ﰡ
فهكذا حال الدنيا والواثق بها سواء.
وهذا من أبلغ التشبيه والقياس.
ولما كانت الدنيا عرضة لهذه الآفات والجنة سليمة منها، قال :﴿ والله يدعو إلى دار السلام ﴾ [ يونس : ٢٥ ] فسماها هنا دار السلام، لسلامتها من هذه الآفات التي ذكرها في الدنيا، فعم بالدعوة إليها، وخص بالهداية من يشاء. فذاك عدله، وهذا فضله.
فإن قيل : فهل يظهر فرق بين قوله تعالى في سورة يونس :
﴿ قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله ﴾ [ يونس : ٣١ ] وبين قوله في سورة سبأ :﴿ قل من يرزقكم من السماء والأرض ﴾ [ سبأ : ٢٤ ].
قيل : هذا من أدق هذه المواضع وأغمضها، وألطفها فرقا، فتدبر السياق تجده نقيضا لما وقع، فإن الآيات التي في يونس سيقت مساق الاحتجاج عليهم بما أقروا به، ولم يمكنهم إنكاره من كون الرب تعالى هو رازقهم، ومالك أسماعهم وأبصارهم، ومدبر أمورهم وغيرها. ومخرج الحي من الميت والميت من الحي.
فلما كانوا مقرين بهذا كله حسن الاحتجاج به عليهم : إن فاعل هذا هو الله الذي لا إله غيره، فكيف يعبدون معه غيره ويجعلون له شركاء لا يملكون شيئا من هذا، ولا يستطيعون فعل شيء منه ولهذا قال بعد أن ذكر ذلك من شأنه تعالى :﴿ فسيقولون الله ﴾ [ يونس : ٣١ ] أي لا بد أنهم يقرون بذلك، ولا يجحدونه، فلا بد أن يكون المذكور مما يقرون به.
والمخاطبون المحتج عليهم بهذه الآية إنما كانوا مقرين بنزول الرزق من قبل هذه السماء التي يشاهدونها بالحق، ولم يكونوا مقرين ولا عالمين بنزول الرزق من سماء إلى سماء، حتى تنتهي إليهم، ولم يصل علمهم إلى هذا، فأفردت لفظ السماء هنا ؛ فإنه لا يمكنهم إنكار مجيء الرزق منها، لاسيما والرزق هاهنا إن كان هو المطر فمجيئه من السماء التي هي السحاب، فإنه يسمى سماء لعلوه، وقد أخبر سبحانه أنه بسط السحاب في السماء بقوله :﴿ الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ﴾ [ الروم : ٤٨ ]. والسحاب إنما هو مبسوط في جهة العلو، لا في نفس الفلك، وهذا معلوم بالحس، فلا يلتفت إلى غيره، فلما انتظم هذا بذكر الاحتجاج عليهم لم يصلح فيه إلا إفراد السماء ؛ لأنهم لا يقرون بما ينزل من فوق ذلك من الأرزاق العظيمة للقلوب والأرواح.
ولا بد من الوحي الذي به الحياة الحقيقية الأبدية، وهو أولى باسم الرزق من المطر الذي به الحياة الفانية المنقضية.
فما ينزل من فوق ذلك من الوحي والرحمة والألطاف والموارد الربانية، والتنزلات الإلهية، وما به قوام العالم العلوي والسفلي من أعظم أنواع الرزق، ولكن القوم لم يكونوا مقرين به، فخوطبوا بما هو أقرب الأشياء إليهم، بحيث لا يمكنهم إنكاره.
وأما الآية التي في سورة سبأ : فلم ينتظم بها ذكر إقرارهم بما ينزل من السماوات، ولهذا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يتولى الجواب فيها، ولم يذكر عنهم أنهم المجيبون المقرون. فقال :﴿ قل من يرزقكم من السماء والأرض ﴾ [ سبأ : ٢٣ ] ولم يقل : سيقولون الله. فأمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجيب بأن ذلك هو الله وحده الذي ينزل رزقه على اختلاف أنواعه ومنافعه من السماوات السبع.
وأما الأرض فلم يدع السياق إلى جمعها في واحدة من الاثنين إذ يقر به كل أحد مؤمن وكافر، وبر وفاجر.
قال تعالى :﴿ وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك ﴾ [ القصص : ٨٦ ] وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه :«فضل الله القرآن، ورحمته أن جعلنا من أهله ».
قلت : يريد بذلك أن هاهنا أمرين :
أحدهما : الفضل في نفسه. والثاني : استعداد المحل لقبوله، كالغيث يقع على الأرض القابلة للنبات فيتم المقصود بالفضل وقبول المحل له. والله أعلم.
[ الفرح في القرآن ]
وقد جاء الفرح في القرآن على نوعين :( مطلق، ومقيد ) :
فالمطلق : جاء في الذم كقوله :﴿ لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين ﴾ [ القصص : ٧٦ ] وقوله :﴿ إنه لفرح فخور ﴾ [ هود : ١٠ ].
والمقيد نوعان أيضا :( مقيد بالدنيا ) ينسي صاحبه فضل الله ومنته، فهو مذموم، كقوله :﴿ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ﴾ [ الأنعام : ٤٤ ].
والثاني : مقيد بفضل الله وبرحمته.
وهو نوعان أيضا : فضل ورحمة بالسبب، وفضل بالمسبب.
فالأول : كقوله :﴿ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ﴾. والثاني : كقوله :﴿ فرحين بما آتاهم الله من فضله ﴾ [ آل عمران : ١٧٠ ].
فالفرح بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وبالإيمان وبالسنة وبالعلم والقرآن من علامات العارفين.
قال الله تعالى :﴿ وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون ﴾ [ التوبة : ١٢٤ ] وقال :﴿ والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ﴾ [ الرعد : ٣٨ ].
فالفرح بالعلم والإيمان والسنة دليل على تعظيمه عند صاحبه ومحبته له. وإيثاره له على غيره، فإن فرح العبد بالشيء عند حصوله له على قدر محبته له ورغبته فيه، فمن ليس له رغبة في الشيء لا يفرحه حصوله، له ولا يحزنه فواته، فالفرح تابع للمحبة والرغبة، والفرق بينه وبين الاستبشار : أن الفرح بالمحبوب بعد حصوله، والاستبشار يكون به قبل حصوله إذا كان على ثقة من حصوله، ولهذا قال تعالى :﴿ فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ﴾ [ آل عمران : ١٨٠ ].
والفرح صفة كمال. ولهذا يوصف الرب تعالى بأعلى أنواعه وأكملها، كفرحه بتوبة التائب أعظم من فرحة الواحد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة بعد فقده لها واليأس من حصولها.
والمقصود : أن الفرح أعلى أنواع : نعيم القلب ولذته، وبهجته، والفرح والسرور : نعيمه. والهم والحزن : عذابه، والفرح بالشيء فوق الرضى به، فإن الرضى
طمأنينة وسكون وانشراح، والفرح لذة وبهجة وسروره، فكل فرح راض. وليس كل راض فرح. ولهذا كان الفرح ضد الحزن، والرضى ضد السخط، والحزن يؤلم صاحبه. والسخط لا يؤلمه، إلا إن كان مع العجز عن الانتقام. والله أعلم.
ثم جمع الضمير فقال :﴿ وأقيموا الصلاة ﴾ لأن إقامتها فرض على الجميع، ثم وحده في قوله :﴿ وبشر المؤمنين ﴾ لأن موسى هو الأصل في الرسالة وأخوه ردءه ووزيره، وكما كان موسى عليه السلام الأصل في الرسالة فهو الأصل في البشارة.
وأيضا : فإن موسى وأخاه – عليهما السلام – لما أرسلا برسالة واحدة كانا رسولا واحدا، كقوله تعالى :﴿ إني رسول رب العالمين ﴾ [ الشعراء : ١٦ ] فهذا الرسول هو الذي قيل له : وبشر المؤمنين.