تفسير سورة الرّوم

حومد
تفسير سورة سورة الروم من كتاب أيسر التفاسير المعروف بـحومد .
لمؤلفه أسعد محمود حومد .

(ألِف. لاَمْ. مِيمْ)
(١) - وَتُقْرَأُ مُقَطَّعَةً كُلُّ حَرْفٍ عَلَى حِدَةٍ. اللهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.
(٢) - فِي أَوَّلِ عَهْدِ الإِسْلاَمِ، وَقَبْلَ الهِجْرَةِ، جَرَتْ حَرْبٌ بَيْنَ الفُرْسِ والرُّومِ في أَر ْضِ فِلَسْطِينَ، انْتَصَرَ فِيها الفُرْسً انِتْصَاراً سَاحِقاً، وَتَابِعُوا مُطَارَدَةَ الرُّومِ حَتَّى حَاصَرُوا القْسِطَنْطِنِيَّةَ، وَقَدْ حَزِنَ المُسْلِمُونَ لانْكِسَارِ الرُّومِ لأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الكِتابِ، وَفَرِحَ المُشْرِكُونَ وَأَظْهَرُوا الشَّمَاتَةَ بالمُسْلِمينَ، وَقَالُوا لَهُمْ: أَنْتُم أَهْلُ كِتابٍ والرُّومُ أَهْلُ كِتَابٍ، وَإِنَّكُمْ إِنْ قَاتَلتُمونَا لَنَظْهَرَنَّ عَلَيكُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ هذِهِ الآيَاتِ.
بِلاَد العَرَبِ (أَدْنى الأَرْض - وَكَانَتِ المَعْرَكَةُ بَينَ الأُرْدُنِّ وفِلَسْطِين) وَلكِنَّ الرُّومَ سَيَغْلِبُونَ الفُرسَ، خِلاَلَ بِضْعِ سِنينَ (وَالبِضْعُ تَسْتَعْمِلُهَا العَرَبُ لِمَا بَيْنَ الثَّلاث وَالتِّسْعِ)، وَكَانَتْ غَلَبَةُ الرُّومِ للفُرْسِ خِلاَلَ تِسْعِ سَنَواتٍ كَمَا جَاءَ في القُرآن. وَقَدْ تَرَاهَن أَبُو بَكْرٍ مَعَ أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ (وَهُوَ مِنَ المُشرِكِينَ) عَلَى تَحَقٌّقِ غَلَبِ الرُّومِ خِلاَلَ تِسْعِ سَنَواتٍ، كَمَا جَاءَ في القُرآن، عَلَى مِئَةِ نَاقَةٍ، فَرَبحَ أَبُو بَكْرٍ الرِّهَانَ، وَكَانَ ذَلِكَ دَليلاً عَلَى صِدْقِ مُحَمذَدٍ ﷺ فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ رَبِّهِ.
أَدْنَى الأَرْضِ - أَقْرَبِ أرْضِ الرُّومِ إِلى بِلاَدِ العَرَبِ.
﴿يَوْمَئِذٍ﴾
(٤) - وَللهِ الأَمرُ مِنْ قَبْلِ غَلَبِ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ، وَمِنْ بَعْدِهِ، فَمَنْ غَلَبَ فَإِنَّهُ يَغْلِبُ بأَمرِ اللهِ تَعَالى وَقَضَائِهِ، وَيومَ تَغْلِبُ الرُّومُ الفُرسَ يَفْرَحُ المُؤمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ لَهُ كِتَابٌ عَلَى أَهلِ الشِّرْكِ، وَسَيكُونُ ذَلِكَ فَألاً حَسَناً لِغَلَبةِ المُسْلِمِينَ عَلَى الكَافِرينَ.
(٥) - وَيَومَ تَنْتَصِرُ الرُّومُ عَلَى الفُرسِ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ إخْوانَهُمْ أَهْلَ الكِتابِ عَلى المُشْرِكِينَ المَجُوسِ، والله يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ الرَّحيمُ بِعِبادِهِ فَلاَ يُعَاجِلُهُمْ بِالعُقُوبَةِ والانْتِقَامِ، وَإِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ عَيَّنَهُ وَحَدَّدَهُ لَعَلَّهُمْ يَتُوبُونَ إِليهِ، وَيَرجِعُونَ عَمَّا كَانُوا يَجْتَرِحُونَهُ مِنَ السَّيِّئَاتِ.
(٦) - وَهذا الذِي أَخْبَرَكَ بهِ رَبُّكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ أَنَّهُ سَيَنْصُرُ الرُّومَ عَلَى الفُرسِ، هُوَ وَعْدٌ حَقٌّ مِنَ اللهِ تَعَالى، واللهُ لا يُخْلِفُ وَعْدَهُ أَبَداً، لأَنَّ سُنَّتَهُ قَدْ جَرَتْ بأَنْ يَنْصُرَ أَقْرَبَ الطَّائِفَتَيِنِ إِلى الحَقِّ، وَيَجْعَلَ لَهَا العَاقِبَةَ. ولكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ذلِكَ لِجْهْلِهِمْ، وَعَدَمِ تَفَكُّرِهِمْ في النَّوامِيسِ التِي وَضَعَهَا اللهُ في الكَوْنِ.
﴿ظَاهِراً﴾ ﴿الحياة﴾ ﴿غَافِلُونَ﴾
(٧) - وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَيْسَ لَهُمْ عِلْمٌ إلاَّ بالأُمُورِ الدُّنْيا: كَتَدْبيرِ مَعَايِشِهِمْ، وَتَنْمِيَةِ مَتَاجِرِهِمْ، واسْتِثْمَارِ مَزَارِعِهِمْ.. وَهُمْ غَافِلُونَ عَنْ أُمُورِ الدِّينِ، وما يَنْفَعُهُمْ في الآخِرَةِ، كَأَنَّ أَحَدَهُمْ مُغَفَّلٌ لا عَقْلَ لَهُ.
﴿السماوات﴾ ﴿بِلِقَآءِ﴾ ﴿لَكَافِرُونَ﴾
(٨) - أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرْ هؤلاءِ المُكَذِّبونَ بِالبَعْثِ، مِنْ قَوْمِكَ، فِي خَلْقِ اللهِ لَهُمْ، وَلَمْ يَكُونُوا شَيئاً، وَتَعَهُّدِهِ لَهُم، حَتَّى صَارُوا كَامِلِي الخَلْقِ وَالعَقْلِ. إِنَّ الذِي فَعَلَ ذَلِكَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُعِيدَهُمْ بَعْدَ فَنَائِهِمْ خَلْقاً جَدِيداً، ثُمَّ يَبْعَثُهُم لُيَجَازِيَ كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، واللهُ تَعَالى لاَ يظْلِمُ أَحَداً، فَلاَ يُعَاقِبُ مَنْ لَمْ يَرْتَكِبْ ذَنْباً، وَهُوَ تعالى لَمْ يَخْلُقِ السَّماوَاتِ والأَرْضِ إِلاَ بالعَدْلِ، وَإِقَامَةِ العَدْلِ وَالحَقِّ، إِلى أَجَلٍ مُسَمَّى. فإذا جَاءَ الأَجَلُ أَفْنَى اللهُ ذَلِكَ الخَلْقَ كُلَّهُ، وَبَدَّلَهُ، فَأَصْبَحَتِ الأَرْضُ غَيرَ الأَرْضِ، وحَشَرَ النَّاسَ لِلحِسَابِ، وَلكِنَّ كَثيراً مِنَ النَّاسِ غَفَلُوا عَن الآخِرَةِ وَمَا فِيها مِنْ حِسَابٍ وَجَزَاءٍ، لأَنَّهم لَمْ يَتَفكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم، وَلَوْ تَفَكَّرُوا فِيها، وَدَرَسُوا عَجَائِبَها لأَيقَنُوا بِلِقَاءِ اللهِ.
أَجَلٍ مُسَمّى - وَقْتٍ مُقَدَّرٍ لِبَقَائِهَا.
﴿عَاقِبَةُ﴾ ﴿بالبينات﴾
(٩) - أَوَ لَمْ يَسِرْ هؤلاءِ المُكَذِّبُونَ بِوُجُودِ اللهِ وَوحْدَانِيَّتِهِ، وَبِرسَالَةِ الرُّسُلِ، الغَافِلُونَ عَنِ الآخِرَةِ، في البِلاَدِ التي يَقْصَدُونَها للتِّجَارَةِ، فَيَنظُرُوا إِلى آثارِ عِقَابِ اللهِ لِمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الأُمَمِ المُكَذِّبَةِ: كَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَةُ تَكْذِيبِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَقَدْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْ قَومِكَ قُوَّةً، وَحَرَثُوا الأَرْضَ وَعَمَّرُوها أَكثرَ مِمَّا عَمَّرَها كُفَّارُ قُريشٍ، ثُمَّ أَهْلَكَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ، وَمَا كَانَ اللهُ بِظَالِمٍ لَهُمْ، وَلكِنَّهُمْ هُمُ الذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَعْصِيتَهِمْ رَبَّهُمْ.
أَثَارُوا الأَرضَ - حَرثُوهَا وَقَلُبوهَا لِلزِّرَاعةِ.
﴿عَاقِبَةَ﴾ ﴿أَسَاءُوا﴾ ﴿بِآيَاتِ﴾ ﴿يَسْتَهْزِئُونَ﴾ (١٠) - وَكَانَتْ عَاقِبَةُ هؤلاءِ المُسِيِئِينَ المُكَذِّبِينَ، الظَّالِمِينَ أًَنْفُسَهُمْ سَيِّئَةً في الدُّنيا والآخِرَةِ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ بِاللهِ، وَتَكْذِيبِهِمْ بِآيِاتِهِ وَرُسُلِهِ، وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِرُسِلِهِمْ عُتُوّاً واسْتِكْبَاراً.
السُّوأَى - العُقُوبَةَ المُتَناهِيَةَ فِي السُّوءِ - وَهِيَ النَّارُ.
﴿يَبْدَأُ﴾
(١١) - لَقَدْ أَنْشَأَ اللهُ تَعَالى الخَلْقَ وأَوْجَدَهُ بِقُدْرَتِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَيئاً قَبْلَ ذَلِكَ، وَلاَ شَرِيكَ لَهُ فِيهِ، وَلا مُعِين لَهُ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ يُعِيدُ خَلْقَهُ مِنْ جَديدٍ بَعْدَ فَنَائِهِ وَإِعْدَامِهِ. ثُمَّ يَحْشُرُ اللهُ الخَلْقَ وَيُرجِعُهُمْ إِليهِ لِيُحَاسِبَهُمْ على أَعْمَالِهِمْ، وليَجْزِيَ كُلاًّ بِعَمَلِهِ.
(١٢) - وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُحْشَرُ المُجْرِمُونَ إِلى اللهِ تَعَالى، وَيَقِفُونَ بين يَدَيهِ سَاكِتينَ، وَهُمْ يَشْعُرُونَ بِاليَأْسِ والخِزْيِ، لأَنَّهُمْ لاَ يَجِدُونَ ما يَقُولُونَ دِفَاعاً عَنْ أَنْفُسِهِمْ.
أَبْلَسَ - سَكَتَ وَانْقَطَعَتْ حُجَّتُهُ -أَوْ يَئِسَ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ.
﴿شُرَكَآئِهِمْ﴾ ﴿شُفَعَاءُ﴾ ﴿كَافِرِينَ﴾
(١٣) - وَلَمْ يَجِدُوا أَحَداص مِنَ الآلِهَةِ التي كَانُوا يَعْبُدُونَها، وَيُشْرِكُونَها بِالعِبَادَةِ مَعَ اللهِ، يَتَقَدَّمُ لِيَشْفَعَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ، وَيُنْقِذَهُمْ مِنْ عذَابِ اللهِ، وَحِينَئِذٍ يَكْفُرُ المُجْرِمُونَ بِالشُّرَكاءِ، وَيَتَبَرُؤونَ مِنْهُمْ.
(أَوْ أَنَّ المَعْبُودِينَ يَكْفُرونَ بِعِبَادَةِ المُجْرِمِينَ إيَّاهُمْ).
﴿يَوْمَئِذٍ﴾
(١٤) - وَحِينَمَا تَقُومُ السَّاعَةُ، وَيَتمُّ الحِسَابُ، يُوَجَّهُ كُلُّ وَاحِدٍ إلى ما يَسْتَحِقُّهُ مِنْ نَعِيمٍ أَوْ عَذَابٍ، فَيَفْتَرِقُ أَهْلُ الإِيمَانِ عَنْ أهلِ الكُفْرِ، فَلاَ لِقَاءَ بَيْنَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ أَبداً.
﴿آمَنُواْ﴾ ﴿الصالحات﴾
(١٥) - فَأَمَّا الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ في الدُّنيا، فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ في رِيَاضِ الجِنَّاتِ يَنْعَمُونَ وَيَتَمَتَّعُونَ.
يُحْبَرُونَ - يَنْعَمُونَ أَو يَتَمَتَّعُونَ.
﴿بِآيَاتِنَا﴾ ﴿لِقَآءِ﴾ ﴿الآخرة﴾ ﴿فأولئك﴾
(١٦) - وَأَمّا الذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَآياتِهِ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ، وَأَنْكَرُوا البَعْثَ والنُّشُورَ والحِسَابَ في الآخِرَةِ، فَيَكُونُونَ حَاضِرِينَ في العَذابِ لا يَغِيبُونَ عَنْهُ أبداً.
مُحْضَرُونَ - تُحْضِرُهُمُ المَلائِكَةُ إِلى العَذَابِ وَلاَ يغِيبُونَ عَنْهُ أَبداً.
﴿فَسُبْحَانَ﴾
(١٧) - هُنَا يُوَجِّهُ اللهُ تَعَالى أَنْظَارَ العِبَادِ إِلى تَسْبِيحِهِ، وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا لاَ يَلِيقُ بِجَلاَلِهِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَآخِرِهِ.
﴿السماوات﴾
(١٨) - وَهُوَ الحَقِيقُ بالحَمْدِ، والشُّكْرِ، والثَّنَاءِ، مِنْ جَميعِ خَلْقِهِ، أَهْلِ السَّماوَاتِ وَألأَرْضِ، فاحْمَدُوهُ وَنَزِّهُوهُ وَقتَ اشْتِدَادِ الظَّلاَمِ في اللَّيلِ (عَشِيّاً)، وَوَقْتَ الظَّهِيرَةِ حِينَ اشْتِدَادِ الضّيَاءِ.
﴿يُحْيِي﴾
(١٩) - فَهُوَ تَعَالى القَادِرُ عَلَى خَلْقِ الأَشْيَاءِ وأَضْدَادِها، لِيَدلَّ بذلِكَ عَلى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وقُوَّتِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ إخْراجُهُ النَّبَاتَ الحَيَّ مِنَ الحَبِّ المَيِّتِ، وَإِخْراجُهُ الحَبَّ المَيِّتَ مِنَ النَّبَاتِ الحَيِّ، وَيُحْيِي الأَرْضَ المَوَاتَ بِمَاءِ المَطَرِ الذي يُنْزِلُهُ مِنَ السَّحَابِ، فَتُخْرِجُ الأَرضُ النَّبَاتَ الرَّطبَ الغَضَّ بَعدَ أَنْ كَانَتْ صَعِيداً جُرُزاً. وَكَما أَحْيَا اللهُ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، وَأَخْرَجَ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ، كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ المَوْتَى، وَيَبْعَثُهُم مِنْ قُبُورِهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ لِلحِسَابِ والجَزَاءِ.
﴿آيَاتِهِ﴾
(٢٠) - وَمِنْ حُجَجِهِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ الخَالِقُ القَادِرُ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنْ إِفْنَاءٍ وَإِيَجَادٍِ، أَنَّهُ خَلَقَ أَبَاكُمْ آدَمَ مِنْ تُرابٍ لا حَيَاةَ فِيهِ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ يُخْلَقُونَ مِنْ نُطْفَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ضَعِيفٍ، ثُمَّ يُقَلِّبُهُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ فِي أَطْوارٍ شَتَى إِلى يَخْرُجُوا أَطْفَالاً، ثُمَّ يَتَطوَّرُونَ في نُمُوِّهِمْ، ثُمَّ يَنْتَشِرُونَ فِي الأَرضِ لِلْعَمِلِ فِيها كَسْباً لِمَعَاشِهِمْ، وإِعْمَاراً لها.
تَنْتَشِرُونَ - تَتَصَرَّفُونَ فِي شُؤُونِ حَيَاتِكُمْ وَمَعَايِشِكُمْ.
﴿آيَاتِهِ﴾ ﴿أَزْوَاجاً﴾ ﴿لآيَاتٍ﴾
(٢١) - وَمِنْ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى عَلَى البَعْثِ والإِعَادَةِ، أَنَّهُ خَلَقَ لِلبَشَرِ أَزْواجاً مِنْ جِنْسِهِمْ، لِيأْنَسُوا بِهِنَّ، وَجَعَل بَينَهُمْ وَبَينَ أَزْوَاجِهِمْ مَحَبّةً ورَأفَةً (مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)، لِتَدُومَ الحَيَاةُ المَنْزِلِيَّةُ.
وَفِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ خَلْقٍ مِنْ تُرابٍ، وَخَلْقٍ للأَزْواجِ مِنَ الأَنْفُسِ... وَجَعْلِ المَوَدَّةِ والرَّحْمَةِ تَسُودُ عَلاَقَاتِ الأَزْوَاجِ بعضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ... لَعِبْرَةٌ لِمَنْ تَأَمَّلَ في ذلك مِنْ ذَوِي العَقُولِ وَالأَفْهَامِ.
لتَسْكُنُوا إليها - لِتَمِيلُوا إِليَها وَتَأَلَفُوهَا.
﴿آيَاتِهِ﴾ ﴿السماوات﴾ ﴿اختلاف﴾ ﴿أَلْوَانِكُمْ﴾ ﴿لآيَاتٍ﴾ ﴿لِّلْعَالَمِينَ﴾ (٢٢) - ومِنْ آياتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ العَظِيمَةِ، أَنَّهُ تَعَالى خَلقَ السَّماوَاتِ في ارْتِفَاعِهَا واتِّسَاعِها، وَخَلَقَ فِيها النُّجُومَ والكَواكِبَ، وَخَلقَ الأَرضَ وَمَا فِيها مِنْ بِحَارٍ وَمياهٍ ومخلُوقَاتٍ وَنَبَاتَاتٍ وجِبَالٍ، وجَعَلَ أَلسِنَةَ البَشَرِ مُخْتَلِفَةً مُتَمَايِزَةً، كَما جَعَلَ ألوانَ البَشَرِ مُخْتِلفةً، وإِن تَشَابِهُوا جَمِيعاً في الخُطُوطِ الكُبرى مِنْ مَلاَمِحِهِم، وَفي ذَلك آياتٌ تَدُلُّ عَلى عَظَمَةِ الخَالِقِ لأُولِي العِلْمِ الذِينَ يَتَفَكَّرُونَ فِيمَا خَلَقَ اللهُ.
﴿آيَاتِهِ﴾ ﴿بالليل﴾ ﴿لآيَاتٍ﴾
(٢٣) - ومِنْ عَلاَمَاتِ قُدْرَتِهِ عَلَى الخَلقِ أَنَّكُم تَنَامُون في اللَيْلِ، وتَهْدَؤُونَ، لِتَرتَاحَ أَبدانُكُم مِنْ عَنَاءِ العَمَلِ في النَّهارِ، وأَنَّكُم تَنْبَعِثُونَ في النَّهارِ لِلعَمَلِ وطَلَبِ الرِّزْقِ، وفي ذلِكَ عِبَرٌ وأَدِلَّةٌ لِمَنْ يَسْمَعُونَ المَوْعِظَةَ وَيَتَّعِظُونَ بِها.
﴿آيَاتِهِ﴾ ﴿فَيُحْيِي﴾ ﴿لآيَاتٍ﴾
(٢٤) - وَمِنْ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ، أَنَّهُ يُريكُمُ البَرْقَ فَتَخَافُونَ مِنْ صَوَاعِقِهِ، وَتَرْجُونَ أَن يَأْتِيَكُمْ بَعدَهُ المَطَرُ، ليُحْييَ الأَرْضَ، فَتَغْزُرَ المِيَاهُ، وَتَنْبُتَ الأَرضُ بالكَلأَِ والنَّبَاتِ، وفي ذلِكَ دَلاَلاَتٌ، وَعِبَرٌ وَاضِحَةٌ لِمَنْ يَتَبَصَّرونَ وَيَعْقِلُونَ، عَلى قُدْرَةِ اللهُ تَعالى عَلَى بَعْثِ الخَلاَئِقِ في الآخِرَة، وَنَشْرِهِمْ لِلْحِسَابِ والجَزَاءِ.
﴿آيَاتِهِ﴾
(٢٥) - ومِنَ الحُجَجِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى عَلَى مَا يَشَاءُ، قِيَامُ السَّمَاءِ والأَرض بِلاَ عَمَدٍ تَحْمِلُها، وَلا أَرْبِطَةٍ تَشُدُّها، وإِنَّما تَقُومَانِ بأمرِهِ وَتدبِيرِهِ، بِمَوْجِبِ نِظَامٍ قَدَّرَهُ وَأَقَامَهُ فِي الوُجُودِ، وَلاَ يَزَالُ الأمرُ كَذَلِكَ حتَّى يَنْتَهيَ أجلُ العالمِ في المَوعِدِ الذي حَدَّدَهُ اللهُ لانتِهَائِهِ، فَتُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ، وتُدَكُّ الجِبَالُ، وَحِنَئِدٍ يَأْمُرُ اللهُ فَيُنْفَخُ في الصُّورِ، فَيَخْرُجُ البَشَرُ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً إِلى رَبِّهِمْ مُسْتَجِيبِينَ لِدَعْوَتِهِ تَعَالى.
﴿السماوات﴾ ﴿قَانِتُونَ﴾
(٢٦) - وَجَميعُ مَنْ خَلَقَهُمُ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ يَخْشَعُونَ لِرَبِّهِمْ، وَيَخْضَعُونَ لَهُ، طَوْعاً أَوْ كَرْهاً.
قَانِتُونَ - مُطِيعُونَ مُنْقَادُونَ لإِرَادَتِهِ.
﴿يَبْدَأُ﴾ ﴿السماوات﴾
(٢٧) - وَهُوَ تَعَالى الذي بَدَأَ خَلْقَ السَّمَاواتِ والأَرْضِ عَلَى غَيرِ مِثَالٍ، سَبَقَ، ثُم يقضِي بِفَنَائِها وَزَوالِها، ثُمّ يُعيدُ خَلْقَها، وَكُلُّ ذَلِكَ هَيِّنٌ عَليه. ثُمَّ لَفَتَ اللهُ تَعَالى نَظَرَ البَشَرِ إِلى أَنَّ إِعَادَةَ الخَلْقِ والصُّنْعِ أهوَنُ عَلَيهِ منْ ابتِدَائِهِ، فإِذَا كَانَ اللهُ هُوَ الذي بَدَأ الخَلْقِ بعدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَيئاً، فَمِنَ المَفْرُوضِ في البَشَرِ أَنْ يُدْرِكُوا أَنَّ إِعَادَةَ خَلْقِ الكَائِنَاتِ أهوَنُ مِنْ خَلْقِهَا ابْتَداءً، وَأَنَّ ذَلكَ لَنْ يُعْجِزَ اللهَ تَعَالى، فَبَعْثُ البَشَرِ يومَ القيامةِ أَسْهَلُ عَلى اللهِ مِنْ خَلْقِهِمْ، وللهِ الوَصْفُ البَدِيعُ في السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ، وَهُوَ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ ليسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وهُوَ العَزيزُ الذي لا يُغَالَبُ ولا يُضَامُ، وهُوَ الحَكِيمُ في خَلْقِهِ وَتدبِيرِهِ، فَلا يَخْلُقُ شَيئاً عَبَثاً لا فَائِدةَ مِنْهُ.
لهُ المَثَلُ الأعلَى - لَهُ الوَصْفُ الأَعلَى في الجَلاَلِ والكَمَالِ.
﴿مِمَّا﴾ ﴿أَيْمَانُكُمْ﴾ ﴿رَزَقْنَاكُمْ﴾ ﴿الآيات﴾ (٢٨) - وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُشْرِكين الذينَ يَجْعَلُونَ للهِ شُرَكَاءَ، فَيَعْبُدُونَ مَعَ اللهِ آلهةً غَيْرَهُ، وَهُمْ مَعَ ذَلك مُعْتَرِفُونَ أًَنْ شُرَكَاءَهُمْ مِنَ الأَصْنَامِ عِبيدٌ للهِ، وَمُلْكٌ لَهُ، كَمَا كَانُوا يَقُولُونَ في طَوَافِهِمْ حَوْلَ الكَعْبَةِ: (لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ إِلا شَرِيكاً هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ)، فَقَالَ تَعَالى لَهَمْ: إِنَّ اللهَ يَضْرِبُ لَكُم مَثَلاً مُنْتَزَعاً مِنْ أَحوالِ أَنْفُسِكُمْ وَأَوْطَارِها، وَهِيَ أقربُ الأَشياءِ إِليكُم، وَبِهِ يَسْتبِينُ مِقْدَارُ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الضَّلاَلَةِ بِعِبَادَتِكُمُ الأَصْنَامَ والأَوثَانَ. وَهذا المَثَلُ هُوَ: هَلْ يَرْضَى أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ شَرِيكاً لَهُ فِي مَالِهِ فَيَكُونَ مَعَهُ عَلى السَّواءِ في التَّصَرّفِ فِي المَالِ، فيَحْسبُ حِسَابَهُ مَعَهُ، فَلا يَتَصَرَّفُ في شَيءٍ مِمَّا يَملِكُ مِنْ دُونِ إِذْنِهِ، كَمَا يَحْسبَ حِسَابَ الشَّريكِ الحُرِّ المُمَاثِلِ، ويَخْشَى أَنْ يَجُورَ عليهِ شَرِيكُهُ، كَمَا يَتَحَرَّجُ هُوَ مِنَ الجَوْرِ عَلَى شَرِيكِهِ لأنَّهُ كُفْءٌ لَهُ وَنِدٌّ (تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُم)، فَهلُ يَقَعُ شَيءٌ مِنْ ذَلكَ فِي مُحِيطِكُمُ القَرِيبِ وشَأْنِكُمُ الخَاصِّ؟ فَإِذا كَانَ شَيءٌ مِنْ ذَلكَ لاَ يَقَعُ، فَكَيفَ تَرْضَونَهُ في حَقِّ اللهِ تَعَالى ولَهُ المَثَلُ الأَعلَى؟
ثُمَّ قَالَ تَعَالى إٍنَّهُ يُفَصِّلُ الآياتِ مثلَ هذا التَّفْصِيلِ البَديعِ بِضَربِ الأَمثَالِ الكَاشِفَةِ للمَعَاني، ليُقَرِّبَها مِنْ أفهَامِ مَنْ يَسْتَعْمِلُونًَ عُقُولَهُمْ في تَدَبٌّرِ الأَمثالِ، واستِخراجِ المَعَاني لِلوُصُولِ إِلى الأَغْراضِ التي تَرْمي إِليها.
﴿نَّاصِرِينَ﴾
(٢٩) - وَلكِنَّ الذِينَ ظَلمُوا أَنْفُسَهَمْ بكُفْرِهِمْ باللهِ، قَدِ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ جَهْلاً مِنهُمْ بحَقِّ اللهِ عَلَيهِمْ، وَعَظَمَتهِ، فَأَشْرَكُوا الأَصْنَامَ والأَوْثَانَ مَعَهُ في العِبَادَةِ، وَلا حُجَّةَ وَلا دَليلَ لَهُم في عَبَادَتِها، فَمَنْ ذَا الذِي يَسَْتَطِيعُ أَنْ يَهْدِيَ بَشَراً قَدْ خَلَقَ اللهُ فيهِ الاسْتِعْدَادَ لِلضَّلاَلَةِ؟ وَهؤلاءِ الظَّالِمُونَ لأنفُسِهِمْ ليسَ لًَهُمْ مَنْ يَنْصُرهُمْ مِنْ قَضَاءِ اللهِ وقدَرِهِ، وَلا مَنْ يُجِيرُهُمْ مِنْ بَأْسِهِ وَعِقَابِهِ.
﴿فِطْرَتَ﴾
(٣٠) - فَوَجِّهْ وَجْهَكَ إِلى الدِّينِ شَرَعَهُ اللهُ لَكَ، وَهُوَ الحَنِيفيّةُ مِلَّةُ إبراهيمَ التي هَدَاكَ اللهُ إليها، وَفَطَرَكَ عَليها، كَمَا فَطَر الخَلْقَ عَلَيهَا، وبهذهِ الفِطروِ السَّلِيمةِ يَهْتَدِي البَشَرُ إِلى مَعرِفَةِ رَبِّهِمْ وخَالِقِهِمْ تَعَالى وَتَقَدَّسَ، وأنَّهُ وَاحدٌ لا شَريكَ لهُ.
وَقَدْ سَاوَى اللهُ تَعَالى بينَ خَلْقِهِ كُلِّهِمْ في الفِطْرَةِ، لا تَفَاوُتَ بينَ النَّاسِ في ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ في مَعْنَى (لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) : إِن ذَلكَ يَعنِي لاَ تَبدِيلَ لِدِينِ اللهِ.
وَجَاءَ فِي الصَّحِيحَينِ: (" كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ حَتَّى يَكُونَ أَبَواهُ هُمَا اللذانِ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنْصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتِجُ البَهِمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ. هَلْ تُحِسّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ ") (البُخَارِي وَمُسْلِمٌ). ثُمَّ قَالَ تَعالى: إِنَّ التّمَسُّكَ بالشَّرِيعَةِ، وبِالفِطْرَةِ السَّلِمَةِ، هُوَ الدِّينُ القَيِّمُ المُستَقِيمُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ فَهُمْ عَنْهُ نَاكِبُونَ فَلإْقِمْ وَجْهَكَ - قَوِّمْهُ وَعَدِّلْهُ.
لِلدِّينِ - دِينِ التَّوحِيدِ.
حَنِيفاً - مَائِلاً إِليهِ مُسْتَقيماً عَلَيهِ.
فِطْرَةَ اللهِ - الزَمُوها وَهِيَ دِينُ الإِسْلاَمِ.
فَطَرَ النَّاسَ عَلَيها - جَبَلَهُمْ وَطَبَعَهُمْ عَليها.
لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ - لدِينِهِ الذِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيهِ.
الدِّينُ القَيِّمُ - المُسْتَقِيمُ الذِي لاَ عِوَجَ فِيهِ.
﴿الصلاة﴾
(٣١) - فَأَقِمْ وَجْهَكَ أَيُّها الرَّسُولُ أَنْتَ وَمَنِ اتَّبَعَكَ لِلدِّينِ الصَّحِيحِ، حُنَفَاءَ مُنِيِبينَ إلى اللهِ تَعَالَى، وَخَافُوهُ، وحَاذِرُوا أَن تُفَرِّطُوا فِي طَاعَتهِ، وتَرْتَكِبُوا مَعْصِيَتَهُ، ودَاوِمُوا عَلى إِقَامَةِ الصَّلاةِ في أَوقَاتِها، وأَتِمُّوهَا بِخُشُوعِها وسُجُودِهَا وَرُكُوعِهَا وَبِحُضُورِ القَلْبِ، فَهِي عًَمُودُ الدِّينِ، وهِيَ تُذكِّرُ المُؤمِنَ بِرَبِّهِ في كُلِّ حِينٍ، وتَحُولُ بينَهُ وبَينَ الفَحْشَاءِ وَالمْنَكَرِ، وأَخْلِصُوا العِبَادَةَ للهِ وَحْدَهُ، وَلاَ تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ.
مُنِيبِينَ - رَاجِعِينَ إِليه بالتَّوبَةِ والإِخْلاَصِ.
(٣٢) - وَلاَ تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ الذِينَ بَدَّلوا دِينَهُمْ، وَغَيَّروا فيهِ، وآمَنُوا بِبَعضٍ، وكَفَرُوا بِبِعْضٍ، فَأَصْبَحُوا فِرَقاً وشِيَعاً، وَظَنَّ كُلُّ فَريقٍ مِنْهُمْ أنهُ عَلى شيءٍ منَ الدِّين الصَّحِيحِ، والهُدَى، فَفَرِحَ بِذَلِكَ كَانُوا شِيعَاً - فِرَقاً.
مُخْتَلِفَةَ الأَهْواءِ والمَشَارِبِ.
(٣٣) - وإِذا مَسَّ هؤلاءِ المُشْرِكِينَ ضُرٌّ كَقَحْطٍ وَبَلاءٍ وَمَرضٍ وَشِدَّةٍ.. دَعَوا اللهَ مُخِلِصِينَ لَهُ الدِّينَ والعِبَادَةَ وأَفْرَدُوهُ بالتَّضرُّعِ والاسْتِغَاثَةِ، وَرَجَوْهُ أَنْ يَكْشِفَ عَنْهُم مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنْ شِدَّةٍ، وَلكِنَّهُمْ حِينَما يَكْشِفُ الله عَنْهُمْ ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ وَبَلاءٍ يَعودُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ إِلى مَا كَانُوا عَليهِ مِنَ الشِّرْكِ بِاللهِ.
﴿آتَيْنَاهُمْ﴾
(٣٤) - فَلْيَكْفُرُوا بِنِعَمِ اللهِ وبِمَا آتَاهُمْ مِن فَضْلِهِ، ولْيَجْحَدُوا بِمَا تَفَضَّلَ بهِ عَلَيهِمْ مِنْ كَشْفِ الضُّرِّ والبَلاَءِ، ولْيَتَمتَّعُوا بمَا آتاهُمْ مِنَ الرَّخَاءِ والنِّعَمِ، فَإِنُّهُمْ سَيَعْلَمُونَ كَيفَ يأخُذُ اللهُ المشركينَ المُفْسِدِينَ، وكيفَ يَعَاقِبُهُمْ علَى كُفْرِهِمْ وإِفْسَادِهِمْ في الأرْضِ.
(٣٦) - لَقَدْ رُكِّبَ فِي طَبْعِ الإِنسَانِ الفَرْحُ والبَطَرُ، وسُرعَةُ القُنُوطٍِ واليَأْسِ، فإِذا كَانَ الإِنسانُ في نِعمةٍ وَرَخاءٍ وأَمن فَرِحَ وَبَطِرَ، وَتَجَاوَزَ الحُدُودَ، وإِذا نَزَلتْ بهِ الشَّدائِدُ والمَصَائِبُ وأَلحَّتْ عليهِ الجَائِحَاتُ، بِسَببِ فَسَادِ رأْيهِ، وَسُوءِ أَعمَالِهِ، قَنِطَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَيئِسَ مِنَ الخَلاَصِ مِمّا هُوَ فيهِ.
فَرِحُوا بِهَا - بَطرُوا وأَشِرُوا.
يَقْنَطُونَ - يَيْئَسُونَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ.
﴿لآيَاتٍ﴾
(٣٧) - أَوَ لاَ يَعْلَمُ هؤلاءِ أَنَّ المُتَصَرِّفَ فِي الحَالَينِ: حَالِ الرَّخَاءِ وَحَالِ الشِّجَّةِ، هُوَ اللهُ تَعَالى، وَهُوَ يَفْعَلُ ذَلكَ بِعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ، فَمَا لَهُمْ لَمْ يَشْكُرُوا رَبَّهُمْ في الرَّخَاءِ والنِّعْمَةِ، وَلَمْ يَحْتَسِبُوا وَيَصْبُروا في الضَّرَّاءِ والشِّدَّةِ؟ كَمَا يَفْعَلُ المُؤْمِنُونَ المُخْلِصُونَ؟
إِنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوا أَنَّ حَالَيِ الرَّخَاءِ والشِّدَّةِ مِنَ اللهِ لَمَا ضَجُّوا وَقَنِطُوا، وَلَمَا فَرِحُوا وَبَطِرُوا، وَلَشَكَرُوا الله في الحَالينِ، فَاللهُ تَعَالى يُؤدِّبُ عِبَادَهُ، بالرَّحمة والنَّعْمَةِ، كَمَا يُربِّيهِمْ بالشِّدَّةِ والبَلاَءِ.
يَقْدِرُ - يُضَيِّقُهُ عَلى مَنْ يَشَاءُ لِحِكْمةٍ.
﴿فَآتِ﴾ ﴿أولئك﴾
(٣٨) - وإِذا كَانَ اللهُ تَعَالى هُوَ الذِي يُبْسُطُ الرِّزْقَ، وَيَقْدِرُهُ، فأَعطِ يا أَيُّها النَّبِيُّ أَنتَ والمُؤِمِنُونَ، مَا تَستَطِيعُونَ إِعطَاءَهُ مِنَ المَالِ لِلفُقَراءِ والمُحْتاجِينَ مِنَ الأَقَارِبِ والمَسَاكِينِ الذينَ لا مالَ لَهُمْ، ولِلْمُسَافرينَ أبناءِ السَّبيلِ الذينَ انْقَطَعَتْ نَفَقَتُهُمْ، وَهُمْ بَعيدُونَ عَنْ أَهْلِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ لِيتَمَكَّنُوا مِنَ العَوْدَةِ إِلى بَلَدِهِمْ.
ثمَّ يَقُولُ تَعالى: إِنّ الإِعطَاءِ لهؤلاءِ المُحتاجِينَ فيهِ خيرٌ للمُعْطِينَ عندَ اللهِ، وهوَ الذِي يَتَقَبَّلُ العَملَ الصَّالِحَ، ويَجزِي بهِ فَاعِلَهُ الثَّوابَ الجَزيلَ، وَقَد رَبحَ هؤلاءِ المُعْطُونَ في صَفْقَتِهِمْ لأَنَّهُمْ أعْطَوا ما يَفْنَى، وَحَصَلُوا عَلى مَا يَبْقَى (وَقِيلَ إنَّ مَعْنَى: ﴿ذَلِكَ خَيرٌ لِمَنْ يُريدُ وَجْهَ اللهِ﴾ هُوَ: ذَلِكَ خيرٌ لِلذِينَ يُريدُون النَّظرَ إِلى وجهِ اللهِ يومَ القِيامة).
﴿آتَيْتُمْ﴾ ﴿لِّيَرْبُوَ﴾ ﴿أَمْوَالِ﴾ ﴿يَرْبُو﴾ ﴿زَكَاةٍ﴾ ﴿فأولئك﴾
(٣٩) - قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الرِّبا رِبَوانِ: رِباً لاَ يَصِحُّ وَهُوَ رِبَا الَبيْعِ، وَرِباً لا بَأْسَ بِِ وَهُوَ هَدِيَّةُ الرَّجلِ يُرِيدُ فَضْلَهَا وَإِضَعَافَهَا، وَتَلاَ هذِهِ الآيَةَ.
وَكَذَلِكَ قَالَ عِكْرِمَةُ. فَمَنْ أًَعطَى عَطِيَّةً، أَو أَهْدَى هَدِيَّةً وهوَ يريدُ أَنْ يَرُدَّ عليهِ النَّاسُ بأكثرَ مِنها، فَلا ثَوابَ لهُ عليهِ عندَ اللهِ وَلكِنَّ هَذا الصَّنيعَ لا إِثمَ فيهِ، وَإِن كَانَ قَدْ نَهَى اللهُ رَسُولَه عنهُ حِينَمَا قَال: ﴿وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ﴾ أَمَّا مَنْ أَعطَى الصَّدَقَةَ يَبْتَغِي بِها وَجْهَ اللهِ تَعَالى خَالِصاً، فَأُولئِكَ الذِينًَ يُضَاعِفُ اللهُ لَهُمُ الثَّوابَ والجَزَاءَ (المُضْعِفُونَ).
(وَجَاءَ فِي الحَديثِ الصَّحِيحِ: " وَمَا تَصَدَّقَ أَحَدٌ بِعِدلِ تَمرةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ إِلاَّ أَخَذَها الرَّحْمَنُ بِيَمِينِه فَيُرَبِّيها لِصَاحِبِها كَمَ يُرَبِّي أَحَدُكُم فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ، حَتَّى تَصيرَ التَّمرةُ أعظمَ مِنْ أُحُدٍ ").
الرِّبا - هُوَ المُحَرَّمُ المَعْروفُ.
لِيَرْبُو - لِيَزيدَ ذَلكَ الرِّبَا.
فَلاَ يَرْبُوا - فَلاَ يَزْكُوْ وَلاَ يُبَارَكُ فِيهِ.
المُضْعِفُونَ - ذُوُو الأَضْعَافِ مِنَ الحَسَناتِ.
﴿شُرَكَآئِكُمْ﴾ ﴿سُبْحَانَهُ﴾ ﴿تعالى﴾
(٤٠) - اللهُ تَعَالى هُوَ الذي خَلَقَكُمْ ولَمْ تَكُونوا شَيئاً، يُخْرِجُ الإِنسانَ من بَطْنِ أُمِّهِ عُرْيَاناً، ثُمَّ يَرْزُقُهُ السَّمْعَ والبَصَرَ، والقُوَّةَ والِلِّبَاسَ، والعِلم والمَالَ، ومَا تَقُومُ بِهِ الحَياةُ، ثمَّ بعدَ هذه الحياةِ يُمِيتُكُم، ثُمّ يَعودُ فَيُحْيِيكُمْ يَومَ القِيَامَةِ، لِيُحَاسِبَكُمْ عَلَى أًَعْمَالِكُم كُلِّها.
ثُمَّ يَسْأَلُ اللهُ تَعَالى المُشْرِكِينَ مُسْتَنْكِراً وَمُقَرِّعاً: هَلْ أَحَدٌ مِنَ الآلِهةِ التي يَعْبُدُونَها مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَصنامٍ وأوثانٍ وغيرِها... مَنْ يَسْتَطِيعُ أًَنْ يفعلَ ذَلك؟
وَبِمَا أَنَّ هذهِ الأَصنامَ والأَوثَانَ والآلهةَ المَزْغُومَةَ لاَ تَسْتَطِيعُ لأحدٍ ولا لِنَفْسِهَا نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً، وَكُفَّارٌ قُريشِ يَعْرِفُونَ ذَلكَ وَيَعْتَرِفُونَ بِهِ، لِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: تَنَزَّهَ اللهَ وَتَعَاظَمَ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَريكٌ أَوْ نَظِيرٌ أَوْ وَلَدٌ.
(٤١) - ظَهَرَ الفَسَادُ فِي العَالَمِ بالفِتَنِ والحُروبِ والاضْطِرابَات.. وذَلكَ بِسَببِ مَا اقتَرَفَهَ النَّاسُ منَ الظُّلمِ، وانتِهَاكِ الحُرُمَاتِ، والتَّنَكُّرِ لِلدِّينِ، وَنِسيَانِ يومِ الحِسَابِ فانْطَلَقَت النُّفُوسُ مِنْ عِقَالِها، وَعَاثَتْ فِي الأًَرضِ فَسَاداً بِلاَ وَازعٍ وَلا رَقيبٍ منْ ضَميرٍ أَوْ وُجدَانٍ أو حَيَاءٍ أَو حِسَابٍ لدِينٍ، فأَذَاقَهُم اللهُ جزاءَ بعضِ ما عَمِلُوا مِنَ المَعَاصِي والآثَامِ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلى الحَقِّ، وَيَكُفُّونَ عَنِ الضَّلالِ والغِوايةِ، وَيَتَذَكَّرُونَ يومَ الحِسَابِ.
﴿عَاقِبَةُ﴾
(٤٢) - وَلَمَّا كَانَ ظُهْورُ الفَسادِ مِنْ نَتِيجَةِ أَعْمَالِ العِبَادِ وَتَقْصِيرِهِمْ فِي حَقِّ أَنْفُسِهِم، وَفي حَقِّ خَالقِهِمْ، وَمُخَالَفتِهِمْ شَرْعَ اللهِ، فَقَدْ لَفَتَ الله تَعَالَى أَنْظَارَ العِبادِ إِلى مَا حَلَّ بالأُمَمِ المُفْسِدَةِ السَّالِفَةِ، وَكيفَ دَمَّرَهُمُ اللهُ وَلَمْ يُبْقِ مِنْهُم أحَداً، فَقَالَ تَعَالى: قُلْ يَا مَحَمَّدُ لهؤلاءِ المُشرِكينَ مِنْ قَومِكَ: سِيرُوا في أرضِ اللهِ الواسِعَة، فَانظُرُوا إِلى مسَاكِنِ الذينَ كَفَرُوا باللهِ، وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ، كَيفَ أَهْلَكَهُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ، وَجَعَلَهُمْ عِبْرَةً لأنَّ أَكْثَرَهُمْ كَانُوا مُشْرِكِينَ باللهِ.
﴿يَوْمَئِذٍ﴾
(٤٣) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالى عِبَادَهُ بالمُبَادَرةِ إلى الاسْتِقَامَةِ في طَاعَتِهِ، واتّبَاعِ نَهْجِهِ القَوِيمِ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَجيءَ يومُ القِيَامَةِ، وَهُوَ يومٌ لا رَادَّ لهُ، وَسَيَقَعُ حَتماً لا مَحَالةَ. وفي ذلكَ اليومِ يَتَفَرّقُ النّاسُ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ، فَريقٌ يَدْخُلُ الجَنَّةَ، وَيَنْعَمُ فِيها بالحَياةِ السَّعِيدَة، وفَرِيقٌ يَدْخُلُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً.
الدِّينِ القَيِّم - المُسْتَقيمِ. دِينِ الفِطْرَةِ.
لاَ. مَرَدَّ لَهُ - لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى رَدِّهِ.
يَصَّدَّعُونَ - يَتَفَرَّقُونَ إِلى الجَنّةِ أَوْ إِلى النَّارِ.
﴿صَالِحاً﴾
(٤٤) - مَنْ كَفَرَ بِاللهِ تَعَالَى، وَعَمِلَ السَّيِّئَاتِ فَعَليهِ وَحْدَهُ وِزْرُ كُفْرِهِ، وآثامُ جُحُودِهِ بِنِعَمِ اللهِ. وَمَنْ آمَنَ باللهِ وَعَمِلَ صَالِحاً، وَأَطَاعَ الله فِيما أَمَرَ، وابْتَعَدَ عَمّا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ فَيكُونُ كَمَنْ مَهَّدَ لِنَفْسِهِ الفِرَاشَ وَوَطَّأَهُ، حَتَّى لا يُقَضَّ مَضْجَعُهُ، وَيَكُونُ في الآخِرةِ مِنَ الفَائِزينَ (أَوْ يكُونُ كَمَنْ مَهَّدَ لِنَفْسِهِ طَريقَ الجَنَّةِ).
يَمْهَدُونَ - يُوطِئُونَ الفِرَاشَ - أَوْ طَريقَ الجَنَّةِ.
﴿آمَنُواْ﴾ ﴿الصالحات﴾ ﴿الكافرين﴾
(٤٥) - وَيَجْمَعُ اللهُ تَعَالى الخَلائِقَ يَومَ القِيَامَةِ لِيُحَاسِبَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، ثُمَّ يُفَرِّقهُمْ بِحَسَبِ هذهِ الأعمالِ، فأمَّا الذينَ آمنوُا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيَجزِيهِمْ مِنْ فَضْلِهِ، فَيُضَاعِفُ لهُمْ رَبُّهُمُ الحَسَنَاتِ، وأَمّا الكَافِرونَ فإِنَّهُمْ يَلْقَونَ جَزَاءَهُمْ العَادِلَ، بِلاَ جَوْرٍ وَلا ظُلْمٍ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالى لا يُحِبُّ الكَافِرينَ، ولكِنّهُ لا يَجْزِيهِمْ إِلا بالعَدْلِ التَّامِّ.
﴿آيَاتِهِ﴾ ﴿مُبَشِّرَاتٍ﴾
(٤٦) - وَمِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ أَنَّهُ تَعَالَى يُرسِلُ الرِّيَاحَ لِتُبَشِّرَ النَّاسَ بالمَطَرِ الذِي يَأْتِي في إِثرِ الرِّياحِ، فَيَرْوِي المَطَرُ الأَرضَ، فَتُنْبِتُ بالزُّرُوعٍِ والنَّبَاتِ، وَتُخْرِجُ الثِّمَارِ والحُُبُوبَ فيَأكُلُ مِنْهَا النَّاسُ والأَنْعَامُ (وَليُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) وَتَجرِي السُّفُنُ بِفِعْلِ الرِّياحِ في البِحَارِ والأَنهَارِ تَحْمِلُ النَّاسَ والأقواتَ وأنواعَ البَضَائِعِ، مِنْ قُطْرٍ إِلَى قُطْرٍ، فََسْتَفِيدُ الخَلْقُ مِنَ الاتْجَارِ بِها. وَيُريدُ اللهُ أنْ يَذْكُرَ الخَلقُ آلاءَهُ ونِعَمَةُ فَيْشْكُرُوهُ عَلَيها.
﴿بالبينات﴾
(٤٧) - وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا، يَا مُحَمَّدُ، قَبْلَكَ رُسُلاً إِلى أَقْومِهِمْ بالدَّلاَئلِ الوَاضِحَاتِ عَلَى أَنَّهُمْ رُسُلُ اللهِ، وأَنَّهُمْ مُرْسَلُونَ إِليهمْ لدَعْوَتِهِمْ إِلى عبادةِ اللهِ وحدَهُ لا شَريكَ لهُ، فَكَذَّبَتِ الأَقْوامُ رُسُلَها، فانتَقَمْنا مِنَ الكَافِرينَ الذينَ اجْتَرَحُوا السِّيِّئاتِ، وَنجَّينا الذينَ آمنُوا باللهِ، واسْتَجَابُوا لدَعْوةِ رُسُلِهِ وقدْ أَوْجَبنا عَلَى أَنْفُسِنا نَصرَ المُؤْمِنينَ، وَكَذَلِكَ نَفْعَلُ، فَلاَ تَبْتَئِسْ يَا مُحَمَّدُ لما تَرَاهُ مِنْ تَكْذِيبِ قَوْمِكَ لَكَ، وَمِنْ إِيذَائِهِمْ إِيَّاكَ، فَسَنَنْصُرُكَ عَليهِمْ.
﴿الرياح﴾ ﴿خِلاَلِهِ﴾
(٤٨) - يُرْسِلُ اللهَ تَعَالَى الرِّياحَ فَتُنَشِئُ سَحَاباً فَيَنْشُرُهُ في السَّمَاءِ أوْ يَجْمَعُهُ، أَوْ يَجْعَلُهُ قِطَعاً (كِسَفاً)، فَتَرى قَطَرَاتِ المَاءِ (الوَدْقَ) تَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِ السَّحَابِ، فإِذا أَصَابَ المَطَرُ مَنْ أَرادَهُمُ اللهُ مِنْ خَلْقِهِ فَرِحُوا بِهِ، واستَبْشَرُوا بالخَيرِ والخِصْبِ.
فَتُثِيرُ سَحَاباً - فَتُنْشِئُهُ وَتُحَرِّكُهُ وَتَنْشُرُهُ.
يَجْعَلُهُ كِسَفاً - قِطَعاً مُتَفَرِّقَةً.
الوَدْقَ - المَطَرَ.
مِنْ خِلاَلِهِ - مِنْ فُرَجِهِ وَوَسَطِهِ.
(٤٩) - وَقَدْ كَانُوا قَبلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيهِمُ المَطَرُ قَانِطِينَ يَائِسِينَ (مُبْلِسِينَ)، فَلَمَّا جَاءَهُمُ المَطَرُ اسْتَبْشَرُوا، وانتَعَشَتْ آمَالُهُمْ.
مُبْلسِينَ - يَائِسِينِ مِنْ نُزُولِ المَطَرِ.
﴿آثَارِ﴾ ﴿رَحْمَتِ﴾ ﴿يُحْيِيِ﴾ ﴿لَمُحْييِ﴾
(٥٠) - فَانْظُرِ يَا مُحَمَّدُ إِلى الآثَارِ التِي يُحْدِثُها نُزُولُ المَطَرِ، فَتَحيَا بِهِ الأرضُ، وتُنْبِتُ الزُّرُوعَ، والنًَّبَاتَ والخُضْرَةَ والثِّمَارَ، بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَوَاتاً.
وَالذِي قَدِرَ عَلَى إِحْيَاءِ الأَرْضِ المَوَاتِ لَقَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ المَوتَى مِن قُبُورِهِمْ يَومَ الحَشْرِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيءٍ، فَقَدْ أَوْجَدَ اللهُ الكَوْنَ وَمَا فِيهِ وَمَنْ فِيهِ مِنْ عَدَمٍ.
﴿لَئِنْ﴾
(٥١) -وَإِذا أَرْسَلَ اللهُ رِيحاً بَارِدَةً، أَو رِيحاً حَارَّةً لَفَحَتْ زُرُوعَهُمْ وَثِمَارَهُمْ، فَأَتْلَفَتْها فَاصْفَرَّتْ مِنْ بَعْدِ خُضْرَةٍ، وذَوَتْ مِنْ بعدِ نُضْرَةٍ، لَتَبَدَّلَتْ َفَرْحَتُهُمْ حُزناً، سولا نْقَلَبَ رَجَاؤُهُمْ قُنُوطاً وَكُفْراً وجُحُوداً بِأَنْعِمِ اللهِ السَّالِفَةِ لاضْطِرابِ عَقِيدَتِهِمْ، وَتَشَكُّكِهِمْ، فالمؤْمِنُ مِنْ وَاجِبِهِ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ في كُلِّ حِينٍ، وَفي كُلِّ حَالٍ، وأَنْ يَشْكُرَهُ أَبداً وَدَائِماً.
فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً - فَرَأَو النَّبَاتَ مُصْفَرّاً بعدَ الخُضْرَةِ.
(٥٢) - وَكَما أَنَّكَ يَا مُحَمَّدُ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُسْمِعَ الأَمواتَ في أَجْدَاثِها، وَلاَ أَنْ تُسْمِعَ الذينَ فَقَدُوا حَاسَّةَ السَّمْع (الصُّمَّ)، وَلا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَحْملَ مَنْ تَصَامُّوا عَنْ فَهْمِ آياتِ اللهِ فَتَجْعَلَهُمْ يَسْمَعُونَها، وَيَفْهَمُونَها، فَكَذَلِكَ إِنَّكَ لا تَسْتَطيعُ أَنْ تَهدِيَ مَنْ أَضَلَّهُ اللهُ فَتَرُدَّهُ عَنْ ضَلاَلِهِ، فَاللهُ وَحْدَهُ القَادِرُ على فِعلِ ذَلك، فَهُوَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، فَلاَ تَحْزَنْ أَنْتَ عَلَيهِمْ، وَلا تَبْتَئِسْ مِنْ عِنَادِهِمْ، وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى البَقَاءِ في الضَّلاَلَةِ.
﴿بِهَادِ﴾ ﴿ضَلاَلَتِهِمْ﴾ ﴿بِآيَاتِنَا﴾
(٥٣) - وهؤلاءِ الكُفَّارُ المُعَانِدُونَ هُمْ كَالعُمِيِ لانْغِلاَقِ قُلُوبِهِمْ عنِ الهُدَى، وإِنَّكَ لاَ تَسْتَطيعُ هِدَايَتَهُمْ، وَلا صَرْفَهُمْ عَنْ كُفْرِهِمْ إِلى الإِيمانِ، فَإَنْتَ لاَ تستطيعُ أَنْ تُسْمِعَ أَحَداً سَمَاعاً يَنْتَفِعُ بِهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ قلبُهُ قَدْ تَهَيَّأَ للإِيمَانِ بآيَاتِ اللهِ، فَهُوَ وَحْدَهُ الذي إِذا سَمِعَ كِتَابَ اللهِ تَدَبَّرَهُ، وَفَهِمَهُ، وعمِلَ بِمَا فيهِ بِخُشُوعٍ وانقِيادٍ لأَمرِ اللهِ تَعَالى.
(٥٤) - يَرُدُّ اللهُ تَعَالى عَلى المُشْرِكِينَ الذينَ يُنْكِرُونَ البَعْثَ والنُّشُورَ قائلاً: إِنَّهُ تَعَالى خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةِ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ جَعَلَهُ يَمُرُّ في أَطْوارٍ مُتَعَدِّدَةٍ حتَّى يَخرُجَ طِفْلاً شَيئاً فَشَيئاً، حَتَّى يَعُودَ ضَعيفاً ويَعْلُوَهُ الشَّيْبُ.
واللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ مِنْ ضَعْفٍ وقُوَّةٍ وشَبَابٍ وَمِشيبٍ، وَهُوَ العَلِيمُ بِحَالِ خَلْقِهِ، وَهُوَ القَادِرُ عَلى كُلِّ شيءٍ، وَلا يَمْتَنِعُ عَليهِ شَيءٌ.
فَمَنْ فَعَل كُلَّ هذَا لاَ يَصْعُبُ عَلَيهِ أًَنْ يُعِيدَ نَشْرَ الخَلْقِ، وَبَعْثَهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ يَومَ القِيَامَةِ.
شَيْبَةً - حَالَ الشَّيْخُوخَةِ والهَرَم.
(٥٥) - وحِينَمَا تَقُومُ السَّاعَةُ، ويَبْعَثُ اللهُ مَنْ فِي القُبُورِ، يُقْسِمُ المُجْرِمُونَ الذِينَ كَفَرُوا باللهِ، وعَمِلُوا السَّيِّئَاتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنيا، أَنَّهُمْ لمْ تمُنْ حياتُهُمْ في الدُّنيا إِلاّ ساعَةً واحِدَةً (أَوْ أَنَّهُمْ ما لَبِثُوا فِي قُبُورِهِمْ إلا سَاعةً واحِدَةً)، لِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ كَافيةً لهُمْ لِيَعْرفُوا خَالِقَهُم، ولِيُدْرِكُوا ما جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ. وَهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ ليَدْفَعُوا عَنْ أًنْفُسِهِمِ الحُجَّةَ القَائِمَةَ عَلَيهِمْ. وَكَمَا كَانُوا في الدُّنيا يَعرِفُونَ الحَقَّ وَيُصْرِفُونَ عَنْهُ إلى البَاطِلِ، ويَكْذِبُونَ وَيحلِفُونَ عَلَى الكَذِبِ، كَذلِكَ يَصْرَفُونَ عَنِ الحَقِّ في الآخِرَةِ ويَكْذِبُونَ في قَوْلِهِمْ أَنَّهُمْ مَا لَبِثُوا غيرَ سَاعةٍ، وَيَحْلِفُونَ عَلى الكَذِبِ.
يُؤْفَكُونَ - يُصْرَفُونَ عَنِ الحَقِّ وَالصِّدْقِ.
﴿الإيمان﴾ ﴿كِتَابِ﴾
(٥٦) - فَيَرُدُّ الذِينَ أُوتُوا العِلْمِ بِكِتَابِ اللهِ، وبِالإِيمَانِ باللهِ منَ الأَنبياءِ والمَلاَئِكَةِ والمُؤْمِنينَ عَلَى هؤلاءِ المُنكِرِينَ في الدُّنيا، الذينَ يَحْلفُونَ عَلى أَنَّهُمْ لَمْ يَلْبَثُوا في الدُّنيا (أَوْ في قُبُورِهم) إِلا سَاعَةً واحَدَةً قائلين: إِنًّهُم لَبِثُوا في قُبُورِهِم مِنْ يومِ مَمَاتِهِمْ إِلى يَوْمِ البَعْثِ، فَهَذا هُوَ يومُ البَعْثِ الذي أَنكَرُوهُ في الدُّنيا، وَزَعَمُوا أنَّهُ لَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مِثْلُ هذا اليومِ بِسَبَبِ جَهْلِهِمْ، وَغَفْلَتِهِمْ وقِصَرِ نَظَرِهِمْ.
﴿فَيَوْمَئِذٍ﴾
(٥٧) - وفي يَومِ القِيَامَةِ لا يَنْفَعُ الذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُم بكُفْرِهِم، وإِنْكَارِهِمُ البَعْثَ، مَا يُقَدِّمُونَهُ مِنْ أَعذَارٍ يُبَرِّوَنَ بِها كُفْرِهُمْ وَظُلْمَهُم (كَقَوْلِهِم: ما عَلمنا أَنَّ هذا اليومَ كَائِنٌ..) وَلا هُمْ يَرْجِعُونَ إلى الدُّنيا لِيتُوبُوا وَلِيعْمَلُوا صَالحاً، فَلاَ الرَّجعَةُ مُمْكِنةٌن وَلا التَّوبةُ مقْبُولَةٌ لأَنّ أَوَانَها قَدْ فَاتَ، وَلا يَطْلُبُ إِليهِمْ أَحَدٌ أَنْ يَفْعَلُوا مَا يُرضِي اللهَ تَعَالَى وَيُزِيلُ عَتَبَهُ عَلَيْهِمْ لُهَوَانِهِمْ عَلَيهِ.
لا يُسْتَعْتَبُونَ - لاَ يُطْلَبُ مِنْهُمْ إِزَالَةُ عَتَبِ رَبِّهِمْ عَلَيهِمْ بالتَّوبَةِ.
﴿القرآن﴾ ﴿لَئِن﴾ ﴿بِآيَةٍ﴾
(٥٨) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالى: أنَّهُ ضَرَبَ الأَمثَالَ لِلنَّاسِ للدَّلاَلَةِ عَلَى وُجُودِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ تَعَالى، وَعَلى قُدْرَتِهِ، وَعَلى خَلْقِهِ الكَوْنَ بِمَا فِيهِ، لِتَبَيَّنُوا الحَقّ ولِتَتَّبِعُوهُ، ولكِنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ اسْتِكْبَاراً وَعِنَاداً. وَيَقُولُ تَعَالى لِرَسُولِهِ: إِنَّكَ لَوْ جِئْتَهُمْ بِكُلِّ آيةٍ عَلَى صِدْقِ مَا تَقُولُ فإِنَّهُمْ لَنْ يُؤْمِنُوا لَكَ، وَسَيَقُولُونَ إِنَّهُ سِحْرٌ، أَوْ إِنَّهُ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ، وإِنّ ما أَتَيْتَهُمْ بِهِ بَاطِلٌ.
(٥٩) - وَيَخْتِمُ اللهُ مِثْلَ الخَتْمِ عَلَى قُلوبِ الذينَ لا يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ مَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنَ الآياتِ والحُجَجِ فَلا يَسْتَطِيعَونَ فَهْمَ مَا يُتْلَى عَلَيهِمْ مِنَ القُرآن، وَلا إِدرَاكَ حَقِيقَةِ الإِيمانِ.
(٦٠) - فَاصْبِرْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى هُؤلاءِ المُشْرِكِينَ، وَلا تَلْتَفِتْ إلى تَكذِيبِهِم وَمُكَابَرَتِهِمْ، وبَلِّغْهُمْ رِسَالَةَ رَبِّهِمْ، فَإِنَّهُ وَعَدَكَ النَّصْرَ والظَّفَرَ، وسَيُنْجِزُ لَكَ وَعْدَهُ، وَلا يَحْمِلَنَّكَ الذِين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ (لاَ يُوقِنُونَ) عَلى الخِفَّةِ والانْفِعَالِ، فَيَصْرِفُوكَ بذلِكَ عَمَّا أَمَرَكَ بهِ رَبُّكَ مِنْ إِبْلاَغِ رسَالاَتِهِ إِلى النَّاسِ.
لاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ - لاَ يَحْمِلَنَّكَ عَلى الخِفَّةِ والقَلَقِ.
Icon