تفسير سورة الأنبياء

تفسير الثعالبي
تفسير سورة سورة الأنبياء من كتاب الجواهر الحسان في تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعالبي .
لمؤلفه الثعالبي . المتوفي سنة 875 هـ
سورة الأنبياء
مكية وآياتها ١١٢

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الأنبياء
مكية بإجماع بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما
[سورة الأنبياء (٢١) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١)
قوله عز وجل: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ... الآية: رُوي أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم، كان يبني جِدَاراً، فمر به آخرُ يومَ نزول هذه السورة، فقال الذي كان يبني الجدارَ: ماذا نزل اليوَم من القرآن؟ فقال الآخر: نزل اليومَ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ فنفض يديه من البُنْيان، وقال: واللَّهِ لا بَنَيْتُ. قال أبو بكر بنُ العربي: قال لي شَيُخِي: في العبادة لا يذهب لك الزمان في مُصَاولةِ الأقران ومُوَاصلة الإِخَوان، ولم أرَ للخلاص شيئاً أقرب من طريقين: إمَّا أن يغلق الإنسان على نفسه بابه، وإما أن يخرج إلى مَوْضِعٍ لا يُعرفُ فيه، فإن اضطر إلى مخالطة الناس، فَلْيَكُنّ معهم ببدنه، ويفارقهم بقلبه ولسانه، فإنْ لم يستطِعْ، فبقلبه، ولا يفارق السكوتَ. قال القُرْطُبِيَّ: ولأَبي سليمان الخَطَابِيّ في هذا المعنى: [الوافر]
أَنِسْتُ بِوَحْدَتِي وَلَزِمْتُ بَيْتِي فَدَامَ الأُنْسُ لِي وَنَمَا السُّرُورُ
وأَدَّبَنَي الزَّمَانُ فَلاَ أُبَالِي بِأَنِّي لا أُزَارُ وَلاَ أَزَوُرُ
وَلَسْتُ بِسَائِلٍ مَا دُمْتُ حَيًّا أَسَارَ الْجَيْشُ أَمْ رَكِبَ الأَمِيرُ
انتهى من «التذكرة».
وقوله: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ عام في جميع الناس، وإن كان المشارُ إليه في ذلك الوقت كفار قريش ويدل على ذلك ما يأتي بعدُ من الآيات.
قال ص: اقترب: بمعني الفعل المجرّد وهو قَرُبَ، وقيل: اقترب أبلغ للزيادة وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ الواو للحال، انتهى.
وقوله: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ يريدُ: الكفار، ويأخَذ عصاة المؤمنينَ من هذه الألفاظ قسطهم.
ت: أَيَّها الأَخُ أَشْعرِ قلبك مَهَابَةَ رَبِّك، فإليه مآلك وتأهب للقدوم عليه فقد أنَ ارتحالك أنت في سكرة لذاتِك وغشية شهواتكِ وإغماء غفلاتِك ومِقْراضُ/ الفناء يعمل في ثوب حياتك ويفصل أجزاء عمرك جُزْءاً جزءاً في سائر ساعاتك كل نفس من أنفاسك جزءٌ منفصل من جملة ذاتك وبذهاب الأجزاء تذهبُ الجمل، أنت جملة تؤخذ، آحادها وأبعاضها، إلى أن تستوفي سائرها عساكر الأقضية، والأقدار مُحْدقة بأسوار الإعمار تهدمُها بمعاول الليل والنهار فلو أضاء لنا مِصْباحُ الاعتبار لم يبقَ لنا في جَمِيع أوقاتنا سكونٌ ولاَ قَرار. انتهى من «الكلم الفارقية والحكم الحقيقة».
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٢ الى ٥]
ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥)
وقوله: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ وما بعده مختصٌ بالكُفَّارِ، والذكر: القرآن، ومعناه محدث نزوله، لا هو في نفسه.
وقوله: وَهُمْ يَلْعَبُونَ جملة في موضع الحال، أيْ: استماعهم في حال لعب فهو غير نافع، ولا وَاصِلٍ إلى النفس.
وقوله لاهِيَةً حال بعد حال، واختلف النحاةُ في إعراب قوله: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فمذهبُ سيبويه «١» (رحمه الله تعالى) : أن الضمير في أَسَرُّوا: فاعل، وأن الَّذِينَ بدل مِنْه، وقال: ليس في القرآن لغةُ مَنْ قال: أكلوُنِي البَرَاغِيثُ «٢»، ومعنى:
أَسَرُّوا النَّجْوَى تكلَّمُوا بينهم في السرِّ، ومُنَاجَاتِ بعضهم لبعض.
(١) ينظر «الكتاب» (٢/ ٤١).
(٢) الواو علامة جمع الفاعل، كما يلحق الفعل تاء التأنيث ليدلّ على تأنيث الفاعل، ك «قامت هند»، وهذه اللغة جارية في المثنى وجمع الإناث أيضا فيقال: قاما أخواك، وقمن أخواتك» كقوله:
................ وقد أسلماه مبعد وحميم
وقوله:
ولكن ديافيّ أبوه وأمّه بحوران يعصرن السليط أقاربه
واستدلّ بعضهم بقوله عليه السلام: «يتعاقبون فيكم ملائكة»، ويعبّر النحاة عن هذه اللغة بلغة «أكلوني البراغيث»، ولكنّ الأفصح ألّا تلحق الفعل علامة، وفرّق النحويون بين لحاقه علامة التأنيث وعلامة التثنية والجمع بأنّ علامة التأنيث ألزم لأن التأنيث في ذات الفاعل بخلاف التثنية والجمع فإنه غير لازم.
ينظر: «الدر المصون» (٢/ ٥٨٠- ٥٨١).
وقال أبو عبيدة «١» : أسَرُّوا: أظْهرُوا، وهو مِنَ الأضدَادِ، ثم بيَّن تعالى الأمر الذي تَنَاجوا به، وهو قولُ بعضهم لبعض على جهة التَّوبِيخ بزعمهم: أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ المعنى:
أفَتَتَّبِعُون السحر وأنتم تبصرون، ثم أمر اللَّه تعالى نبيه صلى الله عليه وسلّم، أن يقول لهم وللناس جميعاً:
قُلْ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ أيْ: يعلم أقوالكم هذه، وهو بالمرصاد في المَجَازاةِ عليها، ثُمَّ عَدَّد سبحانه جَمِيعَ ما قَالتْهُ طوائِفُهم ووقع الآضرابُ بكُلِّ مقالة عن المتقدمة لها ليبيّن اضطرابَ أمرهم فقال تعالى: بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ والأَضْغَاثُ: الأَخْلاطُ، ثم حكى سبحانه اقتراحهم، آيةً تضطرهم كناقة صالح وغيرها، وقولهم: كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ دَالٌّ على معرفتهم بإتيان الرُّسُلِ الأَمَمَ المتقدمة.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٦ الى ٧]
ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧)
وقوله سبحانه: ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ فيه محذوفٌ يَدُلُّ عليه المعنى تقديره: والآيةُ التي طلبوها عَادَتُنَا أَنَّ القومَ إنْ كفروا بها عَاجَلْنَاهُم، وما آمنت قبلهم قَرْيَةٌ من القُرَى التي نزلتْ بها هذه النازِلَةُ، أفهذه كانت تؤمن؟.
وقوله: أَهْلَكْناها جملة في موضع الصِّفَةِ ل قَرْيَةٍ والجُمَلُ: إذا اتَّبَعَتِ النَّكِرَاتِ فهي صفاتٌ لها، وإذا اتبعت المعارف فهي أحوالٌ منها.
وقوله سبحانه: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ هذه الآية رَدُّ على مَنِ استبعد منهم أَنْ يبعث الله بشرا رسولا والذِّكْرِ هو كُلُّ ما يأتي من تذكير اللَّه عِبادَهُ، فأهل القرآن أَهْلُ ذكر، وأَمَّا المُحَالُ على سؤالهم في هذه الآية فلا يَصِحُّ أن يكونوا أهل القرآن في ذلك الوقت لأنهم كانوا خُصُومَهُم، وإنما أَحيلوا على سؤالِ أحبارِ أهْلِ الكتابِ من حيثُ كانوا موافقين لكفّار قريش على ترك الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلّم.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨ الى ١٢]
وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢)
(١) ينظر: «مجاز القرآن» (٢/ ٣٤).
وقوله سبحانه: وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعامَ قيل: الجَسَدُ من الأحياءِ:
ما لا يَتَغَذَّى، وقيل: الجسد يَعُمُّ المُتَغَذَّي من الأجسامِ وغيرَ المتغذي ف جَعَلْناهُمْ جَسَداً على التَّأَوِيلِ الأَول: مَنْفِيٌّ، وعلى الثاني: مُوجِبٌ، والنفيُ واقعٌ على صِفَتِهِ.
وقوله سبحانه: ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ الآية، هذه آية وعيدٍ.
وقوله: وَمَنْ نَشاءُ يعني من المؤمنين، والْمُسْرِفِينَ: الكُفَّارُ، ثم وَبَّخَهُمْ تعالى بقوله: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً/ يعني: القرآن، فِيهِ ذِكْرُكُمْ، أي: شرفكم، آخر ١٦ ب الدَّهْر، وفي هذا تحريضٌ لهم، ثم أَكَّدَ التحريض بقوله: أَفَلا تَعْقِلُونَ وكَمْ للتكثير، وقَصَمْنا معناه: أهلكنا، وأَصْلُ القصم: الكَسْرُ في الأَجْرَامَ، فَإذا اسْتُعِيرَ للقوم والقرية ونَحْوِ ذلك فهو ما يشبه الكسر وهو إهلاكهم، وأَنْشَأْنا، أي: خلقنا وبثثنا أَمَّةً أُخْرَى غَيْرَ المُهْلَكَةِ.
وقوله: فَلَمَّا أَحَسُّوا وَصْفٌ عن حالِ قريةٍ من القُرَى المُجْمَلَةِ أَوَّلاً قيل: كانت بالْيَمَنِ تُسَمَّى «حضور»، بَعَثَ اللَّه تعالى إلى أَهْلِها رسولاً فقتلوه، فَأَرْسَلَ اللَّه تعالى عليهم بختنصر صَاحِبَ بني إسرائيل فَهَزَمُوا جَيْشَهُ مرتين، فَنَهَضَ في الثالثة بنفسِهِ، فلما هزمهم، وأَخَذَ القَتْلَ فيهمَ رَكَضُوا هاربين، ويُحتَملُ أنْ لا يريدُ بالآية قريةً بعينها، وأَنَّ هذا وَصْفُ حالِ كُلِّ قريةٍ من القرى المُعَذَّبَة إذا أَحَسُّوا العذابَ من أي نوع كان «١»، أخذوا في الفرار وأَحَسُّوا باشروه بالحواسِّ.
ص: إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ «إذا» الفجائية، وهي وما بعدها جواب لما.
انتهى.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٣ الى ١٦]
لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦)
وقوله: لاَ تَرْكُضُوا يُحْتَمُلُ على الرواية المُتَقَدِّمَةِ أَنْ يكونَ من قول رجالِ بُخْتَنَصَّرَ على جِهَةِ الخداعِ والاستهزاءِ بهم، فلما انصرفوا راجعينَ أَمَرَ بُخْتَنَصَّرُ أَنْ يُنَادَي فيهم: يا ثارات النّبيّ المقتول «٢»، فقتلوا بالسّيف عن آخرهم.
(١) في ج: أكانوا.
(٢) في ج: المفتول.
قال ع «١» : وهذا كُلَّهُ مَرْوِيٌّ، ويُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ: لاَ تَرْكُضُوا إلى آخر الآية.
مِنْ كلامِ ملائِكَةِ العذابِ على جِهَةِ الهُزْءِ بِهم.
وقوله: حَصِيداً أي: بالعذاب كحصيدِ الزَّرْعِ بالمِنْجَلِ، وخامِدِينَ أي: موتى مُشَبَّهينَ بالنارِ إذا طفئت، ثم وَعَظَ سبحانه السَّامِعِينَ بقوله: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٧ الى ٢٠]
لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠)
وقوله سبحانه: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً الآية: ظاهِرُ الآية: الرَّدُّ على مَنْ قال من الكُفَّارِ في أَمْرِ مريمَ- عليها السلام-، وما ضَارَعَهُ من الكُفْرِ تعالى الله عن قَوْلِ المُبْطِلِينَ و «إن» في قوله: إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ يُحْتَمَلُ أَنْ تكونَ شرطيةً، ويحتمل أَنْ تكونَ نافِيَةً بمعنى:
ما كُنَّا فاعلين، وكُلُّ هذا قد قيل، و «الحَقَّ» عام في القرآن والرسالة والشَّرْعِ، وكُلِّ ما هو حَقًّ، فَيَدْمَغُهُ معناه: يُصِيبُ دِمَاغَهُ، وذلك مُهْلِكٌ في البشر فكذلك الحقّ يهلك الباطل، والْوَيْلُ: الخِزْيُ.
وقيل: هو اسمُ وادٍ في جَهَنَّمَ، وَأَنه المُرَاد في هذه الآية، وهذه مُخَاطَبَةٌ للكفّار الذين وصفوا الله عز وجل بما لا يجوزُ عليه تعالى اللَّه عن قولهم.
وقوله: وَمَنْ عِنْدَهُ... الآية: عند هنا ليست في المسافات، وإنما هي تشريفٌ في المنزلة. وَلا يَسْتَحْسِرُونَ أي: لا يكلون، والحسير من الإبل: المعِييُ.
وقوله: لاَ يَفْتُرُونَ وفي «الترمذي» عن أبي ذَرِّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنّي أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تَسْمَعُونَ، أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إلاَّ وَمَلُكٌ واضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِداً للَّهِ» «٢» الحديث. قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح، وفي الباب عن عَائِشَةَ، وابنِ عَبَّاسٍ، وأَنَسٍ، انتهى من أصل الترمذي، أعني:
«جامعه».
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٧٦).
(٢) تقدم تخريج حديث الأطيط. [.....]

[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٢١ الى ٢٦]

أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥)
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦)
وقوله سبحانه: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ، أي: يُحْيُونَ غَيْرَهُمُ، ثم بيَّنَ تعالى أَمْرَ التمانُعِ بقوله: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا وقد تَقَدَّمَ إيضاحُ ذلك عند قوله تعالى: إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [الإسراء: ٤٢].
١٧ أ/ وقوله: هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي يُحْتَمَلُ أَنْ يريدَ بالإشارة بقوله:
هذا إلى جميعِ الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ قَدِيمِهَا وَحَدِيثهَا- أَنَّهَا تُبَيِّنُ أَنَّ اللَّه الخالِقَ وَاحِدٌ لا شريكَ له، ويحتمل أَنْ يريدَ بقوله: هذا القرآنَ والمعنى: فيه نَبأ الأَوَّلِينَ والآخرينَ فَنَصَّ أخبارَ الأَولين، وذَكَرَ الغُيُوبَ في أُمُورِهِمْ، حسبما هي في الكتب المُتَقَدِّمَةِ، وَذكَرَ الآخرين بالدعوة، وبيانِ الشرع لهم، ثم حَكَمَ عليهم سبحانه بأَنَّ أَكْثرهم لا يعلمون الحقَّ، لإعراضهم عنه، وليس المعنى: فهم معرضون لأنَّهُم لا يعلمون بلِ المعنى: فهم معرضون، ولذلك لا يعلمون الحَقَّ، وباقي الآية بَيِّنٌ، ثم بَيَّنَ سبحانه نوعاً آخرَ من كُفْرِهِم بقوله: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً الآية كقول بعضهم: اتَّخَذَ المَلاَئِكَةَ بناتاً، وكما قالتِ النَّصَارَى في عيسى ابن مريم، واليهود في عزيز.
وقوله سبحانه: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ عبارةٌ تَشْمَلُ الملائِكَةَ وعيسى وعزير. وقال ص: بل إِضْرَابٌ عن نسبة الولد إليه تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. وعِبادٌ خبرُ مبتدإِ محذوف، أي: هم عباد. قاله أبو البقاء انتهى.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٢٧ الى ٣٣]
لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١)
وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣)
وقوله سبحانه: لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ عبارةٌ عن حُسْن طاعتهم ومراعاتهم لامتثال
الأمر، ثم أَخْبَرَ تعالى: أَنَّهُم لا يشفعون إلاَّ لِمَنِ ارتضى اللَّه أَنْ يشْفَعَ له، قال بعضُ المفسرين: لأَهْلِ لا إله إلاّ اللَّه، والمُشْفِقُ: المُبَالِغُ في الخوفِ، المُحْتَرِقُ النَّفْسِ من الفَزَع على أَمْرٍ ما.
وقوله سبحانه: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ... الآية، المعنى: وَمَنْ يَقُلْ منهم كذا أَنْ لو قاله، وليس منهم مَنْ قال هذا، وقال بَعْضُ المفسرين: المراد بقوله:
وَمَنْ يَقُلْ... الآية: إبْلِيسُ، وهذا ضعيفٌ لأَنَّ إبَلِيسِ لم يُرْوَ قَطَّ أَنَّهُ ادَّعَى الرُّبِوبِيَّة، ثم وَقَفَهُمْ سبحانه على عِبْرَةٍ دَالَّةٍ على وَحْدَانِيَّتِهِ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ، فقال: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً والرَّتْقُ: المُلْتَصِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، الذي لا صَدْعَ فيه ولا فَتْحَ، ومنه: امرأةً رتْقَاءُ، واخْتُلِفِ في معنى قوله: كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما فقالت فِرْقَةٌ:
كانت السماءُ ملتصقة بالأرض ففتقهما اللهُ بالهواء، وقالت فرقةٌ: كانت السمواتُ ملتصقةً بَعْضَهَا ببعضٍ، والأرضُ كذلك ففتقهما الله سبعاً سبعاً فعلى هذين القولين فالرُّؤيَةُ الموقَفِ عليها رؤيةُ قلبٍ، وقالت فرقةٌ: السماءُ قبل المَطَرَ رَتْقٌ، والأَرضُ قبل النباتِ رَتْقٌ ففتقهما الله تعالى بالمَطَرِ والنَّبَاتِ كما قال تعالى: وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ [الطارق: ١١، ١٢].
وهذا قولٌ حَسَنٌ يَجْمَعُ العِبْرَةَ وتعديدَ النعمةِ والحُجَّةِ بِمحسوسٍ بَيِّنٍ، ويُنَاسِبُ قوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أي: من الماءِ الذي كان عَن الفَتْقِ، فَيَظْهَرُ معنى الآية، ويتوجَّهُ الاعتبارُ بها، وقالت فرقة: السماءُ والأَرْضُ رَتْقٌ بالظُّلْمَةِ ففتقهما الله بالضَّوْءِ والرُّؤْيَةِ على هذين القولين رُؤْيَةُ العَيْنِ، وباقي الآية بَيِّنٌ.
قال ص: قال الزَّجَّاجُ: السمواتُ جَمْعٌ أُرِيدَ به الواحد ولذا قال: كانَتا رَتْقاً.
وقال الحُوفِيُّ: «قال: كانَتا- والسمواتُ جَمْعٌ-: لأَنَّهُ أرادَ الصنفين» انتهى.
وقوله: سَقْفاً مَحْفُوظاً الحِفْظُ هنا عامٌّ في الحِفْظِ من الشيطان، ومن الوهي والسُّقُوطِ، وغير ذلك من الآفاتِ، والفَلَكُ: الجسمُ الدّائر دورة اليوم والليلة/. ١٧ ب ويَسْبَحُونَ معناه: يَتَصَرَّفُونَ، وقالت فرقة: الفَلَكُ مَوْجٌ مكفوفٌ، قوله: يَسْبَحُونَ من السباحة وهي: العوم.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٣٤ الى ٣٥]
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥)
وقوله عزَّ وجل: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ... الآية، وتقديرُ الكلام:
أَفَهُمُ الخالدون، إنْ مِتَّ؟! وقوله سبحانه: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ... الآية: موعظةٌ «١» بليغةٌ لِمَنْ وُفِّقَ قال أَبو نُعَيْم: كان الثَّوْرِيُّ (رضي الله عنه) إذَا ذَكَرَ الموتَ لا يُنْتَفَعُ به أَيَّاماً». انتهى. من «التذكرة» «٢» للقرطبيِّ.
قال عبدُ الحقِّ في «العاقبة» : وقد أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلّم بذكر الموتِ، وأَعَادَ القولَ فيه تهويلاً لأَمرهِ، وتعظيماً لشأْنِهِ، ثم قال: واعلم أَنّ كثرةَ ذِكْرِ الموت يُرْدِعُ عن المعاصي، ويلين القلب القاسي.
قال الحسن: ما رأيت عاقلا قطُّ إلا وجدته حَذِراً من الموت، حزيناً من أَجْلِهِ، ثم قال: واعلم: أَنَّ طُولَ الأَمَلِ يكسل عن العمل، ويُورِثُ التواني، ويخلد إلى الأرض، ويُمِيلُ إلى الهوى، وهذا أَمرٌ قد شُوهِدَ بالعيان فلا يحتاج إلى بيان، ولا يُطَالَبُ صَاحِبُهُ بالبرهان كما أَنَّ قِصَرَهُ يبعث على العَمَلِ، وَيَحْمِلُ على المُبَادَرَةِ، ويَحُثُّ على المسابقة قال النّبيّ صلى الله عليه وسلّم: «أنا النَّذِيرُ، والمَوْتُ المُغِيرُ، والسَّاعَةَ المَوْعِدُ» «٣» ذكره القاضي أبو الحسن بنُ صَخْرٍ في الفوائد. انتهى.
وَنَبْلُوكُمْ معناه: نختبركم، وقدّم بِالشَّرِّ على لَفْظَةِ الْخَيْرِ لأَنَّ العَرَبَ من عادتها أن تقدّم الأقلّ والأردى ومنه قوله تعالى: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فاطر: ٣٢]. فبدأ تعالى في تقسيم أمّة سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلّم بالظالم «٤».
وفِتْنَةً معناه: امتحانا.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٣٦ الى ٣٨]
وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨)
وقوله تعالى: وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا: كأبي جَهْلٍ وغيرِهِ، «وإن» بمعنى: «ما»، وفي الكلام حَذْفٌ تقديره: يقولون: أهذا الذي؟
(١) في ج: هو عظة.
(٢) ينظر: «التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة» للقرطبي (١/ ٢٣).
(٣) أخرجه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٤/ ٣٨٧)، والحديث ذكره الحافظ العراقي في «تخريج الإحياء» (٤/ ٤٥٩).
وقال: أخرجه ابن أبي الدنيا في «قصر الأمل»، وأبو القاسم البغوي بإسناد فيه لين.
(٤) في ج: بالمظالم.
وقال ص: «إنْ» : نافية، والظاهِرُ أَنَّها وما دَخَلَتْ عليه جَوَابُ إذَا، انتهى.
قوله سبحانه: وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ رُوِيَ: أَنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ حِينَ أنكروا هذه اللَّفْظَةَ، وقالوا: ما نعرفُ الرحمن إلاَّ في اليمامة، وظاهِرُ الكلامِ: أَنَّ الرَّحْمنِ قُصِدَ به العبارة عنِ الله عز وجل، وَوَصَفَ سبحانه الإنسانَ الذي هو اسمُ جنسٍ بأَنه خُلِقَ من عَجَلٍ، وهذا على جهة المُبَالَغَةِ كما تقول للرجل البطال: أَنْتَ من لعب ولهو.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٣٩ الى ٥٠]
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣)
بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨)
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠)
وقوله سبحانه: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ...
الآية: حُذِفَ جوابُ «لو» إيجازاً لدلالة الكلامِ عليه، وتقديرُ المحذوف: لما استعجلوا، ونحوه، وذَكَرَ الوجوهَ لشرفها من الإنسانِ، ثم ذَكَرَ الظهورَ ليُبَيِّنَ عُمُومَ النَّارِ لجميع أَبْدَانِهِمْ، والضميرُ في قوله: بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً: للسَّاعَةِ التي تُصَيِّرُهُم إلى العذاب، ويحتمل أن يكون للنار، ويُنْظَرُونَ معناه: يؤخّرون، وفَحاقَ معناه: حلّ ونزل، ويَكْلَؤُكُمْ، أي: يَحْفَظُكُمْ.
وقوله سبحانه: وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ يحْتَمِلُ تَأْوِيلَيْنِ:
أحدهما: يجارون ويمنعون.
والآخر: ولا هم مِنَّا يُصْحَبُون بخيرٍ وتَزْكِيَةٍ ونحو هذا.
وقوله سبحانه: أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها... الآية نَأْتِي الْأَرْضَ معناه: بالقُدْرَة، ونقصُّ الأَرْض: إمَّا أنْ يُرِيدَ بتخريبِ المعمور، وإمَّا بموتِ البَشَرِ.
87
وقال قوم: النَّقْصُ من الأَطْرَاف: موتُ العلماءِ، ثم خاطب سبحانه نبيّه صلى الله عليه وسلّم متوعّدا ١٨ ألهؤلاء/ الكَفَرَةِ بقوله: وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ... الآية، والنَّفْحَةُ: الخَطْرَةُ والمَسَّةُ، والمعنى: ولئن مَسَّتْهُمْ صَدْمَةَ عذابٍ لَيَنْدَمُنَّ، ولَيُقِرُّنَّ بظلمهم، وباقي الآية بَيِّنٌ.
وقال الثعلبي: نَفْحَةٌ، أي: طَرَفٌ قاله ابن عباسٌ «١»، انتهى.
وقوله سبحانه: لِيَوْمِ الْقِيامَةِ قال أبو حيان «٢» : اللام للظرفية بمعنى «في» انتهى.
قال القرطبي «٣» في «تذكرته» : قال العلماء: إذا انقضى الحسابُ كان بعدَه وَزْنُ الأَعمالِ لأَنَّ الوَزْنَ للجزاءِ، فينبغي أَنْ يكونَ بعد المُحَاسبَةِ، واخْتُلِفَ في الميزانِ والحَوْضِ: أَيُّهُمَا قَبْلَ الآخرِ، قال أبو الحسن القابسيُّ: والصحيحُ أَنَّ الحوضَ قبل الميزانِ، وذهب صاحِبُ «القوت» وغيره إلى: أنّ حوض النبي صلى الله عليه وسلّم إنما هو بَعْدَ الصِّرَاط.
قال القرطبي «٤» : والصحيح: «أنّ للنبي صلى الله عليه وسلّم حَوْضَيْنِ، وكلاهما يُسَمَّى كَوْثَراً، وأَنَّ الحَوْضَ الذي يذاد عنه مَنْ بَدَّلَ وغَيَّرَ، يكونُ في المَوْقِفِ قبل الصراط، وكذا حِيَاضُ الأنبياءِ- عليهم الصلاة والسلام- تكونُ في الموقف على ما وَرَدَ في ذلك من الأخبار» «٥» انتهى.
والفُرْقَانُ الذي أُوتي موسى وهارونُ قيل: التوراةُ، وهي الضِّيَاءُ والذّكر.
(١) ينظر: «البحر المحيط» (٦/ ٢٩٤).
(٢) في هذه اللام أوجه: - أحدها: قال الزمخشري مثلها في قولك: جئت لخمس خلون من الشهر، ومنه قول النابغة: [الطويل]
توهّمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع
والثاني: أنّها بمعنى في وإليه ذهب ابن قتيبة وابن مالك وهو رأي الكوفيين ومنه عندهم لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الأعراف: ١٨٧]، ولقول مسكين الدارمي: [الطويل]
أولئك قومي قد مضوا لسبيلهم كما مضى من قبل عاد وتبّع
وكقول الآخر: [الطويل]
وكلّ أب وابن وإن عمرا معا مقيمين مفقود لوقت وفاقد
والثالث: أنّها على بابها من التعليل ولكن على حذف مضاف أي لحساب يوم القيامة.
ينظر: «الدر المصون» (٥/ ٨٩- ٩٠) وينظر: «الكشاف» (٢/ ٥٧٤)، و «البحر» (٦/ ٣١٦).
(٣) ينظر: «التذكرة» (٢/ ٤١٧).
(٤) ينظر: القرطبي (١/ ٤٠٦- ٤٠٧).
(٥) أخرجه مسلم (٤/ ١٧٩٩) كتاب الفضائل باب إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلّم حديث (٣٧/ ٢٣٠١)، وأحمد (٥/ ٢٨٠).
88
وقالت فرقة: الفُرقَان: هو ما رَزَقَهُمَا اللَّهُ تعالى من نَصْرٍ وظُهُورٍ على فرعونَ وغيرِ ذلك، والضِّيَاءُ: التوراةُ، والذِّكْرُ: بمعنى التذكرة.
وقولُه سبحانه: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ يعني: القرآن، ثم وَقَفَهُم سبحانه تقريراً وتوبيخاً: هل يَصِحُّ لهم إنكارُ بَرَكَتِهِ وما فيه من الدعاءِ إلى الله تعالى وإلى صالح العمل؟
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٥١ الى ٥٦]
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥)
قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦)
وقوله سبحانه: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ... الآية. الرُّشْدُ عامٌّ، أي: في جميع المَرَاشِدِ وأنواعِ الخيراتِ.
وقال الثعلبيُّ: رُشْدَهُ، أي: توفيقَه، وقيل: صَلاَحَهُ، انتهى.
وقوله: وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ: مَدْحٌ لإبراهيمَ عليه السلام، أي: عالمين بما هَلَّ له وهذا نحو قولِهِ تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: ١٢٤] والتماثيل:
الأصنام.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٥٧ الى ٥٨]
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨)
وقوله: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ... الآية. رُوِيَ: أَنَّهُ حَضَرَهُم عِيدٌ لهم، فعزم قومٌ منهم على إبراهيمَ في حُضُورِهِ طمعاً منهم أَنْ يَسْتَحْسِنَ شيئاً من أحوالهم، فَمَشَى معهم، فلما كان في الطريق ثَنَى عَزْمَه على التَّخَلُّفِ عنهم، فقعد، وقال لهم: إني سقيم، فَمرَّ به جُمْهُورهُم، ثم قال في خلوةٍ من نفسه: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ فَسَمِعَهُ قومٌ من ضَعَفَتِهِم مِمَّنْ كان يسيرُ في آخِرِ الناس.
وقوله: بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ معناه: إلى عِيدِكُمْ، ثم انصرف إبراهيمُ عليه السلام إلَى بيت أصنامِهِم فدخله، ومعه قدُومٌ، فوجد الأَصنامَ قد وُقِّفَتْ، أكْبَرُهَا أَوَّلٌ، ثم الذي يليه فالذي يليه، وقد جعلوا أَطْعِمَتَهُم في ذلك اليوم بين يدي الأَصنام تبركاً لينصرفوا من ذلك العيد إلى أَكْلِهِ، فجعل- عليه السلامُ- يقَطِّعُهَا بتلك القدومِ، ويُهَشمُهَا حتى أَفسد أَشكالها، حاشا الكبيرَ فإنَّهُ تَرَكَهُ بحالِهِ وعَلَّقَ القدومَ في يده، وخرج عنها، وجُذاذاً:
معناه: قطَعاً صِغَاراً، والجَذُّ: القَطْعُ، والضميرُ في إِلَيْهِ أَظْهَرُ ما فيه أَنَّهُ عائِدٌ على إبراهيم، أي: فَعَلَ هذا كُلّهُ ترجِّياً منه أَنْ يَعْقُبَ ذلك منهم رَجْعَةٌ إليه وإلى شرعه، ويحتمل أن يعود على كبيرهم.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٥٩ الى ٦٣]
قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣)
وقوله سبحانه: قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا... الآية. المعنى: فانصرفوا من عيدهم فرأوا ١٨ ب ما حَدَثَ بآلهتهم، ف قالُوا: مَنْ/ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا؟ وقالُوا الثاني: الضميرُ فيه للقوم الضَّعَفَةِ الذين سَمِعُوا قولَ إبراهيمَ: تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ.
وقوله: عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ يريدُ في الحَفْلِ، وبِمَحْضَرِ الجمهور، وقوله:
يَشْهَدُونَ: يحتَمِلُ أَنْ يريدَ: الشهادَةَ عليه بفعله، أو بقوله: لَأَكِيدَنَّ، ويحتمل أنْ يريدَ به: المُشَاهَدَةَ، أي: يشاهدون عُقُوبَتَهُ أو غلبته المُؤَدِّيَةَ إلَى عُقُوبَتِهِ، وقوله عليه السلام: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا على معنى الاحتجاجِ عليهم، أَي: إنَّهُ غَارَ مِنْ أَنْ يُعْبَدَ هو وَتُعْبَدَ الصِّغَارُ معه، ففعل هذا بها لذلك وفي الحديث الصحيح عن النّبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ عليه السلام إلاَّ ثَلاَثَ كَذِبَاتٍ: قَوْلُهُ: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: ٨٩]، وقوله:
بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا، وقوله لِلْمَلِكِ: هِيَ أُخْتِي. وكانت مقالاتُه هذه في ذات اللَّه، وذهبت فرقة إلى أَنَّ معنى الحديث: لم يكذب إبراهيم، أي: لم يقل كلاماً ظاهره الكذب أو يشبه الكذبُ، وذهب الفَرَّاءُ إلى جهة أخرى في التأويل بأَنْ قال: قوله: فَعَلَهُ ليس من الفعل، وإنما هو فعله على جهة التوقع، حُذِفَ اللامُ على قولهم: عَلَّه بمعنى: لَعَلَّهُ، ثم خُفِّفَتِ اللام.
قال ع «١»
: وهذا تكلف.
قلت: قال عياض: واعلم، (أكرمك اللَّه) أَنَّ هذه الكلماتِ كلها خارجة عن الكذب، لا في القصد ولا في غيره، وهي داخلة في باب المعاريض التي فيها مندوحة عن الكذب، فأَمَّا قوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فإنه عَلَّقَ خبره بشرط النطق، كأَنه قال: إنْ كان ينطق فهو فعله على طريق التبكيت لقومه. انتهى.
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٨٧).
ثم ذكر بقية التوجيه وهو واضح لا نطيل بسرده.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٦٤ الى ٧٠]
فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨)
قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠)
وقوله سبحانه: فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ، أي: في توقيف هذا الرجل على هذا الفعلِ وأَنتم معكم من تسألون ثم رأوا ببديهة العقل أنَّ الأصنام لا تنطق، فقالوا لإبراهيمَ حين نكسوا في حيرتهم: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ، فوجد إبراهيمُ عليه السلام عند هذه المقالة موضعَ الحُجَّةِ ووقفهم موبّخا لهم بقوله: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً...
الآية. ثم حَقَّرَ شأنهم وشأنها بقوله: أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ... الآية.
ص «١» : وقولهم: لَقَدْ عَلِمْتَ: جواب قَسَمٍ محذوف معمول لقول محذوف في موضع الحال، أي: قائلين، لقد علمت. انتهى.
وقال الثعلبي: فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ أي: تفكروا بعقولهم فقالوا: ما نراه إلاَّ كما قال، إنكُم أنتم الظالمون في عبادتكم الأَصنامَ الصغارَ مع هذا الكبير. اهـ.
وما قدمناه عن ع «٢» هو الأوجه وأُفٍّ لفظة تُقال عند المُسْتَقْذَرَاتِ من الأَشياءِ، ويُسْتَعَارُ ذلك للمُسْتَقْبَح من المعاني، ثم أخذتهم العِزَّةُ بالإثم وانصرفوا إلى طريق الغلبة والغشم، فقالوا: حَرِّقُوهُ رُوِيَ: أَنَّ قائل هذه المقالة هو رجل من الأَكْرَادِ من أعرابِ فارس، أي: من باديتها، فَخَسَفَ اللَّه به الأَرض، فهو يتجلجلُ فيها إلى يومِ القيامة، وروي: أَنه لما أجمع رأيهم على تحريقه حَبَسَهُ نمرودُ الملك (لعنه الله) وأمر بجمع
(١) [هذه الجملة جواب قسم محذوف والقسم وجوابه معمولان لقول مضمر وذلك القول المضمر حال من مرفوع نكسوا أي نكسوا قائلين والله لقد علمت قوله: «ما هؤلاء ينطقون» يجوز أن تكون ما هذه مجازية فتكون هؤلاء اسمها وينطقون في محل نصب خبرها أو تميمية فلا علم لها والجملة المنفية بأسرها سادة مسد المفعولين إن كانت «علمت» على بابها ومسد واحد إن كانت عرفانية].
ينظر: «الدر المصون» (٥/ ٩٨).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٨٨).
الحَطَبِ حتى اجتمع منه ما شاءَ اللَّه، ثم أضرم نارا فلما أرادوا طرحَ إِبراهيمَ فيها لم يقدروا على القرب منها، فجاءهم إبليسُ في صورة شيخ فقال لهم: أنا أصنع لكم آلةً يُلْقَى بها، فَعَلَّمَهُمْ صنعة المِنْجَنِيقِ، ثم أُخْرِجَ إبراهيمُ عليه السلام فشد رباطاً، ووُضِعَ في كفَّةِ المنجنيق، ورُمِيَ به، فتلقَّاهُ جبريلُ- عليه السلام- في الهواءِ فقال له: ألك حاجة؟ فقال:
أمَّا إليك فلا، وأَمَّا إلى اللَّه فبلى.
قلت: قال ابنُ عطاء اللَّه في «التنوير» : وكنْ أَيُّها الأَخْ إبراهيميّاً إذْ زُجَّ به في المنجنيق، فتعرَّض له جبريل فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، وأما إلى ربي، فبلى، قال: فَاسْأَلْهُ. قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي، فانظرْ كيف رفع هِمَّتَهُ عن الخلق، ووجَّهَهَا إلى الملك الحقِّ، فلم يستغث بجبريل، ولا احتال على السؤال، بل رأى رَبَّهُ تعالى أقربَ إليه من جبريل ومن سؤاله فلذلك سَلَّمَهُ من نمرودَ ونكَالِهِ، وأنعم عليه بنواله وأفضاله. انتهى.
وقوله سبحانه: قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً قال بعض العلماء فيما روي: إنَّ اللَّه تعالى لو لم يقلْ: وَسَلاماً لهلك إبراهيمُ من برد النارِ، ورُوِيَ أَنَّه لما وقع في النار سَلَّمَهُ اللَّه، واحترق الحبل الذي رُبِطَ به، وقد أَكثر الناس في قصصه فاختصرناه لعدم صِحَّة أكثره، وروي: أَنَّ إبراهيمَ عليه السلام كان له بسط وطعام في تلك النارِ كُلُّ ذلك من الجنة، وروي: أَنَّ العيدانَ أينعت وأثمرت له هناك ثمارَها، ورُوِيَ: أنهم قالوا: إنَّ هذه نار مسحورة، لا تحرق، فرموا فيها شيخاً منهم فاحترق، واللَّه أعلم بما كان من ذلك.
قلت: قال صاحب «غاية المَغْنَم في اسم اللَّه الأعظم» وهو من الأئمة المحدثين، وعن الإمام أَحمدَ بنِ حَنبلَ رحمه اللَّه: إنه يُكْتَبُ للمَحْمُومِ ويُعَلَّقُ عليه: بسم الله الرحمن الرحيم، يا الله يا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ، اللهم ربَّ جبريل وميكائيل اشْفِ حاملها بحولك وقوتك وجبروتك يا أرحمَ الراحمين. انتهى.
وقوله: وَسَلاماً معناه: وسلامةً، و «الكيد» : هو ما أرادوه من حرقه.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧١ الى ٧٦]
وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣) وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥)
وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦)
وقوله سبحانه: وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً... الآية. رُوِيَ أَنَّ إبراهيمَ عليه السلام لما خرج من النار أحضره نمرودُ، وقال له في بعض قوله: يا إبراهيمُ، أين جنودُ ربِّك الذي تَزْعُمُ؟
فقال له عليه السلام: سيريك فِعْلَ أضعفِ جنوده، فبعث اللَّه تعالى على نمرودَ وأصحابه سحابةً من بعوضٍ فأكلتهم عن آخرهم ودوابَّهُم حتى كانتِ العظام تلوح بيضاءَ، ودخلت منها بعوضةٌ في رأس نمرودَ، فكان رأسه يُضْرَبُ بالعيدانِ وغيرِها، ثم هلك منها، وخرج إبراهيمُ وابن أخيه لوط- عليهما السلام- من تلك الأرضِ مهاجرين، وهي «كُوثى» من العراق، ومع إبراهيمَ بنتُ عَمِّهِ، سارَةُ زوجتُه، وفي تلك السفرة لَقِيَ الجبارَ الذي رام أخذها منه، واخْتُلِفَ في الإرض التي بُورِكَ فيها ونحا إليها إبراهيم ولوط- عليهما السلام-، فقالت فرقة: هي مَكَّةُ، وقال الجمهور: هي الشام، فنزل إبراهيم بالسبع من أرض فلسطين، وهي برية الشام، ونزل لوط بالمؤتكفة، «والنافلة» : العطيَّةُ، وباقي الآية بَيِّنٌ، وخبائِثُ قرية لوط هي إتيانُ الذكور، وتَضَارُطُهُمْ في مجالسهم، إلى غير ذلك من قبيح أفعالهم.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧٧ الى ٨٤]
وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧) وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١)
وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢) وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤)
وقوله سبحانه في نوح- عليه السلام-: وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ... الآية، لما كان جُلُّ نُصْرَتِهِ النجاةَ، وكانت غلبة قومه بأَمر أجنبيٍّ منه- حَسُنَ أنْ يقول: «نصرناه من»، ولا تتمكن هنا «على».
قال ص: عُدِّي «نصرناه» ب «مِنْ» لتضمنه معنى: نجينا، وعصمنا، ومنعنا.
وقال أبو عبيدة: «مِنْ» بمعنى «على».
93
قلت: وهذا أولى، وأَمَّا الأول ففيه نظر لأَنَّ تلك الأَلفاظَ المُقَدِّمَةَ كلها غير مرادفة ل «نصرنا»، انتهى.
قلت: وكذا يظهر من كلام ابن هشام: ترجيحُ الثاني، وذِكْرُ هؤلاء الأنبياء- عليهم السلام- ضَرْبُ مَثَلٍ لقصة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلّم مع قومه، ونجاةُ الأنبياء، وهلاكُ مكذبيهم ضمنها تَوَعُّدٌ لِكُفَّارِ قريش.
وقوله تعالى: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ المعنى: واذكر داود وسليمان، هكذا قَدَّرَهُ جماعة من المفسرين، ويُحْتَمَلُ أنْ يكونَ المعنى: وآتينا داود، و «النفش» : هو الرعي ليلاً، ومضى الحكم في الإسلام بتضمين أربابِ النعم ما أفسدت بالليل لأنَّ على أهلها أَنْ يثقفوها، وعلى أهل الزروع حفظها بالنهار، هذا هو مُقْتَضَى الحديث في ناقة ابن عازب، وهو مذهب مالك وجمهور الأُمَّةِ، وفي كتاب ابن سحنون: إن الحديث إنَّما جاء في أمثالِ المدينة التي هي حيطان محدقة، وأمَّا البلاد التي هي زروع متصلة غير محظرة فيضمن أربابُ النَّعَمِ ما أفسدتْ بالليل والنهار.
قال ص: والضمير في قوله: لِحُكْمِهِمْ يعودُ على الحاكمين والمحكوم له وعليه أبو البقاء.
وقيل: الضمير لداودَ وسليمانَ- عليهما السلام- فقط، وجُمِعَ لأَنَّ الاثنين جمع.
انتهى.
قال ابن العربيِّ في «أحكامه» «١» : المواشي على قسمين: ضوار «٢»، وغير ضوار، وهكذا قَسَّمَهَا مالك، فالضواري: هي المعتادة بأكل الزرع والثمار، فقال مالك: تُغَرَّبُ وتُبَاعُ في بلد لا زرعَ فيه، ورواه ابن القاسم في الكتاب وغيره.
قال ابن حبيب: وإنْ كَرِهَ ذلك أربابُها، وكان قول مالك في الدَّابَّةِ التي ضربت بفساد الزرع أَنْ تُغَرِّبَ وتُبَاعَ، وأَمَّا ما يُسْتَطَاعُ الاحتراز منه فلا يُؤْمَرُ صاحبه بإخراجه عن ملكه، وهذا بَيِّنٌ. انتهى.
وقوله: يُسَبِّحْنَ، أي: يقلن: سبحان اللَّه هذا قول الأكثر، وذهبت فرقة منهم
(١) ينظر: «أحكام القرآن» (٣/ ١٢٧٠).
(٢) الضرو من السباع: ما ضري بالصيد ولهج بالفرائس.
ينظر: «لسان العرب» (٢٥٨٣). [.....]
94
منذرُ بن سعيد إلى أنه بمعنى: يُصَلِّينَ معه بصلاته، واللبوس في اللغة: هو السلاح، فمنه الدرع وغيره.
قال ص: ولَبُوسٍ معناه: مَلْبُوسٌ كالرُّكُوب بمعنى المَرْكُوب قال الشاعر [الطويل].
عَلَيْهَا أَسُودٌ ضَارِيَاتٌ لَبُوسُهُم سَوَابِعُ بِيضٌ لاَ تُخَرِّقُهَا النَّبْلُ
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ، أي: وسخرنا لسليمانَ الريحَ، هذا على قراءة [النصب] «١» وقرأت «٢» فرقة «الريحُ» بالرفع، ويروى أَنَّ الريح العاصفة كانت تهبُّ على سرير سليمانَ الذي فيه بساطه، وقد مد حول البساط بالخشب والألواح حتى صَنَعَ سريراً يَحْمِلُ جميع عسكره وأقواته، فتقله من الأرض في الهواء، ثم تتولاه الريح الرُّخَاءُ بعد ذلك فتحمله إلى حيث أراد سليمان.
قال ص: والعَصْفُ: الشِّدَّةُ، والرُّخَاءُ: اللين. انتهى.
وقوله تعالى: إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها اخْتُلِفَ فيها، فقالت فرقة: هي الشام، وكانت مسكنَه وموضعَ ملكه، وقد قال بعضهم: إنَّ العاصفة هي في القفول على عادة البشر والدَّوابِّ في الإسراع إلى الوطن، وإنَّ الرُّخَاء كانت في البدأة حيث أصاب، أي: حيث يقصد لأَنَّ ذلك وقت تأنٍ/ وتدبير وتقلُّبِ رأي، ويحتمل: أنْ يريد الأَرض التي يسير ١٩ أإليها سليمان كائنةً ما كانت، وذلك أَنَّهُ لم يكن يسير إلى أَرض إلاَّ أصلحها اللَّه تعالى به صلى الله عليه وسلّم، ولا بركةَ أَعظَمُ من هذا، والغوصُ: الدخول في الماء والأرض، والعمل دون ذلك البنيان وغيره من الصنائع والخدمة ونحوها، وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ قيل: معناه: مِنْ إفسادهم ما صنعوه، وقيل: غير هذا.
قلت: وقوله سبحانه: وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ هذا الاسم المُبَارَكُ مناسب لحال أَيُّوبَ عليه السلام، وقد روى أسامة بن زيد (رضي اللَّه عنه) أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ لِلَّهِ تعالى مَلَكاً مُوَكَّلاً بِمَنْ يَقُولُ: يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينٍ، فَمَنْ قَالَهَا ثَلاَثاً، قال له الملك: إنّ
(١) سقط في ج.
(٢) وقد قرأ بها الأعرج، وأبو بكر عن عاصم.
ينظر: «مختصر الشواذ»
(٩٥)، و «الكشاف» (٣/ ١٣٠)، و «المحرر الوجيز» (٤/ ٩٣)، و «البحر المحيط» (٦/ ٣٠٨)، و «الدر المصون» (٥/ ١٠٣).
95
أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ قَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكَ فَاسْأَلْ» «١» رواه الحاكم في «المَسْتَدْرَكِ»، وعن أنس بن مالك (رضي اللَّه عنه) قال: «مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بِرَجُلٍ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: سَلْ فَقَدْ نَظَرَ اللَّهُ إلَيْكَ» «٢» رواه الحاكم، انتهى من «السلاح».
وفي قصص أيوبَ عليه السلام طُولٌ واختلاف، وتلخيصُ بعض ذلك: أَنَّ أيوبَ عليه السلام أصابه اللَّه تعالى بأكلة في بدنه، فلما عَظُمَتْ، وتقطَّع بدنه، أخرجه الناس من بينهم، ولم يبقَ معه غيرُ زوجته، ويقال: كانت بنتَ يوسفَ الصديق عليه السلام قيل:
اسمها رحمة، وقيل في أيوب: إنَّه من بني إسرائيل وقيل: إنه من «الروم» من قرية «عيصو»، فكانت زوجته تسعى عليه، وتأْتيه بما يأكل، وتقوم عليه، ودامَ عليه ضُرُّهُ مدَّة طويلة، وروي أَنَّ أيوب (عليه السلام) لم يزل صابراً شاكراً، لا يدعو في كشف ما به، حتى إنَّ الدودة تسقط منه فيردها، فمرَّ به قوم كانوا يعادونه فشمتوا به فحينئذٍ دعا رَبَّهُ سبحانه فاستجاب له، وكانت امرأته غائبةً عنه في بعض شأنها، فأنبع اللَّه تعالى له عيناً، وأُمِرَ بالشرب منها فبرىء باطنه، وأُمِرَ بالاغتسال فبرىء ظاهره، ورُدَّ إلى أفضل جماله، وأوتي بأحسن ثياب، وهبَّ عليه رجل من جراد من ذهب فجعل يحتفن منه في ثوبه، فناداه ربه سبحانه وتعالى: «يا أيوب ألمْ أكنْ أغنيتك عن هذا؟ فقال: بلى يا رب، ولكن لا غنى بي عن بركتك» فبينما هو كذلك إذ جاءت امرأته، فلم تره في الموضع، فجزعت وَظَنَّتْ أَنَّهُ أزيل عنه، فجعلت تتولَّهُ رضي اللَّه عنها، فقال لها: ما شَأْنُكِ أيتها المرأة؟
فهابته لحسن هيئته، وقالت: إنِّي فقدت مريضاً «٣» لي في هذا الموضع، ومعالم المكانِ قد تغيرت، وتأملته في أثناءِ المقاولة «٤» فرأت أيوبَ، فقالت له: أنت أيوبُ؟ فقال لها:
نعم، واعتنقها، وبكى، فَرُوِيَ أنه لم يُفَارِقْهَا حَتَّى أراه اللَّه جميعَ مالِهِ حاضراً بين يديه.
واختلف الناس في أهله وولده الذين آتاه اللَّه، فقيل: كان ذلك كله في الدنيا فَرَدَّ اللَّه عليه ولده بأعيانهم، وجعل مثلهم له عدة في الآخرة، وقيل: بل أُوتي جميع ذلك في الدنيا من أهل ومال.
ت: وقد قَدَّمَ ع «٥» في صدر القصة: إن اللَّه سبحانه أَذِنَ لإبليس (لعنه الله)
(١) أخرجه الحاكم (١/ ٥٤٤) من طريق كامل بن طلحة عن فضال بن جبير عن أبي أمامة مرفوعا، وسكت عنه الحاكم، وقال الذهبي: فضال ليس بشيء.
(٢) أخرجه الحاكم (١/ ٥٤٤) من حديث أنس بن مالك، وقال الذهبي: لم يصح هذا.
(٣) في ج: كان لي.
(٤) في ج: المقالة.
(٥) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٩٤).
96
في إهلاك مال أيوبَ، وفي إهلاك بنيه وقرابته، ففعل ذلك أجمع، واللَّه أعلم بصحة ذلك، ولو صَحَّ لوجب تأويله.
وقوله سبحانه: وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ، أي: وتذكرة وموعظة للمؤمنين، ولا يعبد الله إلّا مؤمن.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٥ الى ٨٨]
وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨)
وقوله سبحانه: وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ المعنى: واذكر إسماعيلَ، وقوله سبحانه:
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً التقدير واذكر ذا النون، قال السُّهَيْلِيُّ: لما ذكر اللَّه تعالى يُونُسَ هنا في معرض الثناء، قال: وَذَا النُّونِ، وقال في الآية الأخرى: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ [القلم: ٤٨] / والمعنى واحدٌ، ولكن بين اللفظين تفاوتٌ كثير في حسن ١٩ ب الإشارة إلى الحالتين، وتنزيلُ الكلام في الموضعين والإضافة بذي أشرف من الإضافة بصاحب لأنَّ قولك «١» : ذو يضاف بها إلى التابع، وصاحبُ يُضَافُ بها إلى المتبوع.
انتهى.
والنون: الحوتُ، والصاحب: يونس بن متى- عليه السلام- وهو نبيٌّ من أهل نَيْنَوَى.
وقوله: مُغاضِباً قيل: إنَّهُ غاضب قومه حين طال عليه أمرهم وَتَعَنُّتُهُمْ، فذهب فارّاً بنفسه، وقد كان اللَّه تعالى أمره بملازمتهم والصبرِ على دعائهم، فكان ذلك ذَنْبَه، أي: في خروجه عن قومه بغير إذن ربه.
قال عِيَاض: والصحيح في قوله تعالى: إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً أَنَّهُ مُغَاضِبٌ لقومه لكفرهم، وهو قول ابن عباس، والضَّحَّاكِ «٢» وغيرهما، لا لربه إذْ مغاضبة اللَّه تعالى معاداة له، ومعاداةُ اللَّه كفر لا يليق بالمؤمنين، فكيف بالأنبياء- عليهم السلام-؟! وفرار
(١) في ج: قوله وذا.
(٢) أخرجه الطبريّ (٩/ ٧٣) برقم (٢٤٧٤٩) عن ابن عباس، (٢٤٧٥٠) عن الضحاك، وذكره السيوطي (٤/ ٥٩٧) وعزاه للبيهقي في «الأسماء والصفات» عن ابن عباس، وعزاه أيضا لابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الضحاك.
97
يونس عليه السلام خشيةَ تكذيب قومه بما وعدهم به من العذاب.
وقوله سبحانه: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ معناه: أَنْ لن نضيق عليه، وقيل: معناه:
نقدر عليه ما أصابه، وقد قُرِىء «نقَدِّرَ» عليه بالتشديد «١»، وذلك، كما قيل لحسن ظَنِّهِ بربه:
أَنه لا يقضى عليه بعقوبة، وقال عياض في موضع آخر: وليس في قصة يونس عليه السلام نَصٌّ على ذنب، وإنما فيها أَبَقَ وذهب مغاضباً، وقد تكلمنا عليه، وقيل: إنما نقم الله- تعالى- عليه خروجه عن قومه، فارّا من نزول العذاب. وقيل: بل لَمَّا وعدهم العذابَ، ثم عفا اللَّه عنهم، قال: واللَّهِ لا ألقاهم بوجه كذَّابٍ أبداً، وهذا كله ليس فيه نَصٌّ على معصية. انتهى.
وقوله سبحانه: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ. قالت فرقة: معناه: أن لن نضيق عليه في مذهبه من قوله تعالى: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ [الرعد: ٢٦]، وقرأ الزُّهْرِيُّ:
«نُقَدِّرُ» «٢» بضم النون، وفتح القاف، وشَدِّ الدال، ونحوه عن الحسن.
وروي: أَنَّ يونس عليه السلام سجد في جوفِ الحوت حين سمع تسبيح الحيتان في قعر البحر.
وقوله: إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ: يريد فيما خالف فيه من ترك ملازمة قومه والصبر عليهم، هذا أحسن الوجوه، فاستجاب اللَّه له.
ت وليس في هذه الكلمة ما يَدُلُّ أَنَّهُ اعترف بذنب، كما أشار إليه بعضهم، وفي الحديث الصحيح: «دَعْوَةُ أَخِي ذِي النُّونِ، في بَطْنِ الْحُوتِ: لاَ إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ، إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، مَا دَعَا بِهَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ- أَوْ قَالَ: مُسْلِمٌ-، إلاَّ اسْتُجِيبَ لَهُ» «٣»
(١) وهي قراءة الزهري والحسن كما ذكرهما المصنف بعد.
وقرأ بها ابن أبي ليلى، وأبو شرق، والكلبي، ويعقوب.
كما في «مختصر الشواذ» ص (٩٥)، وينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٩٧)، و «البحر المحيط» (٦/ ٣١١)، ونسبها للزهري حسب. وهي في «الدر المصون» (٥/ ١٠٥).
وحكاها القرطبي (١١/ ٢١٩) عن عمر بن عبد العزيز والزهري.
(٢) ينظر القراءة السابقة.
(٣) أخرجه الترمذي (٥/ ٥٢٩) كتاب الدعوات: باب (٨٢) حديث (٣٥٠٥)، والنسائي في «الكبرى» (٦/ ١٦٨) كتاب عمل اليوم والليلة: باب ذكر دعوة ذي النون، حديث (١٠٤٩٢)، وأحمد (١/ ١٧٠)، والحاكم (١/ ٥٠٥)، والطبريّ (٩/ ٧٨)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (١/ ٤٣٢) رقم (٦٢٠) كلهم من حديث سعد بن أبي وقاص.
والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٥٩٩)، وزاد نسبته إلى الحكيم في «نوادر الأصول»، وابن أبي حاتم، والبزار، وابن مردويه.
98
الحديث، انتهى. وعن سعد بن مالك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال في قوله تعالى: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ أيُّما مُسْلِمٍ دَعَا بِهَا فِي مَرَضِهِ أَرْبَعِينَ مَرَّةً فَمَاتَ فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ- أُعْطِيَ أَجْرَ شَهِيدٍ، وإنْ بَرِىءَ بَرِىءَ وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَهُ جَمِيعَ ذُنُوبِهِ» «١» أخرجه الحاكم في «المستدرك»، انتهى من «السلاح».
وذكر صاحب «السلاح» أيضاً عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:
«دَعْوَةُ ذِي النُّونِ، إذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: لاَ إلَهَ إلاَّ أَنْتَ، سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَإنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ في شَيْءٍ قَطُّ إلاَّ اسْتَجَابَ اللهُ تعالى لَهُ» رواه الترمذي، واللفظ له، والنسائي والحاكم في «المستدرك»، وقال: صحيح الإسناد، وزاد فيه من طريق آخر: «فَقَالَ رَجُلٌ: يا رَسُولَ اللهِ، هَلْ كَانَتْ لِيُونُسَ خَاصَّةً، أَمْ لِلْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً؟
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلّم: «ألا تسمع إلى قول الله عز وجل: وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ «٢»
». انتهى.
والغم: ما كان ناله حين التقمه الحوت.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٩ الى ٩١]
وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١)
وقوله سبحانه:
/ وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ الآية تقدم أمر زكرياء.
وقوله سبحانه: وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ قيل: بأَنْ جُعِلَتْ مِمَّنْ تَحْمِلُ وهي عاقر قاعد، وعموم اللفظ يتناول جميع الإصلاح.
وقوله تعالى: وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً المعنى: أنهم يدعون في وقت تعبداتهم، وهم بحال رغبة ورجاء، ورهبة وخوف في حال واحدة لأَنَّ الرغبة والرهبة متلازمان، والخشوعُ: التذلُّل بالبدن المتركب على التذلل بالقلب.
قال القشيريُّ في «رسالته» : سُئِلَ الجنيد عن الخشوع فقال: تَذَلُّلُ القلوب لعلاَّمِ الغيوب، قال سَهْلُ بْنُ عَبْدِ الله: مَنْ خشع قلبُه لم يقرب منه الشيطان. انتهى.
(١) أخرجه الحاكم (١/ ٥٠٦)، وسكت عنه هو والذهبي.
(٢) تقدم تخريجه. [.....]
وقوله سبحانه: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها المعنى: واذكر التي أحصنت فرجها، وهي الجارحة المعروفة، هذا قول الجمهور، وفي أحصانها هو المدح، وقالت فرقة: الفرج هنا هو فرج ثوبها [الذي منه نفخ الملك] «١». وهذا قول ضعيف، وقد تقدم أمرها.
ت: وعكس (رحمه الله) في سورة التحريم النقل، فقال: قال الجمهور: هو فرج الدرع.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٩٢ الى ٩٥]
إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ (٩٥)
وقوله تعالى: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ يُحْتَمَلُ أن يكون منقطعاً خطابا لمعاصري النبي صلى الله عليه وسلّم ثم أخبر عن الناس أَنَّهُمْ تقطعوا، ثم وعد وأوعد، ويحتمل أنْ يكون مُتَّصِلاً بقصة مريمَ وابنها- عليهما السلام.
ص: أبو البقاء: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ أي، في أمرهم، يريد أنه منصوب على إسقاط حرف الجر.
وقيل: عُدِّيَ بنفسه لأنَّه بمعنى قطعوا، أي فرقوا، انتهى.
وقال البخاري: أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً، أي: دينكم دينٌ واحد «٢». انتهى.
وقرأ جمهور السبعة: «وحرام»، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «٣» :
«وحِرْم» - بكسر الحاء وسكون الراء- وهما مصدران بمعنى، فأَمَّا معنى الآية، فقالت فرقة:
حَرَامٌ وحَرْمٌ معناه: جزم وحتم، فالمعنى: وحتم على قرية أهلكناها، أَنَّهم لا يرجعون إلى الدنيا فيتوبون ويستعتبون، بل هم صائرون إلى العقاب.
وقالت طائفة: حرام وحرم، أي: ممتنع.
(١) سقط في ج.
(٢) ينظر: «صحيح البخاري» (٨/ ٢٨٩) كتاب «التفسير» : باب سورة الأنبياء.
(٣) إنما قرأ عاصم هذه القراءة في رواية أبي بكر، لا حفص كما ذكر المصنف، وأما قراءة حفص فهي كقراءة الجمهور.
ينظر: «السبعة» (٤٣١)، و «الحجة» (٥/ ٢٦١)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٦٨)، و «معاني القراءات» (٢/ ١٧٠)، و «شرح الطيبة» (٥/ ٦٠)، و «العنوان» (١٣٢)، و «شرح شعلة» (٥٠٠)، و «إتحاف» (٢/ ٢٦٧).

[سورة الأنبياء (٢١) : آية ٩٦]

حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦)
وقوله سبحانه: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ...
الآية، تحتمل «حتى» في هذه الآية أنْ تتعلَّقَ ب يَرْجِعُونَ، وتحتمل أنْ تكون حرفَ ابتداء، وهو الأظهر بسبب «إذا» لأنها تقتضي جواباً، واختلف هنا في الجواب، والذي أقول به: أَنَّ الجواب [في قوله] «١» فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ وهذا هو المعنى الذي قُصِدَ ذكرُه.
قال ص: قال أبو البقاء: حَتَّى إِذا مُتَعَلِّقَةٌ في المعنى ب حَرامٌ أي: يستمر الامتناع إلى هذا الوقت، ولا عملَ لها في «إذا». انتهى.
وقرأ الجمهور: «فُتِحَتْ» بتخفيف التاء، وقرأ ابن عامر «٢» وحده «فُتِّحَتْ» بالتشديد، ورُوِيَ أنَّ ياجوجَ وماجوجَ يشرفون في كلِّ يوم على الفتح، فيقولون: غداً نفتح، ولا يردون المشيئة إلى الله تعالى، فإذا كان غد وجدوا الرَّدم كأَوَّلِهِ حتى إذا أذن الله تعالى في فتحه، قال قائلهم: غداً نفتحه إن شاء الله تعالى، فيجدونه كما تركوه قريبَ الانفتاح فيفتحونه حينئذٍ.
ت وقد تقدم في «سورة الكهف» كثير من أخبار يأجوج ومأجوج فأغنانا عن إعادته، وهذه عادتنا في هذا المُخْتَصَرِ أسأل الله تعالى أن ينفعنا وإيَّاكم به، ويجعلَه لنا نوراً بين أيدينا، يومَ لا ينفعُ مال ولا بنون إلاَّ مَنْ أتى الله بقلب سليم، والحَدَبُ: كل مُسَنَّمٍ من الأرض، كالجبل والظَرِب «٣» والكدية «٤»، والقبر ونحوه.
وقالت فرقة: المراد بقوله: وَهُمْ يأجوجُ ومأجوجُ، يعني أنهم يطلعون من كل ثنية ومرتفع ويملؤون الأرضَ من كثرتهم.
وقالت فرقة: المراد بقوله: «وهم» جميعُ العالم، وإنَّما هو تعريف بالبعث من القبور.
(١) سقط في ج.
(٢) ينظر: «السبعة» (٤٣١)، و «الحجة» (٥/ ٢٦٢)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٦٧)، و «معاني القراءات» (٢/ ١٧٢)، و «العنوان» (١٣٢)، و «حجة القراءات» (٤٧٠)، و «إتحاف» (٢/ ٢٦٧).
(٣) الظرب: كل ما نتأ من الحجارة، وحدّ طرفه، وقيل: هو الجبل المنبسط، وقيل: هو الجبل الصغير، وقيل: الروابي الصغار، والجمع: ظراب.
ينظر: «لسان العرب» (٢٧٤٥).
(٤) الكدية: الأرض المرتفعة، وقيل: هو شيء صلب من الحجارة والطين، وهي أيضا الأرض الغليظة، وقيل: الأرض الصلبة.
ينظر: «لسان العرب» (٣٨٣٨).
وقرأ ابن مسعود «١» :«وَهُمْ مِنْ كُلِّ جَدَثٍ» بالجيم والثاء المثلثة، وهذه القراءة تؤيّد ٢٠ ب/ هذا التأويل، ويَنْسِلُونَ: معناه: يسرعون في تطامن، وأسند الطبريُّ عن أبي سعيد قال: «يخرج يأجوج ومأجوج فلا يتركون أحداً إلاَّ قتلوه، إلاَّ أَهْلَ الحصون، فيمرُّون على بحيرة طبرية فيمر آخرهم فيقول: كان هنا مرة ماء، قال فيبعث الله عليهم النَغَف حتى تكسر أعناقهم، فيقول أهل الحصون: لقد هلك أَعداءُ الله، فيدلون رجلاً ينظر، فيجدهم قد هلكوا، قال: فينزل الله من السماء ماءً فيقذف بهم في البحر، فيطهر الله الأَرض منهم» «٢» وفي حديث حذيفة نحوُ هذا، وفي آخره قال: وعند ذلك طلوعُ الشمس من مغربها.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٩٧ الى ١٠١]
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١)
وقوله سبحانه: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ يريد يومَ القيامة.
وقوله: [فَإِذا] «٣» هِيَ: مذهب سيبويه أنها ضمير القِصَّةِ، وجَوَّز الفرَّاء أن تكون ضمير الإبصار، تقدمت لدَلالة الكلام، ومجيء ما يفسرها، والشخوص بالبصر إحداد النظر دون أن يطرف، وذلك يعترى من الخوف المُفْرِطِ ونحوه، وباقي الآية بيِّن.
وقوله سبحانه: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ... الآية: هذه الآية مُخَاطَبَةٌ لكُفَّارِ مَكَّةَ، أي: إنكم وأصنامكم حصب جهنم، والحصب: ما توقد به النَّار إمّا
(١) وقرأ بها ابن عباس، والكلبي، والضحاك.
قال أبو الفتح: هو القبر بلغة أهل الحجاز.
ينظر: «المحتسب» (٢/ ٦٦)، و «مختصر الشواذ» (٩٥)، و «الكشاف» (٣/ ١٣٥)، و «المحرر الوجيز» (٤/ ١٠٠)، و «البحر المحيط» (٦/ ٣١٤)، و «الدر المصون» (٥/ ١١١).
(٢) أخرجه ابن ماجه (٢/ ١٣٦٣- ١٣٦٤) كتاب الفتن: باب فتنة الدجال، حديث (٤٠٧٩)، وأحمد (٣/ ٧٧)، وأبو يعلى (٢/ ٣٧٧- ٣٧٨) رقم (١١٤٤)، وابن حبان (١٩٠٩- موارد)، والحاكم (٤/ ٤٨٩)، والطبريّ في «تفسيره» (٩/ ٨٦) كلهم من حديث أبي سعيد الخدري.
وصححه ابن حبان، والحاكم، ووافقه الذهبي.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٦٠٣)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن مردويه.
(٣) سقط في ج.
لأنها تحصب به، أي: تُرْمَى، وإمَّا أنْ يكون لغة في الحطب إذا رُمِيَ، وإمَّا قبل أنْ يرمى فلا يُسَمَّى حصباً إلاَّ بتجوز، وحرق الأصنام بالنار على جهة التوبيخ لعابديها، ومن حيث تقع «ما» لمن يعقل في بعض المواضع، اعترَضَ في هذه الآية عبدُ الله بنُ الزِّبعري على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: إنَّ عِيسَى وعُزَيراً وَنَحْوَهُمَا قَدْ عُبِدَا مِنْ دُونِ اللهِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونُوا حَصَباً لجهنم فنزلت: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى الآية. والورود في هذه الآية:
ورودُ الدخولِ، والزفيرُ: صوت المُعَذِّبِ، وهو كنهيق الحمير وشبهه إلاَّ أَنه من الصدر.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٠٢ الى ١٠٥]
لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥)
وقوله سبحانه: لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَها هذه صفة الذين سبقت لهم الحسنى، وذلك بعد دخولهم الجنة لأَنَّ الحديث يقتضى أَنَّ في الموقف تزفر جهنم زفرةً لا يبقى نبيٌّ ولا مَلَكٌ إلاَّ جثا على ركبتيه، قال البخاريُّ «١» : الحسيس والحس: واحد، وهو الصوتُ الخفيُّ، انتهى. والفزع الأكبر عامٌّ في كلِّ هول يكون يوم القيامة، فكأَنَّ يوم القيامة بجملته هو الفَزَعُ الأكبر.
وقوله سبحانه: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ يريد: بالسلام عليهم والتبشير لهم، أي: هذا يومكم الذي وعدتهم فيه الثواب والنعيم، والسِّجِلِّ في قول فرقة: هو الصحيفة التي يُكْتَبُ فيها، والمعنى: كما يطوى السِّجِلُّ من أجل الكتاب الذي فيه، فالمصدر مضاف إلى المفعول وهكذا قال البخاري «٢» : السجل: الصحيفة، انتهى، وما خَرَّجه أبو داودَ في «مراسيله» من أَنَّ السجل: اسم رجل من كتّاب النبي صلى الله عليه وسلّم «٣». قال السهيليُّ فيه: هذا غير معروف. انتهى.
(١) ينظر: «صحيح البخاري» (٨/ ٢٨٩) كتاب التفسير: باب سورة الأنبياء.
(٢) ينظر المصدر السابق.
(٣) أخرجه أبو داود (٢/ ١٤٧) كتاب الخراج والفيء والإمارة: باب في اتخاذ الكاتب، حديث (٢٩٣٥)، والنسائي في التفسير (٢/ ٧٤) رقم (٣٥٥)، والطبريّ (٩/ ٩٤) رقم (٢٤٨٤٩)، وابن عدي في «الكامل» (٧/ ٢٦٦٢)، والبيهقي (١٠/ ١٢٦)، والطبراني في «الكبير» (١٢/ ١٧٠) رقم (١٢٧٩٠) من حديث ابن عباس. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٦١١)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن منده في «المعرفة»، وابن مردويه، وابن عساكر.
وقوله سبحانه: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ يحتمل معنيين: أحدهما: أن يكون خبراً عن البعث، أي كما اخترعنا الخلق أوَّلاً على غير مثال كذلك ننشئهم تارة أخرى، فنبعثهم من القبور.
والثاني أنْ يكونَ خبراً عن أَنَّ كل شخص يُبْعَثُ يوم القيامة على هيئته التي خرج بها ٢١ أإلى الدنيا، ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلّم: «يُحْشَرُ/ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ» «١».
وقوله: كَما بَدَأْنا الكاف مُتَعَلِّقَةٌ بقوله: نُعِيدُهُ، وقالت فرقة: الزَّبُورِ هنا يعم جميعَ الكتب المُنَزَّلَة لأَنه مأخوذ من: زبرت الكتاب إذا كتبته، والذِّكْرِ أراد به اللَّوحَ المحفوظ، وقالت فرقة: الزَّبُورِ هو زبور داود عليه السلام، والذِّكْرِ:
التوراة.
وقالت فرقة: الزَّبُورِ: ما بعد التوراةِ من الكتب، والذِّكْرِ: التوراة.
وقالت فرقة: الْأَرْضَ هنا: أرضُ الدنيا، أي: كل ما يناله المؤمنون من الأرض، وقالت فرقة: أراد أرض الجنة، واستشهدوا بقوله تعالى: وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزمر: ٧٤].
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٠٦ الى ١١٢]
إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠)
وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢)
وقوله سبحانه: إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً: الإشارة ب «هذا» إلى هذ الآيات المتقدمة في قول فرقة.
(١) أخرجه البخاري (٦/ ٤٤٥) كتاب أحاديث الأنبياء: باب قول الله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا حديث (٣٣٤٩)، وأطرافه في (٣٤٤٧، ٤٦٢٥، ٤٦٢٦، ٤٧٤٠، ٦٥٢٤، ٦٥٢٥، ٦٥٢٦)، ومسلم (٤/ ٢١٩٤- ٢١٩٥) كتاب الجنة وصفة نعيمها: باب فناء الدنيا، حديث (٥٠٨/ ٢٨٦٠)، والترمذي (٤/ ٦١٥- ٦١٦) كتاب صفة القيامة: باب ما جاء في شأن الحشر، حديث (٢٤٢٣)، والنسائي (٤/ ١١٤) كتاب الجنائز: باب البعث، حديث (٢٠٨٢) من حديث ابن عباس وقال الترمذي: حسن صحيح. [.....]
104
وقالت فرقة: الإشارة إلى القرآن بجملته، والعبادة تتضمن الإِيمان.
وقوله سبحانه: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ: قالت فرقة: هو صلى الله عليه وسلّم رحمةٌ للعالمين عموماً، أَمَّا للمؤمنين فواضح، وأَمَّا للكافرين فلأَنَّ الله تعالى رفع عنهم ما كان يصيب الأُمَمَ والقرونَ السابقة قبلهم من التعجيل بأنواع العذاب المستأصلة كالطوفان وغيره.
وقوله آذَنْتُكُمْ معناه: عرّفتكم بنذراتي، وأردتُ أن تشاركوني في معرفة ما عندي من الخوف عليكم من الله تعالى، وقال البخاري: آذَنْتُكُمْ: أعلمتكم، فإذا أعلمتهم فأنت وهم على سواء، انتهى، ثم أخبر أنه لا يعرف تعيينَ وقتٍ لعقابهم، هل هو قريب أم بعيد؟ وهذا أهول وأخوف.
قال ص: وَإِنْ أَدْرِي بمعنى: ما أدري، انتهى. والضمير في قوله: لَعَلَّهُ عائد على الإِملاء لهم، وفِتْنَةٌ معناه: إمتحان وابتلاء، والمتاع: ما يُسْتَمْتَعُ به مُدَّةَ الحياة الدنيا، ثم أمره تعالى أن يقول على جهة الدعاء: رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وهذا دعاء فيه توعُّدٌ، ثم توكل في آخر الآية واستعانَ بالله تعالى قال الداوديّ: وعن قتادة: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلّم كان إذا شَهِدَ قِتَالاً قَالَ: رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ «١». انتهى.
(١) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (٩/ ١٠٢) رقم (٢٤٨٩٧) عن قتادة مرسلا.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٦١٥)، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر.
105
Icon