تفسير سورة يونس

التفسير القرآني للقرآن
تفسير سورة سورة يونس من كتاب التفسير القرآني للقرآن المعروف بـالتفسير القرآني للقرآن .
لمؤلفه عبد الكريم يونس الخطيب . المتوفي سنة 1390 هـ

١٠- سورة يونس
نزولها: مكية.. باتفاق.
عدد آياتها: مائة آية، وتسع آيات.
عدد كلماتها: ألف وأربعمائة وتسع وتسعون كلمة.
عدد حروفها: سبعة آلاف وخمسة وستون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الآيات: (١- ٤) [سورة يونس (١٠) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤)
التفسير: مناسبة هذه السورة لما قبلها، هى أن سورة التوبة التي سبقتها قد ختمت بقوله تعالى: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ..»
928
وفى هذا إلفات للعرب عامة، ولقريش خاصة إلى الحقوق الإنسانية الواجبة عليهم نحو هذا الرسول. المبعوث إليهم من بينهم، ومن ذوى قرابتهم..
وهذه السورة، جاء ابتداؤها منكرا على قريش وعلى العرب تنكّرهم لهذا الرسول، ووقوفهم منه موقف المشاقة والعناد، مع ما بين يديه من آيات ربه، التي تشهد بأنه رسول رب العالمين.
فناسب لذلك أن تجىء سورة يونس، بعد سورة التوبة، إذ كانت خاتمة التوبة أشبه بسؤال، وكان بدء يونس أشبه بجواب لهذا السؤال...
أو كانت خاتمة التوبة تقريرا لحكم، وكان بدء يونس تعقيبا على هذا الحكم.
قوله تعالى: «الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ».
وتبدو واضحة هنا دلالة الحروف: «الر» حيث أشير إليها بأنها آيات الكتاب الحكيم.. بمعنى أن هذا الكتاب الحكيم، وهو القرآن الكريم، قد نظم من مثل هذه الأحرف، فجاء على تلك الصورة من الإحكام والإعجاز..
وعلى هذا، تكون «الر» مبتدأ وجملة «تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ» خبر هذا المبتدأ.
وهنا كلام محذوف يدل عليه سياق النظم الذي سبق هذه الآية فى آخر سورة التوبة، والذي جاء بعدها فى هذه السورة.. وتقدير هذا المحذوف هو:
الر تلك هى آيات الكتاب الحكيم، الذي جاء به هذا النبي العربي.. فماذا ينكر الناس من هذا الكتاب الحكيم؟ أو يكون التقدير هكذا: الر هى تلك آيات الكتاب الحكيم، الذي جاء به النبي العربي إلى قومه فردّوه وأنكروه!
929
ووصف الكتاب بالحكمة، هو الوصف اللائق به من أوصاف الكمال والجلال.. إذ الحكمة هى مجمع كل صفات الكمال.. وكل صفة من صفات الكمال لا تكون كاملة إلا إذا ازدانت بالحكمة، ووزنت بميزانها..
فلا تستغنى صفة من صفات الكمال عن الحكمة، على حين أن الحكمة مستغنية بنفسها عن كل صفة! ولهذا كان الوصف الملازم للقرآن، أو الغالب عليه هو الوصف بالحكمة.
وفى هذا يقول الله تعالى فى صفته: «يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ». ويقول جل شأنه: «وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ» (٤٤: الزخرف)..
ويقول سبحانه: «كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ» (١: هود).
قوله تعالى: «أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ».
فى هذه الآية إنكار على مشركى العرب خاصة موقفهم من الرسالة الإسلامية، وشغبهم على رسولها، وعجبهم ودهشهم من أن يكون المبعوث إليهم- رسولا- من الله، رجلا منهم.. إنهم لا يتصورون أن يكون إنسان يأكل كما يأكلون، ويشرب كما يشربون، ويولد كما يولدون، ويلد كما يلدون- لا يتصورون أن يكون مثل هذا الإنسان رسولا يوحى إليه من الله، ويتلقّى كلماته.. إنهم- لكى يقع فى تصورهم قيام رسول بين الله والناس- لا يقبلون هذا الرسول ولا يصدقونه، إلا إذا كان فى غير جلد البشر.. كأن يكون ملكا مثلا! وقد حكى القرآن تصوراتهم وأوهامهم تلك فى قوله
930
تعالى: «وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً» (٧: الفرقان) ولو عقلوا لعرفوا أن الملائكة لا تستقيم لهم مع الناس حياة، بل يكون ظهورهم فى الناس موضع فتنة لهم، تأخذ على ألبابهم، وتستولى على عقولهم، وتقيمهم فى الحياة مقاما مزعجا مضطربا.
ولو أنهم كانوا على شىء من النظر والرويّة، لنظروا أولا فى وجه تلك الدعوة التي يدعوهم الرسول إليها، ويريدهم على أن يأخذوا منها لدنياهم وأخراهم جميعا.. إذن لعرفوا أنها دعوة إلى خير خالص، ومسيرة إلى منهل عذب مصفّى.. وإنه ليس أخسر صفقة ولا أضلّ سبيلا من إنسان يدعى إلى خير فيتأبّى عليه، وينبه إلى نار تمتد بلهيبها إليه، فيلقى بنفسه بين ضرامها..
وهذه هى دعوة الرسول إليهم، وتلك هى رسالته فيهم: «أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ».. إنه ينذرهم ذاء يسكن فيهم، ويغتال وجودهم. وهو هذا الشرك الذي هم عليه.. ويبشرهم برضوان الله، ونعيم جناته إذا هم تخلصوا من هذا الداء، وآمنوا بالله، واستقاموا على شريعة الله!.. فماذا ينكر العقلاء من أمر دعوة هذه أوجهها، وتلك وجهتها؟
ثم ما شأنهم وشأن هذا الذي يدعوهم إلى هذا الخير؟ وماذا يعنيهم منه إن كان بشرا أو غير بشر؟ إنهم لو عقلوا لكان همهم الأول هو الأخذ بحظهم من هذا الخير المحمول إليهم.. ولكن أنّى للعمى أن يبصروا، وأنى للصمّ أن يسمعوا؟
- وفى قوله تعالى: «قَدَمَ صِدْقٍ» مجاز مرسل، يراد به مكان صدق ومنزلة صدق.. إذ كانت القدم هى العاملة الساعية إلى كل غاية يريد الإنسان بلوغها..
931
وإضافة القدم إلى الصدق، إشارة إلى الطريق الذي تسلكه هذه القدم، حتى تصل بصاحبها إلى جناب الله، وتنزل بساح رضوانه، ونعيمه، وهى طريق الحق، والصدق، وإلا كان مسعاها على الضلال، وإلى الضلال والبلاء.
والله سبحانه وتعالى يقول: «فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ» ؟
وقوله تعالى: «قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ» هو جواب عن سؤال يقتضيه هذا المقام، وينطق به لسان الحال، وهو: ماذا كان موقف الناس من تلك الدعوة التي جاءهم الرسول بها؟
والجواب الذي ينطق به الواقع هنا فى هذا الوقت هو: لقد استجاب له قليلون، وبهته وكدّبه كثيرون.
ولكن القرآن الكريم جاء بالجواب الذي يكشف عن المجرمين، ويمسك بهم وهم متلبسون بجريمتهم: «قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ»..
لقد ضلّوا، وعموا..
فما أبعد ما بين دعوة الرسول ومعطياتها، وبين السّحر وشعوذته!! وفى وصف السحر بأنه سحر مبين شهادة عليهم بأن القرآن على مستوى فوق مستوى ما يعرفون من كلام، وأنه من واردات السحر المبين العظيم، الذي لا يحسنونه!! وماذا عليهم لو قالوا إن هذا القرآن من عند الله، ومن واردات السماء، إذ كان عندهم فوق مستوى البشر؟
وقوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ»..
932
هو ردّ مفحم مخرس على قولهم: «إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ».
إن الصميم من الدعوة التي يدعوهم الرسول إليها، هو الإيمان بالله واتخاذه ربّا متفردا بالربوبية وحده، لا شريك له.. إنه خالقهم، وخالق كل شىء.
خلق السموات والأرض فى ستة أيام، وقام بجلاله وسلطانه على هذا الوجود الذي انفرد بخلقه، وانفرد بسلطانه عليه! فهكذا شأن كل مالك فيما ملك..
وهكذا شأن كل سلطان فيما تحت يده، أنه متسلط عليه، متصرف فيه كيف يشاء، وإلا فما استحق هذا الوصف. والله سبحانه، هو الذي يدبّر أمر الملك الذي تحت سلطانه، ويقدّر أقواته وأرزاقه، ويمسك وجوده، ويحفظ نظامه..
وليس لأحد شفاعة عنده فى أحد إلا بإذنه، فضلا وكرما منه، لمن أراد له الفضل والكرامة من عباده..
وأيّا ما كان لهذا المخلوق الذي أذن له بالشفاعة- من منزلة عند الله، فهو عبد من عباده، خاضع لمشيئته، مقرّ بعبوديته، خاشع لجلاله وعظمته!.
فما أضلّ هؤلاء الذين يتخذون من خلقه آلهة يعبدونها من دونه.. إنّهم يسقطون من عل، إذ يتخذون من المخلوقات آلهة لهم، ويدعون الخالق الذي خلقهم، وخلق ما يعبدون..
«وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ» (٢٦- ٢٩: الأنبياء)
933
- وقوله تعالى: «ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ» إشارة إلى الإله الحق، الذي ينبغى أن توجّه إليه الوجوه، وتسجد له الجباه.
- وفى قوله تعالى: «أَفَلا تَذَكَّرُونَ» تسفيه لهؤلاء الضالين، وتسخيف لأحلامهم، التي تركب الضلال، وتتنكب طريق الحق، وبين يديها صبح مشرق مبين.
قوله تعالى: «إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ».
هو استعراض لبعض قدرة الله، وفيه وعيد للكافرين، وأنهم ليسوا كما ظنّوا وقالوا: «إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ» (٣٧: المؤمنون) لقد كذّبتهم أنفسهم، وغرّهم بالله الغرور..
«أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» (٤- ٦: المطففين) «ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ» (٥١- ٥٦: الواقعة).
فالبعث أمر حكم الله به، حكما لا مردّ له.. «إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا»..
- وفى قوله تعالى: «إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ» إشارة إلى إمكانية إعادة الخلق بعد موتهم، فإن ذلك لا يعجز من خلق الخلق ابتداء، وجاء بهم على
934
غير مثال سابق.. فإعادة الشيء إلى أصله بعد فساده، وانحلاله أهون- فى تقديرنا نحن البشر- من إنشائه ابتداء على غير مثال سبق.. والله سبحانه وتعالى يقول: «كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ» (١٠٤: الأنبياء).. ويقول سبحانه: «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»
(٢٧: الروم)..
وفى قوله تعالى: «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ» بيان للحكمة التي من أجلها كان بعث النّاس، ورجعتهم إلى الله بعد موتهم.. وهى أن يوفّى النّاس أجورهم، وينالوا جزاء أعمالهم.. إذ الحياة الدنيا دار ابتلاء وعمل، والحياة الآخرة دار حساب وجزاء.. الدنيا مزرعة الزارعين، والآخرة حصاد الحاصدين..
ومن هنا كان من مقتضى حكمة الخالق أن يعيد النّاس بعد موتهم، ليوفّيهم جزاء أعمالهم فى الدنيا.. «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ» أي بالحق والعدل، «وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ» أي من سائل حارّ كما يقول الله تعالى «إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ» (٤٣- ٤٦: الدخان).
«وَعَذابٌ أَلِيمٌ» أي ومع هذا الشراب من الحميم عذاب أليم، وبهذا يحتويهم العذاب من الداخل والخارج، فى بطونهم، وفى أجسادهم..
«بِما كانُوا يَكْفُرُونَ» وذلك بسبب كفرهم بالله، وصدّهم عن سبيله..
والسؤال هنا:
935
لم جاء قوله تعالى «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ» مقيّدا الجزاء بأنه جزاء بالقسط، ولم يرد هذا القيد فى جزاء الكافرين؟ وهل يجازى أحد إلا بالقسط والعدل؟ والله سبحانه وتعالى يقول: «وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ» (٤٧: الأنبياء).
فما جواب هذا؟
نقول- والله أعلم-: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، قد كان لهم من أعمالهم الصالحة ما يقيم ميزانهم، ويجعل لهم حسابا على كفّتى الميزان، كفّة الحسنات، وكفّة السيئات.. فما كان لهم من حسنات رأوه فى كفّة الحسنات، وما كان لهم منهم سيئات، رأوه فى كفّة السيئات.. لم تضع مثقال ذرة من أعمالهم، هنا، أو هناك.. فحسابهم قائم على القسط، والحق، والعدل..
وكذلك جزاؤهم.. إنه قائم على القسط، والحق، والعدل..
وليس ذلك الجزاء القائم على القسط بالذي يحجز فضل الله عنهم، أو يحول بين رحمته وبينهم.. فإن من تمام العدل أنّه أخذ المسيء بإساءته، أن يزاد للمحسن فى إحسانه، لشرف الإحسان فى ذاته، ولقدر العمل الصالح فى نفسه.
فيشرف- لذلك- بالإحسان أهله، ويكرم بالعمل الصالح ذووه.. وفى هذا يقول الحقّ جلّ وعلا: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ» (٢٦: يونس).
أما الكافرون فلا شىء لهم فى الآخرة يقام لهم ميزان به، إذ كانت كلّ أعمالهم ضلالا فى ضلال، لأن أي عمل- مع الكفر- وإن كان فى باب الصالحات، هو باطل لا وزن له، إذ لم يزكّه الإيمان.. فهو أشبه بالحيوان الطيب لحمه، الحلال أكله، يموت حتف أنفه، أو خنقا، أو غرقا..
936
فيصبح خبيثا حراما! والله سبحانه وتعالى يقول: «مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ» (١٨: إبراهيم)..
ويقول سبحانه: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً» (٣٩: النور).. فأى ميزان يقام لهؤلاء الضّالّين الكافرين، وليس لهم فى كفّة الصالحات شىء يوزن؟ وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً» (١٠٣- ١٠٦: الكهف) [الجزاء الدنيوىّ.. وجزاء الآخرة] وسؤال آخر يعرض هنا، وهو:
لم كان الموت ثم البعث حتى يقع الجزاء؟ وهلّا كان الجزاء معجّلا فى هذه الدنيا حتى يكون أثره ظاهرا فى هذه الحياة، تتمثل فيه العبرة والعظة، ويقع به النفع لمن اعتبر واتعظ؟ ثمّ ما وقع هذا الجزاء المؤجّل، على هذا الإنسان الذي مات وصار رميما وترابا.. ثم يبعث بعد هذا الزمن الطويل الذي لا يعلم مداه إلا الله؟
والجواب على هذا السؤال أو تلك الأسئلة، نوجزه فيما يلى:
فأولا: لا شكّ أن هناك جزاء معجلا لكل عمل يعمله الإنسان، من
937
حسن أو سيىء، فكل عمل يحمل فى كيانه الجزاء الذي يستحقه صاحبه، على أية صورة من الصور.. وليس من الحتم اللازم، بل ولا من المطلوب المستحبّ أن يكون الجزاء من جنس العمل، كمّا ونوعا وكيفا.. فقد يكون العمل ماديّا وجزاؤه روحيّا نفسيّا.. وقد يكون من نوع ما، ويكون جزاؤه مماثلا له ولكن من نوع آخر، ثم قد يكون كمّا من نوع معيّن، فيقع جزاؤه موزعا فى أنواع متعددة من الجزاء..
وفى الحياة الدنيا شواهد كثيرة لهذا.. فى جانب الأعمال الصالحة، وفى جانب الأعمال السيئة، على السواء..
ونضرب لهذا مثلا لكل جانب من هذين الجانبين:
رجل من عباد الله الصالحين، أقام نفسه على طريق الحق، والخير..
يؤدى حقوق الله، وحقوق العباد.. فيصلى، ويصوم، ويزكى، ويقول كلمة الحق ولو أصابه منها ضرّ وأذى، ولا يطفف الكيل، ولا يخسر الميزان..
هكذا سيرته وشأنه فى الحياة، وتلك سيرته مع الناس.. ثم يرى مع ذلك فى حال من ضنك العيش، وضيق الرزق، ثم قد يكون إلى ذلك مبتلى بآفة فى جسمه، أو علّة فى ولده.!
لا شك أن ظاهر الحال ينبىء هنا عن أن هذا الإنسان شقى، وأنه لم يجن من صلاحه وتقواه إلّا هذا البلاء الذي هو فيه! فأين هو الجزاء الحسن للعمل الحسن؟ وأين هى ثمرة الإحسان التي يجنيها من زرع الإحسان؟
والجواب، الذي ينطق به لسان الحال، أنه لم يجن من إحسانه غير الشوك والحسك، الذي أدمى يديه، ونزف دمه!
938
ولكن الحقيقة كامنة وراء هذا الظاهر الذي تقف على حدوده الأبصار الكليلة، والبصائر المغلقة..
فلو ذهب ذاهب يفتش عن هذا الإنسان، لوجد باطن أمره على خلاف ظاهره.. وأنه وإن بدا فى مرأى العين فقيرا، فهو فى واقعة غنىّ، وأنه إن حسب فى عداد الناس شقيّا فهو عند نفسه سعيد، وأنه إن عدّ فى منازل الرجال قزما قميئا، فهو طوال عملاق، لا يقاس به أطول الرجال، وأنه إن بدا ضعيفا هزيلا، فهو قوى جبّار، يضع قدميه فوق رءوس الأقوياء والجبارين..
فهذا الإنسان الذي لا تأخذه العيون، ولا تقف عنده الأنظار- هو قلب ينبض بالرضا، ونفس تتنفس السعادة، وروح تستروح الغبطة.. يجد برد العافية يمس كل مشاعره ووجداناته، وأنسام النعيم تعطر الحياة من حوله، فيخطر فيها متراقصا كما يتراقص الفراش على أزهار الرّبا! وإن هذا الإنسان الذي لا نشبع بطنه من لقمة العيش.. هو قائم على مائدة حافلة بالطيبات من المثل الكريمة الفاضلة، يتخير منها ما يطيب له، لغذاء عواطفه ومشاعره..
وهذا الإنسان الضعيف الهزيل، الذي لا يكاد تحمله قدماه.. هو نسر يضرب بجناحيه فوق هذا العالم الترابي، محلقا فى سماوات لا حدود لها، حتى ليكاد يطاول النجوم فى أفلاكها..
أتريد لهذا شاهدا يشهد لما نقول؟
اقرأ سير الأبطال- أبطال الإنسانية الحقيقيين- الذين كانت دنياهم جنة من جنات الله على هذه الأرض.. فعرفوا طعم السعادة، ورضعوا أخلاف النعيم،
939
لا فى هذه القصور الشامخة، وما تكتظّ به من أثاث ورياش، وما يموج فيها من جوار وغلمان، وما تحفل به من موائد ومطاعم، وما يساق إليها من ذهب وفضة.. ولكن فى بيوت متواضعة، تسكنها نفوس عمرتها السكينة، وتعمرها قلوب عمرها الحق والعدل والخير..
أعرفت شيئا من سيرة عمر بن الخطاب؟ وأعرفت كيف كان طعامه لقيمات جافة من خبز الشعير وإدامه قطرات من الزيت أو الخل، لا يجتمعان معا..
وهو خليفة المسلمين، ووارث ملك القياصرة، وعرش الأكاسرة؟ وأ رأيت كيف كان لباسه من المرقع الخشن، وبين يديه ما شاء من دمقس وحرير، مما جلب من صنعة الشام، والعراق، ومصر، واليمن؟ ثم أشهدت خليفة المسلمين وهو قائم فى الشمس يهنأ إبل الصدقة، ويعالج جر باها؟
لا تنظر فى هذا إلى عظمة عمر، ولا إلى زهده، وعفته، ولا إلى خوفه من ربه وخشيته ليوم لقائه، وانظر إلى عمر، وإلى السعادة الغامرة التي تملأ جوانحه، وتفيض على الناس من حوله..
إن عمر وهو يردّ شربة الماء البارد فى يوم صائف، ويرفعها عن شفتيه حين وجد نفسه تهشّ لها، وترقص طربا لاستقبالها- إنه ليجد السعادة مضاعفة حين غلب هواه، وحطّم شهوته، وقهر سلطانها.. إنه الآن ملك غير مملوك، وسيد غير مسود، وقادر غير عاجز، ومتسلط غير متسلط عليه، وحاكم غير محكوم..
وشتان بين عمر لو شرب هذا الماء، وبين عمر هذا الذي أبى على نفسه أن تشربه! هذه لغة لا يعرف مدلول ألفاظها إلّا من عانى مثل هذه التجربة وعاشها،
940
ووقف من نفسه ولو مرة واحدة، إزاء شهوة غالبة، أو هوى قاهر، فاستعلى على شهوته، وأمسك بزمام هواه.. ذلك هو الذي يدرك معنى السعادة التي كان يعيش فيها عمر ومن أخذ مأخذ عمر، وسار على طريقه.. فى القناعة، والتعفف، والاستقامة..
من كلمة حكيمة لسقراط يقولها لأحد معاصريه:
«يبدو أنك تظنّ أن السعادة فى الترف والإسراف.. أما أنا فأرى أنك إذا لم تكن فى حاجة إلى شىء لكنت شبيها بالآلهة، وأنك كلما أقللت من حاجتك قدر استطاعتك كنت أقرب ما تكون إلى الآلهة».
هذه هى السعادة الحقيقية الكاملة فعلا. السعادة التي يحصل عليها المرء بالاستعلاء على شهواته، والاستغناء عن الكثير من الضرورات التي تقيّد خطوه، وتثقل كاهله..
والناس على منازلهم من القدرة على امتلاك ناصية شهواتهم، والتحكّم فى زمام أهوائهم، فهم بين قادر متمكن، وواقف بين القدرة والعجز، وعاجز مستسلم.. وكلما كان الإنسان أقدر على قهر شهواته وردع أهوائه كلما علا وارتفع، وحلّق فوق هذا المستوي الذي يتقلب فيه الناس..
ولهذا تجد التفسير الصحيح لتلك المواقف الرائعة المذهلة، التي كان يقفها أناس لا حول لهم ولا طول، فى وجوه الجبابرة والمتسلطين من أصحاب الجاه والسلطان. فإذا هذا الجبار المتسلط، يسقط بجاهه وسلطانه، ويهوى بجبروته وسطوته بين يدى هذا الإنسان الذي ليس بين يديه شىء من جاه أو سلطان، وإنما سلطانه وقوته فيما انطوت عليه جوانحه من استقامة وصلاح..
وليس لهذه القوة الروحية، وتلك العظمة النفسية، طبقة معينة من الناس،
941
ولا صفة خاصة مميزة لهم، وإنما هى لمن يطلبها، ويؤدّى من ذات نفسه الثمن المطلوب لها..
فهى تلبس الصعلوك، كما تلبس الأمير، وتكون فى الحاكم كما تكون فى المحكوم.
فهذا أعرابىّ من أجلاف البادية، يقف للحجاج طاغية زمانه، فيخرسه، ويذلّ كبرياءه، ويحطّم جبروته.
سأله الحجاج عن أخيه محمد بن يوسف الثقفي، قائلا: كيف تركته؟.
قال الأعرابى: تركته بضّا سمينا؟
قال الحجاج: لست عن هذا أسألك! قال الأعرابى: تركته ظلوما غشوما! قال الحجاج: أو ما علمت أنه أخى؟
قال الأعرابى: أتراه بك أعزّ منى بالله؟
هذه هى القوة التي لا تتخلّى عن صاحبها أبدا، ولا تخذله فى موقف من المواقف. إنها تختلط بدمه، وتسرى فى مشاعره وتسكن فى وجدانه..
وهى مصدر سعادة ورضا، يغتذى منها صاحبها أكثر وأهنأ مما يغتذى صاحب السلطان من سلطانه.
والمشاهد فى الحياة دائما هو أن أصحاب الجاه والسلطان، وأهل الجبروت والقهر، إذا استبان لهم وجه إنسان تعلوه ملامح الصلاح والتقوى، تخاضعوا بين يديه، وتخاشعوا له، وسعوا إلى مرضاته، ولم يستنكفوا أن يكونوا من ورائه، خدما يخدمونه، ويتبعون إشارته!!
942
وقد استشفّ بعض الصالحين هذه الظاهرة، ووقع على السرّ الكامن فيها.. حين نظر فوجد أن الأطفال يتحكمون فى الكبار، حيث ينزل الكبار إلى مستواهم، يلاعبونهم، ويلاطفونهم، ويجدون السعادة والرضا فى خدمتهم والسهر على راحتهم..
وقد علّل ذلك بأن الطفولة أقرب عهدا بالله، وأطهر نفسا، وأصفى روحا.
فهى فى صفائها وطهارتها أقرب ما تكون إلى الملائكة، ومن هنا سخّر الله سبحانه وتعالى الكبار لخدمة الصغار.. والأخيار الصالحون أقرب ما يكونون إلى الأطفال، فى براءتهم وطهرهم.. ومن هنا كان سلطانهم على الناس، ومكانتهم فيهم أشبه بسلطان الطفولة القاهر على الآباء وغير الآباء.. إنهم أقرب إلى الله من كل عباد الله.. ومن كان من الله أقرب، سخّر له من كان من الله أبعد، ومن كان فى طاعة الله، كان الناس فى طاعته! كان أبو عبد الله التونسى فى مدينة تلمسان، مشهورا بين الناس بالصلاح والتقوى، فمرّ به يحيى بن يقان حاكم تلمسان فى خدمه وحشمه، فقيل له: هذا أبو عبد الله التونسىّ، فمسك لجام فرسه، وسلم على الشيخ، فردّ عليه السلام، وكان على الملك ثياب من فاخر الحرير، فقال يا شيخ: هذه الثياب التي أنا لابسها أتجوز لى الصلاة فيها؟
فضحك الشيخ، فقال الحاكم: ممّ تضحك؟ قال: من سخف عقلك، وجهلك بنفسك وحالك، مالك تشبيه عندى إلا بالكلب، يتمرغ فى دم الجيفة وأكلها وقذارتها، فإذا جاء يبول يرفع رجليه، حتى لا يصيبه البول! «وأنت وعاء ملىء حراما، وتسأل عن الثياب، ومظالم العباد فى عنقك؟
قالوا: فبكى الحاكم، ونزل عن فرسه، وخرج عن سلطانه من حينه، ولزم
943
الشيخ، فمسكه الشيخ ثلاثة أيام، ثم جاء بحبل، فقال له: قد فرغت أيام الضيافة فقم، فاحتطب.. فكان يأتى بالحطب على رأسه، ويدخل به السوق، والناس ينظرون إليه ويبكون..».
أفليس هذا جزاء الخير والإحسان فى الدنيا؟ أو ليس هذا السلطان المتمكن الذي يعطاه أهل الصلاح والتقوى فى هذه الدنيا، جزاء طيّبا مسعدا لهم؟ ثم أليس هذا دليلا على أن كل عمل طيّب صالح يعطى ثمرته، عاجلة طيبة، بقدر ما فيه من طيب وصلاح؟
وعلى عكس هذا الأعمال الرديئة الخبيثة.. إنها تحمل فى كيانها الجزاء الرديء الخبيث لأهلها، على قدر ما فيها من رداءة وخبث، مكيالا بمكيال!! ولا نسوق لهذا الأمثال والشواهد، فشاهد الأعمال الصالحة، وما يعود منها على أهلها من خير، يعكس الصورة المقابلة للأعمال الرديئة الخبيثة، ويعطى الحكم الواقع عليها، وهى أنها شرّ وبلاء ونقمة على أصحابها فى الدنيا. على قدر ما فيها من رداءة وخبث، سواء بسواء، وصاعا بصاع! أما لماذا الجزاء الأخروى، إذا كان الناس- أخيارا وأشرارا- قد وفّوا جزاء أعمالهم فى الدنيا، وجوزوا عليها بالخير خيرا، وبالشرّ شرا؟
ونقول: إن الإنسان- وهكذا شاء الله له- ليس مخلوقا لهذه الدنيا وحدها، وليست حياته كحياة الحيوان تنتهى على هذه الأرض بنهاية عمره فيها.
وإنما الإنسان فى منزلة هى عند الله أكرم وأشرف مما على هذه الأرض من كائنات.. إنه خليفة الله على هذه الأرض، فإذا أدّى مدة خلافته فيها، انتقل إلى عالم آخر غير هذا العالم، ونزل دارا أخرى غير تلك الدار.. هى أخلد وأبقى..
944
وليس الموت الذي ينزل بالناس إلا وقفة على طريق الحياة الأبدية، واستعدادا لدخول عالم جديد، غير العالم الذي كانوا فيه. إنه أشبه شىء بالمسافر ينتقل من منطقة جبلية ثلجية إلى منطقة حارة قائظة.. إنه لا بد أن يقف على مشارف على هذه المنطقة الجديدة، فيتخفّف من ملابسه الثقيلة، وما كان معه من أدوات التدفئة..!
وبمعنى آخر.. ليس هناك بالنسبة للإنسان موت بالمعنى الذي يقع على النفوس من كلمة «موت»، كما تموت الدواب والطيور والحشرات.. وإنما هى حياة على أتم ما تكون الحياة، وإن اختلف لونها وطعمها، كما تختلف طعوم الحياة وألوانها عند الإنسان، حين ينتقل نقلة بعيدة من قارة إلى قارة مثلا، على بعد فى التشبيه، واختلاف فى التمثيل..
واستمع إلى قول الرسول الكريم، وتلخيصه فى هذه الكلمات الرائعة المعجزة لقصة الحياة، والموت، أو قل- بمعنى أصح- قصة الحياة، وما بعد الحياة.. يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه:
«النّاس نيام.. فإذا ماتوا انتبهوا» ! فليست هذه الحياة التي يحياها الإنسان فى هذه الدنيا إلا أحلاما وأضغاث أحلام بالقياس إلى الموت، وما بعد الموت.. هناك يجد الناس وجودهم، وتلبسهم الحياة الحقيقية الكاملة..
وهذا ما يشير إليه القرآن الكريم فى كثير من آياته، فى معرض عرضه للدنيا والآخرة.
فيقول سبحانه وتعالى: «وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» (٦٤: العنكبوت)
945
ويقول جلّ وعلا: «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» (٢٠: الحديد) ويقول سبحانه: «وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى» (١٧: الأعلى) ويقول تبارك وتعالى: «وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ» (٣٠: النحل) ويقول سبحانه: «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ» (٢٦: الرعد) وإذن، فهناك حياة آخرة! وإذا كانت هناك حياة آخرة، فمن الطبيعي أن ينتقل إليها الإنسان بما حصّل فى حياته الأولى، وما جمع من خير أو شر، وما عمل من حسن أو قبيح.. فانتقال الإنسان من هذه الدنيا، لا يقطعه عما كان له فيها من عمل..
بل إن عمله كلّه سيصحبه إلى عالمه الجديد، كمن ينتقل من بيت إلى بيت، ومن بلد إلى بلد، نقلة إقامة واستقرار.. إنه يحمل كل ما فى داره الأولى إلى داره الثانية.. غاية ما هناك من فرق، هو أنه لا يتكلف لذلك جهدا ولا مشقة، بل سيجد كل ما عمل قد سبقه إلى هناك! إلى داره الجديدة، وإلى عالمه الجديد! وأرانا بهذا قد أجبنا على سؤال سألناه آنفا، وهو:
ما وقع هذا الجزاء المؤجل، على الإنسان الذي مات وصار رميما وترابا ثم يبعث بعد هذا الزمن الطويل الذي لا يعلم إلا الله مداه؟
لقد عرفنا أن ليس هناك فترة انقطاع بالموت فى حياة الإنسان الممتدة من
946
الحياة الدنيا إلى الحياة الآخرة.. بل إن الموت فى واقعه هو حياة للإنسان، هو صحوة من نوم، وانتباه من غفلة، وانتقال من دار إلى دار، ومن عالم إلى عالم.!
وقد أنكر كثير من الناس هذا الموت المسلّط على الإنسان، وعدّه عقوبة صارمة تنزل بالناس، فتسوّى بين الأخيار والأشرار.
فيقول أحد شعراء هذا المذهب:
إن يك الموت قصاصا... أي ذنب للطّهاره
وإذا كان ثوابا....... أىّ فضل للدّعاره
وإذا كان وما فيه... جزاء أو خساره
فلم الأسماء: إثم وصلاح؟
لست أدرى! ونقول: ليس الموت فى ذاته قصاصا أو ثوابا.. وإنما هو موقف تتحول به أحوال الناس، على حسب ما لهم عند الله من ثواب أو عقاب، بما كان لهم فى الحياة الأولى من أعمال، تلائم العالم الجديد الذي نقلوا إليه، أو لا تلائمه..
فإن كانت مما يتلاءم مع العالم العلوي الذي نقلوا إليه نعموا بها، وسعدوا، وإن كانت مما لا تتفق وطبيعة هذا العالم شقوا بها، وابتلوا بالحياة معها.. فلكل عالم جوّه الذي تطيب فيه مغارسه، وتروج فيه عملته.. وهذا العالم العلوى لا تقبل فيه إلا الأعمال الطيبة الصالحة، ولا ينعم فيه إلا الطيبون الصالحون..
947
أما الخبيث المرذل، فهو مردود على أهله، يطعمون من خبثه، ويتقلبون على شوكه! فالأعمال التي يعملها الناس فى حياتهم الدنيا، هى زادهم الذي يطعمون منه فى الآخرة، فإذا كان ما عملوه صالحا، وجدوا الحياة الطيّبة معه، حيث يتلاءم مع الدار الجديدة التي نقلوا إليها، والتي لا يقبل فيها إلا ما كان طيبا..
أما الرديء الخبيث فهو ردّ على أهله، وبلاء على أصحابه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ» (٣٤- ٣٥: التوبة).. فهذا الذهب الذي اكتنزه المكتنزون، وبخلوا به، فلم ينفقوا منه فى سبيل الله- هذا الذهب، قد تحوّل إلى أداة من أدوات العذاب لأهله.. إنّه عملهم السيّء، قد انتظرهم هناك! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» (١٠: النساء)..
فهو نفس الشيء.. عمل سيىء حصّلوه فى الدنيا.. فانتظرهم هناك..
فى الآخرة..
إن العاقل- وبصرف النظر عن الدّين- يغرس فى مغارس كثيرة قد لا تعطيه أي ثمر فى حياته، وإنما يجنيه أبناؤه من بعده.. وهو مع هذا لا يضنّ على هذا الغرس بمال أو جهد..
وإن العاقل الرشيد ليرى أن دنياه هذه لا يمكن أن تتسع لمغارسه، وأنه لا بد من حياة وراء هذه الحياة يغرس لها ليجنى هناك بيديه ثمر ما غرس.
948
وقد جعلت شريعة الإسلام للناس أن يحيوا حياتين معا.. الحياة الدنيا، والحياة الآخرة، وأن يعملوا لهما جميعا، بلا إفراط ولا تفريط، فلا تطغى الدنيا على الآخرة، ولا تجور الآخرة على الدنيا، فكان مطلبهم من الله قولهم: «رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ» (٢٠١: البقرة).. فهذا هو عنوان الشريعة الإسلامية، وهذا هو منهج المؤمنين بها.. يعملون للدنيا، ويعملون للآخرة: «فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ» (١٣٤: النساء).
يقول الراغب الأصفهانى:
«لم ينكر أمر المعاد والنشأة الأخرى إلّا جماعة من الطبيعيين، أهملوا أفكارهم، وجهلوا أقدارهم، وشغلهم عن التفكير فى مبدئهم ومنشئهم شغفهم بما زيّن لهم من حبّ الشهوات.
«وأما من كان سويّا ولم يمش مكبّا على وجهه، وتأمل أجزاء العالم علم أن أفضلها ذوات الأرواح، وأفضل ذوات الأرواح ذوات الإرادة والاختيار، وأفضل ذوى الإرادة والاختيار الناظر فى العواقب، وهو الإنسان.. فيعلم أن النظر فى العواقب من خاصية الإنسان، وأن لم يجعل الله تعالى هذه الخاصية له، إلا لأمر جعله له فى العقبى، وإلا كان وجود هذه القوة فيه باطلا»
.
ثم يقول الراغب:
«فلو لم يكن للإنسان غاية ينتهى إليها غير هذه الحياة الخسيسة المملوءة نصبا وهمّا وحزنا، ولا يكون بعدها حال مغبوطة- لكان أخسّ البهائم أحسن حالا من الإنسان!»
949
وربما سأل بعض الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، فقالوا: ماذا لو وقع الجزاء بين الناس فى الدنيا؟ فالله سبحانه وتعالى قادر على أن يسوّى حساب الناس فى هذه الحياة، ويوفّى كل عامل جزاء عمله.. المحسن بالإحسان، والمسيء بالإساءة؟
ونحن نسأل: على أىّ وجه يسوّى هذا الحساب؟.. أهكذا مثلا؟:
الفقير ينال نصيبه من الغنى؟
والمريض يلبس ثوب العافية؟
والمقتول يعود إلى الحياة ويقتل قاتله؟
والمظلوم ينتقم ممن ظلمه؟
وهكذا..
أليس كذلك تكون تسوية الحساب؟ وأليس على هذا الوجه أو قريب منه يقع الجزاء ويكون القصاص؟
فأى حياة إذن تكون هذه الحياة؟ إنها ليست الحياة التي يصلح فيها شأن الناس، ويتحرك فيها وجودهم! إن الناس فى حياة كهذه الحياة يبدون وكأنهم لعب.. بلا إرادة، ولا تفكير.. كلهم على سمت واحد.. لا فرق بين إنسان وإنسان..
فلا غنىّ ولا فقير، ولا صحيح ولا مريض، ولا جميل ولا دميم، ولا قوى ولا ضعيف! إنه لكى يكون الحساب هنا عادلا، يجب أن يكونوا كائنا واحدا..
أشبه برقم عددىّ يتكرر.. أما وهم أكوان.. كل منهم عالم قائم بذاته، له وجوده، وله مشاعره، وله سعيه- فإن التسوية بينهم فى الحياة، هى
950
اليد المخرّبة، التي تفسد هذا الجهاز الذي يدفع بعجلة الحياة الإنسانية، ويحركها فى كل اتجاه!.
وانظر ماذا يكون الحال، لو وجد المحسن جزاء إحسانه حاضرا «فوريّا» ؟
إنه- والحال كذلك- يتحول من محسن، يقدر الإحسان، ويحترم الخلق الفاضل، ويعشق الخير- يتحول إلى تاجر، يبيع الإحسان بالدراهم والدنانير!! إنه- والأمر كذلك- لا يرى الخير خيرا، ولا الفضيلة فضيلة، وإنما يراها سلعا تباع وتشترى.. وبهذا يتحول الإنسان من إنسان إلى حيوان لا وجدان له، ولا ضمير معه! وكذلك المسيء، الذي يرتكب المنكرات.. من قتل، وسرقة، واعتداء على الناس، واستباحة دمائهم وأموالهم.. إنه لو وجد عقابه عاجلا «فوريّا» لما أقدم على شىء من هذا، لأنه يعلم أن عين السماء تراه، وأن يدها لا تقصر عنه، وأنه لو كان عقابها معجلا، لبادره العقاب بمجرد أن يفرغ من جرمه، وقبل أن يبرح مسرح جريمته! أفترى إنسانا يقدم على قتل إنسان وعين رجل الشرطة إليه، والبندقية مصوبة نحوه؟ أترى إنسانا يسرق إنسانا وهو يرى الشرطىّ يمد يده ليقبض عليه؟ إن ذلك لا يكون أبدا..
وهذا معناه ألا تقع أية جريمة فى الحياة.. فلا بغى ولا عدوان، ولا إثم ولا منكر! وإذن.. فلا قصاص! ثم ما الحياة الإنسانية، وما طعمها، إذا هى خلت من الشرور؟ إنها لن
951
تكون حينئذ حياة الناس، ولا دنيا البشر.. بل هى حياة الملائكة، أو عالم الجهاد.. وليس الناس ملائكة ولا جمادا.. وإنما هم بشر.. فيهم المحسن والمسيء، ومنهم الطيب وفيهم الخبيث.. والإنسان ذاته يحسن ويسىء، وبطيب ويخبث.. وليس فى الناس الطيب الخالص، ولا الخبيث المحض، وإنما الناس هذا وذاك، والإنسان من هذا ومن ذاك! وقد يبدو لسائل أن يسأل: إنك تقول: إن مجازاة المحسن على إحسانه بالأسلوب «الفورىّ» فى الدنيا يجعل منه تاجرا يتجر بالفضائل، ويجعل من تلك الفضائل سلعا.. وفى ذلك إزراء بالفضائل وإنزال من قدرها..
أفلا يكون هذا المعنى قائما مع الجزاء المؤجل ذاته؟ وما الفرق بين أن يلقى المحسن جزاء إحسانه اليوم، أو غدا، أو بعد غد؟
أليس الذي يلقاه فى الدنيا، أو الذي يلقاه فى الآخرة من جزاء على إحسانه، هو ثمن لهذا الإحسان؟
إنه هنا فى الدنيا، يلقى الحسنة بالحسنة والخير بالخير.. ولكنه هناك فى الآخرة، يلقى الحسنة بعشر أمثالها، وبأكثر من عشر أمثالها، ويلقى الخير مضاعفا أضعافا كثيرة.. فأى الجزاءين يكون فيه الإنسان تاجرا يتجر فى الفضائل ويتعامل بها فى جشع ونهم؟ أذلك الذي يباع فيه الشيء بمثله، أو ذاك الذي يباع فيه بعشرات أمثاله؟
ونقول: إن هذا التقدير قائم على حساب غير دقيق.. ذلك أن الجزاء الفورىّ، هو مناولة يد بيد، ليس فيه مخاطرة كالتى تكون فى بيع العاجل بالآجل.. وكون الآجل أضعافا مضاعفة للعاجل لا يرفع عنه خطر المخاطرة، وخاصة ذلك الأجل الطويل، الذي يمتدّ أزمانا لا يعرف المرء مداها، والذي
952
تقع للمرء فيه أحداث مذهلة لا يمكن التتبؤ بعواقبها.. وخاصة أنه حساب يقتضى المرء عنه حسابه بعد الموت، وبعد البعث من الموت!! إن الإيمان وحده الذي يكفل للجزاء الآجل قيمته، ويجعل له وجودا يتعامل الإنسان على حسابه.. وبغير هذا الإيمان لا يمكن أن يقبل عاقل بيع درهم عاجل بقناطير مقنطرة آجلة، لأنه لا محصّل لها بعد هذا الأجل الطويل وبعد هذه الأحداث العجيبة، إلا إذا كان هناك إيمان وثيق بالبعث وبالجزاء!! وانظر فى المعاملات المالية، أيام اضطرابات السلام، وتوقعات الحرب..
إن عمليات البيوع المؤجلة كلها تتوقف، وليس هناك من تعامل بين الناس إلا بالسلعة الحاضرة والثمن المقبوض، يدا بيد، حيث يفقد الناس الثقة فيما ستلده الأيام، إذا وقعت الحرب! وقليل جدا هم أولئك الذين يتعاملون فى هذه الحال بالبيع المؤجل، وإن بلغت الأرباح فى هذه البيوع عشرات الأضعاف.. إن هؤلاء قلة مغامرون بمعنى الكلمة.. لكنهم على أية حال لا يتعاملون إلا فى أضيق الحدود، وبأقل جزء من أموالهم..
وليس كذلك المؤمنون الذين يعملون ليوم الجزاء.. إنهم يتعاملون وهم على ثقة بأنهم يعقدون مع الله صفقة رابحة، مؤكدة النتائج، محققة الوقوع..
«فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ.. وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».. وهم لا يتعاملون فى أضيق الحدود، ولا بالقليل مما فى أيديهم، بل يتعاملون بلا حد ولا قيد، حتى لقد يخرج الواحد منهم عن ماله كله، وحتى لقد يبيع نفسه، ويقدمها قربانا لله، وبالاستشهاد فى سبيل الله!
953
والجزاء المؤجل- ثوابا أو عقابا- إنما يتعامل به العقلاء الذين يحكمهم عقلهم، أكثر مما تتحكم فيهم شهواتهم..
فالطفل يعطيك كل ما معه حتى ملابسه، فى سبيل قطعة من الحلوى، لأن قطعة الحلوى هذه، صالحة لأن تؤكل فى الحال..!
والصبىّ.. غير الطفل.. إنه لا تستبد به شهوة الحلوى الحاضرة كل هذا الاستبداد.. فهو يساوم وينازع فيما يأخذ ويعطى! وهكذا، كلما درج الإنسان فى مدارج الرشد، رجع إلى عقله، وأطال النظر والتقدير فيما يعود عليه من ربح أوفر، فى العاجل أو فى الآجل! فإذا جاء الناس إلى مجال العمل لما بعد الموت.. كثر المتردّدون، وقل العاملون..
وإنك لو أتيح لك أن تتفحص أمر هؤلاء وهؤلاء، لوجدت أن أولئك الذين آثروا العاجل على الآجل، هم دون من آثروا الآجل على العاجل- ووجدتهم دونهم عقلا وتقديرا للأمور.. إنهم ما زالوا فى دور الطفولة، وإن كانوا فى صورة الرجال! إن عقول الماديين لم تستسغ تأجيل الحساب والجزاء إلى حياة أخرى بعد هذه الحياة الدنيا، بل جعلته حسابا موصولا بهذه الحياة الدنيا.. فكان مذهب التناسخ «تناسخ الأرواح» الذي يؤمن فيه أصحابه بأن الروح تنتقل من جسد إلى جسد، فتنال جزاءها فيه.. فإن كانت خيّرة حلّت فى جسد تجد فيه راحة ونعيما، وإن كانت آثمة حلت فى جسد تلقى فيه بلاء ونكالا..
والقائلون بالتناسخ، ينكرون أن تكون هناك حياة آخرة، يلقى فيها الإنسان جزاء.. ولكن لا بد من جزاء حتى يعتدل ميزان العدل، ويطمئن
954
المحسنون إلى إحسانهم، ويخشى المسيئون جرائر سيئاتهم- وإذن فليكن هذا الجزاء على تلك الصورة التي صورها القائلون بالتناسخ، فجعلوا الجزاء واقعا فى هذه الدنيا، وعلى المسرح الأرضى بمشهد ومرأى من الناس! والقائلون بالتناسخ يقولون: إن النفس باقية خالدة.. وإن الأبدان التي تحلّ فيها النّفس، واحدا بعد واحد، شبيهة بالأعوام أو الأيام فى حياة الفرد الواحد! وهم يقولون: إن الحياة لا يمكن فهمها إلا على افتراض أن كل مرحلة من مراحل وجود النفس، تعانى العذاب وتتمتع بالثواب، جزاء وفاقا لما وقع منها فى حياة ماضية.. من رذيلة أو فضيلة.. إذ يستحيل على فاعل فعل صغير أو كبير.. خيّرا أو شرّ يرا.. أن يمضى بغير أثر.. إن كل شىء لا بد أن يظهر له أثر ذات يوم! وأنت ترى أن القول بالتناسخ لثواب المحسن وعقاب المسيء هو تصور خاطئ لملء هذا الفراغ الذي يجده الناس حين يقفون على حدود هذه الدنيا، ولا يلتفتون إلى حياة آخرة بعدها.. إنهم فى مجال هذه النظرة المحدودة، يرون أن أعمالا صالحة كثيرة ذهبت، ولم يجز عليها أصحابها الجزاء المناسب، وأن أعمالا سيئة منكرة قد وقعت، ولم يلق مرتكبوها ما يستحقون من عقاب- فكان القول بالتناسخ هو مما ترضّى به عقولهم، أولئك الذين لا يؤمنون بالبعث والجزاء.. فهو ضرب من ضروب الخداع للنفس.. إذ لا أثر له فى محيط الواقع، ولا دليل عليه بين أيدى الناس، وهذا أوضح من أن يحتاج إلى بيان! فالروح التي تلبس هذا الذي يقول التناسخ.. هل يجد فى كيانه إحساسا ما بأنها كانت يوما فى كائن آخر غيره؟ فكيف يصحّ عنده أن تنتقل بعد موته إلى كائن آخر من إنسان أو حيوان؟ ذلك ما لا يقع فى
955
إحساس أي إنسان.. فكيف يتم إذن هذا التناسخ؟ وعلى أي أساس يقوم علم به، وتستند عقيدة إليه؟
هذا وقد استعجل بعض المؤمنين بيوم الآخرة، وبالجزاء فى هذا اليوم استعجلوا هذا العذاب، فلم يصبروا على هذا الموعد الذي هم على رجاء لقائه بعد الموت، وخاصة فيما يصيبهم من ظلم، وما يقع عليهم من بغى.. ولهذا قالوا يرجعة بعض من ماتوا إلى هذه الدنيا مرة أخرى، قبل البعث العام، وذلك ليلقوا على أيدى من أساءوا إليهم الجزاء الذي يستحقونه..
والشيعة الإمامية متمسكون بهذا الرأى، بل إنه دعامة من دعائم عقيدتهم، لأنهم على توقع هذه «الرجعة» ينتظرون إمامهم الغائب:
«أبو القاسم محمد بن الحسن» وهو «المهدى» عندهم، كما أنه الإمام الثاني عشر من أئمتهم.
على أن طائفة من الإمامية- وهى تدين بالرجعة- تتأول الرجعة، بأنها رجوع الدولة والأمر والنهى إلى آل البيت، وليست رجوع أعيان الأشخاص، وبعث الموتى من قبورهم قبل يوم البعث! وعلى أىّ، فإن القول بالتناسخ، أو القول بالرجعة، هو توكيد لضرورة البعث، وأن البعث أمر لا بد منه، ليسوّى فيه حساب المحسنين والمسيئين بعد هذه الدنيا.. وقد فرض العقل الإنسانىّ التناسخ فرضا، واعتسفه اعتسافا، وتقبّله، وآمن به، وليس بين يديه شاهد يشهد له، أو دليل يدلّ عليه..
وما ذلك إلا لأنه رأى الحياة الدنيا، لا تضع موازين العدل بين الناس، ولا تأخذ للمظلوم حقّه من ظالمه..
956
فإذا جاءت كتب الله، ورسل الله، تحدّث عن البعث، وتؤكد وقوعه، لتجزى كل نفس بما كسبت- كان ذلك أمرا لا ينبغى لعاقل أن يشك فيه، إذ كان مما يطلبه العقل، ويقيم له من تصوراته وخيالاته مفهوما يستريح له، ويرضى به!
(الآيات: (٥- ١٠) [سورة يونس (١٠) : الآيات ٥ الى ١٠]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩)
دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠)
التفسير: قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» هو عرض لبعض مظاهر قدرة الله سبحانه، والتي ذكرت الآيات السابقة بعضا منها..
957
فالشمس والقمر آيتان من آيات الله الدالّة على قدرته، وعلمه، وحكمته..
وآثارهما فى عالمنا الأرضى واضحة مشهودة.. عليهما تقوم حياة كل كائن فى هذا الكوكب الأرضى، وينتظم نظامه.. ولو أنهما أخذا من الأرض موضعا غير موضعهما، لاختلّ نظام هذا الكوكب، وفسد أمره، وتحول إلى صورة أخرى غير صورته تلك.. لا يدرى أحد ماهيتها التي تكون عليها..
- وفى قوله تعالى: «جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً» إشارتان:
أولاهما: أن الجعل غير الخلق.. إذ هو تدبير بعد تدبير الخلق.. فالخلق إيجاد لما هو غير موجود، والجعل تقدير وتنظيم لهذا المخلوق الذي خلق، وإقامته على الوجه الذي يحقق الحكمة من خلقه..
والخلق بالإضافة إلى الله- سبحانه- خلق متلبس بالحكمة، قائم على التقدير.. فليس هناك انفصال بين خلق الله، وبين الحكمة والتقدير لما خلق..
ولكن التعبير «بالجعل» الذي يكشف عن حكمة الخالق المودعة فى المخلوق، هو إلفات لأنظارنا إلى ما فى هذا المخلوق من آثار رحمة الله وحكمته.. ومن جهة أخرى، فإن التعبير بالجعل لا يكشف عن الحكمة من خلق المخلوق إلا من الجانب الذي يتّصل بنا، ويؤثر فى وجودنا.. ففيما كشف عنه قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ».. عرض مقصور على ما يتصل بنا من خلق الشمس والقمر، أمّا مالهما من شأن أو شئون تتصل بالعوالم الأخرى، وبالكون ونظامه، فذلك ما ليس لنا علم به، وإن وقع لنا به علم، فهو علم يزيد فى معارفنا، ولا يتصل اتصالا مباشرا بمقومات حياتنا القائمة على ما تعطينا الشمس من ضوئها، والقمر من نوره.
958
وثانية هاتين الإشارتين: ما فى اختلاف التعبير عن ضوء الشمس «بالضياء» ونور القمر «بالنور» هكذا: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً».
وذلك أن الضوء نور ذاتىّ، ينبعث من جسم مشعّ له، بفعل الحرارة النّاريّة المتوقّدة فى هذا الجسد.. ومن هنا كان الضوء مشتملا على حرارة، دائما.. فلا ضوء إلّا عن حرارة متوقدة، ولا حرارة إلا ومعها ضوء..
وهذا هو السرّ فى ندائه ﷺ لجماعة كانت توقد نارا بقوله لهم:
«يا أهل الضوء».. ولم يقل لهم: «يا أهل النّار» تحاشيا لهذه الكلمة التي ربما انصرفت إلى نار جهنم فمسّهم منها وعيد، أو وقع لهم منها تطيّر وتشاؤم..
فعليك صلوات الله وسلامه يا رسول الله.. ما أعظم خلقك، وما أروع أدبك.. وكيف لا يعظم خلقك وقد سوّاك ربّك فى أحسن تقويم، وحلّاك بكل كمال وجمال، فقال سبحانه فيك: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» وقلت أنت فى مقام التحدّث بنعمة الله وقد رأيت ما خلع الله عليك من كمال وجمال: «أدّبنى ربّى فأحسن تأديبى» ذاكرا فضل ربك، شاكرا نعماءه؟.
والضوء والنار.. بمعنى واحد..
وضوء الشمس.. ضوء ذاتى، صادر من جسم نارى ملتهب..
أما نور القمر فهو غير ذاتىّ، لأنه صادر من جسم بارد معتم، وقع عليه ضوء الشمس، فانعكس منه على الأرض، هذا النور، الذي لا يحمل شيئا من حرارة الضوء..
والضوء يحمل مع النّور حرارة.. والنور، نور خالص، لا حرارة فيه..
الضوء متوهّج، متّقد، متماوج، مضطرب.. والنور لطيف، هادىء،
959
رقيق وديع.. وهذا هو بعض السرّ فى التعبير بالنور عن لطف الله، وسريان حكمته، فى هذا الوجود، وإلباس رحمة الله إياه، فى قوله تعالى: «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ».. فهو لطف ورحمة وحكمة، لا يخالطه شىء- مما يصحب الضوء، من حرارة، وتوقّد، واضطراب!! - وفى قوله تعالى: «وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ» إشارة إلى القمر، واختلاف منازله ومطالعه، على مدى أيام الشهر القمري..
- وفى قوله تعالى: «لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ» إلفات إلى بعض ما لهذا النظام الشمسىّ والقمري من أثر، فى ضبط الزمن، وحسابه، وتقدير أيامه، ولياليه، وشهوره، وسنيه..
وليس يبطل هذا الأثر أبدا بما وقع لأيدينا من مقاييس وموازين للزمن، إذ كل هذه الموازين وتلك المقاييس مرتبط بالشمس- خاصة- ومتصل بتعاقب الليل والنهار بين يديها، وبتقلب الفصول على مدار السنة حولها.. ولو تغيّر هذا النظام لاختلّ كل ميزان، وكل مقياس للزمن..
وفى قوله سبحانه: «ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ».. إشارة إلى أن هذا الخلق الذي خلقه الله، لم يخلق عبثا، وإنما هو خلق قائم على حكمة وتقدير.. وفى هذا يقول سبحانه وتعالى: «وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ» (١٦: الأنبياء) ويقول سبحانه: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ» (١١٥: المؤمنون) فهذا الوجود الذي أبدعه الله سبحانه وتعالى على غير مثال سبق، هو- من غير شك- المرآة التي تتجلّى فيها قدرة الله، وعلمه وحكمته..
وهو- من غير شكّ أيضا- منزّل عند الله تعالى فى مقام الحبّ
960
والإعزاز، إذ كان من آثار قدرته، وعلمه، وحكمته.. فإن ما تبدع يد الحكمة والعلم والقدرة لا يكون هملا، ولا يذهب مذهب الضّياع..
هكذا شأن كل ذى صنعة مع ما صنع.. هو ضنين به، حريص عليه..
فكيف بالصّانع الأعظم، وكيف بأحكم الحاكمين، وأعلم العالمين..
الله رب العالمين.. ؟
فهذا الحقّ الذي خلقت به السموات والأرض، هو الذي يمسك بهذا الوجود، ويسرى فى عوالمه، ويشتمل على كل ذرّة من ذرّاته..
فبالحق خلق كل مخلوق، وبالحق قام كل موجود..
- وفى قوله تعالى: «يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» إشارة إلى أن العلم هو المفتاح الذي يفتح مغالق هذا الكون، ويكشف معالم الوجود، وأسراره.. وأن من لم يحصّل العلم والمعرفة، فلن يكون له حظّ من النظر إلى هذا السكون، ولن يمسك بسرّ من أسراره، ولن يتعرف على آية من آياته..
وقوله تعالى: «إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ» يشير إلى أن التقوى لا تقوم فى كيان إنسان إلا ومعها العلم.
ذلك أنه إذا نظر الناظر إلى هذا الوجود بعين العالم، وبأجهزة العلم، رأى فى اختلاف الليل والنّهار، وفى تعاقبهما لمحة مشرقة من لمحات حكمة الله، وقدرته وعلمه.. ففى هذا الاختلاف بين اللّيل والنهار ضمان وثيق لكفالة الحياة للكائنات على هذا الكوكب الأرضى.. فما كانت لتطيب الحياة أبدا، بل ولا تقوم الحياة بحال، للمخلوقات- وخاصة الإنسان- لو أن الزمن كان نهارا دائما، أو ليلا مستمرّا.. وفى هذا يقول الحق سبحانه وتعالى:
«قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ
961
مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»
(٧١- ٧٣: القصص) وليست هذه هى معطيات النظر فى اختلاف الليل والنهار، بل هى معطياته فى كل نظرة ينظر بها إلى كل ما خلق الله فى السموات والأرض.. من الهباءة والذّرة، إلى الشموس والكواكب.. ففى كل ما خلق الله، لمسات من حكمته، وأقباس من علمه، ونفحات من رحمته، وآثار من قدرته..
والنّظر المتفحّص الذكىّ، هو الذي يكشف عن وجود الله، ويحدّث عن جلاله، وعظمته، وتفرّده بالخلق والأمر.. ومن هنا ينبعث الإيمان بالله، ويقوم الولاء له، وتتحقق التقوى للمتقين من عباده.. إن فى ذلك «لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ».. فلا تقوى لمن لا يعرف الله، ولا يعرف الله، من لا علم له بما أبدع الخالق وصوّر، وبما فى هذا الإبداع والتصوير من علم العليم وحكمة الحكيم، وقدرة القدير.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ».. فعلى قدر ما يعلم الإنسان من صفات الخالق بقدر ما يكون إيمانه به، وخشيته له، واتقاؤه لمحارمه! قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» هو وعيد لأولئك الّذين لا يتدبّرون فى ملكوت الله، ولا يتفكرون فى خلق السموات والأرض- فلقد أهملوا استعمال ملكاتهم التي أودعها الله
962
سبحانه وتعالى فيهم، وشغلوا بأنفسهم، وألهتهم الحياة الدنيا عن أن يرفعوا أبصارهم إلى أبعد مما تصل إليه أيديهم، من مطلوب شهواتهم البهيمية، ولذاتهم الجسدية، فغفلوا عن آيات الله، وعموا عن النظر إلى ملكوت الله، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنّوا بها.. وإنه ليس لهؤلاء اللاهين الغافلين إلا النار، لأنهم لم يكسبوا فى حياتهم الدنيا إلّا ما هو من النّار وإلى النار..
- وفى قوله تعالى: «وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ» بالعطف على قوله سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا» إشارة إلى أن هذا الذي أوقع هؤلاء الضالين فيما هم فيه، من عدم توقعهم للقاء الله، والحياة الآخرة، حتى رضوا بالحياة الدنيا، وأعطوها كل وجودهم، واطمأنوا إلى السّكن إليها- إنما كان ذلك لأنهم غفلوا عن النظر فى آيات الله، والتفكر فى ملكوت السّموات والأرض.. ولو أنهم نظروا وتدبروا لكانوا على غير ما هم عليه، ولآمنوا بالله، ولأيقنوا بلقائه، ولعملوا لهذا اللقاء، واستعدّوا له، فذلك هو شأن «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ» (١٩١: آل عمران) وقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» هو عرض للوجه المقابل للذين عموا عن النظر فى ملكوت السموات، والأرض، فلم يؤمنوا بالله، ولم يرجوا لقاءه.. وهو وجه الذين آمنوا بالله،
963
إذ أكرمهم الله سبحانه وتعالى.. ، فهداهم بالإيمان إلى الأعمال الصالحة وإلى تقوى الله، والإعداد ليوم لقائه. فكان أن جزاهم ربّهم بما عملوا، جنات تجرى من تحتها الأنهار، ينعمون فيها بما يفضل الله عليهم به، من رزق كريم..
فيسبّحون بجلال الله وعظمته، وما شهدوا من روعة ملكه، ويحمدون له أن وفقهم إلى الإيمان، وهداهم إلى العمل الصالح الذي أرضاه، فرضى عنهم وأدخلهم جناته، وأذاقهم هذا النعيم الذي يتقلبون فيه..
هكذا يعيشون ألسنة تسبح الله، وتحمد له، ويتبادلون السّلام والمودة والمسرّة فيما بينهم: «إخوانا على سرر متقابلين».. وكما استفتحوا مجالسهم بحمد الله وتنزيهه، يختمونها بالتنزيه والحمد لله ربّ العالمين..
الآيات: (١١- ١٤) [سورة يونس (١٠) : الآيات ١١ الى ١٤]
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤)
التفسير: قوله تعالى: «وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ»
964
الطغيان: مجاوزة الحدّ فى الشر، وبلوغ الغاية فى العدوان والبغي.. ومنه الطاغية، والطاغوت..
ويعمهون: من العمه، والعمه: ما يصيب البصيرة من عمى فلا تهتدى إلى طريق الحق والخير أبدا..
والآية الكريمة تشير إلى موقف المشركين من النبىّ الكريم، وأنهم فى إمعانهم فى تكذيبه وتحدّيه، كانوا يسألون الله أن ينزل عليهم مهلكات من السماء، إن لم يكن ما جاءهم به محمد هو الحق من عند الله، وذلك ليكون مقطع الفصل فيما بينهم وبينه.. فإن يكن ما يقوله الحقّ أهلكهم الله، وأخذهم بدعائهم، وإن لم يكن حقّا لم يصبهم شىء، وافتضح أمره فيهم.. هكذا سوّلت للمشركين أنفسهم، وهكذا أعماهم ضلالهم، حتى طلبوا لأنفسهم البلاء، وتمنّوا العذاب.. ولو كانوا على شىء من العقل والحكمة لكان لهم فى مجال التمنيات ما هو أسلم وأحسن، ولقالوا مثلا: اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فاهدنا إليه.. ولكنها الجهالة والعمى والضلال.. «ومن يضلل الله فلا هادى له».
قوله تعالى:
«وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ».. المراد بالناس هنا مشركو قريش، الذين طلبوا إلى الله أن يعجل لهم العذاب، كما يقول الله سبحانه وتعالى عنهم فى آية أخرى: «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ» (٥٣- ٥٤: العنكبوت) والله سبحانه وتعالى لا يأخذهم بالعذاب، والنبىّ ﷺ فيهم،
965
إكراما له، وشفاعة له فيهم.. وفى هذا يقول سبحانه وتعالى: «وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» (٣٣: الأنفال).
- وفى قوله تعالى: «اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ» إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى يعجّل لهم الخير، ولا يعجّل لهم العذاب، بل يؤخره عنهم لتتاح لهم الفرصة لمراجعة أنفسهم، والاستقامة على طريق الإيمان.. فمن آمن منهم فقد أمن من العذاب فى الدنيا والآخرة، ومن استمسك بكفره وضلاله، فله خزى فى الدنيا وله فى الآخرة عذاب عظيم.. والتقدير. ولو يعجّل الله للناس الشرّ كما يعجل لهم ما يعجّل من خير، لهلكوا، ولأخذهم البلاء، دون أن تتاح لهم فرصة لمراجعة أنفسهم، وتصحيح لوضعهم المقلوب، الذي اتخذوه من دعوة الحق التي يدعون إليها.
- وفى قوله تعالى: «لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ» إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى لو عجّل لهم الشرّ الذي يتمنونه لأهلكهم جميعا فى لحظة خاطفة.. ولكنه سبحانه يؤخرهم لأجل معدود، ولا يأخذهم بعاجل ما يستحقون من عقاب، إكراما للنبىّ الكريم، ولمقامه فيهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا» (٥٨: الكهف).
- وفى قوله سبحانه: «فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ..»
إشارة إلى المحذوف، الذي دل عليه العطف بالفاء.. والتقدير.. ولو يعجّل الله للناس الشرّ استعجالهم بالخير، لقضى إليهم أجلهم.. ولكنا نمدّ لهم، فنذر الذين لا يرجون لقاءنا منهم فى طغيانهم يتخبطون، فى بحر متلاطم الأمواج.
وهذه الآية غير مقيدة بأسباب نزولها، بل هى مطلقة، حيث يقع تحت حكمها الناس جميعا.. فقد كان من رحمة الله بالنّاس أن أمهلهم، فلم يعجّل لهم
966
العقاب الذي يستحقونه بما فعلت أيديهم.. وذلك أنه- سبحانه- لو آخذ كل إنسان بذنبه عاجلا لقضى إليه أجله بعد كلّ ذنب يقع منه، ولكان الناس جميعا فى معرض الهلاك، إذ لا يسلم إنسان من أن يواقع معصية، أو يرتكب ذنبا.. وهذا من شأنه ألّا يدع لإنسان فرصة ليكفّر عن خطيئته، ويستغفر لذنبه، ويرجع إلى ربّه.. وفى هذا يقول الله تعالى: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ.. وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى.. فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً» (٤٥: فاطر).
وإذن فهذه نعمة من نعم الله على الناس، ورحمة من الله بهم أن لم يعجّل لهم الشّرّ، وهو أخذهم بذنوبهم من غير إمهال.. وهذا من شأنه أن يكون داعية لأن يعيد الإنسان النظر إلى نفسه، وأن يصلح ما أفسد، وأن يتصالح مع ربّه فيما ارتكب من إثم، فتلك فرصة ينبغى ألا يفوته انتهازها، وهو فى عافية من أمره، وفى فسحة من أجله.
والتعبير عن التعجيل بالعقوبة، وتنفيذ حكم الله فى المذنب بإهلاكه- والتعبير عن هذا بالشرّ، إنما هو بالإضافة إلى الإنسان الذي يقع عليه هذا الحكم، فهو شر بالنسبة له، إذ يحول بينه وبين أن يجد الفرصة التي يصحح فيها موقفه، ويرجع إلى ربه.
قوله تعالى: «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» فى هذه الآية يكشف الله سبحانه وتعالى عن ضلال الإنسان، وكفره بنعم الله، وجحوده لأفضاله عليه، وإحسانه إليه.
967
فالإنسان- مطلق الإنسان- هو كما وصفه الله سبحانه، فى قوله عزّ من قائل: «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ» (١٩- ٢٣: المعارج) وقوله سبحانه: «كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى» (٦- ٧: العلق) فالإنسان فى كيانه، هو واه ضعيف.. لأنه خلق من ضعف، كما يقول سبحانه: «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً» (٥٤: الروم).. وكما يقول جلّ شأنه: «وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً» (٢٨: النساء).. ولكنه حين تلبسه القوة، ينسى ضعفه، ويستولى عليه الغرور، ويستبدّ به العجب والخيلاء، فإذا هو مارد جبار، وسفيه أحمق، وطائس نزق.. يحارب ربّه، ويكفر بخالقه، ويستعبد الناس، أو يتعبّد هو للناس، ولا يتعبد لربّ العالمين! - وفى قوله تعالى: «وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً».. نجد التعبير بالمسّ هنا مفصحا عن مدى ضعف هذا الإنسان وخوره..
وأن مجرّد مسّ الشرّ له، يكر به ويزعجه، ويفسد عليه حياته.. وإذا هو صاخ إلى الله، ضارع بين يديه.. يدعو فى كل حال يكون عليه: لجنبه، أو قاعدا، أو قائما.. فهو من لهفته وانحلال عزيمته، يدعو بكل لسان، ويستصرخ بكل جارحة..
- وفى قوله تعالى: «فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ».. نجد أن هذا الإنسان الصارخ الضارع المستسلم المستكين، حين يرفع الله عنه البلوى، ويكشف ما به من ضر، يمكر بفضل الله عليه، وينسى رحمته به..
968
ويمضى فيما كان فيه من كفر وضلال.. كأن ضرّا لم يكن قد مسّه، وكأن حالا من الذّلة والاستكانة لم تكن قد لبسته، وكأن رحمة السماء لم تمدّ يدها إليه وتستنقذه من الهلاك المطبق عليه!! هكذا الإنسان، كما وصفه خالقه فى قوله تعالى: «وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً» (٨٣: الإسراء) وفى قوله سبحانه: «إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ» (٣٤: إبراهيم) - وفى قوله تعالى: «كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ».. تهديد ووعيد لأهل الكفر والضلال، الذين لا يرعوون عن كفرهم، ولا ينزعون عن ضلالهم، ولا يستمعون لدعوة خير، ولا يستجيبون لرائد هدى، ورسول رحمة، لا يتعظون بما يحلّ بهم من غير، وما يلبسهم من نعم! لقد استمرءوا هذا الضلال الذي هم فيه واستحبوا العمى على الهدى: «وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً».
وقوله تعالى: «وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ»
هو تهديد أيضا ووعيد للكافرين والضالين، الذين وقفوا من الدعوة النبوية هذا الموقف المتصدّى لها، أو الحائد عنها..
فلقد أخذ الله المكذبين الضالين من الأمم قبلهم بالبأساء والضرّاء حين عتوا عن رسل ربّهم، وكذّبوا بهم.. وذلك هو الجزاء الذي يجزى به الظالمون.. لا جزاء لهم غير أن يؤخذوا بنقم الله ويلقوا فى جهنّم خالدين فيها..
وها أنتم أولاء، أيها المشركون، قد خلفتم هؤلاء الأقوام، وورثتم ديارهم،
969
وسكنتم فى مساكنهم.. وقد جاءكم رسول كريم من عند الله، وقد عرفتم عاقبة الظالمين المكذبين برسل الله.. فماذا يكون منكم مع رسولكم هذا؟ إن الله سبحانه لا تخفى عليه خافية.. إنه يرى ما تعملون، وسيجازيكم على أعمالكم ويأخذكم بها.. وقوله تعالى: «وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» جملة حالية تكشف عن واقع القوم الذين ظلموا، وأنهم قد ظلموا وكفروا فى حال كان رسل الله فيها بينهم، يدعونهم إلى الإيمان، ويدلّونهم على الهدى.
وقوله تعالى: «وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا» جملة حالية كذلك، وصاحب الحال هو ضمير الذين ظلموا فى قوله تعالى: «وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ».. وهذه الحال تكشف عما فى قلوب الضالين من زيغ وضلال، وأنهم ما كانوا ليؤمنوا قبل مجىء الرسل إليهم بالبينات أو بعد مجيئهم.. ولكن الله سبحانه أرسل رسله إليهم، ليقيم الحجة عليهم، وليقع بهم عذابه، بعد أن تأتيهم آياته على يد رسله، كما يقول سبحانه: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» (١٥: الإسراء).
الآيات: (١٥- ١٩) [سورة يونس (١٠) : الآيات ١٥ الى ١٩]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨) وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩)
970
التفسير:
قوله تعالى: «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ».
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآية التي قبلها لفتت المشركين إلى وضعهم الذي هم فيه، وأنهم خلائف قوم قد ظلموا، فأخذهم الله بظلمهم، وأهلكهم بذنوبهم، وأن هؤلاء المشركين، هم الآن فى وجه امتحان امتحنت به الأمم قبلهم، وهو أنه قد جاءهم رسول بآيات الله، كما جاءت الرسل من قبله إلى الأمم السابقة بآيات الله إلى أقوامهم.. فماذا سيكون من هؤلاء المشركين مع رسول الله المبعوث إليهم، ومع آيات الله التي بين يديه؟ أيكفرون به كما كفر من كان قبلهم، ويتعرضون لنقمة الله كما تعرض السابقون؟ أم يؤمنون بالله، ويتبعون الرسول، فتسلم لهم دنياهم وأخراهم جميعا.. ؟
هذا ما ستكشف عنه الأيام منهم.. إنهم فى مواجهة تجربة وامتحان، فليأخذ العاقل منهم حذره، وليطلب النجاة والخلاص لنفسه.
وفى هذه الآية ينكشف وجه المشركين، ويظهر موقفهم من رسول الله، وهم يأخذون الطريق المعاند له، المتأبى عليه..
فناسب أن تجىء هذه الآية بعد الآية التي سبقتها.. لما بينهما من التلاحم والاتصال..
971
وفى قوله تعالى: «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ»..
أولا: وصف الآيات بأنها بينات، يدلّ على أن من عنده أدنى نظر يستطيع أن يبصر وجه الحق فى هذه الآيات البينة المشرقة، وأن يهتدى بها، ولا يجادل فيها، أو يقف موقف الشك والعناد منها..
وثانيا: أن هذا القول المنكر الذي قيل للنبىّ فيه: «ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ» لم يقله إلا الذين لا يرجون لقاء الله، ولا يؤمنون بالبعث..
فهم بهذا لا يبالون بأى حديث يحدثهم به عن الآخرة، ويخرج بهم عما هم فيه من استمتاع بحياتهم الدنيا، واستفراغ كل جهدهم فيها..
وثالثا: قولهم: «ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ» يكشف عن ضيقهم بالقرآن، وما يحدّث به عن آلهتهم، وبما يسفّه فيه من أحلامهم، ويفضح من ضلالاتهم.. فهم يريدون قرآنا يبقى على معتقداتهم، ويزكّى عاداتهم، ويحتفظ للسادة منهم بأوضاعهم.. فإن لم يكن من الممكن أن يأتى الرسول بقرآن غير هذا القرآن، فليبدل من أوضاعه، وليغير من وجهه، وليقمه على الوجه الذي يرضيهم، ويلتقى مع أهوائهم.. وهنا يلتقون مع النبي، يستجيبون له! وفى قوله تعالى: «قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي.. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ.. إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ».
أولا: أن مسألة إتيان النبىّ بقرآن غير هذا القرآن، أمر غير ممكن، بل مستحيل عليه استحالة مطلقة.. لأنّ القرآن كلام الله، منزل عليه وحيا من ربه.. فليس له- والأمر كذلك- سلطان يملك به عند الله أن ينزل عليه قرآنا غير هذا القرآن..
وفى هذا ردّ ضمنى على المشركين بأن القرآن من عند الله، وليس من عند
972
محمد، إذ لو كان من عند محمد، لكان إلى يده تغييره أو تبديله.
وثانيا: مسألة التبديل، والتغيير فى القرآن، وإن كانت أمرا ممكنا فى ذاته، إذ لا يتأتّى القرآن على من يجرؤ على التبديل والتحريف فيه- وإن كان الله سبحانه وتعالى: قد حرسه من التبديل، وحفظه من التحريف، كما يقول تبارك وتعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» - نقول: إن مسألة التبديل فى القرآن، وإن كانت ممكنة فى ذاتها، فإن «محمدا» لن يفعل ذلك من تلقاء نفسه، فذلك خيانة لله فى الأمانة التي ائتمنه عليها، وعصيان له فيما أمره به فى قوله سبحانه: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ».. وليس وراء العصيان لله، والخيانة لأمانته إلا العتاب الأليم والعذاب العظيم.. كما يقول سبحانه: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ» (٤٤- ٤٧ الحاقة).
وثالثا: أن الرسول، وهو من هو عند ربه، حبّا وقربا، يخاف عذاب الله، ويخشى عقابه إن هو عصاه، وخرج عن أمره، وغيّر وبدل فى كلماته..
فما لهؤلاء المشركين لا يخشون الله، ولا يخافونه، وقد عصوه هذا العصيان الحادّ بالشرك به، وبتكذيب رسوله، والآيات التي أنزلها على رسوله؟ ألا يخافون بأس الله؟ ألا يخشون عقابه؟ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ» (٩٩: الأعراف).
قوله تعالى: «قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ.. أَفَلا تَعْقِلُونَ».
فى هذه الآية تنبيه للمشركين، وإلفات لهم، إلى ما هم فيه من عمّى وضلال.
فلو أنهم عقلوا شيئا، لعرفوا أن «محمدا» قد عاش فيهم أربعين سنة غير قارئ
973
ولا كاتب، ولا متحدث إليهم بأى حديث مما يحدثهم به الآن من كلام الله الذي أوحى به إليه، بعد هذا العمر الطويل، الذي عاش فيه مع نفسه، منقطعا إلى ربه! ولكن هكذا شاء الله لمحمد أن يكون مستقبل وحيه، ومتلّقى كلماته، ومبلّغ آياته..
ولو شاء الله غير هذا لكان، فلم يكن محمدا رسولا، ولا مبلغ رسالة، ولا مسمعا الناس هذا الذي سمعوه منه من آيات الله.
فمن نظر فى حال محمد قبل الرسالة وبعدها، ومن طالع وجوه هذه الآيات السماوية التي نزلت عليه، لم يقم عنده أدنى شك فى أن محمدا هو رسول الله، وأن ما يحدّث به عن الله هو من عند الله، ومن كلمات الله.. ذلك مع صرف النظر جانبا عما فى آيات الله نفسها من دلائل الإعجاز، التي تشهد بأنها ليست من قول بشر، وأنها من كلام رب العالمين.
قوله تعالى: «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ».
فتراء الكذب على الله، هو اختلاق القول عليه، وتقوّل الأحاديث عنه، بإيرادها ابتداء، أو بالتبديل والتحريف فيها..
فأظلم الظالمين من يجرؤ على ركوب هذا المركب المهلك فيتقول على الله، ويفترى الأحاديث عليه..
وأظلم الظالمين من يرى آيات الله، ويستمع إليها.. ثم يكذب بها، ويصم أذنيه عنها، ويغلق عقله وقلبه دونها..
974
فهذه وتلك من الجرائم التي تورد مرتكبيها موارد الهلاك والبوار: «إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ».
قوله تعالى: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ.. سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ».
مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنها تكشف عن افتراء المشركين على الله وتكذيبهم بآياته. الأمر الذي عدّه الله سبحانه وتعالى جريمة عظمى، توعد مجرمها بالخزي والخسران..
فقد عبد هؤلاء المشركون آلهة اتخذوها لهم من دون الله، وقالوا عنها:
«هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» وقالوا.. «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى»..
وهذا افتراء على الله.. وقد كذبهم الله وفضحهم بقوله: «قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ؟» أي أتتحدثون إلى الله بما لا يعلم الله له هذا الشأن الذي تتحدثون به عنه، لا فى السموات، ولا فى الأرض؟ إنه شىء لا وجود له.. وإذا كان لا وجود له فى علم الله، فهو غير موجود أصلا، ولا يوجد أبدا.. إنها أوهام وضلالات، لا توجد إلا فى عقولكم، وهى محض افتراء واختلاق.. تنزّه الله سبحانه وتعالى عن أن يكون له شريك، أو شفيع من خلقه، فضلا عن أن يكون هذا الشريك أو الشفيع من واردات الوهم والاختلاق!.
وفى قوله تعالى: «ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ» إزراء بهؤلاء المشركين، وتسخيف لأحلامهم، إذ أعطوا ولاءهم وعبوديتهم ما لا يملك لهم ضرّا ولا نفعا.. وليس أخسر صفقة ولا أضلّ سعيا، ولا أحمق عقلا، ممن يتعامل مع مالا يدفع عنه ضرّا، ولا يجلب له نفعا، فإن العاقل لا يأخذ وجهة إلى عمل،
975
ولا يبذل له جهدا، إلا وهو على رجاء من أن يدفع من وراء ذلك شرّا، أو يحصّل خيرا. وإلا فهو عابث لاه، يضيّع عمره ويستهلك جهده، ويهلك نفسه!.
وتقديم دفع الضرّ على جلب النفع أمر طبيعى، مركوز فى الفطرة الإنسانية، حيث يعمل الإنسان أولا على تأمين نفسه، وحراستها مما يعرّضها للهلاك، فإذا ضمن الإنسان الإبقاء على وجوده كان له أن يطلب ما يحفظ عليه هذا الوجود.. وهو جلب المنافع.. وفى مقررات الشريعة: «دفع المضارّ مقدم على جلب المصالح».
قوله تعالى: «وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ».
مناسبة هذه الآية لما قبلها، وعطفها عليها، أنها تكشف عن جناية هؤلاء المشركين على الإنسانية، وأنهم هم الدّاء الذي تسلط على الإنسانية قديما وحديثا، فأدخل على كيانها هذا الفساد، الذي يتمثل من وجودهم فى الجسد الإنسانى..
فالناس- فى أصلهم- فطرة سليمة، مستعدة للتهدّى إلى الإيمان بالله، والاستقامة على الخير والحق.. كما يقول الرسول الكريم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه وينصرانه ويمجّسانه».
وكما تعرض العلل للجسم السليم كذلك تعرض الآفات والعلل للمجتمع الإنسانى، فيظهر فيه المنحرفون الذي يخرجون عن سواء الفطرة، وسرعان ما يسرى هذا الدواء، وتنتشر عدواه فى المجتمع..
ومن هنا يكون الناس على أشكال مختلفة، وأنماطا شتّى.. كل يركب طريقا، ويأخذ اتجاها..
976
ومن هنا أيضا يختلف الناس، وتختلف بهم الموارد والمشارب.. وإذا كلّ جماعة على مورد، وكل أمة على مشرب.. «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ.. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ.. وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ» (١١٨- ١١٩: هود).
وقد كان جديرا بهؤلاء الضالين أن ينظروا إلى أنفسهم، وإلى موقفهم المنحرف الذي خرجوا به على الفطرة الإنسانية، فركبوا طريق الكفر والضلال، وكان من شأنهم أن يكونوا مع الناس أمة واحدة مؤمنة بالله..
وفى قوله تعالى: «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» إشارة إلى ما سبق أن قضى به الله سبحانه وتعالى من إمهال الظالمين، والعاصين، وأهل الكفر والضلال، وإنظارهم إلى يوم البعث، والجزاء- وأنه لولا ذلك القضاء الذي قضى به الله سبحانه وتعالى، لأخذ على يد كل ضالّ ومنحرف، فى هذه الحياة الدنيا، ولأوقع الجزاء عاجلا منجزا، فلا يبقى فى الناس ضال أو مفسد..
فالمراد بالكلمة التي سبقت من الله سبحانه، هى حكمه وقضاؤه، بأن يؤخّر الناس ليوم الدّين، وأن يوفّى الناس جزاء أعمالهم، فيكون منهم أهل النار، كما يقول سبحانه: «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» (١١٩: هود).
الآيات: (٢٠- ٢٣) [سورة يونس (١٠) : الآيات ٢٠ الى ٢٣]
وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣)
977
التفسير:
قوله تعالى: «وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ» هو عطف على الآية قبل السابقة، وهى قوله تعالى: «وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ» (آية: ١٨).. أما الآية (١٩) وهى قوله تعالى:
«وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا» فهى معترضة بين الآيتين، لتكشف عن واقع هؤلاء المشركين، ولتبيّن لهم أنهم أخذوا طريقا منحرفا عن الطريق العام الذي كان من شأنهم أن يستقيموا عليه، لأنه فى الأصل، هو طريق الإنسانية كلّها.. ومن ضلالات هؤلاء المشركين أنهم يعمون عن آيات الله، ويعشون فى ضوء صبحها المشرق الوضيء، فلا يرون فيها مقنعا لهم بأنها من عند الله، وأن الرسول الذي يتلوها عليهم هو رسول الله.. فيقولون للرسول- صلوات الله وسلامه عليه: «ائت بقرآن غير هذا أو بدله..» !
وإذ يؤبسهم الرسول من إجابة مقترحهم هذا بقوله الذي أمره الله سبحانه أن يلقاهم به: «قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» - تجرى الأحاديث فيما بينهم
978
فى تساؤل جهول عقيم: «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ» ؟.. وهم يريدون بتلك الآية آية حسيّة كتلك الآيات التي جاء بها موسى وعيسى عليهما السلام..
كما ذكر القرآن ذلك عنهم فى قوله تعالى: «فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ» (٢٥: الأنبياء).. ولو أنهم عقلوا لعرفوا أن الله سبحانه قد رفع قدرهم، وأعلى فى الناس منزلتهم، إذ جاءهم بمعجزة تخاطب عقولهم، وتتعامل مع مدركاتهم، ولم يأتهم بمعجزة تجبه حواسّهم، وتستولى على عقولهم، وتشلّ حركة تفكيرهم.. إن الله سبحانه قد ندبهم للتعامل مع هذه المعجزة العقلية، يدركون إعجازها ببصائرهم لا بأبصارهم، ويتناولون قطافها بمدركانهم لا بأيديهم، ولكنهم أبوا إلا أن يكونوا أطفالا لا رجالا.. وقد أنكر الله عليهم هذا الموقف، الذي وقفوه من القرآن الكريم، ورأوا أنّه غير مقنع لهم، كدليل سماوى.. فقال سبحانه وتعالى: «وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»
(٥٠- ٥١: العنكبوت).
والقوم لم يكونوا على غير علم بما فى آيات القرآن الكريم، وما فيها من إعجاز متحدّ لقدرة الإنس والجن.. فهم أقدر النّاس على نقد الكلام، والتعرّف تعرفا دقيقا على الفرق بين حرّ جواهره وزيفها، وجيّدها ورديئها..
ولقد بهرهم القرآن الكريم، فأخذوا به، وسجدوا- على كفرهم- لجلاله، وسطوته، وقالوا فيه: «إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ».. ولكنهم كانوا على عناد وكبر واستعلاء.. يأبون أن ينقادوا لبشر منهم، وأن يعطوا ولاءهم له..!
كما يقول الله تعالى على لسانهم. «أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ» (٢٤- ٢٥: القمر).
979
فهذه المقترحات التي يقترحونها على النبىّ إن هى إلا تعلّات يتعلّلون بها لأنفسهم، ويرضّونها بهذه العلل، حتى لا تنزع بهم إلى الاستسلام لهذه القوة القاهرة التي تطلّ عليهم من عل، فى كلمات الله، وآيات الله.. وقد كشف الله سبحانه وتعالى عن هذا الشعور المتسلط عليهم، والذي يسوقهم إلى ركوب هذه الشاقّة، والتعلل بهذه العلل، فقال تعالى: «وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ» (١٤- ١٥: الحجر).
وفى قوله تعالى: «فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ» ردّ، وجبه لهؤلاء المشركين فيما يقترحونه على النبىّ من آيات ماديّة محسوسة، كأن يطلعهم على ما يأكلون، وما يدّخرون، وما يقدّرون لهم فى تجاراتهم وأعمالهم، من ربح أو خسارة، ونحو هذا.. فذلك ليس لبشر أن يعلمه، وإنما هو مما استأثر لله سبحانه وتعالى بعلمه.. لا يشاركه فيه أحد من خلقه.. وقد أمر الله سبحانه النبىّ أن يعلن فى الناس أنه لا يعلم من الغيب شيئا، فقال كما أمره الله سبحانه أن يقول:
«وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» (١٨٨: الأعراف).
وفى قوله تعالى: «فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ» تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين، الذين أمسكوا بأنفسهم، على هذا المرعى الوبيل من الضلال والشرك، عنادا، وجماحا.. فلينتظروا، والنبىّ منتظر معهم، وسيرون وسيرى من تسكون له عاقبة الدار.. «قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» (١٣٥: الأنعام).
قوله تعالى: «وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ»
980
الذّوق، والتذوّق: الإحساس بطعم الشيء ومداقه، حلوا، كان أو مرّا..
والرحمة: النعمة، والخير..
والضرّاء: الضّرّ، والسوء، والشرّ..
والمسّ: لمس الشيء لمسا رقيقا..
والآية الكريمة تحدّث عن كفر «النّاس» بنعم الله، وجحودهم لأفضاله.. وأنهم إذا مسّهم الضرّ جزعوا، واستكانوا، وضعفوا.. وإن أصابهم الخير، وجرى عليهم النعيم.. طغوا، وبغوا ولبسوا جلود الأفاعى والنمور.
وفى الآية تعريض بالمشركين، وبمكرهم بآيات الله التي جاءهم بها رسول الله، هدى ورحمة، ليستنقذهم بها من ضلالهم، وليخرجهم بها من عمى الجاهلية، وسفهها، وليضفى عليهم الأمن والسلام بعد أن مزّقتهم الحروب، وعصفت بهم ريح البغي والعدوان.. وفى هذا يقول الله تعالى مذكّرا إياهم بما ساق إليهم من رحماته ونعمه، بهذه الرسالة الكريمة المباركة، وبهذا الرسول الكريم المبارك.. يقول تبارك وتعالى: «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها» (١٠٣: آل عمران).
- وفى قوله تعالى: «إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا» إشارة إلى موقف المشركين من آيات الله، والمكر بها، والتعلل بالعلل الصبيانية علمها..
- وفى قوله تعالى: «قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ» نذير شديد للمشركين، وأنهم إذا مكروا بآيات الله، فلن يفلتوا من عقاب الله.. إنهم يعلنون على الله حربا هم فيها المخذولون الخاسرون.. إنهم يبيّتون الشر، ويدبرون له، والله سبحانه بعلمه وقدرته مطلع على ما يبيّتون، مفسد ما يدبرون.
981
قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ».
فى هاتين الآيتين، مظهر من مظاهر مكر الماكرين بآيات الله، وكفرهم بنعمه السابغة عليهم..
فما أكثر ما يركب الناس البحر فى ريح رخاء، تصحبهم فيه السكينة والبهجة، ثم على حين غرّة يموج بهم البحر ويضطرب، وتزمجر حولهم العواصف، وتصرخ بهم الريح فى جنون مخيف.. وإذا الهلع والفزع، وإذا الكرب الكارب، والهذيان المحموم، يشتمل على من فى جوف السفين، الذي يبدو وكأنه دودة على ظهر هذا الكون العظيم!.
ولا ملجأ من هذا الموت الفاغر فاه، ولا عاصم من هذا الهلاك المطلّ من كل مكان، إلا اللّجأ إلى الله، والاستصراخ له، والاستنجاد به.. فتتعالى صيحات الصائحين، واستغاثات المستغيثين، وضراعات المتضرعين.. فى غير اقتصاد أو انقطاع..
وتجىء رحمة الله فى إبّانها.. فتهدأ العاصفة، ويخفت صوت الريح..
وإذا البحر قد عاد ساكنا هادئا، وإذا السفين على ظهر حنون ودود، يهدهده كما تهدهد الأم رضيعها، حتى يبلغ السفين بأصحابه شاطىء الأمن
982
والسّلامة، ويأخذ كل واحد من الركب وجهته، ثم لا يعود يذكر لله شيئا ممّا صنع به.. وإذا هو فى ضلاله القديم.. مشرك بالله، كافر بنعمائه! - وفى قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ» إشارة إلى تلك النّعم التي سخّرها الله للناس، فى انتقالهم من بلد إلى بلد، ومن قطر إلى قطر، على مراكب البر والبحر.. فى اختلاف أشكالها وأنواعها.
- وفى قوله تعالى: «حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ» عرض لحالة من أحوال السفر التي تعرض أحيانا لراكب البحر.. وقد ذكرها القرآن الكريم هنا، ليكشف بها عن حال من أحوال الذين يكفرون بآيات الله، ويجحدون ما يسوق إليهم من نعم..
وقد جاء النظم القرآنى فى قوله تعالى: «وَجَرَيْنَ بِهِمْ» بنون النسوة التي هى للعقلاء، مستعملا إياها للفلك، وهى غير عاقلة، وكان المتوقع أن يجىء التعبير هكذا: «وجرت بهم».. وفى هذا ما يشير إلى أن الفلك، وهى تجرى فى ريح طيبة، وعلى ظهر بحر ساكن ساج، قد كان لها سلطان على هذا البحر، تغدو وتروح عليه كيف تشاء، وتتصرف كما تريد.. حتى لكأنها ذات عقل مدبّر، وإرادة نافذة.
وفى النظم القرآنى أيضا: «وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ» ولم يجىء النظم هكذا: «وجرين بهم فى ريح طيبة».. وذلك ليدل على أن الريح هى التي تحرك الفلك وتدفعها، فالباء هنا باء الاستعانة، التي تدخل على الأداة التي يستعان بها على العمل، كما يقال: كتبت بالقلم، وانتقلت بالقطار.. وهذا ما لا يفيده حرف الجرّ «فى».. الذي يجعل الريح ظرفا يحتوى السفينة من جميع جهاتها، ولا يدفع بها إلى جهة ما..
983
- وفى قوله تعالى: «حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ»..
اختلف النظم، فى قوله سبحانه: «وَجَرَيْنَ بِهِمْ» فجاء على غير ما يقتضيه السياق.. وجىء بضمير الغائب، بدلا من ضمير الحضور.. هكذا:
«وجرين بكم»..
فما سرّ هذا؟
تتحدث الآية الكريمة عن نعمة عامة شاملة من نعم الله، وهى تسيير الفلك فى البحر، كما يقول تعالى: «وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ» (٦٥: الحج) وكما يقول جل شأنه: «وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ» (١٢- ١٣:
الزخرف).
وهذه النعمة، لا يكفر بها الناس جميعا، وإنما يجحدها ويكفر بها من لا يؤمن بالله.. وهم الذين ذكرهم القرآن الكريم بضمير الغائب، بعد أن جاء التّذكير بالنعمة موجّها إلى الناس جميعا- ومنهم هؤلاء الكافرون- فى مواجهة وحضور.. وبهذا عزل الكافرون عن المجتمع الإنسانى، وأبعدوا من مقام الحضور، وحسبوا غائبين، لا وجود لهم.
- وفى قوله تعالى: «إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ».
أولا: «إذا» الفجائية هنا، تنبىء عن أن هؤلاء الكافرين، لم يمسكوا بتلك المشاعر المتجهة إلى الله، والضارعة إليه، حين مسّهم الضر فى البحر، إلا ريثما تلقى بهم الفلك إلى البرّ، حتى إذا مسّت أقدامهم اليابسة انفصلوا عن تلك المشاعر، وتخفّفوا منها، ورجعوا مسرعين إلى ما كانوا فيه من كفر وضلال وعناد.
984
وثانيا: وصف البغي بأنه بغى بغير الحق، مع أن البغي لا يكون إلا عدوانا على الحق، وخروجا عليه.. فكيف يلحقه هذا الوصف، الذي يفهم منه أن هناك بغيا بحق، وبغيا بغير حق؟
ذكرنا جوابا عن مثل هذا، عند تفسير قوله تعالى: «وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ» (١٨١: آل عمران).
والجواب هنا، هو أن وصف بغيهم بأنه بغى بغير الحق، فيه تغليظ لهذا البغي، وإلقاء مزيد من القبح على وجهه القبيح..
فالبغى فى ذاته جريمة منكرة شنعاء..
ولكنّه من أهل البغي، شىء لا يكاد ينكر عليهم، ولا يستغرب منهم.
وإذن فهو محتاج إلى أن يكون أكثر من بغى حتى ينكر عليهم، ويذمّ منهم..
فهذا البغي منهم هنا.. هو بغى على وصف خاصّ.. بغى بغير حقّ حتى عند أهل البغي أنفسهم، وهذا يعنى أنه بغى شنيع غليظ، بين صور البغي كلها.
وفى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ» نداء للناس جميعا، وإعلان لهم كلهم- برّهم وفاجرهم- بأن البغي والعدوان، والخروج على حدود الله، هو بغى وعدوان واقع عليهم، وآخذ بنواصيهم..
كما يقول سبحانه وتعالى: «مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ» (٤٤: الروم) وفى قوله تعالى: «مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا».. قرئ «متاع» بالنصب والرفع.. وعلى النصب- وهى القراءة المشهورة- يكون مفعولا مطلقا لفعل محذوف، تقديره، تتمتعون متاع الحياة الدنيا، وتكون الجملة حالا من ضمير المخاطبين فى قوله تعالى: «إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ».. وعلى قراءة الرفع يكون خبرا لقوله تعالى: «بَغْيُكُمْ» و «عَلى أَنْفُسِكُمْ» متعلق بالمبتدأ..
985
- وفى قوله تعالى: «ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»..
تهديد ووعيد لهؤلاء الباغين، وما يلقون من عذاب أليم، يوم يرجعون إلى الله، ويوفّون جزاء ما كانوا يعملون من منكرات.
الآيات: (٢٤- ٣٠) [سورة يونس (١٠) : الآيات ٢٤ الى ٣٠]
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨)
فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠)
986
«الإنسان.. وما ينزل من السماء» التفسير:
قوله تعالى: «إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ..»
مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنها تكشف عن وجه هذه الحياة الدنيا، التي ذكرت الآية السابقة تعلق الناس بمتاعها، وركوبهم مراكب البغي والطغيان فى سبيل المتاع بها.
وقد صورت الآية الكريمة هنا الحياة الدنيا فى ألوانها، وزخارفها، التي تغرى الناس بها، وتفتنهم فيها- بما نزل من السماء، فخالط نبات الأرض، فأخرج حبّا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبّا، ولبست الأرض من ذلك كله حلة زاهية مختلفة الأصباغ والألوان، وبدت كأنها العروس فى ليل عرسها.. ثم إذا إعصار مجنون ملتهب، يمس هذه الجنّات المعجبة، وتلك الزروع المونقة، ويضربها بجناحيه، فإذا هى حصيد تذروه الرياح، وبباب قفر يضلّ به القطا.
- وفى قوله تعالى: «وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها» إشارة إلى تمكن أصحابها من جنى ثمارها، وتناول قطوفها.. إذ أصبحت ناضجة الثمار، دانية القطوف، آمنة من تعرضها للآفات التي تفسد الزهر، وتغتال الثمر.. فإذا اجتاحتها آفة وهى على تلك الحال من الجمال والنضارة، كان ذلك أوجع وأفجع لأهلها.. كما يقول الشاعر:
إن الفجيعة فى الرياض نواضرا لأجلّ منها فى الرياض ذوابلا
- وفى قوله تعالى: «أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ».. «الحصيد» ما حصد من الزروع بعد نضجه.. و «تغن»
987
بمعنى تكون، أو توجد، على حال من الاستقرار والثبات.. يقال غنى بالمكان، أي أقام فيه واستقرّ.
وفى إسناد الاستقرار إلى الأرض، مع أن الاستقرار إنما هو لأهلها، إشارة إلى أنها بما لبسها من حياة، وما نبض فى عروقها وشرايينها من دماء هذه الحياة، وما تزينت به من حلل وحلى. قد أصبحت كائنا حيّا، مستغنيا بما اجتمع له من هذا المتاع والزخرف..
وفى تشبيه الحياة الدنيا، وما يلبس الناس فيها من ألوان الحياة والسلطان، وما يقع لأيديهم منها من مال ومتاع- فى تشبيه هذه الحياة بالماء الذي ينزل من السماء، فيختلط بنبات الأرض، ويلبس هذه المظاهر التي يشكلها من هذا النبات، ويصيرها جنّات وزروعا، وزهرا، وفاكهة وحبّا..
- فى هذا التشبيه إعجاز من إعجاز القرآن، وآية من الآيات الدالة على علوّ متنزّله..
فالإنسان عنصر من عناصر هذه الحياة، ومادة من موادها.. إنه ماء من هذا الماء.. هكذا هو فى أصله ومادة تكوينه.. يقول تبارك وتعالى: «أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ» (٢٠: المرسلات).
ويقول سبحانه: «خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً» (٥٤: الفرقان).. ويقول جل شأنه: «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ» (٥- ٦: الطارق).
هذا الإنسان الذي هو ابن الماء.. يخالط الحياة، ويتحرك فى أحشاء الوجود، وسرعان ما يصبح هذا الكائن، أو هذا الكون الذي يمشى على الأرض، وكأنه جنة قد أخذت زخرفها وازينت.. بملأ الأرض تيها وعجبا، ويمشى عليها مختالا فخورا، يكاد يخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولا..
وهذا الماء الذي ينزل من السماء، ويختلط به نبات الأرض، وقد عرفت
988
شأنه، وما يصنع من هذا النبات.. أليس هو هو الإنسان ابن الماء والطين؟ ثم أليس هذا الإنسان الذي هو محصول هذا الماء، ومنبت ذلك الطين، يصير حصيدا هشيما، كما يصير النبات ابن الماء والطين حصيدا هشيما؟
إن التطابق بين الصورتين على هذا التصوير المعجز، هو آية من آيات الله.. ليس فى مقدور بشر أن يمسك بخيط من خيوط نسجه المحكم الرائع! وهل هذا كل ما هنالك من هذا الإعجاز فى هذه الصورة؟ ومعاذ الله أن ينفد إعجاز كلامه، أو ينقطع جنى ثمره، على مدى الأزمان، وعلى كثرة الواردين والطاعمين.
انظر فى قوله تعالى: «فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ»..
وأكاد أدعك لتكشف عن سرّ هذا النظم، الذي جعل اختلاط نبات الأرض بالماء، ولم يجعل اختلاط الماء بالنبات.. هكذا: «فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ»، على ما يقتضيه مفهوم النظر الإنسانىّ لهذه الظاهرة..
فالماء هو الذي يختلط بنبات الأرض، ويسرى فى كيانه، فيبعث فيه الحياة، ويخرجه من عالم الموات.. هكذا نرى، وهكذا نقدّر! ولكنّ عين المقدرة ترى مالا نرى، وتعلم مالا نعلم! فإن كنت تنكر هذه القدرة، أو تشك فى هذا العلم، فهات قدرتك، واستحضر علمك، وقل لى ماذا ترى هناك؟ وماذا تعلم مما بين الماء والنبات؟..
أيهما المختلط وأيهما المختلط به؟ وأيهما الفاعل وأيهما المفعول به؟
ودع عنك ما أنت فيه من نظر، وعلم..
وانظر فى كلمات الله تلك، وخذ العلم الحق منها.
ولن أدعك كما قلت لك.. بل سأنظر معك، وأتلقى العلم فى صحبتك!
989
الماء، والنبات.. حين يلتقيان.. ماذا يحدث عند التقائهما؟ وماذا يكون من هذا اللقاء؟
وليكن فى تقديرك- قبل الإجابة على هذا التساؤل- أن المراد بالنبات هنا، هو نبات الأرض، أي بذرة النبات التي تغرس فى الأرض، لا النبات حين يكون نباتا.. فإنه فى تلك الحال، لا يكون مجرد نبات، بل هو الماء والنبات معا.. وأن لقاء قد كان بين الماء وبذرة النبات حتى أصبح نباتا، وإلا فهو بذرة، أو حبة، وليس نباتا وإذا تقرر هذا.. فلنجب على هذا السؤال: ماذا يحدث من التقاء الماء بالبذرة أو الحبة؟
البذرة أو الحبة التي تقلّبها بين يديك، ليست شيئا ميّتا- كما يبدو لنا- بل هى كائن حىّ، يحتفظ فى كيانه بكل عناصر الحياة، التي تنتظر من يثيرها، ويدفع بها إلى الظهور.. وذلك لا يكون إلا بأمرين:
(أولا) : غرسها فى الأرض.. (وثانيا) وصول الماء إليها، وتحول تراب الأرض إلى طين بهذا الماء..
هنا تبدأ الحياة الكامنة فى البذرة، أو الحبّة تتحرك، وتأخذ طريقها إلى الماء المختلط بالتراب، أعنى الطين، فتجذبه إليها، وتفتح له الطريق إلى الحياة الكامنة فيها، وتأخذ منه ما يروى ظمأها إلى الحياة، وإلى الإعلان عن وجودها، وإظهار آيات الخالق التي ائتمنها عليها..
فالبذرة أو النبتة إذن هى الطالبة للحياة، والمهيأة لها، والمتشوقة إليها..
وما الماء، وما التراب، وما الطين إلا عناصر مساعدة. فالحبة إذن هى الداعية لتلك العناصر، الطالبة للاختلاط بها.. ومن هنا جاء النظم القرآنى.. «إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا.. كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ.. فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ» !!
990
أرأيت إذن سر هذا النظم، الذي أسند الاختلاط بالماء إلى البذرة أو الحبة.. والذي لو جاء على عكس هذا، فأسند الاختلاط بالحبة إلى الماء، لكان خطأ علميا، يناقض ما كشف عنه علم الأحياء اليوم..
وهذا الذي حدثنك عنه لا يمثل إلا وجها واحدا من الصورة، هو وجه الماء والنبات..
أما الوجه الآخر، وهو الإنسان المقابل لهذا الوجه.. فهذا ما نقص عليك من أمره:
هذا الإنسان وإن كان نبتة من نبات الأرض، فإنه هو الماء الذي يبعث الحياة فى موجوداتها، ويكشف عن القوى الكامنة.. فهو- بهذا- قائم على ذلك الوصف الذي أنبأ عنه التشبيه فى قوله تعالى: «إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ».. ويكون من هذا أن الحياة الدنيا هى هذا «الإنسان».. وأنه لولا هذا الإنسان لما كانت تلك الحياة الدنيا، وما تنبض به عروقها من حياة دافقة، فى كل وجه من وجوهها..!
فالإنسان هو الحياة الدنيا.. وهو الماء الذي يثير الحياة، بل ويخلق الحياة فى كل ما على هذه الدنيا.. كما يبعث الماء الحياة فى الأحياء، بل وكما تتخلق منه الحياة، كما يقول الله تعالى: «وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» (٣٠: الأنبياء).
وانظر مرة أخرى فى قوله تعالى: «إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ»..
991
وضع «الإنسان» أو «الناس» مكان الحياة الدنيا تجد:
أولا: الإنسان- الذي هو من الماء- والوجود الذي أقامه هذا الإنسان من عالم الموات فكان تلك الحياة الدنيا- كالماء المنزل من السماء، وما أثار فى الأرض من انطلاق الحياة الكامنة فيها..
وثانيا: الإنسان ودنياه التي صنعها بيده، ونسج خيوطها بعقله ويده- هو زرع، يبزغ، ويخضر، ويمتد، ويزهر، ويثمر، ثم يكون حصيدا هشيما، كهذا النبات الذي يملأ وجه الأرض حياة وجمالا، ثم يصير هشيما تذروه الرياح..!
وثالثا: هذا الإنسان الذي هو ابن ماء السماء.. فيه نفخة من الله ونفحة من روحه.. قد جاء إلى هذه الأرض من عل، فغيّر معالمها، وزين وجوهها.. تماما كما ينزل ماء الغيث من السماء إلى الأرض فتهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج..
ورابعا: الإنسان- ابن ماء السماء هذا- وإن كان علوىّ المتنزل، فإن منبته من الأرض، جاء منها، وارتفع فوق سمائها، ثم استوى عليها..
تماما كماء الغيث.. كان على الأرض، ثم كان سماء فوقها، ثم عاد إليها واختلط بها..
هذا، ولك أن تذهب إلى ما لا ينتهى، فى عد ما يؤديه إليك النظر، من مطالعة وجه الآية الكريمة، على امتداد هذه النظرة.. ثم لك أيضا بعد هذا أن تدير نظرك إلى أكثر من اتجاه غير هذا الاتجاه.. وستجد معطيات كثيرة لا تنتهى..!
قوله تعالى: «وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ»..
992
مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآية السابقة تحدثت عن الحياة الدنيا، وكشفت عن أنها دار فناء، لا بقاء لشىء فيها، وإن زها وازدهر.. لا تبيت أحدا على جناح أمن أبدا، وإن أمكنته من كل أسباب السلطان والقوة والعزة..
فهو على طريق ينتهى به دائما إلى نهاية، هى الموت..!!
هذه هى الدار التي كشفت عنها الآية السابقة، وهى دار متاعها غرور، وظلها زائل.. لا يغتربها، ولا يثق فيها إلا من استجاب لداعى هواه، ووساوس شيطانه..
أما الدار التي تشير إليها هذه الآية: «وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ..»
فهى الدار الآخرة، وهى دار أمن وسلام، وخلود، يدعو إليها الله سبحانه وتعالى عباده، ويبعث فيهم رسله ليدلوهم عليها، وليكشفوا لهم معالم الطريق إليها.. فمن استجاب لدعوة الله، وصدّق برسله، واستقام على دعوتهم، كان من أهل هذه الدار، ومن أهل السلامة والأمن والنجاة، والفوز بنعيم الجنات، وبرضوان الله..!
وفى قوله تعالى: «وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» إشارة إلى أنه ليس كل مدعوّ إلى هذه الدار بمستجيب للدعوة، إلا من وفقه الله، وشرح صدره لقبول هذه الدعوة، والاستجابة لها..
فالدعوة عامة.. موجهة من الله تعالى، إلى عباد الله جميعا.. ولكن من كان ممن رضى الله عنهم، وأحب أن يكون ضيفا على مائدة فضله وكرمه- جعلنا لله منهم- هشّ للدعوة وسعى حثيثا إلى جنات ربه، وأما من غلبت عليهم شقوتهم، واستبدت بهم شياطينهم- وعافانا الله من هذا البلاء- فإنهم فى صمم عن دعوة لله، لا يسمعونها ولا يستجيبون لها إذا سمعوها..
993
قوله تعالى: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ».
الرّهق: علوّ الشيء للشىء، وغلبته له، وتمكنه منه، بعد أن ينهكه ويرهقه.. كالمتسابقين فى الجري مثلا.. يرهق أحدهما الآخر، ويسبقه، بعد أن يجهده ويكدّه! والقتر: الغبار.. وهو هنا كناية عن الشدّة التي تصيب الإنسان، فتظهر آثارها على وجهه، فينطفئ بريقه، ويجفّ ماء الحياة منه..
وتعرض الآية الكريمة، صورة كريمة مشرقة لمن دعوا إلى دار السّلام، وأجابوا دعوة الله، وآمنوا به وبرسله، فكانوا من المحسنين، وكان جزاؤهم إحسانا بإحسان، وزيادة مضاعفة على هذا الإحسان..
وفى التعبير بالحسنى عن الإحسان: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى»..
إشارة إلى العاقبة، وأنها العاقبة الحسنى.. فهى تدلّ على الإحسان، وعلى زمن الإحسان معا، وأنها فى الدار الآخرة، التي هى دار الجزاء الحق..
كما يقول سبحانه وتعالى: «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» (٨٣: القصص).
وكما يقول سبحانه: «أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ» (٢٢- ٢٣: الرعد).
- وفى قوله تعالى: «وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ» تعريض بالكافرين الذين سينزل بهم هذا البلاء يوم القيامة، فيركب وجوههم الفتر، وتعلوها الذلة والهوان.
وعدم وقوع هذا بالمؤمنين المحسنين ليس جزاء لهم، وإنما هو لازم من لوازم الجزاء الحسن الذي جوزوا به، فحيث كان جزاؤهم الحسنى وزيادة،
994
وكانت دارهم النعيم والرضوان، فإن القتر لا يطوف بهم، وإن الذّلة أبعد ما تكون عنهم..
فذكر هذا فى جانب المحسنين، هو تعريض بالكافرين، الذين سيرهق وجوههم القتر وتركبهم الذلة.. ثم هو- مع هذا- تذكير للمحسنين بالنعيم الذي هم فيه، والرضوان المحفوفين به، وأنهم فى عافية مما يحلّ بالكافرين من عذاب ونكال.
قوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ».
ذلك هو حساب الكافرين والمشركين وأصحاب الضلالات فى الآخرة، وذلك هو نزلهم يوم الدين.. وتلك هى دارهم يوم القيامة! - «جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها».. كيلا بكيل، ومثقالا بمثقال..
- «وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ.. ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ».. أي أنهم ينزلون منازل الهوان، والبلاء..
ثم هم مع هذا فى يأس قاتل، من أن تمتدّ إليهم يد تخفف عنهم ما هم فيه من عذاب ونكال.. «ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ» يعصمهم من هذا البلاء، ويحول بينهم وبينه.
- «كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً».. قد كسفت وجوههم، وعلتها غبرة، ترهقها قترة، حتى لكأنما غمست هذه الوجوه فى قطعة من الليل- فى ليلة حالكة السواد، لا يطلع فيها قمر، ولا يلمع فيها نجم، فكانت- لما علاها من غبرة- كأنما قدّت من هذا الليل البهيم.
قوله تعالى: «وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ
995
أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ».
فى هاتين الآيتين عرض لبعض مشاهد يوم القيامة.. يوم يحشر الناس إلى ربّهم للحساب والجزاء.
وفى هذا المشهد، ينادى منادى الحقّ على المشركين: «مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ».. أي الزموا مكانكم أنتم وشركاؤكم، لا تتحركوا حتى تحاسبوا على ما ارتكبتم من آثام..
وفى هذه الدعوة الزاجرة الصادعة ما يكشف عن وجه هؤلاء القوم، وأنهم مجرمون، قد ضبطوا متلبسين بجرمهم.. وهذه يد القصاص تمسك بهم، وتقيّدهم حيث هم، إلى أن يلقوا الجزاء الذي هم أهل له.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ» (٢٢- ٢٤: الصافّات).
وفى موقف المساءلة والحساب، فرّق بين الفريقين: العابدين والمعبودين..
فأخذ كل فريق جانبا مواجها للآخر.. «فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ» أي فرقنا بينهم، وأصله من الزوال، وهو ذهاب الشيء واختفاؤه، ومنه وقت الزوال، وهو توسط الشمس فى كبد السماء، حيث يختفى ظل الأشياء فى هذا الوقت..
وقد جاء اللفظ القرآنى «زيّلنا» بدلا من اللفظ «فرقنا».. لأن مع التفريق بقية أمل فى الاجتماع، أما التزييل، فهو غروب إلى الأبد، واختفاء لا ظهور بعده..
وفى هذا ما يزيد فى وحشة المشركين، الذين كانوا يستندون إلى من
996
عبدوهم وأشركوا بهم، وكانوا يتأسّون بمشاركتهم فيما سيقع لهم، ففى هذه المشاركة عزاء لهم أي عزاء.. كما تقول الخنساء:
ولولا كثرة الباكين حولى على إخوانهم لقتلت نفسى
وقبل أن يزايل المعبودون موقف المشركين، ينكرون ما كان بينهم من صلات عقدها المشركون معهم، على غير علم منهم.. قائلين لهم: «ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ».. ثم يشهدون الله سبحانه وتعالى على ذلك: «فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ» أي إننا لا ندرى من أمركم شيئا..
و «إن» هنا هى «إنّ» المؤكدة، خفّفت.. أي إننا كنا عن عبادتكم لغافلين.
وإنكار العبودية على المشركين أنّهم عبدوهم، مع أن الله سبحانه وتعالى أعلمهم بهذا، إذ جمعهم بعابديهم- هذا الإنكار يراد به أن هذه العبادة لم تكن عن علم من المعبودين، أو عن دعوة منهم لعابديهم.. فهو تقرير لواقع الأمر، حين وقعت هذه العبادة، وذلك أنهم إنما كانوا يعبدون أصناما جامدة، وأحجارا صمّاء، لا تدرى من أمر عابديها شيئا.. أو بشرا اتخذوهم آلهة لهم بعد موتهم، كما قالت اليهود عن عزيز، وكما قالت النصارى عن المسيح.. وهذا ما يشير إليه قولهم بعد هذا «فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ».
قوله تعالى: «هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» «تبلو» : من الابتلاء، وهو الاختيار للشىء، والتعرف على حقيقته..
و «أسلفت» أي ما سلف لها من عمل، وما كان لها من سعى..
997
والمعنى: أنه فى هذا الموقف، موقف الحساب والجزاء يوم القيامة، تعرف كلّ نفس ما قدمت من عمل فى دنياها لآخرتها..
فهناك يرى الناس أعمالهم على حقيقتها، حيث يكشف الغطاء عن وجوهها، فيعرف الحق من الباطل، والخير من الشرّ، والهدى من الضلال.. «يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ»
(٦: الزلزلة) - وفى قوله تعالى: «وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ» إشارة إلى ما كان يتعامل به المشركون والكافرون من ضلالات ومنكرات، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا: «أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ.. فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً» (١٠٥: الكهف)
الآيات: (٣١- ٣٦) [سورة يونس (١٠) : الآيات ٣١ الى ٣٦]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥)
وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦)
998
السمع والبصر.. ومكانهما فى الإنسان
التفسير: عرضت الآيات السابقة بعض مشاهد القيامة، ليرى الناس منها صورة مصغرة لما يقع فيها، من مساءلة، وحساب، وجزاء، وليكون لهم منها عبرة وعظة..
وهنا فى هذه الآيات.. يعاد الناس إلى حيث هم فى هذه الحياة الدنيا، وقد صحبتهم من مشاهد القيامة مشاعر، من شأنها أن تفتح عقولهم وقلوبهم لآيات الله التي تتلى عليهم، والتي تحدّثهم عن قدرة الله، وتكشف لهم آياته فيهم، وآثار أفضاله ونعمه عليهم..
وقوله تعالى: «قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ».
هو عرض لبعض آيات الله، وما تحمل من دلائل قدرته، ورحمته..
فهذه أسئلة، كان ينبغى أن يوردها الإنسان على نفسه، وأن يتلقّى الجواب عليها من النظر فى نفسه، وفيما يطوله إدراكه، من النظر فى ملكوت السموات والأرض.
وإذ كان الناس فى غفلة عن أن يقفوا هذه الوقفة مع أنفسهم، وأن يصلوا إلى الحقيقة بمجهودهم الشخصي.. فقد كان من رحمة الله بهم أن بعث فيهم رسله، يحملون إليهم كلماته، ويحدّثونهم بما كان ينبغى أن يحدّثوا هم أنفسهم به.
- «مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ» ؟
- «أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ» ؟
- «وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ» ؟
- «وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ» ؟
999
ما جواب هذه الأسئلة؟
جواب واحد، لا غير.. هو الله رب العالمين..!
وهنا أمور نحبّ أن نقف عندها:
فأولا: إسناد ملكية السمع والأبصار لله..
لم أسندت إليه سبحانه وتعالى ملكية هاتين الحاستين وحدهما.. مع أنه- سبحانه- يملك كلّ شىء؟ ولم كانت إضافتهما إلى الله بالملك، ولم تكن بالخلق، كما هو أظهر.. فقد يملك الشيء من لا يوجده ويخلقه؟
والجواب: أن السمع والبصر هما أظهر حاستين عاملتين فى الإنسان، لا يكون الإنسان إنسانا إلا بهما، فإذا فقدهما، كان كومة متحركة من لحم، لا تعقل ولا تعى شيئا! فعن طريق السمع والبصر، جاءت المعرفة إلى الإنسان، وتكونت مداركه، وأخيلته، وتصوراته.. وعن طريق السمع والبصر، تتحول هذه المعرفة إلى قوى دافعة، تحرّك الإنسان، وتوجهه إلى غاياته فى الحياة..
وأما عن التعبير بملكية السمع والأبصار، لا بخلقهما، فلأن الملكية تطلق يد المالك فى التصرف فيما ملك.. ولا ينفى هذا أن يكون المالك هو الخالق، فهو يخلق ويملك ما يخلق.. وقد يخلق ويهب ما يخلق، أو يملّك ما يخلق، فيكون للمالك وحده- حينئذ- التصرف فيما ملكه! فالتعبير بملكية السمع والأبصار، يعنى أن الله سبحانه وتعالى- وإن فضل بهما على الإنسان، فهما لم يخرجا عن سلطانه، وأنهما- وهما يعملان فى الإنسان- يعملان بقدرة الخالق، وبتصريفه لهما.. وأنه- سبحانه- هو الذي يمدّهما بالقوى التي يعملان بها، ولولا هذا لبطل عملهما.. فهو- سبحانه- الذي أعطى السمع والأبصار، ما لهما من قوى عاملة، وهو القادر
1000
على أن يأخذ هذه القوى، ويبطل عمل السمع والبصر، كما يقول سبحانه:
«قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ» (٤٦: الأنعام).
وثانيا: إفراد السّمع وجمع الأبصار.. ما دلالة هذا؟ وما السرّ الذي ينطوى عليه؟
والمتتبع لآيات الله، التي تتحدث عن السمع والبصر، يجد أن القرآن الكريم قد فرّق بين السمع والبصر، فى الصورة التي عبّربها عن كل منهما.
فأما عن السّمع.. فقد التزم فيه القرآن الكريم الإفراد مطلقا، سواء اقترن به البصر أم لم يقترن.. وسواء أجاء منكّرا، أو معرفا بأل أو بالإضافة..
ولم يقع فى القرآن مجىء السّمع جمعا فى أي حال من أحواله.. ولم يرد فى القرآن لفظ «الأسماع» أبدا..
يقول الله تعالى: «الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً» (١٠١: الكهف).. ويقول سبحانه: «وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً» (٢٦: الأحقاف) ويقول تعالى: «وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ» (٢٣: الجاثية) ويقول جلّ وعلا: «فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ» (٢٦: الأحقاف) ويقول تبارك وتعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ» (٤٦: الأنعام).
ويلاحظ فى الآيات القرآنية التي ورد فيها «السمع» أنه يقترن دائما بالبصر، أو الأبصار، فإن لم يقترن بهما اقترن بحال من أحوال الإنسان التي يكون فيها فى ذهول وغفلة وشرود.. كما فى قوله تعالى: «هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ» (٢٢١- ٢٢٣: الشعراء) وقوله سبحانه:
1001
«إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ» (٣٧: ق).. فالقلب هنا يقوم مقام البصر، فى كشف معالم الطريق إلى الهدى والنور.. وقوله سبحانه: «الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً» (١٠١: الكهف) فالعيون التي فى غطاء عن ذكر الله، هى العيون التي لا تتصل معطياتها بعقل أو قلب، وهى الأبصار المعطلة التي لا تعمل! وأما عن البصر.. فقد عبّر عنه القرآن بصيغة الإفراد، وبصيغة الجمع..
وذلك فى حال إفراد البصر بالذكر دون أن يقترن به السمع.
فقد جاء البصر مفردا مثل قوله تعالى: «ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى» (١٧: النجم) وقوله سبحانه: «وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» (٥٠: القمر) وقوله جلّ شأنه: «ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ» (٤: الملك) وجاء البصر جمعا، غير مقترن بالسمع، كقوله تعالى: «وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ» (١٠: الأحزاب) وقوله سبحانه:
«فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» (٤٦: الحج).. وقوله: «فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ» (٢: الحشر).
كذلك جاء البصر جمعا مقترنا بالسّمع، مثل قوله تعالى: «وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ» (٢٣: الملك) وقوله جل شأنه: «وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ» (٧٨: المؤمنون) وقوله سبحانه:
«قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ» (٤٦: الأنعام).
وهكذا جاء وضع السمع فى كلام الله، مخالفا بينه وبين البصر.. حيث يجىء السّمع مفردا دائما، ويجىء البصر مفردا وجمعا.. وأكثر ما يجىء البصر
1002
جمعا إذا اقترن بالسّمع- وقد جاء السّمع مفردا مقترنا بالبصر فى قوله تعالى: «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا» (٣٦: الإسراء) والسرّ فى هذا- والله أعلم- هو أن بين السمع والبصر اختلافا من وجوه:
فأولا: السمع طريق إلى شىء واحد، هو الصوت.. والصوت، وإن اختلف قوة وضعفا، ورقّة وخشونة.. فهو- على أي حال- شىء واحد، فى النوع، وإن اختلف فى الدرجة.
أما البصر فهو طريق إلى هذا الكون كلّه، وما فيه من عوالم وأكوان، وما فى كل عالم وكون، من ناطق وصامت، ومتحرك وثابت، وجامد وسائل.. إلى غير ذلك مما فى العالم الأرضى من كائنات، وما فى السماء من شمس، وقمر، ونجوم، وكواكب... وكلها مختلفة متغايرة.
فالبصر، بالقياس إلى السّمع، هو أبصار.. يتعامل مع ما لا يحصى من الأشياء، حتى إنه فى النظرة الواحدة يفتح عشرات القوى المبصرة، فتجىء إليه بأكثر من منظور! وثانيا: السمع، لا يستطيع أن يضبط أكثر من صوت واحد، فى حال واحدة.. وإلا اختلطت عليه الأصوات، وذاب بعضها فى بعض، وعسر على الإدراك، عزلها، وتمييزها.
والبصر.. ينقل كثيرا من المرئيات فى حال واحدة، ويحتفظ لكل مرئى بصورته، دون أن تختلط بغيرها.. وينقلها إلى الإدراك منفصلة، كما ينقلها إليه متصلة.
فهو- من هذه الجهة- أكثر من حاسّة.. إنه أبصار، وليس بصرا واحدا..
1003
وثالثا: السّمع مقيّد بوجود الصوت، الذي يتعامل معه.. فإذا لم يكن هناك صوت، تعطّل السّمع، وخيم عليه صمت رهيب!.
أما البصر، فهو عامل دائما، فحيثما فتح الإنسان بصره وجد ما ينقله إليه بصره من أشياء لا تكاد تحصى.. فى أي مكان، وفى أي زمان.
فالبصر بالقياس إلى السمع هنا، هو أبصار كثيرة.. لا عدّ لها ولا حصر.
ورابعا: وأكثر من هذا كلّه- وهو فى النظم القرآنى بالمحلّ الأول- هو أن البصر يستطيع أن يمسك بالأشياء، ويقف ما شاء له الوقوف إزاءها، ويعاود النظر إليها، مرة ومرة ومرات.. ويتفحصها من جميع وجوهها..
والسمع بمعزل عن هذا، إذ لا يستطيع أن يمسك بالصوت أكثر من اللمسة العابرة التي تمرّ به.. وفى هذا يقول الله: «فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ» (٣- ٤: الملك).
ومن هنا، كان البصر، أبصارا، فى معاودته النظر إلى الأشياء، وفى تفحصها، والنظر إليها من جميع جهاتها، من قرب ومن بعد..
ومن هنا أيضا كان التفات القرآن الكريم إلى النظر، وتوجيهه إلى ملكوت السموات والأرض، وعقد صلة وثيقة بينه وبين القلب..
يقول تبارك وتعالى: «قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» (١٠١ يونس) ويقول سبحانه: «انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ» (٩٩:
الأنعام).. ويقول جل شأنه: «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ» (٢٠: العنكبوت).. ويقول سبحانه:
«فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» (٥٠: الروم).
1004
وكما دعا القرآن إلى النظر فى المحسوسات، وأخذ العبرة والعظة منها، دعا إلى النظر فى المعنويات، وتدبّرها، ووصل العقل والقلب بها..
يقول سبحانه وتعالى: «انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» (٧٥: المائدة) ويقول جلّ شأنه: «انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً» (٥٠: النساء) ويقول سبحانه: «انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا» (٤٨: الإسراء) ومن إعجاز القرآن فى هذا أيضا، أنه تحدّث عن حاسّة السّمع باعتبارين:
باعتبار أنها جارحة من الجوارح، وجهاز من الأجهزة، وظيفتها نقل الصوت، شأنها فى ذلك عند الإنسان شأنها عند الحيوان.. فهى «أذن» وهى بتعدد أصحابها «آذان»..
وهذا ما نراه فى قوله تعالى، فى تسفيه أحلام المشركين، وإنزالهم منازل الحيوان: «أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها؟ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها؟. أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها؟ أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها؟» (١٩٥: الأعراف).. فهذه كلها جوارح حيوانية، ركّبت فى كائنات حيوانية، لم ترتفع بعد إلى مستوى الإنسانية.. فالأذن عندهم أذن، وليست سمعا! أما إذا تحدث القرآن عن الآذان باعتبار أنها جهاز متصل بالقلب والإدراك.. فهى «سمع» وهى بتعدد أصحابها «سمع» أيضا..
أما البصر، فقد تحدّث القرآن عنه بالاعتبارين اللذين تحدث بهما عن السّمع.. فهو كعضو من أعضاء الجسم «عين، وعيون».. وهو كجهاز متصل بالقلب، والعقل.. «بصر» و «أبصار».
ثم تحدث القرآن عن البصر باعتبار ثالث، وهو أنه «بصيرة».. أي ملكة تتخلّق من النظر المتأمّل، المتفحص.. «فالبصيرة» بنت «البصر»..
1005
وفى هذا يقول سبحانه وتعالى: «فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ» (٢: الحشر) ويقول سبحانه: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ» (١٣: آل عمران) ولهذا اشتقّ القرآن من البصر: البصيرة.. والبصائر.. والتبصرة، فقال تعالى: «بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ»
(١٤: القيامة) وقال سبحانه:
«قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها» (١٠٤:
الأنعام).. ويقول جل شأنه: «وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ» (٧- ٨ ق).
وبعد، فما أرانا بعد هذا الوقوف الطويل على ساحل هاتين الكلمتين..
«السمع والأبصار» - ما نرانا إلّا قد حسونا حسوة من هذا المورد المتدفق العذب، تنقع الصدى، ولا تشفى العليل.. وذلك هو جهد من قصر باعه، فمن كان ذا باع فليرد، وليرتو، وليرو الظّماء! فهذا مورد لا يغيض!.
قوله تعالى: «فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ.. فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ.. فَأَنَّى تُصْرَفُونَ».
الإشارة هنا: «فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ» إلى الناس جميعا، مؤمنهم، وكافرهم، ومشركهم.. تلفيهم إلى الإله الحق. الذي خلق فسوّى.. ثم نخلص الإشارة بعد هذا إلى الكافرين والمشركين الذين ضلّ سعيهم، وتنكبوا عن طريق الحق، وركبوا طرق الضلال.. فتنخسهم نخسة موجعة بهذا الاستفهام الإنكارى:
فماذا بعد الانصراف عن الإيمان بالله، والتعبد له- ماذا بعد هذا إلا ركوب الضلال، والضرب فى المتاهات، والتعبّد لكل باطل وبهتان: «فَأَنَّى
1006
تُصْرَفُونَ»
.. أي فإلى أين تذهبون؟ وإلى أي مهلكة أنتم واردون أيها الضالون؟
قوله تعالى: «كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ».
حقت: أي وجبت، وقضت، ولزمت! فهؤلاء الذين فسقوا، وخرجوا عن طريق الحق، وكفروا بالله، هم ممن حكم الله عليهم بألا يكونوا فى المؤمنين.. وذلك دون أن يقسرهم الله على الكفر، أو يسلبهم إرادتهم، أو يعطل عمل عقولهم..
وقد عرضنا لهذه القضية فى مبحث خاص، تحت عنوان «مشيئة الله ومشيئة الإنسان».. «١»
قوله تعالى: «قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ».
الإفك: الافتراء، واختلاق الأباطيل.. وأنّى: بمعنى كيف.
وفى الآية محاجّة للمشركين، بعرض آلهتهم التي يعبدونها موضع الامتحان إزاء قدرة الله سبحانه وتعالى..
فالله سبحانه وتعالى يبدأ الخلق ثم يعيده.. فهو سبحانه خالق هذا الوجود، ومبدع هذه الأكوان.. وهو الذي أوجد الناس من عدم، وهو الذي يميتهم.. ثم هو الذي يبعثهم..
فهل فى هؤلاء المعبودين من يفعل هذا، أو بعض هذا؟
(١) انظر التفسير القرآنى للقرآن- الكتاب الخامس- الجزء الثامن ص ٢٦٣.
1007
لقد قالها «النمرود» لإبراهيم، وهو يحاجّه فى ربّه، فألقمه إبراهيم حجرا.. فخرس إلى الأبد..
«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ..
«قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ.. «قالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ.. «قالَ إِبْراهِيمُ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ؟ «فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»
(٢٥٨: البقرة).
وفى الآية جاء النظم على غير ما جاء عليه فى الآيات السابقة من سورة البقرة، حيث دعى المشركون هنا إلى أن يدعوا آلهتهم أولا، ليؤدّوا هذا الامتحان، وليأتوا بما عندهم.. فإذا ظهر عجزهم، لم يكن إلا التسليم بأن قوة غير قوتهم هى التي أوجدت هذا الخلق الذي يملأ الوجود حولهم، فإذا لم يعرفوا هذه القوة، ولم يدركوا نسبتها إلى من بيده تلك القدرة.. فليسمعوا الجواب، وليصححوا عليه أفكارهم الخاطئة، ونظراتهم الزائفة: «اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ» ! ولكن الضالين ما زالوا على ضلالهم القديم، لم يغيرّ هذا الدرس من تفكيرهم شيئا. بل ما زالت أبصارهم متعلقة بآلهتهم، وما زالت عقولهم تنسج لهم الأباطيل والضلالات.. وهنا يسمعهم الوجود كله، إنكاره عليهم هذا الضلال، وتسفيهه هذا البهتان: «فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ».. أي كيف تطوع لكم أحلامكم افتراء هذه المفتريات، أمام هذه الحجة الدامغة، والبرهان المبين؟..
وقوله تعالى: «قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ. أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى؟
1008
فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»
؟.. فهذا امتحان آخر.. يدعى فيه المشركون إلى امتحان شركائهم به..
«هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ» ؟
- هذا امتحان أيسر وأهون من الامتحان السابق الذي كانت مادته النظر فى بدء الخلق وإعادته..
أما هذا الامتحان فلا بعدو أن يسأل المشركون آلهتهم عن أمر ما، ثم يطلبون إليهم النظر فيه، وكشف وجه الحق لهم عنه: «هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ» ؟
وهؤلاء الآلهة، صم بكم.. لا يسمعون، ولا يجيبون.. فلا هداية منهم إلى حق، ولا دعوة الى غير حق! فإذا خرست هذه الآلهة عن أن تنطق.. فكيف يتخذها العاقلون الناطقون آلهة لهم يعبدونها من دون الله؟
وإذن فقد وجب على هؤلاء العاقلين الناطقين أن يطلبوا الهداية من رب الأرباب: «الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» وأن يتبعوا هديه، ويأخذوا بما جاءهم منه على يد رسله. «قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ»..
وأما وقد كشف الامتحان عن هذه الحقيقة، فإن الحكم الذي يوجبه العقل هنا، هو واضح لا يحتاج الى ترداد نظر:
- «أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى» ؟
جواب واحد لا سبيل إلى غيره، إلا أن يركب المرء رأسه، ويمشى عليه،
1009
بدلا من رجليه..
وفى الناس كثيرون يمشون هذا المشي المقلوب، ويأخذون هذا الوضع المنكوس..
وليس يصرفهم عن هذا صيحات الإنكار التي تصيح بهم من كل ناظر إليهم:
«فَما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» ؟ هذا الحكم على أنفسكم، وتريدونها على هذا الوضع الذي أنتم فيه؟
وفى التعبير عن الاهتداء بلفظ «يهدّى» - إشارة إلى أن هذا الذي يعبده المشركون من دون الله، لا يستطيع أن يهتدى من تلقاء نفسه إلى خير أو حق أبدا، فهو فى حاجة إلى من يقوده ويهديه، وحتى مع هذا، هو بطيء الخطا، لا يستجيب استجابة كاملة لمن يهديه.. وهذا ما يدل عليه لفظ «يهدّى» الذي هو بمعنى يهتدى، ولكن فيه ثقل واضطراب! قوله تعالى: «وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا.. إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً.. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ» الظن هنا: ضدّ اليقين، وهو ما قام على أوهام باطلة، وتصورات مريضة، وذلك هو الذي يقوم عليه تفكير المشركين، وأصحاب الضلالات، والانحرافات لا تمسك عقولهم إلا بالأوهام، ولا تتعامل إلا بالظنون! فهذا البناء الشامخ الذي يقيمونه من أوهامهم وظنونهم، لآلهتهم، وما يعلّقون عليها من آمال، هى سراب خادع، وهى أضغاث أحلام، إذا جدّ الجد، ووقعت الواقعة، لم يجد أصحابها فى أيديهم شيئا.. «إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً»
1010
- وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ» تهديد ووعيد لهؤلاء الضالين، الذين غرسوا فى مغارس الضلال، وأقاموا بنيانهم على شفا جرف هار.. فحبطت أعمالهم، وساء مصيرهم..
الآيات: (٣٧- ٤١) [سورة يونس (١٠) : الآيات ٣٧ الى ٤١]
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١)
التفسير:
قوله تعالى: «وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ»..
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الأحاديث السابقة كانت عرضا لبعض مظاهر قدرة الله.. وآثار رحمته، وذلك لتفتح العقول والقلوب إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى الإيمان به، والانخلاع عن عبادة الأوثان والأشخاص، واتخاذهم آلهة من دون الله.. وإنه لكيلا يضلّ الناس الطريق إلى الله، بعث فيهم رسله، وأنزل معهم كتبه بالهدى والنور.
1011
ومحمد ﷺ هو الرحمة المهداة إلى عباد الله، والقرآن الكريم هو الينبوع الذي تفيض منه الرحمة، وتنبعث من آياته وكلماته الأضواء والأنوار.. ومع هذا، فقد وقف المشركون من هذا النبي الكريم، ومن الكتاب الذي أوحى إليه من ربه- وقفوا موقف العناد، والعداء له، والتكذيب به، والافتنان فى سوق الضرّ والمساءة إليه.
وهذه الآية، تدفع عن القرآن الكريم، تلك الرّميات الطئشة، التي يرمى بها المشركون بين يديه، ويقولون عنه إنّه من مفتريات «محمد» ومن منقولاته عن الأحبار والكهّان، كما ذكر ذلك عنهم فى كثير من الآيات، كقوله تعالى: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ» (١٠٣: النحل) وقوله سبحانه: «وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» (٥: الفرقان) - وفى قوله تعالى: «وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ» إنكار واستبعاد أن يكون هذا القرآن من مفتريات مفتر، واختلاق مختلق.. إذ أن الافتراء والاختلاق هو تزييف للحقيقة، وتمويه للحق..
والشيء المفترى المختلق- أيّا كانت براعة المفترى، وذكاء المختلق- هو ضعيف هزيل، لا يثبت للنظر، ولا يصمد للزمن، بل سرعان ما يتعرّى ويفتضح..
وفى الإشارة إلى القرآن بقوله تعالى: «هذَا الْقُرْآنُ» تنويه به، وتمجيد له، وإلفات إلى علوّ منزلته، وتفرّده بهذه المنزلة التي لا يشاركه فيها مشارك.
- وفى قوله سبحانه: «مِنْ دُونِ اللَّهِ» إشارة إلى استبعاد أن يكون هذا القرآن من صنعة إنسان، ومن وحي خاطره، وتلقّيات مدركاته أو أوهامه.. وأنه حتّى لو كان مفترّى- كما يتخرّص المبطلون- فإنه مع
1012
هذا- فوق مستوى البشر، وأنه ليس فى مستطاع القوى البشرية كلها- متفرقة أو مجتمعة- أن تفترى مثله.. وأن من قدر أن يفترى مثله فلا بد أن يكون على صلة بقوة إلهية، تمدّه، وتعينه، على ما يفتريه، حتى يكون افتراؤه على هذا المستوي الذي يتخاضع بين يديه صدق الصادقين، وتصغر فى حضرته حقائق المحقّين! فكيف وهو الحقّ من ربّ العالمين.. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. تنزيل من حكيم حميد؟
- وقوله تعالى: «وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» - هو معطوف على المصدر الواقع خبرا لكان فى- قوله تعالى: «وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ» أي وما كان هذا القرآن مفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه.
والعطف بالحرف «لكن» يجعل حكم ما بعدها مغايرا ومضادّا لما قبلها.
والذي بين يدى القرآن الكريم، هى الكتب السّماوية التي تقدمته فى الزمن، وهى التوراة والإنجيل.
وتصديق القرآن الكريم للكتب السماوية السابقة، هو أنه يشهد لها بأنها من عند الله، ويؤيد الحق الذي جاءت به، من الدعوة إلى الله، والإيمان به، وبما تدعو إليه من فضائل.. فهى جميعها من مصدر واحد.. قد جمع القرآن الكريم ما تفرّق منها.. كما يقول الله سبحانه: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ» (٤٨: المائدة) والكتاب الذي جاء القرآن الكريم مفصّلا له، هو الكتاب «الأمّ» فى اللوح المحفوظ.. الذي صدرت عنه الكتب السّماوية جميعها، فهو من تفصيل هذا الكتاب، ومن محكمه.. كما يقول سبحانه وتعالى: «وَلَقَدْ
1013
جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»
(٥٢: الأعراف) وكما يقول سبحانه: «وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ» (٤: الزخرف) فالقرآن الكريم موصوف هنا بخمس صفات: - أنه غير مفترى.. ولو كان مفترى- كما يقولون- فإنه مع هذا، فوق مستوى البشر! وأنه مصدّق للكتب السابقة، وشاهد بصدقها.
وأنه من تفصيل الكتاب «الأمّ» ومن ينابيعه الوضيئة الصافية.
وأنه لا ريب فيه، فلا يجد الناظر فيه، والمعايش له، ما يربيه منه، أو يقع موقع الشك واللبس عنده.
وأنه- قبل هذا كله- تنزيل من ربّ العالمين.. وكفاه بهذا كمالا وعلوّا، وإحكاما.
قوله تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ».. هو تحدّ للمعاندين، المكابرين من المشركين، الذين يقولون فى القرآن الكريم: إنّه من مفتريات محمد..
صلوات الله وسلامه عليه..
وقد تحدّاهم القرآن هنا أن يأتوا بسورة من واردات الافتراء التي جاء «محمّد» بهذا القرآن منها.. فميدان الافتراء والاختلاق فسيح لا حدود له، ولا حجاز دونه..
فليجهدوا جهدهم، وليستعينوا بمن يستطيعون الاستعانة به، من أحبار
1014
ورهبان وكهّان، ومن سحرة وشعراء وخطباء، ومن إنس وجنّ.. ثم ليأتوا- بعد هذا- لا بمثل هذا القرآن كله، ولكن بمثل سورة منه.. ولينظروا فى وجه هذا الذي جاءوا به، وليضعوه، فى مواجهة آيات القرآن الكريم، ثم ليحكموا هم على ما جاءوا به، وهم أهل لهذه الحكومة، وصيارفة معادن الكلام..
فماذا يكون الذي يحكمون به؟ إنه لا شك إدانة لهذا المولود اللقيط الذي جاءوا به، واتّهام له أنه جاء من غير رشدة.. وأنه لن يجرؤ أحد منهم أن ينسبه إليه أو يحمله بين يديه، لو صدق نفسه، واحترم عقله، واحتفظ بماء الحياء فى وجهه! قوله تعالى: «بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ»..
تفضح هذه الآية الكريمة طيش هؤلاء المشركين، وما استولى عليهم من حماقة وجهل.. ذلك أنّهم على غير ما عليه العقلاء، من تثبتهم فى الأمور، وتعقلهم لها، وتفرسهم فى وجوهها قبل أن يحكموا عليها، وقبل أن يأخذوا بها أو يدعوها..
فهؤلاء المشركون، قد استقبلوا القرآن الكريم بالبهت والتكذيب، قبل أن يروه رؤية كاشفة، وقبل أن يستمعوا إليه استماعا واعيا.. «بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ».. وهذا ضلال مبين، وخسران عظيم، واعتداء على حق العقل فى النظر والتثبت، قبل الرأى والحكم.
وليس المراد بالعلم هنا، هو العلم بالقرآن، والإحاطة بهذا العلم الذي ضمّ عليه، بل هو العلم مطلقا، بأى شىء، ولأى شىء.
وفى هذا مبالغة فى تسفيه القوم، واستسخاف عقولهم.. حيث تغلب
1015
عليهم أهواؤهم ونزعاتهم، فلا يلقون الأمور بعقولهم، ولا يزنونها بأحلامهم، وإنما يلقونها بأهوائهم المسلطة عليهم، ويزنونها بما يقع لأيديهم منها، من نفع ذاتى عاجل.. فإذا لم يستقم الأمر على ميزانهم هذا، تنكروا له، وأنكروه، من قبل أن يعلموا ما هو؟ وما الصفة التي يقوم عليها؟
- وفى قوله تعالى: «وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ» - إشارة خاصة إلى القرآن الكريم، وأنه ليس من عوارض الأمور، التي يفرغ المرء من حسابه معها فى نظرة عابرة، أو لمسة طائرة.. وإنما هو آيات الله، قد أودعت فى حروفه وكلماته وآياته، أسرار هذا الوجود، ونظام هذا العالم، وملاك أمر هذا المجتمع الإنسانى، ومناهج سعيه المستقيمة.
وإذا كان هذا هو شأن القرآن الكريم، فإنه- لكى يتعرف الإنسان عليه، ويقع على بعض ما فيه من أسرار- يجب أن يقف المرء طويلا معه، وأن يعطيه ملكاته كلها، وبهذا يعرف ما هو هذا القرآن الذي يسمعه، ويدرك طعم هذا الثمر الذي يتدلّى عليه من أغصانه وأشجاره..
أما النظرة الحمقاء الشاردة العجول، أو النظرة الجامدة الباردة العمياء.
فلن تنال شيئا، ولن تبلغ غاية، تحصّل بها شيئا من هذا الخير الكثير..
وهذا هو السر أو بعض البسر- فى «لمّا» التي تفيد امتداد الزمن وتراخيه حتى يقع الحديث الذي يجىء من الفعل الوارد عليه هذه الأداة «لمّا» التي تفيد التراخي والامتداد فى الزمن المستقبل.
والصورة هنا هكذا:
إن هؤلاء المشركين من شأنهم أن يواجهوا الأمور بعواطفهم ونوازع أهوائهم، فيدفعوا كل أمر لا يلتقى مع أهوائهم، ولا يستجيب لمنازعهم..
1016
هكذا شأنهم مع صغير الأمور وكبيرها، ومع قريبها وبعيدها.. فإذا جاءهم أمر تلقّوه سلفا بما تموج به صدورهم من نزعات وأهواء، فإذا جاء الأمر على وفق أهوائهم، وجرى على طريق نزعاتهم، قبلوه، واطمأنوا إليه، وإلا أنكروه، وتنكروا له! وهم مع القرآن، بادءوه بالإعراض والتكذيب قبل أن ينظروا فيه.. ومن نظر منهم إليه، نظر نظرا منحرفا، باردا.. فكذبوا بالبدهيات، كما كذبوا بما يحتاج إلى بحث ونظر، وإمعان.. «بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ» أي كذبوا بما لم يقع لهم منه علم أصلا، لأنهم لم ينظروا فيه، ولو نظروا لعلموا، ثم كذبوا بما لم يأتهم تأويله ولم يدركوا أسراره، لأنهم لم يطيلوا البحث ويمعنوا النظر، ولو فعلوا، لجاءهم تأويله، وانكشفت لهم بعض أسراره..
فهم على تكذيب بالقرآن أبدا.. يكذبون به قبل أن ينظروا فيه، ويكذبون به بعد أن ينظروا فيه، لأنهم يسبقون هذا النظر بمشاعر الاتهام، فإذا نظروا لم ينفعهم النظر، لأنه- كما قلنا- نظر شارد، مستخفّ بما ينظر إليه..
وقوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ» هو بيان لموقف المشركين من القرآن الكريم، وتعاملهم معه..
فهم فريقان.. فريق نظر فى القرآن، وعرف وجه الحق فيه، ولكن يأبى عليه كبره وعناده أن يخرج عن مألوف عادته، وأن يتقبل الدّين الجديد ويترك مخلفات الآباء والأجداد.. وهذا ما يشير إليه القرآن الكريم فيما حكاه عن هؤلاء المشركين فى قوله سبحانه: «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» (٣٣: الأنعام)
1017
وفريق يبادىء القرآن بالتكذيب من قبل أن يسمع أو ينظر.. «وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ.. فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ» (٥: فصلت)..
هكذا أهل الزيغ والضلال.. يعمون عن الحق، ويزيغون عن الهدى، سواء منهم من عرف الحق ومن لم يعرفه.. فليس كل الذي يعرف وجه الحق يقبله أو يقبل عليه.. فما أكثر الذين يعرفون الباطل ويتعاملون معه!، وما أكثر الذين يعلمون الشر ويلقون بأنفسهم فيه!. وما أكثر الذين يرون الهوى ويتعامون عنه!، وما أكثر الذين يبصرون وجه الحق ويتنكرون له!..
والله سبحانه وتعالى يقول: «وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ.. ظُلْماً وَعُلُوًّا» (١٤: النمل) قوله تعالى: «وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ»..
هذا هو الموقف الذي كان على النبي أن يأخذه إزاء المشركين المعاندين المكذبين.. إنه ليس له سلطان عليهم يأخذهم به قهرا وقسرا، إلى ما يدعوهم إليه من الهدى والحق والخير الذي ساقه الله سبحانه وتعالى على يديه إليهم..
إنه ما عليه إلا أن يبلغ رسالة ربه.. وقد بلّغها.. «فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها» (١٠٤: الأنعام).. «مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ» (٤٤: الروم).. فلكل إنسان عمله، الذي سيجزى به يوم القيامة.. من خير أو شر.. «وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» (١٦٤: الأنعام)
1018
الآيات: (٤٢- ٤٤) [سورة يونس (١٠) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤)
التفسير: قوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ، أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ»..
الضمير: فى «منهم» يعود على المشركين الذين جاء ذكرهم فى الآيات السابقة، وكشف القرآن عن بعض أحوالهم ومواقفهم من الرسول الكريم، والقرآن الكريم وفى هذه الآية بيان لحال من أحوال هؤلاء المشركين.. وأن منهم من يستمعون إلى القرآن الكريم، والنبىّ يتلوه على الناس.. ولكنهم لا يفتحون لما يسمعون آذانا، ولا قلوبا، فلا يقع لهم مما يستمعون شيئا من الاستضاءة والهدى.
وقد ربط القرآن الكريم هنا بين الأذن والعقل.. للدلالة على أن ما تسمعه الأذن، مجرد سماع، دون أن يعيه الإنسان ويعقله، ليس إلا أصواتا لا مفهوم لها، وليست حاسة السمع حينئذ إلا أداة معطلة لا عمل لها.. إذ أن من عملها أن تصل الإنسان بهذا الوجود، بما يقع فيها من حكمة وموعظة حسنة.. فالأذن إذا لم يكن بينها وبين العقل والقلب اتصال وثيق لما يقع فيها من كلمات-
1019
لم يكن لما تسمعه من طيّب الكلام، وحكيم القول، أثر فى مدركات الإنسان وفى سلوكه.. إذ لا يخرج هذا الكلام عن أن يكون مجرد أصوات لا مفهوم لها..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ»
(١٢: الحاقة).
قوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ»..
وتلك جماعة أخرى، لها موقف آخر مع النبي، وقد سمعت القرآن، ثم جعلت تنظر فيه بقلوب مريضة، وعقول سقيمة، فلم تهتد إلى خير، ولم تتعرف إلى حق..
ويلاحظ هنا أن القرآن لم يصل بين النظر والعقل، أو القلب، كما فعل ذلك مع السمع، بل جعل مجرد تعطيل أداة النظر عن أداء وظيفتها، حجزا عن عن الخير، وعزلا عن الهدى..
وذلك أن النظر- كما قلنا فيما سبق- جهاز يمد الإنسان بأكثر ما يقوم عليه بناء الملكات والمشاعر والوجدانات، فى كيانه، فهو باب المعرفة الذي يطلّ منه الإنسان على هذا الوجود، ويصيد بشباكه، ما يشاء من محسوسات ومعنويات.. ومن هنا كان فى ذكر النظر، ذكر واستحضار لملكات الإنسان ومشاعره، ووجداناته.. فإذا عمى النظر أو زاغ، عميت تلك الملكات وزاغت المشاعر، واضطربت الوجدانات..
ومن جهة أخرى، فقد اختلف النظم القرآنى فى الآيتين.. هكذا.
- «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ».
1020
- «وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ».
فجاء الاستماع مسندا إلى الجمع، على حين جاء النظر مسندا إلى المفرد..
وفى هذا إشارة إلى أن الذي يستخدم حاسة السمع لا بد أن يدانى الذي يتحدث إليه، وأن يقترب منه بحيث يسمع ما يقول..
أما الذي يستخدم حاسة النظر، فقد ينظر من بعيد، بحيث لا يظهر لمن ينظر إليه..
وإذا كان النبي هو الذي يتلو القرآن على الناس، ليبلّغهم ما أنزل إليه من ربه، فإن ذلك من شأنه عادة أن يكون بمحضر من أعداد كثيرة من المستمعين، ولهذا جاء النظم القرآنى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ».. محدّثا عن هذا العدد الكثير، أو القليل، الذي يستمع إلى النبىّ..
وليس كذلك الحال فى مجال النظر إلى ما مع النبي من آيات ربه.. أو النظر إلى النبىّ ذاته، فى أحواله ومسلكه فى الحياة..
فإن النظر فى آيات الله، هو نظر يستقل به المرء وحده، ويورد عقله وقلبه على ما سمعه أو قرأه منها.. حتى يرى لنفسه الطريق الذي يأخذه مع تلك الآيات.. مصدقا، ومستجيبا، أو مكذبا، ومنابذا.. وكذلك النظر فى أحوال النبىّ، ودراسة شخصيته.. ولهذا جاء النظم القرآنى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ».. مشيرا إلى ما كان من بعض المشركين من نظر وتفكير، فى آيات القرآن التي استمعوا إليها.. ولكنه نظر بعيون كليلة، وتفكير بقلوب مريضة، فلم تهتد إلى حق، ولم تمسك بخير..
- وفى قوله تعالى: «مخاطبا النبىّ الكريم: «أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ» ؟..
«أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ» ؟ - فى هذا إشارة إلى أن المعتقد الدينىّ لا يقوم فى
1021
النفس مقاما ثابتا، ولا يقع فى القلب موقعا مطمئنّا، إلا إذا تناوله الإنسان بنفسه، ونظر فيه بعينه وقلبه، ووزنه بعقله وإدراكه،.. وهنا يكون الإيمان ويكون اليقين، حيث اهتدى إليه الإنسان بمدركاته، وجاء إليه بمحض إرادته فى غير قهر أو قسر.. أما يد القهر والقسر، فإنها لن تثبّت دينا ولن تقيم يقينا..
إن ذلك أشبه بيد تدفع إلى معدة الإنسان مباشرة طعاما من غير مضغ ولا بلع! إنه طعام لا يفيد منه الجسم أبدا، ولو كان جائعا يطلبه ويشتهيه، بل ربما قتل صاحبه، أو أفسد نظام جسده، ورماه بأكثر من داء..
ولهذا، فقد كان الإسلام صريحا واضحا، بل صارما، فى هذا الموقف..
إنه يحرّم القهر والقسر فى كل شىء، لأنه بغى وعدوان.. فإذا كان فى مجال العقيدة، فهو أكثر من بغى وعدوان إنه عدوان وبغى يصيبان الإنسان فى مقاتله! وفى هذا يقول الله تعالى: «لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ» (٢٥٦: البقرة) ويقول جل شأنه للنبى الكريم: «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (٩٩: يونس)..
وهذا هو بعينه ما جاء فى قوله تعالى: «أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ؟».. «أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ؟».
قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»..
تشير الآية الكريمة إلى ما يركب الناس من عناد وضلال، وما يسوقهم إليه هذا الضلال والعناد، من الكفر بالله، والشرود عن الحق الذي جاءهم به رسله.. فإذا أخذهم الله بذنوبهم، فذلك عدل منه سبحانه وتعالى، فهو- سبحانه- إنما أذاقهم طعم ما غرسوا.. فإذا كان هذا الغرس الذي غرسوه
1022
ممّا لا تسوغه أفواههم فتلك جنايتهم على أنفسهم.. َ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»
أي وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين لأنفسهم، إذ حادوا بها عن طريق الهدى، وعدلوا بها عن شاطىء الأمن والسلام، فأوردوها تلك الموارد المهلكة..
الآيات: (٤٥- ٥٢) [سورة يونس (١٠) : الآيات ٤٥ الى ٥٢]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢)
التفسير: غرور المشركين، وأهل الضلال، بهذه الحياة الدنيا، وانخداعهم لها، وطول أملهم فيها، هو الذي أخلى قلوبهم وعقولهم من التفكير فيما وراء هذه الحياة، فأذهبوا طيّباتهم فى هذه الحياة الدنيا وأفنوا أعمارهم فى الجري اللاهث وراء متاعها وزخرفها..
1023
- وفى قوله تعالى: «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ» إشارة إلى انكشاف أمر هذه الدنيا لأهلها، حين ينفضّ جمعهم فيها، وتنقضى آجالهم، ثم يبعثون من قبورهم، ويحشرون إلى ربّهم.. هنالك يبدو أن ما قطعوه فى دنياهم من عمر، وما ملكوه من سلطان، وما جمعوه من مال ومتاع، لم يكن ذلك كله إلا كأحلام نائم، «كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ.. يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ» يلتقى فيها بعضهم ببعض، ويتحدث بعضهم إلى بعض.. ثم يتفرق جمعهم، وينفضّ مجلسهم..
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر
هنالك ينكشف للضالين والمبطلين ما كانوا فيه من باطل وضلال، وما يلقون فى يوم جزائهم هذا من بلاء ونكال..
ولو أنهم كانوا مؤمنين بالله، ويلقاء الله لعملوا ليومهم هذا، ولجعلوا سعيهم قسمة بين دنياهم وآخرتهم.. ولكنهم أعطوا دنياهم كلّ شىء، ولم يجعلوا لآخرتهم أي شىء، فلما جاء اليوم الذي تجد فيه كل نفس ما عملت من خير محضرّا، وما عملت من سوء تودّلو أن بينها وبينه أمدا بعيدا- لما جاء هذا اليوم، لم يجدوا غير الحسرة والندامة، وغير البلاء والعذاب.
قوله تعالى: «وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ».
هذه الآية- إنباء بالغيب، وإرهاص بالبلاء الذي سيحيط بأهل الشرك والضلال، إنه ليس واقعا بهم فى الآخرة وحسب، بل إنه واقع بهم كذلك فى هذه الدنيا، بما يلقون فيها من ذلّ وخزى على يد المؤمنين، يوم يجىء نصر الله وتغرب دولة الشرك، ويقع المشركون ليد المؤمنين صرعى، أو أسرى.. كما حدث ذلك يوم بدر، وكما حدث يوم الفتح، ويوم حنين..
1024
وهذا الذي سيراه النبي فى حياته مما يقع للمشركين من ذلّة وهوان، أو الذي سيقع لهم من ذلك بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى- هو قليل إلى كثير مما أعدّ لهم فى الآخرة من عذاب وهوان، وأنه إن أفلت بعضهم فى هذه الدنيا، ولم يعجّل له شىء من العقاب فيها، فلن يفلت من العقاب الراصد له يوم القيامة.. «فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ».. لا يعزب عنه- سبحانه- ممّا عملوا شيئا.. «وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً».
(٤٩: الكهف) قوله تعالى: «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» أي أن لكل أمة رسولا منهم، يبعثه الله فيهم، لينذرهم ويبشرهم، ويدلّهم على الطريق إلى الله، وليقيمهم فى حياتهم على صراط مستقيم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ» (٢٤: فاطر)..
- وفى قوله تعالى: «فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» إشارة إلى أن من رحمة الله بعباده، أن أرسل إليهم الرسل، مبشرين ومنذرين، حتى يقيم على النّاس الحجّة ويأخذ الظالمين منهم بما كسبوا، فإذا بعث فى أمة رسول من الرّسل وبلّغ رسالة ربّه إليهم، فقد وجب عليهم الحساب، وحقّ عليهم الثواب والعقاب.. أما إذا لم يكن هناك رسول ولا رسالة، فلا حساب، ولا عقاب.. وهذا ما يشير إليه قوله تبارك وتعالى: «وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا» (١٥: الإسراء).
وهؤلاء المشركون، قد جاءهم رسول من عند الله، وبلّغهم رسالته المرسل بها إليهم من ربّهم.. فهم إذن محاسبون- منذ بلغتهم الرسالة- بما يعملون..
«وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» بل يجزون الجزاء المناسب لما عملوا.. جزاء وفاقا..
كيلا بكيل، ومثقالا بمثقال..
1025
وقوله تعالى: «وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ».. تلك هى قولة الكافرين والمشركين، التي يلقون بها كل رسول يرسل إليهم من ربّهم، وينذرهم لقاء يوم القيامة.. لا قولة لهم إلا تلك القولة المتهكمة المستهزئة: «مَتى هذَا الْوَعْدُ؟» أخبرونا به أيها المؤمنون بهذا اليوم «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ!».
وهكذا يسوّغ الضلال لأهله هذا المنطق السقيم.. فهل يستقيم لعقل عاقل أن يكون فى الإمكان علم هذا اليوم، وكشف وقته الموقوت له؟ وهل لو قيل لهؤلاء الضالين المكذبين إنه بعد كذا وكذا من السنين، مئات أو ألوفا، أكانوا من المصدقين به؟ ألا يطالبون بدليل مادىّ محسوس عن هذا اليوم، يرونه رأى العين؟ وإن ذلك لن يكون إلا إذا وقع وكان.. فعلا!..
وهل ينفعهم إيمان أو عمل بعد أن يقع ويجىء؟ «يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً» (١٥٨: الأنعام).
قوله تعالى: «قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ».
إن أمر هذا اليوم لا يعلمه إلا الله.. وهو سبحانه وحده الذي يملك الكشف عنه، وليس للنبىّ ولا لغيره سلطان إلى جانب سلطان الله، ولا تقدير مع تقديره..
فالنبىّ، لا يملك لخاصّة نفسه شيئا.. إنه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ضرّا، أو يجلب لها خيرا إلا ما شاء الله وأراد له، من دفع الضرّ عنه، وجلب الخير له..
فكيف يكون له سلطان فى مصائر النّاس، ومقادير العباد؟ «لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ» عند الله «إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ» التقوا بهذا اليوم الموعود الذي يسألون عنه الآن سؤال المنكر: «متى هو؟».. «فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ»
1026
بل يمضى فيهم قدر الله، وتنفذ فيهم مشيئته فى الوقت المقدور، إذ لا مبدّل لكلماته، ولا معوّق ولا معطل لمشيئته.. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
- وفى قوله تعالى: «قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً» - فى هذا ما يسأل عنه، وهو: إذا كان الإنسان يملك النفع لنفسه، بما يعمل فى سبيل ما يعود بالنفع عليه والخير له.. فكيف يملك الضرّ لنفسه، ويسوقه إليها؟
وهل هذا مما يكون من إنسان، فضلا عن النبي الكريم؟
والجواب- والله أعلم- أن ذلك للدلالة على سلطان الله سبحانه وتعالى فى عباده، وأنه ليس لأحد منهم شىء مع سلطان الله القائم عليه، فى ذات نفسه، حتى لو أراد- متعمدا- أن يسوق إلى نفسه شرا، أو يوردها مورد الهلاك، فإن ذلك ليس إلى يده، وإنّما هو لله سبحانه وتعالى..
والضرّ لا يتكلّف له الإنسان جهدا، ولا يبذل له مالا، وحسبه أن يقف موقفا سلبيّا من الحياة، وعند ذلك يجد الضّرّ يزحف عليه من كل جهة.. على خلاف النفع، فإنه لا يحصّل إلا بجهد، ولا ينال إلا ببذل وعمل.. ومن هنا كان عجز الإنسان عن أن يملك لنفسه ضرّا- أبلغ وأظهر فى الدلالة على ضعف الإنسان وعجزه، وأنه إذا عجز عن أن يملك لنفسه ضرّا، فإنه أعجز من أن يملك لها نفعا..
قوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ».
الضمير فى قوله تعالى: «عذابه» يعود إلى «الوعد» فى قوله تعالى:
«وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» وهو يوم القيامة.. الذي يسأل عنه المجرمون هذا السؤال الإنكارى: متى هو؟. حتى لكأنهم قد عملوا له، واستعدّوا للقائه، فاستعجلوا الجزاء الحسن الذي ينتظرهم فيه!!
1027
- وفى قوله تعالى: «بَياتاً أَوْ نَهاراً» إشارة إلى أن هذا اليوم لا يأتى على موعد معلوم للناس، بل إنه سيأتيهم فجأة، وعلى حين غفلة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها.. قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي.. لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.. لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً» (١٨٧: الأعراف).
- وفى قوله سبحانه: «ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ» إشارة إلى أن هذا اليوم هو بلاء وويل للمشركين والضالين.. وكل ما فيه هو شرّ واقع بهم..
فماذا يستعجلون من هذا الشرّ، وذلك العذاب؟ إن المجرم لا يستعجل قطف ثمار ما زرع من شرّ، ولكن هؤلاء المجرمين.. حمقى جهلاء، لا يدرون ما هو واقع بهم فى هذا اليوم العصيب، فهم لذلك يستعجلونه استعجال الجزاء الحسن المحبوب.
قوله تعالى: «أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ؟».
«أثمّ» الهمزة للاستفهام، وثمّ حرف عطف، عطف ما بعده على كلام سابق محذوف، تقديره: أتستعجلون هذا اليوم، ثم إذا ما وقع آمنتم به؟
إن ذلك الإيمان لا ينفعكم شيئا، ولا يدفع عنكم عذاب الله الواقع بكم.. فهلّا آمنتم به الآن فى هذا الوقت، وأنتم فى سعة من أمركم، قبل أن يلقاكم هذا اليوم، وينزل بكم فيه البلاء، ويحلّ عليكم العذاب؟
- وفى قوله تعالى: «آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ» استفهام إنكارىّ لإيمانهم بهذا اليوم، يوم يقع بهم. وقد كانوا فى دنياهم ينكرونه، ويبالغون فى إنكاره، ويستعجلون مجيئه، إمعانا فى الإنكار والاستهزاء، بقولهم:
«متى هو؟».
1028
و «آلآن» أصله «الآن» أي الحال والوقت، ثم دخلت عليه همزة الاستفهام. فصار «أالآن» ثم صارت الهمزتان همزة مدّ، أي: آلآن تؤمنون به بعد أن وقع؟.
قوله تعالى: «ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ.. هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ».
العطف بسمّ هنا. يدلّ على محذوف، تحدّث به الحال.. وهو أن المجرمين، بعد أن التقوا بهذا اليوم الذي كانوا يكذبون به، قدّموا للحساب، وقدّمت لهم آثامهم التي اقترفوها فى دنياهم، فعرفوا ما كانوا فيه من ضلال، ورأوا المصير الذي هم صائرون إليه.. فسيقوا إلى جهنم، ثم قيل لهم «ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ»..
- وفى قوله تعالى: «هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ»..
وجهان:
الوجه الأول: أن يكون استفهاما مرادا به التقرير كما فى قوله تعالى:
«فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا»، وتكون «إلّا» بمعنى غير.. أي: هل تجزون غير ما كان لكم من عمل؟.
لقد عملتم السوء فكان جزاؤكم سوءا..
والوجه الثاني: أن يكون استفهاما مرادا به الخبر، وتكون «هل» بمعنى «ما» النافية.. والتقدير:
ما تجزون إلّا بما كنتم تكسبون.
وعلى كلا الوجهين، فهو نخس لهؤلاء المجرمين، وعذاب يضاف إلى عذابهم، حيث يسقون كؤوس البؤس والعذاب، محمولة، إليهم بهذا التقريع والتسفيه..
1029
الآيات: (٥٣- ٥٦) [سورة يونس (١٠) : الآيات ٥٣ الى ٥٦]
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦)
التفسير: الاستنباء: طلب النبأ، وهو الإخبار بأمر غائب..
إي: أداة جواب بمعنى: نعم..
يطلب المشركون من النبىّ أخبارا عن هذا اليوم، يوم القيامة، وما يلقى الناس فيه، وما أعدّ الله للأخيار منهم من ثواب، وما رصد للأشرار من عقاب.. فإذا تحدث النبىّ إليهم بشىء من هذا، عقّبوا على ذلك مستهزئين ساخرين- بقولهم: «أحقّ هو» ؟ أي أهذا الذي تحدّث به هو حق وجدّ؟ أم أنك تكذب وتهزل؟ إنهم لا يصدقون بهذا اليوم، ومع هذا فهم يستنبئون عن أخباره. متى هو؟ وأين هو؟ وكيف هو؟ وذلك كله على سبيل الاستهزاء والسخرية.
- وفى قوله تعالى: «قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ.. وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» ردّ على هؤلاء المشركين المكذبين، وقد أمر الله سبحانه النبىّ الكريم أن يلقى المكذبين بهذا الردّ المؤكد بالقسم، وبحرف التوكيد «إنّ» وبلام الابتداء «لحق»، وذلك فى مقابل إنكارهم، وغفلتهم عن هذا اليوم..
1030
ثم جاء بعد هذا قوله تعالى: «وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ» ليؤكد هذا الأمر ويقرره، وهو أن هذا اليوم واقع لا شك فيه، وأن المشركين لن يفلتوا من العقاب الراصد لهم فيه.. لأنهم لن يعجزوا الله، ولن يجدوا لهم مهربا.
قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ.. وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ»..
هو عرض لما يلقى الظالمون يوم القيامة من بلاء، وما يساق إليهم فيه من ألوان العذاب والنكال.. وأنه لو كان للظالم كل ما فى الأرض من متاع، وكل ما يملك الناس فيها من مال وسلطان، لقدّمه فدية يفتدى به نفسه من عذاب هذا اليوم، ويخلص من أهواله، ولهان عليه أن يتجرد من كل شىء، وأن يخرج عريانا من كل هذا السلطان العريض الذي ملك به الأرض كلها، والذي كان يبيع نفسه فى الدنيا لقاء كومة من فضة، أو حفنة من ذهب..!
- وفى قوله تعالى: «وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ» إشارة إلى هول هذا العذاب، الذي عند رؤيته تنخلع القلوب، وتجمد المشاعر، وتسكن الجوارح، وتخرس الألسنة.. فلا يجد أحد فى مواجهة هذا العذاب قدرة على أن يفتح فما، أو يحرك لسانا، وإنما هو الكمد والحسرة يملآن كيان الإنسان، ويأخذان السبيل على كل خالجة وجارحة فيه!.. فكيف إذا ألقى فيه المجرمون، وصاروا وقود اله..
وهذا العذاب الذي ينزل بالظالمين، ليس إلّا مما قدمته أيديهم لهم، وإن الناظر إليهم وهم يقلّبون فى النار، ليخيل إليه من شدة ما هم فيه من بلاء أنهم مظلومون، وأنه ليست هناك جريمة مهما عظمت، يستحق عليها مرتكبها هذا العذاب، الذي لم تره عين، ولم يتصوره خاطر.. ومع هذا، فإن ما وقع
1031
بهم من بلاء، إنما هو الجزاء العادل لما اجترحوا من سيئات، وما اقترفوا من آثام..
- وفى قوله تعالى: «وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» دفع لهذا الوهم، وتقرير لتلك الحقيقة، وهى أن ما يلقاه هؤلاء الظالمون، هو الجزاء العدل لجريمتهم، وأن الحكم الذي حكم عليهم به، هو حكم قائم على ميزان القسط والحق.. إنهم لم يظلموا فيما نزل بهم، ولا يظلمون فيما سينزل بهم من صور العذاب، بعد هذا العذاب الذي هم فيه..
قوله تعالى: «أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ»..
هو توكيد لقدرة الله، وتقرير لحقيقة البعث والحساب والجزاء.. وأن الذي له ملك السموات والأرض، لا يعجزه أن يتصرف فيهما كيف يشاء، وأن يبعث الناس بعد موتهم.. فهو- سبحانه- الذي خلقهم، وهو- سبحانه- الذي أماتهم، وهو- سبحانه- الذي يبعثهم بعد موتهم. «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ. تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» (٥٤: الأعراف).
ولكن أكثر النّاس لا يعلمون هذه الحقيقة عن الله سبحانه وتعالى، ولا عن قدرته، وحكمته، فتتفرق بهم السبل، ويعمون عن الطريق إلى الله، فلا يتعرفون إليه، ولا يؤمنون به.
قوله تعالى: «هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ». ذلك هو من بعض ما لله فى ملكه.. هو الذي يحيى، وهو الذي يميت، وهو الذي يبعث الموتى من قبورهم، فيرجعون إلى ربهم، ويجزون على ما كان لهم من عمل فى الدنيا..
1032
الآيات: (٥٧- ٦٠) [سورة يونس (١٠) : الآيات ٥٧ الى ٦٠]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠)
التفسير:
قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ».
من تدبير القرآن الكريم فى عرض الدعوة إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، أنه لا يأخذ فى دعوته تلك بالأسلوب التقريرى الإلزامي، بل يقيم بين يدى ذلك الأسلوب، ومن خلفه- مشاهد من قدرة الله، وعلمه، وحكمته، هى مناط هذا الأسلوب التقريرى، ووجه البرهان عليه، وهى قوة الإلزام فيه.. وبهذا لا يجد العاقل إلا التسليم له والأخذ به.. وكذلك الشأن فى كل قضية من قضايا الدعوة الإسلامية، ومنها قضية البعث والقيامة، والحساب والجزاء..
فهو إذ يقرر حقيقة البعث والجزاء، يرى الناس وهم أحياء، شواهد منها، ويقيم بين أيديهم أدلة عليها، حتى لكأنها واقعة فعلا، ثم من خلال هذا الشعور.
ينقلهم- فى حلم كأحلام اليقظة- إلى يوم القيامة، ويقيم لهم موازين الحساب والجزاء، ويفتح للمؤمنين منهم أبواب الجنة، وما يلقون فيها من نعيم، ويفتح
1033
للعصاة الظالمين أبواب الجحيم، يتقلبون على جمرها، ويشربون من حميمها وغسّاقها.. ثم لا يلبث أن يوقظهم من أحلامهم تلك- المسعدة أو المزعجة- ليلقاهم بالدعوة إلى الإيمان بالله واليوم الآخر.. لتجد تلك الدعوة جوابا حاضرا لمن انتفع بهذه التجربة، وأخذ منها موعظة وذكرى.. وهكذا، يسير القرآن على هذا الأسلوب، التقريرى التجريبى، مع تنويع العرض، وتجديد المشاهد، واختلاف الألوان والظلال.. حتى لا يجد المرء سبيلا للفرار من قبول هذا الحكم، أو حجة لدفعه وإنكاره..
وفى هذه الآية، مواجهة للناس جميعا، بعد تلك الرحلة التي أشرفوا فيها على مشارف القيامة، ورأوا ما رأوه من أهوالها، وما يلقى الظالمون فيها من بلاء وهوان..
وهاهم أولاء يدعون إلى ما ينجيهم من هذا البلاء، ويدفع عنهم شر ذلك اليوم وويلاته.. فيقول سبحانه:
«يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ».
والموعظة والشفاء والرحمة، هى فى هذا القرآن الكريم، وعلى يد هذا الرسول الكريم، الذي يحمل إليهم هذا القرآن، ويبشرهم وينذرهم به..
وفى القرآن العبرة والموعظة، بما يعرض من دلائل قدرة الله، وما يكشف من آثار رحمته..
وفى القرآن الشفاء لما فى الصدور من عمّى وضلال، وذلك لما فى آياته من أضواء المعرفة التي تهدى الضالين، وترشد الحائرين، وتكشف للناس جميعا الطريق إلى الله وتدلهم عليه..
1034
وفى القرآن الهدى والرحمة، لمن عرف الله وآمن به، حيث ينزل منازل المكرمين عند الله، وينال ما ينالون من فواضل رحمته، وسوابغ إحسانه ورضوانه.
قوله تعالى: «قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ».
ذلك أنه إذا عرف الإنسان كيف يفيد من هذه الموعظة، ويتعرف إلى الله، ويبتغى مرضاته، فقد جمع الخير كله إلى يديه، وحق له أن يغتبط ويهنأ.. ولا عليه إذا فاته كل شىء، إذا هو ظفر بهذا الذي ظفر به! وهو ما ناله من فضل الله ورحمته، إذ هداه إلى الإيمان به، والعمل لطاعته.
قوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ»..
هو حديث إلى هؤلاء الذين لم يأخذوا حظهم من تلك النعمة، ولم ينالوا نصيبهم من هذا الرزق الطيب الكريم، فمكروا بآيات الله، ونظروا إليها نظرا زائغا منحرفا.. وليس هذا شأنهم مع القرآن الكريم، وما تحمل آياته إليهم من هدى ورحمة، بل ذلك هو شأنهم مع كل نعمة من نعم الله، حيث يغيّرون وجهها، ويحرمون أنفسهم خيرها..
فهذه الأنعام، مثلا، قد جعلها الله رزقا حلالا خالصا لهم، ولكنهم- عن سفاهة وجهل- قد حرّموا بعضها وأحلّوا بعضها، لا لعلة واضحة، ولا لحكمة ظاهرة، وإنما هى ضلالات وحماقات، أرتهم فيها تلك الآراء الفاسدة.. وفى هذا يقول الله تبارك وتعالى فيهم:
«وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما
1035
كانُوا يَفْتَرُونَ. وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ»
(١٣٨- ١٣٩: الأنعام).
وهكذا يفعل الضلال بأهله، حتى فى الخير المادىّ الذي بين أيديهم، وعلى أفواههم.. فكيف بهؤلاء الضالين مع هذا الخير الموعود الذي يدعوهم القرآن الكريم إليه، ويبشرهم به؟ إنهم فى هذا لأكثر ضلالا معه، وأبعد بعدا عن الانتفاع به! وإنهم إذا كانوا قد افتروا على هذه الأنعام تلك المفتريات التي تحرمهم الخير المتاح لهم منها، فلا يستغرب منهم أن يفتروا على الله هذه الآلهة التي يعبدونها من دونه، ويحرموا أنفسهم رحمته ورضوانه! والله سبحانه وتعالى يقول: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ» (٢٨- ٢٩: إبراهيم).
قوله تعالى: «وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ؟ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ»..
فهؤلاء الذين افتروا على الله الكذب، وبدّلوا نعمته كفرا- ما ظنّهم بيوم القيامة وما يلقون فيه؟ ألا يكون لما افتروه عقاب؟ ثم ألا يكون هذا العقاب عذابا ونكالا، كما كان افتراؤهم جرما غليظا، وضلالا بعيدا؟.
ونعم، إن الله لذو فضل على الناس.. ومن فضله عليهم أن أسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، وبعث فيهم رسله، بالهدى والرحمة.. ولكنّ كثيرا منهم كفر بتلك النعم، وأبى أن يستجيب لرسل الله، وأن يأخذ بحظه من هدى الله ورحمته.. فهل ينتظر هؤلاء الكافرون بنعم الله، الجاحدون لفضله، غير ما هم أهل له، من سوء الجزاء، وأليم العذاب؟.
1036
الآيات: (٦١- ٦٤) [سورة يونس (١٠) : الآيات ٦١ الى ٦٤]
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١) أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤)
التفسير: «وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ».
الشأن: الحال المتلبسة بالإنسان، وهو يعالج أمرا من الأمور.
تفيضون فيه: أي تتداولونه بينكم، ويأخذ كلّ منكم بطرف منه، فيكثر الحديث ويفيض.
يعزب: يغيب، ويبعد.
فى هذه الآية: عرض لبعض سلطان الله، ونفاذ قدرتا وعلمه.. وأنه- سبحانه- محيط بكل شىء علما.. وأن ما يقع من الضالين والمكذبين، هو فى علم الله، يحصيه عليهم، ويجزيهم بما هم أهل له من بلاء ونكال.
وقد بدأت الآية بخطاب النبىّ صلوات الله وسلامه عليه: «وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ».. أي أنه صلوات الله وسلامه عليه، وما يعمل
1037
من عمل، مراقب من الله، ومسجل عليه كلّ ما يعمل، سواء أكان هذا العمل فى شأن من شئونه الخاصة، أو فى مجال الرسالة المبعوث بها، كتلاوة القرآن على الناس، وإسماعهم كلمات الله المنزلة عليه..
وذلك، حتى لا يظن المشركون والكافرون أنهم وحدهم هم الذين تحصى عليهم أعمالهم.. بل الله سبحانه وتعالى مطلع على الناس جميعا، وعالم بكل ما يعملون من خير أو شر.
وفى ذكر القرآن وتلاوة النبي له، إشارة إلى أنه الشأن الغالب على النبي- صلى الله عليه وسلم- وأن القرآن وتلاوة القرآن هو شغله وعمله، أما المشركون والضالون، فلهم شغل ولهم عمل، ولكنه شغل فى ضلال، وعمل فى باطل.
- وفى قوله تعالى: «وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ» هو تعميم بعد تخصيص.. إذ ليس النبىّ وحده هو الذي يرقب الله تعالى أعماله، بل الناس جميعا مراقبون، لا يغيب من عملهم شىء عن علم الله..
- وفى قوله تعالى: «وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» - هو إشارة إلى أن علم الله محيط بكل شىء، فليست هناك «مثقال ذرة» أي قدر ذرة ووزنها وثقلها- وهى ما هى فى الصغر- سواء أكانت فى الأرض أو فى السماء، وسواء أكان ما هو أصغر من الذرة أو أكبر منها- إلا وهى فى كتاب مبين عند الله.. قد علمها وأحصاها..
وفى تسلّط النفي فى قوله تعالى: «وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ» على «إلّا» فى قوله سبحانه: «إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» فى هذا ما يفيد أن معنى يعزب،
1038
هو يغيب أو يبعد، وبهذا يمكن الجمع بين «ما النافية، و «إلا» ويكون المعنى هكذا: - وما يغيب عن ربك من مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا فى كتاب مبين-.
والسؤال هنا: كيف يغيب أو يبعد عن الله شىء؟
والجواب: أن هذا الغائب البعيد، هو بالإضافة إلينا، بمعنى أن ما يقع فى وهم الواهمين، وتصور المتصورين، أنه بعيد فى أغوار الأرض، أو فى أعماق أنفسنا، هو بعيد عن الله- فذلك تصور خاطئ، وفهم فاسد، لأنه فى كتاب مبين عند الله، وهذا يعنى أنه وقع فى علم الله أولا، ثم أودع فى هذا الكتاب المبين عند الله، ثانيا.. فهو واقع فى علم الله، ومسجّل فى كتاب عند الله.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» (٧٥: النمل).
قوله تعالى: «أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».
أولياء الله: هم الذين يجعلون ولاءهم لله وحده، فهم أولياء الله، والله سبحانه وتعالى وليّهم.. وقد بينهم الله سبحانه فى قوله: «الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ»..
فلا ولاية بغير الإيمان بالله.. إذ الولاء حب، وطاعة، وعبادة.. ولا حب إلا بعد معرفة، ثم إيمان.. ثم طاعة وعبادة.
ولا تتحقق الولاية لله إلا بمراقبته، واتقاء محارمه، والتوكل عليه، والرجاء فيه، وقطع كل رغبة فيما سواه.. وذلك هو الذي يحقق التقوى، التي هى ثمرة
1039
الأعمال الصالحة.. فهؤلاء الأولياء هم الذين تعلقوا بالله، فجذبهم الله إليه، وأنزلهم منازل رحمته ورضوانه.. فأمنوا فى جنابه من كل خوف على متوقع، أو حزن على فائت «لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ».. فمن اتخذ الله وليا له، اتخذه الله وليا، ومن أحب الله أحبه الله، كما فى قوله تعالى: «فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ» (٥٤: المائدة).. ومن أحبه الله فلا تسأل عما هو فيه من غبطة وسرور، مما يتنزل عليه من ربه من سكينة، وما يفاض عليه من نفحات وبركات..
يقول رسول الله صلوات الله وسلامه عليه فيما رواه البخاري: «ما يزال عبدى يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها، وإن سألنى أعطيته، وإن استعاذنى لأعيذنّه».
فالطاعات، والمداومة عليها، هى التي تقرب العبد من ربه، فإذا قرب منه كان فى جناب حماه، وعلى بساط رحمته، لا يخاف إذا خاف الناس، ولا يجزع إذا جزع الناس. ولا يبيت على همّ إذا بات الناس على هموم: «أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ».
وفى تعدية الخوف بحرف الجر (على)، إشارة إلى أن الخوف إنما يكون من توقعات المستقبل، فهو مقبل لا مدبر.. ويكون المعنى لا خوف مقبل عليهم..
وفى التعبير عن الإيمان بالماضي «الَّذِينَ آمَنُوا» وعن التقوى بالمستقبل «وَكانُوا يَتَّقُونَ» - إشارة إلى أن الإيمان يسبق التقوى، التي تقوم على اتقاء محارم الله، لأن هذا الاتقاء هو من معطيات الإيمان بالله..
1040
وقد دخل فعل التقوى فى حيز الفعل الماضي «كان».. «وَكانُوا يَتَّقُونَ» فكانت التقوى أيضا مما حدث من هؤلاء المتقين، كما حدث منهم الإيمان من قبل، وإلا ما استحقوا صفة الأولياء، أولياء الله.. فالإيمان، ثم التقوى، ثم الولاية، يجىء بعضها إثر بعض، على هذا الترتيب.. فلا ولاية بغير التقوى، ولا تقوى إلا بعد الإيمان- وفى قوله تعالى: «لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ، لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»
..
بيان لتلك المنن العظيمة التي امتن الله بها على أوليائه- جعلنا الله منهم- فجعل البشريات المسعدة برضا الله ورضوانه، تتنزل عليهم، بما يكشف لهم منازلهم عند الله، وما سيلقون فى نعيم جناته، من كرامة وتكريم.
والبشريات التي يبشّر بها أولياء الله فى الدنيا، كثيرة، منها ذكرهم فى الناس، بالكلمة الطيبة تقال فيهم، لحسن سيرتهم، واستقامة طريقهم، وحفظ جوارحهم من المحارم والمظالم.. إذ لا شك أن رضا الناس عن إنسان، وحسن ظنهم به، هو دليل على أنه من أهل الخير والتوفيق، وأنه على طريق الاستقامة والتقوى.. ومنها ما يملأ الله به قلوبهم من رضا وسكينة، فى السراء والضراء على السواء.. بل إن كثيرا منهم ليجد فيما يبتليه الله به من ضر، هو أمانة عنده لله، وأن أداء هذه الأمانة لله هو الصبر عليها، والرضا بها، وأن الضجر بالبلاء، والجزع منه، هو خيانة لتلك الأمانة.
روى أن سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه.. كفّ بصره فى آخر حياته، وكان مستجاب الدعوة، فقيل له: ادع الله وأنت مستجاب الدعوة عنده أن يرد عليك بصرك؟ فأبى أن يدعو الله بردّ بصره إليه.. ولو دعا لاستجاب الله
1041
له، ولكنه وجد فى هذا العمى مشيئة الله فيه، وفى الدعاء بدفع هذا العمى عدم استسلام لهذه المشيئة، وعدم رضا بها!! وهكذا أولياء الله.. «لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ».
ومن البشريات التي يبشّر بها أولياء الله فى الدنيا، أنهم حين يشرفون على الموت، لا يجدون له ما يجد غيرهم من كرب وجزع. بل يستقبلونه فى غبطة ورضا، وذلك لما يرون فى ساعة الاحتضار مما لهم عند الله من فضل وإحسان.. وهذا ما يشهد له قوله سبحانه وتعالى: «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ» (٣٠- ٣١) فصلت.
وأما بشريات أولياء الله فى الآخرة، فكثيرة، تبدأ من مغادرتهم هذه الدنيا، إلى يوم القيامة، وما بعد يوم القيامة، وهم فى روضات الجنات يحبرون.. ففى كل مرحلة من مراحل هذه الرحلة المسعدة، تطلع عليهم البشريات التي تزفّهم إلى الجنة، كما تزف العروس فى موكب من الفرح والبهجة.. وفى هذا يقول الله تبارك وتعالى: «يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (١٢: الحديد).
الآيات: (٦٥- ٧٠) [سورة يونس (١٠) : الآيات ٦٥ الى ٧٠]
وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧) قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩)
مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)
1042
التفسير:
مناسبة هذه الآيات لما قبلها، أن الآيات السابقة عليها قد ذكرت أولياء الله، وما أعدّ لهم ربهم من ثواب كريم، وأجر عظيم.
وهذه الآيات تعرض أعداء الله، والمطرودين من رحمته، وهم الذين أشركوا بالله، واتخذوا من دونه أولياء يعبدونهم من دونه.
وقوله تعالى: «وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ» هو عزاء للنبى الكريم، مما يلقى من قومه من ضرّ وأذى.. وإن أشد ما كان يؤذى النبىّ ويسوؤه، هو خلاف قومه عليه، وتنكّبهم عن طريق الحق الذي يدعوهم إليه، وتخبطهم فى ظلمات الضلال والشرك.. فهو رءوف بهم، رحيم عليهم، حريص على هدايتهم، كما يقول الله سبحانه وتعالى فيه: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ». (١٢٨: التوبة) ولهذا، فقد كانت آيات القرآن الكريم تتنزل عليه من ربه، تواسيه وتخفف ما به من حزن وألم.. كقوله تعالى: «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» (٨: فاطر).
1043
وقوله سبحانه: «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ» (٥٦: القصص).. وقوله: «لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» (٣: الشعراء).
- فقوله تعالى: «وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ» هو مما كان ينزل على النبي من آيات ربه، من عزاء ومواساة، لما كان يلقى من قومه من عنت وعناد، ولما كان يقع فى نفسه من حزن عليهم أن يحرموا هذا الخير الذي ساقه الله سبحانه وتعالى على يديه إليهم.
والقول الذي كان يحزن النبي، هو شركهم بالله.. وقولهم: «اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً» كما سيجيئ فى الآية الكريمة بعد هذا.
- وقوله تعالى: «إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» هو تثبيت للنبى، وطمأنينة لقلبه، وأن خلاف قومه عليه لا يضره، لأنه مؤيد من ربه، رب العزة التي تذلّ لها الجبابرة، فالعزة كلها لله، وما سواه ذليل مهين.
وهو سبحانه «سميع» لما يقول هؤلاء المشركون فى الله من زور وبهتان.
«عليم» بما تموج به صدورهم من شرك وضلال. وسيجزيهم بما كسبوا.
وقوله تعالى: «أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ».
الخرص: خرص الشيء تقديره جزافا، بالظن والتخمين، كمن ينظر إلى شيىء فيقدر كيله أو وزنه بالنظر إليه دون معيار.
والآية الكريمة تعرض بعض مظاهر سلطان الله وقدرته، وأنه- سبحانه- له ملك السموات والأرض ومن فيهن. فهو وحده الجدير بأن يمجّد ويعبد.
1044
وأما الذين يتبعهم المشركون ويدعونهم آلهة من دون الله ويجعلونهم شركاء له- فإنما هم من واردات باطلهم وضلالهم، ومن مواليد ظنونهم وأوهامهم. «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ». فهذا المعتقد الذي يعتقدونه فى معبوداتهم، وتلك المشاعر التي تشدّهم إليها إنما هى مما يولّده الجهل ويصوره الضلال.
قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ».
وذلك أيضا هو بعض مظاهر قدرة الله، وآثار رحمته فى عباده، وليس لما يعبد المشركون من آلهة صورتها لهم الظنون والأوهام- شىء من هذا الذي خلق لله، وما أفاض على عباده من نعم.
فهو- سبحانه- الذي جعل الليل سكنا، يلبس الكائنات الحية، ويهيىء لها فرصة للراحة من سعيها فى النهار، حتى تجدد نشاطها، وتستعيد قوتها، لتستقبل السعى والعمل فى يوم جديد، بنشاط متجدد.
- وفى قوله تعالى «وَالنَّهارَ مُبْصِراً» إشارة إلى أن ضوء النهار، هو الذي يعطى العيون قدرتها على الإبصار.. ولولا هذا الضوء لما كانت العيون مبصرة، فهو إذن المبصر، لا العيون، لأنه هو سبب أول، وهى سبب ثان.. ولهذا فهو أولى بالذكر منها فى هذا المقام.
ومن جهة أخرى فإن الضوء هو الذي ينتقل إلى حدقة العين، ويقع عليها، حاملا معه صورة المرئيات إليها.. تماما كما تقع المرئيات على المرايا.
وإذن فالنهار- أي الضوء- هو المبصر، لأنه هو الذي يبصر المرئيات
1045
قبل العين، ثم ينقلها إليها.. فهو العين التي تكشف هذا الوجود للعيون أولا، ثم تنقله إليها ثانيا. وفى هذا ما يكشف عن بعض قدرة الله كما ينطق بإعجاز كلماته.
- وفى قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» إلفات إلى تلك الظواهر المتجلّية من قدرة الله سبحانه.. وأنها آيات دالّة على قدرة الله، وعلى تفرده بالوجود.. وأنه لن يرى هذه الآيات، ولن يتعرف على ما فيها من دلائل على قدرة الله، إلا من ألقى سمعه إلى كلمات الله، ووعى ما تلفته إليه من آيات الله المبثوثة فى هذا الكون الرحيب.. وهذا بعض السرّ فى أن جاءت فاصلة الآية: «لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» بدلا مما يقتضيه ظاهر النظم، وهو أن تكون الفاصلة هكذا: «لقوم يبصرون» وذلك أن كلمات الله، إنما يتلقاها المتلقون عن طريق السّمع، وأن هذه الآيات هى: التي إذا صادفت أذنا واعية، كشفت الطريق إلى الله.
قوله تعالى: «قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ».
هذا هو ما يقوله المشركون عن الله: «اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً».. وهو الذي أشار إليه قوله تعالى: «وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ».. وكأنه بهذا إجابة عن سؤال أو تساؤل هو: ما هذا القول الذي يقوله المشركون فيحزن النبىّ؟ فكان الجواب: «قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً».
وقد تأخر الجواب عن هذا السؤال، فجاء بعد تلك الآيات التي عرضت بعض مظاهر قدرة الله، وأنه سبحانه له العزة جميعا، وأنه جل شأنه، له ملك السموات والأرض ومن فيهن، وأنه سبحانه هو الذي أقام هذا الوجود على ذلك النظام المحكم البديع، فجعل الليل سكنا، وجعل النهار مبصرا..
1046
وكان هذا العرض هو الرد الذي سبق هذه الدعوى الباطلة ليدحضها قبل أن تتلفظ بها الأفواه، وليقتلها فى مهدها قبل أن ترى وجه الحياة.
وهكذا الباطل.. إنه شىء منكر، يجب أن يموت بين يدى أهله، حتى لا يقع المكروه منه على أحد غيرهم.. وإن من الحكمة أن يدفع الشر قبل وقوعه، فذلك أهون وأيسر، فى الخلاص من بلواه.. فإذا وقع كان منكرا، يجب على المؤمنين دفعه بكل قوة ممكنة لديهم..
- وفى قوله تعالى: «سبحانه» تنزيه لله، وتمجيد له، واستبعاد لأن يكون له صاحبة أو ولد.. إذ لا يطلب المرء الصاحب أو الولد إلا ليكمل نقصا فيه، والله سبحانه وتعالى، هو الكمال المطلق.. فكيف يكون له ولد، أو تكون له صاحبه؟ «هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ».. «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً».
وفى قوله تعالى: «إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» ؟
يجوز أن يكون ذلك على سبيل الاستفهام الإنكارى، والتقدير:
أأن عندكم من سلطان بهذا؟ أتقولون على الله ما لا تعلمون؟
ويجوز أن يكون أسلوبا خبريا وتكون «إن» نافية، والتقدير: ما عندكم من سلطان بهذا، أتقولون على الله ما لا تعلمون.
والمراد بالسلطان هنا: الحجة والبرهان..
وليس للمشركين على تلك القولة المنكرة من حجة ولا برهان، وإنما حجتهم أوهام وخيالات وظنون.
قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ
1047
فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ».
هو حكم على تلك القولة المنكرة التي قالها المشركون إذ قالوا: «اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً» فهذا القول افتراء وكذب على الله.. وهؤلاء الذين يفترون على الله الكذب، قد ضلّ سعيهم، فهم الخاسرون، فى أي متّجه يتجهون إليه، ولن يفلحوا أبدا.. وما يقع لهم فى هذه الدنيا من زحرفها ومتاعها، هو متاع قليل، وظلّ زائل.. ثم يرجعون إلى الله.. وهناك يلقون جزاء ما كانوا فيه من ضلال، وما افتروه من مفتريات «نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ» فكفرهم بالله، وافتراؤهم على الله، هو الذي أوردهم هذا المورد الوبيل، وألقى بهم فى أفواه الجحيم.. َ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»
الآيات: (٧١- ٧٤) [سورة يونس (١٠) : الآيات ٧١ الى ٧٤]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤)
1048
التفسير:
مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هى أن ما ذكر فى الآيات السابقة عليها، كان عرضا لمقولات المشركين، المنكرة، فى الله، وافترائهم الكذب على الله بنسبة الولد إليه.. فهم آثمون ظالمون، واقعون فى معرض عذاب الله ونقمته.. فناسب أن يذكّر هؤلاء الآثمون المشركون بما أخذ الله به الظالمين قبلهم من نكال وبلاء. ليكون لهم فى ذلك عبرة، إن كانت فيهم بقية من عقل وإدراك..
قوله تعالى: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ»..
كبر عليكم مقامى: أي شق عليكم احتماله، وأصبح أكبر مما تطيقون..
فضقتم بي ذرعا، وثقل عليكم وجودى بينكم.
أجمعوا أمركم: أي اجتمعوا على رأى واحد، فى الموقف الذي تقفونه منّى.. يقال أجمع أمره على كذا، أي قرّ رأيه فيه على قرار، بعد أن كان الرأى فيه مشتتا متفرقا.. يقول الشاعر:
أجمعوا أمرهم عشاء فلما أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
من مناد ومن مجيب ومن تصهال خيل خلال ذاك رغاء أي أنهم باتوا على نية السفر فى الصباح، وأجمعوا أمرهم عليه.
«اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ» : أي وجهوا حكمكم إلىّ، ولا تنظرون، أي لا تؤخروا أخذى بهذا القضاء الذي قضيتموه فى.. ومنه قوله تعالى:
«وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦: الحجر) أي وجهنا إليه ذلك الأمر، وأعلمناه به.. وقرئ «افضوا إلى» بالفاء..
1049
أي أقبلوا إلى بما حكمتم به، وأجمعتم أمركم عليه..
- «ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً» الغمة، ما عمّ من الأمر وخفى، ولا يعرف وجهه.. ومنه الغمّة، لما يغتم له الإنسان مما يسوؤه، ومنه الغمام وهو السحاب الذي يكسو وجه السماء، ويظلل الأرض، ويحجب عنها ضوء الشمس.
والمعنى: أن نوحا عليه السلام، بعد أن استيأس من قومه، ولم يجد سبيلا إلى إصلاح أمرهم وتقويم زيغهم، بعد أن لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، جاءهم- وقد أجمع أمره على أن يدعهم وما هم فيه، ليلقوا المصير الذي أنذرهم من الله به- جاءهم ليطلب إليهم أن يقولوا كلمتهم الأخيرة الفاصلة فى هذا الموقف، الذي بينهم وبينه.. فقال لهم:
«يا قَوْمِ.. إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ» أي إن كنتم قد استثقلتم طول حياتى معكم، وكثرة تذكيرى لكم بآيات الله، ودعوتكم إلى الإيمان به، فأنا منصرف عنكم، متوكلا على الله، معتمدا عليه..
«فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ» أي هاتوا رأيكم الذي تلتقون عنده، أنتم وشركاؤكم الذين تعبدونهم من دون الله.. «ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ»، ثم أعلمونى بما أجمعتم عليه من أمر. وإن بدا لكم أن ترجمونى.. كما يتهامس بذلك بعضكم، ويتنادى به سفهاؤكم. وهذا ما حكاه القرآن الكريم عنهم فى قوله تعالى: «قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ» (١١٦:
الشعراء) - إن بدا لكم ذلك فاجعلوه رأيا واحدا لكم، بعد أن تأخذوا رأى شركائكم، وليكن هذا الرأى واضحا صريحا، لا خفاء فيه، ولا تخافت ولا تهامس.. ثم افعلوا بي بعد هذا ما بدا لكم.. فإنى متوكل على الله، معتصم به..
وقد قدم التوكل على الله قبل أن يدعوهم إلى لقائه، ومواجهته بما يجتمع
1050
عليه رأيهم فيه، وذلك ليتحصّن بهذه الدرع الحصينة، التي لا تنال منها قوى البشر- قبل أن يلقاهم بهذا التحدي.. «فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ.. فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ»، فهو يلقاهم وقد توكل على الله، وأسلم أمره إليه، وفى هذا ما يقوى عزمه، ويثّبت قدمه عند اللقاء، فلا يجزع، ولا يرهب، إذا هم أخذوه بكل ما عندهم من قوة وكيد! قوله تعالى: «فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ»..
هو الكلمة الأخيرة من نوح إلى قومه.. وأنهم إن تولّوا عنه، وأبوا أن يأخذوا منه ما يمد به إليهم يده، فإنه لن يضارّ بهذا، لأنه لم يطلب على ما يقدم لهم أجرا، حتى إذا لم يأخذوه منه، فإنه لا ينال ذلك الأجر.. إنه لا يطلب منهم أجرا، وإنما يأخذ أجره من الله، وهو أجر عظيم، يرجح بكل ما يملكون ومالا يملكون من هذه الدنيا.. إنه ثواب الله، ورحمته ورضوانه: «وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» (٣٢: الزخرف).. فإن توليتم فهذا شأنكم، ولا سلطان لى عليكم، ولا خير يفوتنى من إعراضكم عنى.. أما أنا فعلى ما أمرنى الله به، وهو أن أكون أول المسلمين، الذين أسلموا وجههم لله، وآمنوا به، وأخلصوا العبادة له وحده.
وأوّلية نوح للمسلمين.. هى أولية بالإضافة إلى مجتمعه الذي كان فيه، فهو أولهم إسلاما لله.. إذ كان هو الرسول الذي حمل رسالة الإسلام إليهم، وأول من آمن بها منهم..
قوله تعالى: «فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا.. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ».
تلك هى خاتمة ما بين نوح وقومه.. لقد كذبوه، وتولوا عنه، فوقع
1051
بهم ما أنذرهم به من قبل، وأغرقهم الله بالطوفان، ونجّى نوحا ومن معه، وجعل هؤلاء الذين نجوا، خلائف فى الأرض من بعدهم.. إذ كانوا هم البقية الباقية من هؤلاء القوم الهالكين.
وقدم هنا نجاة نوح ومن معه، ووراثتهم الأرض من بعد قومهم الهالكين- قدّم ذلك على هلاك القوم، خلافا للظاهر الذي يقضى به قوله تعالى «فكذبوه» إذ المتوقع هنا هو الإجابة على هذا السؤال: ماذا كان جزاؤهم إذ كذبوه؟ وهذا سؤال يسأله المؤمنون الذين ينتظرون ما يحل بالمكذبين، فكان الجواب المنتظر هو «فأغرقناهم» ولكن الإجابة جاءت على سؤال يسأله الذين يكذبون بآيات الله، ويحادّون رسل الله.. فيقولون: وماذا جرى لنوح والمؤمنين بعد أن كذّبه قومه، وأبعدوه من بينهم؟ فجاء الجواب: لقد نصره الله ومن معه، ونجاهم، وأورثهم أرض القوم المكذبين وديارهم.. فموتوا بغيظكم أيها المكذبون، فإن رسل الله وأولياءهم المنصورون، وهم الفائزون المفلحون..
أما المكذبون فلهم الويل والخزي فى الدنيا والآخرة..
- وفى قوله تعالى: «فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ» إلفات للمؤمنين والمكذبين جميعا، إلى ما حل بهؤلاء المنذرين الذين أنذرهم نوح، وخوفهم عذاب الله ونقمته، فأبوا أن يسمعوا له، وأن يطلبوا النجاة لأنفسهم، وأن يمسكوا بحبل الإيمان بالله، وأن يركبوا فلك النجاة بالاعتصام به.. فهلكوا.
وتلك هى عاقبة كل مكذب برسل الله، مجانب لهم، مخالف لدعوتهم التي يدعونهم إليها.. فليسمع مشركو قريش هذا، ولينتظروا ما سيحل بهم إذا هم لم يستجيبوا لرسول الله، ولم يأخذوا معه السبيل إلى الله..
قوله تعالى: «ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ»..
1052
وليس نوح وحده هو الذي دعا دعوة الحقّ، وحمل رسالة السماء بالهدى والإيمان إلى عباد الله، بل هناك رسل كثيرون، جاءوا إلى أقوامهم بما جاء به نوح.. يحملون آيات بينات من عند الله، ولكن الناس هم الناس، والقوم هم القوم، «فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ».. فلم يستجيبوا للرسل، ولم يأخذوا بالهدى الذي معهم، ولم يخلوا قلوبهم من الضلال الذي انعقد عليها وسكن فيها.. «كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ» أي نختم عليها، فلا يدخل إليها شعاع من نور الحق، ولا يطلع عليها صبح اليقين.. إنها فى ظلام دامس دائم أبدا.. وفى هذا تهديد لمشركى قريش، إذ هم فى معرض أن يؤخذوا بما أخذ به قوم نوح، فقد طبع الله على قلوبهم مثل ما طبع على قلوب قوم نوح من قبلهم.
- وفى قوله تعالى: «فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ»..
إشارتان:
الإشارة الأولى: أن هؤلاء المكذبين الضالين لم يكونوا ليؤمنوا أبدا، ولو جاءتهم كل آية.. وهذا هو السر فى اختلاف النظم باستعمال فعل المستقبل، ليؤمنوا، وكان ظاهر النظم يقضى بأن يجىء الفعل ماضيا، هكذا: فما آمنوا، ليتّسق مع قوله تعالى «ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ» فما آمنوا أو فلم يؤمنوا.. ولكن جاء النظم القرآنى: «فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا» ليدل على عدم توقع الإيمان منهم مستقبلا، ثم ليتسع الفعل المضارع لقبول لام الجحود «ليؤمنوا».. ليؤكد عدم توقع الإمكان منهم بحال أبدا..
والإشارة الثانية: هى فى قوله تعالى: «بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ».. فالذى كذبوا به من قبل، هو الإيمان بالله، إذ كانوا قبل أن تأتيهم الرسل منكرين لله، مكذبين بوجوده.. وقد انعقدت قلوبهم على هذا، فلم يكن لدعوة
1053
الرسل لهم بالإيمان مجال للعمل فى هذه القلوب المغلقة، التي جمدت على ما انطبع فيها من ضلال وكفر..
وفى هذا تسفيه لأولئك الذين تجمّدوا على أوضاعهم التي هم فيها، ولا يتحولون عنها، ولو كانت ممسكة بهم على مراتع الجهل والضلال، وفى منازل الذلة والهوان.. وليس ذلك شأن الإنسان الذي يحمل فى كيانه عينا تنظر، وأذنا تسمع، وعقلا يدرك، وقلبا يشعر.. إن شأنه دائما يجب أن يكون مستقبلا للحياة لا مدبرا عنها، متعاملا معها، لا مستسلما لها.. فإذا جاءت دعوة جديدة- أيا كانت- لم يكن من الإنصاف لإنسانيته أن يغمض عينيه عنها، ويصم أذنيه دونها، ويحول بين عقله وقلبه أن يتصلا بها، ويتعرفا عليها..
بل إن عليه أن يستمع إلى تلك الدعوة وأن ينظر فى وجهها، فإن كانت دعوة خير استجاب لها، وانتفع بها، وجنى الثمر الطيب منها، وإلّا توقّاها، وأخذ حذره منها.. وبهذا يكون الإنسان دائما فى ميدان الحياة، مشاركا فى معاركها، آخذا بحظه من مغانمها.. أما إن أغلق كيانه على ما هو فيه، فلم يقبل خيرا، أو يدفع شرا، ظل على حال من الطفولة، لا يتحول عنه، وظلت الإنسانية- إن أخذت مأخذه- واقفة حيث هى، لا تتحرك خطوة إلى الإمام.
الآيات: (٧٥- ٨٢) [سورة يونس (١٠) : الآيات ٧٥ الى ٨٢]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩)
فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢)
1054
التفسير: فى هذه الآيات، وما بعدها، قصة موسى، عليه السلام، وما كان بينه وبين فرعون، الذي يمثّل وجها من وجوه الطغيان والكفر..
وقد جاءه موسى يدعوه إلى الله، ويوجهه إلى ما يزكّيه ويطهره، ويقيمه على طريق الحق والإحسان، بما يقيمه الإيمان فى قلوب المؤمنين من فضائل إنسانية كريمة مشرقة، كما يقول الله تعالى لموسى بما يدعو فرعون إليه: «هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى»..
ولكن فرعون يأبى إلا عنادا وكفرا، وإلا ضلالا وجهلا..
«ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ»..
هذا هو مجمل القضية، وخاتمة المطاف فيها..
بعث الله موسى وهرون إلى فرعون وملائه، وبين أيديهما آيات. بينات من عند الله، فأخذت فرعون العزة بالإثم، واستكبر أن يذعن لتلك الآيات وأن يجعلها داعية الإيمان له ولقومه.. «فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ»..
ثم تجىء الآيات بعد هذا مفصّلة هذا الإجمال.. تفصيلا مجملا أيضا..
1055
حيث كان لهذه القصة أكثر من ذكر فى القرآن الكريم.. فيه بسط وتفصيل لها..
«فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ»..
هذا هو القول الذي استقبل به فرعون وحاشيته آيات الله حين طلعت عليهم:
- «إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ».. قالوا ذلك فى تأكيد قاطع، حتى لكأنهم قد اختبروا هذه الآيات اختبارا علميا محققا، ثم كشف لهم العلم عن تلك الحقيقة وملئوا أيديهم بها، ونزلت من عقولهم منزل اليقين، الذي لا شك فيه: «إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ».. وهكذا شأن من يكابر فى الحق، ويعانده..
إنه- وقد زلزلت الأرض به، من قوة الحق وصدمته- يحاول جاهدا أن يقوى نفسه، ويمسك وجوده بهذه الكلمات الكاذبة المفضوحة المموهة، بهذا التوكيد القاطع، وهو فى دخيلة نفسه يرجف خوفا، ويضطرب فزعا..
قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ»..
يقول موسى لفرعون منكرا عليه أن يقول فى آيات الله التي طلع بها عليه: «إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ» - يقول له موسى: «أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ؟..
وهنا مقول القول محذوف.. تقديره أتقولون لهذا الحق الذي جاءكم:
«إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ».. أو أتقولون هذا القول المنكر.. لآيات الله لما جاءتكم؟..
وقد حذف مقول القول، لأنه قول منكر، يعفّ لسان العاقل عن أن
1056
يتلفظ به، ولو كان على سبيل الحكاية.. وإذا كان ناقل الكفر ليس بكافر، فإن حسبه من الشناعة أن يحمل هذا الإثم، ويجريه على لسانه.. كساقى الخمر فإنه، وإن لم يشربها، هو أداة من أدواتها، وإناء من آنيتها..
وقد نزه الله موسى عليه السلام، أن ينطق بما نطق به فرعون، من زور وبهتان!..
وفى تعدية القول إلى المقول «باللام» :«أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ» معدولا به عن التعدية بحرف الجر «عن»، إذ أنهم لم يقولوا للحق بل قالوا عنه هذا القول- نقول: فى هذه التعدية سرّ من أسرار النظم القرآنى، وإعجاز من إعجازه..
فإذا كان الحق الذي جاء به موسى، حقا واضحا مشرقا، لا لبس فيه، حتى لكأنه كائن عاقل، رشيد، يستغنى عن أن يدل عليه أحد أو يكشف عن وجهه كاشف- إذا كان ذلك كذلك، فقد صح أن ينزل هذا الحق منزلة العقلاء، وأن يوجه إليه الخطاب، وأن ينكر على من يعتدى عليه هذا العدوان.. «أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ» هذا القول المنكر؟..
فالحق فى إشراقه، وجلاله، وسلطانه، مستغن بنفسه عمن يسنده، ويشدّ أزره، فهو إذ يطلع على الناس، يطلع عليهم كائنا سويا، يتحدث إلى الناس ويتحدثون إليه.. وهذا ما يشير إليه توجيه القول من المكذبين بالحق، إلى الحق: «أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ» كما يشير إليه مجىء الحق إليهم من غير أن يستند فى مجيئه إلى أحد إذ يقول لهم موسى «لَمَّا جاءَكُمْ».. ولم يقل: «لما جئتكم به»..
- وفى قوله تعالى: «أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ» تعقيب يؤكد به موسى ما أنكره على فرعون من قوله عن آيات الله: «إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ»
1057
وذلك بعد أن أنكر عليه هذا القول بقوله: «أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ؟..»
وقدم إنكار السحر على الإشارة إليه، لأن المطلوب أولا هو إنكار أن يكون هذا الذي جاء به موسى سحرا.. فهو ينفى السحر أصلا، أن يكون قد وقع فى هذا الموقف الذي كان بين موسى وفرعون، حين طلع عليه بآيات الله.. ثم يحدد بالإشارة هذا الشيء الذي ينفى عنه السحر، وهو آيات الله تلك.. فيقول له: «أَسِحْرٌ هذا؟»، ولا يقول: أهذا سحر؟ لأن موسى ليس ساحرا، ولا يأتى بسحر أبدا، سواء أكان هذا الذي يشهده منه فرعون الآن أو غير الآن..
- وفى قوله تعالى: «وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ» هو حال من اسم الإشارة المشار به إلى آيات الله.. والمعنى أتقولون عن آيات الله هذه، إنها سحر، وأهل السحر لا يفلحون أبدا..
وفى هذا إشارة إلى أن موسى من المفلحين بما فى يديه من آيات الله، وأنه ينذر فرعون بأنه سيغلب ويهزم، إن هو تصدى لآيات الله تلك.
«قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ».
ولا يجيب فرعون على تساؤل موسى وإنكاره لقوله الذي قاله فى آيات الله.. بل يشغب هو والملأ حوله على موسى، ويصيحون فى وجهه: «أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا؟».. وتلك هى علة الجاهلين، وداء السفهاء والحمقى.. التمسك بالقديم، وعقد القلوب عليه، وإن كان بلاء وشرا..
لأنهم أعفوا عقولهم من النظر والتفكير، ورضوا بما استقر فيها من كل غث وزيف..
1058
- وفى قوله تعالى: «وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ» ما يكشف عن علة أخرى من علل الضالين، وعن داء من أدوائهم، وهو الحرص على ما فى أيديهم من سلطان، ولو باعوا لذلك عقولهم، وأهلكوا فيه أنفسهم.. إنه دفاع عن جاه، ودفع عن سلطان.. لا أكثر ولا أقل.. وفى سبيل هذا يهون عندهم كل شىء، ويصغر كل شىء! - وقوله تعالى: «وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ» هو كلمة القوم التي يحتمون بها من وجه هذا الوافد الجديد، والذي جاء لينازعهم سلطانهم، أو ليستبد به دونهم.. «وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ».. هى قولة واحدة قاطعة، لا رجوع عنها، ولا بديل منها، ولو جاءهم موسى وهرون بآيات وآيات.. إنهم لن يؤمنوا لموسى وهرون أبدا.
«وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ.. إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ».
فى هذه الآيات، ينكشف ما كان يعتمل فى نفس فرعون، من خوف على سلطانه الذي بين يديه، والذي جاء موسى ينازعه إياه، وينزله عنه..
ذلك أنه قد رأى أن الأمر لن ينحسم بينه وبين موسى بهذه الكلمات التي صرخ بها فى وجهه، هو ومن حوله من حاشيته.. فما هذا إلا كلام، لا يكافئ الفعل الذي كان من موسى، حين ألقى عصاه، فكانت ثعبانا مبينا، فزعت له النفوس، واضطربت منه القلوب! وإن الذي ينبغى أن يواجه به هذا الموقف هو أن يحارب موسى بالسلاح الذي جاء يحاربه به، وأن يهزمه فى هذا الميدان الذي التقى معه فيه، وإلا فما زالت
1059
الجولة لموسى.. الأمر الذي تأبى كبرياء فرعون أن تقبله، وأن تبيت عليه..
«وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ».. فهو ما زال مصرا على أن ما جاء به موسى هو سحر.. وإذن فليلقه بسحر مثله، وليجمع لذلك ما فى دولته من أساتذة السحر وأربابه..
«فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ».. وهكذا يتحدد الموقف.. وتبدأ المعركة.. ويأخذ السحرة موقف المبادرة.. إذ يفسح موسى لهم المجال، ويدعوهم إلى أن يبدءوا، ويلقوا ما معهم من سحر.
«فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ.. إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ».. ولقد ألقى السحرة ما معهم، فلما رأى موسى ما كشفوا من أسلحتهم، قال: «ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ».. فذلك هو السحر، لا ما جئتكم به، كما قال فرعون من قبل: «إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ».!
وهنا ينكشف الباطل ويتعرّى، ويبين الزيف وينفضح الضلال..
فلو كان الذي مع موسى هو السحر كما قال فرعون، فإنه لن يكسب المعركة، لأنه يحارب سحرا بسحر.. أما إن كان الذي بين يديه هو الحق فإنه غالب لا محالة.. فما يثبت الباطل للحق أبدا «إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» الذين يتخذون الباطل مركبا يخوضون به فى بحار الحق.. «إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ..».. «وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ»..
فتلك هى نهاية الصراع بين الحق والباطل.. إن الحق هو كلمة الله، وكلمة الله هى العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.. وإحقاق الله للحق، هو فى انتصار الحق، وتمكّنه، وإجلاء الباطل من مواقعه.. «فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ».
- وفى قوله تعالى: «وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ» - إشارة إلى أن الحق
1060
مستند إلى قوة غالبة، لا تهزم أبدا هى قوة الله سبحانه. وأنه مؤيد بتلك القوة، مستند إليها.. فقوله تعالى: «بكلماته» متعلق بقوله سبحانه: «يحقّ»..
أي أنه سبحانه ينصر الحق بكلماته، وكلماته هى القوى العاملة فى هذا الوجود.
المتصرفة فيه، كما يقول سبحانه: «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ» (١٧١: النساء).. وكما يقول جل شأنه: «إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» (٤٠: النحل).
الآيات: (٨٣- ٨٦) [سورة يونس (١٠) : الآيات ٨٣ الى ٨٦]
فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦)
التفسير:
قوله تعالى: «فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ».
اختلف فى العائد عليه الضمير فى قوله تعالى «مِنْ قَوْمِهِ». ، وهل يعود على قوم موسى، أو قوم فرعون؟ كما اختلف فى العائد عليه الضمير فى «ملائهم» أهم الملأ من قوم موسى، أو الملأ من قوم فرعون؟
وينبنى على هذا الاختلاف، اختلاف فى الذرية الذين آمنوا لموسى، واستجابوا لدعوته.. أهم من ذرية بنى إسرائيل أم هم من ذرية المصريين؟
1061
والذي نراه- والله أعلم- أن هؤلاء الذرية هم من أبناء المصريين، ويرجّح هذا عندنا أمور، منها:
أولا: أن بنى إسرائيل كانوا قبل موسى مؤمنين بالله، على دين آبائهم إبراهيم، وإسحق، ويعقوب، ويوسف.. فهم ذرية أبناء يعقوب «الأسباط» الاثني عشر، وكانت رسالة موسى هى أن يخلصهم من يد فرعون، ومما كانوا يلقون من هوان وذلّ. كما يقول الله تعالى لموسى وهرون: «فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ» (٤٧: طه).
ثانيا: أن بنى إسرائيل كانوا مع موسى جميعا، فاستجابوا له، وخرجوا من مصر معه.. فلم يكن بينه وبينهم خلاف، حتى خرج بهم من مصر.
- وقوله تعالى: «فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ» يعنى أن الذين آمنوا له كانوا بعضا من القوم، بل ومن ذرية القوم.. وهذا يعنى أن قلة قليلة تلك التي آمنت لموسى، من هؤلاء القوم.. وهذا لا يمكن أن يحمل على قوم موسى الذين كانوا جميعا معه..
ثالثا: يذكر القرآن الكريم أن أناسا من المصريين قد استجابوا لموسى، وآمنوا بالله، ومنهم السحرة، الذين يقول القرآن عنهم: «قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ» (١٢١- ١٢٦: الأعراف).
رابعا: يذكر القرآن أنه قام من بين المصريين ممن آمن بالله على يد موسى- قام من يبشّر بالدعوة إلى الله، ويدعو إلى الإيمان به.. وقد سمّيت فى القرآن
1062
سورة باسمه هى سورة «المؤمن» وتسمّى «غافر» كذلك.. وفيها يقول الله تعالى: «وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ، وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ» (الآية: ٢٨).. وفى هذه السورة أيضا جاء قوله تعالى على لسان هذا الرجل المؤمن من آل فرعون: «يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا» (الآية: ٢٩) وفى هذه السورة كذلك جاء قوله تعالى على لسان هذا الرجل المؤمن من آل فرعون:
«وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا» (الآية: ٣٤) وقوله سبحانه أيضا:
«وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ» (الآية: ٣٨).
إذن فقد كان من المصريين مؤمنون، وكان منهم دعاة من هؤلاء المؤمنين يدعون إلى الإيمان بالله.. ولكن فى حذر، وخفية.. خوفا من فرعون أن يبطش بهم..
وعلى هذا فالضمير فى «ملائهم» يعود إلى ملأ المصريين الذين آمنوا، وأنهم كانوا يخافون من فرعون، ومن قومهم أيضا.
وملاحظة هنا نحب أن نشير إليها، وهو أن الذين آمنوا لموسى، واستجابوا له كانوا «ذرية» أي من الذرية، وهم الأبناء، لا الآباء، وهذا يعنى أن الشبان هم أقرب من غيرهم إلى تقبّل الجديد، والأخذ به، سواء كان من ماديات الحياة أو معنوياتها.. وهذا يعنى أيضا أن تحركات الأمم نحو التجديد تكون إلى يد الشبان.. أما الشيوخ فقلّ أن يستجيبوا لجديد يدعون إليه.. إذ أن طول إلفهم لما هم فيه من عادات، وتقاليد، ومعتقدات، قد شدّهم إلى ما هم فيه، وربطهم به، فكان فكاكهم منه عسيرا شاقا..
1063
ونجد هذا فى الدعوة الإسلامية.. فقد كان المستجيبون لها، والسابقون إلى الإيمان بالله، هم من كانوا فى مرحلة الشباب، لم يخرجوا منها بعد إلى مرحلة الشيخوخة.. كأبى بكر، وعمر، وعثمان، وعلىّ، وطلحة، والزبير، وأبى عبيدة، فهؤلاء كانوا أسبق الناس إلى الإسلام، وقد خلفوا النبي، وعاشوا سنين بعده! - ومعنى قوله تعالى: «عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ» أي يضطهدهم، ويعذهم، ويعرضهم بهذا العذاب لأن يفتنوا فى دينهم.
- وفى قوله تعالى: «وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ» إشارة إلى علوّ سلطانه، وأنه سلطان قائم على تراب هذه الأرض.. فهو سلطان- وإن علا- لن يبلغ أن يكون جبلا من جبال هذه الأرض، أو تلّا من تلالها: إنه بناء من تراب، على تراب! - وفى قوله سبحانه: «وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ» إشارة أخرى إلى إسرافه على نفسه، ومجاوزة الحدّ بها فى الظلم والجبروت.
«وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ» بهذه الدعوة، وأمثالها، كان يثبّت موسى قومه، ويصبرهم على ما هم فيه من بلاء، وأن يجعلوا لله أمرهم، ويسلموا له قيادهم، وألا يأبهوا لما يأخذهم به فرعون من أذى وضرّ..
وهنا سؤال: كيف يقول لهم موسى: «إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ» ولم يقل إن كنتم مؤمنين، مع أن الإيمان درجة فوق درجة الإسلام.. فالإسلام باللسان، والإيمان بالقلب.. ولهذا ردّ الله إيمان الأعراب، الذين قالوا آمنا.. فقال تعالى «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ» (١٤: الحجرات).. فكيف هذا؟.. ثم إن النظم كان يقضى
1064
بأن يذكر الإيمان بدل الإسلام. إذ كان الشرط مبنيّا على الإيمان، كما يقول سبحانه على لسان موسى: «يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ» فكان مقتضى النظم أن يكون الجواب: فعليه توكلوا إن كنتم مؤمنين..
كيف هذا أيضا؟
والجواب: أن القوم كانوا على درجات فى الإيمان، فمنهم المسلم المؤمن، ومنهم المسلم، غير المؤمن..
وحين أراد موسى أن يأخذ اعترافهم فى صلتهم بالله، جعل هذا الاعتراف قائما على «الإيمان» :«إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ».. حتى ينظر كل منهم إلى نفسه، ويتعرف إلى حقيقة إيمانه، لأن المطلوب منه هو أن يكون مؤمنا..
وهنا يدعوهم موسى جميعا إلى التوكل على الله، إن كانوا مسلمين، فمن كان منهم مسلما إسلاما خالصا، فهو مؤمن.. وإذن فهم مسلمون، قبل أن يكونوا مؤمنين، وبالإسلام الخالص، يكونون مؤمنين..
فقول موسى عليه السلام: «إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ» دعوة منه إلى أن يبرأ إسلامهم لله من النفاق والمداهنة.. فهو يريدهم مسلمين أوّلا، يقوم إسلامهم على اقتناع عقل، واطمئنان قلب، وإخلاص نية.. وهذا هو الإيمان..
«فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ»..
بهذا الجواب أجاب القوم موسى إلى ما طلبه منهم، من التوكل على الله..
«فَقالُوا: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا» فلا متوجه لنا إلى غير الله.
1065
- وفى قولهم: «رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» دعاء منهم إلى الله ألا يعرّضهم للبلاء والضرّ على يد الطغاة الظالمين، حتى لا يكون فى ذلك ما يفتنهم عن دينهم، ويفتن الظالمين بهم أيضا، فيؤخذوا بجنايتهم على هؤلاء المظلومين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً» (٢٠: الفرقان)..
الآيات: (٨٧- ٨٩) [سورة يونس (١٠) : الآيات ٨٧ الى ٨٩]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩)
التفسير:
«وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ، أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» البيوت هنا: هى بيوت العبادة، لا بيوت السّكنى..
والتّبوّء: يقال تبوأ المكان أي اتخذه مباءة له وسكنا، وهو من البوء، بمعنى الرجوع.. يقال: باء يبوء، أي رجع، وسمى المنزل مباءة، لأنه المرجع الذي يرجع إليه الإنسان آخر مطافه.. فقد أوحى الله سبحانه وتعالى، إلى موسى وهرون، أن يدعوا قومهما إلى اتخاذ بيوت لعبادة الله.. يجعلونها خاصة لعبادته،
1066
فلا يدخل فيها ما يدخل فى بيوت السكنى من لهو وعبث.. ذلك أن للمكان أثره فى إثارة المشاعر الطيبة والخبيثة.. فإن كان المكان طيبا أشاع فى النفس السكينة والرضا، وملأ القلب جلالا وخشوعا، وعلى عكس هذا ما يكون من المكان الخبيث.
روى أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه، نام وهو فى غزوة تبوك حتى طلعت عليه الشمس، ولم يدرك صلاة الصبح حتى طلعت الشمس.. فلما استيقظ قال لبلال: «ألم أقل يا بلال.. اكلأ لنا الفجر؟ فقال يا رسول الله ذهب بي من النوم مثل الذي ذهب بك!! فانتقل النبي من ذلك المكان غير بعيد.. ثم صلّى» فقد كره ﷺ أن يصلى فى مكان أجلب عليه النوم، وفوّت عليه الصلاة فى وقتها، فاعتزله كما يعتزل الإنسان إخوان السوء..
- وفى قوله تعالى: «وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً» إشارة إلى أن يكون متوجه الصلاة فى هذه البيوت إلى القبلة، وهى الكعبة كما يقول بذلك كثير من المفسرين..
ولكنا نخالف هذا الرأى، ولنا على مخالفتنا إياه أكثر من دليل:
فأولا: القبلة فى اللغة ليس معناها الكعبة.. وإنما هى بمعنى الوجهة، أو الاتجاه، الذي يتجه إليه الإنسان.. وهى مشتقة من الاستقبال، لأن الإنسان فى توجهه إلى الله يستقبل الرحمة والمغفرة والرضوان..
وثانيا: فى قوله تعالى للرسول الكريم: «قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها» فتنكير القبلة هنا دليل على أنها واحدة من كثير غيرها.. ولهذا أيضا وصفها الله سبحانه وتعالى بقوله: «تَرْضاها» وقد كان متّجه النبي ﷺ قبل، ذلك، وقبلته، هو بيت المقدس.
1067
والمراد بجعل بيوتهم قبلة، هو أن يجعلوا متوجّههم إليها حين يريدون الصلاة فيها، فتكون مقصدا لكل من يريد الصلاة منهم..
قوله تعالى: «وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا.. رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ.. رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ»..
العطف هنا «وَقالَ مُوسى» هو عطف على قوله تعالى: «وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ» إذ كان معنى الوحى «القول».. أي قال الله لموسى وأخيه هرون تبوّءا لقومكما بمصر بيوتا.. وقال موسى ربنا.. فهو عطف قول على قول..
- وفى قوله تعالى: «رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ»..
يرى أكثر المفسرين أن هذا دعاء من موسى على فرعون.. وقد تكلّفوا لهذا التخريج والتأويل، حتى يخرجوا بلام التعليل عن معناها إلى المعنى الذي أرادوه لها..
واللام هنا لام تعليل- كما هو ظاهر- وأن قول موسى: «رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ» هو علة لما طلبه موسى بعد هذا من ربه، وهو قوله:
«رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ»..
والطمس على أموالهم، هو ذهلبها من أيديهم، وغروبها عن أعينهم، والشدّ على قلوبهم، هو الختم عليها وربطها ربطا محكما، على ما انعقد فيها من كفر وضلال، فلا تقبل خيرا أبدا..
ويكون معنى الآية هكذا: ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا فى الحياة الدّنيا فكفروا بنعمتك، وحاربوك بها، وكانت تلك
1068
الأموال سببا فى عتوّهم وضلالهم «رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ»..
فيكون سلب هذه النعم، وذهاب هذه الأموال من أيديهم، ضربا من العقاب المعجل لهم، يأخذ الله به الظالمين والضالين، الذين يكفرون بالله ورسله، فيمطرهم حجارة، أو يرسل عليهم صاعقة من السماء، أو يغرقهم.. وبهذا الذي ينزل بفرعون وملائه، من سلب النعم، وذهاب الأموال، يكون العقاب الذي يذلّ كبرياءه، ويذهب بسلطانه، ويريه سوء عمله فى الدنيا، ثم لا يكون له منه عبرة وعظة، تفتح قلبه إلى الله، وإلى الإيمان به بعد أن ختم الله على قلبه، بل إنه سيمضى على طريق الضلال والكفر هو ومن معه، حتى يروا العذاب الأليم، عذاب يوم القيامة «فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم..».
وهذه الصورة التي يصورها القرآن الكريم لمن يطغيهم الغنى، ويفتنهم الجاه والسلطان، ويفسد عليهم تفكيرهم، ويطمس على أبصارهم وبصائرهم- هذه الصورة تقابلها صورة أخرى للمال، حين يقع فى يد من يؤمن بالله، ويلتزم حدوده، إذ المال هنا، قوة تعين على قضاء حقوق الله، وأداء ما افترض على عباده من عبادات وطاعات..
يقول الله سبحانه وتعالى على لسان إبراهيم عليه السلام:
«ربنا إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون» (٣٧: إبراهيم)..
هذا، ويلاحظ ما بين النظم القرآنى فى الصورتين من اتفاق فى الأسلوب الذي جاء عليه النظم هنا وهناك.. وذلك واضح لا يحتاج إلى بيان..
1069
«قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ».
هذا إعلام من الله سبحانه وتعالى لموسى وهرون، بأن الله- سبحانه- قد استجاب لهما ما دعواه به، فى أمر فرعون وملائه.. وقد ذكر القرآن الكريم فى أكثر من موضع منه، ما أخذ الله به فرعون وآله من بأساء وضراء.. فقال تعالى: «وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» (١٣٠: الأعراف)..
وقال سبحانه: «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ» (١٣٣. الأعراف).
- وفى قوله تعالى: «فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» إشارة إلى ما ينبغى أن يكون لهما من عبرة وعظة، فيما وقع لفرعون وملائه، وأن عليهما أن يستقيما على طريقهما المستقيم، وأن يحتملا فى سبيل الله كل ما يعرض لهما من ضر وأذى، فقد رأيا بأعينهما كيف كان عاقبة المنحرفين، الذين لا يقفون عند عبرة، ولا ينتفعون بموعظة.. إذ غطّى الجهل على أبصارهم، وران الضلال على قلوبهم، فهم لا يعلمون، ولا ينتفعون بعلم العالمين..
الآيات: (٩٠- ٩٢) [سورة يونس (١٠) : الآيات ٩٠ الى ٩٢]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢)
1070
التفسير:
جاز الوادي، والنهر: أي قطعه، وبلغ جانبه الآخر.. وجاوزه: أي بعد عنه بعد أن جازه.. وتجاوز عن فعلة فلان: أي غفرها له، وتخطاها، ولم يحاسبه عليها..
العدو: العدوان والتعدّى والظلم.
«وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ».
العطف هنا فى قوله تعالى «وَجاوَزْنا» يدل على معطوف عليه، محذوف، إذ جاء ذكره فى مواضع أخرى من القرآن الكريم، عند عرض جوانب من تلك القصة.. وهو خروج موسى ببني إسرائيل من مصر ليلا، وخروج فرعون بجنوده وراءهم ومداناته لهم وهم فى مواجهة البحر، ثم اضطرابهم وحيرتهم وهم بين فرعون وبين البحر، ثم ضرب موسى بعصاه البحر، وانفلاق البحر، وكشفه عن طريق يبس لهم، وركوبهم هذا الطريق حتى بلغوا العدوة الأخرى منه.. ثم مجىء فرعون، وركوب هذا الطريق..
ومع هذا الإيجاز الذي أجملت فيه الآية الكريمة كل هذه الأحداث وطوتها، فإن الذي أمسكت به الآية من عناصر القصة، هو الوجه البارز منها، والملامح المميزة لها..
فهؤلاء هم بنو إسرائيل يجاوزون البحر.. وهذا هو فرعون وجنوده يلاحقونهم، ويريدون أن يمسكوا بهم قبل أن يفلتوا.. ثم إذ يرى فرعون طريقا يبسا فى البحر لا يتوقف، ولا يسأل نفسه: كيف كان هذا الطريق؟
1071
وهل هناك قوة بشرية قادرة على أن تشقه هكذا بين الأمواج المتلاطمة؟
إنه لو توقف قليلا وتدبّر الأمر لعلم أنه أمام معجزة قاهرة، وأن عليه أن يراجع نفسه، وأن يؤمن بالله الذي يدعوه موسى إلى الإيمان به.. ولكنه يمضى فيركب هذا الطريق، غير ملتفت إلى شىء، إلا النقمة من بنى إسرائيل، الذين هربوا بليل، وخرجوا عن سلطانه، وأفلتوا من يده.. ثم هاهو ذا البحر يطبق عليه، ويدركه الغرق، ويطل عليه شبح الموت، فيصرخ من أعماقه طالبا الغوث والنجاة.. ثم تخطر له خاطرة يرى فى التعلق بها نجاته من هذا الموت المحقق.. إن بنى إسرائيل قد ركبوا هذا الطريق، فوصل بهم إلى شاطىء النجاة، وإن الذي فعل بهم هذا هو إلههم الذي آمنوا به، وأنه لو آمن بهذا الإله لنجّاه كما نجاهم.. هكذا فكّر وقدّر وهو فى هذا البلاء: «حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ» لقد تخلّى عن آلهته التي كان يعبدها، إذ تخلت هى عنه فى هذه الشدة، وإنه ليؤمن بالإله الذي آمنت به بنو إسرائيل.. إنه الإله الحق، وكل آلهة غيره باطل وضلال..! هكذا يقول.. وهكذا يلقى الجواب:
«آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» ؟. الاستفهام هنا إنكارى، ينكر على فرعون هذه الدعوى، وأن إيمانه بالله غير مقبول منه، إذ جاء وقد بلغت الروح الحلقوم، وأشرفت به على العالم الآخر، فرأى الحق عيانا..
والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً» (١٨: النساء).
لقد آمن فرعون، ولكنه إيمان المضطر المكره، وإنه «لا إِكْراهَ فِي
1072
الدِّينِ»
، ولا حساب لمثل هذا الإيمان.. وقد كان هذا الإيمان الباطل، هو الذي طلبه موسى لفرعون من ربه فى قوله: «فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ».
وقد آمن فرعون، وآمن معه كثيرون من الغرقى من قومه، وذلك بعد أن رأوا العذاب الأليم الذي ينتظرهم يوم الحساب! فكان إيمانهم هذا لغوا باطلا.
«فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ».
الخطاب هنا لفرعون، وهو يعالج سكرات الموت، أو وهو ميت، إذ هو حىّ يسمع ويبصر كل شىء يجرى فى هذه الدنيا.. وقد تحدث الرسول صلوات الله وسلامه عليه.. إلى قتلى المشركين فى بدر، وهم فى القليب، فسأله أصحابه: أيسمع الموتى؟ فقال صلوات الله وسلامه عليه: «ما أنتم بأسمع منهم فى قبورهم» ! ونجاة فرعون ببدنه، وإلقاء البحر له جثّة هامدة متعفنة على الشاطئ، فيه عبرة لمعتبر.. فهذا الإنسان الذي كان يملأ الأرض بغيا وعدوانا، ويقول فى الناس: «يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي» (٣٨: القصص) ويقول: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» (٢٤: النازعات). هذا الإنسان قد صار فى لحظات جثة هامدة، وكوما من لحم بارد! فأين ملكه؟ وأين سلطانه؟ وأين بطشه وجبروته؟ لقد ذهب كل ذلك عنه، وتعرّى من كل شىء كان بين يديه! «وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ».
«وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ».
فهذه يد القدرة القادرة، تحفظ موسى وليدا، وتحمله على اليمّ رضيعا، ثم تضعه على الشاطئ، كما تضع الأم وليدها، وهو يشق طريقه إلى الحياة..
فتتلقفه القابلة، وتصلح من شأنه، وتهيئ له أسباب الحياة فى عالمه الجديد..
1073
ثم هذه يد القدرة القادرة، تدفع بفرعون إلى اليم، وتميته فيه غرقا، وتدفنه فى أعماقه، ثم تلقى به إلى الشاطئ، جثة باردة متآكلة متعفنة..!
وهكذا يلتقى ميلاد موسى بهلاك فرعون، كما يلتقى الحق بالباطل، والنور بالظلام!
الآيات: (٩٣- ٩٥) [سورة يونس (١٠) : الآيات ٩٣ الى ٩٥]
وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥)
التفسير:
المبوّأ: المنزل، الذي يبوء إليه الإنسان، أي يرجع إليه بعد مطافه للسعى وراء رزقه..
والآية تتحدث عن نعمة الله على بنى إسرائيل، بعد أن نجّاهم من فرعون، وأطلقهم من يده، وأخرجهم من منزل الهوان والذلة، إلى دار أمن، وسلام، واطمئنان.. فملكوا أمر أنفسهم، وعرفوا طعم الحرية، وتنسموا ريحها الطيب..
1074
العلم وأسلوب تحصيله
- وفى قوله تعالى: «فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ».
اختلف المفسرون فى هذا المقطع من الآية الكريمة.. فى العلم الذي جاء إلى بنى إسرائيل، وفى الاختلاف الذي وقع بينهم..
فذهب بعضهم إلى أن العلم الذي جاءهم، وأوقع الاختلاف بينهم، هو التوراة.. ويعلّلون لهذا بأنهم كانوا قبل ذلك على حال واحدة من الضلال، فلما جاءتهم التوراة، اختلفوا، فمنهم من آمن، ومنهم من كفر..
وذهب آخرون إلى أن «العلم» هو النبي صلى الله عليه وسلم، وما عرفوا من صفته فى التوراة، وأنهم كانوا على اتفاق بأن نبيا قد يظهر من العرب، وأن زمانه قد أظلّهم، فلما جاءهم ما عرفوا، تفرق رأيهم فيه واختلفوا: فكفر به أكثرهم، وآمن به قليل منهم..
والرأى عندنا.. أن يكون المراد بالعلم، هو العلم على إطلاقه..
ذلك أن العلم، وهو نعمة من نعم الله، وهدى من هداه، من شأنه أن يكون مصدر خير وهدى للناس، ولكنه- شأنه شأن كل نعمة- كثيرا ما يكون سببا فى الخلاف والتفرق.. الخلاف فى الرأى، والتفرق شيعا وأحزابا، تبعا للاختلاف فى الرأى..
وتلك حقيقة واقعة فى ماديات الحياة ومعنوياتها..
المجتمعات الفقيرة، التي تعيش على فطرتها وطبيعتها، مجتمعات متوحدة المشاعر والعواطف، متماسكة البناء.. ليس فيها طبقات ولا شيع ولا أحزاب..
كلها لون واحد، وصبغة واحدة..
1075
فإذا كثر رزقها، وفاض الخير فيها، وقع التمزق، وانحلّت الروابط، وتمايز الناس طبقات، بعضها فوق بعض، وأصبح الجسد الاجتماعى أشلاء ممزقة.. كل عضو فيه منفصل عن بقية الجسد.. فهنا عيون الناس، وهناك رءوسهم.. وهنالك أيديهم.. وأرجلهم! والعلم، شأنه كهذا الشأن.. العلماء والحكماء والفلاسفة فى واد، والجهلة والعامّة فى واد.. هؤلاء فى عالم وأولئك فى عالم آخر..
ثم العلماء والحكماء والفلاسفة.. كل له رأيه، وعلمه وحكمته، وفلسفته.. كل له متجه فى تفكيره، وفى نظره إلى الوجود، وقربه، وبعده من الحقيقة.. «كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ».
وبنو إسرائيل ليسوا وحدهم هم الذين يثير «العلم» خلافا بينهم، ويجعلهم أحزابا وشيعا.. بل هذا هو شأن الناس جميعا- كما قلنا- وإذن فالسؤال الوارد هنا هو:
لماذا اختصّ بنو إسرائيل بالذّكر هنا، وعرضوا فى معرض اللوم والتقريع؟
والجواب على هذا، هو أن ذلك تحذير للمسلمين من الخلاف الذي يجيئهم من واردات العلم، كما اختلف الذين من قبلهم من بعد ما جاءهم العلم.
وقد نبه النبي الكريم فى هذا، وحذر منه.. فقال صلوات الله وسلامه عليه:
«لتتّبعنّ سنن الذين من قبلكم شيرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لا تبعتموهم».
ويقول النبي الكريم أيضا؟ وقد تنبأ بهذا الخلاف «اختلف اليهود
1076
على ثلاث وسبعين فرقة، واختلف النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتختلف أمتى على إحدى وسبعين فرقة.. كلها فى النار إلا فرقة واحدة، قالوا يا رسول الله: من هى؟ قال: ما عليه أنا وأصحابى».
وقد صدق الله العظيم، وصدق رسوله الكريم.. فما أن ورد المسلمون موارد العلم، وأخذوا بحظهم من الحكمة والفلسفة والمنطق وغيرها، حتى أجلبوا بكل هذا الذي أخذوه، إلى كتاب الله، وخرّجوا آياته عليه، فوقع بينهم هذا الخلاف الذي عرفته الحياة، وسجله التاريخ.. فقالوا بالجبر والاختيار، وقالوا بالتنزيه والتجسيد، وقالوا بخلق القرآن، وبقدم القرآن، وقالوا بإمكان رؤية الله، وبعدم إمكان الرؤية.. وهكذا كان لهم فى كل مسألة آراء، ينقض بعضها بعضا.. وكانوا فرقا بلغت إحدى وسبعين فرقة، كما قال الرسول الكريم..
ولكن هنا سؤال أيضا:
كيف يتفق هذا، ودعوة الإسلام إلى العلم، وطلبه طلبا مفروضا فى بعض الأحيان، ومندوبا إليه فى بعض الأحيان الأخرى؟ وكيف يتفق هذا وقد رفع الإسلام من قدر العلماء، ونوّه بهم فى أكثر من موضع من القرآن الكريم، وفى أكثر من حديث من أحاديث الرسول؟
والجواب على هذا، هو أن دعوة القرآن إلى العلم وطلبه، والجدّ فى تحصيله لا يمنع من التحذير منه.. فهو سلاح ذو حدين.. إن لم يكن مع العلم تقوى وخشية من الله، قتل به صاحبه نفسه، وقتل كثيرا من الناس به..
والخلاف فى الرأى- إذا تجرد من الهوى- خلاف لا ينكره الإسلام بل يزكّيه، لأنه اجتهاد فى طلب الحقيقة، وتقليب للنظر فى التماسها، وتعاون بين المختلفين على الوصول إليها.. يحيئون إليها من طرق شتّى، وقد يلتقون
1077
عندها، وقد لا يلتقون، ولكنهم جميعا ينشدونها، ويباركون من يدلّهم عليها، ويحمدون له اجتهاده وسبقه..
وقد اختلف صحابة رسول الله فيما بينهم على كثير من المسائل.. ولكن هذا الاختلاف، كان تمحيصا للرأى، وطلبا للحق، وبلوغا بالقلب والعقل إلى مقام اليقين والاطمئنان..
فهذا هو العلم الذي يدعو إليه الإسلام، ويبارك على أهله، ويفتح لأبصارهم وبصائرهم صفحات الكون كله، ينظرون فيها نظرا مطلقا غير مقيد بقيد.. وغاية ما يطلبه الإسلام من العالم هنا، هو أن يطوّف ما يطوف فى آفاق العلم، ومعه إيمانه وتقواه.. ثم يعود آخر المطاف، ومعه إيمانه وتقواه.
- وفى قوله تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» - إشارة إلى أن هذا الخلاف الذي وقع بينهم، سواء كان عن طلب حقّ وهدى، أو كان جريا وراء هوى ومكر بالناس، فإن الله يعلم المحقّ من المبطل، وسيجزى كلّا بما انعقدت عليه نيته..
قوله تعالى: «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ.. لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ».
لم يكن الرسول صلوات الله وسلامه عليه فى شكّ مما أنزل عليه من ربه، ولم يكن يطوف به أي طائف من الشكّ أو الامتراء، أو التكذيب.. وكيف وهو يرى ملكوت السماء عيانا؟ وكيف وقد ثبّت الله قلبه، وأخلاه من كل وسواس؟. وهل يشك صاحب الرسالة فى رسالة تلقّاها من ربه، وأقرأه إياها ملك كريم من ملائكته.. يغدو ويروح إليه أياما، وشهورا، وسنين، وكيف يكون منه أثارة من شك أو تكذيب؟ وهو الذي احتمل فى سبيل
1078
رسالته تلك ما لا تحتمل الجبال من ضر وأذى؟ أيكون من شكّ أو تكذيب، ممن يساوم على هذا الذي بين يديه بالمال والسلطان، فيقول: «والله لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر أو أهلك فيه ما تركته!»..
وإذن فما تأويل ما نجد فى الآيتين الكريمتين، من هذا الحديث الموجّه إلى النبي الكريم من ربه سبحانه وتعالى، من التحذير من أن يكون من الممترين أو من المكذبين؟..
والجواب- والله أعلم- أن ذلك تعريض بأولئك الذين يكذبون بآيات الله ويمترون فيها، من المشركين، وأهل الكتاب، ثم هو تهديد لهم، ووعيد بالخيبة والخسران، إن هم لم يبادروا ويأخذوا بحظهم من هذا الخير المرسل من الله، إلى عباد الله!..
ومن جهة أخرى، فإن خطاب النبي من ربه هذا الخطاب، يضع النبي- صلوات الله وسلامه عليه- بضعه والناس جميعا على سواء بالنسبة للقرآن الكريم، وأنه ليس له فيه شىء.. إنه من عند الله، ومن كلام الله، وليس من كلام النبي، ولا من كلام أحد من البشر، وإنه علم يحمل إلى الناس فى آيات الله وكلماته. وأنه إذا كان للناس أن يشكّوا فى هذا العلم ويضعوه موضع الاختبار فليشكّوا، وانه إذا كان لهم أن يختلفوا على معطيانه فيما بينهم فليختلفوا- ولكن على شريطة أن يكون ذلك فى سبيل الاهتداء إلى الحق والتعرف على ما يملأ العقل نورا به، والقلب اطمئنانا وسكنا إليه.. وإلا فهو اختلاف يفرّق ولا يجمع، ويضر ولا ينفع، كاختلاف بنى إسرائيل حين جاءهم العلم..
وإذن، فالنبى- صلوات الله وسلامه عليه، والناس جميعا- هم على سواء أمام تلك الحقيقة العليا، المنزلة من السماء.. ينظرون فيها، ويتعرفون وجه
1079
الحق منها، وأنه يمكن فرضا- وإن كان مستحيلا واقعا- أن يشكّ النبي فى هذا القرآن، وأن يلقى نظرة فاحصة عليه، ليتثبّت من الحقائق التي يدعى إلى الإيمان بها.. وهذا حق مشروع له، كإنسان، قبل ألا يكون نبيا..
وفى هذا- كما قلنا- ردّ مفحم على المشركين والكافرين الذين يدّعون أن هذا القرآن من عند محمد، ومن مقولاته.. إذ مستحيل فرضا وواقعا أن يشكّ إنسان فى قول صدر منه، أو يمترى ويكذّب بقول، يعرضه على الناس، ويدعوهم إلى التصديق به!! - وفى قوله تعالى: «فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ».. هو دعوة لأهل الكتاب أن ينظروا فى هذا الكتاب العجيب، الذي يشكّ فيه صاحبه، وواضعه، كما يزعمون!..
إن ذلك إغراء لهم بدراسة هذا الكتاب وتفحّصه، إذا كان كتابا شأن صاحبه معه، هو هذا الشأن.
ولا تطلب الدعوة الإسلامية إليهم وإلى غيرهم من المنكرين المكذبين أكثر من أن ينظروا فى هذا الكتاب نظر تفحص، وإمعان..
وإنهم لو فعلوا، لعرفوا أنه الحق من ربهم.. وأنه إذا كان هذا الكتاب منزّلا على محمد، هو منزل إليهم أيضا.. كما يقول الله تبارك وتعالى: «قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ..» (١٣٦: البقرة) ومن جهة ثالثة، فإننا إذ نقرأ قوله تعالى، للنبى الكريم: «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ» - نلمح فى وجه الآية الكريمة دعوة إلى البحث والنظر، وتقليب حقائق الأمور، وعرضها
1080
على العقل، ووزنها بميزانه، قبل الأخذ بها، وألّا يقبلها قبول استسلام وإذعان من غير اقتناع قائم على الدراسة والتأمل، ومهما كانت ثقة الإنسان فى مصدرها، فإن هذا لا يحرم العقل حقه من النظر فيها، نظر بحث وتفحص!..
إن الشك- كما يقولون- هو أول مراتب اليقين..
والمراد بالشك هنا هو الشك المثمر، الذي يلقّح العقل بلقاح حب المعرفة والبحث عن الحقيقة، وارتياد مظانّها، وكشف وجهها سافرا مشرقا.. فهذا شك ولود للمعارف، يضع بين يدى صاحبه محصولا وافرا من العلم الراسخ، والحقائق الموثّقة..
أما الشك الذي يصدر عن وسواس ووهم، فهو داء، يقيم صاحبه دائما على عداء مع كل حقيقة واردة، أو علم مستحدث.. وهذا هو الشك الذي ينكره العلم، كما يبغضه الدين، ويبغض أهله..
الشك الذي تتحدث عنه الآية الكريمة فى قوله تعالى: «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ» هو الشك الذي يدعو العقل إلى البحث الجادّ، والنظر المدقق فى الحقيقة التي بين يديه، فلا يهدأ، ولا يستقر حتى يقع من الحقيقة على ما يملأ عقله وقلبه يقينا بها، واطمئنانا إليها.. ولقد جاء قوله تعالى بعد ذلك: «فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ».. ثم جاء قوله تعالى بعد هذا.: «لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» تثبيتا لهذا اليقين الذي يقع فى القلب من النظر فى آيات الله.. ثم جاء بعد ذلك قوله تعالى: «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ» دعوة إلى تجنب الامتراء والجدل فى البحث عن الحقيقة.. فإن هذا الامتراء هو الآفة التي تمسك يد الإنسان عن أن تصل إلى حقيقة أبدا.. ثم جاء بعد ذلك قوله تعالى: «وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ» دعوة أخرى إلى تجنب التكذيب بالحقيقة حين يسفر وجهها.. فذلك من
1081
شأنه أن يحرم الإنسان ثمرة بحثه عنها، وسعيه من أجل الحصول عليها.. وفى ذلك خسران أىّ خسران..
فمراحل البحث عن الحقيقة، كما تصورها الآيتان الكريمتان.. هى ثلاث مراحل:
مرحلة الشك.. وفيها يتجه المرء بوجوده كله، إدراكا، وشعورا، ونيّة- للبحث عن الحقيقة، والعمل فى إخلاص ودأب على الوصول إليها..
ومرحلة التمحيص لما يقع فى مجال النظر، من حقائق، تمحيصا معزولا عن المراء والجدل- لمجرد الجدل..
ومرحلة الأخذ بما يؤدّى إليه النظر من البحث والتمحيص.. سلوكا وعملا.
ولا شك أن هذه هى أقوم السبل، وأعدل المناهج فى البحث عن الحقيقة في مجال العلم، والفنّ، والدين..
«والله يقول الحق وهو يهدى السبيل»..
الآيات: (٩٦- ١٠٣) [سورة يونس (١٠) : الآيات ٩٦ الى ١٠٣]
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧) فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠)
قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣)
1082
التفسير:
حقت عليهم: أي وقعت عليهم، ووجبت..
كلمة ربك: قضاؤه وحكمه الذي أوجبه وأوقعه عليهم..
والآية الكريمة تشير إلى ما لله سبحانه وتعالى من سلطان مطلق فى عباده، يخلقهم كما يشاء، لما يشاء.. فتلك إرادته النافذة فيهم، ومشيئته الحاكمة عليهم..
وفى عباد الله، من خلقهم الله لا يقبلون الإيمان، ولا يكونون فى المؤمنين أبدا.. كما يقول سبحانه: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ»..
وكما يقول النبي الكريم: «إن الله سبحانه خلق الخلق فقبض قبضة بيده وقال هؤلاء للجنة ولا أبالى، وقبض قبضة وقال هؤلاء للنار ولا أبالى.. رفعت الأقلام وجفّت الصحف» فقال الصحابة: «يا رسول ألا نتّكل وندع العمل بقدرنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «اعملوا. فكلّ ميسّر لما خلق له.. فأهل الجنة للجنة ولها يعملون وأهل النار للنار ولها يعملون».
«إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ» إنهم لا يؤمنون أبدا إيمان اختيار ورضا،
1083
ولو جاءتهم كل آية قاهرة معجزة.. إن قدرهم يمسك بهم على ما أرادهم الله له، ولن يتحولوا عنه..
أما إيمانهم عند الموت، أو عند مشاهدة أهوال يوم القيامة، فلن يحسب إيمانا، لأنه كما قلنا إيمان المكره المضطر، وإنه: «لا إكراه فى الدين».
وهنا تثور فى النفس خواطر، وتدور فى الرءوس تساؤلات.
لم هذه التفرقة بين الناس، وهم جميعا عباد الله وصنعة يده.. فيكون فيهم السعيد والشقي، بقدر مقدور عليه، قبل أن يولد؟
وعلى أي أساس قامت هذه التفرقة بين أصحاب الجنة وأصحاب النار؟
فمواليد يولدون للجنة، ومواليد يولدون للنار؟
أسئلة كثيرة تدور هنا، قلّ أن يكون إنسان فى الناس- إلا من عصم الله- لم تعرض له هذه القضية- قضية القضاء والقدر- فيلقاها مواجها، أو مجانبا، أو حذرا، أو متخوفا..
فالناس جميعا مبتلون بهذه المشكلة.. وإن اختلفت موافقهم منها، وتباينت نظراتهم إليها..
وسيكون لنا موقف- إن شاء الله- مع هذه القضية، نستعرض فيه بعضا من نظرات الناظرين إليها، وما حصّلته تلك النظرات من خير أو شر.
ثم نعرض رأى «الإسلام» وموقف المسلم من هذه القضية..
قوله تعالى: «فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ».
«لولا» هنا بمعنى هلّا، يراد بها الاستفهام، ويراد من الاستفهام بها الحثّ والحض على فعل المستفهم عنه بعدها، والإغراء به.
1084
والمعنى: هلّا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها؟! والمراد بالقرية هنا، «مكة».. وقد أشار إليها القرآن الكريم بهذا الاسم فى أكثر موضع، فقال تعالى: «وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ» (١٣: محمد) وقال سبحانه: «وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» (٣١: الزخرف)..
وهذه مقولة المشركين من أهل مكة، يحكيها القرآن عنهم، وهم يريدون بالقريتين، مكة، والطائف..
والمفسرون مجمعون على أن هذه القرية مجرد قرية، أية قرية من تلك القرى التي أهلكها الله، ولم تؤمن كما آمنت قرية «يونس» وهى «نينوى».
والذي نستريح إليه، ونطمئن له، هو هذا الرأى الذي ذهبنا إليه، وهو أن المراد بالقرية هو «مكة».. وقد جئنا من القرآن الكريم بما يدل على أنه يطلق عليها اسم «قرية»، وإن كان القرآن قد ذكرها مرة بأنها أم القرى! ولنا على ذلك أيضا:
أولا: أن تنكير القرية يكاد يصرح بأنها «مكة» وأن كلمة قرية هو علم عليها، وذلك بالإشارة بدلالة الحال عليها.. والتقدير: فهلا كانت قرية اسمها مكة آمنت فنفعها إيمانها؟
ثانيا: فى قوله تعالى بعد هذه الآية مباشرة: «ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين».. وفى هذا عزاء للنبى، وتسرية عنه، مما يعتمل فى نفسه من هموم على أهل هذه القرية التي يأبى عليه أهلها- وهم أهله وعشيرته- أن يستجيبوا له، وأن يأخذوا طريق النجاة الذي يدعوهم إليه.
1085
وثالثا: فى قوله تعالى: «آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها» - وفى هذا الحديث عن القرية بالماضي، وهو الذي لفت أنظار المفسرين إلى أنها من القرى الغابرة- فى هذا إشارة إلى أن المراد بالقرية هى مكة.. والحديث عنها بالفعل الماضي يشير إلى أن إيمانها قد تأخر كثيرا، وأنه كان المتوقع منها أن تكون أول من يستجيب للنبى.. لأنه أحد أبنائها.. تعرفه، وتعرف نسبه فيها، ونشأته بين أبنائها، وما عهدت فيه من صدق، وأمانة، وعفة، واستقامة، مما لم تعهده فى شبابها أو شيبها.. ولأنها تملك اللسان العربي الذي التقت عليه ألسنة العرب جميعا، والذي نزل القرآن به.. فهى أقدر العرب جميعا على النظر فى المعجزة التي جاءها بها هذا النبي، فى كتاب كريم، تنزيل من رب العالمين.
فلو أن هذه القرية استجابت للنبى الكريم من يوم أن حمل إليها رسالة ربه، ودعاها إلى الإيمان به، لنفعها إيمانها، ولكانت فى ذلك الوقت، الذي تسمع فيه قول الله هذا، على حال غير حالها تلك، وعلى صفة غير صفتها هذه، التي هى عليها الآن، من كفر، وضلال..
- وفى قوله تعالى: «إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ».
فى هذا ما يسأل عنه، وهو:
ما معنى «إلا» الاستثنائية هنا؟ وأين المستثنى منه؟
ونقول إن «إلا» هنا ليست أداة استثناء، وإنما هى حرف استدراك بمعنى «لكن».. ولما كان الاستثناء، يفيد فى مضمونه معنى الاستدراك والتعقيب على المستثنى منه فقد حسن استعمال «إلا» مكان «لكن» إذ كانت قرية يونس تكاد تكون استثناء بين القرى التي جاءها رسل الله، فكفرت، ولم يؤمن منها إلا هذه القرية. فأداة الاستثناء هنا تفيد استثناء
1086
واستدراكا معا.. لفظها الاستثناء، ومعناها الاستدراك.. وذلك من خصوصيات النظم القرآنى وحده! وعلى هذا فمعنى الآية الكريمة: هلا أسرعت مكة إلى الإيمان بالنبي المبعوث منها وفيها، فانتفعت بهذا الإيمان قبل غيرها، لأنها أولى به، إذ كان مطلعه فى أفقها؟ ولكن الواقع أنها لم تؤمن، فحرمت هذا الخير، وأصبحت فى معرض نقمة الله وبلائه.. هذا هو موقف هذه القرية، وذلك هو حال معظم الأقوام مع أنبيائهم.. إلا قوم يونس، فإنهم آمنوا، فنجاهم الله من العذاب الذي أوشك أن يحل بهم، ومتعهم بما كانوا فيه، إلى أن انتهت آجالهم المقدورة لهم..
- وفى قوله تعالى: «لَمَّا آمَنُوا» إشارة إلى أن قوم يونس لم يبادروا بالاستجابة لرسولهم، بل كان منهم تلكؤ وتعلل، ولكنهم آمنوا آخر الأمر، فتداركهم الله برحمته، وشملهم بعفوه.
وانظر فى «لمّا» هذه، واستمع إلى ما يقع لأذنك من نغمها الممتد المتماوج، وما فيه من رعشة واهتزاز، تجد أنها تحكى فى دقة وروعة تلبّث القوم، وتلكاهم واضطراب خطوهم، قبل أن يؤمنوا، ويستقيموا على طريق الحق! وانظر مرة أخرى فى هذا الذي لمحته من الحرف «لمّا» وما طلع عليك به من إشارات مضيئة، كشفت لك عن حال تلك القرية، قرية يونس، وما كان من توقفها، وتلكئها، ثم استجابتها لرسولها، والإيمان بربها، والانتفاع بهذا الإيمان- تجد وجها آخر من وجوه الإعجاز القرآنى، فيما يجىء به من أنباء الغيب، وأن قريشا ستأخذ مأخذ قوم يونس، وأنهم إذ يقفون من النبي هذا الموقف العنيد العنيف، ستكون خاتمة أمرهم، الإيمان بالله، والانتفاع بهذا
1087
الإيمان، كما كان الشأن فى قوم يونس.. وقد كان! فآمنت قريش، وانتفعت بإيمانها وانتفع الإسلام بهذا الإيمان.
قوله تعالى: «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ».
وإذا كان قوم يونس قد آمنوا، وإذا كانت قريش ستدخل فى الإيمان.. فإن ذلك كله رهن بمشيئة الله.. فما آمن مؤمن إلا كان إيمانه عن مشيئة الله، وقدره المقدور له..
وإذن فهؤلاء الذين سبقوا إلى الإيمان من أهل مكة، هم ممن شاء الله لهم الإيمان، وأراد لهم الخير.. وهؤلاء الذين لا يزالون على كفرهم وضلالهم، هم ممن لم تدركهم رحمة الله بعد، وهذا منادى الحق يناديهم إلى الله، ويدعوهم إلى ظلال رحمته.. فليستجيبوا لله، وليسعوا إلى هذا الخير، وليأخذوا بحظهم منه، فقد يكونون ممن شاء الله لهم الإيمان، فتلقاهم مشيئته، وهم على الطريق إليه..
إنه مطلوب من كل إنسان أن يسعى، وأن يطلب الرزق من مظانّه..
والإيمان بالله هو أعظم الرزق وأطيبه- فإذا كان ممن أراد الله لهم الخير، أخذ حظه منه، وإلا فقد سعى سعيه، ولكن إرادة الله هى الغالبة، ومشئته هى النافذة.. «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً» ولأصبح الناس كلهم على طريق مستقيم.. ولكن لله حكمة، فى أن فرق بين الناس، فكان منهم الصالح، والطالح، والمستقيم، والمنحرف، والمؤمن، والكافر، «وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ.. وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ» (١١٩: هود).
- وفى قوله تعالى: «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» - عزاء للنبى الكريم. ومواساة له عن مصابه فى قومه الذين أبوا أن يستجيبوا له، وأن يتقبلوا الخير الذي جاءهم به..
1088
إنه لا إكراه فى الدين، وذلك لأمرين:
الأمر الأول: أن الدّين عقيدة، والعقيدة إيمان بالمعتقد فيه، والإيمان بالشيء لا يكون حتى يرضاه العقل، وتميل إليه النفس، ويطمئن له القلب..
وليس فى شىء من هذا مكان للإكراه، بل إن الإكراه هو الآفة التي تحجب القلب عن الإيمان، وتغتال الإيمان إذا هو وجد طريقا إلى القلب.
والأمر الثاني: أن القلوب وهى مستودع الإيمان، هى يد الله سبحانه وتعالى، إن شاء ساق إليها الإيمان، وهيأها لاستقباله، ونفعها به، فأزهر فيها وأثمر، وإن شاء صرفها عن الإيمان، وختم عليها، فلم تقبله، ولم تنتفع به.. «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً»..
وعلى هذا، فإنه غير مطلوب من الرسول أن يكره أحدا على الإيمان بالله.. لأنه لن يؤمن مؤمن إلا عن مشيئة الله وإرادته.. ثم لأن الإيمان عن إكراه هو زرع فى أرض مجدبة، لا تنبت زرعا ولا تطلع ثمرا.! «فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ» (٤٠: الرعد).
قوله تعالى: «وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ» هو تعليل للإنكار الذي تضمنه الاستفهام فى الآية السابقة: «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ».. ذلك أنه إذا كان الإيمان رهنا بمشيئة الله، فليس يجدى بحال أبدا هذا الحرص الشديد، الذي يبدو من النبىّ، وهو يدعو أهله وقومه إلى الإيمان بالله، وإن المطلوب منه هو أن يرفع مصباح الهدى للناس، وأن يكشف لهم به الطريق إلى الله.. فمن كان ممن أراد الله لهم الهداية اهتدى، ومن كان ممن أصلّهم الله، فلا هادى له.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ».
- وفى قوله تعالى: «وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ».
1089
الرجس: القذر، والنّجس..
ووضع الرجس فى مقابل الإيمان، إشارة إلى أن الإيمان طهر، وتزكية، وتطييب للمؤمن.. على خلاف الكفر، فإنه قذر، ونجس، ورجس، يلبس صاحبه، ويشتمل عليه، كما يلبس الجلد الجسد ويحتويه! وفى وضع الذين «لا يعقلون»، بدل الذين «لا يؤمنون» كما يقضى بذلك السياق- إشارة أخرى إلى أن الكفر هو وليد الجهل والحمق، وعدم استعمال العقل وتوجيهه إلى تعقّل الآيات المبثوثة فى هذا الكون، الذي تتجلّى فى آفاقه آيات الخالق، المبدع، وقدرة الحكيم العليم، الخالق، المصوّر.
ولهذا جاء قوله تعالى بعد ذلك:
«قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» جاء داعيا إلى توجيه العقل إلى النظر فى ملكوت السموات والأرض، وقراءة ما سطرته يد القدرة على هذا الوجود من آيات ناطقة، تحدّث عن الخالق العظيم، وتسبّح بحمده، فى ولاء، وانقياد وخشوع! - وفى قوله تعالى: «وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» - توكيد لما قررته الآيات السابقة، من أنه لا تؤمن نفس إلا بإذن الله.. وأن النظر فى ملكوت السموات والأرض، وإن كان مطلوبا من كل عاقل أن ينظر فى هذا الملكوت، وأن يطيل النظر فيه دارسا متفحصا، باحثا عن دلائل وجود الله، وما له فى هذا الملكوت من إبداع، وما له عليه من سلطان- هذا النظر لن يصل بصاحبه إلى الإيمان، ولن يفتح قلبه له، إلا إذا كان هذا الناظر ممن أراد الله لهم أن يكونوا مؤمنين.. أما الذين قدّر الله عليهم ألا يؤمنوا، فلن يؤمنوا، أبدا، ولو نطقت أمامهم الآيات، وأسمعتهم ما أودع الخالق فيها من بديع صنعه، ورائع حكمته وقدرته.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ
1090
كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ»
(٦: البقرة).
وهذه هى قضية القضاء والقدر.. وقد وعدنا أن نعرض لها، وسنعرض لها إن شاء الله فى سورة الكهف.
قوله تعالى: «فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ» هو تهديد لهؤلاء الكافرين، ووعيد لهم، بما ينتظرهم من بلاء وعذاب، وإنه كما أخذ الذين كفروا من قبلهم بالهلاك، سيؤخذون هم به.. فلينتظروا فلينظروا، وليستقبلوا ما يطلع عليهم من وراء هذا الانتظار، من نقم الله، وما تحمل إليهم من مهلكات. وما تسوق إليهم من بلاء ونكال..
قوله تعالى: «ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ»..
هو تبشير للمؤمنين، وتطمين لهم من أن يصيبهم شىء من هذا المكروه الذي سيحّل بالكافرين.. فالمؤمنون بمنجاة من هذا المكروه.. إنهم مع رسل الله، وإن الله سبحانه وتعالى لن يتخلّى عن رسله، ولن يريهم منه إلا ما يسرّهم من الأمن والعافية، والدرجات العليا عنده.. وكذلك المؤمنون الذين اتّبعوا الرسل.. إنهم معهم حيث يكونون.. فالمرء مع من أحبّ.. وفى هذا خزى للكافرين، إذ حرموا من أن ينالوا شيئا من هذا الذي ينعم فيه المؤمنون مع رسل الله.. من نصر الله وتأييده..
- وفى قوله تعالى: «كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ» إشارة إلى أن هذا الوعد الذي وعده الله رسله والمؤمنين، هو وعد حقّ لا شكّ فيه، قد أوجبه الله على نفسه، فضلا وكرما، كما يقول سبحانه وتعالى: َ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ»
.. وكما يقول سبحانه: «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ». (٢١: المجادلة)
1091
وفى جزم الفعل «ننج» ما يكشف عن مزيد من فضل الله وكرمه وإحسانه إلى عباده المؤمنين.. ففى مجىء الفعل «ننج» مجزوما، ولا جازم له، يفتح الطريق إلى تقدير فعل أمر، ليقع هذا الفعل تحت سلطان الأمر من الله سبحانه وتعالى.. وهو أمر من الله سبحانه، إلى الله سبحانه!! والتقدير: كذلك حقّا علينا إنجاء المؤمنين.. فلننجهم إذن!! فسبحانه من ربّ كريم، يفيض على المؤمنين من عباده ما لا يفيض الأب البرّ الرحيم على صغاره، من حدبه، وعطفه، وتبسطه معهم، وتدليله لهم.!
الآيات: (١٠٤- ١٠٧) [سورة يونس (١٠) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٧]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧)
التفسير:
قوله تعالى: «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ».
1092
المراد بالنّاس هنا هم المشركون، الذين لم يستجيبوا للرسول، وأمسكوا بما هم عليه من شرك وضلال.. وجواب الشرط هنا جاء على غير ما يقتضيه السياق..
فالشرط وهو قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي» مطلوبه أن يكون الجواب على هذا النحو.. فلا تدخلوا فى هذا الدين.. أو: فأنتم وشأنكم..
ولكن الجواب الذي جاء به القرآن الكريم، هو الجواب الذي لا يجىء إلّا من الحكيم العليم.. رب العالمين.. هكذا: «فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ».. وفى هذا الجواب تنكشف أمور:
فأولا: أن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- متمسّك بهذا الدين، الذي يشكّ فيه هؤلاء الشاكّون، وأن شكوكهم لا تثير فى نفسه أىّ ريب فى هذا الحق الذي بين يديه.. وفى هذا ما ينبىء عن ثقة النبىّ، ويقينه، بهذا الدّين الذي يؤمن به، ويدعو إليه.
وثانيا: أن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- لن يتحول عن هذا الدّين، إلى الدّين الذي عليه هؤلاء المشركون، ولن يعبد تلك الآلهة التي يعبدونها من دون الله..
وثالثا: أن هذه الآلهة التي يعبدونها هى الضلال.. ولا يعبدها إلّا الضالّون، ولا يمسك بها إلّا المبطلون.. وأن آلهتهم تلك لا تملك لهم ضرّا، وأنهم لو تركوها، ونفضوا أيديهم منها، فلن تضرّهم شيئا.. أما الله سبحانه وتعالى، الذي يعبده «محمد» ويدعو إلى عبادته، فهو الذي يملك الضّرّ لهم.. إنه هو الذي يتوفّاهم، ويتولىّ حسابهم وجزاءهم على ما كان منهم من كفر وضلال.
رابعا: أنه- صلوات الله وسلامه عليه- متّبع لما أمر به، وهو أن يكون
1093
من المؤمنين.. فهو من المؤمنين، لأنه مؤمن بهذا الدّين الذي أمر أن يدين به، وهم غير مؤمنين، لأنهم لا يدينون بدين الله..
قوله تعالى: «وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ».
«الواو» هنا فى قوله تعالى: «وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ» هى واو العطف، على تقدير أن الخبر قبلها وهو قوله تعالى: «وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» هو فى معنى الأمر، أي تلقيت هذا الأمر، بأن قيل لى: كن من المؤمنين، «وأن أقم وجهك للدين حنيفا، ولا تكونن من المشركين» فجعل قول الله سبحانه وتعالى له- صلوات الله وسلامه عليه- أمرا لازما لا انفكاك له منه، وهذا أبلغ فى الدلالة على الامتثال والطاعة والولاء..
وإقامة الوجه على الأمر: فى قوله تعالى: «وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً» كناية عن الاشتغال به وحده، دون التفات إلى سواه.. ومنه قوله تعالى:
«يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ» (٩: يوسف).. وذلك أن الوجه إذ يستقيم على طريق، فإنه لا يلتفت إلى طرق أخرى.. فإقامة الوجه على الدّين: توجيه الوجه إليه كله، دون أن يخطف خطفة بصر إلى غيره..
والحنيف: هو المائل عن طريق إلى طريق.. والمستقيم على دين الله، قد مال باستقامته تلك عن كل طريق، وأخذ طريق الله طريقا..
وفى التعبير بلفظ «الحنيف» بمعنى المائل عن الضلال إلى الحق، إشارة إلى أن أكثر الطرق هى طرق الضلال، وأكثر الناس هم الضالون، القائمون على هذه الطرق.. وخروج إنسان من الناس عن هذه الطرق، وميله عن الجماعات التي تسلكها، هو أمر يحتاج إلى مكابدة وعناء، كما أنه أمر ملفت للنظر، جدير بالتنويه.. فهو أشبه بالخروج على الإجماع! - وفى قوله تعالى: «وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» تعريض بالمشركين،
1094
وتهديد لهم، إذ كانوا على أمر محظور منهىّ عنه، يتعرض مقترفه للنقمة والبلاء..
قوله تعالى: «وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ» هو تعريض أيضا بالمشركين، وتهديد لهم، وأنهم يعبدون من دون الله مالا ينفعهم ولا يضرّهم، وأنهم بهذا قد ظلموا أنفسهم، وباعوها فى سوق الضلال، بهذا النّقد الزائف، الذي لا قيمة له إذا عرض فى سوق الحق! وفى خطاب النبىّ صلوات الله وسلامه عليه بهذا النهى، تغليظ لشناعة المنهىّ عنه، وتهويل للخطر الذي يتهدد الناس منه، وأن على كل إنسان أن يوقظ وجوده كله، حتى لا يقع فى هذا المحذور أو يدنو منه.. وكفى أن يكون المنهي عنه هو الشرك بالله، وكفى أن ينبّه النبىّ الكريم إلى هذا الخطر، وهو أعلم الناس به، وأبعدهم عنه.
قوله تعالى: «وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ».
إن الذي يعبده المشركون من آلهة، هو سراب خادع، ووهم باطل.. إنها لا تملك ضرّا ولا نفعا.. وإن الذي يملك الضّرّ والنفع هو الله سبحانه وتعالى وحده، لا شريك له فى هذا الوجود، ولا فيما يجرى على هذا الوجود من أمور فإذا مسّ الإنسان ضرّ- أىّ ضر- فلا يكشف هذا الضرّ عنه إلا الله..
وإن أصاب الإنسان خير- أي خير- فهو مما أراده الله، وقدّره، وأجراه له..
لا يستطيع أحد فى هذا الوجود أن يردّه، أو ينقص منه، أو يؤخر وقته المقدور فى علم الله..
وفى توجيه الخطاب إلى النبىّ بهذا الحكم الذي قضى الله به فى عباده، ما يشعر بأن النبىّ- وهو من هو عند الله، قربا وحبّا- خاضع لهذا القضاء..
1095
فما يصيبه من خير هو من عند الله.. إنه لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا.. فكيف بمن هم ليسوا على هذه المنزلة عند الله، من قرب وحب؟
- وفى قوله تعالى: «وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» إشارة إلى أن المغفرة والرحمة من الله لعباده، هى شأنه فى خلقه.. حتى ما يقع بهم من مكروه وضرّ، هو محفوف بالمغفرة، محمول بيد الرحمة.. وحتى ما يلقى المشركون والضّالون من نقمة الله وعذابه، هو واقع تحت رحمة الله بهم ومغفرته لهم، ولولا ذلك لما تنفّسوا نفسا واحدا فى هذه الدنيا..! كما يقول سبحانه: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ» (٦١: النحل).
الآيتان: (١٠٨- ١٠٩) [سورة يونس (١٠) : الآيات ١٠٨ الى ١٠٩]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩)
التفسير:
بهاتين الآيتين تختّم السورة الكريمة، فيجىء ختامها متلاقيا مع بدئها، ويكون ما بين البدء والختام، عرضا شارحا لمضمون البدء والختام! فقد بدأت السورة هكذا: «الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ».. وفى هذا البدء إعلان عن هذا الكتاب الحكيم الذي بعث به النبىّ الكريم إلى الناس، يدعوهم إلى الإيمان بالله، وينذرهم بعقابه، ويبشرهم برحمته ورضوانه، فعجبوا أن يكون ذلك الكتاب السماوىّ فى يد رجل منهم، وقال الكافرون تلك القولة المنكرة: «إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ».
1096
ثم تأخذ السورة بعد ذلك فى عرض قدرة الله، وما أبدع وصوّر فى هذا الوجود، وفيما يقع لنظر الناظرين فيه من دلائل وجود الله، وعلمه، وحكمته..
فأخذ بعض الناس بحظهم من النظر السّليم فآمنوا، وزاغت أبصار كثير منهم، فكفروا.. ثم تعرض السورة بعضا من مشاهد القيامة، وما يلقى الكافرون المكذّبون من بلاء وعذاب، وما ينال المؤمنون من نعيم ورضوان.. ثم تعود فتنقل النّاس من مشاهد القيامة إلى هذه الدنيا التي هم فيها، وتعرض لأبصارهم ما أخذ الله به الظالمين، من القرون الماضية، من بأسه ونقمته، على حين عافى المؤمنين من هذا البأس وتلك النقمة، وأولاهم عزّا ونصرا..
ثم تختتم السورة بهاتين الآيتين، بهذا الإعلان العامّ، الذي بدأت به، فتصل منه ما انقطع: «قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم» وهو هذا الكتاب الحكيم، الذي جاءكم من ربكم: «فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه» إذ ارتاد الخير لها، وغرس فى مغارس الخير، وهو الذي يجنى ثمر هذا الخير، ويضمه إلى يده، لا يناله غيره.. «ومن ضلّ فإنما يضلّ عليها»، إذ عمى عن طريق الحق، وركب مركب الضلال، فإذا ورد موارد الهلاك، فلا يلومنّ إلا نفسه.. «وما أنا عليكم بوكيل».. إذ ليس الرسول وكيلا عنهم، يعمل لهم، كما يعمل الوكيل لمن وكله عنه.. فليس أحد مغنيا عن أحد، ولا أحد موكّلا عن أحد، بل هى المسئولية الذاتية، يحملها كل إنسان عن نفسه..
إذ كان للإنسان وجوده، وكانت له ذاتيته وشخصيته، وبهذا فلا يصح أن يضع إنسان نفسه تحت وصاية أحد، أو يعفى نفسه من العمل، بإقامة وكيل عنه، لأن هذا الوكيل الذي يريد أن يقيمه، هو نفسه مطالب بالعمل لنفسه، وبتحصيل الخير لها.. حتى ولو كان رسول الله نفسه..
وفى هذا تكريم للإنسان، وتصحيح لوجوده، وتسليم بحقه الكامل فى
1097
هذا الوجود، وأن عليه أن ينظر إلى نفسه وحده، وأن يأخذ لها بحظها من سعيه وعمله.. إنه إنسان رشيد عاقل، فكيف يقبل هو، أو يقبل منه أن يحلّ نفسه من إنسانيته، وعقله، ورشده، ليكون طفلا قاصرا، يفكّر له غيره، ويعمل له سواه؟ ذلك حساب مغلوط لا يقبل منه أبدا، ولو قبله هو على نفسه..!
- وفى قوله تعالى: «وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ»، وفى تعدية اسم المفعول:
«وكيل» الذي هو بمعنى موكّل بحرف الاستعلاء «على» بدلا من حرف المجاوزة «عن» - فى هذا ما يشعر بأن النبي الكريم- وهو من هوّ فى مقامه الرفيع فوق الناس جميعا- ليس له أن يكون وكيلا عن أحد من الناس، وإنما كل إنسان له وعليه مسؤليته الكاملة، يحملها وحده..
وهذا- كما قلنا- تشريف للإنسان، وتكريم له.. وأن كل إنسان جدير به أن يأخذ مكانه فى الناس، وأن يعمل ما وسعه العمل، ليبلغ المكان الذي يستطيعه بعمله واجتهاده.. فالطريق أمامه مفتوح، لا يقف فى سبيله أحد!..
قوله تعالى: «وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ».. فذلك هو الرسول الإنسان.. إنه يحمل مسئوليته كاملة..
فيتّبع ما يوحى إليه من ربه، ويستقيم عليه.. إن ذلك هو ميدانه الذي يعمل فيه، ويدعو الناس إلى العمل فيه معه.. فمن استجاب له، قبله، وضمّه إليه، ومن أبى فما على الرسول إلا البلاغ، وليصبر الرسول حتى يحكم الله بما قضى به فى عباده، وهو خير الحاكمين.. لا يحكم إلا بالعدل، ولا يقضى إلا بالحقّ، فيجزى المحسنين بإحسانهم، ويأخذ المذنبين بذنوبهم، إن شاء، أو يعفو عنهم..!
1098
Icon