَا أَهْلُهَا، فَعَلَيْكَ أَنْ تَطْلُبَهَا مِنْ أَسْبَابِهَا، وَتَكِلَ أَعْمَالَهَا إِلَى أَرْبَابِهَا، وَتَأْتِيَ سَائِرَ الْبُيُوتِ مِنْ أَبْوَابِهَا، مَعَ الْإِيمَانِ وَالشُّكْرِ لِمُسَخِّرِهَا، فَإِنْ جَهِلْتَ الْأَسْبَابَ أَوْ أَعْيَاكَ أَمْرُهَا، فَتَوَجَّهْ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ، وَادْعُهُ مُخْلِصًا لَهُ
الدِّينَ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ وَحْدَهُ، يُسَخِّرْ لَكَ مَا شَاءَ أَوْ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، أَوْ يَشْفِكَ مِنْ مَرَضِكَ بِمَحْضِ فَضْلِهِ، كَمَا ضَرَبَ لَكَ الْأَمْثَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ كِتَابِهِ (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) يَهَبْهُ بِتَسْخِيرِ أَسْبَابِهِ لَكَ، وَبِغَيْرِ سَبَبٍ وَلَا سَعْيٍ مِنْكَ، (فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ) أَيْ فَلَا أَحَدَ وَلَا شَيْءَ يَرُدُّ فَضْلَهُ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ إِرَادَتُهُ، فَمَا شَاءَ كَانَ حَتْمًا، فَلَا تَرْجُ الْخَيْرَ وَالنَّفْعَ إِلَّا مِنْ فَضْلِهِ، وَلَا تَخَفْ رَدَّ مَا يُرِيدُهُ لَكَ مِنْ أَحَدٍ غَيْرِهِ (يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) يُصِيبُ بِالْخَيْرِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ بِكَسْبٍ وَبِغَيْرِ كَسْبٍ وَبِسَبَبٍ مِمَّا قَدَّرَهُ فِي السُّنَنِ الْعَامَّةِ وَبِغَيْرِ سَبَبٍ، فَفَضْلُهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ عَامٌّ بِعُمُومِ رَحْمَتِهِ، بِخِلَافِ الضُّرِّ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ إِلَّا بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ الْخَاصَّةِ بِكَسْبِ الْعَبْدِ، أَوِ الْعَامَّةِ فِي نِظَامِ الْخَلْقِ، فَالْأَوَّلُ مَعْلُومٌ كَالْأَمْرَاضِ الَّتِي تَعْرِضُ بِتَرْكِ أَسْبَابِ الصِّحَّةِ وَالْوِقَايَةِ جَهْلًا أَوْ تَقْصِيرًا، وَفَسَادِ الْعُمْرَانِ وَسُقُوطِ الدُّوَلِ الَّذِي يَقَعُ بِتَرْكِ الْعَدْلِ، وَكَثْرَةِ الْفِسْقِ وَالظُّلْمِ، وَالثَّانِي كَالضَّرَرِ الَّذِي يَعْرِضُ مِنْ كَثْرَةِ الْأَمْطَارِ، وَطُغْيَانِ الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ، وَزَلَازِلِ الْأَرْضِ وَصَوَاعِقِ السَّمَاءِ (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وَلَوْلَا مَغْفِرَتُهُ الْوَاسِعَةُ وَرَحْمَتُهُ الْعَامَّةُ لَأَهْلَكَ جَمِيعَ النَّاسِ بِذُنُوبِهِمْ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (٤٢: ٣٠) (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ) (٣٥: ٤٥).
(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ).
401
هَذَا النِّدَاءُ خَاتِمَةُ الْبَلَاغِ لِلنَّاسِ كَافَّةً، بِمُقْتَضَى بِعْثَةِ الرَّسُولِ الْعَامَّةِ، وَهُوَ إِجْمَالٌ لِمَا فُصِّلَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَسَائِرِ السُّوَرِ الْمُبَارَكَةِ.
(قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) أَيْ قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ مُخَاطِبًا لِجَمِيعِ الْبَشَرِ، مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ فَسَمِعَ هَذِهِ الدَّعْوَةَ مِنْكَ، وَمَنْ سَتَبْلُغُهُ عَنْكَ: قَدْ
جَاءَكُمُ الْحَقُّ الْمُبَيِّنُ لِحَقِيقَةِ الدِّينِ مِنْ رَبِّكُمْ، بِوَحْيِهِ إِلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ، وَهُوَ الَّذِي افْتُتِحَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِهِ، وَقَدْ كَانَ هَذَا الْحَقُّ مَجْهُولًا خَفِيًّا عَنْكُمْ، بِمَا جَهِلَ بَعْضُكُمْ مِنْ دَعْوَةِ الرُّسُلِ الْأَقْدَمِينَ، وَمَا حَرَّفَ بَعْضُكُمْ وَجَهِلَ وَبَدَّلَ وَتَأَوَّلَ مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَفَصَّلَهُ لَكُمْ هَذَا الْكِتَابُ الْعَرَبِيُّ الْمُبِينُ (فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) أَيْ فَمَنِ اهْتَدَى بِمَا جَاءَ بِهِ هَذَا الرَّسُولُ فِي هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ، فَإِنَّمَا فَائِدَةُ اهْتِدَائِهِ لِنَفْسِهِ ; لِأَنَّهُ يَنَالُ بِهِ السَّعَادَةَ فِي دُنْيَاهُ وَدِينِهِ، دُونَ عَمَلِ غَيْرِهِ، وَلَا فِدَائِهِ وَلَا تَأْثِيرِهِ (وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا) أَيْ وَمَنْ ضَلَّ عَنْ هَذَا الْحَقِّ بِإِعْرَاضِهِ عَنْ آيَاتِهِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ، وَحُجَجِهِ فِيهِ بِآيَاتِهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، فَإِنَّمَا وَبَالُ ضَلَالِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا يَفُوتُهُ مِنْ فَوَائِدِ الِاهْتِدَاءِ فِي الدُّنْيَا، وَمَا يُصِيبُهُ مِنَ الْعَذَابِ عَلَى كُفْرِهِ وَجَرَائِمِهِ فِي الْآخِرَةِ (وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) أَيْ وَمَا أَنَا بِمُوَكَّلٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ بِأُمُورِكُمْ، وَلَا مُسَيْطِرٍ عَلَيْكُمْ فَأُكْرِهَكُمْ عَلَى الْإِيمَانِ، وَأَمْنَعَكُمْ بِقُوَّتِي مِنَ الْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ، وَلَيْسَ عَلَيَّ هُدَاكُمْ، وَلَا أَمَلِكُ نَفْعَكُمْ وَلَا ضَرَّكُمْ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشِيرٌ لِمَنِ اهْتَدَى، وَنَذِيرٌ لِمَنْ ضَلَّ وَغَوَى، وَقَدْ أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ.
(وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ) فِي هَذَا الْقُرْآنِ عِلْمًا وَعَمَلًا وَتَعْلِيمًا (وَاصْبِرْ) كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ عَلَى مَا يُصِيبُكَ مِنَ الْأَذَى فِي ذَاتِ اللهِ، وَالْجِهَادِ بِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ (حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْمُكَذِّبِينَ، وَيُنْجِزَ لَكَ مَا وَعَدَكَ، (وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ) أَيْ كُلُّ مَنْ يَقَعُ مِنْهُمْ حُكْمٌ ; لِأَنَّهُ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَغَيْرُهُ قَدْ يَحْكُمُ بِالْبَاطِلِ لِجَهْلِهِ الْحَقَّ أَوْ لِمُخَالَفَتِهِ لَهُ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى. وَقَدِ امْتَثَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْرَ رَبِّهِ، وَصَبَرَ حَتَّى حَكَمَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ، وَأَنْجَزَ وَعْدَهُ لَهُ وَلِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَاسْتَخْلَفَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَهُمُ الْأَئِمَّةَ الْوَارِثِينَ، مُدَّةَ إِقَامَتِهِمْ لِهَذَا الدِّينِ، فَجَزَاهُ اللهُ عَنْ أُمَّتِهِ أَفْضَلَ مَا جَزَى نَبِيًّا عَنْ قَوْمِهِ، وَجَعَلَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ كِتَابِ رَبِّهِ، وَسُنَّتِهِ الْمُبَيِّنَةِ لَهُ، عِلْمًا وَعَمَلًا، وَإِرْشَادًا وَتَعْلِيمًا، وَصَلَّى الله عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحَابَتِهِ وَمَنِ اتَّبَعَهُ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.
(تَمَّ تَفْسِيرُ سُورَةِ يُونُسَ بِفَضْلِ اللهِ وَتَوْفِيقِهِ تَفْصِيلًا)
وَيَلِيهِ بَيَانُ مَا فِيهَا مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْقَوَاعِدِ إِجْمَالًا
402
الْخُلَاصَةُ الْإِجْمَالِيَّةُ لِسُورَةِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَفِيهَا سِتَّةُ أَبْوَابٍ
(جَمِيعُ آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي أُصُولِ عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ الَّتِي كَانَ يُنْكِرُهَا مُشْرِكُو الْعَرَبِ، وَهِيَ: تَوْحِيدُ اللهِ تَعَالَى، وَالْوَحْيُ وَالرِّسَالَةُ، وَالْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ، وَمَا يُنَاسِبُ هَذِهِ الثَّلَاثَ وَيَمُدُّهَا مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى وَأَفْعَالِهِ وَتَنْزِيهِهِ وَآيَاتِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ، وَشُئُونُ الْبَشَرِ فِي صِفَاتِهِمْ وَعَادَاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَمُحَاجَّةُ مُشْرِكِي مَكَّةَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلَا سِيَّمَا هِدَايَةِ الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْعِبْرَةُ بِأَحْوَالِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ، فَهِيَ كَسُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ إِلَّا أَنَّهَا أَكْثَرُ مِنْهَا وَمِنْ سَائِرِ السُّوَرِ إِثْبَاتًا لِلْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَتَحَدِّيًا بِالْقُرْآنِ وَبَيَانًا لِإِعْجَازِهِ وَحَقِّيَّتِهِ وَصِدْقِ وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَهَذِهِ الْمَقَاصِدُ أَوِ الْعَقَائِدُ مُكَرَّرَةٌ فِيهَا بِالْأُسْلُوبِ الْبَدِيعِ، وَالنَّظْمِ الْبَلِيغِ، بِحَيْثُ يَحْدُثُ فِي نَفْسِ سَامِعِهَا وَقَارِئِهَا أَرْوَعُ الْإِقْنَاعِ وَالتَّأْثِيرِ، مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِمَا فِيهِ مِنَ التَّكْرِيرِ، وَإِنَّنِي أُوجِزُ فِي تَلْخِيصِ هَذِهِ الْأُصُولِ فِي أَبْوَابِهَا ; لِمَا سَبَقَ فِي هَذَا الْجُزْءِ مِنْ بَسْطِهَا فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ مِنْ تَفْسِيرِ أَوَّلِ السُّورَةِ، وَلَا سِيَّمَا مَسَائِلِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ، وَإِثْبَاتِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي امْتَازَتْ بِهَا عَلَى سَائِرِ السُّوَرِ).
الْبَابُ الْأَوَّلُ
(فِي تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ وَصِفَاتِ عَظَمَتِهِ وَعُلُوِّهِ، وَتَدْبِيرِهِ لِأُمُورِ عِبَادِهِ، وَتَصَرُّفِهِ فِيهِمْ وَفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ، وَعِلْمِهِ بِشُئُونِهِمْ، وَتَنْزِيهِهِ عَنْ ظُلْمِهِمْ، وَعَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ أَوْهَامِهِمْ، وَفِي آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا ذُكِرَ كُلِّهِ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ فَصُولٍ)
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ)
أَجْمَعُ الْآيَاتِ فِي هَذَا التَّوْحِيدِ الْآيَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، الَّتِي خَاطَبَتِ النَّاسَ بِأَنَّ رَبَّهُمْ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَطْوَارًا فِي سِتَّةِ أَيَّامِ أَيْ أَزْمِنَةً، تَمَّ فِيهَا خَلْقُهَا وَتَكْوِينُهَا فَكَانَتْ مُلْكًا عَظِيمًا، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِ هَذَا الْمُلْكِ الِاسْتِوَاءَ اللَّائِقَ بِهِ، الدَّالَّ عَلَى عُلُوِّهِ الْمُطْلَقِ عَلَى جَمِيعِ خَلْقِهِ، وَإِحَاطَتِهِ بِهِ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَتَدْبِيرِ
الْأَمْرِ فِيهِ بِمَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، بِغَيْرِ حَدٍّ وَلَا تَشْبِيهٍ، وَلَا شَرِيكٍ لَهُ فِي الْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ، وَلَا فِي التَّصَرُّفِ وَالتَّدْبِيرِ، مَا مِنْ شَفِيعٍ عِنْدَهُ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ، فَلَهُ وَحْدَهُ الْأَمْرُ، وَبِيَدِهِ النَّفْعُ وَالضُّرُّ.
بَعْدَ تَقْرِيرِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ قَالَ تَعَالَى مُحْتَجًّا بِهَا عَلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ: (ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) ٣ أَيْ فَاعْبُدُوهُ وَحْدَهُ، وَلَا تَعْبُدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ بِطَلَبِ شَفَاعَةٍ وَلَا دُعَاءٍ
403
وَلَا مَا دُونَهُمَا مِنْ مَظَاهِرِ الْعِبَادَةِ ; إِذْ لَا رَبَّ لَكُمْ غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الْعِبَادَةُ لِرَبِّ الْعِبَادِ دُونَ غَيْرِهِ. وَاسْتَدَلَّ عَلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ بِمَا فِي الْآيَاتِ ٣ - ٦ مِنَ الْآيَاتِ (الدَّلَائِلِ) الْكَوْنِيَّةِ.
ثُمَّ عَادَ إِلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ وَهُوَ الْعِبَادَةُ الْخَاصَّةُ فِي الْآيَةِ: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ) (١٨) وَدَحَضَ هَذَا الْقَوْلَ مُنَزِّهًا نَفْسَهُ عَنْ هَذَا الشِّرْكِ.
ثُمَّ احْتَجَّ عَلَى بُطْلَانِ شِرْكِهِمْ هَذَا بِمَا فِي الْآيَتَيْنِ ٢٢ و٢٣ مِنْ ضَرْبِ مَثَلٍ لَهُمْ يَعْرِفُونَهُ بِالتَّجْرِبَةِ ; لِوُقُوعِهِ لِكَثِيرٍ مِنْهُمْ فِي أَزْمِنَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَهُوَ أَنَّهُمْ إِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ وَعَصَفَتْ بِهِمُ الرِّيحُ، وَهَاجَ بِهِمُ الْبَحْرُ وَأَشْرَفُوا عَلَى الْهَلَاكِ، يَدْعُونَ اللهَ وَحْدَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَيَنْسَوْنَ عِنْدَ شِدَّةِ الْخَطَرِ مَا كَانُوا يُشْرِكُونَ بِهِ مِنَ الشُّفَعَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ.
ثُمَّ عَادَ إِلَى التَّذْكِيرِ بِالْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ فِي الْآيَاتِ ٣١ - ٣٦ وَإِلَى تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ فِي الْآيَةِ: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ) (٤٩).
ثُمَّ عَادَ إِلَى التَّذْكِيرِ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ فِي سِيَاقٍ آخَرَ فَبَيَّنَ فِي الْآيَةِ ٥٥ أَنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَأَنَّ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَا يَتَّبِعُونَ شُرَكَاءَ لِلَّهِ إِذْ لَا شُرَكَاءَ لَهُ، مَا يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَالْخَرَصَ.
ثُمَّ بَيَّنَ فِي الْآيَتَيْنِ ٧١ و٨٥ أَنَّ كَمَالَ التَّوْحِيدِ فِي التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ وَحْدَهُ.
وَمِنْ شُئُونِ الرَّبِّ وَحَقِّهِ عَلَى عِبَادِهِ التَّشْرِيعُ الدِّينِيُّ، وَقَدْ بَيَّنَ فِي الْآيَةِ ١٥ وَالْآيَةِ ١٠٩ أَنَّ الرَّسُولَ مُتَّبِعٌ لِمَا يُوحَى إِلَيْهِ عَمَلًا وَتَبْلِيغًا، لَا مُشَرِّعٌ مُسْتَقِلٌّ فِيهِ وَلَا مُتَحَوِّلٌ عَنْهُ.
وَفِي الْآيَتَيْنِ ٥٩ و٦٠ أَنَّ جَمِيعَ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّزْقِ فَهُوَ حَلَالٌ لَهُمْ، لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ حَقٌّ أَنْ يُحَرِّمَهُ عَلَيْهِمْ لِذَاتِهِ تَحْرِيمًا دِينِيًّا. وَأَنَّ مَنْ تَحَكَّمَ فِيهِ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ فَهُوَ مُعْتَدٍ عَلَى حَقِّهِ تَعَالَى مُفْتَرٍ عَلَيْهِ.
(الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي صِفَاتِ الذَّاتِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْمَشِيئَةِ وَالْعِزَّةِ وَالرَّحْمَةِ)
أَمَّا الْعِلْمُ فَحَسْبُكَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ) (٦١) إِلَخْ. فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا وَتَأَمَّلْ عَجَائِبَ بَلَاغَتِهَا، وَإِحَاطَتَهَا بِعَظَائِمِ الْأُمُورِ وَصَغَائِرِهَا، وَظَوَاهِرِ الْأَعْمَالِ وَخَفَايَاهَا، وَذَرَّاتِ الْوُجُودِ قَرِيبِهَا وَبَعِيدِهَا جَلِيِّهَا وَخَفِيِّهَا، وَمَا تُدْرِكُهُ الْمَشَاعِرُ وَمَا لَا تُدْرِكُهُ مِنْ خَلَايَا مَرْكَبَاتِهَا وَدَقَائِقِ بَسَائِطِهَا. وَتَدَبَّرْ تَعَلُّقَ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى بِهَا كُلِّهَا، وَكِتَابَتَهُ لَهَا مِنْ قَبْلِ إِيجَادِهَا، وَشُهُودَهُ إِيَّاكَ فِي كُلِّ مَا تَكُونُ فِيهِ مِنْهَا، تَجِدْهُ رَافِعًا لَكَ إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ.
404
ثُمَّ تَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي الَّذِينَ يُشْرِكُونَ بِاللهِ غَيْرَهُ بِمَا يَرْجُونَ مِنْ نَفْعِهِمْ لَهُمْ، وَكَشْفِهِمُ الضُّرَّ عَنْهُمْ بِشَفَاعَتِهِمْ عِنْدَهُ تَعَالَى مِنَ الْآيَةِ: (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ) (١٨) تَعْلَمْ مِقْدَارَ جَهْلِ الْإِنْسَانِ وَجِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ، بِمَا يَقُولُهُ عَلَى اللهِ تَعَالَى بِغَيْرِ عِلْمٍ، مِنْ تَصْغِيرِ أَمْرِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَالشِّرْكِ فِي الْأُلُوهِيَّةِ بِالتَّوَجُّهِ فِي الدُّعَاءِ وَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ إِلَى غَيْرِهِ تَعَالَى بِمَا هُوَ عَيْنُ الشِّرْكِ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَأَمَّا صِفَةُ الْمَشِيئَةِ فَتَأَمَّلْ فِيهَا أَمْرَهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ الْأَعْظَمِ فِي الْآيَةِ: (قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ) (١٦) إِلَخْ. وَفِي الْآيَةِ: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ) (٤٩) تَعْلَمْ مِنْهُ قَدْرَ إِيمَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَشِيئَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ انْظُرْ قَوْلَهُ تَعَالَى لَهُ: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا) (٩٩) تَعْلَمْ مِنْهُ كَيْفَ شَاءَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَخْلُقَ الْمُكَلَّفِينَ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ مُخْتَلِفِي الِاسْتِعْدَادِ لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَأَنَّ مَا وَهَبَهُ مِنَ الْمَشِيئَةِ وَالِاسْتِطَاعَةِ لِأَعْظَمِهِمْ قَدْرًا وَفَضْلًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ مُقْتَضَى مَشِيئَتِهِ وَسُنَنِهِ فِي نِظَامِ خَلْقِهِ، وَيُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهُ: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (١٠٠) وَهُوَ بَيَانٌ لِسُنَّتِهِ الَّتِي اقْتَضَتْهَا مَشِيئَتُهُ فِي اخْتِيَارِهِمْ لِكُلٍّ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَمَا يَسْتَلْزِمَانِ مِنْ عَمَلِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ.
وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ فِيمَا يُصِيبُهُمْ مِنْ ضُرٍّ وَنَفْعٍ وَخَيْرٍ وَشَرٍّ، وَكَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْأَسْبَابِ الْمُقَيَّدَةِ بِسُنَنِهِ فِي الْخَلْقِ بِمُقْتَضَى إِرَادَتِهِ: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) (١٠٧) الْآيَةَ: فَلَا يَقْدِرُ الْأَوْلِيَاءُ وَمَنْ يُسَمُّونَهُمُ الشُّفَعَاءَ عَلَى النَّفْعِ وَلَا عَلَى الضُّرِّ مِنْ غَيْرِ أَسْبَابِهِمَا الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ جَمِيعِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَاضِعُ السُّنَنِ وَالْأَسْبَابِ وَحْدَهُ،
وَالْمُرَادُ مِنْ كُلِّ هَذِهِ الْآيَاتِ سَدُّ ذَرَائِعِ الشِّرْكِ وَإِعْتَاقُ الْبَشَرِ مِنْ رِقِّهِ، بِاعْتِمَادِهِمْ فِي أُمُورِهِمْ عَلَى مَا وَهَبَهُمْ مِنَ الْقُوَى، وَطَلَبُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِهِ الَّتِي سَخَّرَهَا اللهُ لَهُمْ، وَالتَّوَجُّهُ إِلَيْهِ وَحْدَهُ فِي تَسْخِيرِ مَا يَعْجِزُونَ عَنْهُ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ نَرَى مَنْ سَرَتْ إِلَيْهِمْ عَدْوَى الْوَثَنِيَّةِ مِنْ أَهْلِهَا، يَتَوَجَّهُونَ إِلَى غَيْرِهِ تَعَالَى مِنَ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ الْمُعْتَقَدِينَ فِيمَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ بِكَسْبِهِمْ، وَفِيمَا هُوَ مِنْ كَسْبِهِمْ أَيْضًا. وَلَكِنَّهُمْ يَجْهَلُونَ قُدْرَتَهُمْ أَوْ قُدْرَةَ أَمْثَالِهِمْ كَالْأَطِبَّاءِ عَلَيْهِ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ مُعْتَقَدِيهِمُ - الْمُتَصَرِّفِينَ فِي الْكَوْنِ بِزَعْمِهِمْ - أَقْرَبُ مَنَالًا، كَمَا بَسَطْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ كُلِّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالِهَا مُكَرَّرًا اتِّبَاعًا لِكِتَابِهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا صِفَةُ الْعِزَّةِ فَلَيْسَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ذِكْرٌ لَهَا إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٦٥) وَمَعْنَاهَا الْمَنَعَةُ وَالْقُوَّةُ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ يَغْلِبَ صَاحِبُهَا وَلَا يُغْلَبَ عَلَى أَمْرِهِ، وَيَنَالَ خَصْمُهُ مِنْهُ. وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَعْتَزُّونَ بِكَثْرَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ وَثَرْوَتِهِمْ تُجَاهَ قِلَّةِ الْمُؤْمِنِينَ وَضَعْفِهِمْ وَفَقْرِهِمْ، فَيَطْعَنُونَ فِي الرَّسُولِ وَفِي الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ فَيُحْزِنُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَقُولُونَ، فَنَهَاهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ هَذَا الْحُزْنِ وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْعِزَّةَ الْحَقَّ هِيَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، فَهُوَ يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَقَدْ كَتَبَهَا لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ كَمَا
405
بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرَ السَّمْعَ وَالْعِلْمَ ; لِتَذْكِيرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِسَمْعِهِ تَعَالَى لِأَقْوَالِهِمْ، كَإِحَاطَتِهِ عِلْمًا بِأَعْمَالِهِمْ، فَهُوَ قَدِيرٌ عَلَى إِعْزَازِهِ وَإِذْلَالِهِمْ.
وَأَمَّا صِفَةُ الرَّحْمَةِ فَقَدْ جَاءَتْ مُقْتَرِنَةً بِالْمَغْفِرَةِ فِي فَاصِلَةِ الْآيَةِ ١٠٧ النَّاطِقَةِ بِانْفِرَادِهِ تَعَالَى بِكَشْفِ الضُّرِّ وَإِرَادَةِ الْخَيْرِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَذُكِرَتِ الرَّحْمَةُ بِآثَارِهَا وَمُتَعَلَّقَاتِهَا فِي الرِّزْقِ مِنَ الْآيَةِ ٢١. وَفِي خَصَائِصِ الْقُرْآنِ التَّشْرِيعِيَّةِ مِنَ الْآيَةِ ٥٧ وَفِيمَا يَعُمُّهُمَا مِنَ الْآيَةِ ٥٨ وَفِي التَّنْبِيهِ مِنَ الظُّلْمِ وَحُكْمِ الْكَافِرِينَ فِي الْآيَةِ ٨٦ فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يَعُمَّنَا بِأَنْوَاعِ رَحْمَتِهِ كُلِّهَا وَيَجْعَلَنَا مِنَ الشَّاكِرِينَ.
(الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي تَقْدِيسِهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهِهِ وَغِنَاهُ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ)
نَزَّهَ اللهُ تَعَالَى نَفْسَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي مَوَاضِعَ: (أَوَّلُهَا) أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ شُفَعَاءُ يَنْفَعُونَ مَنْ يَشْفَعُونَ لَهُمْ أَوْ يَكْشِفُونَ الضُّرَّ عَنْهُمْ، فَيَكُونَ لِتَأْثِيرِهِمْ شِرْكٌ فِي أَفْعَالِهِ تَعَالَى.
وَهَذِهِ شُبْهَةُ شِرْكِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ فَشَا فِي أَكْثَرِ النَّصَارَى وَكَذَا جُهَلَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا بَيَّنَّاهُ تَكْرَارًا، وَهُوَ نَصُّ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ ١٨: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ).
وَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الشِّرْكِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: (قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ) (٦٨) الْآيَةَ.
وَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ ظُلْمِ عِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي الْآيَاتِ ٤٤ و٤٧ و٥٢ و٥٤.
(الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي أَفْعَالِهِ تَعَالَى وَآيَاتِهِ فِي التَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ وَالرِّزْقِ)
وَنُجْمِلُهَا فِي عِشْرِينَ مَسْأَلَةً
(١) خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، أَيْ أَزْمِنَةٍ يُحَدِّدُ كُلًّا مِنْهَا طَوْرٌ مِنْ أَطْوَارِ التَّكْوِينِ.
(٢) اسْتِوَاؤُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا الْخَلْقِ عَلَى عَرْشِهِ يُدَبِّرُ أَمْرَ مُلْكِهِ، وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ لِلْعَالَمِ فِي جُمْلَتِهِ عَرْشًا هُوَ مَرْكَزُ التَّدْبِيرِ وَالنِّظَامِ الْعَامِّ لَهُ. (رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ فِي بَيَانِهِمَا وَمَا نُحِيلُ عَلَيْهِ فِي مَعْنَاهُمَا).
(٣) بَدْءُ الْخَلْقِ ثُمَّ إِعَادَتُهُ فِي الْآيَتَيْنِ ٤ و٣٤.
(٤ - ٦) جَعْلُ الشَّمْسِ ضِيَاءً وَالْقَمَرِ نُورًا وَتَقْدِيرُهُ مَنَازِلِ وَحِكْمَةُ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ الْخَامِسَةِ.
406
(٧) اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةِ، وَبَيَانُ حِكْمَةِ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ ٦٧.
(٨) مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي زِينَتِهَا وَغُرُورِ النَّاسِ بِهَا وَزَوَالِهَا فِي الْآيَةِ ٢٤.
(٩) إِنْزَالُ الرِّزْقِ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فِي الْآيَتَيْنِ ٣١ و٥٩.
(١٠) مِلْكُ السَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ فِي ٣١ أَيْضًا.
(١١) إِخْرَاجُ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ وَالْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ فِيهَا (٣١).
(١٢) تَدْبِيرُ أَمْرِ الْخَلْقِ فِي الْآيَتَيْنِ ٣ و٣١.
(١٣) كَوْنُ خَلْقِهِ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ضِيَاءً وَنُورًا وَحُسْبَانًا بِالْحَقِّ لَا عَبَثًا، فِي الْآيَةِ ٥.
(١٤) هِدَايَتُهُ تَعَالَى إِلَى الْحَقِّ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ فِي الْآيَتَيْنِ ٣٥ و٣٦، وَأَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فِي ٣٢، وَأَنَّهُ يُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ فِي ٨٢.
(١٥) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، أَيْ مِنْ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ فِي الْآيَةِ ٥٥.
(١٦) لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْعُقَلَاءِ فِي الْآيَةِ ٦٦.
(١٧) الْأَمْرُ بِنَظَرِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالِاعْتِبَارِ بِهِمَا فِي الْآيَةِ ١٠١.
(١٨) سُرْعَةُ مَكْرِهِ تَعَالَى مِنْ إِحْبَاطِ مَكْرِ الْمَاكِرِينَ، وَالْإِمْلَاءُ لِلظَّالِمِينَ، فِي الْآيَةِ ٢١.
(١٩ و٢٠) تَسْيِيرُهُ تَعَالَى لِلنَّاسِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَإِنْجَاؤُهُمْ مِنَ الْغَرَقِ بَعْدَ الْيَأْسِ فِي الْآيَتَيْنِ ٢٢، ٣٣.
فَهَذِهِ الْآيَاتُ الْمُنَزَّلَةُ، وَالْمُرْشِدَةُ إِلَى النَّظَرِ فِي الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ، تَدُلُّ عَلَى عِنَايَةِ هَذَا الدِّينِ بِالْعِلْمِ بِكُلِّ مَا خَلَقَ اللهُ، وَمَا أَوْدَعَ فِيهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَنَافِعِ لِلنَّاسِ، لِيَزْدَادُوا فِي كُلِّ يَوْمٍ عِلْمًا بِدُنْيَاهُمْ، وَعِرْفَانًا وَإِيمَانًا بِرَبِّهِمْ، كُلَّمَا رَتَّلُوا كِتَابَهُ، وَتَدَبَّرُوا آيَاتِهِ: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (٣٨: ٢٩) فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ خِيَارِهِمْ وَأَبْرَارِهِمْ.
الْبَابُ الثَّانِي
فِي الْوَحْيِ الْمُحَمَّدِيِّ وَهُوَ الْقُرْآنُ
الْقُرْآنُ مِنْ كَلَامِ اللهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا فَتَحْنَا لَهُ بَابًا خَاصًّا وَلَمْ نَذْكُرْهُ فِي صِفَاتِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْبَابِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ مَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ لَيْسَ مِنْ نَاحِيَةِ كَوْنِهِ صِفَةً لَهُ، بَلْ مِنْ نَاحِيَةِ كَوْنِهِ كِتَابًا مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِهِ لِهِدَايَةِ خَلْقِهِ. وَعَقِيدَةُ الْإِيمَانِ بِكُتُبِهِ تَعَالَى فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِهِ وَالْإِيمَانِ بِرُسُلِهِ، وَنُلَخِّصُ مَا يَخْتَصُّ بِالْقُرْآنِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فِي عَشْرِ مَسَائِلَ.
407
(١) افْتَتَحَ اللهُ هَذِهِ السُّورَةَ بِالْإِشَارَةِ إِلَى كِتَابِهِ الْحَكِيمِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْهَا، وَثَنَّى فِي الَّتِي تَلِيهَا بِالْإِنْكَارِ عَلَى النَّاسِ عَجَبَهُمْ مِنْ وَحْيِهِ إِلَى بَشَرٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ هَادِيًا لَهُمْ نَذِيرًا وَبَشِيرًا. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ دَلَائِلَ هَذَا الْوَحْيِ بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، وَتَفْنِيدَ شُبُهَاتِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُ وَحْيٌ فَاضَ مِنْ نَفْسِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وَعَقْلِهِ الْبَاطِنِ عَلَى لِسَانِهِ بِإِسْهَابٍ وَإِطْنَابٍ، فَكَانَ ذَلِكَ مُصَنَّفًا مُسْتَقِلًّا مُسْتَنْبَطًا مِنْ جُمْلَةِ الْقُرْآنِ وَعُلُومِهِ وَتَأْثِيرِهِ فِي الْعَالَمِ، فَنُشِيرُ إِلَى مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْهُ بِالْإِيجَازِ.
(٢) فِي الْآيَةِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنْهَا اقْتِرَاحُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْتِيَ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا الْقُرْآنِ أَوْ أَنْ يُبَدِّلَهُ، وَمَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُجِيبَهُمْ بِهِ مِنْ عَجْزِهِ عَنْ تَبْدِيلِهِ أَوِ الْإِتْيَانِ بِغَيْرِهِ، وَكَوْنِهِ لَا يَمْلِكُ مِنْ أَمْرِهِ فِيهِ إِلَّا اتِّبَاعَ مَا يُوحَى إِلَيْهِ مِنْ تَبْلِيغِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ (وَمِثْلُهُ فِي آخِرِ السُّورَةِ).
(٣ و٤) فِي الْآيَةِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا بَلَّغَهُمْ هَذَا الْقُرْآنَ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى وَتَسْخِيرِهِ، فَلَوْ شَاءَ تَعَالَى أَلَّا يَتْلُوَهُ عَلَيْهِمْ لَمَا تَلَاهُ، وَلَوْ شَاءَ تَعَالَى أَلَّا يُدْرِيَهُمْ وَلَا يُعْلِمَهُمْ بِهِ لَمَا أَدْرَاهُمْ: فَهُوَ الَّذِي أَقْرَأَهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ قَارِئًا: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (٩٦: ١) وَ (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى) (٨٧: ٦) وَهُوَ الَّذِي عَلَّمَهُ وَجَعَلَهُ مُعَلِّمًا (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) (٤: ١١٣) وَ (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) (٤٢: ٥٢) إِلَخْ.
(٥) أَنَّهُ أَيَّدَ هَذَا بِالْحُجَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْقَاطِعَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ لَبِثَ فِيهِمْ عُمُرًا طَوِيلًا مِنْ قَبْلِهِ، وَهُوَ سِنُّ الْإِدْرَاكِ وَالصِّبَا فَالشَّبَابِ حَتَّى بَلَغَ أُشَدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، لَا يَقْرَأُ وَلَا يُقْرِئُ، وَلَا يَتَعَلَّمُ وَلَا يُعَلِّمُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا (أَيِ الْآيَةِ ١٦) أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَ حُكَمَاءِ التَّارِيخِ بِالتَّجَارِبِ وَالِاسْتِقْرَاءِ أَنَّ جَمِيعَ مَعَارِفِ الْبَشَرِ الْكَسْبِيَّةِ وَاسْتِعْدَادَهُمْ لِلْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، إِنَّمَا يَظْهَرَانِ وَيَبْلُغَانِ أَوْجَ قُوَّتِهِمَا مِنَ النَّشْأَةِ الْأُولَى إِلَى مُنْتَصَفِ الْعُشْرِ الثَّالِثِ مِنَ الْعُمُرِ، وَلَا يَكُونُ بَعْدَهُ إِلَّا التَّمْحِيصُ وَالتَّكْمِيلُ وَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ عِلْمٌ وَلَا بَيَانٌ وَلَا عَمَلٌ إِصْلَاحِيٌّ عَامٌّ دِينِيٌّ أَوْ دُنْيَوِيٌّ إِلَّا بِهَذَا الْوَحْيِ الَّذِي فُوجِئَ بِهِ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الْأَرْبَعِينَ،
وَيَلِيهَا فِي الْآيَةِ ١٧ أَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ ظُلْمًا لِنَفْسِهِ مَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا بِآيَاتِ اللهِ، وَأَنَّهُ مِنَ الْمُجْرِمِينَ الَّذِينَ لَا يُفْلِحُونَ، فَهَلْ يَرْتَكِبُ هَذَا الظُّلْمَ مَنْ يَعْلَمُ هَذَا؟ وَلِمَاذَا يَرْتَكِبُهُ وَقَدْ عَرَفَ قُبْحَهُ كَبِيرًا، بَعْدَ أَنْ نَشَأَ عَلَى الْتِزَامِ الصِّدْقِ صَغِيرًا، وَاشْتُهِرَ بِهِ وَبِالْوَفَاءِ عِنْدَ الْمُعَاشِرِينَ، حَتَّى لَقَّبُوهُ بِالْأَمِينِ؟.
(٦) فِي الْآيَةِ الثَّامِنَةِ وَالثَّلَاثِينَ حِكَايَةٌ عَنِ الْمُشْرِكِينَ: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ)
وَأَمْرُهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ بِتَحَدِّيهِمْ بِالْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وَدَعْوَةِ مَنِ اسْتَطَاعُوا مِنْ دُونِ اللهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ
408
بِعِلْمِهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَإِلَّا كَانُوا كَاذِبِينَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُ افْتَرَاهُ ; إِذْ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَفْتَرِيَ الْإِنْسَانُ مَا هُوَ عَاجِزٌ كَغَيْرِهِ عَنْهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا مَعْنَى التَّحَدِّي وَالْعَجْزِ، وَمَوْضُوعَ الْإِعْجَازِ اللَّفْظِيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، وَهَلْ يَدْخُلُ فِيهِ قِصَارُ السُّوَرِ مُطْلَقًا أَوْ مُقَيَّدًا؟ (رَاجِعْ تَفْسِيرَهَا تَجِدْ فِيهِ مَا لَا تَجِدُهُ فِي غَيْرِهِ).
(٧ و٨) فِي الْآيَةِ ٣٩ ذَكَرَ إِضْرَابَهُمْ عَنِ التَّكْذِيبِ الْمُطْلَقِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ ذَلِكَ الْقَوْلُ، إِلَى التَّكْذِيبِ الْمُقَيَّدِ بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ، وَفِي الْآيَةِ ٤٠ كَوْنُهُمْ فَرِيقَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ، وَفِي تَفْسِيرِ الْأُولَى مِنْهُمَا تَحْقِيقُ مَعْنَى تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ، وَخَطَأُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ اطَّلَعْنَا عَلَى كُتُبِهِمْ فِي فَهْمِ التَّأْوِيلِ بِحَمْلِهِ عَلَى التَّأْوِيلِ الِاصْطِلَاحِيِّ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ وَالْأُصُولِ، حَاشَ الْإِمَامِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ.
(٩) فِي الْآيَةِ ٥٧ بَيَانُ أَنْوَاعِ إِرْشَادِ الْقُرْآنِ وَإِصْلَاحِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ).
(١٠) فِي الْآيَتَيْنِ ١٠٨ و١٠٩ وَهُمَا خَاتِمَةُ السُّورَةِ خُلَاصَةُ تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ، وَمَوْضُوعُ الْأُولَى فِي خِطَابِ النَّاسِ كَافَّةً أَنَّهُ قَدْ جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَهُمْ مُخْتَارُونَ فِي الِاهْتِدَاءِ بِهِ وَالضَّلَالِ عَنْهُ، وَمَوْضُوعُ الثَّانِيَةِ أَمْرُ الرَّسُولِ بِاتِّبَاعِ مَا يُوحَى إِلَيْهِ تَبْلِيغًا وَعَمَلًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ.
الْبَابُ الثَّالِثُ
فِي النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَفِيهِ فَصْلَانِ
(الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي الرِّسَالَةِ الْعَامَّةِ وَالرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ وَفِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ)
(١) فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ السُّورَةِ إِثْبَاتُ وَحْيِ الرِّسَالَةِ، وَأَنَّ الرُّسُلَ رِجَالٌ مِنَ النَّاسِ، وَأَنَّ وَظِيفَتَهُمُ الْإِنْذَارُ وَالتَّبْشِيرُ، وَأَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ الْبَشَرُ رُسُلًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَكَانُوا يُسَمُّونَ آيَاتِ الرَّسُولِ إِلَيْهِمْ سِحْرًا وَيُسَمُّونَهُ سَاحِرًا.
(٢) فِي الْآيَةِ ١٣ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَهْلَكَ الْقُرُونَ (الْأُمَمَ) الْقَدِيمَةَ لَمَّا ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
بِالشِّرْكِ وَالْإِجْرَامِ، وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِمْ فِي التَّبْلِيغِ عَنِ اللهِ تَعَالَى وَلَمْ يُؤْمِنُوا فَجَزَاهُمْ بِإِجْرَامِهِمْ.
(٣) فِي الْآيَةِ ٤٩ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ هَذَا لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالرُّسُلُ فِيهِ كَغَيْرِهِمْ كَمَا تَرَى فِي آيَاتِ تَوْحِيدِهِ.
(٤) فِي الْآيَةِ ٤٧ أَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا، فَلَيْسَتِ الرِّسَالَةُ خَاصَّةً بِبَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا يَدَّعُونَ، وَلَا بِهِمْ وَبِالْعَرَبِ كَمَا تَوَهَّمَ آخَرُونَ، وَالشُّبْهَةُ عَلَى هَذِهِ الْكُلِّيَّةِ أَنَّ
409
أَكْثَرَ أُمَمِ الْأَرْضِ وَثَنِيَّةٌ وَتَوَارِيخُهَا عَرِيقَةٌ فِي ذَلِكَ، كَقُدَمَاءِ الْمِصْرِيِّينَ وَالْكَلْدَانِيِّينَ وَالْأَشُورِيِّينَ وَالْفُرْسِ وَالْهِنْدِ وَالصِّينِ وَشُعُوبِ الْإِفْرِنْجِ الْقَدِيمَةِ وَكَذَا قُدَمَاءِ أَمْرِيكَةَ. وَجَوَابُهَا أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْأُمَمِ لَهَا أَدْيَانٌ قَائِمَةٌ عَلَى الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا جَمِيعُ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ، وَهِي الْإِيمَانُ بِاللهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَقَدْ طَرَأَتْ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا التَّقَالِيدُ الْوَثَنِيَّةُ طُرُوءًا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَبَاحِثِ الْوَحْيِ، وَشَوَاهِدُ ذَلِكَ ظَاهِرَةٌ فِي آخِرِ هَذِهِ الْأُمَمِ حَتَّى الْمُسْلِمِينَ.
(٥) فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا أَنَّ كُلَّ رَسُولٍ عَانَدَهُ قَوْمُهُ قَضَى اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ، وَالْآيَاتُ الَّتِي بَعْدَهَا فِي تَكْذِيبِ قَوْمِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَسَتُذْكَرُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي.
(٦) مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى هَذَا قِصَّةُ نُوحٍ مَعَ قَوْمِهِ فِي خُلَاصَةِ دَعْوَتِهِ لَهُمْ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِ، وَإِهْلَاكِ اللهِ إِيَّاهُمْ بِالْغَرَقِ، وَإِنْجَاءِ نُوحٍ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ، وَجَعْلِهِمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ، وَهِيَ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ ٧١ - ٧٣ وَيَلِيهَا آيَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الرُّسُلِ الَّذِينَ بُعِثُوا بَعْدَهُ إِجْمَالًا، وَيَلِيهَا قِصَّةُ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، وَغَايَتُهَا أَنَّهُ تَعَالَى أَهْلَكَ فِرْعَوْنَ وَمَنْ أَتْبَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَهُ بِالْغَرَقِ، وَأَنْجَى مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ وَجَعَلَهُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ إِلَى حِينٍ، وَهِيَ فِي الْآيَاتِ ٧٥ - ٩٣ وَسَنُبَيِّنُ مَا فِي هَاتَيْنِ الْقِصَّتَيْنِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْعِبَرِ فِي قَصَصِ الرُّسُلِ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ هُودٍ (عَلَيْهِ السَّلَامُ).
(٧) فِي الْآيَةِ ٩٨ الْعِبْرَةُ لِأَهْلِ مَكَّةَ بِقَوْمِ يُونُسَ، بِأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا عَذَابَ الْخِزْيِ وَالِاسْتِئْصَالِ بِعِنَادِهِمْ لِمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ كَمَا اسْتَحَقَّهُ قَوْمُ يُونُسَ، وَأَنَّهُمْ إِذَا آمَنُوا قَبْلَ وُقُوعِ هَذَا الْعَذَابِ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ كَمَا نَفَعَ قَوْمَ يُونُسَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ.
(الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -)
وَسِيرَتِهِ مَعَ قَوْمِهِ وَعَاصِمَةِ بِلَادِهِ، وَنَجْعَلُ آيَاتِهِ فِي أَحَدَ عَشَرَ نَوْعًا
(١) فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ الْكَافِرِينَ أَنْكَرُوا دَعْوَةَ نُبُوَّتِهِ، وَعَجِبُوا مِنْهَا أَنْ كَانَ رَجُلًا مِنْهُمْ يُوحَى إِلَيْهِ، وَسَمُّوا آيَتَهُ سِحْرًا وَنَبَزُوهُ بِلَقَبِ سَاحِرٍ مُبِينٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْوَحْيِ وَعَلَى الرِّسَالَةِ الْعَامَّةِ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشُبْهَةُ السِّحْرِ لَا تُخِيلُ (أَيْ لَا تَشْتَبِهُ؛ مِنْ أَخَالَ الْأَمْرُ إِذَا أَشْكَلَ وَاشْتَبَهَ) فِي الْقُرْآنِ كَالْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ، وَإِنَّمَا قَالُوهُ تَكَلُّفًا وَعِنَادًا.
(٢) فِي الْآيَةِ ١٥ أَنَّهُمُ اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا الْقُرْآنِ الَّذِي أَعْجَزَهُمْ أَمْرُهُ أَوْ أَنْ يُبَدِّلَهُ، وَفِي الْآيَةِ ١٦ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِمَا تَقَدَّمَ مُفَصَّلًا، وَيَلِيهَا تَأْيِيدُ الرَّدِّ.
(٣) فِي الْآيَةِ ٢٠ اقْتِرَاحُهُمْ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ كَوْنِيَّةٍ وَجَوَابُهُ لَهُمْ: وَفِي الْآيَتَيْنِ ٩٦، ٩٧ أَنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللهِ بِفَقْدِهِمُ الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَانِ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَهُمْ كُلُّ آيَةٍ كَوْنِيَّةٍ مِمَّا اقْتَرَحُوا وَمِمَّا لَمْ يَقْتَرِحُوا.
410
(٤) فِي الْآيَةِ ٣٧ بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُفْتَرًى مَنْ دُونِ اللهِ ; إِذْ لَا يَقْدِرُ عَلَى مِثْلِهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ، وَأَنَّهُ تَصْدِيقٌ لِمَا تَقَدَّمَهُ مِنْ دَعْوَةِ الرُّسُلِ، وَتَفْصِيلٌ لِمَا أُجْمِلَ فِيمَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ، فَهُوَ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا رَيْبَ فِيهِ ; لِأَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَانَ يَدْرِي شَيْئًا مِمَّا نَزَلَ فِيهِ.
(٥) فِي الْآيَةِ ٣٨ تَحَدِّي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا افْتَرَاهُ، وَهُوَ مُطَالَبَتُهُمْ بِالْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وَاسْتِعَانَتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِمَنْ يَسْتَطِيعُونَ اسْتِعَانَتَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى.
(٦) فِي الْآيَةِ ٣٩ الْإِضْرَابُ عَنِ التَّكْذِيبِ الْمُطْلَقِ إِلَى التَّكْذِيبِ بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ، وَهُوَ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ بِقِسْمَيْهِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ.
(٧) فِي الْآيَاتِ ٤٠ - ٤٥ أَنَّ مِنْ أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ، وَمُنَاقَشَةُ الْمُكَذِّبِينَ، وَوَصْفُ حَالِ مَنْ فَقَدُوا الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَانِ بِحَيْثُ لَا يَعْقِلُونَ الدَّلَائِلَ السَّمْعِيَّةَ وَلَا الْبَصَرِيَّةَ، وَإِبْهَامُ أَمْرِ مَا وُعِدُوا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ هَلْ يَقَعُ فِي حَيَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَحِكْمَةُ هَذَا الْإِبْهَامِ لَهُ وَاسْتِعْجَالُهُمْ بِهِ،
وَكَوْنُهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهِ عِنْدَ وُقُوعِهِ فَلَا يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ يَوْمَئِذٍ - وَسُؤَالُهُمْ: أَحَقٌّ هُوَ؟ وَجَوَابُهُمْ بِالْقَسَمِ: (إِنَّهُ لَحَقٌّ) لِأَنَّ وَعْدَ اللهِ كُلَّهُ حَقٌّ، وَفِي تَفْسِيرِنَا لَهُ بَيَانُ قِلَّةِ الْكَذِبِ فِي الْعَرَبِ، وَاحْتِرَامُ الْقَسَمِ بِاللهِ تَعَالَى، وَاشْتِهَارُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ فِيهِمْ مِنْ صِغَرِهِ.
(٨) بَعْدَ أَنْ أَيَّدَ اللهُ دَعَوْتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقِصَّتَيْ نُوحٍ وَمُوسَى بِالْإِيجَازِ مُفَصَّلَةً، وَذَكَرَ مَنْ بَيْنَهُمَا بِالْإِشَارَةِ الْمُجْمَلَةِ، أَخْبَرَهُ أَنَّ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ مِنْ ذَلِكَ، فَلَوْ أَنَّهُ كَانَ فِي شَكٍّ مِنْهُ وَسَأَلَهُمْ لَأَجَابُوا: إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِكَوْنِهِ لَا مَوْضِعَ لِلِامْتِرَاءِ بِهِ.
(٩) كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحْزِنُهُ تَكْذِيبُ قَوْمِهِ لَهُ وَكُفْرُهُمْ بِمَا جَاءَ بِهِ، فَنَهَاهُ اللهُ عَنْ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ ٦٥ وَكَانَ يَتَمَنَّى إِيمَانَهُمْ كُلِّهِمْ فَجَاءَهُ فِي الْآيَاتِ ٩٦ - ١٠١ بَيَانُ سُنَّةِ اللهِ فِي اخْتِلَافِ اسْتِعْدَادِ النَّاسِ لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُمْ كُلَّهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَلَكَانُوا غَيْرَ هَذَا النَّوْعِ مِنْ خَلْقِ اللهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ، وَإِذَنْ لَا يَقْدِرُ الرَّسُولُ وَلَا غَيْرُهُ عَلَى إِكْرَاهِهِمْ عَلَى الْإِيمَانِ، وَأَنَّ الْآيَاتِ لَا تَنْفَعُ إِلَّا الْمُسْتَعِدِّينَ لِلْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ، وَأَنَّ النَّجَاةَ لِرُسُلِ اللهِ وَمَنْ آمَنَ بِهِمْ بِمُقْتَضَى سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ.
(١٠) خَتَمَ السُّورَةَ مِنَ الْآيَةِ ١٠٤ - ١٠٩ بِتَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ إِلَى تَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ وَالْعُبُودِيَّةِ الْمَحْضِ، وَكَوْنِ الْحَقِّ قَدْ تَبَيَّنَ، فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ ضَلَّ فَعَلَيْهَا، وَإِنَّمَا الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُبَلِّغٌ لَا وَكِيلٌ لِلَّهِ مُتَصَرِّفٌ فِي أَمْرِ عِبَادِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْتَظِرَ حُكْمَهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ.
411
(١١) إِعْلَامُهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ فِي الْآيَةِ ١٤ بِأَنَّهُ جَعَلَهُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا بَعْدَ إِهْلَاكِ أَكْثَرِ الْقُرُونِ الْأُولَى مِنْ أَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُعَانِدِينَ لِرُسُلِهِمْ، وَتَحْرِيفِ آخَرِينَ لِأَدْيَانِهِمْ، وَنَسْخِهِ تَعَالَى لِمَا بَقِيَ مِنْهَا بِبِعْثَةِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَنَّهُ يَخْتَبِرُهُمْ بِهَذِهِ الْخِلَافَةِ فَيَجْزِيهِمْ بِمَا يَعْمَلُونَ فِيهَا، وَأَخَّرْنَا هَذَا لِأَنَّهُ ثَمَرَةُ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ فِي الدُّنْيَا كَمَا وَعَدَهُمْ وَأَنْجَزَ وَعْدَهُ لَهُمْ بِشَرْطِهِ فِي الْآيَةِ (٢٤: ٥٥) مِنْ سُورَةِ النُّورِ.
الْبَابُ الرَّابِعُ
فِي الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَنُلَخِّصُ آيَاتِهِ فِي بِضْعَةِ أَنْوَاعٍ
(١) الْآيَةُ الرَّابِعَةُ ذِكْرُ رُجُوعِ النَّاسِ جَمِيعًا إِلَى اللهِ رَبِّهِمُ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ بِأَجْنَاسِهِ وَأَنْوَاعِهِ الْمُخْتَلِفَةِ، ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ بِالْقِسْطِ، وَالْكَافِرِينَ بِمَا ذَكَرَهُ إِجْمَالًا، وَبَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا كَوْنَهُ بِالْقِسْطِ أَيْضًا كَمَا تَرَى بَيَانَهُ فِي النَّوْعِ الرَّابِعِ، وَكَوْنَ جَزَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُضَاعَفُ كَمَا ذُكِرَ فِي غَيْرِهَا.
(٢) فِي الْآيَاتِ ٧ - ١١ تَفْصِيلٌ لِجَزَاءِ الْفَرِيقَيْنِ، مَعَ تَعْلِيلٍ طَبِيعِيٍّ عَقْلِيٍّ لِتَأْثِيرِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ فِي الْأَنْفُسِ، وِفَاقًا لِلْقَاعِدَةِ الَّتِي قَرَّرْنَاهَا مِرَارًا مِنْ أَنَّ جَزَاءَ الْآخِرَةِ أَثَرٌ لَازِمٌ لِسِيرَتِهَا فِي الدُّنْيَا، بِجَعْلِهَا أَهْلًا بِطَبْعِهَا وَصِفَاتِهَا لِجِوَارِ اللهِ وَرِضْوَانِهِ أَوْ لِسُخْطِهِ.
(٣) فِي الْآيَاتِ ٢٤ - ٣٠ تَفْصِيلٌ آخَرُ مُوَضَّحٌ بِضَرْبِ الْمَثَلِ، فِيهِ تَصْرِيحٌ بِالزِّيَادَةِ فِي جَزَاءِ الْمُحْسِنِينَ عَمَّا يَسْتَحِقُّونَ، وَكَوْنُ جَزَاءِ الْمُسِيئِينَ بِالْمِثْلِ، وَكَوْنُ كُلِّ نَفْسٍ تَبْلُو فِي الْآخِرَةِ مَا أَسْلَفَتْ فِي الدُّنْيَا، لَا يَنْفَعُ أَحَدٌ أَحَدًا بِنَفْسِهِ وَلَا بِعَمَلِهِ.
(٤) فِي الْآيَاتِ ٤٥ - ٥٦ سِيَاقٌ رَابِعٌ مُفْتَتَحٌ بِالتَّذْكِيرِ بِيَوْمِ الْحَشْرِ، وَتَقْدِيرِ النَّاسِ لِمُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِسَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ، وَخُسْرَانِ الْمُكَذِّبِينَ بِلِقَاءِ اللهِ، وَتَأْكِيدِ وَعْدِ اللهِ بِهِ، وَاسْتِبْطَائِهِمْ لَهُ، وَاسْتِعْجَالِهِمْ بِهِ، وَاسْتِنْبَائِهِمُ الرَّسُولَ: أَحَقٌّ هُوَ؟ وَحَالِهِمْ عِنْدَ وُقُوعِهِ، وَتَمَنِّيهِمُ الِافْتِدَاءَ مِنْهُ بِكُلِّ مَا فِي الْأَرْضِ، وَإِسْرَارِهِمُ النَّدَامَةَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْعَذَابِ، وَالْقَضَاءِ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) وَهَذَا الْأَخِيرُ فِي الْآيَتَيْنِ ٤٧ و٥٤.
(٥) فِي الْآيَاتِ ٦٢ - ٦٤ ذِكْرُ أَوْلِيَاءِ اللهِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ، (وَأَنَّهُمْ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)، وَأَنَّ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
(٦) فِي الْآيَتَيْنِ ٦٩ و٧٠ ذِكْرُ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللهِ وَكَوْنِهِمْ لَا يُفْلِحُونَ، لَهُمْ مَتَاعٌ قَلِيلٌ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ إِلَى اللهِ فَيُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ.
(٧) فِي الْآيَةِ ٩٣ عَقِبَ قِصَّةِ مُوسَى مَعَ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ وَنَجَاةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ
بَعْدَ هَلَاكِهِمْ،
412
أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ، وَأَنَّ اللهَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.
إِذَا عَدَدْتَ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَجَدْتَهَا تَبْلُغُ زُهَاءَ الثُّلُثِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَلَكِنَّكَ لَا تَشْعُرُ عِنْدَمَا تَقْرَأُ السُّورَةَ أَنَّكَ تُكَرِّرُ مَعْنًى وَاحِدًا فِيهَا يَبْلُغُ هَذَا الْقَدْرَ مِنْهَا، وَإِنَّمَا يَسْتَقِرُّ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَلْبِكَ وَيَمْلَؤُهُ إِيمَانًا بِلِقَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَالْخَوْفِ مِنْ حِسَابِهِ وَعِقَابِهِ، وَالرَّجَاءِ فِي عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ وَثَوَابِهِ، وَمَا كَانَ التَّكْرَارُ إِلَّا لِأَجْلِ هَذَا، فَهَلْ يَسْتَطِيعُ أَبْلَغُ الْبَشَرِ أَنْ يَأْتِيَ بِكَلَامٍ كَهَذَا؟ لَا لَا.
الْبَابُ الْخَامِسُ
فِي صِفَاتِ الْبَشَرِ وَخَلَائِقِهِمْ وَعَادَاتِهِمْ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَسُنَنِ اللهِ فِيهَا وَهِيَ نَوْعَانِ
(النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الصِّفَاتُ الذَّمِيمَةُ الَّتِي تَجِبُ مُعَالَجَتُهَا بِالتَّهْذِيبِ الدِّينِيِّ)
(الْأُولَى: الْعَجَلُ وَالِاسْتِعْجَالُ) قَالَ اللهُ تَعَالَى: (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ) (٢١: ٣٧) وَقَالَ: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا) (١٧: ١١) وَمِنْ شَوَاهِدِ هَذِهِ الْغَرِيزَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) (١١) وَمِنْهَا اسْتِعْجَالُهُمْ بِالْعَذَابِ الَّذِي وَعَدَهُمُ اللهُ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا تَرَاهُ فِي سِيَاقِهِ مِنَ الْآيَتَيْنِ ٥٠ و٥١.
(الثَّانِيَةُ: الظُّلْمُ) قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (١٤: ٣٤) وَقَالَ فِي آيَةِ الْأَمَانَةِ: (وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) (٣٣: ٧٢) وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى هَذِهِ الْخَلِيقَةِ أَوِ الشِّيمَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَا تَرَاهُ فِي الْآيَاتِ ٤٤ و٨٥ و١٠٦.
(الثَّالِثَةُ: الْكُفْرُ بِاللهِ وَبِنِعَمِهِ) قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ الْإِنْسَانِ مِنْ سُورَتِهِ سُورَةِ الدَّهْرِ: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (٧٦: ٣) وَوَصَفَهُ بِالْكَفُورِ فِي سُورِ الْإِسْرَاءِ وَالْحَجِّ وَالشُّورَى، وَبِالْكَفَّارِ (بِالْفَتْحِ لِلْمُبَالَغَةِ) فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ وَذُكِرَتْ آنِفًا، وَلَكِنَّ ذِكْرَ الْكُفْرِ بِلَفْظِهِ وَمُشْتَقَّاتِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَلِيلٌ، ذُكِرَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ الْكَافِرُونَ بِالْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَفِي الْآيَةِ الرَّابِعَةِ جَزَاءُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْآخِرَةِ
بِكُفْرِهِمْ، وَذُكِرَ فِي الْآيَةِ ٨٦ فِي دُعَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالنَّجَاةِ مِنْ حُكْمِ الْكَافِرِينَ.
وَأَمَّا ذِكْرُهُ بِالْمَعْنَى فَهُوَ كَثِيرٌ فِيهَا، فَمِنْهُ مَا هُوَ بِلَفْظِ التَّكْذِيبِ وَعَدَمِ الرَّجَاءِ بِلِقَاءِ اللهِ،
413
وَمَا هُوَ بِلَازِمِهِ مِنَ الْفِسْقِ وَالْإِجْرَامِ وَالْبَغْيِ وَالطُّغْيَانِ وَالِاسْتِكْبَارِ، وَكَذَا الظُّلْمِ الَّذِي خَصَصْنَاهُ بِالذِّكْرِ.
(الرَّابِعَةُ: الشِّرْكُ بِاللهِ تَعَالَى) وَهُوَ عَادَةٌ صَارَتْ وِرَاثِيَّةً فِي الْأُمَمِ، وَذُكِرَ فِي الْآيَاتِ ١٨ و٢٨ و٣٤ و٣٥ و٦٦ و٧١ وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ.
(الْخَامِسَةُ: الْجَهْلُ وَاتِّبَاعُ الظَّنِّ وَالْخَرْصِ) الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْخَلِيقَةِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ جَاهِلًا لَا يَعْلَمُ شَيْئًا مِنْ ضَرُورِيَّاتِ حَيَاتِهِ، حَتَّى إِنَّ غَرَائِزَهُ الْخِلْقِيَّةَ أَضْعَفُ مِنْ غَرَائِزِ الْحَشَرَاتِ وَالْعَجْمَاوَاتِ، وَجَعَلَ عِمَادَ أَمْرِهِ عَلَى التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ التَّدْرِيجِيِّ، وَنُصُوصُ الْقُرْآنِ فِي هَذَا مَعْرُوفَةٌ كَقَوْلِهِ: (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا) (١٦: ٧٨) وَآيَةِ الْأَمَانَةِ وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي الظُّلْمِ. وَالنَّصُّ الصَّرِيحُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَا يَتِّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) (٣٦) وَقَوْلُهُ: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (٦٦).
(السَّادِسَةُ: الطَّبْعُ عَلَى الْقُلُوبِ) وَالْإِعْرَاضُ عَنْ آيَاتِ اللهِ فِي خَلْقِهِ مِمَّا يُدْرَكُ بِالسَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ، حَتَّى لَا تَعُودَ تَقَبْلُ مَا يُخَالِفُ تَقَالِيدَهَا الْمَوْرُوثَةَ وَالرَّاسِخَةَ بِمُقْتَضَى الْعَمَلِ، وَهُوَ نَصُّ قَوْلِهِ تَعَالَى: (كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) (٧٤) فَهُوَ صَرِيحٌ فِي كَوْنِهِ نَتِيجَةً مَعْلُولَةً لِاعْتِدَاءِ حُدُودِ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ كَمَا تَرَاهُ مُفَصَّلًا فِي تَفْسِيرِهَا، لَا كَمَا يَفْهَمُهُ الْكَثِيرُونَ مِنَ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ الصُّرَحَاءِ وَالْمُتَأَوِّلِينَ، وَغَايَةُ هَذِهِ النَّتِيجَةِ الْقَلْبِيَّةِ النَّفْسِيَّةِ فِي الدُّنْيَا الْحِرْمَانُ مِنَ الْإِيمَانِ بِمُقْتَضَى كَلِمَةِ اللهِ فِي نِظَامِ التَّكْوِينِ، وَمَا بَيَّنَهُ مِنْ كَلِمَةِ التَّكْلِيفِ، لِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِالْآيَاتِ الْمُرْشِدَةِ لِلْفِطْرَةِ إِلَى الْهِدَايَةِ، وَمَا هُوَ تَرَاهُ فِي الْآيَاتِ ٢٣ و٦٦ - ١٠١.
(السَّابِعَةُ: الْغُرُورُ وَالْبَطَرُ بِالرَّخَاءِ وَالنِّعَمِ) فَهُمْ فِي أَثْنَائِهَا يَمْكُرُونَ فِي آيَاتِ اللهِ وَيُشْرِكُونَ بِهِ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى إِذَا أَصَابَتْهُمُ الشَّدَائِدُ تَذَكَّرُوا وَأَخْلَصُوا فِي دُعَائِهِ، فَإِذَا كَشَفَهَا عَنْهُمْ عَادُوا إِلَى شِرْكِهِمْ وَفَسَادِهِمْ، كَمَا تَرَاهُ فِي الْآيَاتِ ٢١ - ٢٣ و٨٨.
نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي أَوَائِلِ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ بِمَكَّةَ، وَأَكْثَرُ أَهْلِهَا مُشْرِكُونَ مُعَانِدُونَ كَافِرُونَ ظَالِمُونَ مُجْرِمُونَ جَاهِلُونَ، مُسْتَكْبِرَةٌ رُؤَسَاؤُهُمْ، مُقَلِّدَةٌ دُهَمَاؤُهُمْ، فَكَانَ مُقْتَضَى هَذَا تَقْدِيمَ الْإِنْذَارِ فِيهَا عَلَى التَّبْشِيرِ كَمَا تَرَاهُ فِي أَوَّلِهَا ; وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُهَا فِي بَيَانِ الصِّفَاتِ وَالْخَلَائِقِ وَالْعَادَاتِ الْقَبِيحَةِ الضَّارَّةِ وَهُوَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَكَانَ النَّوْعُ الثَّانِي مِمَّا يُعْلَمُ أَكْثَرُهُ بِالِاسْتِنْبَاطِ، وَكَوْنِ أَصْلِ غَرَائِزِ الْإِنْسَانِ الِاسْتِعْدَادُ لِلْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَكَوْنِهِ مُخْتَارًا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَكَوْنِهِ فُطِرَ عَلَى تَرْجِيحِ مَا يَثْبُتُ عِنْدَهُ أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ،
414
أَوِ التَّجَارِبِ الْعَمَلِيَّةِ، وَكَوْنِ الدِّينِ مُؤَيِّدًا لِلْعَقْلِ، حَتَّى لَا يَغْلِبَ عَلَيْهِ الْهَوَى وَالْجَهْلُ.
فَتَأَمَّلِ الْأَصْلَ فِي تَكْوِينِ الْأُمَمِ وَوَحْدَتِهَا فِي فِطْرَتِهَا، ثُمَّ طُرُوءَ الِاخْتِلَافِ عَلَيْهَا فِي الْآيَةِ ١٩ - ثُمَّ انْظُرْ فِي مُقَدِّمَةِ الدَّعْوَةِ الْعَامَّةِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً فِي آخِرِ السُّورَةِ مِنَ الْآيَةِ ٩٩ - ١٠٣ وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي اسْتِعْدَادِهِمُ الْمَذْكُورِ، وَكَوْنِهِ اخْتِيَارِيًّا لَا إِكْرَاهَ فِيهِ، وَتَعْبِيرَهُ عَنْ سُنَّةِ اللهِ فِي تَرْجِيحِهِمُ الرِّجْسَ عَلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ بِجَعْلِهِ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ، وَلَا يَهْتَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَلَا يَعْتَبِرُونَ بِسُنَّتِهِ فِيمَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ أَقْوَامِ الرُّسُلِ، وَكَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ وَعَاقِبَةُ الرُّسُلِ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُمْ.
ثُمَّ تَأْمَّلْ خُلَاصَةَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ مِنْ خِطَابِ النَّاسِ فِي الْآيَةِ ١٠٤ إِلَى آخَرِ السُّورَةِ، مِنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الشَّاكِّينَ فِي دِينِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَوْنِ الشَّكِّ جَهْلًا، وَكَوْنِهِمْ إِنَّمَا يَعْبُدُونَ وَهْمًا، وَكَوْنِ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ هُوَ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ الْحَنِيفِيَّةِ، وَكَوْنِهِمْ يَعْبُدُونَ مَنْ لَا يَمْلِكُ لَهُمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَكَوْنِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ هُوَ الْحَقَّ، وَكَوْنِهِمْ مُخْتَارِينَ فِي الِاهْتِدَاءِ وَالضَّلَالِ، وَكَوْنِ مَا يَخْتَارُونَهُ إِمَّا لِأَنْفُسِهِمْ وَإِمَّا عَلَيْهَا، وَكَوْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ مُوَكَّلًا بِهِدَايَتِهِمْ وَلَا مُسَيْطِرًا عَلَيْهِمْ.
وَهَذِهِ الْخُلَاصَةُ إِجْمَالٌ لِمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ فِي السُّورَةِ وَغَيْرِهَا، فَارْجِعْ إِلَى تَذْكِيرِهِمْ بِالدَّلَائِلِ الْكَوْنِيَّةِ فِي الْآيَةِ الثَّالِثَةِ الَّتِي تُشِيرُ إِلَى أَنَّهَا مَغْرُوسَةٌ فِي أَعْمَاقِ أَنْفُسِهِمْ، وَبِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ بِقَوْلِهِ فِي الْخَامِسَةِ: (يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) وَفِي السَّادِسَةِ
(لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) وَخِطَابِهِ فِي الْآيَةِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ لِلْعَقْلِ بِقَوْلِهِ: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) وَفِي الرَّابِعَةِ وَالْعِشْرِينَ لِلْفِكْرِ بِقَوْلِهِ: (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ثُمَّ ارْجِعْ إِلَى قَوْلِهِ بَعْدَ إِقَامَةِ طَائِفَةٍ مِنَ الدَّلَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ الْكَوْنِيَّةِ: (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) الْآيَاتِ ٣٥ - ٣٩، ثُمَّ إِلَى بَيَانِهِ لَهُمْ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ أُصُولِ التَّزْكِيَةِ وَالتَّهْذِيبِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْآيَةِ ٥٧ وَمَا بَعْدَهَا - وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ فِي الْفُصُولِ السَّابِقَةِ.
415
(الْبَابُ السَّادِسُ)
فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ الَّتِي هِي الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ (عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ) وَمَا يُقَابِلُهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ، وَأَخَّرْنَاهُ لِأَنَّهُ الثَّمَرَةُ وَالنَّتِيجَةُ وَهُوَ قِسْمَانِ:
(الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ)
(١) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الرَّابِعَةِ: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ) وَالصَّالِحَاتُ مَا تَصْلُحُ بِهِ أَنْفُسُ الْأَفْرَادِ وَنِظَامُ الِاجْتِمَاعِ فِي الْبُيُوتِ وَالْأُمَّةِ وَالدَّوْلَةِ، هَذَا هُوَ الرُّكْنُ الثَّالِثُ مِمَّا جَاءَ بِهِ جَمِيعُ رُسُلِ اللهِ مُجْمَلًا، وَفُصِّلَ فِي كُلِّ مِلَّةٍ بِحَسْبِ مَا كَانَ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ فِيهَا، وَكُلُّ عَمَلٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ الدِّينِيَّةِ أَوِ الْمُعَامَلَاتِ الْمَدَنِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ لَا يُؤَدِّي إِلَى الصَّلَاحِ أَوِ الْإِصْلَاحِ فَهُوَ غَيْرُ صَالِحٍ، فَإِمَّا فَاسِدٌ فِي أَصْلِهِ، وَإِمَّا أُدِّيَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ.
(٢) قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ) (٩) وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا عَلَاقَةَ الْإِيمَانِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَكَوْنَ كُلٍّ مِنْهُمَا يَمُدُّ الْآخَرَ وَيَسْتَمِدُّ مِنْهُ، وَمَنْ لَمْ يَفْقَهْ هَذَا وَيَتَوَخَّهُ لَمْ يَفْقَهْ فِي دِينِهِ، وَلَمْ يَكُنْ بِهِ صَالِحًا يَسْتَحِقُّ الْجَزَاءَ الَّذِي وَعَدَ اللهُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا قَبْلَهَا، وَفِي أَمْثَالِهِمَا مِنْ طُولَى السُّورِ وَمِئِينِهَا وَمُفَصَّلِهَا حَتَّى أَقْصَرِهَا (وَهِيَ سُورَةُ وَالْعَصْرِ) وَيُؤَيِّدُ هَذَا اتِّحَادُ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ فِي الْمَاصَدَقِ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْمَفْهُومِ كَمَا تَرَى فِي الْآيَتَيْنِ ٨٤ و٩٠، فَمَفْهُومُ الْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ الْإِذْعَانِيُّ الْجَازِمُ بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الدِّينِ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ بِهِ،
وَمَفْهُومُ الْإِسْلَامِ التَّسْلِيمُ وَالِانْقِيَادُ بِالْفِعْلِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْإِيمَانِ، وَلَا يَصِحُّ فَيَكُونُ إِسْلَامًا إِلَّا بِهِ.
(٣) قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) (٢٦) ظَاهِرٌ فِي دَلَالَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ مُضَاعَفَةِ هَذَا الْجَزَاءِ.
(٤) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي التَّعْرِيفِ بِأَوْلِيَائِهِ: (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (٦٣) فَالتَّقْوَى جِمَاعُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الْحَسَنَةِ مَعَ اتِّقَاءِ الْأَعْمَالِ الْفَاسِدَةِ السَّيِّئَةِ، كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ أَبْسَطُهَا وَأَظْهَرُهَا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرَقَانًا) (٨: ٢٩) الْآيَةَ.
(٥) قَوْلُهُ حِكَايَةً لِوَصِيَّةِ مُوسَى لِقَوْمِهِ: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (٨٧).
(الْقِسْمُ الثَّانِي: فِي السَّيِّئَاتِ وَفِي الْأَعْمَالِ الْمُطْلَقَةِ بِقِسْمَيْهَا)
(٦) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي مُنْكِرِي الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، الرَّاضِينَ الْمُطَمْئِنِينَ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَحْدَهَا غَافِلِينَ عَنْ آيَاتِ اللهِ فِيهَا: (أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (٨).
(٧) قَوْلُهُ فِيمَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ، فَيَدْعُونَهُ فِي الضَّرَّاءِ وَيَنْسَوْنَهُ فِي السَّرَّاءِ: (كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢).
416
(٨) قَوْلُهُ بَعْدَ بَيَانِ بَغْيِ النَّاسِ فِي السَّرَّاءِ وَغُرُورِهِمْ بِمَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَوْنِ وَبَالِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي الْآيَاتِ ٢١ - ٢٣ (وَهِيَ بِمَعْنَى مَا قَبْلَهَا) :(ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٣).
(٩) قَوْلُهُ: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١٥).
(١٠) قَوْلُهُ: (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا) (٢٧) الْآيَةَ.
(١١) قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ: (ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينِ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (٥٢).
(١٢) قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ: (إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) (٨١).
(١٣) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْأَعْمَالِ الْمُطْلَقَةِ بِقِسْمَيْهَا: (ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (١٤).
(١٤) قَوْلُهُ تَعَالَى بِمَعْنَى مَا قَبْلَهُ أَيْضًا: (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) (٤١).
(١٥) قَوْلُهُ تَعَالَى بِمَعْنَى مَا قَبْلَهُ أَيْضًا: (وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) (٦١).
(١٦) قَوْلُهُ فِي الْوَصِيَّةِ الْعَامَّةِ مِنَ الدَّعْوَةِ الْعَامَّةِ مِنْ خَاتِمَةِ السُّورَةِ: (فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) (١٠٨).
فَنَسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُصْلِحَ أَعْمَالَنَا، وَيَجْعَلَ خَيْرَهَا خَوَاتِيمَهَا.
وَهَذَا آخَرُ مَا نَخْتِمُ بِهِ خُلَاصَةَ هَذِهِ السُّورَةِ الْبَلِيغَةِ، وَنَضْرَعُ إِلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِإِتْمَامِ تَفْسِيرِ كِتَابِهِ الْحَكِيمِ مُطَوَّلًا وَمُخْتَصَرًا، مُفَصَّلًا وَمُجْمَلًا، كَمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى مِنْ بَيَانِ الْحَقِّ، وَهِدَايَةِ الْخَلْقِ، وَلَهُ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ فِي كُلِّ فَاتِحَةٍ وَخَاتِمَةٍ.
وَصَلَّى الله عَلَى نَبِيِّ الرَّحْمَةِ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ، وَالْمُهْتَدِينَ مِنْ خَلْقِهِ
قَدْ جَعَلْنَا آخِرَ هَذِهِ السُّورَةِ آخِرَ الْجُزْءِ الْحَادِيَ عَشَرَ
417
- سُورَةُ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ
(وَهِيَ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ فِي الْمُصْحَفِ، وَآيَاتُهَا ١٢٣ آيَةً) :
هِيَ مَكِّيَّةٌ حَتْمًا كَالَّتِي قَبْلَهَا، وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ مِنْهَا ثَلَاثَ آيَاتٍ. الْأُولَى: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ ١٢ إِلَخْ. الثَّانِيَةَ: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ١٧ إِلَخْ. وَالثَّالِثَةَ: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ ١١٤ إِلَخْ. قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَ مَدَنِيَّةٌ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَلَا يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، إِلَّا مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الثَّالِثَةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْيَسَرِ وَغَيْرِهِ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِهَا.
وَقَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ يُونُسَ، وَهِيَ فِي مَعْنَاهَا وَمَوْضُوعِهَا الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَهُوَ أَصُولُ عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَالنُّبُوَّاتِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَعَمَلِ الصَّالِحَاتِ، وَقَدْ فُصِّلَ فِيهَا مَا أُجْمِلَ فِي سُورَةِ يُونُسَ مِنْ قَصَصِ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - وَهِيَ مُنَاسِبَةٌ لَهَا كُلَّ الْمُنَاسَبَةِ بِبَرَاعَةِ الْمَطْلَعِ فِي فَاتِحَتِهَا، وَالْمَقْطَعِ فِي خَاتِمَتِهَا، وَتَفْصِيلِ الدَّعْوَةِ فِي أَثْنَائِهَا، فَقَدِ افْتُتِحَتَا بِذِكْرِ الْقُرْآنِ بَعْدَ الر، وَمِثْلُهُمَا فِي هَذَا مَا بَعْدَهُمَا مِنَ السُّوَرِ الْأَرْبَعِ إِلَّا الرَّعْدَ فَأَوَّلُهَا المر، وَذِكْرُ رِسَالَةِ النَّبِيِّ الْمُبَلَّغِ لَهُ عَنِ اللهِ - تَعَالَى - وَبَيَانُ وَظِيفَتِهِ فِيهَا، وَهُوَ الْإِنْذَارُ وَالتَّبْشِيرُ، وَخُتِمَتَا بِخِطَابِ النَّاسِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَرَهُ فِي الْأُولَى بِالصَّبْرِ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَافِرِينَ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِالِانْتِظَارِ ; أَيِ انْتِظَارِ هَذَا الْحُكْمِ مِنْهُ - تَعَالَى - مَعَ الِاسْتِقَامَةِ عَلَى عِبَادَتِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ.
وَذُكِرَ فِي أَثْنَاءِ كُلٍّ مِنْهُمَا التَّحَدِّي بِالْقُرْآنِ، رَدًّا عَلَى الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِ افْتَرَاهُ، وَلَكِنَّ هَذَا الْمَوْضُوعَ فِي الْأُولَى أَوْفَى مِنْهُ فِي الثَّانِيَةِ، وَكَذَا مُحَاجَّةُ الْمُشْرِكِينَ فِي أُصُولِ الدِّينِ كُلِّهَا، فَقَدْ أُجْمِلَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَا فُصِّلَ فِي الْأُخْرَى مَعَ فَوَائِدَ انْفَرَدَتْ بِهَا كُلٌّ مِنْهُمَا، فَهُمَا بِاتِّفَاقِ الْمَوْضُوعِ، وَاخْتِلَافِ النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ، آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الْإِعْجَازِ، تَخِرُّ لِتِلَاوَتِهِمَا الْوُجُوهُ لِلْأَذْقَانِ، سَاجِدَةً لِلرَّحْمَنِ.
3
Icon