تفسير سورة يونس

زاد المسير
تفسير سورة سورة يونس من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
سورة يونس

فصل في نزولها


روى عطية، وابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكية، وبه قال الحسن، وعكرمة. وروى أبو صالح عن ابن عباس أن فيها من المدني قوله :﴿ وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ ﴾ [ يونس : ٤٠ ]. وفي رواية عن ابن عباس : فيها ثلاث آيات من المدني، أولها قوله :﴿ فَإِن كُنتَ فِي شَكّ ﴾ [ يونس : ٩٤ ] إلى رأس ثلاث آيات، وبه قال قتادة. وقال مقاتل : هي مكية، غير آيتين، قوله :﴿ فَإِن كُنتَ فِي شَكّ ﴾ والتي تليها. [ يونس : ٩٤، ٩٥ ]. وقال بعضهم : هي مكية إلا آيتين، وهي قوله :﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ ﴾ والتي تليها [ يونس : ٥٨، ٥٩ ].

سورة يونس
فصل في نزولها: روى عطيّة، وابن أبي طلحة عن ابن عباس أنها مكيّة، وبه قال الحسن، وعكرمة. وروى أبو صالح عن ابن عباس أن فيها من المدني قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ «١» الآية. وفي رواية عن ابن عباس: فيها ثلاث آيات من المدنيّ، أوّلها قوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ «٢» إلى رأس ثلاث آيات، وبه قال قتادة. وقال مقاتل: هي مكيّة، غير آيتين، قوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ والتي تليها. وقال بعضهم: هي مكيّة إلا آيتين، وهي قوله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ «٣» والتي تليها.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة يونس (١٠) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١)
فأمّا قوله تعالى: الر: قرأ ابن كثير: «الر» بفتح الراء، وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «الر» على الهجاء مكسورة. وقد ذكرنا في أول سورة «البقرة» ما يشتمل على بيان هذا الجنس. وقد خُصَّت هذه الكلمة بستة أقوال «٤» : أحدها: أن معناها: أنا الله أرى، رواه الضحاك عن ابن عباس «٥». والثاني: أنا الله الرحمن، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث: أنه بعض اسم من أسماء الله. روى عكرمة عن ابن عباس قال: «آلر» و «حم» و «نون» حروف الرحمن. والرابع: أنه قَسَمٌ أقسم الله به، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والخامس: أنه اسم من أسماء القرآن، قاله مجاهد، وقتادة.
والسادس: أنه اسم للسورة، قاله ابن زيد.
وفي قوله تعالى: تِلْكَ قولان: أحدهما: أنه بمعنى «هذه»، قاله أبو صالح عن ابن عباس، واختاره أبو عبيدة. والثاني: أنه على أصله. ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنّ الإشارة إلى الكتاب المتقدمة من التوراة والإِنجيل. قاله مجاهد، وقتادة فيكون المعنى: هذه الأقاصيص التي تسمعونها، تلك
(١) سورة يونس: ٤٠.
(٢) سورة يونس: ٩٤.
(٣) سورة يونس: ٥٨.
(٤) تقدم الكلام على الأحرف المقطعة في سورة البقرة، والصحيح في ذلك أن يقال: الله أعلم بمراده.
(٥) أخرجه الطبري ١٧٥٣٣ عن الضحاك، وأخرجه ١٧٥٣٤ عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس.
وعطاء اختلط، فالخبر واه عن ابن عباس، وحسبه أن يكون عن الضحاك.
الآيات التي وصفت في التوراة والإِنجيل. والثاني: أن الإِشارة إِلى الآيات التي جرى ذكرها، من القرآن، قاله الزجاج. والثالث: أن «تلك» إِشارة إِلى «الر» وأخواتها من حروف المعجم، أي: تلك الحروف المفتتحة بها السُّوَر هي آياتُ الْكِتابِ لأن الكتاب بها يتلى، وألفاظه إِليها ترجع، ذكره ابن الأنباري. قال أبو عبيدة: الْحَكِيمِ بمعنى المحكَم المبيَّن الموضَّح. والعرب قد تضع فعيلاً في معنى مُفْعَل قال الله تعالى: ما لَدَيَّ عَتِيدٌ «١» أي: معدّ.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٢ الى ٣]
أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣)
قوله تعالى: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً: سبب نزولها: أنّ الله تعالى لمّا بعث محمّدا ﷺ أنكرت الكفار ذلك، وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً مثل محمد. فنزلت هذه الآية «٢». والمراد بالناس هاهنا: أهل مكة، والمراد بالرّجل: محمّد صلى الله عليه وسلم. ومعنى (منهم) : يعرفون نسبه، قاله ابن عباس.
فأما الألِف فهي للتوبيخ والإِنكار. قال ابن الأنباري: والاحتجاج عليهم في كونهم عجبوا من إِرسال محمد، محذوف هاهنا، وهو مبيَّن في قوله: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ «٣» أي: فكما وضح لكم هذا التفاضل بالمشاهدة فلا تنكروا تفضيل الله مَنْ شاء بالنبوة. وإنما حذفه هاهنا اعتماداً على ما بيَّنه في موضع آخر. قال: وقيل: إِنما عجبوا من ذكر البعث والنشور لأن الإِنذار والتبشير يتصلان بهما، فكان جوابهم في مواضع كثيرة يدل على كون ذلك مثل قوله: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ «٤»، وقوله: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ «٥».
وفي المراد بقوله: قَدَمَ صِدْقٍ سبعة أقوال: أحدها: أنه الثواب الحسن بما قدَّموا من أعمالهم.
رواه العوفي عن ابن عباس، وروى عنه أبو صالح قال: عمل صالح يَقْدمون عليه. والثاني: أنه ما سبق لهم من السعادة في الذِّكر الأول، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. قال أبو عبيدة: سابقة صدق.
والثالث: شفيع صدق، وهو محمد ﷺ يشفع لهم يوم القيامة. قاله الحسن. والرابع: سَلَفُ صدق تقدّموهم بالإِيمان، قاله مجاهد، وقتادة. والخامس: مقام صدق لا زوال عنه، قاله عطاء. والسادس:
أن قدم الصِّدق: المنزلة الرفيعة. قاله الزجاج. والسابع: أن القدم هاهنا: مصيبة المسلمين بنبيّهم ﷺ وما يلحقهم من ثواب الله عند أسفهم على فقده ومحبتهم لمشاهدته «٦»، ذكره ابن الأنباري.
(١) سورة ق: ٢٣.
(٢) ضعيف جدا. أخرجه الطبري ١٧٥٤٢ عن طريق بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس.
وإسناده ضعيف جدا، بشر ضعيف، والضحاك لم يلق ابن عباس.
وذكره الواحدي في «أسباب النزول» رقم ٥٣٤ عن ابن عباس بدون إسناد.
(٣) سورة الزخرف: ٣٢.
(٤) سورة الروم: ٢٧. [.....]
(٥) سورة يس: ٧٩.
(٦) قال الطبري رحمه الله ٦/ ٥٢٩، وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: معناه أن لهم أعمالا صالحة عند الله يستوجبون بها منة الثواب.
فإن قيل: لِم آثر القَدَم هاهنا على اليد، والعرب تستعمل اليد في موضع الإِحسان؟
فالجواب: أن القدم ذكرت هاهنا للتقدم، لأن العادة جارية بتقدُّم الساعي على قدميه، والعرب تجعلها كناية عن العمل الذي يُتقدَّم فيه ولا يقع فيه تأخُّر، قال ذو الرمة:
لكم قَدَمٌ لا يُنْكِرُ النَّاسُ أَنَّها مع الحَسَب العادِيّ طَمَّتْ على البحر «١»
فإن قيل: ما وجه إِضافة القدم إِلى الصدق؟
فالجواب: أن ذلك مدح للقدم، وكل شيء أضفته إِلى الصدق، فقد مدحته ومثله: أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ «٢» وقوله: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ «٣».
وفي الكلام محذوف تقديره: أن أوحينا إِلى رجل منهم، فلما أتاهم الوحي قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ قرأ ابن كثير، وعاصم، وحمزة، والكسائي: «لَساحر» بألف. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «لَسحر» بغير ألف «٤». قال أبو علي: قد تقدّم قوله تعالى: أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ فمن قال: «ساحر»، أراد الرجل، ومن قال: «سحر» أراد الذي أوحي سحر، أي: الذين تقولون أنتم فيه: إِنه وحي: سحر. قال الزجاج: لما أنذرهم بالبعث والنشور، فقالوا: هذا سحر، أخبرهم أنّ الذي خلق السماوات والأرض قادر على بعثهم بقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ وقد سبق تفسيره في سورة الأعراف «٥».
قوله تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ قال مجاهد: يقضيه. وقال غيره: يأمر به ويمضيه.
قوله تعالى: ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ فيه قولان:
أحدهما: لا يشفع أحد إِلا أن يأذن له، قاله ابن عباس. قال الزجاج: لم يَجْرِ للشفيع ذِكر قبل هذا، ولكنَّ الذين خوطبوا كانوا يقولون: الأصنام شفعاؤنا. والثاني: أن المعنى: لا ثانيَ معه، مأخوذ من الشَّفْع «٦»، لأنه لم يكن معه أحد، ثم خلق الأشياء. فقوله تعالى: إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ أي: من بعد أمره أن يكون الخلق فكان. ذكره الماوردي.
قوله تعالى: فَاعْبُدُوهُ: قال مقاتل: وحِّدوه. وقال الزّجّاج: المعنى: فاعبدوه وحده.
وقوله تعالى: تَذَكَّرُونَ معناه: تتّعظون.
[سورة يونس (١٠) : آية ٤]
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤)
(١) في «القاموس» طمّ الماء طمّا وطموما: غمر الإناء وملأه، والشيء كثر حتى علا وغلب.
(٢) سورة الإسراء: ٨٠.
(٣) سورة القمر: ٥٥.
(٤) قال الطبري رحمه الله ٦/ ٥٢٩: اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ بمعنى: إن هذا الذي جئتنا به- يعنون القرآن- لسحر مبين، وقرأ مسروق وسعيد بن جبير وجماعة من قراء الكوفيين إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ.
(٥) الآية: ٥٤.
(٦) في «القاموس» الشفع: خلاف الوتر، وهو الزوج، وقد شفعه كمنعه.
قوله تعالى: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ أي: مصيركم يوم القيامة. وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا قال الزجاج: «وَعْدَ الله» منصوب على معنى: وعدكم الله وعداً، لأن قوله: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ معناه: الوعد بالرجوع، و «حقاً» منصوب على: أحقّ ذلك حقّا. قوله تعالى: إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ قرأه الأكثرون بكسر الألف.
وقرأت عائشة، وأبو رزين، وعكرمة، وأبو العالية، والأعمش «أنه» بفتحها. قال الزجاج: من كسر، فعلى الاستئناف، ومن فتح، فالمعنى: إِليه مرجعكم، لأنه يبدأ الخلق. قال مقاتل: يبدأ الخلق ولم يكن شيئا، ثم يعيده بعد الموت. فأمّا «القسط» فهو العدل.
فإن قيل: كيف خصَّ جزاء المؤمنين بالعدل، وهو في جزاء الكافرين عادل أيضاً؟
فالجواب: أنه لو جمع الفريقين في القسط، لم يتبيَّن في حال اجتماعهما ما يقع بالكافرين من العذاب الأليم والشرب من الحميم، ففصلهم من المؤمنين ليبيِّن ما يجزيهم به مما هو عدل أيضاً. ذكره ابن الأنباري.
فأما الحميم: فهو الماء الحارُّ، وقال أبو عبيدة: كل حار فهو حميم.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٥ الى ١٠]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩)
دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠)
قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً قرأ الأكثرون: «ضياءً» بهمزة واحدة، وقرأ ابن كثير:
«ضئاءً» بهمزتين في كل القرآن، أي: ذات ضياء. وَالْقَمَرَ نُوراً أي: ذا نور. وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ أي:
قدَّر له، فحذف الجار، والمعنى: هيَّأ ويسَّر له منازل. قال الزجاج: الهاء ترجع إِلى «القمر» : لأنه المقدّر لعلم السنين والحساب. وقد يجوز أن يعود إِلى الشمس والقمر، فحذف أحدهما اختصاراً.
وقال الفراء: إن شئتَ جعلت تقدير المنازل للقمر خاصة، لأن به تُعلمَ الشهور، وإن شئت جعلت التقدير لهما، فاكتفي بذكر أحدهما من صاحبه، كقوله تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «١». قال ابن قتيبة: منازل القمر ثمانية وعشرون منزلاً من أول الشهر إلى ثماني وعشرين ليلة، ثم يستسرُّ. وهذه المنازل، هي النجوم التي كانت العرب تنسب إِليها الأنواء، وأسماؤها عندهم: الشِّرََطان، والبُطَيْن، والثُّرَيَّا، والدَّبَرَان، والهَقْعة، والهَنْعة، والذِّراع، والنَّثْرة، والطَّرْفُ، والجبهة، والزُّبْرة، والصَّرْفة، والعَوَّاء، والسِّماك، والغَفْر، والزُّبَانَى، والإِكليل، والقلب، والشَّوْلَة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذَّابح، وسعد بُلَعْ، وسعد السُّعود، وسعد الأخبية، وفَرْغ الدَّلو المقدَّم، وفرغ الدلو المؤخّر، والرّشاء وهو الحوت.
(١) سورة التوبة: ٦٢.
317
قوله تعالى: ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ أي: للحق، من إِظهار صنعه وقدرته والدليل على وحدانيته. يُفَصِّلُ الْآياتِ: قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم: «يفصِّل» بالياء. وقرأ نافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي وأبو بكر عن عاصم: «نفصِّل الآيات» بالنون، والمعنى: نُبَيِّنُها.
لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ: يستدلُّون بالأمارات على قدرته.
قوله تعالى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ فيه قولان: أحدهما: يتقون الشرك. والثاني: عقوبةَ الله تعالى. فيكون المعنى: إِن الآيات لمن لم يحمله هواه على خلاف ما وضح له من الحق.
قوله تعالى: لا يَرْجُونَ لِقاءَنا قال ابن عباس: لا يخافون البعث. وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا:
اختاروا ما فيها على الآخرة وَاطْمَأَنُّوا بِها: آثروها. وقال غيره: ركنوا إِليها، لأنهم لا يؤمنون بالآخرة وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ فيها قولان: أحدهما: أنها آيات القرآن ومحمّد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس.
والثاني: ما ذكره في أول السورة من صنعه، قاله مقاتل. فأما قوله تعالى: غافِلُونَ فقال ابن عباس:
مكذِّبون. وقال غيره: مُعْرِضون. قال ابن زيد: وهؤلاء هم الكفار.
قوله تعالى: بِما كانُوا يَكْسِبُونَ قال مقاتل: من الكفر والتكذيب.
قوله تعالى: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ فيه أربعة أقوال: أحدها: يهديهم إِلى الجنة ثواباً بإيمانهم.
والثاني: يجعل لهم نوراً يمشون به بإيمانهم. والثالث: يزيدهم هدى بإيمانهم. والرابع: يثيبهم بإيمانهم، فأما الهداية فقد سبقت لهم.
قوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ أي: تجري بين أيديهم وهم يرونها من علو.
قوله تعالى: دَعْواهُمْ فِيها أي: دعاؤهم. وقد شرحنا ذلك في أول الأعراف «١». وفي المراد بهذا الدعاء قولان: أحدهما: أنه استدعاؤهم ما يشتهون. قال ابن عباس: كلما اشتهى أهل الجنة شيئاً، قالوا: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ فيأتيهم ما يشتهون، فاذا طعموا، قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فذلك آخر دعواهم. وقال ابن جريج: إِذا مرَّ بهم الطير يشتهونه قالوا: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ فيأتيهم المَلَكُ بما اشتَهَوْا، فيسلِّم عليهم فيردُّون عليه: فذلك قوله: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ. فإذا أكلوا حمِدوا ربهم فذلك قوله:
وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. والثاني: أنهم إِذا أرادوا الرغبة إِلى الله تعالى في دعاءٍ يدعونه به قالوا: (سبحانك اللهم)، قاله قتادة.
قوله تعالى: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تحية بعضهم لبعض وتحيَّة الملائكة لهم، قاله ابن عباس. والثاني: أن الله تعالى يُحَيِّيهم بالسلام. والثالث: أن التحية: المُلْك، فالمعنى: مُلكهم فيها سالم، ذكرهما الماوردي.
قوله تعالى: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أي: دعاؤهم. وقولهم: أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قرأ أبو مجلز، وعكرمة، ومجاهد، وابن يعمر، وقتادة، ويعقوب: «أنَّ الحمدَ لله» بتشديد النون ونصب الدال. قال الزجاج: أعلم الله أنهم يبتدئون بتعظيم الله وتنزيهه، ويختمون بشكره والثناء عليه. وقال ابن كيسان: يفتتحون كلامهم بالتوحيد، ويختمونه بالتّوحيد «٢».
(١) في الأعراف: ٥.
(٢) قال القرطبي رحمه الله في «الجامع لأحكام القرآن» ٨/ ٢٨٥: يستحب للداعي أن يقول في آخر دعائه كما قال أهل الجنة: وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين. وحسن أن يقرأ آخر «الصافات» فإنها جمعت تنزيه الباري تعالى عما نسب إليه والتسليم على المرسلين، والختم بالحمد لله رب العالمين.
318

[سورة يونس (١٠) : آية ١١]

وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١)
قوله تعالى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ: ذكر بعضهم أنها نزلت في النضر بن الحارث حيث قال: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ «١» والتعجيل: تقديم الشيء قبل وقته. وفي المراد بالآية قولان: أحدهما: ولو يعجِّل الله للنَّاسِ الشرَّ إذا دَعَواْ على أنفسهم عند الغضب وعلى أهليهم، واستعجلوا به، كما يعجِّل لهم الخير، لهلكوا. هذا قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. والثاني: ولو يعجل الله للكافرين العذاب على كفرهم كما عجَّل لهم خير الدنيا من المال والولد، لعُجِّل لهم قضاء آجالهم ليتعجَّلوا عذاب الآخرة. حكاه الماوردي. ويقوِّي هذا تمامُ الآية وسببُ نزولها. وقد قرأ الجمهور: «لقُضيَ إِليهم» بضم القاف «أجلُهم» بضم اللام. وقرأ ابن عامر: «لقَضَى» بفتح القاف «أجلَهم» بنصب اللام. وقد ذكرنا في أول سورة البقرة «٢» معنى الطّغيان والعمه.
[سورة يونس (١٠) : آية ١٢]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢)
قوله تعالى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ: اختلفوا فيمن نزلت على قولين: أحدهما: أنها نزلت في أبي حذيفة، واسمه هاشم بن المغيرة بن عبد الله المخزومي. قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: أنها نزلت في عتبة بن ربيعة، والوليد بن المغيرة. قاله عطاء.
والضُّرُّ: الجهد والشّدة. واللام في قوله: لِجَنْبِهِ بمعنى «على».
وفي معنى الآية قولان: أحدهما: إِذا مسه الضر دعا على جنبه، أو دعا قاعداً، أو دعا قائماً، قاله ابن عباس. والثاني: إِذا مسه الضر في هذه الأحوال، دعا، ذكره الماوردي «٣».
قوله تعالى: فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أعرض عن ادّعاء، قاله مقاتل.
والثاني: مَرَّ في العافية على ما كان عليه قبل أن يُبتلى، ولم يتَّعظ بما يناله، قاله الزجاج. والثالث: مَرَّ طاغياً على ترك الشكر. قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا قال الزجاج: «كأن» هذه مخففة من الثقيلة، المعنى: كأنه لم يدعنا، قالت الخنساء:
كَأَنْ لم يكونوا حِمىً يُتَّقَى إِذْ النَّاسُ إِذ ذَاكَ مَن عَزّ بَزَّا «٤»
قوله تعالى: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ المعنى: كما زُيّن لهذا الكافر الدعاء عند البلاء والإِعراض عند الرَّخاء، كذلك زُيّن للمسرفين، وهم المجاوزون الحدَّ في الكفر والمعصية، عملهم.
(١) سورة الأنفال: ٣٢.
(٢) سورة البقرة: ١٥.
(٣) انظر «تفسير الماوردي» ٢/ ٤٢٦. [.....]
(٤) في «اللسان» البز: السلب، ومنه قولهم في المثل: من عزّ بزّ، معناه: من غلب سلب.

[سورة يونس (١٠) : آية ١٣]

وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣)
قوله تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ: قال مقاتل: هذا تخويف لكفار مكة. والظلم هاهنا بمعنى الشرك. وفي قوله: وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا: قولان: أحدهما: أنه عائد على أهل مكة، قاله مقاتل. والثاني: على القرون المتقدمة، قاله أبو سليمان. قال ابن الأنباري: ألزمهم الله ترك الإِيمان لمعاندتهم الحق وإِيثارهم الباطل. وقال الزجاج: جائز أن يكون جعل جزاءهم الطبع على قلوبهم، وجائز أن يكون أعلم ما قد علم منهم. قوله تعالى: كَذلِكَ نَجْزِي أي: نعاقب ونهلك، الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ: يعني المشركين من قومك.
[سورة يونس (١٠) : آية ١٤]
ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤)
قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ: قال ابن عباس: جعلناكم يا أُمة محمد خلائف، أي:
استخلفناكم في الأرض. وقال قتادة: ما جَعَلَنا اللهُ خلائفَ إِلا لينظر إِلى أعمالنا، فأرُوا الله من أعمالكم خيرا بالليل والنّهار.
[سورة يونس (١٠) : آية ١٥]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥)
قوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا: اختلفوا فيمن نزلت على قولين:
أحدهما: أنها نزلت في المستهزئين بالقرآن من أهل مكة، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أنها نزلت في مشركي مكة، قاله مجاهد، وقتادة.
والمراد «بالآيات» : القرآن. و «يرجون» بمعنى: يخافون. وفي علَّة طلبهم سوى هذا القرآن أو تبديله قولان: أحدهما: أنهم أرادوا تغيير آية العذاب بالرحمة، وآية الرحمة بالعذاب، قاله ابن عباس.
والثاني: أنهم كرهوا منه ذكر البعث والنشور، لأنهم لا يؤمنون به، وكرهوا عيب آلهتهم، فطلبوا ما يخلو من ذلك، قاله الزجاج. والفرق بين تبديله والإِتيان بغيره، أن تبديله لا يجوز أن يكون معه، والإِتيانُ بغيره قد يجوز أن يكون معه.
قوله تعالى: ما يَكُونُ لِي حرَّك هذه الياء ابن كثير ونافع وأبو عمرو، وأسكنها الباقون. مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي حرَّكها نافع، وأبو عمرو، وأسكنها الباقون. والمعنى: من عند نفسي، فالمعنى: أن الذي أتيتُ به من عند الله لا من عندي فأبدِّله. إِنِّي أَخافُ فتح هذه الياء ابن كثير ونافع وأبو عمرو.
إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي أي: في تبديله أو تغييره، عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ يعني في القيامة.
فصل: وقد تكلم علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على ما بيّنّا في نظيرتها في الأنعام «١»،
(١) سورة الأنعام: ١٥.
ومقصود الآيتين تهديد المخالفين، وأُضيف ذلك إِلى الرّسول ليصعب الأمر فيه.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١٦ الى ١٧]
قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧)
قوله تعالى: قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ يعني القرآن. وذلك أنه كان لا يُنزله عليّ فيأمرني بتلاوته عليكم وَلا أَدْراكُمْ بِهِ أي: ولا أعلمكم الله به. قرأ ابن كثير: «وَلأَدْرَاكم» بلام التوكيد من غير ألف بعدها، يجعلها لاماً دخلت على «أدراكم». وقرأ أبو عمرو، وحمزة والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «أدريكم» بالإِمالة. وقرأ الحسن، وابن أبي عبلة، وشيبة بن نِصاح: «ولا أدرأتُكم» بتاء بين الألف والكاف «١». فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً: وقرأ الحسن، والأعمش: «عُمْراً» بسكون الميم.
قال أبو عبيدة: وفي «العمر» ثلاث لغات: عُمْر، وعُمُر، وعَمْر. قال ابن عباس: أقمت فيكم أربعين سنة لا أحدثِّكم بشيء من القرآن. أَفَلا تَعْقِلُونَ أنه ليس من قِبَلي. فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً يريد: إِني لم أفْتَرِ على الله ولم أكذب عليه، وأنتم فعلتم ذلك حيث زعمتم أنّ معه شريكا.
والمجرمون ها هنا: المشركون.
[سورة يونس (١٠) : آية ١٨]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨)
قوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ أي: لا يضرهم إِن لم يعبدوه، ولا ينفعهم إِن عبدوه. قاله مقاتل، والزجاج.
قوله تعالى: وَيَقُولُونَ- يعني المشركين- هؤُلاءِ يعنون: الأصنام. قال أبو عبيدة: خرجت كنايتها على لفظ كناية الآدميين. وقد ذكرنا هذا المعنى في سورة الأعراف عند قوله: وَهُمْ يُخْلَقُونَ «٢». وفي قوله: شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قولان:
(١) قال أبو جعفر رحمه الله: ٦/ ٥٤١. وهذه القراءة التي حكيت عن الحسن، عند أهل العربية غلط وكان الفراء يقول في ذلك: قد ذكر عن الحسن أنه قال: «ولا أدرأتكم به». قال: فإن يكن فيها لغة سوى «دريت» و «أدريت»، فلعل الحسن ذهب إليها، وأما أن تصلح من «دربت» أو «أدريت» فلا، لأن الياء والواو إذا انفتح ما قبلهما وسكنتا، صحتا ولم تنقلبا إلى ألف، مثل «قضيت ودعوت». ولعل الحسن ذهب إلى طبيعته وفصاحته فهمزها، لأنها تضارع: «درأت الحد»، وشبهه. وربما غلطت العرب في الحرف إذا ضارعه آخر من الهمز، فيهمزون غير المهموز. وسمعت امرأة من طيئ تقول: «رثأت زوجي بأبيات». ويقولون: «لبأت بالحج» و «حلأت السويق»، فيغلطون، لأن «حلأت»، قد يقال في دفع العطاش من الإبل، و «لبأت» ذهب به إلى «اللبأ» لبأ الشاء، و «رثأت زوجي»، ذهبت به إلى «رثأت اللبن»، إذا أنت حلبت الحليب على الرائب فتلك «الرثيثة». وكان بعض البصريين يقول: لا وجه لقراءة الحسن هذه، لأنها من «أدريت» مثل «أعطيت»، إلا أن لغة لبني عقيل: «أعطات» يريدون أعطيت.
(٢) سورة الأعراف: ١٩١.
أحدهما: شفعاؤنا في الآخرة، قاله أبو صالح عن ابن عباس، ومقاتل.
والثاني: شفعاؤنا في إٍِصلاح معايشنا في الدنيا، لأنهم لا يُقِرُّون بالبعث، قاله الحسن.
قوله تعالى: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ قال الضحاك: أتخبرون الله أنَّ له شريكاً، ولا يعلم الله لنفسه شريكاً في السّماوات ولا في الأرض.
[سورة يونس (١٠) : آية ١٩]
وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩)
قوله تعالى: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا قد شرحنا هذا في سورة البقرة، وأحسن الأقوال أنهم كانوا على دين واحد موحِّدين، فاختلفوا وعبدوا الأصنام، فكان أول من بعث إِليهم نوح عليه السلام.
قوله تعالى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: ولولا كلمة سبقت بتأخير هذه الأمة أنه لا يهلكهم بالعذاب كما أهلك الذين من قبلهم لقُضي بينهم بنزول العذاب، فكان ذلك فصلاً بينهم فيما فيه يختلفون من الدِّين.
والثاني: أن الكلمة: أن لكل أُمة أجلاً، وللدنيا مدة لا يتقدم ذلك على وقته.
والثالث: أن الكلمة: أنه لا يأخذ أحداً إلا بعد إِقامة الحجة عليه.
وفي قوله تعالى: لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ قولان: أحدهما: لقضي بينهم بإقامة السّاعة. والثاني: بنزول العذاب على المكذّبين.
[سورة يونس (١٠) : آية ٢٠]
وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠)
قوله تعالى: وَيَقُولُونَ- يعني المشركين- لَوْلا- أي: هلاَّ- أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ مثل العصا واليد وآيات الأنبياء. فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فيه قولان: أحدهما: أن سؤالكم: «لِمَ لم تنزل الآية» غيب، ولا يعلم علَّة امتناعها إِلا الله. والثاني: أن «نزول الآية متى يكون؟» غيب، ولا يعلمه إِلا الله. قوله تعالى: فَانْتَظِرُوا فيه قولان: أحدهما: انتظروا نزول الآية. والثاني: قضاء الله بيننا بإظهار المحقّ على المبطل.
[سورة يونس (١٠) : آية ٢١]
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١)
قوله تعالى: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً. سبب نزولها:
(٧٧٧) أنّ النبيّ ﷺ لما دعا على أهل مكة بالجدب فقحطوا سبع سنين أتاه أبو سفيان فقال: «ادع
ذكره المصنف تبعا للماوردي حيث أورده في «تفسيره» ٢/ ٤٣٠ بقوله: وقيل. ولم ينسبه لقائل، وهو باطل لا أصل له كونه سبب نزول هذه الآية، فإن السورة مكية، والخبر الذي ساقه هو في الصحيح لكن كان ذلك في
لنا بالخصب، فإن أخصبنا صدَّقناك». فدعا لهم، فسُقوا ولم يؤمنوا، ذكره الماوردي.
قال المفسرون: المراد بالناس ها هنا: الكفار. وفي المراد بالرحمة والضراء ثلاثة أقوال: أحدها:
أن الرحمة: العافية والسرور، والضراء: الفقر والبلاء، قاله ابن عباس. والثاني: الرحمة: الإِسلام، والضراء: الكفر، وهذا في حق المنافقين، قاله الحسن. والثالث: أنّ الرحمة: الخصب، والضراء:
الجدب، قاله الضحاك. وفي المراد بالمكر ها هنا أربعة أقوال: أحدها: أنه الاستهزاء والتكذيب، قاله مجاهد، ومقاتل. والثاني: أنه الجحود والرد، قاله أبو عبيدة. والثالث: أنه إِضافة النعم إِلى غير الله، فيقولون: سُقينا بنوء كذا، قاله مقاتل بن حيان. والرابع: أن المكر: النفاق، لأنه إِظهار الإِيمان وإِبطان الكفر، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً أي: جزاءً على المكر إِنَّ رُسُلَنا يعني الحفظة يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ أي: يحفظون ذلك لمجازاتكم عليه «١». وقرأ يعقوب إِلا رويساً وأبا حاتم، وأبان عن عاصم: «يمكرون» بالياء.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٢٢ الى ٢٣]
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣)
قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ أي: الله هو أسرع مكراً، هو الذي يسيِّركم فِي الْبَرِّ على الدواب، وفي البحر على السفن، فلو شاء انتقم منكم في البر أو في البحر. وقرأ ابن عامر، وأبو جعفر: «ينشركم» بالنون والشين من النشر، وهو في المعنى مثل قوله: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً.
والفلك: السفن. قال الفراء: الفلك تذكّر وتؤنث، وتكون واحدة وتكون جمعا، قال تعالى ها هنا:
جاءَتْها فأنَّثَ، وقال في يس: فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ «٢» فذكّر.
قوله تعالى: وَجَرَيْنَ بِهِمْ: عاد بعد المخاطبة لهم إِلى الإِخبار عنهم. قال الزجاج: كل من أقام الغائب مقام مَن يخاطبه جاز أن يردَّه إِلى الغائب، قال الشاعر:
المدينة. وقد تفرد الماوردي والمصنف بذكره عند هذه الآية دون سائر أهل التفسير والأثر. وسيأتي ما في الصحيح في آخر سورة الشعراء إن شاء الله تعالى.
__________
(١) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره ٢/ ٥٠٨- ٥٠٩: وقوله قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً أي: أشد استدراجا وإمهالا، حتى يظن الظانّ من المجرمين أنه ليس بمعذب، وإنما هو في مهلة، ثم يؤخذ على غرة منه، والكاتبون الكرام يكتبون عليه جميع ما يفعله، ويحصونه عليه، ثم يعرضونه على عالم الغيب والشهادة، فيجازيه على الحقير والجليل والنقير والقطمير.
(٢) سورة يس: ٤١.
شطت مزار العاشقين فأصبحت عسرا علي طلابك ابنةَ مَخْرَمِ «١»
قوله تعالى: بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ أي: ليِّنةٍ: وَفَرِحُوا بِها للينها. جاءَتْها يعني الفلك. قال الفراء:
وإِن شئتَ جعلتَها للريح، كأنك قلت: جاءت الريحَ الطيبةَ ريحٌ عاصف، والعرب تقول: عاصف وعاصفة، وقد عصفت الريح وأعصفت، والألف لغة لبني أسد. قال ابن عباس: الريح العاصف:
الشديدة. قال الزجاج: يقال: عصفت الريح، فهي عاصف وعاصفة، وأعصفت، فهي معصف ومعصفة. وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ أي: من كل أمكنة الموج.
قوله تعالى: وَظَنُّوا فيه قولان: أحدهما: أنه بمعنى اليقين. والثاني: أنه التّوهّم.
وفي قوله تعالى: أُحِيطَ بِهِمْ قولان: أحدهما: دَنوا من الهلكة. قال ابن قتيبة: وأصل هذا أن العدوَّ إِذا أحاط ببلد، فقد دنا أهله من الهلكة. وقال الزجاج: يقال لكل من وقع في بلاء: قد أحيط بفلان، أي: أحاط به البلاء. والثاني: أحاطت بهم الملائكة، ذكره الزجاج.
قوله تعالى: دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ دون أوثانهم. قال ابن عباس: تركوا الشرك، وأخلصوا لله الربوبية، وقالوا: لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ الريح العاصف لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي: الموحِّدين.
قوله تعالى: يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ البغي: الترامي في الفساد. قال الأصمعي: يقال: بغى الجرح: إِذا ترامى إِلى فساد. قال ابن عباس: يبغون في الأرض بالدعاء إِلى عبادة غير الله والعمل بالمعاصي والفساد. يا أَيُّهَا النَّاسُ يعني أهل مكة. إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أي: جناية مظالمكم بينكم على أنفسكم. وقال الزجاج: عملكم بالظلم عليكم يرجع.
قوله تعالى: مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا قرأ ابن عباس، وأبو رزين، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، وحفص، وأبان عن عاصم: «متاعَ الحياة الدنيا» بنصب المتاع. قال الزجاج: مَن رفع المتاع، فالمعنى أن ما تنالونه بهذا البغي إِنما تنتفعون به في الدنيا، ومن نصب المتاع، فعلى المصدر. فالمعنى:
تمتَّعون متاع الحياة الدنيا. وقرأ أبو المتوكل، واليزيدي في اختياره، وهارون العتكي عن عاصم: «متاع الحياة الدنيا»، بكسر العين. قال ابن عباس: مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي: منفعة في الدنيا.
[سورة يونس (١٠) : آية ٢٤]
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤)
قوله تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ هذا مثل ضربه الله للدنيا الفانية، فشبّهها بمطر نزل من السماء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ يعني التفّ النبات بالمطر وكثر. مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ من الحبوب وغيرها، وَالْأَنْعامُ من المرعى. حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها قال ابن قتيبة:
زينتها بالنبات. وأصل الزخرف: الذهب، ثم يقال للنقش والنَّوْر والزَّهر وكل شيء زيّن: زخرف. وقال
(١) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «شطط» ونسبه لعنترة.
وشطت من الشطط وهو مجاوزة القدر في بيع أو طلب أو احتكام أو غير ذلك من كل شيء.
الزجاج: الزخرف: كمال حسن الشيء.
قوله تعالى: وَازَّيَّنَتْ قرأه الجمهور «وازينت» بالتشديد. وقرأ سعد بن أبي وقاص، وأبو عبد الرحمن، والحسن، وابن يعمر: بفتح الهمزة وقطعها ساكنة الزاي، على وزن: وَأَفْعَلَتْ. قال الزجاج: من قرأ «وازَّيَّنَتْ» بالتشديد، فالمعنى: وتزينت، فأدغمت التاء في الزاي، وسكّنت الزاي فاجتلبت لها ألف الوصل ومن قرأ «وأزْينت» بالتخفيف على أفعلت، فالمعنى: جاءت بالزينة. وقرأ أُبَيٌّ، وابن مسعود: «وتزيَّنَتْ» «١».
قوله تعالى: وَظَنَّ أَهْلُها أي: أيقن أهل الأرض أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أي: على ما أنبتته، فأخبر عن الأرض، والمراد النبات، لأن المعنى مفهوم. أَتاها أَمْرُنا أي: قضاؤنا بإهلاكها فَجَعَلْناها حَصِيداً أي: محصوداً لا شيء فيها. والحصيد: المقطوع المستأصَل. كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ قال الزجاج: لم تعمر. والمغاني: المنازل التي يعمُرها الناس بالنزول فيها. يقال: غَنينا بالمكان: إِذا نزلوا به. وقرأ الحسن: «كأن لم يَغْنَ» بالياء، يعني الحصيد.
قال بعض المفسرين: تأويل الآية: أن الحياة في الدنيا سبب لاجتماع المال وما يروق من زهرة الدنيا ويعجب، حتى إِذا استتم ذلك عند صاحبه، وظن أنه ممتَّع بذلك، سلب عنه بموته، أو بحادثة تهلكه، كما أن الماء سبب لالتفاف النبات وكثرته، فإذا تزيَّنت به الأرض، وظن الناس أنهم مستمتعون بذلك، أهلكه الله، فعاد ما كان فيها كأن لم يكن.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦)
قوله تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ: يعني الجنة. وقد ذكرنا معنى تسميتها بذلك عند قوله:
لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ «٢». واعلم أن الله عمَّ بالدعوة، وخصَّ بالهداية من شاء، لأن الحكم له في خلقه. وفي المراد بالصراط المستقيم أربعة أقوال:
(٧٧٨) أحدها: كتاب الله، رواه عليّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
(٧٧٩) والثاني: الإِسلام، رواه النَّوَّاس بن سمعان عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
تقدم تخريجه في سورة الفاتحة باستيفاء، وهو خبر ضعيف.
صحيح. هو بعض حديث أخرجه الترمذي ٢٨٥٩ والنسائي في «الكبرى» ١١٢٣٣ وأحمد ٤/ ١٨٣ والطحاوي في «المشكل» ٢١٤٣ من طرق عن بقية بن الوليد عن بجير بن سعد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان مرفوعا، وإسناده قوي رجاله رجال الصحيح سوى بقية، روى له مسلم متابعة، وهو ثقة لكنه مدلس لكن صرح بالتحديث عند أحمد، وقد توبع. فأخرجه الطحاوي ٢١٤١ و ٢١٤٢ والآجري في «الشريعة» ١٢- بترقيمي- وأحمد ٤/ ١٨٢ من وجه آخر عن جبير بن نفير عن النواس به، وإسناده صحيح.
وقال الحافظ ابن كثير ١/ ٤٣: إسناده حسن صحيح. ولفظ الحديث عند الترمذي والنسائي: «إن الله ضرب
__________
(١) قال الطبري رحمه الله ٦/ ٥٤٨، والصواب من القراءة في ذلك وَازَّيَّنَتْ لإجماع الحجة من القراء عليها.
(٢) سورة الأنعام: ١٢٧.
325
والثالث: الحق، قاله مجاهد، وقتادة.
والرابع: المُخرِج من الضلالات والشُّبَه، قاله أبو العالية.
قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا: قال ابن عباس: قالوا: لا إِله إِلا الله. قال ابن الأنباري: الحسنى:
كلمة مستغنى عن وصفها ونعتها، لأن العرب توقعها على الخَلَّة المحبوبة المرغوب فيها المفروح بها، فكان الذي تعلمه العرب من أمرها يغني عن نعتها، فكذلك المزيد عليها محمول على معناها ومتعرَّف من جهتها، يدل على هذا قول امرئ القيس:
فلما تنازعنا الحديث وأسمحت هَصَرْتُ بغصنٍ ذي شماريخَ مَيَّالِ
فَصِرْنَا إِلى الحُسْنَى ورقَّ كَلامُنَا ورضتُ فذلَّت صَعْبَةً أيَّ إِذلالِ
أي: إِلى الأمر المحبوب. وهصرتُ بمعنى: مددت. والغصن كناية عن المرأة. والباء مؤكدة للكلام كما تقول العرب: ألقى بيده إِلى الهلاك، يريدون: ألقى يده. والشماريخ «١» : كناية عن الذوائب. ورضت معناه: أذللت. ومن أجل هذا قال: أي إِذلال، ولم يقل: أي رياضة.
وللمفسرين في المراد بالحسنى خمسة أقوال:
(٧٨٠) أحدها: أنها الجنة، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه قال الأكثرون.
والثاني: أنها الواحدة من الحسنات بواحدة، قاله ابن عباس. والثالث: النصرة، قاله عبد الرحمن بن سابط. والرابع: الجزاء في الآخرة، قاله ابن زيد. والخامس: الأمنية، ذكره ابن الأنباري.
وفي الزيادة ستة أقوال: أحدها: أنّها النّظر إلى الله عزّ وجلّ.
(٧٨١) روى مسلم في «صحيحه» من حديث صهيب عن النبيّ ﷺ أنه قال: «الزّيادة: النّظر إلى
مثلا صراطا مستقيما، على كنفي الصراط داران لهما أبواب مفتحة، على الأبواب ستور، وداع يدعو على رأس الصراط، وداع يدعو فوقه، والله يدعو إلى دار السلام، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، والأبواب التي على كنفي الصراط حدود الله، فلا يقع أحد في حدود الله حتى يكشف الستر، والذي يدعو من فوقه واعظ ربه». وله شاهد من مرسل أبي قلابة: أخرجه الطبري ١٧٦٢١، فهو شاهد لما قبله.
الراجح وقفه، أخرجه الطبري ١٧٦٣٣، من حديث أبي موسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولفظ الحديث بتمامه: «إن الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادي أهل الجنة بصوت يسمع أولهم وآخرهم: إن الله وعدكم الحسنى وزيادة، فالحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الرحمن»، وإسناده ضعيف جدا، فيه أبان بن أبي عياش، وهو متروك. وله شاهد من حديث أبي بن كعب، أخرجه الطبري ١٧٦٤٨، وإسناده ضعيف، فيه راو لم يسم. وله شاهد من حديث أنس، أخرجه الدارقطني في «الرؤية» ٦٧ وفيه نوح بن أبي مريم، وهو متهم بالوضع. فهذا شاهد لا يفرح به.
- والحديث الأول ضعيف جدا، وأما الثاني فضعيف فحسب، وقد روى الطبري هذا الخبر موقوفا ومقطوعا، وهو الراجح فالمرفوع ضعيف، والصحيح وقفه على الصحابة والتابعين، والله تعالى أعلم.
أخرجه مسلم (١٨١) والترمذي ٣١٠٥ والنسائي في «التفسير» (٢٥٤) وابن ماجة (١٨٧) وأحمد ٤/ ٣٣٢، ٣٣٣- ٦/ ١٥، ١٦ وابن خزيمة في «التوحيد» ١/ ٤٤٣- ٤٤٦، وعبد الله بن أحمد في «السنة» ١/ ٢٤٣،
__________
(١) في «القاموس» الشّمراخ: بالكسر، العثكال عليه بسر أو عنب.
326
وجه الله عزّ وجلّ». وبهذا القول قال أبو بكر الصديق، وأبو موسى الأشعري، وحذيفة، وابن عباس، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، والسدي، ومقاتل.
والثاني: أن الزيادة: غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب، رواه الحكم عن عليّ، ولا يصح.
والثالث: أن الزيادة: مضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها، قاله ابن عباس والحسن. والرابع: أن الزيادة:
مغفرة ورضوان، قاله مجاهد. والخامس: أن الزيادة: أن ما أعطاهم في الدنيا لا يحاسبهم به في القيامة، قاله ابن زيد. والسادس: أن الزيادة: ما يشتهونه، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: وَلا يَرْهَقُ أي: لا يغشى وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وقرأ الحسن، وقتادة، والأعمش: «قَتْر» باسكان التاء، وفيه أربعة أقوال: أحدها: أنه السواد. قال ابن عباس: سواد الوجوه من الكآبة. وقال الزجاج: القتر: الغبرة التي معها سواد. والثاني: أنه دخان جهنم، قاله عطاء. والثالث: الخزي، قاله مجاهد. والرابع: الغبار، قاله أبو عبيدة.
وفي الذلة قولان: أحدهما: الكآبة، قاله ابن عباس. والثاني: الهوان، قاله أبو سليمان.
[سورة يونس (١٠) : آية ٢٧]
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ قال ابن عباس: عملوا الشرك. جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها: في الآية محذوف، وفي تقديره قولان: أحدهما: أن فيها إضمار «لهم»، المعنى: لهم جزاءُ سيئة بمثلها، وأنشد ثعلب:
فإنْ سَأَل الوَاشُونَ عَنْه فَقُلْ لَهُم وَذَاكَ عَطَاءُ لِلوشَاةِ جَزِيْلُ
مُلِمٌّ بِلَيْلَى لمَّةً ثُمَّ إِنَّه لَهَاجِرُ لَيْلَى بَعْدَهَا فَمُطِيْلُ
أراد: هو مُلَمٌّ، وهذا قول الفراء. والثاني: أن فيها إِضمار «منهم»، المعنى: جزاء سيئة منهم بمثلها، تقول العرب: رأيت القوم صائم وقائم، أي: منهم صائم وقائم، أنشد الفراء:
حتَّى إِذَا مَا أَضَاءَ الصُّبْحُ في غَلَسٍ وَغُودِرَ البَقْل مَلْوِيٌ وَمَحْصُودُ
أي: منه ملوي، وهذا قول ابن الأنباري. وقال بعضهم: الباء زائدة ها هنا.
و «من» في قوله تعالى: مِنْ عاصِمٍ صلة، والعاصم: المانع كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ أي:
وابن أبي عاصم في السنة ١/ ٢٠٥ وأبو عوانة في صحيحه ١/ ١٥٦ والطيالسي في مسنده رقم (١٣١٥) والآجري في الشريعة ٦١٥ والدارمي في الرد على الجهمية (١٧٥) وابن مندة في الرد على الجهمية رقم (٨٣) وهناد بن السري في «الزهد» ١٧١ والطبراني في «الكبير» ٨/ ٤٦، ٤٧، واللالكائي في شرح السنة ٧٧٨- ٨٣٣ وأبو نعيم في «الحلية» ١/ ١٥٥ والبيهقي في «الأسماء والصفات» (٦٦٥) من طرق عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب ولفظ مسلم «إذا أدخل أهل الجنة الجنة، قال يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل وزاد في رواية ثانية «ثم تلا هذه الآية لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ».
أُلبست قِطَعاً قرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وأبو عمرو، وحمزة: «قِطَعَاً» مفتوحة الطاء، وهي جمع قطعة. وقرأ ابن كثير، والكسائي، ويعقوب: «قِطْعاً» بتسكين الطاء. قال ابن قتيبة: وهو اسم ما قُطع. قال ابن جرير: وإِنما قال: «مُظلماً» ولم يقل: «مُظلمة» لأن المعنى: قطعاً من الليل المظلم، ثم حذفت الألف واللام من «المظلم»، فلما صار نكرة، وهو من نعت الليل، نُصب على القَطْعِ وقوم يسمُّون ما كان كذلك: حالاً، وقوم: قطعاً.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩)
قوله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً: قال ابن عباس: يُجمع الكفار وآلهتهم، ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ: أي: آلهتكم. قال الزجاج: «مكانكم» منصوب على الأمر، كأنهم قيل لهم:
انتظروا مكانكم حتى نفصل بينكم، والعرب تتوعَّد فتقول: مكانك، أي: انتظر مكانك، فهي كلمة جرت على الوعيد.
قوله تعالى: فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وقرأ ابن أبي عبلة: «فزايلنا» بألف، قال ابن عباس: فرَّقنا بينهم وبين آلهتهم. وقال ابن قتيبة: هو من زال يزول وأزلته. وقال ابن جرير: إِنما قال: «فزيلنا» ولم يقل: «فزلنا» لإرادة تكرير الفعل وتكثيره.
فإن قيل: كيف تقع الفرقة بينهم وهم معهم في النار، لقوله: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ؟ «١». فالجواب: أن الفرقة وقعت بتبّري كل معبود ممن عبده، وهو قوله: وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ قال ابن عباس: آلهتهم، يُنْطِق الله الأوثان، فتقول: ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ أي: لا نعلم بعبادتكم لنا، لأنه ما كان فينا روح، فيقول العابدون: بلى قد عبدناكم! فتقول الآلهة: فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ لا نعلم بها. قال الزجاج: إِنْ كُنَّا معناه: ما كنا إِلا غافلين.
فإن قيل: ما وجه دخول الباء في قوله: فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أنها دخلت للمبالغة في المدح كما قالوا: أَظْرِفْ بعبد الله، وأنبل بعبد الرحمن، وناهيك بأخينا، وحسبك بصديقنا، هذا قول الفراء وأصحابه. والثاني: أنها دخلت توكيداً للكلام، إِذ سقوطها ممكن، كما يقال: خذ بالخطام، وخذ الخطام، قاله ابن الأنباري.
[سورة يونس (١٠) : آية ٣٠]
هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠)
قوله تعالى: هُنالِكَ تَبْلُوا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: «تبلو» بالباء. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وزيد عن يعقوب: «تتلو» بالتاء. قال الزجاج: «هنالك» ظرف. والمعنى: في ذلك الوقت تبلو، وهو منصوب بتبلو، إِلا أنه غير متمكِّن، واللام زائدة، والأصل: هناك، وكسرت اللام لسكونها وسكون الألف، والكاف للمخاطبة. و «تبلو» تختبر، أي:
(١) سورة الأنبياء: ٩٨،
تعلم. ومن قرأ: «تتلو» بتاءين، فقد فسرها الأخفش وغيره: تتلو من التلاوة، أي: تقرأ. وفسروه أيضاً: تتبع كل نفس ما أسلفت. ومثله قول الشاعر «١» :
قد جعلتْ دلويَ تَسْتَتْلِيني أي: تستتبعني، أي: من ثقلها تستدعي اتباعي إِياها.
قوله تعالى: وَرُدُّوا أي في الآخرة إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ الذي يملك أمرهم حقاً لا مَن جعلوا معه من الشركاء وَضَلَّ عَنْهُمْ أي زال وبطل ما كانُوا يَفْتَرُونَ من الآلهة.
[سورة يونس (١٠) : آية ٣١]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١)
قوله تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ المطر، ومن الأرض النّبات، أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ أي خَلْق السمع والأبصار. وقد سبق معنى إِخراج الحي من الميت، والميت من الحيّ.
قوله تعالى: وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي: أمر الدنيا والآخرة فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ لأنهم خوطبوا بما لا يقدر عليه إِلا الله، فكان في ذلك دليل توحيده.
وفي قوله تعالى: أَفَلا تَتَّقُونَ قولان: أحدهما: أفلا تتَّعظون، قاله ابن عباس. والثاني: تتقون الشرك، قاله مقاتل.
[سورة يونس (١٠) : آية ٣٢]
فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢)
قوله تعالى: فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ قال الخطابي: الحق هو المتحقق وجوده، وكل شيء صحّ وجوده وكونه، فهو حقّ. وقوله تعالى: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ قال ابن عباس: كيف تصرفون عقولكم إِلى عبادة من لا يرزق ولا يحيي ولا يميت؟
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥)
قوله تعالى: كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «كلمةُ ربك»، وفي آخر السورة كذلك. وقرأ نافع، وابن عامر الحرفين «كلماتُ» على الجمع. قال الزجاج: الكاف في موضع نصب، أي: مِثْل أفعالهم جازاهم ربك، والمعنى: حق عليهم أنهم لا يؤمنون. وقوله: أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بدل من: كَلِمَةُ رَبِّكَ. وجائز أن تكون الكلمة حقت عليهم لأنهم لا يؤمنون، وتكون الكلمة ما وُعدوا به من العقاب.
وذكر ابن الأنباري في كَذلِكَ قولين: أحدهما: أنها إشارة إلى مصدر «تصرفون»، والمعنى:
(١) ذكره ابن منظور في «اللسان» وهو من الرجز مادة «تلا»، ولم يعزه لأحد.
مثل ذلك الصرف حقت كلمة ربك. والثاني: أنه بمعنى هكذا. وفي معنى «حقت» قولان: أحدهما:
وجبت. والثاني: سبقت. وفي كلمته قولان: أحدهما: أنها بمعنى وعده. والثاني: بمعنى قضائه. ومن قرأ «كلماتُ» جعل كل واحدة من الكلم التي توعِّدْوا بها كلمة. وقد شرحنا معنى الكلمة في «الأعراف» «١».
قوله تعالى: قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أي: إلى الحقّ.
قوله تعالى: أَمَّنْ لا يَهِدِّي قرأ ابن كثير، وابن عامر، وورش عن نافع: «يَهَدِّي» بفتح الياء والهاء وتشديد الدال. قال الزجاج: الأصل يهتدي، فأدغمت التاء في الدال، فطرحت فتحتها على الهاء. وقرأ نافع إِلا ورشاً، وأبو عمرو: «يَهْدِّي» بفتح الياء وإِسكان الهاء وتشديد الدال، غير أن أبا عمرو كان يُشِم الهاء شيئاً من الفتح. وقرأ حمزة، والكسائي: «يَهْدي» بفتح الياء وسكون الهاء وتخفيف الدال. قال أبو علي: والمعنى: لا يهدي غيرَه إِلا أن يُهدَى هو، ولو هُدي الصُّمُّ لم يهتد، ولكن لمّا جعلوه كمن يعقل، أجريت مجراه. وروى يحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم: «يِهِدِّي» بكسر الياء والهاء وتشديد الدال، وكذلك روى أبان وجبلة عن المفضل وعبد الوارث، قال الزجاج: أتبعوا الكسرة الكسرة، وهي رديئة لثقل الكسرة في الياء. وروى حفص عن عاصم، والكسائي عن أبي بكر عنه:
«يَهِدِّي» بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال، قال الزجاج: وهذه في الجودة كالمفتوحة الهاء، إِلا أن الهاء كُسرت لالتقاء الساكنين. وقرأ ابن السميفع: «يهتدي» بزيادة تاء. والمراد بقوله: أَمَّنْ لا يَهِدِّي الصم إِلَّا أَنْ يُهْدى. وظاهر الكلام يدل على أن الأصنام إِن هديت اهتديت، وليست كذلك، لأنها حجارة لا تهتدي، إِلا أنهم لما اتخذوها آلهة، عبِّر عنها كما يعبَّر عمن يعقل، ووصفت صفةَ مَن يعقل وإِن لم تكن في الحقيقة كذلك ولهذا المعنى قال في صفتها: أَمَّنْ لأنهم جعلوها كمن يعقل. ولما أعطاها حقها في أصل وضعها، قال: يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ
«٢». وقال الفراء: أَمَّنْ لا يَهِدِّي أي:
أتعبدون ما لا يقدر أن ينتقل من مكانه إِلا أن يحوَّل؟ وقد صرف بعضهم الكلام إِلى الرؤساء والمضلِّين، والأول أصح. قوله تعالى: فَما لَكُمْ قال الزجاج: هو كلام تام، كأنه قيل لهم: أيُّ شيء لكم في عبادة الأوثان؟ ثم قيل لهم: كَيْفَ تَحْكُمُونَ أي: على أي حال تحكمون؟ وقال ابن عباس: كيف تقضون لأنفسكم؟ وقال مقاتل: كيف تقضون بالجَوْر؟
[سورة يونس (١٠) : آية ٣٦]
وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦)
قوله تعالى: وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ أي: كلهم إِلَّا ظَنًّا أي: ما يستيقنون أَنها آلهة، بل يظنون شيئاً فيتَّبعونه. إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً أي: ليس هو كاليقين، ولا يقوم مقام الحق، وقال مقاتل:
ظنهم بأنها آلهة لا يدفع عنهم من العذاب شيئاً، وقال غيره: ظنهم أنها تشفع لهم لا يغني عنهم.
[سورة يونس (١٠) : آية ٣٧]
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧)
(١) سورة الأعراف: ١٣٧.
(٢) سورة مريم: ٤٢. [.....]
قوله تعالى: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ قال الزجاج: هذا جواب قولهم: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ «١» وجواب قولهم: افْتَراهُ «٢». قال الفراء: ومعنى الآية: ما ينبغي لمثل هذا القرآن أن يفترى من دون الله، فجاءت «أن» على معنى ينبغي. وقال ابن الأنباري: يجوز أن تكون «أن» مع «يفترى» مصدراً، وتقديره: وما كان هذا القرآن افتراءً. ويجوز أن تكون «كان» تامة، فيكون المعنى: ما نزل هذا القرآن، وما ظهر هذا القرآن لأن يفترى، وبأن يفترى، فتُنْصَب «أن» بفقد الخافض في قول الفراء، وتخفض بإضمار الخافض في قول الكسائي. وقال ابن قتيبة: معنى أَنْ يُفْتَرى أي:
يضاف إِلى غير الله، أو يُختَلق.
قوله تعالى: وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه تصديق الكتاب المتقدمة، قاله ابن عباس. فعلى هذا، إِنما قال: الَّذِي لأنه يريد الوحي. والثاني: ما بين يديه من البعث والنشور، ذكره الزجاج. والثالث: تصديق النّبيّ ﷺ الذي بين يدي القرآن، لأنهم شاهدوا النبي ﷺ وعرفوه قبل سماعهم القرآن، ذكره ابن الأنباري. قوله تعالى: وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ أي: وبيان الكتاب الذي كتبه الله على أمّة محمّد والفرائض التي فرضها عليهم.
[سورة يونس (١٠) : آية ٣٨]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨)
قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ في «أم» قولان. أحدهما: أنها بمعنى الواو، قاله أبو عبيدة.
والثاني: بمعنى بل، قاله الزجاج. قوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ قال الزجاج: المعنى: فأتوا بسورة مثلِ سورة منه، فذكر المِثْلَ لأنه إِنما التمس شبه الجنس، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ ممن هو في التكذيب مثلكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنه اختلقه.
[سورة يونس (١٠) : آية ٣٩]
بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩)
قوله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ فيه قولان:
أحدهما: أن المعنى: بما لم يحيطوا بعلم ما فيه من ذِكْر الجنة والنار والبعث والجزاء.
والثاني: بما لم يحيطوا بعلم التكذيب به، لأنهم شاكّون فيه.
وفي قوله: وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ قولان: أحدهما: تصديق ما وُعدوا به من الوعيد. والتأويل: ما يؤول إِليه الأمر. والثاني: ولم يكن معهم عِلم تأويله، قاله الزجاج.
قيل لسفيان بن عيينة: يقول الناس: كل إِنسان عدوُّ ما جهل، فقال: هذا في كتاب الله. قيل له:
أين؟ فقال: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ. وقيل للحسين بن الفضل: هل تجد في القرآن: من جهل شيئاً عاداه؟ فقال: نعم، في موضعين. قوله: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وقوله: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ «٣».
(١) سورة يونس: ١٥.
(٢) سورة يونس: ٣٨.
(٣) سوف الأحقاف: ١١.

[سورة يونس (١٠) : آية ٤٠]

وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠)
قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ في المشار إِليهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: قريش، قاله مقاتل بن سليمان. وفي هاء «به» قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى محمّد ﷺ ودينه، قاله مقاتل. والثاني: إِلى القرآن، قاله أبو سليمان الدمشقي.
وهذه الآية تضمنت الإِخبار عما سبق في علم الله، فالمعنى: ومنهم مَنْ سيؤمن به. وقال الزجاج: منهم من يعلم أنه حق فيصدِّق به ويعاند فيظهر الكفر. وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ أي: يشكُّ ولا يصدِّق.
قوله تعالى: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ قال عطاء: يريد المكذبين، وهذا تهديد لهم.
[سورة يونس (١٠) : آية ٤١]
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١)
قوله تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي الآية. قال أبو صالح عن ابن عباس: نسختها آية السيف وليس هذا بصحيح، لأنه لا تنافي بين الآيتين.
[سورة يونس (١٠) : آية ٤٢]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢)
قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال: أحدها: في يهود المدينة، كانوا يأتون رسول الله ﷺ ويستمعون القرآن فيعجبون ويشتهونه ويغلب عليهم الشقاء، فنزلت هذه الآية «١». والثاني: أنها نزلت في المستهزئين، كانوا يستمعون إلى النبيّ ﷺ للاستهزاء والتكذيب، فلم ينتفعوا، فنزلت فيهم هذه الآية «٢»، والقولان مرويَّان عن ابن عباس. والثالث: أنها نزلت في مشركي قريش «٣»، قاله مقاتل.
قال الزجاج: ظاهرهم ظاهر من يستمع، وهم لشدة عداوتهم بمنزلة الصم. وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ أي: ولو كانوا مع ذلك جهالاً. وقال ابن عباس: يريد أنهم شرٌّ من الصم، لأن الصم لهم عقول وقلوب، وهؤلاء قد أصمّ الله قلوبهم.
[سورة يونس (١٠) : آية ٤٣]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣)
قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ قال ابن عباس يريد: متعجبين منك. أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ يريد أن الله أعمى قلوبهم فلا يبصرون. وقال الزجاج: ومنهم من يُقبل عليك بالنظر، وهو من بغضه لك وكراهته لما يرى من آياتك كالأعمى. وقال ابن جرير: ومنهم من يستمع قولك وينظر إلى
(١) عزاه المصنف لابن عباس، ولم أره مسندا عنه، والظاهر أنه من رواية الكلبي عن أبي صالح عنه، وهي رواية ساقطة، وتقدم بيان ذلك مرارا.
(٢) لم أقف عليه كسابقه.
(٣) عزاه المصنف لمقاتل، وهو متهم بالكذب، ومع ذلك ظاهر الآيات يدل على أن المراد بذلك كفار قريش، لأن السورة مكية، والله أعلم.
حججك على نُبُوَّتك، ولكن الله قد سلبه التّوفيق. وقال مقاتل: وَلَوْ في الآيتين بمعنى «إذا».
[سورة يونس (١٠) : آية ٤٤]
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤)
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً لما ذكر الذين سبق القضاء عليهم بالشقاوة، أخبر أن تقدير ذلك عليهم ليس بظلم، لأنه يتصرف في ملكه كيف شاء، وهم إِذا كسبوا المعاصي فقد ظلموا أنفسهم، لأن الفعل منسوب إِليهم، وإِن كان بقضاء الله.
قوله تعالى: وَلكِنَّ النَّاسَ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: «ولكنِ الناسُ» بتخفيف النون وكسرها، ورفع الاسم بعدها.
[سورة يونس (١٠) : آية ٤٥]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥)
قوله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وقرأ حفص: يَحْشُرُهُمْ بالياء. قال أبو سليمان الدمشقي: هم المشركون. قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ فيه قولان: أحدهما: كأن لم يلبثوا في قبورهم، قاله ابن عباس. والثاني: في الدنيا، قاله مقاتل. قال الضحاك: قصر عندهم مقدار الوقت الذي بين موتهم وبعثهم، فصار كالساعة من النهار، لهول ما استقبلوا من القيامة.
قوله تعالى: يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قال ابن عباس: إِذا بعثوا من القبور تعارفوا، ثم تنقطع المعرفة.
قال الزجاج: وفي معرفة بعضهم بعضاً، وعِلم بعضهم بإضلال بعض، التوبيخُ لهم، وإِثباتُ الحجة عليهم. وقيل: إِذا تعارفوا وبَّخ بعضهم بعضاً، فيقول هذا لهذا: أنت أضللتني، وكسَّبتني دخول النار.
قوله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا هو من قول الله عزّ وجلّ، لا مِن قولهم: والمعنى خسروا ثواب الجنة إِذْ كذَّبوا بالبعث وَما كانُوا مُهْتَدِينَ من الضّلالة.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٤٦ الى ٤٧]
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧)
قوله تعالى: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ قال المفسرون: كانت وقعة بدر مما أراه الله في حياته من عذابهم. أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل أن نريَك فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ بعد الموت، والمعنى: إِن لم ننتقم منهم عاجلاً، انتقمنا آجلاً.
قوله تعالى: ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ من الكفر والتكذيب. قال الفراء: «ثم» ها هنا عطف، ولو قيل: معناها: هناك الله شهيد، كان جائزا. وقال غيره: «ثم» ها هنا بمعنى الواو. وقرأ ابن أبي عبلة: «ثَمَّ الله شهيد» بفتح الثاء، يراد به: هنالك الله شهيد.
قوله تعالى: فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ، فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: إِذا جاء في الدنيا بعد الإِذن له في دعائهم، قضي بينهم بتعجيل الانتقام منهم، قاله الحسن. وقال غيره: إِذا جاءهم في الدنيا، حُكم عليهم عند اتباعه وخلافه بالطاعة والمعصية.
والثاني: إِذا جاء يوم القيامة، قاله مجاهد. وقال غيره: إِذا جاء شاهداً عليهم.
والثالث: إِذا جاء في القيامة وقد كذَّبوه في الدنيا، قاله ابن السائب.
قوله تعالى: قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ فيه قولان: أحدهما: بين الأمَّة، فأثيب المحسن وعوقب المسيء. والثاني: بينهم وبين نبيّهم.
[سورة يونس (١٠) : آية ٤٨]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨)
قوله تعالى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ، في القائلين هذا قولان:
أحدهما: الأمم المتقدمة، أخبر عنهم باستعجال العذاب لأنبيائهم، قاله ابن عباس.
والثاني: أنهم المشركون الذين أنذرهم نبيّنا صلى الله عليه وسلم، قاله أبو سليمان.
وفي المراد بالوعد قولان: أحدهما: العذاب، قاله ابن عباس. والثاني: قيام السّاعة. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنت وأتباعك.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٤٩ الى ٥٢]
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢)
قوله تعالى: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً الآية، قد ذكرت تفسيرها في آيتين من «الأعراف» «١».
قوله تعالى: إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً قال الزجاج: البيات: كل ما كان بليل. وقوله: ماذا في موضع رفع من جهتين: إِحداهما: أن يكون «ذا» بمعنى الذي، المعنى: ما الذي يستعجل منه المجرمون؟ ويجوز أن يكون «ماذا» اسماً واحداً، فيكون المعنى: أي شيء يستعجل منه المجرمون؟
والهاء في «منه» تعود على العذاب. وجائز أن تعود على ذكر الله تعالى، فيكون المعنى: أي شيء يستعجل المجرمون من الله تعالى؟ وعودها على العذاب أجود، لقوله: أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ.
وذكر بعض المفسرين أن المراد بالمجرمين: المشركون، وكانوا يقولون: نكذب بالعذاب ونستعجله، ثم إِذا وقع العذاب آمنا به فقال الله تعالى موبِّخاً لهم: أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ أي: هنالك تؤمنون فلا يُقبل منكم الإِيمان، ويقال لكم: الآن تؤمنون، فأضمر: تؤمنون به مع آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ مستهزئين، وهو قوله: ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي: كفروا، عند نزول العذاب ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ، لأنه إِذا نزل بهم العذاب، أفضوا منه إلى عذاب الآخرة الدّائم.
[سورة يونس (١٠) : آية ٥٣]
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣)
قوله تعالى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أي: ويستخبرونك أَحَقٌّ هُوَ يعنون البعث والعذاب. قُلْ إِي
(١) سورة الأعراف: ٣٤ و ١٨٨.
المعنى: نعم وَرَبِّي، وفتح هذه الياء نافع، وأبو عمرو. وإِنما أقسم مع إِخباره تأكيداً. وقال ابن قتيبة: «إِي» بمعنى «بل» ولا تأتي إِلا قبل اليمين صلة لها.
قوله تعالى: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ قال ابن عباس: بسابقين. وقال الزجاج: لستم ممن يُعجز أن يجازى على كفره.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٥٤ الى ٥٦]
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦)
قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ قال ابن عباس: أشركَتْ. ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ عند نزول العذاب. وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ يعني: الرؤساء أخفوها من الأتباع. وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي: بين الفريقين. وقال آخرون منهم أبو عبيدة والمفضّل: وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ بمعنى أظهروها. لأنه ليس بيوم تَصَنُّعٍ ولا تصبُّرٍ، والإِسرار من الأضداد يقال: أسررت الشيء، بمعنى: أخفيته. وأسررته: أظهرته، قال الفرزدق:
ولما رأى الحجَّاجَ جرَّد سيفَه أسرَّ الحروريُّ الذي كان أضمرا
يعني: أظهر. فعلى هذا القول: أظهروا الندامة عند إِحراق النار لهم، لأن النار ألهتهم عن التصنع والكتمان. وعلى الأول: كتموها قبل إِحراق النار إِياهم.
قوله تعالى: أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ قال ابن عباس: ما وعد أولياءه من الثواب، وأعداءه من العقاب. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يعني المشركين لا يَعْلَمُونَ.
[سورة يونس (١٠) : آية ٥٧]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قال ابن عباس: يعني قريشاً. قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ يعني القرآن.
وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ أي: دواء لداء الجهل. وَهُدىً أي: بيان من الضلالة.
[سورة يونس (١٠) : آية ٥٨]
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨)
قوله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فيه ثمانية أقوال «١» : أحدها: أن فضل الله: الإِسلام، ورحمته: القرآن، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة وهلال بن يساف. وروي عن الحسن، ومجاهد في بعض الرواية عنهما، وهو اختيار ابن قتيبة. والثاني: أنّ فضل الله: القرآن،
(١) قال الإمام الطبري رحمه الله ٦/ ٥٦٨: يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المكذبين بك وبما أنزل إليك من ربك بِفَضْلِ اللَّهِ أيها الناس، الذي تفضل به عليكم وهو الإسلام فبينه لكم ودعاكم إليه وَبِرَحْمَتِهِ التي رحمكم بها فأنزلها إليكم فعلمكم ما لم تكونوا تعلمون من كتابه وبصّركم بها معالم دينكم، وذلك القرآن فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ يقول: فإن الإسلام الذي دعاكم إليه والقرآن الذي أنزل عليهم خير مما يجمعون من حطام الدنيا وأموالها وكنوزها.
ورحمته: أن جعلهم من أهل القرآن، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال أبو سعيد الخدري، والحسن في رواية. والثالث: أن فضل الله: العلم، ورحمته: محمّد صلى الله عليه وسلم، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والرابع: أن فضل الله: الإِسلام، ورحمته: تزيينه في القلوب، قاله ابن عمر. والخامس: أن فضل الله: القرآن، ورحمته: الإِسلام، قاله الضحاك، وزيد بن أسلم، وابنه، ومقاتل. والسادس: أن فضل الله ورحمته: القرآن، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد، واختاره الزجاج. والسابع: أن فضل الله:
القرآن، ورحمته: السُّنَّة، قاله خالد بن معدان. والثامن: فضل الله: التوفيق، ورحمته: العصمة، قاله ابن عيينة.
قوله تعالى: فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وأبو مجلز، وقتادة، وأبو العالية، ورويس عن يعقوب: «فلتفرحوا» بالتاء. وقرأ الحسن ومعاذ القارئ وأبو المتوكل مثل ذلك، إِلا أنهم كسروا اللام. وقرأ ابن مسعود وأبو عمران: «فبذلك فافرحوا». قال ابن عباس: بذلك الفضل والرحمة. هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أي مما يجمع الكفار من الأموال. وقرأ أبو جعفر وابن عامر ورويس: «تجمعون» بالتاء. وحكى ابن الأنباري أن الباء في قوله: بِفَضْلِ اللَّهِ خبر لاسم مضمر، تأويله: هذا الشفاء وهذه الموعظة بفضل الله وبرحمته، فبذلك التّطوّل من الله فليفرحوا.
[سورة يونس (١٠) : آية ٥٩]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (٥٩)
قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ قال المفسرون: هذا خطاب لكفار قريش، كانوا يحرِّمون ما شاؤوا، ويُحلُّون ما شاؤوا. وأَنْزَلَ بمعنى خلق. وقد شرحنا بعض مذاهبهم فيما كانوا يفعلون من البحيرة والسائبة وغير ذلك في سورة المائدة وسورة الأنعام «١». قوله تعالى: قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أي: في هذا التّحليل والتّحريم.
[سورة يونس (١٠) : آية ٦٠]
وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠)
قوله تعالى: وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ في الكلام محذوف، تقديره: ما ظنهم أن الله فاعل بهم يوم القيامة بكذبهم، إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ حين لم يعجِّل عليهم بالعقوبة وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ تأخير العذاب عنهم.
[سورة يونس (١٠) : آية ٦١]
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١)
قوله تعالى: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ أي: في عمل من الأعمال، وجمعه: شؤون. وَما تَتْلُوا مِنْهُ
(١) سورة المائدة: ١٠٣. وسورة الأنعام: ١٣٩.
في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها تعود إِلى الشأن. قال الزجاج: معنى الآية: أي وقت تكون في شأن من عبادة الله، وما تلوت من الشأن من قرآن. والثاني: أنها تعود إِلى الله تعالى، فالمعنى: وما تلوت مِنَ الله، أي: من نازل منه من قرآن، ذكره جماعة من العلماء. والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وأمته داخلون فيه، بدليل قوله: وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ قال ابن الأنباري: جمع في هذا، ليدل على أنهم داخلون في الفعلين الأوَّلين.
قوله تعالى: إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ الهاء عائدة على العمل. قال ابن قتيبة: تفيضون بمعنى تأخذون فيه. وقال الزجاج: تنتشرون فيه، يقال: أفاض القوم في الحديث: إِذا انتشروا فيه وخاضوا. وَما يَعْزُبُ معناه: وما يبعد. وقال ابن قتيبة: ما يبعد ولا يغيب. وقرأ الكسائيّ «يعزب» بكسر الزّاي ها هنا وفي (سبأ). وقد بيّنا «مثقال ذرة» في سورة النساء.
قوله تعالى: وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ قرأ الجمهور بفتح الراء فيهما. وقرأ حمزة، وخلف، ويعقوب، برفع الراء فيهما. قال الزجاج: مَنْ قرأ بالفتح، فالمعنى: وما يعزب عن ربك من مثقال ذرَّةٍ، ولا مثقالَ أصغرَ من ذلك ولا أكبر، والموضع موضع خفض، إِلا أنه فُتح لأنه لا ينصرف. ومن رفع، فالمعنى: وما يعزب عن ربك مثقال ذرة ولا أصغر ولا أكبر. ويجوز رفعه على الابتداء، فيكون المعنى: ولا أصغر من ذلك ولا أكبر. إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ قال ابن عباس: هو اللوح المحفوظ.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٦٢ الى ٦٤]
أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤)
قوله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ. روى ابن عباس أن رجلاً قال:
(٧٨٢) يا رسول الله، مَن أولياء الله؟ قال: «الذين إِذا رأوا ذُكر الله».
(٧٨٣) وروى عمر بن الخطاب عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إِنَّ من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء
الراجح وقفه. أخرجه ابن المبارك ٢١٨، والطبراني ١٢٣٢٥، والبزار كما في «المجمع» ١٦٧٧٩ عن ابن عباس مرفوعا، ومداره على جعفر بن أبي المغيرة، وهو غير قوي وبخاصة في روايته عن سعيد بن جبير.
وقد خالفه غيره فرواه مرسلا. أخرجه ابن المبارك ٢١٧، والطبري ١٧٧٢٦. وورد عن ابن عباس موقوفا، وهو أصح وأشبه من المرفوع. والله أعلم. وله شاهد أخرجه أحمد ٤/ ٢٢٧ من حديث عبد الرحمن بن غنم، وقال الهيثمي ١٣١٣٩ «مجمع» فيه شهر بن حوشب، وبقية رجاله رجال الصحيح. أي شهر بن حوشب ضعفه غير واحد. ثم إن عبد الرحمن بن غنم مختلف في صحبته. فالحديث غير قوي، والراجح وقفه. ولفظ الحديث:
«خيار عباد الله الذين إذا رأوا ذكر الله، وشرار عباده المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة، الباغون البرآء العنت».
صحيح. أخرجه أبو داود ٣٥٢٧، والطبري في «التفسير» ١٧٧٢٩ وأبو نعيم في «الحلية» ١/ ٥ من طريق أبي زرعة بن عمر بن جرير عن عمر بن الخطاب وإسناده منقطع. وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه أبو يعلى ٦١١٠ وابن حبان ٥٧٣. وإسناده صحيح. وله شاهد من حديث ابن عمر أخرجه الحاكم في «المستدرك» ٤/ ١٧٠، ١٧١ وصححه ووافقه الذهبي. وشاهد آخر عن أبي مالك الأشعري أخرجه أحمد ٥/ ٣٤٣ وذكره الهيثمي في «المجمع» ١٠/ ٢٧٦ وقال: رواه أحمد والطبراني بنحوه، ورجاله وثقوا.
337
ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله عزّ وجلّ» قالوا: يا رسول الله. مَنْ هم، وما أعمالهم لعلنا نحبُّهم؟ قال: «هم قوم تحابّوا بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فو الله إِن وجوههم لنور، وإِنهم لعلى منابر من نور، ولا يخافون إذا خاف النّاس ولا يحزنون إذا حزن الناس، ثم قرأ: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
قوله تعالى: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
فيها ثلاثة أقوال:
(٧٨٤) أحدها: أنها الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح، أو ترى له، رواه عبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وجابر بن عبد الله، وأبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
حديث حسن غريب، ورد عن عبادة وأبي الدرداء وأبي هريرة وغيرهم.
- حديث عبادة بن الصامت: أخرجه الترمذي ٢٢٧٥ وابن ماجة ٣٨٩٨ وأحمد ٥/ ٣١٥ والطبري ١٧٧٣٣ و ١٧٧٣٤ و ١٧٧٣٥ و ١٧٧٤٦ و ١٧٧٥٥ والحاكم ٢/ ٣٤٠ والواحدي في «الوسيط»
٢/ ٥٥٣ من طرق عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عبادة، ورجاله ثقات رجال البخاري ومسلم، إن كان أبو سلمة سمعه من عبادة، والظاهر أنه لم يسمعه، فإن يحيى بن أبي كثير يدلس ويرسل، فقد أخرجه الطبري ١٧٧٣٦ من وجه آخر عن أبي سلمة قال: نبئت أن عبادة... فذكره. ومع ذلك صححه الحاكم! ووافقه الذهبي! وحسنه الترمذي! مع أن في روايته قول أبي سلمة «نبئت» أي لم يسمعه من عبادة. وورد من وجه آخر أخرجه الطبري ١٧٧٤٠ و ١٧٧٧١ عن حميد بن عبد الله المدني عن عبادة به، وإسناده ضعيف لجهالة حميد هذا. ووثقه ابن حبان وحده على قاعدته في توثيق المجاهيل.
- حديث أبي الدرداء: أخرجه الترمذي ٢٢٧٣ والطبري ١٧٧٣٧ و ١٧٧٣٨ و ١٧٧٣٩ و ١٧٧٤٩ و ١٧٧٥٢ والبيهقي في «الشعب» ٤٧٥٣ من طرق: عن عطاء بن يسار عن رجل من أهل مصر عن أبي الدرداء. «وإسناده ضعيف» فيه راو لم يسم. وحسنه الترمذي، ولعله حسنه لطرقه وشواهده. وأخرجه الطبري ١٧٧٣٢ و ١٧٧٤٨ من وجه آخر عن أبي صالح عن رجل عن أبي الدرداء به مختصرا. وكرره الطبري ١٧٧٥٠ عن أبي صالح عن أبي الدرداء، دون ذكر الرجل وهو منقطع. وكرره ١٧٧٥١ عن عطاء عن أبي الدرداء، دون ذكر الرجل أيضا.
وهو منقطع. وكرره ١٧٧٥٣ عن عمر بن دينار عن رجل من أهل مصر عن أبي الدرداء وهذا ضعيف لجهالة المصري هذا.
- حديث أبي هريرة: أخرجه الطبري ١٧٧٤١ و ١٧٧٤٣، ورجاله ثقات، لكن كرره الطبري ١٧٧٤٢ عن أبي هريرة قوله.
- وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: أخرجه أحمد ٢/ ٢١٩. والطبري ١٧٧٤٤ و ١٧٧٦٩.
والبيهقي ٤٧٥٧ وإسناده ضعيف، لأنه من رواية دراج عن أبي الهيثم. وله شاهد، أخرجه الطبري ١٧٧٥٧.
من طريق نافع بن جبير عن رجل من أصحاب النبي ﷺ به، وجهالة الصحابي لا تضر، لكن فيه عنعنة ابن جريج، وهو مدلس.
الخلاصة: هو حديث حسن بمجموع طرقه وشواهده ولم أقل إنه صحيح بسبب غرابة المتن، إذ البشرى في الآية تدل على أنها أعم من الرؤيا الصالحة. بل الصواب أن الرؤيا هي من البشرى. أي بعض البشرى.
- وقد ذكر الألباني هذا الحديث في «الصحيحة» ١٧٨٦ ولم يستوف الكلام عليه كعادته، بل اختصره ووقع له شيء، وهو أنه عزاه للطبري ١١/ ٩٥ من طريق عاصم بن بهدلة عن أبي صالح قال: سمعت أبا الدرداء...
فذكره. وقال الألباني عقبه: وهذا إسناد حسن.
- قلت: وليس كما قال! والصواب أن أبا صالح لم يسمعه من أبي الدرداء والوهم في لفظ «سمعت» إما من عاصم، فإنه صدوق لكنه يخطئ أو ممن دونه. فقد كرره الطبري من عدة طرق عن أبي صالح عن عطاء بن يسار عن رجل من أهل مصر. وتقدم ذكر هذه الروايات. حتى عطاء لم يسمعه من أبي الدرداء. بدليل ذكر
338
والثاني: أنها بشارة الملائكة لهم عند الموت، قاله الضحاك، وقتادة، والزهري.
والثالث: أنها ما بشّر الله عزّ وجلّ به في كتابه من جنته وثوابه، كقوله: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا «١»، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ «٢»، يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ «٣»، وهذا قول الحسن، واختاره الفرّاء، والزّجّاج، واستدلال بقوله: تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
. قال ابن عباس: لا خُلف لمواعيده، وذلك أن مواعيده بكلماته، فإذا لم تبدَّل الكلمات، لم تبدَّل المواعيد.
فأما بشراهم في الآخرة، ففيها ثلاثة أقوال:
(٧٨٥) أحدها: أنها الجنة، رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، واختارة ابن قتيبة.
والثاني: أنه عند خروج الروح تبشَّر برضوان الله، قاله ابن عباس.
والثالث: أنها عند الخروج من قبورهم، قاله مقاتل.
[سورة يونس (١٠) : آية ٦٥]
وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥)
قوله تعالى: وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ قال ابن عباس: تكذيبهم. وقال غيره: تظاهرهم عليك بالعداوة وإِنكارهم وأذاهم. وتم الكلام هاهنا. ثم ابتدأ فقال: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً أي: الغلبة له، فهو ناصرك وناصر دينك، هُوَ السَّمِيعُ لقولهم: الْعَلِيمُ بإضمارهم، فيجازيهم على ذلك.
[سورة يونس (١٠) : آية ٦٦]
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦)
قوله تعالى: أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ قال الزجاج: أَلا افتتاح كلام وتنبيه، أي: فالذي هم له، يفعل فيهم وبهم ما يشاء. قوله تعالى: وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ أي: ما يتبعون شركاء على الحقيقة، لأنهم يعدُّونها شركاء لله شفعاء لهم، وليست على ما يظنون. إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ في ذلك وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ قال ابن عباس: يكذبون.
وقال ابن قتيبة: يحدسون ويحزرون.
الرجل المصري ثم ذكر حديث أبي هريرة، وعزاه للطبري وجوده ونسبه لمسلم أيضا! والصواب أن مسلما ما رواه بمثل حديث أبي الدرداء. وإنما أخرجه ٢٢٦٣ من حديث أبي هريرة بلفظ «إذا اقترب الزمان، لم تكد رؤيا المسلم تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا، ورؤيا المؤمن جزء من خمس وأربعين جزءا من النبوة، والرؤيا ثلاثة، والرؤيا الصالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزين». فهذا لفظ مسلم، ليس فيه ذكر الآية، ولا استغراق الرؤيا الصالحة لجنس البشرى كما في الأحاديث المتقدمة، فتنبه، والله الموفق. فالحديث غريب من جهة المتن، حسن من جهة الإسناد باعتبار طرقه وشواهده، والله أعلم بالصواب، وانظر «أحكام القرآن» لابن العربي ١٢٤٥ بتخريجنا.
أخرجه الطبري ١٧٧٤٣ وفي إسناده عمار بن محمد، وهو لين الحديث، وانظر ما قبله.
__________
(١) سورة البقرة: ٢٥.
(٢) سورة فصلت: ٣٠.
(٣) سورة التوبة: ٢١.

[سورة يونس (١٠) : آية ٦٧]

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧)
قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ المعنى: إِن ربكم الذي يجب أن تعتقدوا ربوبيته، هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه، فيزول تعب النهار وكلاله بالسكون في الليل، وجعل النهار مبصراً، أي: مضيئاً تبصرون فيه. وإِنما أضاف الإِبصار إِليه، لأنه قد فهم السامع المقصود، إِذ النهار لا يبصر، وإِنما هو ظرف يفعل فيه غيره، كقوله: عِيشَةٍ راضِيَةٍ «١»، إِنما هي مرضية، وهذا كما يقال: ليل نائم، قال جرير:
لقد لُمْتِنا يا أمَّ غَيلانَ في السُّرى ونمتِ وَما ليلُ المطيِّ بِنائمِ «٢»
قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع اعتبار، فيعلمون أنه لا يقدر على ذلك إلّا الإله القادر.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٦٨ الى ٧٠]
قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)
قوله تعالى: قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً قال ابن عباس: يعني أهل مكة، جعلوا الملائكة بنات الله. قوله تعالى: سُبْحانَهُ تنزيه له عما قالوا. هُوَ الْغَنِيُّ عن الزوجة والولد. إِنْ عِنْدَكُمْ أي: ما عندكم مِنْ سُلْطانٍ أي: حجة بما تقولون.
قوله تعالى: لا يُفْلِحُونَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا يبقون في الدنيا. والثاني: لا يسعدون في العاقبة. والثالث: لا يفوزون. قال الزجاج: وهذا وقف التمام، وقوله: مَتاعٌ فِي الدُّنْيا مرفوع على معنى: ذلك متاع في الدّنيا.
[سورة يونس (١٠) : آية ٧١]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١)
قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ فيه دليل على نبوَّته، حيث أخبر عن قصص الأنبياء ولم يكن يقرأ الكتاب، وتحريضٌ على الصبر، وموعظة لِقومه بذكر قوم نوح وما حلَّ بهم من العقوبة بالتكذيب.
قوله تعالى: إِنْ كانَ كَبُرَ أي: عَظُم وشَقَّ عَلَيْكُمْ مَقامِي أي: طول مكثي. وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء، وأبو الجوزاء «مُقامي» برفع الميم. وَتَذْكِيرِي وعظي. فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ في نصرتي ودفع شركم عني. فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ قرأ الجمهور: «فأجمعوا» بالهمز وكسر الميم، من «أجمعتُ».
وروى الأصمعي عن نافع: «فاجمعوا» بفتح الميم، مِن «جمعت». ومعنى «أجمعوا أمركم» : أحكِموا
(١) سورة الحاقة: ٢١.
(٢) في «اللسان» : السّرى: السير ليلا. والمطيّ: جمع مطيّة، وهي الناقة التي يركب مطاها. أي ظهرها. [.....]
أمركم واعزموا عليه. قال المؤرِّج: «أجمعت الأمر» أفصح من «أجمعت عليه»، وأنشد «١» :
يا ليتَ شعري والمنى لا تنفع هل أغدون يوما وأَمري مُجْمَعُ
فأما رواية الأصمعي، فقال أبو علي: يجوز أن يكون معناها: اجمعوا ذوي الأمر منكم، أي:
رؤساءكم. ويجوز أن يكون جعل الأمر ما كانوا يجمعونه من كيدهم الذي يكيدونه، فيكون كقوله:
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا «٢». قوله تعالى: وَشُرَكاءَكُمْ قال الفراء وابن قتيبة: المعنى: وادعوا شركاءكم. وقال الزّجّاج: الواو ها هنا بمعنى «مع»، فالمعنى: مع شركائكم. تقول: لو تُركت الناقة وفصيلها لرضعها، أي: مع فصيلها. وقرأ يعقوب «وشركاؤكم» بالرفع.
قوله تعالى: ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً فيه قولان: أحدهما: لا يكن أمركم مكتوماً، قاله ابن عباس. والثاني: غماً عليكم، كما تقول: كرب وكربة، قاله ابن قتيبة. وذكر الزجاج القولين. وفي قوله: ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ قولان: أحدهما: ثم أقضوا إِليَّ ما في أنفسكم، قاله مجاهد. والثاني: افعلوا ما تريدون، قاله الزجاج، وابن قتيبة. وقال ابن الأنباري: معناه: اقضوا إِليَّ بمكروهكم وما توعدونني به، كما تقول العرب: قد قضى فلان، يريدون: مات ومضى.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٧٢ الى ٧٣]
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣)
قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي: أعرضتم عن الإِيمان. فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ أي: لم يكن دعائي إيّاكم طمعا في أموالكم. وقوله تعالى: إِنْ أَجْرِيَ حرَّك هذه الياء ابن عامر، وأبو عمرو، ونافع، وحفص عن عاصم، وأسكنها الباقون.
قوله تعالى: وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ أي: جعلنا الذين نَجَواْ مع نوح خَلَفاً ممن هلك.
[سورة يونس (١٠) : آية ٧٤]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤)
قوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ أي: من بعد نوح رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ قال ابن عباس: يريد:
إِبراهيم وهوداً وصالحاً ولوطاً وشعيبا. فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي: بان لهم أنهم رسل الله. فَما كانُوا أي: أولئك الأقوام لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا يعني الذين قبلهم. والمراد: أن المتأخرين مَضَواْ على سَنَن المتقدِّمين في التكذيب. وقال مقاتل: فما كانوا ليؤمنوا بما كذَّبوا به من العذاب من قبل نزوله. قوله تعالى: كَذلِكَ نَطْبَعُ أي: كما طبعنا على قلوب أولئك، كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ يعني المتجاوزين ما أمروا به.
(١) ذكره ابن منظور في «اللسان» ولم ينسبه لقائل، ولعله للمؤرج نفسه، حيث قال المصنف: وأنشد المؤرج.
(٢) سورة طه: ٦٤.

[سورة يونس (١٠) : آية ٧٥]

ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥)
قوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ يعني الرّسل الذين أرسلوا بعد نوح.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٧٦ الى ٨٢]
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠)
فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢)
قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا وهو ما جاء به موسى من الآيات.
قوله تعالى: أَسِحْرٌ هذا قال الزجاج: المعنى: أتقولون للحق لما جاءَكم هذا اللفظ، وهو قولهم: إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ. ثم قررهم فقال: أَسِحْرٌ هذا؟. قال ابن الأنباري: إِنما أدخلوا الألف على جهة تفظيع الأمر، كما يقول الرجل إِذا نظر إِلى الكسوة الفاخرة: أكسوة هذه؟ يريد بالاستفهام تعظيمها، وتأتي الرجلَ جائزةٌ، فيقول: أحقٌّ ما أرى؟ معظِّماً لما ورد عليه. وقال غيره: تقدير الكلام:
أتقولون للحق لما جاءكم: هو سحر؟ أسحر هذا؟ فحذف السحر الأولُ اكتفاءً بدلالة الكلام عليه، كقوله: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ «١» المعنى: بعثناهم ليسوؤوا وجوهَكم.
قوله تعالى: أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا قال ابن قتيبة: لتصرفنا. يقال: لفتُّ فلاناً عن كذا: إِذا صرفته. ومنه الالتفات، وهو الانصراف عما كنت مقبلاً عليه. قوله تعالى: وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وروى أبان، وزيد عن يعقوب: «ويكون لكما» بالياء. وفي المراد بالكبرياء ثلاثة أقوال: أحدها: الملك والشّرف، قاله بن عباس. والثاني: الطاعة، قاله الضحاك. والثالث: العلوّ، قاله ابن زيد. قال ابن عباس: والأرض ها هنا: أرض مصر.
قوله تعالى: بِكُلِّ ساحِرٍ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: «بكل سحَّار» بتشديد الحاء وتأخير الألف. وقوله تعالى: ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ قرأ الأكثرون «السحرُ» بغير مدّ، على لفظ الخبر، والمعنى: الذي جئتم به من الحبال والعصيّ، هو السحر، وهذا ردٌّّ لقولهم للحق: هذا سحر، فتقديره:
الذي جئتم به السحر، فدخلت الألف واللام، لأن النكرة إِذا عادت، عادت معرفة، كما تقول: رأيت رجلاً، فقال ليَ الرجل. وقرأ مجاهد، وأبو عمرو، وأبو جعفر، وأبان عن عاصم، وأبو حاتم عن يعقوب: «آلسحر» بمدِّ الألف، استفهاماً. قال الزجاج: والمعنى: أي شيء جئتم به؟ أسحر هو؟ على جهة التوبيخ لهم. وقال ابن الأنباري: هذا الاستفهام معناه التعظيم للسحر، لا على سبيل الاستفهام عن الشيء الذي يُجهل، وذلك مثل قول الإِنسان في الخطأ الذي يستعظمه من إِنسان: أخطأ هذا؟ هو عظيم الشأن في الخطأ. والعرب تستفهم عما هو معلوم عندها، قال امرؤ القيس:
(١) سورة الإسراء: ٧.
أغرَّكِ مِنّي أنّ حُبَّكِ قاتلي وأنَّك مهما تأمري القلبَ يَفْعَلِ
وقال قيس بن ذريح:
أراجعة يا لبن أيامُنا الأُلى بذي الطَّلح أم لا ما لَهُنَّ رجوعُ «١»
فاستفهم وهو يعلم أنهن لا يرجعن.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ أي: يهلكه، ويُظهر فضيحتكم، إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ لا يجعل عملهم نافعاً لهم. وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ أي: يظهره ويمكنِّه، بِكَلِماتِهِ بما سبق من وعده بذلك.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٨٣ الى ٩٢]
فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧)
وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢)
قوله تعالى: فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ في المراد بالذّرّية ها هنا ثلاثة أقوال «٢» : أحدها: أن المراد بالذرّية: القليل. قاله ابن عباس. والثاني: أنهم أولاد الذين أُرسل إِليهم موسى مات آباؤهم لطول الزمان، وآمنوا هم، قاله مجاهد. وقال ابن زيد: هم الذين نشئوا مع موسى حين كفَّ فرعون عن ذبح
(١) في «اللسان» : طلح: اسم موضع. وفي «القاموس» : الطّلح: شجر عظام.
(٢) قال الطبري ٦/ ٥٩١: وأولى هذه الأقوال عندي بتأويل الآية قول مجاهد... لأنه لم يجر في هذه الآية ذكر لغير موسى فلأن تكون «الهاء» في قوله: «من قومه» من ذكر موسى لقربها من ذكره، أولى من أن تكون من ذكر فرعون، لبعد ذكره منها، إذ لم يكن بخلاف ذلك دليل من خبر ولا نظر.
- وقال ابن كثير رحمه الله ٢/ ٥٢٧: وفي هذا نظر لأنه أراد بالذرية: الأحداث والشباب، وأنهم من بني إسرائيل، فالمعروف أن بني إسرائيل كلهم آمنوا بموسى عليه السلام واستبشروا به وقد كانوا يعرفون نعته وصفته، والبشارة به من كتبهم المتقدمة، وأن الله تعالى سينقذهم به من أسر فرعون ويظهرهم عليه، ولهذا لما بلغ هذا فرعون حذر كل الحذر، فلم يجد عنه شيئا ولما جاء موسى آذاهم فرعون أشد الأذى، وقالوا: أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا، قال: عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون» وإذا تقرر هذا فكيف يكون المراد: إلا ذرية من قوم موسى، وهم بنو إسرائيل؟.
343
الغلمان. قال ابن الأنباري: وإِنما قيل لهؤلاء: «ذرية» لأنهم أولاد الذين بُعث إِليهم موسى، وإِن كانوا بالغين. والثالث: أنهم قوم، أُمهاتهم من بني إِسرائيل، وآباؤهم من القبط، قاله مقاتل، واختاره الفراء.
قال: وإِنما سُمُّوا «١» ذريةً كما قيل لأولاد فارس: الأبناء، لأن أُمهاتهم من غير جنس آبائهم. وفي هاء «قومه» قولان: أحدهما: أنها تعود إِلى موسى، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: إِلى فرعون، رواه أبو صالح عن ابن عباس «٢». فعلى القول الأول يكون قوله: عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أي: وملأ فرعون. قال الفرّاء: إنّما قال: «وملئهم» بالجمع، وفرعون واحد، لأن الملك إذا ذُكر ذهب الوهم إِليه وإِلى من معه، تقول: قدم الخليفة فكثر الناس، تريد: بمن معه. وقد يجوز أن يريد بفرعون: آل فرعون، كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «٣». وعلى القول الثاني: يرجع ذِكر الملأ إِلى الذرية. قال ابن جرير: وهذا أصح، لأنه كان في الذرِّيةَ من أبوه قبطي وأُمُّه إِسرائيلية، فهو مع فرعون على موسى.
قوله تعالى: أَنْ يَفْتِنَهُمْ يعني فرعون، ولم يقل: يفتنوهم، لأن قومه كانوا على مَن كان عليه.
وفي هذه الفتنة قولان: أحدهما: أنها القتل، قاله ابن عباس. والثاني: التعذيب، قاله ابن جرير. قوله تعالى: وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ قال ابن عباس: متطاول في أرض مصر وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ حين كان عبداً فادّعى الربوبيَّة.
قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا لمّا شكا بنو إِسرائيل إِلى موسى ما يهددّهم به فرعون من ذبح أولادهم، واستحياء نسائهم، قال لهم هذا.
وفي قوله: لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً ثلاثة أقوال: أحدها: لا تهلكنا بعذاب على أيدي قوم فرعون، ولا بعذاب من قِبَلك، فيقول قوم فرعون: لو كانوا على حق ما عُذّبِوا ولا سُلِّطْنا عليهم. والثاني: لا تسلِّطهم علينا فيفتنونا، والقولان مرويان عن مجاهد. والثالث: لا تسلِّطهم علينا فيفتتنون بنا، لظنهم أنهم على حق، قاله أبو الضحى، وأبو مجلز.
قوله تعالى: أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً قال المفسرون: لما أُرسل موسى، أَمر فرعونُ بمساجد بني إِسرائيل فخُرِّبت كلُّها، ومُنعوا من الصلاة، وكانوا لا يصلُّون إِلا في الكنائس فأُمروا أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلُّون فيها خوفاً من فرعون. و «تبوّءا» معناه: اتّخذا، وقد شرحناه في سورة
(١) قال الطبري رحمه الله ٦/ ٥٩٣: وقد زعم بعض أهل العربية أنه إنما قيل: «فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه» لأن الذين آمنوا به إنما كانت أُمهاتهم من بني إِسرائيل، وآباؤهم من القبط، فقيل لهم «الذرية» من أجل ذلك، كما قيل لأبناء الفرس الذين أمهاتهم من العرب وآباؤهم من العجم «أبناء». والمعروف من معنى (الذرية) في كلام العرب، أنها أعقاب من نسبت إليه من قبل الرجال والنساء، كما قال تعالى ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ (الإسراء: ٣) وكما قال تعالى وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ ثم قال بعد وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ الأنعام ٨٤، ٨٥ فجعل من كان قبل الرجال والنساء من ذرية إبراهيم.
(٢) والذي ذهب إليه الطبري رحمه الله ٦/ ٥٩٢: هو أنه في قوله عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ الدليل الواضح على أن «الهاء» في «قومه» من ذكر موسى، لا من ذكر فرعون، لأنها لو كانت من ذكر فرعون، لكان الكلام عَلى خَوْفٍ منه ولم يكن عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ.
(٣) سورة يوسف ٨٢.
344
الأعراف «١». وفي المراد بمصر قولان: أحدهما: أنه البلد المعروف بمصر، قاله الضحاك. والثاني: أنه الاسكندرية، قاله مجاهد. وفي البيوت قولان: أحدهما: أنها المساجد، قاله الضحاك، والثاني:
القصور، قاله مجاهد.
وفي قوله: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً أربعة أقوال «٢» : أحدها: اجعلوها مساجد، رواه مجاهد، وعكرمة، والضحاك عن ابن عباس، وبه قال النخعي، وابن زيد. وقد ذكرنا أن فرعون أمر بهدم مساجدهم، فقيل لهم: اجعلوا بيوتكم قبلة بدلا من المساجد. والثاني: اجعلوها قِبَل القبلة، رواه العوفي عن ابن عباس. وروى الضحاك عن ابن عباس، قال: قِبَل مكة. وقال مجاهد: أُمروا أن يجعلوها مستقبلة الكعبة، وبه قال مقاتل، وقتادة، والفراء. والثالث: اجعلوها يقابل بعضها بعضاً، وهو مروي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال سعيد بن جبير. والرابع: واجعلوا بيوتكم التي بالشام قبلةً لكم في الصلاة، فهي قبلة اليهود إِلى اليوم، قاله ابن بحر.
فإن قيل: البيوت جمع، فكيف قال: «قبلة» على التوحيد؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري، فقال:
من قال: المراد بالقبلة الكعبة، قال: وحِّدت القبلة لتوحيد الكعبة. قال: ويجوز أن يكون أراد: اجعلوا بيوتكم قِبَلاً، فاكتفى بالواحد من الجميع، كما قال العباس بن مرداس:
فقلنا أسْلِمُوا إنا أخوكم فقد برئت من الإحن الصدور «٣»
يريد: إِنا إِخوتكم. ويجوز أن يكون وحّد «قبلة» لانه أجراها مجرى المصدر، فيكون المعنى:
واجعلوا بيوتكم إِقبالاً على الله، وقصداً لما كنتم تستعملونه في المساجد. ويجوز أن يكون وحَّدها، والمعنى: واجعلوا بيوتكم شيئاً قبلة، ومكاناً قبلة، ومحلة قبلة.
قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ قال ابن عباس: أتموا الصلاة وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أنت يا محمد.
قال سعيد بن جبير: بشِّرهم بالنصر في الدنيا، وبالجنة في الآخرة.
قوله تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا قال ابن عباس: كان لهم من لدن فسطاط مصر إِلى أرض الحبشة جبال فيها معادن ذهب وفضة وزبرجد وياقوت.
قوله تعالى: لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ وفي لام «ليَضِلُّوا» أربعة أقوال: أحدها: أنها لام «كي» والمعنى: آتيتهم ذلك كي يضلوا، وهذا قول الفراء. والثاني: أنها لام العاقبة، والمعنى: إِنك آتيتهم ذلك فأصارهم إِلى الضلال، ومثله قوله: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً أي: آل أمرهم إِلى أن صار لهم عدواً، لا أنهم قصدوا ذلك، وهذا كما تقول للذي كسب مالاً فأدَّاه إِلى الهلاك: إنّما كسب فلان
(١) سورة الأعراف: ٧٤.
(٢) قال الزمخشري رحمه الله في «الكشاف» ٢/ ٣٤٦: تبوّأ المكان: اتخذه مباءة، كقولك، توطنه إذا اتخذه وطنا.
والمعنى: اجعلا بمصر بيوتا من بيوته مباءة لقومكما ومرجعا يرجعون إليه للعبادة والصلاة فيه. وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ تلك قِبْلَةً أي مساجد متوجهة نحو القبلة وهي الكعبة، وكان موسى ومن معه يصلون إلى الكعبة، وكانوا في أول أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم في خفية من الكفرة، لئلا يظهروا عليهم فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم، كما كان المؤمنون على ذلك في أول الإسلام بمكة.
(٣) في «اللسان» : الإحن: الحقد في الصدر.
345
لحتفه، وهو لم يكسب المال طلباً للحتف، وأنشدوا:
وللمنايا تُربِّي كلُّ مُرْضِعَةٍ وللخراب يُجِدُّ الناسُ عمرانا «١»
وقال آخر:
وللموتِ تغذُو الوالداتُ سِخالَها كما لخراب الدُّور تُبنى المساكِنُ «٢»
وقال آخر:
فإن يكُنِ الموتُ أفناهم فللموت ما تَلِدُ الوالده
أراد: عاقبة الأمر ومصيره إِلى ذلك، هذا قول الزجاج. والثالث: أنها لام الدعاء، والمعنى: ربنا ابتلهم بالضلال عن سبيلك، ذكره ابن الأنباري. والرابع: أنها لام أجْل، فالمعنى: آتيتهم لأجل ضلالتهم عقوبةً منك لهم، ومثله قوله: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ «٣» أي:
لأجل إِعراضكم، حكاه بعض المفسرين. وقرأ أهل الكوفة إِلا المفضل، وزيد، وأبو حاتم عن يعقوب: «ليُضِلُّوا» بضم الياء، أي: ليُضلُّوا غيرهم.
قوله تعالى: رَبَّنَا اطْمِسْ روى الحلبي عن عبد الوارث: «اطمُس» بضم الميم، عَلى أَمْوالِهِمْ وفيه قولان: أحدهما: أنها جُعلت حجارة، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والضحاك، وأبو صالح، والفراء. وقال القرظي: جُعِل سُكَّرهُم حجارة. وقال ابن زيد: صار ذهبهم ودراهمهم وعدسهم وكل شيء لهم حجارة. وقال مجاهد: مسخ الله النخل والثمار والأطعمة حجارة، فكانت إِحدى الآيات التسع. وقال الزجاج: تطميس الشيء: إِذهابه عن صورته والانتفاعِ به على الحال الأولى التي كان عليها. والثاني: أنها هلكت، فالمعنى: أهلكْ أموالهم، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، ومنه يقال: طُمست عينه، أي: ذهبتْ، وطُمس الطريق: إِذا عفا ودرس. وفي قوله: وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ أربعة أقوال: أحدها: اطبع عليها، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مقاتل، والفراء، والزجاج. والثاني: أهلكهم كفاراً، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الضحاك. والثالث: اشدد عليها بالضلالة، قاله مجاهد. والرابع: أن معناه: قسِّ قلوبهم، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: فَلا يُؤْمِنُوا فيه قولان:
أحدهما: أنه دُعَاءٌ عليهم أيضاً، كأنه قال: اللهم فلا يؤمنوا، قاله الفراء، وأبو عبيدة، والزجاج.
وقال ابن الأنباري: معناه: فلا آمنوا، قال الأعشى:
فلا ينْبَسِطْ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْكَ ما انْزَوى ولا تَلْقني إِلاّ وأنفُكَ راغِمُ»
معناه: لا أنبسط، ولا لقيتني. والثاني: أنه عطف على قوله: لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ، فالمعنى:
أنك آتيتهم ليَضلُّوا فلا يؤمنوا، حكاه الزّجّاج عن المبرّد.
(١) البيت من البسيط لم أهتد لقائله.
(٢) في «اللسان» : سخالها: السخل هو المولود المحبب إلى أبويه وهو في الأصل ولد الغنم.
(٣) سورة التوبة: ٩٥. [.....]
(٤) ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «زوي»، وزوى ما بين عينيه فانزوى: جمعه فاجتمع وقبضه.
346
قوله تعالى: حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ قال ابن عباس: هو الغرق، وكان موسى يدعو، وهارون يؤمِّن، فقال الله تعالى: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما وكان بين الدعاء والإِجابة أربعون سنة.
فان قيل: كيف قال: دَعْوَتُكُما وهما دعوتان؟ فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أن الدعوة تقع على دعوتين وعلى دَعَواتٍ وكلامٍ يطول كما بيّنّا في سورة الأعراف «١» أن الكلمة تقع على كلمات، قال الشاعر «٢» :
وكان دعا دعوةً قومَه هلمَّ إِلى أمركم قد صُرِم
فأوقع «دعوة» على ألفاظ بيَّنها آخر بيته. والثاني: أن يكون المعنى: قد أُجيبت دعواتكما، فاكتفى بالواحد من ذِكر الجميع، ذكر الجوابين ابن الأنباري. وقد روى حماد بن سلمة عن عاصم أنه قرأ:
«دَعَواتُكما» بالألف وفتح العين. والثالث: أن موسى هو الذي دعا، فالدعوة له، غير أنه لما أمَّن هارون، أُشرك بينهما في الدعوة، لأنّ التّأمين على الدّعوة منهما.
وفي قوله تعالى: فَاسْتَقِيما أَربعة أقوال: أحدها: فاستقيما على الرسالة وما أمرتكما به، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: فاستقيما على دعاء فرعون وقومه إِلى طاعة الله، قاله ابن جرير.
والثالث: فاستقيما في دعائكما على فرعون وقومه. والرابع: فاستقيما على ديني، ذكرهما أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعانِّ قرأ الأكثرون بتشديد تاء «تتَّبعانِّ». وقرأ ابن عامر بتخفيفها مع الاتفاق على تشديد نون «تَتَّبعانّ» إِلا أنّ في بعض الرّوايات عن ابن عامر تخفيف. قال الزّجّاج: موضع «تتبعان» جزم، إِلا أن النون الشديدة دخلت للنهي مؤكِّدة، وكسرت لسكونها ولسكون النون التي قبلها، واختير لها الكسر لأنها بعد الألف، فشُبهت بنون الاثنين. قال أبو علي: ومن خفض النون أمكن أن يكون خفف النون الثقيلة، فإن شئت كان على لفظ الخبر، والمعنى الأمر، كقوله: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ «٣» ولا تُضَارَّ والِدَةٌ «٤» أي: لا ينبغي ذلك، وإِن شئت جعلته حالاً من قوله: فَاسْتَقِيما تقديره:
استقيما غير متَّبِعَين. وفي المراد بسبيل الذين لا يعلمون قولان: أحدهما: أنهم فرعون وقومه، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: الذين يستعجلون القضاء قبل مجيئه ذكره أبو سليمان الدمشقي.
فإن قيل: كيف جاز أن يدعوَ موسى على قومه؟
فالجواب: أن بعضهم يقول: كان ذلك بوحي، وهو قول صحيح، لأنه لا يُظن بنبيّ أن يُقدِم على مثل ذلك إلّا عن إذن من الله عزّ وجلّ، لأن دعاءه سبب للانتقام.
قوله تعالى: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ قال أبو عبيدة: أتبعهم وتبعهم سواء. وقال ابن قتيبة:
أتبعهم لحقهم. بَغْياً وَعَدْواً أي: ظلماً. وقرأ الحسن «فاتَّبعهم» بالتشديد، وكذلك شددوا «وعُدُوّاً» مع ضم العين. قوله تعالى: حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ قرأ ابن كثير ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر «أنه» بفتح الألف، والمعنى: آمنت بأنه، فلما حُذف حرف الجر، وصل الفعل
(١) الآية ١٥٨.
(٢) البيت للأعشى كما في ديوانه/ ٤٣. وفي «اللسان» صرم: من الصريمة وهي العزيمة على الشيء وقطع الأمر.
(٣) سورة البقرة: ٢٢٨.
(٤) سورة البقرة: ٢٣٣.
347
إِلى «أنَّ» فنُصب. وقرأ حمزة والكسائي «إِنه» بكسر الألف، فحملوه على القول المضمر، كأنه قال:
آمنت، فقلت: إِنه. قال ابن عباس: لم يقبل الله إِيمانه عند رؤية العذاب. قال ابن الأنباري: جنح فرعون إِلى التوبة حين أُغلق بابها لحضور الموت ومعاينة الملائكة، فقيل له: (آلآن) أي: الآن تتوب وقد أضعت التوبة في وقتها، وكنت من المفسدين بالدّعاء إلى عبادة غير الله تعالى؟ والمخاطب له بهذا كان جبريل عليه السلام.
(٧٨٦) وجاء في الحديث «أن جبريل جعل يدسُّ الطين في فم فرعون خشية أن يُغفرَ له».
قال الضّحّاك بن قيس: اذكروا الله في الرَّخاء يذكرْكم في الشدة، إِن يونس عليه السلام كان عبداً صالحاً، وكان يذكر الله، فلما وقع في بطن الحوت سأل الله، فقال الله: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ «١» وإِن فرعون كان عبداً طاغياً ناسياً لذِكر الله تعالى، فلما أدركه الغرق قال: آمنت، فقال الله: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ.
قوله تعالى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ وقرأ يعقوب «نُنْجيك» مخففة. قال اللغويون، منهم يونس وأبو عبيدة: نُلقيك على نجوة من الأرض، أي: ارتفاع، ليصير عَلَماً أنه قد غرق. وقرأ ابن السميفع «ننحِّيك» بحاء. وفي سبب إِخراجه من البحر بعد غرقه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن موسى وأصحابه لما خرجوا، قال من بقي من المدائن من قوم فرعون: ما غرق فرعون، ولكنه هو وأصحابه يتصيدون في جزائر البحر، فأوحى الله إِلى البحر أن الفظ فرعون عرياناً، فكانت نجاةَ عِبرةٍ، وأوحى الله تعالى إِلى البحر: أن الفظ ما فيك، فلفظهم البحر بالساحل، ولم يكن يلفظ غريقاً، إِلى يوم القيامة، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثاني: أن أصحاب موسى قالوا: إِنا نخاف أن يكون فرعون ما غرق، ولا نؤمن بهلاكه، فدعا موسى ربه، فأخرجه حتى أيقنوا بهلاكه، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وإِلى نحوه ذهب قيس بن عُبَاد، وعبد الله بن شداد، والسدي، ومقاتل. وقال السدي: لما قال بنو إِسرائيل: لم يغرق فرعون،
حديث قوي من جهة الإسناد بطرقه وشواهده، لكن في المتن غرابة، وقد ورد موقوفا، ولعله أشبه. والله أعلم. أخرجه الترمذي ٣١٠٨، والنسائي في «التفسير» ٢٥٨، وأحمد ١/ ٢٤٠ و ٣٤٠، والطيالسي ٢٦١٨ والطبري ١٧٨٥٨ و ١٧٨٦٢، والحاكم ١/ ٥٧ و ٢/ ٣٤٠ و ٤/ ٢٤٩، وابن حبان ٦٢١٥ من طريق شعبة عن عطاء بن السائب، وعن عدي بن ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، صححه الحاكم وقال: على شرطهما إلا أن أكثر أصحاب شعبة أوقفوه على ابن عباس. ووافقه الذهبي. وقال الترمذي: حسن صحيح غريب.
وصححه الحافظ في «تخريج الكشاف» ٢/ ٣٦٨. وأطال الكلام في هذا الشأن ورد فيه على الزمخشري حيث استنكر الحديث ووهنه. وورد من وجه آخر أخرجه الترمذي ٣١٠٧، وأحمد ١/ ٢٤٥- ٣٠٩ والطبراني ١٢٩٣٢ والطبري ١٧٨٧٥، والطيالسي ٢٦٩٣ ومداره على علي بن زيد وهو ضعيف. وله شاهد من حديث أبي هريرة، أخرجه الطبري ١٧٨٧٤ وابن عدي ٢/ ٧٨٨، وفيه كثير بن زاذان، وهو مجهول. وورد من وجه آخر أخرجه الطبراني في «الأوسط» كما في «المجمع» ١١٠٧٠ وفيه قيس بن الربيع قال الهيثمي: وثقه شعبة والثوري وضعفه جماعة.
__________
(١) سورة الصافات: ١٤٣- ١٤٤.
348
دعا موسى، فخرج فرعون في ستمائة ألف وعشرين ألفاً عليهم الحديد «١»، فأخذته بنو إِسرائيل يمثِّلون به. وذكر غيره أنه إِنما أخرج من البحر وحده دون أصحابه. وقال ابن جريج: كذَّب بعض بني إِسرائيل بغرقه، فرمى به البحر على ساحل البحر حتى رآه بنو إِسرائيل قُصَيِّراً أحمر كأنه ثور. وقال أبو سليمان:
عرفه بنو إِسرائيل بدرع كان له من لؤلؤ لم يكن لأحد مثلها. فأما وجهه فقد غيَّره سخط الله تعالى.
والثالث: أنه كان يدَّعي أنه ربٌّ، وكان يعبده قوم، فبيَّن الله تعالى أمره، فأغرقه وأصحابه، ثم أخرجه من بينهم، قاله الزجاج.
وفي قوله تعالى: بِبَدَنِكَ أربعة أقوال: أحدها: بجسدك من غير روح، قاله مجاهد. وذِكر البدن دليل على عدم الروح. والثاني: بدرعك، قاله أبو صخر. وقد ذكرنا أنه كانت له درع من لؤلؤ، وقيل: من ذهب، فعُرِف بدرعه. والثالث: نلقيك عرياناً، قاله الزجاج. والرابع: ننجِّيك وحدك، قاله ابن قتيبة. وفي قوله: لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ثلاثة أقوال: أحدها: لتكون لمن بعدك في النكال آية لئلا يقولوا مثل مقالتك، فإنك لو كنت إِلهاً ما غرقت، قاله أبو صالح عن ابن عباس. قال أبو عبيدة:
خَلْفَكَ بمعنى بعدك، والآية: العلامة. والثاني: لتكون لبني إِسرائيل آية، قاله السدي. والثالث: لمن تخلّف من قومه، لأنهم أنكروا غرقه على ما ذكرنا في أول الآية، فخرج في معنى الآية قولان:
أحدهما: عبرة للناس. والثاني: علامة تدل على غرقه. وقال الزجاج: الآية أنه كان يدَّعي أنه ربٌّ، فبان أمره، وأخرج من بين أصحابه لما غرقوا. وقرأ ابن السميفع، وابو المتوكل، وأبو الجوزاء «لمن خلقك» بالقاف.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٩٣ الى ٩٧]
وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧)
قوله تعالى: وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ أي: أنزلناهم منزل صدق، أي منزلاً كريما. وفي المراد ببني إِسرائيل قولان. أحدهما: أصحاب موسى. والثاني: قريظة والنضير. وفي المراد بالمنزل الذي أُنزلوه خمسة أقوال: أحدها: أنه الأردن، وفلسطين، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: الشام، وبيت المقدس، قاله الضحاك وقتادة. والثالث: مصر، روي عن الضحاك أيضاً. والرابع: بيت المقدس، قاله مقاتل. والخامس: ما بين المدينة والشام من أرض يثرب، ذكره علي بن أحمد النيسابوري. والمراد بالطيبات: ما أُحل لهم من الخيرات الطيبة. فَمَا اخْتَلَفُوا يعني بني إسرائيل. قال ابن عباس: ما اختلفوا في محمد، لم يزالوا به مصدِّقين، حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ يعني: القرآن، وروي عنه:
حتى جاءهم العلم، يعني محمداً. فعلى هذا يكون العلم ها هنا: عبارة عن المعلوم. وبيان هذا أنه لما
(١) فيه مبالغة من حيث عدد جيش فرعون، والظاهر أنه من مجازفات الإسرائيليين.
جاءهم، اختلفوا في تصديقه، وكفر به أكثرهم بغياً وحسداً بعد أن كانوا مجتمعين على تصديقه قبل ظهوره.
قوله تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ في تأويل هذه الآية ثلاثة أقوال:
أحدها: أنّ الخطاب للنبيّ ﷺ والمراد غيره من الشاكّين، بدليل قوله في آخر السورة: إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي «١»، ومثله قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً «٢» ثم قال تعالى: بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً «٣» ولم يقل: بما تعمل، وهذا قول الأكثرين.
والثاني: أن الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو المراد به. ثم في المعنى قولان: أحدهما: أنه خوطب بذلك وإن لم يكن في شك، لأنه من المستفيض في لغة العرب أن يقول الرجل لولده: إن كنت ابني فبِرَّني، ولعبده: إِن كنت عبدي فأطعني، وهذا اختيار الفراء.
(٧٨٧) وقال ابن عباس: لم يكن رسول الله ﷺ في شك، ولا سأل. والثاني: أن تكون «إِن» بمعنى «ما» فالمعنى: ما كنت في شكّ فَسْئَلِ، المعنى: لسنا نريد أن نأمرك أن تسأل لأنك شاكّ، ولكن لتزداد بصيرة، ذكره الزجاج.
والثالث: أن الخطاب للشاكّين، فالمعنى: إِن كنت أيها الإِنسان في شك مما أُنزل إليك على لسان محمد، فَسَلْ، روي عن ابن قتيبة.
وفي الذي أنزل إِليه قولان: أحدهما: أنه أُنزل إِليه أنه رسول الله. والثاني: أنه مكتوب عندهم في التوراة والإِنجيل.
قوله تعالى: فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ وهم اليهود والنصارى. وفي الذين أُمر بسؤالهم منهم قولان: أحدهما: من آمن منهم، كعبد الله بن سلام، قاله ابن عباس، ومجاهد في آخرين. والثاني: أهل الصدق منهم، قاله الضحاك، وهو يرجع إِلى الأول، لأنه لا يَصْدق إلا من آمن.
قوله تعالى: لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ هذا كلام مستأنف.
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ أي: وجبت عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ أي: قوله. وبماذا حقت الكلمة عليهم؟ فيه أربعة أقوال: أحدها: باللعنة. والثاني: بنزول العذاب. والثالث: بالسَّخط. والرابع:
بالنقمة. قوله تعالى: وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ، قال الأخفش: إِنما أنَّث فعل «كل» لأنه أضافه إلى «آية» وهي مؤنّثة.
[سورة يونس (١٠) : آية ٩٨]
فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨)
أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في «المختارة» كما في «الدر» ٣/ ٥٧١. عن ابن عباس به، ولم أقف على إسناده لكن الظاهر أنه لا بأس به حيث اختاره الضياء، وقد ورد مرفوعا صريحا.
وأخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» ١١٧٣، والطبري ١٧٩٠٧ و ١٧٩٠٨ عن قتادة بلاغا وهو ضعيف لإرساله، ومراسيل قتادة واهية، والصواب أنه من كلام قتادة كما في الرواية الأولى، ولا يصح رفعه. والله أعلم.
__________
(١) سورة يونس: ١٠٥.
(٢) سورة الأحزاب: ٢.
(٣) سورة الأحزاب: ٣.
350
قوله تعالى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ أي: أهل قرية. وفي «لولا» قولان:
أحدهما: أنه بمعنى لم تكن قرية آمنت فَنَفَعَها إِيمانُها أي قُبِلَ منها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ، قاله ابن عباس. وقال قتادة: لم يكن هذا لأمة آمنت عند نزول العذاب إِلا لقوم يونس.
والثاني: أنها بمعنى: فهلاّ، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج. قال الزجاج: والمعنى: فهلاّ كانت قرية آمنت في وقت نفعها إيمانها، إلّا قوم يونس؟ وإِلَّا ها هنا استثناء ليس من الأول، كأنه قال: لكن قومُ يونس. قال الفراء: نُصب القوم على الانقطاع مما قبله، ألا ترى أن «ما» بعد «إِلا» في الجحد يتبع ما قبلها؟ تقول: ما قام أحد إِلا أخوك، فإذا قلت: ما فيها أحد إِلا كلباً أو حماراً، نصبتَ، لانقطاعهم من الجنس، كذلك كان قوم يونس منقطعين من غيرهم من أمم الأنبياء، ولو كان الاستثناء وقع على طائفة منهم لكان رفعاً. وذكر ابن الأنباري في قوله: «إِلا» قولين آخرين. أحدهما: أنها بمعنى الواو، والمعنى: وقوم يونس لما آمنوا فعلنا بهم كذا وكذا، وهذا مروي عن أبي عبيدة، والفراء ينكره.
والثاني: أن الاستثناء من الآية التي قبل هذه، تقديره: حتى يروا العذاب الأليم إِلا قوم يونس، فالاستثناء على هذا متصل غير منقطع.
قوله تعالى: كَشَفْنا عَنْهُمْ أي: صرفنا عنهم عَذابَ الْخِزْيِ أي: عذاب الهوان والذل وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ أي: إِلى حين آجالهم «١».
(الإِشارة إِلى شرح قصتهم) ذكر أهل العلم بالسِّيَر والتفسير أن قوم يونس كانوا ب «نينوى» من أرض الموصل، فأرسل الله عزّ وجلّ إليهم يونس يدعوهم إلى الله ويأمرهم بترك الأصنام، فأبوا، فأخبرهم أن العذاب مصبِّحهم بعد ثلاث، فلما تغشَّاهم العذاب، قال ابن عباس، وأنس: لم يبق بين العذاب وبينهم إِلا قدر ثلثي ميل، وقال مقاتل: قدر ميل، وقال أبو صالح عن ابن عباس: وجدوا حرَّ العذاب على أكتافهم، وقال سعيد بن جبير: غشيهم العذاب كما يغشى الثوبُ القبرَ، وقال بعضهم: غامت السماء غيماً أسود يُظهر دخانا شديداً، فغشي مدينتهم، واسودَّت سطوحهم، فلما أيقنوا بالهلاك لبسوا المسوح «٢»، وحَثَوْا على رؤوسهم الرماد، وفرقوا بين كل والدة وولدها من الناس والأنعام، وعجّوا إلى الله تعالى بالتوبة الصادقة، وقالوا: آمنا بما جاء به يونس، فاستجاب الله منهم. قال ابن مسعود: بلغ من توبتهم أن ترادَّوا المظالم بينهم، حتى ان كان الرجل ليأتي إلى الحجر قد وضع عليه أساس بنيانه فيقتلعه، فيرده، وقال أبو الجلْد: لما غشيهم العذاب، مشَوا إِلى شيخ من بقية علمائهم، فقالوا: ما ترى؟ قال: قولوا:
يا حيُّ حين لا حيَّ، يا حيُّ مُحيي الموتى، يا حيُّ لا إِله إِلا أنت، فقالوها، فكُشف العذاب عنهم. قال
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٢/ ٥٣٣: واختلف المفسرون: هل كشف عنهم العذاب الأخروي مع الدنيوي؟ أو إنما كشف عنهم في الدنيا فقط؟ على قولين، أحدهما: إنما كان ذلك في الحياة الدنيا، كما هو مقيد في هذه الآية. وقال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» ٨/ ٣٤٢: قيل: إلى أجلهم قاله السّدي وقيل: إلى أن يصيروا إلى الجنة أو إلى النار، قاله ابن عباس.
(٢) المسوح: الثياب الخشنة، وفي «اللسان» المسيح: المنديل الأخشن.
351
مقاتل: عجّوا إِلى الله أربعين ليلة، فكُشف العذاب عنهم. وكانت التوبة عليهم في يوم عاشوراء يوم الجمعة. قال: وكان يونس قد خرج من بين أظهرهم، فقيل له: ارجع إِليهم، فقال: كيف أرجع إِليهم فيجدوني كاذبا؟ وكان مَن يكذب بينهم ولا بيِّنة له يُقتَل، فانصرف مغاضباً، فالتقمه الحوت. وقال أبو صالح عن ابن عباس: أوحى الله إِلى نبي من أنبياء بني إِسرائيل يقال له شَعيا، فقيل له: ائت فلاناً الملِك، فقل له يبعث إِلى بني إِسرائيل نبياً قوياً أميناً، وكان في مملكته خمسة من الأنبياء، فقال الملك ليونس: اذهب إِليهم، فقال: ابعث غيري، فعزم عليه أن يذهب، فأتى بحر الروم، فركب سفينة، فالتقمه الحوت، فلما خرج من بطنها أُمر أن ينطلق إلى قومه فانطلق نذيراً لهم، فأبَوْا عليه، فوعدهم بالعذاب، وخرج، فلما تابوا رُفع عنهم. والقول الأول أثبت عند العلماء، وأنه إِنما التقمه الحوت بعد إِنذاره لهم وتوبتهم. وسيأتي شرح قصته في التقام الحوت إِياه في مكانه إِن شاء الله تعالى.
فإن قيل: كيف كُشف العذاب عن قوم يونس بعد إِتيانه إِليهم، ولم يُكشَف عن فرعون حين آمن؟
فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن ذلك كان خاصاً لهم كما ذكرنا في أول الآية. والثاني: أن فرعون باشره العذاب، وهؤلاء دنا منهم ولم يباشرهم، فكانوا كالمريض يخاف الموت ويرجو العافية، فأما الذي يعاين، فلا توبة له، ذكره الزجاج. والثالث: أن الله تعالى علم منهم صدق النيات، بخلاف مَن تقدَّمهم من الهالكين، ذكره ابن الأنباري.
[سورة يونس (١٠) : آية ٩٩]
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩)
قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ قال ابن عباس: كان رسول الله ﷺ حريصاً على إِيمان جميع الناس، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إِلا من سبقت له السعادة. قال الأخفش: جاء بقوله:
«جميعا» مع «كل» تأكيداً كقوله: وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ «١».
قوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ قال المفسرون، منهم مقاتل: هذا منسوخ بآية السيف.
والصحيح أنه ليس ها هنا نسخ، لأن الإِكراه على الإِيمان لا يصح، لأنه عمل القلب.
[سورة يونس (١٠) : آية ١٠٠]
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠)
قوله تعالى: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فيه ستة أقوال: أحدها: بقضاء الله وقدره.
والثاني: بأمر الله؟ رُويا عن ابن عباس. والثالث: بمشيئة الله، قاله عطاء والرابع: إِلا أن يأذن الله في ذلك، قاله مقاتل. والخامس: بعلم الله. والسادس: بتوفيق الله، ذكرهما الزجاج، وابن الأنباري. قوله تعالى: وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ أي: ويجعل الله الرجسَ. وروى أبو بكر عن عاصم «ونجعل الرجس» بالنون. وفيه خمسة أقوال: أحدها: أنه السخط، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: الإِثم والعدوان، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أنه ما لا خير فيه، قاله مجاهد. والرابع: العذاب، قاله الحسن، وأبو عبيدة، والزجاج. والخامس: العذاب والغضب، قاله الفراء. قوله تعالى: عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ أي: لا يعقلون عن الله أمره ونهيه. وقيل: لا يعقلون حججه ودلائل توحيده.
(١) سورة النحل: ٥١.

[سورة يونس (١٠) : آية ١٠١]

قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١)
قوله تعالى: قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال المفسّرون: قل للمشركين الذين يسألونك الآيات على توحيد الله: انظروا بالتفكر والاعتبار ماذا في السّماوات والأرض من الآيات والعبر التي تدل على وحدانيته ونفاذ قدرته كالشمس، والقمر، والنجوم، والجبال، والشجر، وكلُّ هذا يقتضي خالقاً مدبراً. وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ في علم الله.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١٠٢ الى ١٠٣]
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣)
قوله تعالى: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ قال ابن عباس: يعني كفار قريش. إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قال ابن الأنباري: أي: مثل وقائع الله بمن سلف قبلهم، والعرب تكني بالأيام عن الشرور والحروب، وقد تقصد بها أيامَ السرور والأفراح إِذا قام دليل بذلك.
قوله تعالى: قُلْ فَانْتَظِرُوا هلاكي إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ لنزول العذاب بكم. ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا من العذاب إِذا نزل، فلم يَهلك قوم قط إِلا نجا نبيهم والذين آمنوا معه. قوله تعالى: كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ وقرأ يعقوب، وحفص، والكسائي في قراءته وروايته عن أبي بكر: «ننجِ المؤمنين» بالتخفيف. ثم في هذا الإِنجاء قولان:
أحدهما: ننجيهم من العذاب إِذا نزل بالمكذِّبين، قاله الربيع بن أنس.
والثاني: ننجيهم في الآخرة من النار، قاله مقاتل.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٦]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦)
قوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قال ابن عباس: يعني أهل مكة إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي الإِسلام فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وهي الأصنام وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يقدر أن يميتكم. وقال ابن جرير: معنى الآية: لا ينبغي لكم أن تشكُّوا في ديني، لأني أعبد الله الذي يميت وينفع ويضر، ولا تُستَنكرُ عبادة مَنْ يفعل هذا، وإِنما ينبغي لكم أن تشكُّوا وتُنكروا ما أنتم عليه من عبادة الأصنام التي لا تضرُّ ولا تنفَعُ. فإن قيل: لم قال: الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ ولم يقل: «الذي خلقكم» ؟ فالجواب: أن هذا يتضمن تهديدهم، لأن ميعاد عذابهم الوفاة.
قوله تعالى: وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ المعنى: وأُمرت أن أقم وجهك، وفيه قولان:
أحدهما: أخلص عملك. والثاني: استقم باقبالك على ما أُمرت به بوجهك.
وفي المراد بالحنيف ثلاثة أقوال. أحدها: أنه المتَّبِع، قاله مجاهد. والثاني: المُخلِص، قاله عطاء. والثالث: المستقيم، قاله القرظي قوله تعالى: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ إِن دعوته وَلا
يَضُرُّكَ إِن تركتَ عبادته. و «الظالم» الذي يضع الشيء في غير موضعه.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١٠٧ الى ١٠٩]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩)
قوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ أي: بشدة وبلاءٍ فَلا كاشِفَ لذلك إِلَّا هُوَ دون ما يعبده المشركون من الأصنام. وإِن يصبك بخير، أي: برخاء ونعمة وعافية، فلا يقدر أحد أن يمنعك إِياه. يُصِيبُ بِهِ أي: بكل واحد من الضُّر والخير.
قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فيه قولان:
أحدهما: أنه القرآن. والثاني: محمّد صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي: فإنما يكون وبال ضلاله على نفسه.
قوله تعالى: وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أي: في منعكم من اعتقاد الباطل، والمعنى: لست بحفيظ عليكم من الهلاك كما يحفظ الوكيل المتاع من الهلاك. قال ابن عباس: وهذه منسوخة بآية القتال، والتي بعدها أيضاً، وهي قوله: وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ لأن الله تعالى حكم بقتل المشركين، والجزيةِ على أهل الكتاب، والصّحيح: أنه ليس ها هنا نسخ. أما الآية الأولى، فقد ذكرنا الكلام عليها في نظيرتها في «الأنعام» «١» وأما الثانية، فقد ذكرنا نظيرتها في سورة «البقرة» قوله: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ «٢».
(١) سورة الأنعام: ١٠٧. [.....]
(٢) سورة البقرة: ١٠٩.
Icon