ﰡ
٢ - (لَا رَيْبَ فِيهِ (٢).. ابن هشام المصري: قول بعضهم: الوقف على (ريب)، يرده قوله تعالى في سورة السجدة: (لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
انظر: " شرح تلخيص المفتاح " للتفتازاني " ص: ١٧٢.
٣ - (ومما رزقناهم ينفقون). يستدل به من يقول: إن الحرام ليس برزق؛ لأن الآية خرجت مخرج الثناء.
ويجاب: بأن " من " للتبعيص أي: ينفقون بعض رزقهم، وذلك البعض هو الحلال.
٧ - (ختم الله على قلوبهم..)، إن قلت: لِمَ خصّ الختم بالقلب، والسمع، وخص الغشاوة بالأبصار؟.
قلت: ؛ لأن الغشاوة كافية في المنع من الإِبصار، وهي غير مانعة
من إدراك القلب، والسمع، والمانع من إدراكهما إنما هو الختم.
أجيب بوجهين:
إما بأن يزاد في جواهر القلب جواهر أُخر يكون محلًا للمزيد أو يُزاد في أزمنة المرض كما يفهم أن صبغ هذا الثوب أقوى من صبغ هذا بمعنى: أنه صبغ في زمن أطول من زمن صبغ الآخر. وهذا المعنى قد تكرر في مواضع من القرآن في سورة آل عمران ١٧٣، (فزادهم إيمانًا)، وفي سورة الأنفال ٢، (زادتهم إيمانًا..)، وفي براءة ١٢٥ (فزادتهم رجسًا) وفي مريم ٧٦، (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى)، وفي سورة النحل ٨٨، (زدناهم عذابا فوق العذاب)، وفي الأحزاب ٣٠، (يضاعف لها العذاب ضعفين)، وفي الفتح ٤، (ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم)، وفي القتال ١٧، (والذين اهتدوا زادهم هدى)، وفي المدثر ٣١، (ويزداد الذين آمنوا إيمانًا).
١٧ - (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ..). الآمدي: منع المعتزلة إطلاق لفظ " الترك " على الله تعالى، وأجازه أهل السنة، لقوله تعالى: (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ)...
٢٥ - (وبَشِّر..). ابن هشام المصري: عطف الإِنشاء على الخبر، والعكس مَنَعَه البيانيون، وابن مالك في شرح باب المفعول معه من كتاب " التسهيل "، وابن عصفور في " شرح الإِيضاح "، ونقله عن
وأجازه الصفار، وجماعة مستدلين بهذه الآية، ومثلها في الصف.
وقال الزمخشري في هذه الآية: ليس المعتمد بالعطف الأمر حتى ٣ - ١ يطلب له مُشَاكِل، بل المراد عطف جملة ثواب المؤمنين على جملة عذاب الكافرين كقولك:: " زيد يعاقب بالقيد، وبشِّر فلانًا بالإطلاق "، وجوَّز عطفه على (اتقوا). وأتم من كلامه في الجواب الأول أن يقال: المعتمد بالعطف جملة الثواب كما ذكر، ويزاد عليه فيقال: والكلام منظور فيه إلى المعنى الحاصل منه، وكأنه قيل: والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات فبشرهم.
وقال السكاكي: الأمر معطوف على " قل ". مقدَّره قبل (يا أيها) وحذف القول كثير.
وقيل: " معطوف على أمر محذوف تقديره: " فأنذر ".
واستدلال أبي حيان بأن سيبويه: أجاز " جاءني زيد، ومَنْ عمرو العاقلان "، على أن يكون العاقلان خبر المحذوف. غلط. إنما قال سيبويه: واعلم أنه لا يجوز: " مَن عبد الله، وهذا زيد الرجلين الصالحين " رفعت أو نصبت؛ لأنك لا تُثْني إلا على من أثْبَتَّه، وعلمتَه، ولا يجوز أن تخلط من تعلم ومن لا تعلم فتجَعلهما بمنزلة واحدة.
وردّه ابن السِّيد بأنه إنما يفيد الكثرة في أنها محتملاته، وهو العشرة، ويصير صريحًا فيها كـ (الصالحات) هنا.
- (جنات). تحتمل التوزيع أو لكل واحد جنات.
- (ولهم فيها..). مجيء هذين المجرورين متلاحقين دليل لمن يجيزه من البيانيين.
- (أزواج مطهرة). أبو حيان: استغنى بجمع القلة فيه؛ لقلة استعمال جمع الكثرة فيه، وهو زوجات.
الْمُبرّد في " المقتضب ": جمع التكسير يصح أن يجرى على المفرد؛ لأنه
يعرب بالحركات كالمفرد.
أجيب: بأنها للتبيين، والمراد قوم مخصوصون.
٢٨ - (فَأَحْيَاكُمْ) عُطِفَ بالفاء، وما بعده بـ (ثم)؛ لأن المراد بهذا الإحياء الإِيجاد من عدم، وهو أصعب عند العقل من إعادة ما سبق وجوده، فدلت الفاء على أن ذلك بالنسبة إلى قدرة الله أسهل.
وأجاب الزمخشري بغير هذا.
٢٩ - (خلق لكم). قول أبي حيان: قيل اللام، للسبب. لا يصح على مذهب أهل السنة في عدم تعليل أفعال الله تعالى، وهو كقول الزمخشري: " لأجلكم ". وكونها للتمليك بناء على أن الأشياء على الإباحة.
قال القرطبي: والآية تدل على أن الأرض واحدة. وهو بناء على أن (جميعًا) حال من (ما). وذلك لا يتعين؛ لاحتمال كونه حالًا من ضمير (لكم).
- (وهو بكل شيء عليم). الآمدي في " أبكار الأفكار ": " مذهب أهل السنة أن المعدوم ليس بشيء " خلافًا للمعتزلة، ولا نبني على ذلك كفر، ولا إيمان.
فمذهب أهل السنة أن لا.
وذهب المعتزلة إلى أن له تقرر، فألزمنا قدم العالم ".
٣٠ - (في الأرض خليفة)، قدم المجرور هنا، وأَخر في سورة ص (إنَّا جعلناك خليفة في الأرض)، وذلك لوجهين:
الأول: أن أحد أسباب التقدم " الشرف ". وكان آدم حينئذ معدومًا، والأرض موجودة، والموجود أشرف من العدم، والمخاطب في سورة (ص) داود عليه السلام، وهو أشرف من الأرض ضرورة.
- (قالوا أتجعل..). قد يحتج به من يقول: " بالتحسين، والتقبيح "، وجوابه بين عقلًا.
ابن عطية: " كأنهم تعجبوا من استخلاف الله من يعصيه أو عصيان من يستخلفه ". وذكره أبو حيان، ولم يتعقبه. ولا يصح الوجه الثاني؛ لأنهم لو تعجبوا من عصيان المُسْتَخْلَف؛ لقالوا: " أيفسد في الأرض من تجعله خليفة ".
٣٦ - (بعضكم لبعض..). يدل على إطلاق لفظ " البعض " على أكثر من النصف.
٣٨ - (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون). إن قلت: لِمَ نفى الخوف بلفظ الاسم، والحزن بلفظ الفعل مع أن الخوف هو التألم بسبب أمر مستقبل متوقع، والحزن هو التألم بسبب أمر واقع فيما مضى، فكان المناسب باعتبار الفَهْمِ العكس؟.
أ - روعي في كل واحد منهما سببه، فسبب الخوف مستقبل، وهو متقدم عليه فجعل ماضيًا ثابتًا واقعًا، فأتى فيه بلفظ الاسم المقتضي للثبوت.
وسبب الحزن ماضٍ وهو متأخر عنه فجعل مستقبلاً؛ لتأخره عن سببه فأتى فيه بلفظ المستقبل.
ب - إن متعلق الحزن ماضٍ، ومتعلق الخوف مستقبل، والأمور المستقبلة أكثر من الأمور الماضية، فأشبهت غير المتناهي ألا ترى أن الإِنسان يخاف العذاب في الدنيا، وفي الآخرة، وأمر الآخرة غير متناهٍ، لأنه يدخل الجنّة فيذهب عنه الخوف دائمًا، وأمر الماضي متناهٍ؛ لأنه بدخول الجنة ذهب الخوف عنه، فناسب الإِتيان فيما يتناهى بالاسم النكرة في سياق النفي، ليعم، وهو أبلغ.
جـ - إن سبب الخوف يمكن دفعه، والتحرز منه؛ لأن متعلقه مستقبل بخلاف سبب الحزن.
د - إن الخوف متقدم في الوجود على الحزن؛ لأن متعلقه مستقبل، ومتعلق الحزن ماضٍ، والمستقبل أسبق في الوجود من الماضي، والاسم متقدم على الفعل فعبّر عن كلٍّ بما يناسبه.
٤٦ - (الذين يظنون..). متعلق الظن زمن الملاقاة، وإن كان في الحقيقة مشكوكًا فيه لكن؛ لمحبتهم لقاء ربهم جُعل مظنونًا لهم. وجَعل
وقال الزمخشري: " يتوقعون لقاء ثوابه، وقيل: ما عنده، ويطمعون فيه.
٤٧ - (وأني فضلتكم..). إن جعل قوله: (نعمتي) عاما فهو عطف الخاص على العام، وإن جعل مطلقًا فهو من عطف المقيد على المطلق.
- (على العالمين). إن جعلت " ال " للجنس كما قال الزمخشري: فالقضية حقيقة لا خارجية، وإن جعلت للعهد أي: عالم زمانهم فهي خارجية.
ابن الصلاح: " لم يصح من أحاديث الشفاعة غيرحديثين. فعلى هذا يكون التواتر معنويا لا لفظيًّا.
٤٩ - (يذبِّحون أبناءكلم ويستحيون نساءكم..) أي: لم يقل: بناتكم في مقابلة أبناءكم؛ لتركهم إياهن إلى أن يصرن نساء بخلاف الأبناء.
٥٠ - (فأنجيناكم..) فإن قلت: لمَ قدم الانجاء وإن كان دفع المؤلم آكد؟. مراعاة للترتيب الوجودي؛ لأن الانجاء متقدم على إغراق آل فرعون.
٥٩ - (فبدل الذين ظلموا..). يؤخذ عدم صحة نقل الحديث بالمعنى إلا أن يجاب بأنهم بدلوا اللفظ، والمعنى.
وأجيب: بأنه تعدى إلى الثاني بحرف الجر أي ب (غير) أو يكون (بدَّل) بمعنى: " أتى ".
٦٠ - (فانفجرت..) ابن هشام: فضرب (فانفجرت).
وزعم ابن عصفور: " أن الفاء في (فانفجرت) هي (فاضرب).
وأن فاء (فانفجرت) حذفت؛ ليكون على المحذوف دليله ببقاء بعضه، وليس بشيء؛ لأن لفظ الفاءين واحد، فكيف يحصل الدليل؟.
وجوّز الزمخشري ومن تبعه أن تكون فاء الجواب أي: فإن ضربت فقد (انفجرت).
ويرُدّه أن ذلك يقتضي تقدم الانفجار على الضرب مثل: (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ)، إلا أن يقال: " المراد: فقد حكمنا بترتيب الانفجار على ضربك ".
٦١ - (أتستبدلون). إن قلت: الاستبدال يقتضي ترك المبدل منه، وهم
قلت: العادة تقتضي أن من كان بين يديه طعام واحد أكل منه حتى يشبع، فإذا كان بين يديه طعامان ترك موضعًا للطعام الثاني.
٧٣ - (فقلنا اضربوه ببعضها..). إن قلت: لِمَ لم يسألوا تعيين البعض كما سألوا تعيين البقرة؟.
قلت: لأن الأجزاء، والأبعاض متماثلة بخلاف الأشخاص.
٧٤ - (أو أشد..) أتى بـ (أشدُّ)، وإن كانت القسوة ليست من الخُلق الثابتة؛ لأنه أبلغ؛ لاقتضائه أعلى مراتب القسوة، وهي شدّتها.
وجعل السكاكي ذلك من " ترشيح المجاز ".
فإن قلت: قد تقرر أن النافي لا يطالب بدليل!.
قلت: هؤلاء نفوا، وأثبتوا، ويردّ على هذا الجواب أن من ادعى ما يوافقه خصمه عليه لم يطلب منه دليل، ودعوى هؤلاء أن النار تمسهم أيامًا معدودة صحيح، وإنما ينكر عليهم ادعاؤهم عدم دوام العذاب.
والجواب: أن النفي الأصلي هو الذي لا يحتاج مدعيه إلى دليل بخلاف النفي " الذي " يتقدمه إثبات، وهؤلاء أقروا بدخولهم النار، وأنكروا دوام العذاب " بعد دخولهم ".
٨٤ - (ثم أقررتم وأنتم تشهدون..). يدل على تغاير الإقرار، والشهادة وفيه خلاف، ومذهب " المدونة " أن الإقرار شهادة.
٨٥ - (أفتؤمنون ببعض الكتاب..).. داموا على قصر الإِيمان بالبعض لا على نفس الإِيمان به.
دفعًا [لما] يتوهم من أن إيمانهم بالبعض يوجب تخفيف العذاب عنهم.
٨٦ - (اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة..). أخذ منه ابن عطية، أن من خُّير بين شيئين يُعدُّ متنقلًا.
وُيرَدُّ بحديث: " كل مولود يولد على الفطرة ".
فإن قيل: يلزم عليه أن يكون كل كافر مرتدًّا.
قيل: حقيقة المرتد من اتصف بالكفر بعد تلبُّسِه بالإِيمان بالفعل.
يردّ بأن " أعطى " مفعولاها أولهما فاعل في المعنى، و (وموسى) هو أخذ الكتاب.
٨٩ - (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا..). الزمخشري: " أي من الحق ".
ابن عطية: المراد النبيّ ﷺ ".. انتهى. و (ما)
وقد يقال: الإِتيان بالمُعْجِزات قرائن تقوم مقام التعيين.
٩١ - (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا..). الأُبَّذي في " شرح الجزولية ": إنما
١٠١ - (وراء ظهورهم..) كناية عن البعد، وإلا فظاهر اللفظ يقتضي أنهم طرحوه بين أيديهم.
١٠٦ - (ما ننسخ..). استدل بها الفخر في " المحصول ": على جواز النسخ.
وردّه السرّاج في " التحصيل اختصار المحصول ": بأنها قضية
وأجاب الخطيب شمس الدين الجزري: بأن الآية خرجت مخرج التمدح، والتمدح لا يكون إلا بالممكن الوقوع.
١١٤ - (ومن أظلم ممّن منع..) وفي آية أخرى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى..). فالجواب: بثبوت التساوي في المذكُورين.
١١٦ - (بل له ما في السماوات..). استدل به اللَّخْمِي على أن من
١٢٠ - (حتى تتَّبع ملتهم..). حذف الأول؛ لدلالة الثاني.
- (ولئن اتبعت أهواءهم..). يدل على نفي التحسين، والتقبيح عقلاً، وأن الحاصل للمُقَلِّد غير علْم.
١٢٤ - (بكلماتٍ..). الزمخشري: " قيل: هي مناسك الحجّ كالطواف، والسعي، والرمي، والإِحرام، والتعريف " انتهى. يعني بالتعريف: الوقوف بعرفة.
- (لا ينال عهدي الظالمين..). الزمخشري: " يدل على عدم صحة إمامة الفاسق ".
١٢٩ - (العزيز الحكيم). مناسب؛ لأن بعثة الرسول فيهم تشريف لهم، وموجب لعزتهم.
١٣٣ - (أم كنتم..). ابن عطية: (أم) بمعنى: الهمزة.
أبو حيّان: " لم أقف، لأحد من النحويين أن (أم) يستفهم بها في صدر الكلام.
ابن هشام:. " زعم أبو عبيدة: " أن (أم) قد تأتي بمعنى الاستفهام المجرد، فقال: في قول الأخطل:
كذبتْك عينُك أم رأيت بواسط | غلس الظَّلام من الرّباب خيالا؟ |
وأجاز الزمخشري وحده حذف ما عطف عليه " أم " فقال في (أم كنتم شهداء): يجوز كونُ " أَمْ " متصلة على أن الخطاب، لليهود، وحَذَفَ معادلَها أي: أتدَّعُون على الأنبياء اليهوديةَ، (أم كنتم شهداء).
وجوّزه الواحدي أيضا، وقدَّر: أَبَلَغَكُم ما تنسبون إلى يعقوب من إيصائه بنيه باليهودية، (أم كنتم شهداء).
١٣٦ - (قولوا آمنا..) يدل على صحة قول القائل: " أنا مؤمن " دون تقييد بـ إن شاء الله، والكلام على ذلك يأتي - إن شاء الله - في سورة آل عمران.
- (وما أوتى..) عبّر أولًا: بـ " الإِنزال "، وثانيا: بـ " الإِيتاء "؛ لأن معجزة من ذكر معه الإِنزال معظمها الوحي، ومن ذكر معه الإِيتاء ما ظهر على يديه من المعجزات الفعلية.
١٤٤ - (وحيثما كنتم..) يدل على جواز الصلاة في الحمام إذا كان الموضع طاهرًا.
١٤٦ - (كما يعرفون أبناءهم..). لم يشبه بمعرفة أنفسهم للمشاكلة؛ لأن الولد منفصل عن أبيه كانفصال الكتب عنهم.
- (وإن فريقًا منهم..). المراد بهذا الفريق: من لم تعرض له شبهة،
وغيرهم عرضت له الشبهة، وكلهم عالم، فلا إشكال في فهم الآية.
١٥٨ - (فلا جناح عليه..). قول الزمخشري: " يدل على كون السعي تطوعا ".
يردّ بأن رفع الجناح قدر مشترك بين الواجب وغيره. في مسلم في " كتاب الحج " استدلال عائشة رضي الله عنها على وجوب السعي بالآية (فلا جناح عليه).
قلت: معناه: (لَا يَفْتُرُونَ) عن العبادة، وفي آية أخرى (وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ..).
١٦٤ - (من كل دابة..). العموم في الأنواع، والتبعيض في الأشخاص، فلا تناقض.
١٦٩ - (ما لا تعلمون). الفقيه يعلم أنه يجب عليه العمل بما ظنه، فقد قال: " على " الله ما يعلم.
١٧٧ - (واليوم الآخر..). قُدِّم مع " الكتاب " على " النبيين "، وإن عُلِم ذلك من قِبَلهم؛ لأنه المقصود.
- (وفي الرقاب..). أتى بـ (في) دون ما قبله؛ لأن (الرقاب) لا يعطاهم ذلك؛ لأنفسهم، بل يُؤدَّى عنهم؛ ليعتقوا بخلاف غيرهم فإنه يأخذ ذلك، ويتصرف فيه.
١٧٩ - (ولكم في القصاص حياة..). انظر: الطيِّبي في " التبيان ".
١٨٦ - (فليستجيبوا..). قُدِّم على الإِيمان؛ لأن النظم سابق.
١٨٧ - (أُحِلَّ..). يدل على أن الأصل الحظر.
- (هُنَّ لِبَاسٌ..). قُدِّم؛ لأنه المقصود.
١٩٠ - (الذين يقاتلونكم..). إن قلت: ما أفاد، وهو معلوم من (وقاتلوا)؟.
قلت: أفاد أنهم لا يقاتلون إلا من بدأهم.
- (لا يحب المعتدين). نفى المحبَّة تقتضي الذم الدال على التحريم، وهذا كقول النحاة " لا حبَّذا " ذم.
- (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام..). ابن العربي في كتابه " تلخيص التلخيص ": " كنت بالبيت المقدس في مدرسة ابن عقبة في مجلس القاضي الزنجاني من أئمة الحنفية [فبينا] نحن في أثناء التدريس، والشيخ مستند وهده لا يوازيه أحد من الطلبة كعادته طلع على المجلس رجل عليه أخلاق صوف دسمة فسلم ثم تخطى إلى أن وازى الشيخ فجلس بجنبه فلمحه الحاضرون إنكارًا، فسأله الشيخ عن حاله أحسن سؤال ثم قال له: من الشيخ على عادتهم في تعظيم المخاطبة؟.
فقال: رجل من الطلبة " قصد " زيارة الخليل فسلب في القافلة.
وقد كان سُلبت بالأمس قافلة بالموضع المذكور. فقال الشيخ للطلبة: سلوه برأيه. على عادتهم في مبادرة القادم بالسؤال على طريق المبرّةِ، والإِجلال.
فقال له بعض الطلبة: ما يقول الشيخ الإِمام في الكافر إذا التجأ إلى الحرم هل يعصمه أم لا؟.
فقال: يعصمه.
فقال له القاضي، وكان الشيخ حنفيا: هذه مبرّة.
فقال له السائل: ما الدليل؟.
وذهب القاضي على العادة فقال: لا حجة في هذه الآية؛ لأنها
منسوخة بقوله: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم..) الآية.
فقال له المستدل المذكور: أنا أُجل مرتبة القاضي الإمام عن أن يفوه بمثل هذا الكلام، كيف ينسخ العام الخاص، والخاص هو الذي يقضي على العام. فبهت القاضي، ولم يقل شيئًا. هذا هو الشيخ الإِمام أبو علي الصاغاني من أهل ما وراء النهر.
والجواب عن تعلق أبي حنيفة بهذه الآية أن المراد بها قريشًا، فزال حكمها بزوالهم يدل على ذلك صدر الآية.
- (كذلك جزاء الكافرين). " مختصر " أبي حيان: (جزاء) مبتدأ؛ لأنه المعرفة. يريد: أن الكاف بمعنى: مثل. وإضافته غير محضة.
١٩٣ - (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ..)، وفي الأنفال (كله) آية: ٣٩.
أجاب الفخر: " بأن هذه خاصة بقتال قوم مخصوصين، وهم أهل مكة، ولا يحصل بذلك الدين في كل البلاد، وآية الأنفال عامة؛ لأن قبلها (قل للذين كفروا..) " آية: ٣٨.
- (فمن كان منكم مريضًا..). كالاستثناء من قوله: (ولا تحلقوا)، فيدل أن العام في الأشخاص عام في الأزمنة، والأحوال.
٢٠٠ - (فَإِذَا قَضَيْتُمْ..). قول الزمخشري: أي فرغتم من عبادتكم.
يدل أن القضاء يطلق على الأداء، فلا حجة للفقهاء في قوله عليه السلام: " وما فاتكم فاقضوا.. "، على أن ما يأتي به المسبوق قضاء، ومثل هذه الآية (فإذا قضيتم الصلاة..).
- (أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا..). الطِّيبي: قول الزمخشري: على أن (ذِكْرًا) من
قال المصنف: المصدر يأتي من (فُعِل) كما يأتي من (فَعَلَ)، كقوله تعالى: (من بعد غَلَبهمْ..). المعنى: من بعد كونهم مغلوبين. فكذلك قوله: (أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا)، معناه: أو قومًا أبلغ في كونهم مذكورين.
وقدَّر القاضي: أو كذكركم أشد مذكورًا من آبائكم.
وقال ابن الحاجب في " الأمالي ": " قوله: (أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا)، في موضع جرّ عطفًا على ما أضيف إليه الذكر في قوله: (كذكركم..). فيه نظر لما يلزم منه العطف على المضمر المخفوض، وذلك لا يجوز عنده، وردّ قراءة حمزة أقبح ردّ أي في (تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامِ..)،
وقلت: نظر المؤلف إلى التوافق بين المعطوف، والمعطوف عليه وإلى جعلهما من عطف المفرد على المفرد لا من عطف الجملة على الجملة؛ لأن جعل أحدهما مصدرًا، والآخر حالًا له عامل آخر مما يؤدي إلى تنافي النظم. وذكر مثله في قوله تعالى: (يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً..).
أما الجواب عن الأول فإنه ورد في النساء العطف على المضمر المجرور. لغلبة شدة الاتصال، وصُحِّح نحو: " مَررتُ بزيد وعمرو ": لضعف الاتصال.
وذكر ابن الحاجب في " شرح المفصَّل ": " أن بعض النحويين يجوزونه في المجرور بالاضافة دون المجرور بحرف الجرّ؛ لأن اتصال المجرور
وعن الثاني أنه إنما يلزم ذلك أن لو كان " أفعل " من " الذكْر " وبُني منه، بل إنما يُبْنى ممّا يَصُح بناؤه منه الفاعل وهو (أشد). وجعل (ذكرًا) الذي بمعنى: " المذكور " تمييزًا كأنه قيل: " أشد مذكورًا ". وهو إذن مثل سائر ما يَمْتَنعُ بناؤه، نحو: " أقبح عذرًا، وأكثر شُغْلًا ". وفيه بحث. انتهى.
قال شيخنا: وهذا الموضِع من الطيِّبيِّ هو سبب نسخه بتونس، لأنه بين كلام الزمخشري بيانًا حسنا، وكان يَبعُد فَهْمُه.
فيؤخذ من الآية أن من حلف لا دَخَلَ عليَّ فلان بيتًا، فدخل المحلوف عليه على الحالف حنث الحالف إن لم يخرج مكانه.
٢١٦ - (وعسى..). جعل أبو حيان الأولى للإشفاق، والثاني للترجي ". والمناسب العكس؛ لأن الأول خير.
- (وأنتم لا تعلمون). إن جُعِلَ عدولًا ترجح العطف، أو سلبًا ترجح الحال.
وهذه أيضا واجبة؛ لدلالتها على وقوع ما دخلت عليه، وهو الملازمة بين الشرط والجزاء.
٢١٧ - (وَمَنْ يَرْتَدِدْ..). في تنزيل. لم يقيد بالموت على الكفر، فقيل: يردّ المطلق للمقيد.
ورُدَّ بأن تلك خاصة بالمخاطب، وهذه عامة، والخاص يقضي على
العام.
وقيل: ذكر هنا وصف " الخلود "، وثمَّ وصف " الخسران ". ورُدَّ بأن الكلام في إحباط العمل، وهو في الآيتين معا. قلت: " قد " تقرر أن الشرطية تتعدّد بتعدُّد أجزاء تاليها، فكل منهما شرطيتان.
٢٢١ - (حَتَّى يُؤْمِنَّ..). " إن قلت: ما أفاد، ومعلوم جواز نكاح المؤمنة؟.
قلت: هو حث لهنّ على الإِيمان؛ لميلهنّ إلى النكاح، والنهي في قوله: (وَلَا تَنْكِحُوا..)؛ للتحريم. ففيه ردّ على ابن بشير في بحثه مع اللَّخميِّ في قوله تعالى: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا..).
فيقال له: النهي عن نكاح المشركات، للتحريم، وهو إذا أسلمن مباح لا واجب، فليس تحريم نكاح المشركات مقتضيًا، لوجوب نكاح المؤمنات.
والجواب عن هذا أن تقول: قول ابن بشير: إذا كان النهي للتحريم فضدّه الأمر للوجوب. صحيح، لكن ما لم يعارض معارض، كما أن الأمر للوجوب ما لم تكن قرينه تدل على الندب، وهنا قد جاء الأمر بالنكاح صريحًا. قال تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء..)، وفي الحديث: " من استطاع منكم الباءة فليتزوج.. ".
والأمر الصريح ظاهره الوجوب، فحملوه على الندب، فإذا كان الأمر الصريح بالنكاح مصروفًا عن ظاهره، فأحرى الأمر المفهوم من النهي.
- (وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا..). هل المراد تُنكحوهم المسلمات أو تكونوا أولياء في إنكاحهن، فيدل على وجوب الولي في النكاح إذ لو لم يكن
وقال ابن الحاجب: " هذا مما بقي علي عمومه ".
وردّه السطِّى بأحد الأقوال بجواز تزويج المسلم أخته النصرانية من نصراني.
- (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ).. في الآية سؤال، وهو أن يقال: " اكتفى في الأول بقوله: (إلى النار)، ولم يقل: إلى النار، والكفر، أو إلى النار والعذاب. وقال في الثاني: (إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ)، مع أن دخول الجنة يستلزم (المغفرة)، كما أن النار تستلزم الكفر، والعذاب، فذكر اللازم في الأول دون الثاني "؟.
الجواب عنه أن دخول الجنة تارة يكون أوليًا، وتارة يتقدمه دخول النار، فقوله: أولاً (يدعو إلى الجنة)، أعم من أن يدخلها المكلف أولاً، أو بعد دخول النار.
وقوله: ثانيا (والمغفرة): يتناول من اقترف الذنوب، فغُفِرَ له فلم يدخل النار بوجه، وأُدخل الجنة.
٢٢٢ - (ويسألونك عن المحيض..) ظاهره وقوع السؤال من جماعة.
وقال ابن عطية: السائل واحد. فكيف يُفْهم مع الآية إلا أن يقال المباشرة بالسؤال واحد، وغيره يسأل، ولم يباشر بالسؤال، فيكون على هذا من باب إطلاق اللفظ، واستعماله في حقيقته، ومجازه.
الزمخشري: إن قلت: ما بال (يسألونك) قد جاء بغير واو ثلاث مرات، ثم مع الواو ثلاثًا؟.
فأجاب: بأن سؤالهم عن تلك الحوادث. الأول وقع في أحوال متفرقة، فلم يؤت بحرف العطف، فكان كل واحد من تلك السؤالات سؤال مبتدأ. وسألوا عن الحوادث الأُخر في وقت واحد، فجىء بحرف العطف، لذلك، كأنه قيل: يجمعون لك بين السؤال عن الخمر، والميسر، والسؤال عن الانفاق، والسؤال عن كذا، وكذا. وهذا بناء منه على أن الواو تفيد الجمع في الزمان، وعدم المهلة، وهو خلاف قول المحققين.
قال ابن هشام: " الواو العاطفة معناها: مطلق الجمع، فتعطف الشيء على مصاحبه نحو: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ)، وعلى سابقه نحو: (ولقد أرسلنا نوحًا وإبراهيم..)، وعلى لاحقه نحو: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ)، وقد اجتمع هذان في (ومنك ومن نوح وابراهيم وموسى وعيسى).
فعلى هذا إذا قيل: " جاء زيد وعمرو "، احْتُمِل ثلاثة معان. قال ابن
مالك: وكونها للمعية راجح؛ وللترتيب كثير، ولعكسه قليل. انتهى.
ويجوز أن يكون بين متعاطفيها تقاربٌ أو تراخٍ نحو: (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)، فإن الردّ بعد إلقائه في اليمِّ، والإِرسال على رأس أربعين سنة. وقول بعضهم: إن معناها الجمع المطلق
وقال السيرافي: " إن النحويين، واللغويين أجمعوا على أنها لا تفيد الترتيب ". مردود، بل قال: بإفادتها إياه " قطرب، والرّبعي،
- (قُلْ هُوَ أَذًى..). استدل به ابن سرور على أن أقل الحيض لا حدّ له خلافًا لِمَنْ ذهب إلى أن أقله ثلاثة أيام، وهم الكوفيون. أو يوم وليلة، وهو الشافعي، والطبري.
الأول: أنه اقتصر في جوابهم على سؤالهم عن الإِخبار بأنه (أذى) ومن شرط الجواب أن يكون مطابقًا للسؤال، وذلك يقتضي أن يكون كل أذى حيض؛ لأنهم سألوا عن المحيض، فأخبروا بأنه أذى، والأذى يطلق على القليل، والكثير، فلولا أن يسيره حيض لما صحَّ الجواب. وهذا الوجه الذي ذكر ضعيف؛ لأنه لا يلزم مطابقة الجواب للسؤال من جميع الوجوه.
قال: الوجه الثاني: أنه تعالى أمرنا باعتزالهن في حال الحيض، وعلق الأمرِ باعتزالهن على شرط وجوده، فلا بدّ من أن يكون لنا ما نعلم به كونهن حِيْضَا؛ ليصبح منا إمْتثال الأمر بالإعتزال، ويكون ذلك قبل أن ينقضي وقته، فلو كان محدودًا بثلاثة أيام لما عَلِمْتَ في ابتدائه هل يدوم ثلاثة أيام، فيكون حيضًا مانعًا من الصلاة، أو أقل فلا يمنع فيؤدى إلى تكليف مالا يطاق.
أما إذا قلنا: أول دم تراه ولو دفعة، فهو حيض أمكن اعتزالهن، وسقوط التكليف عنهن.
الثالث: أن السؤال وقع عن الحيض، والحيض هو السيلان، فأول دم تراه يتناوله الاسم؛ لصدق السيلان عليه.
قال ابن يونس: واستدل بثلاثة أوجه:
الأول: قوله: (حَتَّى يَطْهُرْنَ)، فعلَّق المنع بغاية، ومن شرط الغاية أن يكون ما بعدها مخالفًا لما قبلها.
الثاني: أن الحكم إذا تعلق بعلة وجب زواله بزوالها، والعلة هنا وجود الدم، فوجب أن يجوز الوطىء إذا ارتفع.
قال ابن بُكير: " ورواية أشهب عن مالك في " العتبية ": " من أنه لا يجبر زوجته النصرانية إذا طهرت على الغسل من الحيض ". يدل على أنه يجوز له الوطىء قبل الغسل.
وردَّه ابن رُشد: " بأنه إنما جاز له وطؤها قبل أن تغتسل؛ لأنه لا يجب الغسل عليها على القول بأن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة، فتكون هذه في حكم من قد اغتسل، فيجوز وطؤها.
ومن قال: المراد بهما الطهر من الدم إذ قد يُعَبرْ عن الطهر من الدم بالتطهير، كما يقال: " تكسَّر الحجر، وتبرد الماء "، أجاز الوطىء من غير اغتسال. وهو الأظهر في المعنى، والقياس؛ لأن العلة في المنع وجود الدم بدليل قوله: (فاعتزلوا النساء في المحيض..)، فإذا ارتفعت العلة بزواله جاز الوطىء.
وأما قول من قال: " إن معنى قوله: (حَتَّى يَطْهُرْنَ) أي: من الدم (فإذا تطهرن) أي: بالماء "، فبعيد؛ لأن الله أباح وطئهن بقوله: (حَتَّى يَطْهُرْنَ) ثم بيّن الوطىء الذي أباحه بقوله: (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ) أي: على الوجه الذي أذن الله فيه، فلو كان الطهر الأول: من الدم، والثاني: بالماء، لجاز بالأول ولم يجز بالثاني؛ لأنه أطلق الأول بقوله:
انتهى. هذا الكلام غير صحيح؛ لأنَّا نقول: " قولك لا يجوز أن يقال: " لا تكرم زيدًا حتى يأتي خالد فإذا أتى عمرو فأكرمه "، مسلم، ولا يتناول محل النزاع؛ لأن قوله: (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) المراد به الاغتسال وهو ملزوم؛ لارتفاع الدم، وإنما نظيره قولنا: " لا تكرم زيدًا حتى يأتي عمرو فإذا دخل عندك عمرو فأكرمه، أو فإذا أتاك خالد وعمرو فأكرمه "، وهذا جائز.
الباجي: قال مالك، والشافعي، وجمهور الفقهاء: لا يجوز وطؤها حتى تغتسل سواء انقطع دمها لأكثر أمد الحيض أو أقله. وقال ابن بُكير: الإِمساك عنها استحسان.
وقال أبو حنيفة: إن انقطع الدم لأكثر أمد الحيض، وهو عشرة أيام عنده جاز له أن يطأها قبل أن تغتسل، وإن انقطع قبل لم يجز له وطؤها حتى تغتسل أو يحكم بطهرها لمجىء آخر وقت الصلاة. يريد؛ لأنها إذا مضى عليها وقت صلاة تكون طاهرة باعتبار الحكم؛ لأنها مكلفة بالاغتسال.
قال ابن عبد البر: وهذا الحكم لا وجه له، وقد حكموا للحائض
قيل: إن في قوله تعالى: (فإذا تَطَهَّرْن) دليلاً على المنع (حتى يطهرن) بالماء؛ لأن (تطهرن) كقوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا..)، يريد الاغتسال بالماء، وقد يقع التحريم بشيء، ولا يزول بزواله؛ لعلة أخرى كقوله في المبتوتة (فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره..)، وليس بنكاح الزوج يحل له، بل حتى يطلقها الزوج، وتعتد منه. انتهى.
يقال له: المبتوتة خرجت بالإِجماع إذ أجمعوا على أنها لا تحل بنفس الدخول، بل حتى يطلقها الزوج، وتعتد منه، ولم يخالف أحد في ذلك، وأمر به الشارع. وأما هذا فلا إجماع فيه، والخلاف موجود فلا دليل لك فيه.
وقال بعض البيانيين: في الآية حذف التقابل حذف من الأول، لدلالة الثاني، ومن الثاني؟ لدلالة الأول، والتقدير: (ولا تقربوهن حتى
ولا يجوز استباحة وطئها إلا بعد حصول الشرطين، ثم إنه تعالى أثنى على فاعل هذه الطهارة، فقال: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين)، والثناء لا يقع إلَّا على فعل يصدر من المكلف، وانقطاع الدم ليس من فعل المرأة إذ ليست قادرة على كفه، فلا يكون الثناء إلَّا على الاغتسال بالماء.
قال ابن العربي: فإن قيل: المراد حتى ينقطع دمهن، وقد يستعمل التشديد موضع التخفيف، فيقال: " تطهَّر " بمعنى: طهر، و " قطَّع " بمعنى: قطع، ولا يفتقر إلى إضمار، وأنتم تفتقرون أن تقولوا: التقدير: يطهرن بالماء.
قلنا: لا يقال: طهرت بمعنى: انقطع دمها، وإنما التشديد تكثير التخفيف، وأيضا فالظاهر أن ما بعد الغاية هو المذكور قبلها، فيكون (يَطْهُرْن) مخففا بمعنى: المشدّد، وجمع بين اللغتين كما قال تعالى: (رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨).
فإن قيل: إن (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) ابتداء كلام؛ لأنه لو كان بمعنى
فأجاب بأوجه:
أحدها: أن المُعاد في الشرط هو المذكور في الغاية بدليل إثباته بالفاء، ولو كان غيره لذُكر بالواو.
وأما الزيادة فلا يخرجه عن أن يكون هو بعينه، ألا ترى أنك تقول: " لا تعط هذا الثوب زيدًا حتى يدخُل الدار فإذا دخل فأعْطه ثوبًا ومائة درهم "، ولو كان غيره لقلت: فإذا دخل وجلس فافعل كذا، وكذا ".
الثاني: أنه علق. الحكم بقوله: (فإذا تطهرن) على انقطاع الدم، والاغتسال بالماء، فصار كقوله: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ)، فعلق دفع المال على بلوغ النكاح، وإيناس الرشد، وكذلك قوله في المطلقة (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ..)، ثم جاءت السنة باشتراط الوطىء.
أما إذا ضُم إليها شرط آخر فإن الحكم يرتبط به كقوله: (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ..).
فإن قيل: إنما هذا إعادة لما تقدم، وليس بتجديد شرط كقولك: " لا تعط زيدًا شيئًا حتى يدخل الدار فإذا دخل فأَعطه ". فالجواب: أن " تَطَهَّر " لا يقال إلا فيما يكتسبه الإِنسان، وانقطاع الدم غير مكتسب.
فإن قيل: يقال: تقطَّع الحبل، ويقال في صفات الله: تجَّبر، وتكَّبر وليس فيه اكتساب، ولا تكلف.
فالجواب: أن ذلك نادر سلمناه لكن لا يقال: تطهَّرتْ بمعنى: انقطع دمها، وإنما حملناه في تقطَّع الحبل على المجاز إذ لا مفر عنه؛ لأن الجَمادات لا توصف بالاكتساب، وهنا عنه مندوحة، وهي حمله على الحقيقة، وأن المراد به الاغتسال بالماء، وأيضا فإنه مدحهنَّ بقوله: (ويحب المتطهرين)، والمدح إنما يكون على ما اكتسب من الأفعال بدليل قوله تعالى: (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا).
- (من حيث أمركم اللَّه..). فجرى فيه الخلاف الذي في لفظ: " أمر " هل هو للوجوب أو لمطلق الترجيح المحتمل للوجوب والندب.
٢٢٨ - (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ)... أفعل هذه ليست للتفضيل إذ لا مشاركة لغير (بُعُولَتُهُنَّ) معهم في الأحقية.
٢٢٩ - (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ..). أي: الطلاق الرجعي، ولم يقل: اثنتان أو طلقتان؛ لأن المراد: أنه يطلقها طلقة مرة ثم أخرى مرة، والحكم عندنا في إيقاع الثنتين في مرة الكراهة، وخارج المذهب الجواز.
والطلاق ليس كذلك فكلف فيه بالأبلغ، وهو الإِحسان، قال شيخنا: كان ابن عبد السلام يعترض على الموثقين - أو يُحْكَى عن غيره - كَتْبُهم هذا في الصداقات.
وجوابه: أن ابن يونس ذكر أن كَتْبَه أثرٌ ورد عن ابن عمر.
قال شيخنا: وكان شخص يقال له: النجاري له في امرأته
طلقتان فخالعها ثم ردها قبل زوج بناءً على أن الخلع فسخ يفرق بينهما، ولم يحد للشبهة.
- وتثنية ضمير (عليهما) تغليب؛ لأن المراد أحدهما، وهو الزوج كقوله: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ). وإنما يخرج من الأجَاج.
قال شيخنا: وحُكِي أن رجلًا جاء إلى الأمير أبي الحسن بلؤلؤة صغيرة، وذكر أنه أخرجها من الماء العذب، وشهد له بذلك شهود لا بأس بهم.
٢٣١ - (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ..) أي: قاربن بلوغه.
- (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)، وقال قبل: (أو تسريح بإحسان)؛ لأنه في تلك مندوب، وهنا واجب.
و" الإِحسان " يقتضي الزيادة على " المعروف " كما تقدم، وذلك مندوب لا واجب.
- (ولا تمسكوهن ضرارًا) يُفْهَمُ ممّا قبله لكنه مقام إطناب.
- (لتعتدوا) متعلق ب (ضرارا)، وهي لام العاقبة وليس متعلقًا بـ (تمسكوهن).
٢٣٣ - (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ..). قيل: (الوالدات) جمع سلامة محلى بالألف، واللام فيفيد العموم، والكثرة، و (أولاد) جمع قلة واذا كان (الوالدات) كثيرات فأولادهن كذلك، فكيف تفهم الآية؟!.
أجيب: بأن جمع القلة وُضِعَ موضع جمع الكثرة.
الزمخشري: (يرضعن) مثل (يتربصّن)، في أنه خبر في معنى الأمر المؤكد. (كَامِلَيْنِ) توكيد مثل قوله: (عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ).
وقيل: (اللام) متعلقة ب (يرضعن) كما تقول: أرضعتْ فلانة لفلان ولده أي: (يرضعن.. حولين) لمن أراد أن يتم الرضاعة من الآباء.
قيل: قوله: يحتمل أن المعنى: لمن أراد أن يتم الرضاعة من الأمهات فاسد؛ لأنه قال أولًا: أن (يرضعن) خبر المراد به الأمر، والأمر للوجوب؛ لأن الرضاع واجب على الأمهات والواجب لا يصح أن يكون مؤكدًا، ولا لإِرادة المكلف، فلا يحسن أن يقال: يجب عليك أن تفعل كذا إن أردت ذلك. وأجيب: بأن الوجوب تعلَّق ببعض الحولين، والإِرادة تعلقت بتمام الحولين.
وردّ بأن (يرضعن) عامل في الحولين المؤكد بـ (كاملَين) والتوكيد يرفع المجاز كقوله: (وكلم اللَّه موسى تكليمًا)، وتعين الحقيقة، فالمراد: مدلول الحولين حقيقة، وهو المجموع؛ لأن التعيين يتعلق بالوجوب، وإن لم يكن مقدورًا معلومًا لزم تكليف ما لا يطاق. وبنحو هذا استدل ابن رشد في " مقدماته " على عدم وجوب المتعة.
وأجيب عنه: بأن نفقة المطلقات في العدّة واجبة، وليست مقدَّرة، ولا محدودة، وإنما هي معلومة بالعادة فكذلك هذا.
وكذا قوله: (وعلى المولود له). ولم يقل على الأب.
- (فصالًا) أي: فطامًا.
- (وتشاور..) أي: مع غيرهما؛ لقصد المصلحة للولد، وهذا قبل الحولين، وبعدهما من دَعى إلى الفطام فله ذلك. فإن قلت: " هذا مستفاد من قوله: (لمن أراد أن يتم الرضاعة) "!. قلت: هنا زيادة إيجاب التشاور، وأُخِرَ عن التراضي، وإن كان المقدم في الوجوب، وهو سبب التراضي، لدل على أنه لا بدّ منه وإن وقع التراضي قبله.
- (بصير..) أبلغ من " عليم "؛ لأن خوف العبد سيده مع مشاهدته إياه أشد منه حال غَيْبته عنه.
٢٣٤ - (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ..). مخصوص بذوات الأحمال، ولا يقال: قوله: (يتربصن) يقتضي القصد للتربص، فيلزم إذا مات الزوج، ولم تعلم أن لا تلزمها العدة إلا من حين العلم؛ لأنه خرج مخرج الغالب.
- (بالمعروف). بالوجه الصحيح فيخرج جميع الوجوه الفاسدة.
٢٣٥ - (ولا جناح..) كله للإِباحة إلا قوله: (فلا جناح عليه أن يطوَّف بهما..).
- (إلا أن تقولوا..). هو التعريض لكن أفاد حصر الإِباحة فيه.
٢٣٧ - (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ..). كون الشيء قبل الشيء الأظهر أنه لا يقتضي وقوع الشيء المسبوق.
فإذا قلت: " جاء زيد قبل عمرو "، لم يقتض ذلك وقوع مجيء عمرو على هذا المعنى يتقرر قوله تعالى: (لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي..)، إلا أن يقال: إن ذلك على سبيل الفرض، والتقدير، وعلى ذلك أيضا تقرر هذه الآية؛ لأن المعنى: أن المسيس لم يقع إجماعًا.
وقال الإِمام في " الإِرشاد ": إنه تعالى يتفضل بالنعم قبل استحقاقها فقال شارحه " المُقْترح ": هذا الكلام يقتضي ثبوت الاستحقاق ". والأظهر خلاف ما قاله المقترح لما مرّ.
وقال البُراذعي في " التهذيب ": ويؤمر الجنب بالوضوء قبل الغسل،
والذي في أصل " المدونة ": فإن اغتسل قبل وضوئه أجزأه.
فكان بعض الشيوخ تتعقبه بأن مقتضى ما في " المدونة، أنه إذا اغتسل أجزأه، وإن لم يتوضأ. فالاغتسال قبل الوضوء لا يقتضي وقوع الوضوء كما أن الطلاق قبل المسيس لا يقتضي وقوع المسيس بعده، وكما أن نفاد البحر متقدم على نفاد كلمات اللَّه، وليس بعد نفاد الكلمة بوجه.
- (وقد فرضتم..). يدل على جواز نكاح التفويض. وإرخاء الستر لما كان مظنة للمسيس جُعِلَ بمنزلة المسيس.
- (أقرب للتقوى..). قيل: المناسب أن يقول: أقرب للتفضل؛ لأن من لم يعف ليس ببعيد عن التقوى؛ لأنه ما طلب إلا ما وجب له.
أجيب: بأن المراد أن يكون عفوه لمجرد وجه الله تعالى لا لقصد المحمدة، والشكر.
٢٤٨ - الزمخشري: " إن قلت: ما وزن (التابوت)؟
قلت: لا يخلو أن يكون " فعلوتا "، أو " فاعولا " لا " جائز " أن يكون " فاعولا، لقلة نحو: " سلس "، و " قلق "؛ ولأنه تركيب غير معروف فهو إذاً " فعلوت " من التوب " انتهى.
أراد أنه إذا كان " فاعولا " تكون التاء أصلية، ويلزم فيه أن تكون فاء الكلمة، ولامها حرفًا واحدًا كما في " سلس "، و " قلق " ويلزم عليه اجتماع المثلين، وهو قبيح في " علم التصريف "، لأنه أوله تاء، وآخره تاء، وإذا كان على وزن " فعلوت " تكون تاؤه زائدة؛ لأنها ليست في موضع الفاء ولا العين، ولا اللام فهي زائدة فلهذا كان " فعلوت " أحسن.
- (مبتليكم..). عبّر بالاسم دون الفعل إشارة لثبوت الابتلاء، وأنه لا بدّ منه.
- (ومن لم يَطْعمه..). أخذ منه بعضهم فيمن حلف أن لا يستعمل طعامًا أنه يتجنب الماء لقوله: (يطعمه) فدل " على " أنه طعام، وأفتى به الفقيه أبو القاسم بن البراء وكذلك أخذ ابن الحاج أن الماء طعام.
وَيرُدُ ذلك بأن معنى (يَطْعمه) يذقه من طعم الشيء إذا ذاقه كقوله: (وإذا طعمتم فانتشروا..).
فإن كان فاعل (يشاء) هو اللَّه تعالى، و " من " للتبعيص تعين الوجه الثاني؛ لأن مشيئته تعالى إذا تعلقت بشيء فلا بدّ من وقوع جميعه.
- (ولولا دفع اللَّه الناس بعضهم..) بدل بعض من كل ولم يقل: ولولا دفع الله بعض الناس ببعض؛ ليفيد أن المدفوع أكثر قاله البيانيون في قولك: " أكلت الرغيف بعضه "، ويسمونه " الاستخدام "، ويؤخذ من الآية أن الأصل الفساد فيما احْتَمل الصحة، والفساد.
٢٥٢ - (نتلوها..). تصوير إن أريد ما تقدم، وعلى بابه إن أريد ما يأتي، وفيه " التفات "، وحكمته أن إضافة آيات إلى اسم الجلالة؛
٢٥٣ - (ورفع بعضهم..). التفتازاني في " شرح تلخيص " القزويني: كما أن التنكير، وهو في معنى البعضية يفيد التعظيم، فكذلك إذا صرح بالبعض كقوله تعالى: (ورفع بعضهم درجات..) أراد محمدًا ﷺ ففي هذا الإِبهام من تفخيم فضله، وإعلاء قدره ما لا يخفى.
٢٥٤ - (يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ..). الَأوْلَى حمله على يوم الموت؛ لأنه لا شفاعة فيه.
- (له ما في السماوات وما في الأرض..). من باب السلب لا من باب العدم، لأن السلب نفي الصفة على ما يمكن اتصافه بها، والعدم نفيها على ما لا يمكن أن يتصف بها. ومثال الأول: " زيد لا يبصر "، ومثال الثاني: " الحائط لا يبصر ".
٢٥٧ - (اللَّهُ وَلِيُّ).. إلى قوله: (أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ..). أفرد (وَلِيُّ) في الأولى، وجمعه ثانيًا، والمخبر عنهما فيهما مفرد؛ لأن الطاغوت لفظ مفرد!.
وجوابه: أن الزمخشري: فسّر الطاغوت: بالشيطان والأصنام.
فهو وإن كان لفظه مفرد فمعناه الجمع.
سؤال آخر: جعل نظير المبتدأ في الجملة الأولى خبرًا في الثانية، ونظير
فعلى الوجهين: يجب تقدير مضاف أي إلى نفسك، لأنه لا يتعدى فعل المضمر المتصل إلى ضميره المتصل إلا في باب ظن نحو (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (٧)... (فلا يحسبُنهم بمفازة من العذاب)، على قراءة ضم الباء.
٢٥٨ - (حاج إبراهيم..) القاعدة في مثل هذا أن البادئ بالفعل هو الفاعل، وجاءت هذه الآية على خلاف ذلك لقوله: (إذ قال إبراهيم..)، فدل على أنه البادئ بالمقاولة!.
فيقال: والذين كفروا الطاغوت أولياؤهم أو والطاغوت أولياء الذين كفروا.
وجوابه: أنه قصد الحصر في الجملة الثانية. فجعل الخبر مُعرَّفًا كما يقال: " زيد الرجل الغني لا غيره ".
فالقصد هنا التبكيت عليهم، وأنهم لا ولي لهم إلا الطاغوت بخلاف الذين آمنوا فإنه لا يمكن الحصر فيهم أو وليهم اللَّه ورسوله والملائكة، وفي سورة العقود: (إنما وليكم اللَّه ورسوله والذين آمنوا..)، فقال الزمخشري: إن قلت: لِمَ أفرد الولي، وهم متعددون؟.
فأجاب بأن الولي في الحقيقة هو الله تعالى، وولاية من عداه على جهة التبع له.
٢٥٩ - (مائة عام). لا يصح تعلقه بـ (أماته)؛ لأن الإِماتة سلب الحياة، وهي لا تمتد إلا أن يُأوَّل بمعنى ألبثه اللَّه بالموت مائة عام، وحينئذ يتعلق بما فيه من المعنى العارض له بالتضمين أي: معنى البث؛ لأنه
و (يولد) خبرٌ " كل " قاله ابن هشام المصري.
قلت: ويحتمل الحديث المذكور إعرابًا آخر وهو أن يكون (يولد) في موضع خفض نعتًا لـ (مولود)، والخبرما تعلق به (على)، وهو " كائن " بالقدر مرفوعًا.
- (قال كم لبثت). الزمخشري: قال له: ذلك بغير واسطة بعد إيمان الرجل.
٢٦٠ - قوله: (.. وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي..). بيان لكون السؤال عن الكيفية ويؤخذ منه أن الشك منِ جهة التلاوة، وكيفيتها من جهة الإِعراب لا يؤخذ منه الشك في كونه قرآنًا.
- (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ..). ابن هشام: " لا يصح تعلق (إلى)
٢٦٤ - (لا تبطلوا صدقاتكم بالمنِّ والأذى..). ابن عطية: إذا علم الله من المتصدر أنه يمنُّ بصدقته فلا يتقبلها منه انتهى.
قيل: إنما تناولت الآية من تصدق قاصدًا للمنّ، وأمَّا من تصدق بها غير قاصدٍ لمنٍّ ثم طرأ له قصده بعد ذلك، فينبغي أن لا تبطل صدقته.
ورُدَّ بأن الثواب، والعقاب يترتب باعتبار المال، والعاقبة، ويدل عليه أن ابن التلمساني قال في آداب الطفل أو غيره: فمن أمر الشارع
أبو حيان: يحتمل أن يكون (الأذى) راجعًا للمُتَصدق. ويريد أنه يُدْخِلُ الأذى على نفسه بأن لا يكون عنده إلَّا قوت يومه فيتصدق به، ويبقى جائعًا لكن يقال: ليس هذا مبطلًا للصدقة، وعطف (الأذى) على (المنِّ) هو في الظاهر من عطف العام على الخاص، وفي التحقيق من عطف الأخص على الأعم؛ لأن نفي الأعم أخص من نفي الأخص.
- (كالذي..). مكيِّ: الكاف نعت لمصدر محذوف تقديره:
ابن هشام: لا حاجة إلى هذا الحذف، بل هو حال من الواو أي: (لا تبطلوا صدقاتكم) مُشبهين (الذي ينفق).
- (ماله..). الذي قرّ عليه المفسرون أنها كلمة واحدة، وأن المراد بها المال، ويحتمل أن تكون (ما) موصوله و (له) جار ومجرور وهذا أعم؛ لأن المال قيل: إنه لا يطلق على كل المتملك بل على بعضه.
- (فمثله كمثل صفوان..). (الكاف) إمّا زائدة أو كما قال الزمخشري أول السورة: أن (مثل) بمعنى صفة. فالكاف أصليّة و (عليه) صفة لمثل. و (تراب) فاعل أو مبتدأ و (عليه) خبره، والجملة صفة لى (صفوان)، والضمير في (فمثله) عائد على اسم الفاعل المفهوم من قوله: (لا تبطلوا) أي: فمثل المُبْطل، ويبعد عوده على (الذي)؛ لأنه يكون من باب القياس على الفروع وفيه عند الأصولين خلاف؛ لأنه قاس مبطل الصدقة على المنفق رياءً، والمنفق رياءً على الحجر الصلد المغطاة بالتراب فالمنفق رياءً فرع.
- (فأصابه..). يحتمل عود الضمير على (التراب)، لقربه، والظاهر
ابن عطية: (صفوان): جمع صفوانة أو صفَواة.
أبو حيان: على هذا إنما هو اسم جنس " يُفَرقُ " بينه، وبن مفرده هاء التأنيث.
قلت: ويدل على هذا عود الضمير عليه مفردا.
٢٦٥ - (ضعفين..). قيل: الضعف المثل، وقيل: المِثْلان.
انظر في سورة الأحزاب في قوله: (يضاعف لها العذاب ضعفين).
٢٦٦ - (له فيها من كل الثمرات..). بعد قوله: (من نخيل وأعناب) معناه: أن معظمها نخيل، وأعناب، وفيها من كل الثمرات.
٢٦٧ - (الخبيث..). وقال ابن العربي: قال جماعة (الخبيث) الحرام.
وأخذه من تسمية الرجيع خَبَثا.
وقال يعقوب: (الخبيث): الحرام.
ففسر اللغة بالشرع، وهو جهل عظيم، والصحيح أن " الخبيث " يطلق على مال منفعة فيه كقوله صلى اللَّه عليه وسلم: " كما ينفى الكير خبث الحديد ". وعلى ما تنكره النفس كقوله: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ..).
الزمخشري: المُخْرَج من الأرض هو النبات، والمعادن، وغيرهما. أراد بالغير الرِّكاز.
٢٦٧ - (إلا أن تغمضوا فيه..). الزمخشري: تسامحوا في أخذه ويترخصوا من قولك: اغمض فلان عن بعض حقه إذا غض بصره.
قال الطِّرماح:
ما لم يَفتنا بالوتر قومٌ للضَّيـ... م رجَال يَرضَوْنَ بالإِغْماض.
وأنشده ابن عطية: وللذُّل رجال.
يقال: وَتِرَ فلان إذا لم يأخذ بثأر قتيله. والضيم: الذُّل.
٢٧٠ - (فإن اللَّه يعلمه..). قال ابن عصفور: إذا تقدم الضمير معطوف، ومعطوف عليه فإن كان العطف بالـ " واو "، وبـ " حتى " كان
ورَدَّه عليه بعضُ المتأخرين. وقال: إن الضمير يكون على حسب الأول مطلقًا في جميع حروف العطف، واستدل بقوله: (فاللَّه أولى بهما..).
وتأوَّل قوله: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها..).
قال شيخنا ابن عرفة: وقد يجاب: بأن أنصار جمع نصير، وهو أخص من ناصر فلا يلزم من نفيه نفيه.
٢٧١ - (فنِعمَّا هِيَ..). قرئ (فنِعْمَّا هِيَ)، وفيه الجمع بين ساكنين وهو لا يجوز إلَّا إن كان الأول حرف مدّ ولين فيجوز بلا خلاف، أو حرف لين خاصة فيجوز على اختلاف.
- (وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ).
في الآية ثلاثة أسئلة:
الأول: ذكر (وتؤتوها الفقراء..) في القسم الثاني دون الأول!.
جوابه: أن الإظهار مظنة الاستقصاء، وتكثير الفقراء، والإخفاء
السؤال الثاني: أضاف " السيئات " إليهم، ولم يضف " الصدقات " إليهم وهما متقابلان!.
جوابه: أن السيئات عبارة عن الجزاء على الأعمال فلا تقابل؛ لأن الصدقة هي العمل لا الجزاء عليه، وإنما يَردُ السؤال إذا قلنا إن " السيئات " عبارة عن الأعمال أنفسها.
السؤال الثالث (ونكفر) فيه عشر قراءات. نُكَفِّرُ، نُكَفِّرْ، نُكَفِّرَ، يُكَفِّرُ، يُكَّفَرْ، يُكَفِّرَ، تُكَفِّرُ، تُكَفِّرْ، تُكَفِّرَ، يُكَفَّرُ. فعلى قراءة رفع الراء لا سؤال؛ لأنها جملة استئنافية. وعلى قراءة جزم الراء يكون معطوفًا على موضع جواب الشرط وهو قوله: (فهوِ خير لكم) وإذا كان كذلك فالحكمة في أن ذكر تكفير السيئات تحريضًا، وتحضيضًا عليه، وزيادة في الأفضلية.
- (وإن تخفوها..). أبو حيان: ضمير النصب عائد على (الصدقات) لفظًا، ومعنى بأي تفسير فسرت، " ولا زيادة ".
انتهى. أراد أن الصدقات غير الثانية؛ لأن المَعْنى من الأولى: الإظهار، ومن الثانية: الإخفاء فلا يتجه أن يكون المعنى: وَإن تخفوا الصدقات المظهرة.
ونظيره ذلك " عندي درهم، ونصفُه " قد يفرق بينهما بأن الدرهم متشخص فلهذا استحال عود الضمير عليه لفظًا، ومعنى بخلاف " الصدقات " فإنها عام لم يقصد بها صدقة معينة، وجعل بعضهم " عندي درْهمٌ ونصفه " من باب الاستخدام.
قال: وهو أن يؤتى باللفظ مجردًا عن المعنى استخدامًا له قصدًا؛ لعود الضمير على لفظه، ولا يقصد بذلك اللفظ إفادة معناه الأصلي بوجه.
وهل هذا الخطاب خاص بالنبي ﷺ أو عام له، ولسائر المؤمنين؟.
فعلى ما نقل ابن عطية عن سعيد بن جبير، وعن النقاش يقتضي الخصوص، وما نقله عن ابن عباس يقتضي العموم.
ابن عطية: ذكر النقاش أن النبي ﷺ أُتي بصدقة فجاءه يهودي فقال: أعطني: فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: " ليس لك من صدقة المسلمين شيء ".
فذهب اليهودي غير بعيد فنزلت الآية فدعاه رسول الله ﷺ فأعطاه ثم نسخ اللَّه ذلك بقوله: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ..) الآية. انتهى.
الظاهر أن هذا ليس بنسخ، ولكن المتقدمون يطلقون عليها نسخًا. والمتأخرون يقولون: العام إن عُمِل به ثم ورد بعده الخاص فهو ناسخ له، وإن ورد الخاص بعده قبل العمل به فهو تخصيص لا نسخ.
أما خلق الهدى فنفيه معلوم بالضرورة، فلا يحتاج إلى ذكره. وأما الدعاء إلى الإِيمان فغير منفي، وينفي قسم ثالث، وهو الدعاء المُحَصِّل للإِيمان الكسبيّ لا الجبري. فيقال: هديت فلانًا إلى الإِيمان أي: دعوته إليه فاهتدى بخلاف ما إذا دعوته إليه فلم يهتد فإنك لا تقول: هديته إلى الإِيمان فهذا هو المنفى في الآية أي: لست مطلوبًا بتحصيل الهداية الكسبية لهم، إنما عليك أن تدعوهم فقط، والإضافة إلى هذا للمفعول أي: أن تهديهم.
فإن قلت: لعل المعنى لا يجب عليك أن تجبرهم على الإِيمان.
قلت: يرده قوله: (ولكن اللَّه يهدى من يشاء)، ليس المراد به الجبر على الإِيمان، بل خلق الهداية.
ابن عصفور: الجملة التي بعد (لكن) تكون مضادة لما قبلها، ولا يجوز أن تكون موافقة.
واخْتُلِفَ هل تكون مخالفة لما قبلها أم لا؟. وهذه الجملة في الآية مخالفة لما قبلها.
فإن قلت: الأصل فى نسبة المتكلم إلى نفسه " فِعْلاً " أن يأتي بأسمه مضمرًا فعلى هذا كان يقال هنا: " ولكنا نهدي "!.
فالجواب: أنه لما كان ذلك خاصًا باللَّه تعالى أتى باسم الجلالة الخاص به بخلاف المضمر إذ هو غير خاص؛ لأن الضمائر كلية؛ ولأن ضمير " نا " النون، والألف يكون للمتكلم وحده إذا عظم نفسه، وللمتكلم ومعه غيره بخلاف اسم الجلالة فإنه خاص قطعًا.
- وقوله: (من يشاء) دليل لأهل السنة. ورده الزمخشري للألطاف
على مذهبه.
- (يوفَّ إليكم..) أي: في المقدار.
- (وأنتم لا تظلمون) أي: في الصفة، وهو تأسيس.
٢٧٣ - (سبيل الله). قال مالك في " كتاب الحبس ": هو وجوه الخير بالإطلاق كيفما كانت.
وقال ابن عبد البر: المشهور عن مالك: أنه الجهاد.
- (من التعفف..). لم يقل: من تعففهم إشارة إلى إتصافهم بأبلغ وجوه التعفف، وأنهم لم يتصفوا بتعففهم اللائق بهم، بل اتصفوا بالتعفف الأكمل، و (من) للتعليل، وهي متعلقة ب (يحسب) ولا يصح تعلقها بـ (أغنياء)، لأنه متى ظنَّهم ظان قد استغنوا من تعففهم علم أنهم فقراء من المال فلا يكون جاهلاً بحالهم. قاله ابن هشام.
غنيّ بلا دنيا عن الناس كلهم | وإن الغنى الأعلى عن المال لا به |
- (لا يسألون الناس إلحافًا..) يحتمل أن يكون مثل: (وما ربك بظلَّام للعبيد)، أي: لو قُدِّر صدور السؤال منهم لما قُدِّر وقوعه إلّا بـ " الإِلحاف " لأجل ما نالهم من الجهد، والحاجة.
ويحتمل أن يكون مثل قوله تعالى: (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ).
، فيكون من باب نفي استلزام الأخص أمرًا، وإذا لم يستلزم الأخص أمرًا لم يستلزمه الأعم، والمعنى: لا يسألون الناس الإِلحاف في السؤال أي: لأجل سبب الإلحاف، وهو شدة الحاجة، وإذا لم يسألوهم، لأجل شدة الحاجة فأحرى أَلَّا يسألوهم؛ لأجل سبب عدم الإِلحاف، وهو مطلق الحاجة فقط.
" الفخر ": ويحتمل أن يكون المراد بالإِلحاف تأكيد صبرهم.
انتهى. فينبغي على هذا أن يوقف على قوله: (لا يسألون الناس).
و (إلحاف) مصدر أي: يلحفون إلحافًا أي: يبالغون في شدة صبرهم، وتجلدهم على الفقر.
عَلَى لاَحِبٍ لاَ يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ | إِذَا سَافَهُ العَوْدُ النَّبَاطِيُّ جَرْجَرَا |
وقوله: لاَحِبٍ: طريق. وقولِه: لا يهتدي بمناره أي: ليس فيه علم، ولا منار فيهتدى به. يصف طريقَا غير مسلوك.
وقوله: إذا سافه العَوْد: أي: إذا شمه المُسِنُّ مُسِنُّ الإِبل صوَّت ورغا؛ لبعده وما يلقاه من مَشَقَّتِه، والنباطيِّ: المنسوب إلى النَّبط وهو: أشد الإبل، وأصبرها.
وقيل: هو الضَّخْم، وأِصل اللاحب: الطريق البين الذي لَحبَتْه الحوافر أي: أثَّرتْ فيه فصارت فيه طرائق، وآثار بيِّنة هذا أصله، ثم يستعمل لكل طريق بين، وخفى.
ورُدَّ على الزجاج: بأن من لوازم المنار الاهتداء بخلاف السؤال فإنه أعم من الإِلحاف فلا يلزم من نفي " الإِلحاف " نفي السؤال، أو يلزم من نفي المنار نفى الاهتداء.
ووجَّه بعضهم قول الزجاج: أنه نفي للسؤال، و " الإلحاف " جميعًا بأن هؤلاء المذكورين بين رجلين رجل جاهل بهم يحسبهم أَغنياء، ورجل يعرفهم بسيماهم، وأنهم فقراء فلا يفتقرون إلى السؤال.
قيل: (بصير) أخص من (عليم) على مذهب أهل السنة، فلِمَ عدل عنه إلى عَلِمَ الذي هو أعم؟.
وأجيب: بأن الآية خطاب للعوام لا للخواص، وصفة العلم عند العامة أجلى إذ لا خلاف فيها بخلاف (بصير).
فإن منهم من رده لـ (عليم). ومنهم من أبقاه على ظاهره.
٢٧٤ - (بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً) ابن عطية: عن ابن عباس نزلت في علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه: كانت له أربعة دراهم فتصدق بدرهم
قيل: التصدق بالليل والنهار لا يخرج عن كونه سرًّا، وعلانية.
أجيب: بأنه لا يعترض على السبب، وإنما ينظر في تطبيق السبب على لفظ الآية، ويفهم هذا بأنها قسمة رباعية، فتصدق في الليل بدرهم سرا، وبدرهم علانية، وكذلك في النهار، ويكون من باب اللف والنشر، سرا الليل، وعلانية النهار، ويدل عليه عدم العطف.
فإن قيل: لمَ قدم " السرّ " على " العلانية "، ونفقة السرّ أفضل فهلا بدأ بالعلانية، ليكون العطف ترقيًا لا تدنيًا؛ لأن عطف الترقي تأسيس، وعطف التدني فيه ضرب من التأكيد.
فالجواب: أن ذلك على قاعدة استصحاب الحال، وذلك أن نفقة السر أفضل؛ لخلوص النية فيها وسلامتها من الرياء فإذا أنفق أولاً سرًّا
- (فلهم أجرهم..). معنى الإِضافة: الأجر اللائق بهم. ولو قيل: " فلهم أجر "، كان مفهومه أن من فعل دون ذلك لا أجر له ولا شك أنه يؤجر.
ابن عطية: دخلت " الفاء "؛ لأن الموصول وصل بالفعل، ولم يدخل عليه عامل يغير معناه.
أبو حيان: وكذا إذا كانت الصلة ظرفًا أو مجرورًا. انتهى.
كذا ذكر ابن عصفور في " المقرِّب "، و " شرح الإِيضاح ".
فإن قلت: الظرف والمجرور محل، والتعليل عند الأصوليين بالصفة لا بالمحل!.
فالجواب: أن المحل هنا ناب مناب متعلقه، وهو: كائن أو مستقر.
الذي هو صفة، وتنوسي المتعلق حتى صار المحل كأنه هو؛ ولذا لا يجوز الجمع بينها.
أبو حيان: ومن شروط دخول الفاء أن يكون الخبر مُسْتَحقًّا بالصلة كهذه الآية.
وأجيب: بأن هذه بالنسبة إلى السامع، وكلا منا في دخول الفاء، بالنسبة إلى قصد المتكلم، ونيته.
قال الشيخ: وعادتهم يردون على كلام أبي حيان قوله: (الذي خلقني فهو يهدين)، فإن نفس الخلق غير موجب للهداية وإلّا لزم منه مذهب المعتزلة القائلين بمراعاة الأصلح، وعادتهم يجيبون: بأن المراد (الذي خلقني) هذا الخلق الخاص على هذه الصفة، وهي النبوة، ونظيره قوله: (فمن ثقلت موازينه..).
فإن قلت: النفقة مستلزمة، لثبوت الأجر لهم مع " الفاء "، ومع عدمها فما أفادت؟.
فالجواب: أن الخبر إذا كان ثابتًا، وعطف عليه ما يتوسم عدم ثبوته فلا بدّ من " الفاء " فأتى بها هنا؛ لتدل على كمال الارتباط، وأن ذلك سبب في نفي الحزن، والخوف عنهم، ولفظ: (الرب) هنا دال على أن هذا الثواب محض تفضل من اللَّه تعالى كما يقول أهل السنة.
سؤال آخر: لأي شيء نفى الحزن عنهم بالفعل، والخوف بالاسم والمناسب العكس؟!.
فلذا نفى الخوف بلفظ الاسم الدال على العموم بإجماع، ونفى الحزن بالفعل المحتمل للعموم، وعدمه.
ورُدَّ بمنع الإِجماع؛ لأن النكرة عند النحويين لا تعم إلّا إذا كانت مبنية مع لا.
وأجيب: بأنها أعم من الفعل بلا شك.
٢٧٥ - (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ..) وجه مناسبتها لما قبلها أنه تقدمها إنفاق الصدقة، وهي لا عن عوض.
و (الربا) في ظاهر الأمر زيادة عن عوض؛ لأنه يدفع قليلًا في كثير. وقرر الفخر: المناسبة بأن الصدقة من المال، والربا زيادة فيه فالنفوس تحبه، وتكره الصدقة فجاءت الآية إشعارًا بأن ذلك النقص زيادة، وتلك الزيادة نقص.
والتشبيه بمن (يتخبطه الشيطان) إما حالة تخبطه أو أثر ذلك،
واعلم أن قدماء المعتزلة ينكرون الجن بالأصالة، وهو كفر لا شك فيه؛ لأنه تكذيب للقرآن، والحديث.
أعلمه الرماية كل حين | فلما اشتد ساعده رماني |
- (ذلك). الإِشارة لأكلهم (الربا)؛ لأنه سبب في عقوبتهم، وسبب السَّبب سبب، وهذا قياس تمثيلي. وذكروا منه قياس الشبه، والتسوية، وهو قياس آخر بمعنى: أن الحكم في المقيس عليه ثابت في الفرع المقيس من باب أحرى، فينعكس فيه التشبيه ومثله ابن ملك في " المصباح " بهذه الآية، ويقول الشاعر:
وكأن النجوم بين دجاها:. سنن لاح بينهن ابتداع
فجعل أهل السنة بين المبتدعة بمنزلة النجوم في الظلام.
وقال غيره: إن الابتداء بالنجوم محتاج فيه إلى معرفة استدلال، واتباع
وقال الزمخشري: الإِشارة للعقاب.
- (وأحل اللَّه البيع وحرم الربا). تحتمل أن يكون من كلامهم كالاعتراض على حكم اللَّه تعالى، واستشكالاً لتحريم أحدهما، وتحليل الآخر مع تساويهما عندهم.
وجعله الزمخشري ردّا على قياسهم، والصواب أنه تجهيل لهم؛ لتقدم النص، فهو قياس في معرض النص فهو فاسد الوضع.
وعلى ما قال الزمخشري: يكون النص غير متقدم، والواو تحتمل الحال، والإِستئناف.
واختلف الفقهاء في لفظ: (البيع) " هل هو من قبيل المجمل ثَمَّ بيِّن، أو عام مخصوص، وقيل: لم يخصص، فعلى الاوَلينَ يكون حقيقة لغوية، وعلى الثالث: يكون حقيقة شرعية؛ لأنه إذا كان
فإن قلت: يلزم على هذا تحصيل الحاصل؛ لأن الحلال لا يُحلل!.
قلت: تكون الواو على هذا للحال.
و (الربا). حكى فيه اللَّخْميِّ في " كتاب الصرف " ثلاثة أقوال.
٢٧٦ - (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ..). الأحكام الشرعية منوطة بمصالح دنيوية، وأخروية فلما تضمن الكلام السابق حصول المصلحة الأخروية بالصدقة تضمن هذا أنه مُحصِّل للمصلحة الدنيوية.
و (الربا) متضمن أيضا للمفسدة الدينية؛ لترتب العقاب عليه، والدنيوية؛ لأنه مَمْحَقة للمال، والصدقة زيادة فيه. وحمله ابن عطية على أنه في الدار الآخرة، والظاهر خلافه وبدأ هنا (بالربا)، وفيما تقدم بالصدقة، وطريق المقابلة، واللف، والنشر العكس.
فإن قلت: هلا قيل: يمحق الله المال الذي فيه (الربا) فهو أبلغ في التخويف؛ لأن محق المال الذي فيه الربا أشد؛ لاستلزامه محق الربا، وزيادة.
فالجواب: أن هذا أجلى في محق الربا، والمخاطبون عوام.
- (والله لا يحب كل كفار أثيم) قول ابن عطية: الله تعالى يحب التوفيق على العموم. انتهى.
كان القاضي أبو العباس بن حيدره، والفقيه المفتي أبوالقاسم الغُبْرينِّي يقولان: هذه نزعة اعتزالية غفل فيها، ولم يشعر فيها، بل مذهبنا أن الله تعالى يحب الخير، والشر. والرجل سُنِّي لا شك في فضله، ودينه.
قيل: إن قلت: إن نقيض المستحب مكروه فظاهر، وإن كان أعم فَهلَّا قيل: واللَّه يكره كل كفَّار.
وأجيب: بأن عادة العرب أنهم يقولون في المدح التام: " حبذا زيد " وفي الذم التام: " لا حبذا زيد ". فنفى المحبة عندهم يستلزم الكراهة.
ابن هشام: قال البيانيون: إذا وقعت " كل " في حيز النفي كان النفي موجها إلى الشمول خاصة، وأفاد بمفهومه ثبوت الفعل لبعض الأفراد
ما كل رأي الفتى يدعو إلى رشد
وقوله:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه.
وإن وقع النفيُ في حيزها اقتضى السلب من كل فرد كقوله عليه السلام لما قال له ذو اليدين: " أنسيت أم قُصِرَتْ الصلاة: كلُ ذلك لم يكن ".
وقول أبي النجم:
قد أصبحتْ أمُّ الخيار تَدْعِي | عليَّ ذنبًا كلهُ لم أصنع |
قلت: وكذا هذه الآية.
وقد صرح الشلوبين، وابن مالك في بيت أبي النجم: بأنه لا فرق في المعنى بين رفع " كَل " ونصبه.
ورَدّ الشلوبين على ابن أبي العافية إذ زعم أن بينهما فرقا، والحق ما قال البيانيون.
والجواب عن الآية: أن دلالة المفهوم إنما يُعَول عليها عند عدم
قيل: " كافر " في باب النفي أبلغ فلِمَ عدل عنه؟.
أجيب: بأنه لمّا كان المنفى أخص. كان النفي أخص.
وأجيب أيضا: بأنه لما ذكر فاعل (الربا) أتى في هذا ببناء المبالغة توكيدًا لذمه.
(أثيم) نعت بمعنى الذم كالشيطان الرجيم.
وجعله ابن عطية نعت بيان. وهو بعيد؛ لأن (كفَّار) يدل عليه؛ لأنه من أبنية المبالغة،.
٢٧٧ - (لهم أجرهم..). وفي الآية المتقدمة (فلهم)!.
أجيب بوجهين:
الأول: أنه ما ذُكر في الآية الأولى أكمل، وأبلغ. قيل: الأعمال الصالحة هنا تستلزم النفقة، وغيرها. وقيل: تستلزم مطلق النفقة، وتلك نفقة خاصة.
وأجيب أيضا: بأن الأول موصول مُضَمَّن معنى الشرط أفصح دخول " الفاء " في خبره، و " إن " لا تدخل على الشرط فدخولها على الموصول يمنع من كونه مضمنًا معنى الشرط، فلا تدخل " الفاء " في خبره.
٢٧٨ - (يأيها الذين آمنوا اتقوا اللَّه..) حمله ابن عطية على أحد ثلاثة أمور: إمّا (يأيها الذين آمنوا) بمحمد دوموا على إيمانكم، وإمّا (يأيها الذين آمنوا) في الظاهر (اتقوا اللَّه.. إن كنتم مؤمنين) في الباطن، وإمّا (يأيها الذين آمنوا) بعيسى وموسى آمنوا بمحمد.
وأجيب: بأن هذا كف لا ترك؛ ولذا قال ابن الحاجب في حدّ الأمر: طلب فعل غير كف. ونظير هذا إذا كان طعام طيب بين يدي رجلين أحدهما جائع، والآخر شبعان ولم يأكلا منه شيئًا.
فيقال في الجائع: إنه كف عن الأكل، وفي الشبعان: إنه ترك الأكل.
وأجيب أيضا: بجعل قوله: (فإن لم تفعلوا) راجعا لقوله: (واتقوا اللَّه) لا لقوله: (وذروا).
ورُدَّ بأن الآية إنما سبقت لتحريم (الربا) بدليل استدلالهم بها في كتب بيوع الآجال في ربا الجاهلية، والأمر بالتقوى ليس هو لذاته.
مسألة: هل الترك فعل أم لا؟.
ذكرها ابن بشير، وغيره في " كتاب الصيد " في المار بالحبالات، وفيها صيد فيتركه فيموت هل يضمنه أم لا؟.
وفيها بحث لشيخنا ابن عرفة في " مختصره ".
قيل: كونه للتعظيم مشكل، لأن التنكير إنما هو للتقليل، والشيوع في آحاد ذلك الشيء.
وأجيب: بأن التعظيم في الصفة، وفي الكيفية لا في الكمية، والقدر.
- (وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم). قيل: مفهومه مخالف لمذهبنا أنه يجب ردّ الزيادة، وبطلان الربا، وللمعطي رأس ماله.
وأجيب: بأنهم إن لم يتوبوا سقط الخطاب؛ لأنه لا يخاطب بردِّ الربا إلا المؤمن.
٢٨٠ - (وإن كان ذو عسرة). ابن العربي: في المعنى المقصود منها ثلاثة أقوال:
الأول: المراد بها ربا الدَّين خاصة فيه يكون الإنظار قاله ابن
والثاني: أنه عام في كل دين قاله العامة، وعبّر عنه ابن عطية بقوله: قاله جمهور العلماء: النَظِرَة إلى الميسرة حكم ثابت في العسر سواء كان الدين ربا أو من تجارة في ذمة أو من أمانة فسّره الضحاك.
الثالث: قال متأخر علمائنا: هو نص في دين الربا، وغيره من الديون مَقِيسٌ عليه.
قال ابن العربي: والأول ضعيف، ولا يصح عن ابن عباس، لأن الآية وإن كان أولها خاصًّا كان آخرها عام، وخصوص أولها لا يمنع من عموم آخرها لا سيما إذا كان العام مستقلا بنفسه.
قال عياض في " كتاب الوصايا " من " الإكمال " في حديث سعد بن أبي وقاص: أن قولك: " زيد ذو مال " أبلغ من قولك: " زيد له مال ".
ونحوه للزمخشري أول سورة آل عمران، في قوله تعالى: (واللَّه عزيز ذو انتقام)، وفي سورة غافر في قوله تعالى: (إن اللَّه لذو فضل..)، ونحوه لابن الخطيب في سورة الروم، في قوله: (فأت ذا القربى حقه..).
وقال بعضهم: قولك: " زيد صاحب مال " أبلغ من قولك: " ذو مال "؛ لأن " ذو مال، يقتضي مطلق النسبة سواء اتصف به أم لا بخلاف قولك: " صاحب " بناء على قول الأكثر وهو الصحيح.
والإِتيان بلفظة (ذو عسرة)، ولم يقل: وإن كان معسرًا موافق لما تقرر في الفقه أن من له دار، وخادم، وفرس لا فضل في ثمنهن يجوز له أخذ الزكاة، ويسمى فقرا مع أنه إذا كان عليه دين فإن ذلك يباع عليه فليس مجرد الإِعسار موجبًا، لإِنظاره، فناسب إدخال (ذو).
ابن عطية: (كان) هنا عند سيبويه تامة بمعنى وجد، وحدث.
ومن هنا يَظْهرُ أن الأصل الغني؛ لإِدخال (إن) فدلَّ على أن الإِعسار لم يكن موجودًا " انتهى.
ويردّ بأنه فرق بين الدين الكائن عن عوض، والدين الكائن لا عن عوض فالدين عن عوض الأصل فيه المِلأ واستصحاب الحال ببقاء ذلك العوض، وذهابه على خلاف الأصل، والذي لا عن عوض كنفقة الزوجات، والبنين، ونفقة الأبوين، ليس الأصل فيه الملاء.
وحكى مكيّ أنه عليه السلام أمر به في صدر الإِسلام. فعلى الأول هو نسخ لغوي، وعلى الثاني نسخ اصطلاحي، وأورد القَرافي في " قواعده " سؤالًا قال: ثواب الواجب أعظم من ثواب المندوب مع أن تأخير الغريم بالدين واجب، والتصدق به عليه مندوب إليه، والآية نص في أن التصدق عليه أفضل.
- (وأن تصدقوا خير لكم..). ابن عطية: معناه عند الأكثر أن الصدقة على المعسر. خير من انظاره.
وقيل: معناه (وأن تصدقوا) على الغني، وعلى الفقير " انتهى.
المشهور عند الأصوليين أن العام إذا ورد على سبب فإنه لا يقتصر على سببه بل يكون عامًا فعمومه في الغني، والفقير أحسن. الزمخشري: وقيل: المراد بالتصدق الإِنظار كقوله عليه السلام: " لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة ". انتهى.
وهل هو أيضا عام في المعسر والموسر أو خاص بالمعسر؟.
فإن قلنا: إنه خاص فـ (خير) " فعل " لا " أفعل " إذ يجبر الغريم على إنظار المعسر.
٢٨١ - (واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى اللَّه..). الفخر: الرجوع يؤذن بأنه كان يتقدّم للمكان عند الرجوع إليه، وهو من قولك: " رجع زيد إلى القيام " فإنه يؤذن بأنه كان قائمًا فقعد ثم عاد إلى القيام، وهؤلاء لم يكونوا عند اللَّه!.
وجوابه: أن الإِنسان له ثلاث حالات: حالة في بطن أمه، وأمره فيها إلى الله، وليس له فيها في أموره تدبير، ولا كسب. وحالة: كونه في الدنيا وله فيه التكسب، والإِرادة. وحالة الموت فما بعدها: يعود كما كان لا قدرة له، ولا تكسب ويصير أمره كله للَّه فشابهت الحالة الأخيرة الحالة الأولى بهذا الاعتبار.
- (ثم توفى كل نفس..). عام مخصوص؛ لأن المجانين، وأطفال الكفار لا يدخلون فيها.
فإن قيل: لا كسب لهم.
قلنا: قد تقرر من مذهبنا أن الطفل الصغير إذا استهلك شيئًا فإنه
- (وهم لا يظلمون). الفخر: ما أفاد مع أنه مفهوم مما قبله؛ لأنها إذا وُفيت ما كسبت لم تظلم؟!.
وجوابه: أن التوفيه في الحسنات (وهم لا يظلمون) أي لا يزاد عليهم في السيئات " انتهى.
وأجاب بعضهم: بأن التوفيه تقتضي الزيادة على الشيء فأتى بقوله: (وهم لا يظلمون) نفيًا؛ لتوهم الزيادة في السيئات.
ورُدّ بمنع دلالة التوفيه على الزيادة، بل قال الزمخشري في سورة الشعراء في قوله: (أوفوا الكيل..)، " إن الكيل " يكون على ثلاثة أضرب:
وافٍ، وطفيف، وزائد. فنص على أن الوافي هو القدر الواجب والطفيف النقص منه.
وأجيب: بأنه يتناول الدَّين بالدَّين عن معاوضة فإن من اشترى بنقد أو نسيئة فإذا دفع الثمن حصل له في ذمة المشتري، وله عليه الرجوع بعهدة العيب أو الاستحقاق.
- (وبدين). أتى به ليكون نكرة في سياق الشرط فيعم.
الزمخشري: ذُكِرَ ليعود عليه الضمير ولو لم يذكر لقال: " فاكتبوا الدين "، ولا يحسن بذلك النظم، ولأنه أبين؛ لتنويع الدين إلى مؤجل، وحال ". انتهى.
يقال له: لا يتوقف عود الضمير على ذكره؛ لجواز إعادته على المصدر المفهوم من الفعل كما أعيد في قوله: (اعدلوا هو أقرب للتقوى).
ابن عطية: أتى به، ؛ لأن تدايَن في كلام العرب مشترك يقال: تداينوا أي جاز بعضهم " بعضا ".
ويقال: تداين بمعنى أخذ الدين.
فقال: (بدين) ليبين أنه من أخذ الدين. " انتهى.
وأجيب: بأن مصدر تداين إنما هو تدايناً لا ديناً.
وفي " المدونة " لما ذكر هذه الآية قال مالك: هذا يجمع الدين كله.
قال شيخنا: عوائدهم يتعقبون قول مالك هذا بأن لفظ (دين) نكرة في سياق الثبوت فلا تعم.
وأجيب بوجهين:
الأول: أنها في سياق الشرط، والنكرة في سياق الشرط تعم؛ لأن الشرط عند النحويين يجري مجرى النفي.
الثاني: أنها في سياق (إذا)، و (إذا) عامة فتعم، وهو راجع للأول، لأن (إذا) هي الشرط.
الزمخشري: ما فائدة (إلى أجل مسمى)؟!.
فأجاب: بأنه يفيد أن الأجل لا بد أن يكون معلوما كالتوقيت بالسنة، والأشهر، والأيام، ولو قال: إلى الحصاد أو الدراس أو رجوع الحاج لم يجز لعدم التسمية " انتهى.
قال شيخنا: هذا عندهم مختلف، وهو عندنا متحد معلوم فيجوز. وفي الأمر بالكَتْب مصلحة دنيوية، وهي: حفظ المال: ومصلحة دينية وهي: السلامة من الخَصومة بين المتعاملين.
أجيب: بأنه لا يحتاج إلى كتب وثيقة غالبًا، لأن له طلبه في الحال.
ابن العربي: وفي هذا الأمر أربعة أقوال:
الأول: أنه فرض على الكفاية كالجهاد، والصلاة على الجنائز قاله الشعبي.
الثاني: أنه فرض على الكاتب في حال فراغه قاله بعض أهل الكوفة، وحكاه ابن عطية عن السُّدِىِّ.
الثالث: أنه ندب قاله مجاهد، وعطاء.
الرابع: أنه منسوخ بقوله: (لا يضار كاتب ولا شهيد) حكاه المهدوي عن الربيع، والضحاك.
والصحيح أنه أمر إرشاد فلا يكتب حتى يأخذ حقه. انتهى.
ابن عطية: قال عطاء وغيره: واجب على الكاتب أن يكتب. وقال الشعبي، وعطاء أيضا إذا لم يوجد كاتب سواه فواجب عليه أن يكتب. انتهى.
ويمكن الجمع بينهما بأنه كان قبل النسخ يقول: بالوجوب ثم صار بعده يقول: بالندب أو يكون معنى الوجوب عنده إذا لم يوجد غيره.
- (بالعدل). ابن عطية: بالحق، و " الباء " متعلقة. (يكتب) لا (بكاتب)، وإلَّا لزم أن لا يكتب وثيقة إلا العدل نفسه، وقد يكتبها الصبيّ، والعبد، والمسخوط. إذا أقاموا فِقْهها إلا أن المنتصبين لها لا يجوز للولاة أن يتركوهم إلا عدو لا مرضيين ". انتهى.
ويرَدُّ أيضا كلام ابن عطية بأن الأمرة للكاتب ابتداء إنما هو للعدل في نفسه، وإمضاء كتب الصبي، والعبد، والمسخوط إنما هو بعد الوقوع والآية إنما جاءت فيمن يؤمر بكتبها، وفَرْقٌ بين الأمر بكتبها
فإن قلت: لِمَ قدم (بينكم) وهو فضله على (كاتب) وهو عُمْدة؛ لأنه فاعل؟
فالجواب: أن المقصود حصول الكَتْب بين المتعاملين لا الكاتب فقدم الأهم وهو البينة.
- (ولا يأب كاتب). كرر لفظ (كاتب)؛ لأن المحل محل إطناب؛ لأنه نهي، والنهي أشد من الأمر؛ لاقتضائه دوام الترك في كل زمن، ولحديث: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ماستطعتم، وإذا نهيتكم فانتهوا ".
وأيضا فإن (كاتب) ونكرة يفيد العموم، فكُرر لهذا المعنى.
- (سفيهًا أو ضعيفًا). ابن عطية: السفيه: الذي لا يحسن الأخذ لنفسه، ولا الإِعطاء منها.
قلت: هذا هو السفيه عند الفقهاء.
قال: وهذه الصفة لا تخلو من حَجْر أب، أو وصيّ.
قلت: أو قاضٍ.
ابن العربي: في السفيه أربعة أقوال:
قيل: الجاهل.
وقيل: الصبي.
وقيل: المرأة، والصبي.
وقيل: المبذر ماله، المفسد لدينه.
وقيل: الأخرس، أو الغبيّ.
ابن عطية: وقيل: الضعيف: الأحمق الكبير.
وقال الزمخشري: ضعيفا: أي صبيًا أو شيخًا مختلاً.
- (وَليُّهُ). الضمير عائد على ذي الحق.
وذهب الطبري إلى عوده على الحق، وأسند ذلك إلى ابن عباس والربيع.
ورده ابن عطية: بأنه لا يصح أن تعمر ذمة السفيه بقول الذي له الحق.
- (بالعدل). قيل: الأولى تعلقه ب (وليّه) لا ب (يملل)؛ لأن إملاء الوصي إذا كان بغير العدل فالشهود يخرجونه، ولا يشهدون له فينبغي أن الوصى إن أتى ليرهن عن المحجور، ويعمر ذمته أن لا يشهدوا له إلا إذا تبين لهم في ذلك وجه المصلحة؛ لأن أكثر الأوصياء لا يعدلون فلا يقبل إلا إملاء الوصي المعروف بالدِّين.
وكان ابن الغماز يقول. جميع من رأيت من الأوصياء يتصرفون بغير الصواب إلا فلانًا، وفلانا ويعينهما.
- (من رجالكم). نص في رفض الكفار، والصبيان. واختلف في تناوله للعبد، ومذهبنا أن العبد لا يستشهد أبدا، فإن شهد قُبلت شهادته.
وقال ابن العربي في قوله تعالى: (والذين يظهِرون من نسائهم) أجمعنا على أن الأمة من نسائنا فليكن العبد من رجالنا.
يريد إنما يتناولها الظهار.
وقال ابن العربي: هنا في قوله: (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) هذا دليل على إخراج العبد من جملة الشهادة؛ لأنه لا يمكنه أن يجيبَ إذ لا يستقل بنفسه، وإنما تصرفه بإذن سيده فانحط عن منصب الشهادة.
وحكى ابن العربي عن مجاهد أن المراد به: الأحرار.
قال: واختاره القاضي أبو إسحاق، وأطنب فيه.
وقيل: المراد من المسلمين؛ لأن قوله: " من الرجال " كان يغني عنه فلا بدّ لهذه الإِضافة من خصوصية، وهي إما أحراركم وإمّا مؤمنوكم.
والمؤمنون به أخص؛ لأن هذه إضافة الجماعة، وإلّا فمن هو الذي يجمع الشتات، وينظم الشمْلَ النظمَ الذي يصحّ معه الإِضافة.
فإن قلنا: بالتساوي فلا سؤال، وإن قلنا: بتقديم الأرجح فيَرِدُ السؤالِ لمَ جلهما مالك متكافئين، ولم يقدم الأرجح؟.
ابن العربي: قول علمائنا: إن هذه الآية تقتضي أن لا تجوز شهادة النساء إلا عند عدم الرجال لا يصح؛ لأنه لو أراد ذلك قال: فإن لم يوجد رجلان فرجل، فالظاهر تناوله حالة الوجود، والعدم.
وأجيب بوجهين:
الأول: أن الحكم هنا باليمن، والشاهد إنما هو مرجح جَنَبة المُدَعىِّ.
الثاني: أنهم يقضون بالنكول، وليس له في القرآن ذكر فدلّ على أن الآية إنما سيقت لبيان ما يَسْتَقِل به الحكم في الشهادة لا لبيان كل ما يوجب الحكم.
وأجيب أيضا: بأن هذا حالة التحمل هو حينئذ مأمور بأن يُشْهدَ رجلين أو رجلًا وامرأتين، وانما اليمن حالة الآداء، والحكم بذلك الحق، وهو راجع للأول.
ويجاب: بأن قوله: (من رجالكم)، و (شهيدين) بالإِضافة؛ والمبالغة يفيد كونهما مرضيين.
- (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى). هو تعليل للمجموع أي: إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إذا ضلت.
ابن عطية: قرأ بعض المكيَّين (فرجل وامْرَاتان) بهمز الألف الساكنة.
ابن جني: لا نظير لتسكين الهمزة المتحركة، وإنما خففوا الهمزة فقربت
(وكشفت عن سَاْقيها). انتهى.
وقع تسكين الهمزة المتحركة في القرآن في أربعة مواضع:
أحدهما: (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ)، قرأها أبو عمرو، والبزِّي بفتح الهمزة.
الثاني: قوله تعالى: (مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ)، قرأها نافع، وأبو عمرو بالألف دون همز، وابن ذكوان بهمزة ساكنة، والباقون بهمزة مفتوحة.
الثالث: قوله تعالى في فاطر: (وَمَكْرَ السَّيِّئِ)، قرأ حمزة بسكون الهمزة إجراء للوصل مجرى الوقف، والباقون بتحريكها.
الرابع: قوله تعالى: (فتوبوا إلى بارِئكم)، ورُوي فيه
قال ابن العربي: وهنا سؤالان:
الأول: يقول: فرجل وامرأة فإذا أضلت المرأة فذكَّرها الرجل.
فأجاب: بأنه لو ذكرها إذا نسيت لكانت شهادة واحدة، والمرأتان إذا ذكرت إحداهما الأخرى كانا كالرجل يستذكر في نفسه فيتذكر.
الثاني: ما الموجب لتكرار لفظ (إحداهما)، وكان يقول: فتذكرها الأخرى؟.
فأجاب: بأنه لو قال: فتذكِّرها (الأخرى)، لكان البيان من جهة واحدة، فتُذكِّر الذاكرة الناسية، فلما كرر أفاد أن كل واحدة تضلّ، وتذكِّر الذاكرة الغافلة، وتذكر الغافلة الذاكرة فيما ذكرته لما انتهى.
وهذا الكلام يحتاج إلى تنقيح، وهو أن يجعل (إحداهما) من قوله: (فتذكر إحداهما) مفعول به، و (الأخرى) فاعل فحينئذ يتجه سؤال
- (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا). نَهْيُ الحاضر، والغائب بالنسبة إلى القديم سواء، وفي الحديث قد يكون نهي الغائب أشد؛ لأنك قد تنهى الشخص الحاضر عن فعل شيء بين يديك، وتكون تحب لو سمعت عنه أنه يفعله في غَيْبتك لا تزجره، ولا تنهاه فهذا الأمر فيه أخف من شيء تزجره عن فعله في الغَيْبة والحضرة فإن النهي في هذا أشد، ولا يؤخذ من الآية أن الأمر بالشيء ليس نهيًا عن ضدّه؛ لأن (استشهدوا) أمر للمتعاقدين، (ولا يأب) نهي للشاهدين.
وهل هو حقيقة في الماضي أو مجاز؟. فيه خلاف.
والشاهد لا يسمى شاهدًا إلا حين التحمل فإذا جعل متناولًا التحمل،
والأداء كان استعمالًا له في حقيقته، ومجازه.
- قال ابن العربي: اختلفوا في حكم هذا النهي على ثلاثة أقوال:
أحدهما: أن فعل ذلك ندب.
الثاني: أنه فرض كفاية.
الثالث: أنه فرض على الأعيان قاله الشافعي، وغيره.
والصحيح عندي أن المراد هنا حالة التحمل؛ لأن حالة الأداء مبيَّنة بقوله: (ومن يكتمها فإنه آثم قلبه)، وإذا كانت حالة التحمل فهي فرض كفاية. ؛ لأن إباية الناس كلهم عنها إضاعة للحقوق. وإجابة جميعهم إليها تضييع للأشغال.
قال: وقال علماؤنا: قوله: (ولا يأب الشهداء) دليل على أن الشاهد هو
يقال له: هذا إنما هو إذا قلنا: المراد به الأداء لا تحمل الشهادة، وأنت اخترت أن المراد به التحمل.
ابن العربي: قال علماؤنا: هذا في الدعاء لها، فأمّا من عنده شهادة.
لم يعلم بها مستحقها:
فقال قوم: أداؤها ندب لقوله: (ولا يأب) ففرض الأداء عند الدعاء فإذا لم يدع كانت ندبًا. يريد من دليل الخطاب، ويكون ندبًا لقوله عليه السلام: " خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها ".
والصحيح عندي أن أداءها فرض لما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم
و (ما) من قوله: (ما دعوا) زائدة، وأفادة تأكيد العموم في الزمان.
- (وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا). ابن العربي: قال: علماؤنا: إلا ما كان من قيراط، ونحوه لنزارته، وعدم التشوف إليه إقرارًا، وإنكارًا.
ابن عطية: قدم " الصغير " على " الكبير "؛ لئلا يتهاون بها. كما قال في قوله: (من بعد وصية يوصى بها أو دين)، وكما في قوله: (فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة)، مع أن العداوة تنفي أخذ الدية، وتوجب التهاون بها. ولذلك قدمت. وضمير المفعول في (تَكْتُبُوهُ) إما للحق أو الكَتْب أو الدَّين. وعلى أنه للكَتْب فـ (أو) للتخيير، وللحق للتفضيل.
- (ذلكم أقسط) قد تقرر أن (ذا) للاشارة، واللام لبعد الإيشار، وهو هنا قريب لكن قالوا: يشار بالبعد للقريب قصدًا للتعظيم كما في قوله: (فذلكن الذي لمتنني فيه..) أقسط وهذا يدل على أن الأمر المتقدم للندب لا للوجوب.
الاصوب أن المراد: الإشهاد أقسط، والكتب أقوم للشهادة فيكون لفًّا، ونشرًا أي أعدل. وأقرب.
لقيام الشهادة؛
و (أقسط) قيل: من الرباعي وهو شذوذ. وقال الزمخشري: من " قاسط " على النسب أي ذو قسط، أو جارٍ على مذهب سيبويه في بقائها من " أفعل ".
ورده أبو حيان بأن سيبويه لم ينص على بناء " أفعل " التفضيل. وما
قال ابن خروف، في شرحه له: هكذا في النسخ الشرقية؛ وفي النسخ الرباحية لم تذكر في قليل.
فسيبويه نص على بناء فعل التعجب من " أفعل "، وما قال في قليل و " أفعل " في التفضيل حكمها حكم التعجب سواء.
فما قال الزمخشري: عنه حق.
وقوله: إنه من قاسط غير صحيح؛ لأن الاشتقاق لا يكون إلا من الفعل ولا يصح من اسم الفاعل.
وقول ابن عطية:
انظر هل يكون من قسُط بالضم. غير صحيح؛ لأنه لم يحكه أحد فيه.
- (وأدنى ألا ترتابوا..). إن أريد بالريبة مطلق الاحتمال فيكون فيه منع الشهادة بالمفهوم؛ لأنه ظني فلا ينتفى فيه الاحتمال وفيه ثلاثة أقوال:
الثاني: أنه لا يشهد.
الثالث: أنه يشهد بها بالفَهْم على نحو ما تحملها، وإن أريد بالريبة الشك فليس فيه دليل.
ابن العربي: فيه دليل على أن الشاهد إذا رأى خطَّه، ولم يذكر الشهادة لم يؤدها لما دخل عليه من الريبة، ولا يؤدي إلا ما يعلم لكنه يقول: هذا خطِّي، ولا أذكر الآن ما كتبت فيه.
وقد اختلف علماؤنا على ثلاثة أقوال:
الأول: قال في " المدونة ": يؤديها؛ ولا تنفع؛ وذلك في الدين، والطلاق.
الثاني: قال في " كتاب محمد ": لا يؤديها.
الثالث: قال مطرف، وابن الماجشون.
ووجه القول بأنها لا تنفع أن خَطَّه فَرْع عن علمه فإذا ذهب علمه ذهب نفع خَطَّه.
وأجيب: بأن خَطَّه بدل الذكرى فإن حصلت وإلا قام مقامها.
انتهى.
ليس في الآية دليل لما ذكر ابن العربي؛ لأنه لم ينف الريبة جملة؛ لأن قوله: (وأدنى ألا ترتابوا) يدل أنه لا بدّ " ثم " من الريبة، والكَتْب يزيلها أو ينقص " منها " فكأنه يقول: وأقرب لانتفاء الريبة فلم تنتف كلها.
- (إلا أن تكون تجارة..). إن أراد بالأول الدَّين، وبهذا الحاضر فيكون استثناءًا منقطعًا، وإن أراد بالأول مطلق المعاملة فهو متصل.
فإن قلت: هل في الآية دليل لمن يقول: الاستثناء من الإثبات ليس بنفي كالاستدلال بقوله تعالى: (فسجدوا إلا إبليس أبى..).
لقوله: (فليس عليكم جناح..) وإلا لما كان له فائدة.
- (وأشهدوا إذا تبايعتم..). تضمنت الإشهاد من غير كتب فلا تناقض، قوله: (فليس عليكم جناح ألا تكتبوها)؛ لأن تلك إنما اقتضت رفع الجناح عن عدم الكتب.
- (ولا يضارَّ كاتب ولا شهيد). قيل: مبنى للفاعل، وقيل للمفعول ويصح حمله على الأمرين معا على القول بجواز تعميم اللفظ المشترك في مَفْهُومَيْه معا كما قالوا في الجَوْن.
فإن قلت: هذان لفظان، وذلك لفظ واحد!.
قال الفخر: قلت: قد قال سيبويه في المشترك: أنهما لفظان دالان على معنيين. ذكره في باب المستقيم والإحالة في وجدت.
فإن قلت: لِمَ أتى فعل النهي بياء الغَيْبة، والأصل أن تكون بتاء الخطاب كما في قوله: (ولا تكتموا الشهادة)؛ لأن النهي في الأكثر إنما يكون للمخاطب لا للغائب!.
قلت: قصدًا للعموم؛ لأن الغَيْبة أصرح في العموم من الخطاب.
فإن قلت: لمَ عبر في (شهيد) بلفظ المبالغة دون كاتب؟.
فالجواب: أن ذلك فيمن برز، وبلغ إلى درجة العدالة.
فإن قلت: النهي إنما يكون عما يقع أو يتوهم وقوعه و (شهيد) من أبنية المبالغة، وقد قال ابن عطية فيه: إن المراد به من تكررت منه الشهادة، وأنه إشارة إلى العدالة. فهو عدل رضى، وعدالة الشاهد تمنع وقوع الضرر منه فلو قال: " ولا شاهد " دون مبالغة لم يرد السؤال.
فالجواب: أن تكرار الشهادة مظنة لغفلته ووقوع الضرر منه.
اختلف الناس في جواز أخذ الأجرة على الشهادة، والمعروف المنع وبعضهم أجازها إذا كان منقطعا عن أَسبابه إليها. وقيل: إن كان له من المعْرفة ما يُفْتَقَرُ بسببها إليه في النظر في الوثيقة ليصححها فقهًا، وكتبًا باعتبار سلامتها من اللحن المخل فيجوز له أخذ الأجرة، وإلا فلا.
وقال الحافظ أبو عمرو عثمان بن الصلاح في " علوم الحديث " ما نصه: من أخذ على التحديث أجرًا فقال إسحاق بن إبراهيم، وأحمد بن حنبل، وأبو حاتم الرازي: أن ذلك مانع من قبول روايته فلا يؤخذ عنه.
وترخص أبو نعيم الفضل بن دُكين، وعلى بن عبد العزيز المكيِّ،
ومنع أبو حنيفة، وأصحابه الأجرة على تعليم القرآن، وأجازوا الأجرة على الرقية، والطب ". انتهى.
قال شيخنا: فحاصل ذلك أنه إن كان انقطاعه لذلك يشغله عن معاشه، وكان فقيرًا محتاجًا لما يتعيش به، ولم يكن عنده من الحال ما يستغنى به عن طلب المعاش فيجوز له أخذ الأجرة، وإلا فلا.
- (ويعلمكم اللَّه..). دليل على اشتراط العلم في الكاتب، والشاهد.
- (واللَّه بكل شيء عليم). دليل على أن لفظ الشيء يطلق على المعدوم، والموجود؛ لأنه لا خلاف أن علم الله تعالى متعلق بالموجود، والمعدوم.
وأما مثل (واللَّه بكل شيء عليم) فهو متعلق الحكم.
والآمدي في " أبكار الأفكار ": ذكر الخلاف مطلقًا.
وانما ذكروا قول القرافي في اسم الفاعل المشتق.
٢٨٣ - (وإن كنتم على سفر..). لم يقل: وإن كنتم مسافرين، وهو حقيقة، والآخر مجاز!.
؛ لأن (على) للاستعلاء، وهو في السفر مجاز؛ ليفيد ابتداء السفر وانتهاؤه، والمفهوم ملغى بنص السنة؛ لأنه عليه السلام " رهن درعه في الحضر عند يهودي ".
ابن عطية: أجمع الناس على صحة قبص المُرْتَهِن، وقبص وكيله واختلفوا في قبص عدل فجعله مالك قَبْضًا.
قلت: إذا لم يكن من جهة الراهن، قال: وقال ابن عُتيبة، وقتادة: " ليس " بقبض. انتهى.
تحصيل هذا أن يقبض المُرْتَهن الرهن، ولم يزل جائزًا له. كان أحق
الزمخشري: وعند مالك يصح الارتهان بالإيجاب، والقبول دون القبض " انتهى. مالك يقول: إن الرهن ينعقد بالقول، ولا يتم إلا بالقبض فإن اتفقا على الرهينة لم يكن لأحدهما رجوع، وإذا قبض الرهن، وبقي عنده ثم فَلَّس الراهن فالمُرتهن أحق به من الغرماء، وإذا قبضه ثم ردّه إلى الراهن ثم فَلَّس الراهن لم يكن للمرتهن أن يختص به دون الغرماء.
- (فإن أمن بعضكم بعضًا..). الزمخشري: حث المْدِيَان على أن يكون عند ظن الدائن به وائتمانه له وأن يؤدى له الحق الذي ائتمنه عليه فلم يرتهن منه، وسمي الدين أمانة، وهو مضمون، لائتمانه عليه بترك أخذ الرهن
ظاهر الآية جواز إعطاء الدين، وجواز أخذه من غير رهن فتكون ناسخة لما قبله؛ لأن عمومها يقتضي اشتراط أخذ الرهن فيه ودلت هذه على أنه إن وُجد رجلًا مأمونًا جيدًا فليداينه بغير رهن وهذا نحو استدلال الفخر في " المحصول " على جواز النسخ بقوله تعالى: (ما ننسخ من آية).
ويردُ على هذا ما ورَدَ عليه.
- (ولا تكتموا الشهادة..). راجع لحالة الأداء قبله.
الزمخشري: لمَ خصص " الإثم " بالقلب، ولم يعلقه بجميع الجسد؟.
وأجاب بأربعة أوجه:
الأول: أنه تحقيق لوقوع الإثم؛ لأن كتمان الشهادة من فِعْل القلب، وإثمها مقترف بالقلب فلذلك أسند إليه.
الثاني: أن القلب هو الأصل لحديث: " إن في الجسد مضغة ".
الثالث: أن اللسان ترجمان عن القلب، والقلب الأصل.
الرابع: أن أفعال القلب أعظم من أفعال الجوارح، وإثمها أعظم من
قوله: في الوجه الأول: كتمان الشهادة من فعل القلب. يرد بأن الكتم إنما هو من فعل اللسان لا القلب، وإنما الذي من فعل القلب، العلم، والجهل، والنسيان، والتناسي، والتجاهل، وتجد الشخص ذاكرًا الشهادة بقلبه ولا ينطق بها فقد كتمها.
ويجاب أيضا بجواب آخر، وهو أن القلب يستوي فيه الفعل، والترك، ولا تفاوت بينهما إذ لا أثر للترك فيه بالترك بالنسبة إلى " الفعل " بخلاف الجوارح فإن الفعل يمتاز عن الترك بالبديهية، وكتمان الشهادة ترك فلو أسنده للجوارح لما حسن تَرتب الإِثم عليه؛ فلذلك أسنده للقلب الذي هما فيه مستويان.
٢٨٤ - (ولله ما في السماوات وما في الأرض). (ما) واقعة على أنواع من يعقل، وعلى ما لا يعقل " أو غُلِّب ما لا يعقل " لكثرته.
واحتجوا بها على أن السماء بسيطة إذ لو كانت كُرَوية؛ لكانت الأرض مما فيها، ولم يكن لذكره فائدة.
وأجيب: بأن دلالة المطابقة أولى من التضمين، والالتزام؛ لأنها مشاهدة مرئية.
ومذهب المتأخرين أنها كروية.
قال الغزالي في " التهافت ": لا نبني على ذلك كفر، ولا إيمان: وفي الآية حجة لمن يقول: إن الشهادة بالمظروف تستلزم الشهادة بالظرف؛ لأن كون للَّه ما في السماوات يستلزم أن السماوات أنفسها له، وكذا الأرض.
وذكر الفقهاء الخلاف فيما إذا شهد شاهدان لرجل بشيء مظروف في شيء، وماتا أو غابا هل يكون له الظرف أم لا؟.
- (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللَّه). من إقامة المسبَّب مقام مسبَبَه؛ لأن المحاسبة عليها مسبَبَة عن العِلْم به أي: يعلمه اللَّه فيحاسبكم عليه.
وتكلم القاضي في " الإكمال " على هذا في " كتاب الإِيمان " في حديث: " إذا همّ العبد بسيئة ".
وحاصله أن ما يقع به في النفس إن كان وسوسة وتردد من غير جزم فلا خلاف في عدم المؤاخذة به.
وإن كان على سبيل الجزم، والمواطأة عليه. فإمّا أن يكون له أثر في
الخارج أم لا!.
وجعل ابن عطية: هذه الآية كآية الأنفال: (إن يكن منكم عشرون صابرون..)، وليست مثلها؛ لأن آية الأنفال ليس فيها إلا النسخ؛ لأنه رفع كل الحكم وهذه تحتمل النسخ، والتخصيص كما قال بعضهم.
- (فيغفر لمن يشاء..). اعتزل الزمخشري هنا فقال: يغفر لمن استوجب المغفرة بالتوبة، ويعذب من استوجب العقوبة بالإصرار. وما مراده إلا الإيجاب العقلي، ولو كان سُنْيا لتأول أنه أراد الإيجاب الشرعي.
فقال الزمخشري: وقُرئ (فيَغْفِرْ) بالنصب في جواب الشرط ". وردّه أبو حيان: بأن النحويين نصبوا على أن الفاء إنما تَنْصبُ في الأجوبة الثمانية، ولم يعدوا منها الشرط.
وتحامل الزمخشري هنا، وأساء الأدب على السُوسِّى كما خطَّأ ابن عامر في قراءته (وكذلك زُيِّن لكثير من المشركين قتلُ أولَادَهم
وذكر ابن عطية هنا عن النقاش (فيغفر لمن يشاء) أي لمن ينزع عنه، (ويعذب من يشاء) أي من أقام عليه. وهو نحو منْ قول الزمخشري، وفيه إبهام الاعتزال؛ لأنه يوهم أن المعاصي لا تغفر إلا بالتوبة. ومذهب أهل السنة أنه يجوز أن تغفر وإن لم يتب منها إلا الكفر.
٢٨٥ - (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون..). إن قلت: الفاعل يخبر عنه بفعله، وتقرر أنه لا يجوز " قام قائم "، ولا " ضرب الضارب " إذ لا فائدة فيه.
فلو قيل: (آمن الرسول) والصحابة أفاد فكيف قال: آمن المؤمنون؟!.
فالجواب: أنه يفيد إذا قيد بشيء كقولك: " قام في الدار القائم "، وهنا أفاد تقييده وهو قوله: (بما أنزل إليه من ربه).
فإن قلت: لمَ ذكر الرسول، ومعلوم أنه آمن؟!.
فالجواب: أنه ذكر مع المؤمنين تشريفًا لهم.
- (كلٌ آمن..). ابن عطية: (كلٌّ) لفظة تصلح للإِحاطة، وقد تستعمل غير محيطة على جهة التشبيه بالإحاطة، والقرينة تبين ذلك ".
انتهى.
أراد ابن عطية مثل قولهم: " كل الصيد في جوف الفراء "، " ورأيت رجلًا كل الرجال "، " وأكلت شاة كل شاة ".
- (باللَّه وملائكته وكتبه ورسله). هذا العطف على الترتيب؛ لأن (اللَّه) هو الأول بكل اعتبار، و (ملائكته) هم يتلقون الوحي؛ ليبلغوه الرُسل فالملائكة في ثاني رتبة، والوحي في الثالثة، والرسل في الرابعة، ومن الإِيمان بالملائكة معرفة كونهم أجسامًا متحيزة متنقلة كبني آدم، ويدل على هذا قول أبي عُمْران الفاسي في المسألة المنقولة عنه. " والمقترح في شرح الإِرشاد "
الزمخشري: قرأ ابن عباس (وكتابه) يريد القرآن، وعنه الكتاب أكثر من الكتب.
فإن قلت: كيف يكون الكتاب أكثر من الكتب؟.
قلت: ؛ لأنه إذا أريد بالواحد الجنس، والجنسية قائمة في وحدان الجنس صح لم يخرج منها شيء، وأمّا الجمع فلا يدخل تحته إلا ما في الجنسية من المجموع. فقوَّاه الطِّيبي بأن المفرد إذا أريد به الجنس يدخل تحته المجموع، والأشخاص بخلاف الجمع فإنه لا يتناول إلّا المفردات فقط.
فإن قلت: فقد اختلفوا في المفرد المحلى ب " أل " هل يفيد العموم، واتفقوا على أن الجمع يفيد العموم لا سيما المحلى ب " أل "!.
فإن قلت: ليس في الآية الكتب بالألف واللام، وإنما هو مضاف!.
قلت: الإِضافة عاقبتها الألف، واللام فتنزلت منزلتها في إفادة العموم؛ ولهذا قال ابن التلمساني في شرح المعالم الفقهية: الصيغ الدالة على العموم عند المحققين ستة: الأسماء المبهمة، والموصولة في الشرط، والاستفهام، والموصولة، ومثله الجمع المضاف إلى معرفة كقوله: (يوصيكم اللَّه في أولادكم)، والاسم المفرد المعرف بلام الجنس.. ". انتهى.
الطيبي.
٢٨٦ - (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا). ذكر الفخر: أنها من كلام النَّاس، ولا يصح؛ لأنه خبر لا طريق لهم إلى معرفته إلا أن يكون أنزل قبله ما هو في معناه، وتكليف ما لا يطاق فيه ثلاثة أقوال:
- مذهب أهل السنة جوازه.
- مذهب المعتزلة منعه.
والثالث: الوقف.
وإذا قلنا: بالجواز فهل هو واقع أولا؟. فيه خلاف، وتردد الأشعري في وقوعه، وقسمه ابن التلمساني على خمسة أقسام والخلاف إنما هو في
قال في " المحصول ": وفائدة التكليف بالمستحيل عقلًا أو عادة أن يكون علامة على شقاوة المكلف بذلك؛ لأنه لا يتوصل إلى امتثاله، والآية حجة لمن يجيز التكليف بما لا يطاق، ويمنع وقوعه إذ لا يبقى إلا ما هو ممكن الوقوع.
ومن قال بوقوعه: احتج بقضية أبي لهب، فإنه مكلف بأن يؤمن بأن لا يؤمن بقوله: (سيصلي نارًا ذات لهب)، وهو مكلف بأن يؤمن بالنبيّ صلى اللَّه عليه وسلم، وجميع ما جاء به ومن جملته هذه السورة.
وأجاب سراج الدين الأرموي فِي " شرح الحاصل ": بأنه مكلف بأن يؤمن بالنبي صلى اللَّه عليه وسلم، وبما جاء به إيمانًا جُمليا لا تفصيليًّا.
وقالوا في النائم إذا ضرب برجله إناءً فكسره: فإنه يضمنه، وكذلك إذا ضرب أحدًا فقتله فهل هذا من تكليف ما لا يطاق أم لا؟.
- (لها ما كسبت). القَرَافي: هذه الآية تدل على أن المصائب لا يثاب عليها؛ لأنه ليس للمكلف فيها اعتماد. قاله: في " قواعده ".
ويجاب: بأنه لا حصر في الآية بأنه لا يثاب الإِنسان إلا على ما اكتسبه، وفعله.
وحاصل كلام القرافي: أن المثوبة تترتب على ما هو من كسب العبد ومقدوره وما لا كسب له فيه، ولا هو مقدور له لا مثوبة فيه لقوله تعالى: (وأن ليس للإِنسان إلا ما سعى)، ويشترط أن يكون المُكْتَسب مأمورًا به فما لا أمر فيه لا ثواب فيه كالأفعال قبل البعثة وكأفعال الحيوانات التي لا تعقل، وكذلك الموتى يسمعون المواعظ، والقرآن، والذكر ولا ثواب لهم لعدم تعلق الأوامر بهم.
وأما المكفرات فلا يشترط فيها ذلك كالمصائب التي تصيب الإِنسان حتى الشوكة، فالمصيبة مكفرة اقترن فيها السخط أو الصبر فإن اقترن بها الصبر فله الثواب من حيث الصبر، وله التكفير من حيث المصيبة، وما كان سبباة للثواب يكون سببا للتكفير، وليس ما كان سببًا للتكفير يكون سببًا للثواب ثم السخط الذي يصحب المصيبة، قد يكون ما يترتب عليه
قال القرافي: والتكفير بحسب قدر الألم فلو فرضنا ولدًا لا يتألم والده بفَقْده لما كان له عليه شيء.
قال: ولما كان التكفير مرتبًا على المصائب لم يجز أن يقال للمريض: اللهم اجعل له هذا المرض كفارة. فإنه تحصيل حاصل، وفيه قلة أدب، وهو لا يجوز كما تقرر في " الأدعية ".
ابن العربي: قال علماؤنا: هذه الآية دليل على أن القود واجب على شريك الأب خلافا لأبي حنيفة، وعلى شريك الخاطئ خلافا
وقالوا: إن اشتراك من لا يجب عليه القصاص مع من يجب عليه القصاص شبهة في دَرْء ما يُدْرأ بالشبهة. وذكر ابن عطية، والزمخشري وجه المغايرة بين فعليّ (كسبت) و (اكتسبت)، وهما متقاربان، وتَقَرُّر ما قال ابن عطية: أن المكلف بفعل الطاعات مستحضر للثواب عليها.
فيسهل عليه أمرها من غير تكلف طبيعي فلا وازع له عن فعلها، وفاعل المعصية يستحضر العقوبة عليها في الدار الآخرة، وشهوته تحمله عليها، وتكلفه فعلها، وتوجب معاندته، ومدافعته للوازع الديني، وقد قال الغزالي: إن استحضار العقوبة الأخروية في فعل الكبيرة، وتعقيبها بالاستغفار غالبًا يصيرها صغيرة.
وتقريره أن الشَّر مما تشتهيه النفوس، وتأمر به فهي في تحصيله أعمل، وأقوى اجتهادًا، فجُعلت مكتسبة، ولما لم تكن كذلك في الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الفعل، والتكلف.
وقال ابن الضائع في باب ما جاء من العدول على " فعّال " - إن " كسَبَ " و " اكتسب " إن اجتمعتا في كلام واحد كانت لفظة " كسب " عامة و " اكتسب " خاصة بالكثير، وإن انفردت إحداهما عمت في الأمرين.
وهذه الآية لما كان الإِنسان يثاب على قليل الخير، وكثيره استعمل فيه اللفظ العام للقليل، والكثير وهو " كسب ".
ولما كانت الصغائر معفوًا عنها جاء بلفظ الكثير إشعارًا بأنها ليس عليها إلا ما فوق الصغائر.
قال ابن هشام اللَّخميِّ في " شرح أبيات الجمل "
جزى ربُّه عني عديَّ بن حاتم.....
حكى ابن اللخميِّ عن الزجاج أنه يقال: جزيته في الخبر،
وجازيته في الشرّ. فيستعمل فعل الزيادة في الشرِّ، وفعل النقص في الخير، ومنه (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) استعمل الفعل الذي فيه الزيادة في الشرِّ، والذي لا زيادة فيه في الخير ومنه قول النابغة:
- (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا..). الزمخشري: إن قلت: النسيان، والخطأ متجاوز عنهما في العفو، فما معنى الدعاء بترك المؤاخذة " فيهما "؟.
فأجاب: بأن الدعاء راجع لسببهما، وهو التفريط، والغفلة.
وهذا على مذهبه في منع تكليف ما لا يطاق؛ لأنه دعاء بتحصيل الحاصل ونحن نقول: بجواز الدعاء بتحصيل الحاصل، ؛ لأنه ممكن باعتبار الأصالة.
فإن قلت: الأصل تقديم الشرط، وأن يقال: إن نسينا أو أخطأنا فلا تؤاخذنا!.
فالجواب: أنه قدمَ المدعو به للاهتمام به.
وهذا لا حجة فيه؛ لأن الحديث لم يصح، والآية إنما جاءت لرفع الإِثم الثابت في قوله: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ).
قال اللَّخمي: في " كتاب الأيمان بالطلاق " لمّا تكلم على طلاق المكره، استدل من عَذَرَه بالإكراه بقوله عليه السلام: " رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان وما استكرهوا عليه "
فكيف يقول: ابن العربي لم يصح. وانظر كلام ابن رشد في رسم حلف من سماع عيسى من " كتاب الأيمان والنذور ".
فإن قلت: قد قالوا: إذا قتل رجلًا خطأ إن عليه صوم شهرين!.
فجوابه: أن النسيان إنما هو سبب في رفع الإِثم، وليس هو سببًا في صومه، والقتل سبب في الصوم رتب الشرع على ذلك صومًا فيجب امتثاله لا أنه كفارة، بل الإِثم ساقط عنه.
- (ولا تحْمل..). أبو حيان: قُرئ بالتشديد إما، للتعدية أو للمبالغة ". انتهى. ظاهره على الَبدلية، وتصح المعية، والمبالغة مع التخفيف، مستفادة من لفظ (على)
فالجواب: أن الدعاء حالة الخوف مظنة الإجابة؛ لأنه أقرب لمكان التضرع، والالتجاء فَذِكْرُ عقوبة من مضى في هذا مما يزيد في الخوف.
- (ربنا ولا تحملنا..). إن كان راجعًا لأمور الآخرة فتأسيس وإن أريد به أمور الدنيا فتأكيد.
إن أريد بـ (مالا طاقة لنا) الحقيقة، وهو ما ليس في قدرة البشر؛ لأن الدعاء بنفي " الإصر " يستلزم الدعاء برفع ما فوقه، وإن أريد به المجاز كما أشار إليه ابن عطية في أحد التفاسير من أنه الأمر المستصعب، وإن كان يطاق، فيكون تأسيسا.
- (واعف عنا واغفر لنا وارحمنا). وجه الترتيب أن العفو عبارة عن عدم المؤاخذة بالذنب، ولا يلزم من رفع المشقة، أو غير المقدور عدم المؤاخذة،
والرحمة معناها في الأصل: الرقة.
وقال الآمدي: إذا وردت صفة للَّه تعالى يستحيل حملها على حقيقتها فإمّا أن تردَّ لِصفة لفعل أو لصفة المعنى، وهي: الإِرادة. فإمّا أن يكون أراد بهم الخير أو فعل بهم ما يوصلهم إلى طريق الخير.
قيل: على هذا تكون الرحمة سببا في العفو، والأصل أن يقدم
أجيب: بأنه تكثير، للدعاء؛ لأنه على ترتيب الآية يكون الدعاء بالرحمة مرتين:
أولًا: باللزوم؛ لاستلزامها العفو.
وثانيا: بالمطابقة.
الزمخشري: وعنه عليه السلام: " من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه " انتهى.
أول الآيتين: (آمن الرسول...).
انظر " إكمال " عياض في " كتاب الطب ".
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب: التقييد الكبير في تفسير كتاب الله المجيد للبَسِيْليِّالمؤلف: أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد البَسِيْلي التونسي (المتوفي ٨٣٠ هـ)
الناشر: كلية أصول الدين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - الرياض - المملكة العربية السعودية
الطبعة الأولى - ١٤١٢ - ١٩٩٢ هـ
عدد الأجزاء: ٢
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ
ابن عطية: حكى النقاش: أن اسمها في التوراة طيِّبة. انتهى.
ليس معناه: أنها في التوراة، بل ورد في التوراة حكم من الأحكام، ونصّ فيها على ثبوته في القرآن في سورة آل عمران.
قال الجرجاني: أحسن الأقوال أن (الم) إشارة إلى حروف المعجم أي: هذه الحروف كتابك.
ابن عطية: فلا بدّ أن يكون (اللَّه) مبتدأ، وخبره (نزَّل عليك الكتاب) بحيث يكون في الخبر ما يدل على الكتاب المضمر.
وُيعْترض بأن السورة نزلت ردا على نصارى نجران الذي زعموا أن عيسى هو الله فالمناسب أن يكون الخبر (لا إله إلا هو)، فما محل الفائدة؟. وإذا كان هو الخبر لم يبق ما يدل على إضمار الكتب.
وجعل الجرجاني هذه الآية مثل قوله: (أفمن شرح اللَّه صدره للإِسلام). قال ابن عطية: وفيه نظر؛ لأن تلك شرط يحتاج إلى الجواب بخلاف هذه.
فقاد الآخرون: وإن اتفقا فيجوز اختلافهما.
وتردد المقترح في مدركه.
الغزالي: أخص أسماء الله تعالى (القيوم) فإنه القائم بأمور العباد، ولا يشاركه في ذلك غيره بخلاف غيره من الأسماء ". انتهى.
هذا إنما يتم على مذهب الفلاسفة القائلين بقدم العالم، والذي يجري على مذهب أهل السنة أن يكون أخص أوصافه القديم.
وفي لفظ (القيوم) إشارة إلى الرَّد على نصارى نجران فِي محاجتهم في عيسى أنه اللَّه؛ لأن معنى (القيوم): (لا تأخذه سنة ولا نوم)، وعيسى يأخذه النوم، والسِّنَة.