قال الشيخ الإمام رضي الله عنه : سورة الأنفال مدنية إلا سبع آيات ؛ وذلك من قوله :( وإذ يمكر بك الذين كفروا )( ١ ) إلى آخر الآيات السبع ؛ فإنها نزلت بمكة، وأكثر السورة في غزوة بدر.
ﰡ
وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود وَسعد بن أبي وَقاص: " يَسْأَلُونَك الْأَنْفَال " وَهَذَا سُؤال طلب. روى مُصعب بن سعد، عَن أَبِيه سعد بن أبي وَقاص أَنه قَالَ: " سَأَلت رَسُول الله سَيْفا يَوْم بدر فَقلت: نفلنيه يَا رَسُول الله، فَنزل قَوْله: ﴿يَسْأَلُونَك عَن الْأَنْفَال﴾ ".
والأنفال: الْغَنَائِم. وَالنَّفْل فِي اللُّغَة: الزِّيَادَة، قَالَ لبيد بن ربيعَة العامري شعرًا:
(إِن تقوى رَبنَا خير نفل | وبإذن الله ريثي والعجل) |
وَسبب نزُول الْآيَة مَا روى " أَن أَصْحَاب النَّبِي افْتَرَقُوا يَوْم بدر فرْقَتَيْن: فرقة كَانَت تقَاتل وتأسر، وَفرْقَة تحرس رَسُول الله، ثمَّ تنازعوا، فَقَالَت الْفرْقَة الْمُقَاتلَة:
وَفِي رِوَايَة: " أَن النَّبِي قَالَ يَوْمئِذٍ: من قتل قَتِيلا فَلهُ كَذَا، وَمن أسر أَسِيرًا فَلهُ كَذَا، فَتسَارع الشبَّان وقاتلوا وأسروا، وَبَقِي الشُّيُوخ مَعَ الرَّسُول - عَلَيْهِ السَّلَام - يحرسونه ثمَّ تنازعوا فِي الْغَنِيمَة، فَقَالَ الشبَّان: الْغَنِيمَة لنا؛ لأَنا قاتلنا. وَقَالَ الشُّيُوخ: كُنَّا نحرس رَسُول الله، وَكُنَّا ردْءًا لكم. وَكَانَ الَّذِي تكلم من الشبَّان أَبُو الْيُسْر وَالَّذِي تكلم من الشُّيُوخ سعد بن معَاذ، فَنزلت الْآيَة، فقسم النَّبِي الْأَنْفَال بَين الْكل.
وَقَوله: ﴿قل الْأَنْفَال لله وَالرَّسُول﴾ وَاخْتلفُوا فِيهِ قَالَ مُجَاهِد، وَعِكْرِمَة: الْآيَة مَنْسُوخَة بقول تَعَالَى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خَمْسَة وَلِلرَّسُولِ﴾ فَهَذِهِ الْآيَة ردَّتْ من الْكل إِلَى الْخمس، فَكَانَت ناسخة للأولى.
وَقيل: الْآيَة غير مَنْسُوخَة، وَمعنى قَوْله: ﴿قل الْأَنْفَال لله وَالرَّسُول﴾ أَي: حكمهَا لله وَالرَّسُول؛ فَتكون مُوَافقَة لتِلْك الْآيَة.
﴿فَاتَّقُوا الله وَأَصْلحُوا ذَات بَيْنكُم﴾ قَالَ: ثَعْلَب: يَعْنِي: أصلحوا الْحَالة الَّتِي بَيْنكُم، وَمَعْنَاهُ: الْإِصْلَاح بترك الْمُنَازعَة وَتَسْلِيم أَمر الْغَنِيمَة إِلَى الله وَالرَّسُول ﴿وَأَطيعُوا الله وَرَسُوله إِن كُنْتُم مُؤمنين﴾.
(لعمرك مَا أَدْرِي وَإِنِّي لأوجل | على أَيّنَا تَغْدُو الْمنية أول) |
وَفِيه دَلِيل لأهل السّنة على انه لَا يجوز لكل أحد أَن يصف نَفسه بِكَوْنِهِ مُؤمنا حَقًا؛ لِأَن الله تَعَالَى إِنَّمَا وصف بذلك قوما مخصوصين على أَوْصَاف مَخْصُوصَة، وكل أحد لَا يتَحَقَّق فِي نَفسه وجود تِلْكَ الْأَوْصَاف.
﴿لَهُم دَرَجَات عِنْد رَبهم﴾ قَالَ الرّبيع بن أنس: الدَّرَجَات سَبْعُونَ دَرَجَة، مَا بَين كل دَرَجَتَيْنِ حضر الْفرس الْمُضمر سبعين سنة ﴿ومغفرة ورزق كريم﴾ أَي: كَامِل لَا نقص فِيهِ.
وَاخْتلفُوا فِي أَن قَوْله: ﴿كَمَا أخرجك﴾ إِلَى مَاذَا ترجع كَاف التَّشْبِيه؟ قَالَ الْمبرد: تَقْدِيره: الْأَنْفَال لله وَلِلرَّسُولِ وَإِن كَرهُوا، كَمَا أخرجك رَبك من بَيْتك وَإِن كَرهُوا. وَقَول الْفراء قريب من هَذَا، وَهَكَذَا قَول الزّجاج؛ فَإِنَّهُمَا قَالَا: تَقْدِيره: امْضِ لأمر الله فِي الْأَنْفَال وَإِن كَرهُوا كَمَا مضيت لأمر الله عِنْد إخراجك من بَيْتك وَإِن كَرهُوا.
وَقيل: هُوَ رَاجع إِلَى قَوْله تَعَالَى: ﴿فَاتَّقُوا الله﴾ وَتَقْدِيره: كَمَا أخرجك رَبك من بَيْتك بِالْحَقِّ فاتبعت أمره فَاتَّقُوا الله وَأَصْلحُوا ذَات بَيْنكُم. وَقيل: هُوَ رَاجع إِلَى قَوْله تَعَالَى: ﴿لَهُم دَرَجَات عِنْد رَبهم﴾ وَتَقْدِيره: وعد الدَّرَجَات حق كَمَا أخرجك رَبك من بَيْتك بِالْحَقِّ؛ فأنجز والوعد بالنصر وَالظفر. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: " مَا " هَاهُنَا بِمَعْنى: " الَّذِي " أَي: كَالَّذي أخرجك رَبك.
﴿وَإِن فريقا من الْمُؤمنِينَ لكارهون يجادلونك فِي الْحق بعد مَا تبين﴾ وَذَلِكَ أَن أَصْحَاب رَسُول الله كَرهُوا خُرُوجه إِلَى بدر، وجادلوا فِيهِ، فَقَالُوا: لَا نخرج؛ فَإنَّا لم نستعد لِلْقِتَالِ، وَلَيْسَ مَعنا أهبة الْحَرْب.
وَقَوله: ﴿بعد مَا تبين﴾ مَعْنَاهُ: مَا تبين لَهُم صدقه فِي الْوَعْد بِمَا وعدهم مرّة بعد أُخْرَى فَصَدَّقَهُمْ فِي وعده.
﴿كَأَنَّمَا يساقون إِلَى الْمَوْت وهم ينظرُونَ﴾ فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِيره: وَإِن فريقا من الْمُؤمنِينَ لكارهونه كَأَنَّمَا يساقون إِلَى الْمَوْت وهم ينظرُونَ، يجادلونك فِي الْحق بعد مَا تبين.
وقوله :( بعد ما تبين ) معناه : ما تبين لهم صدقه في الوعد بما وعدهم مرة بعد أخرى فصدقهم في وعده.
( كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ) فيه تقديم وتأخير، وتقديره : وإن فريقا من المؤمنين لكارهونه كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون، يجادلونك في الحق بعد ما تبين.
﴿وَيُرِيد الله أَن يحِق الْحق بكلماته﴾ أَي: يظْهر الْحق ويعلى كَلمته ﴿وَيقطع دابر الْكَافرين﴾ أَي: أصل الْكَافرين.
(إِذا الجوزاء أردفت الثريا | ظَنَنْت بآل فَاطِمَة الظنونا) |
والقصة فِي ذَلِك: أَن الْكفَّار يَوْم بدر نزلُوا على المَاء، وَنزل الْمُسلمُونَ على غير مَاء، فأجنب بَعضهم وأحدثوا، فَلم يَجدوا مَاء يتطهرون بِهِ، وَكَانُوا فِي رمل تَسُوخ فِيهِ أَرجُلهم، فوسوس إِلَيْهِم الشَّيْطَان: إِنَّكُم تزعمذسون أَنكُمْ على الْحق وَأُولَئِكَ على الْبَاطِل وَإِذا هم على المَاء، فَلَو كُنْتُم على الْحق لكنتم أَنْتُم على المَاء، وَمَا بَقِيتُمْ مجنبين محدثين، فَوَقع فيهم خوف شَدِيد، فَألْقى الله تَعَالَى عَلَيْهِم النعاس حَتَّى أمنُوا، وَأَنْشَأَ سَحَابَة فتمطرت عَلَيْهِم حَتَّى سَالَ الْوَادي وَتطَهرُوا وَاغْتَسلُوا، وتلبدت الرمال حَتَّى ثبتَتْ عَلَيْهَا الْأَقْدَام. فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿إِذْ يغشيكم النعاس أَمَنَة﴾.
قَالَ ابْن مَسْعُود: النعاس فِي الْقِتَال من الله، وَفِي الصَّلَاة من الشَّيْطَان.
﴿وَينزل عَلَيْكُم من السَّمَاء مَاء ليطهركم بِهِ﴾ وَهُوَ مَا ذكرنَا ﴿وَيذْهب عَنْكُم رجز الشَّيْطَان﴾ أَي: وَسْوَسَة الشَّيْطَان ﴿وليربط على قُلُوبكُمْ﴾ أَي: يشدد قُلُوبكُمْ وَتثبت بِإِزَالَة الْخَوْف ﴿وَيثبت بِهِ الْأَقْدَام﴾ يَعْنِي: على الرمل حِين تلبد بالمطر.
﴿سألقي فِي قُلُوب الَّذين كفرُوا الرعب فاضربوا فَوق الْأَعْنَاق﴾ أَي: على الْأَعْنَاق، وَقيل: " فَوق " فِيهِ صلَة، وَمَعْنَاهُ: فاضربوا الْأَعْنَاق، وَقيل: هُوَ على مَوْضِعه، وَمَعْنَاهُ: فاضربوا على اليافوخ.
﴿واضربوا مِنْهُم كل بنان﴾ قيل: البنان: مفاصل الْأَطْرَاف، وَقيل: الْأَصَابِع، كَأَنَّهُ عبر بِهِ عَن الْأَيْدِي والأرجل.
قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: مَا كَانَت الْمَلَائِكَة تعلم كَيفَ يقتل الآدميون، فعلمهم الله.
وَقيل: إِن الْمَلَائِكَة لم يقاتلوا إِلَّا فِي غَزْوَة بدر.
وَعَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ -: أَنه لما أَرَادَ أَن يحز رَأس أبي جهل - وَكَانَ قد علاهُ ليَقْتُلهُ - فَقَالَ لَهُ أَبُو جهل: كُنَّا نسْمع الصَّوْت وَلَا نرى شخصا، ونرى الضَّرْب وَلَا نرى الضَّارِب، فَمن هم؟ قَالَ: هم الْمَلَائِكَة: فَقَالَ أَبُو جهل: أُولَئِكَ غلبونا لَا انتم.
﴿وَمن يُشَاقق الله وَرَسُوله فَإِن الله شَدِيد الْعقَاب ذَلِكُم فذوقوه وَأَن للْكَافِرِينَ عَابَ النَّار﴾ إِنَّمَا قَالَ ذَلِك مُبَالغَة فِي التعذيب والانتقام، وَالْعرب تَقول لِلْعَدو إِذا أَصَابَهُ الْمَكْرُوه: ذُقْ. قَالَ الله تَعَالَى: ﴿ذُقْ إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْكَرِيم﴾.
وَرُوِيَ أَن أَبَا سُفْيَان بن حَرْب لما مر بِحَمْزَة بن عبد الْمطلب وَهُوَ مطروح مقتول يَوْم أحد فَقَالَ لَهُ: ذُقْ يَا عُقُق، يَعْنِي: ذُقْ أَيهَا الْعَاق.
وَفِي الْقِصَّة: أَن الْمُسلمين لما فرغوا من قتال بدر وَانْهَزَمَ الْكفَّار قصدُوا طلب العير وَأَن يتبعوهم - وَكَانَ الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب فِي وثاق الْمُسلمين وأسرهم - فَقَالَ لَهُم: لَيْسَ لكم إِلَى ذَلِك سَبِيل؛ فَإِن الله - تَعَالَى - وَعدكُم إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَقد ظفرتم بالجيش؛ فَلَيْسَ لكم العير، فَسَكَتُوا.
وروي أن أبا سفيان بن حرب لما مرّ بحمزة بن عبد المطلب وهو مطروح مقتول يوم أحد فقال له : ذق يا عُقَق، يعني : ذق أيها العاق.
وفي القصة : أن المسلمين لما فرغوا من قتال بدر وانهزم الكفار قصدوا طلب العير وأن يتبعوهم - وكان العباس بن عبد المطلب في وثاق المسلمين وأسْرِهم - فقال لهم : ليس لكم إلى ذلك سبيل ؛ فإن الله - تعالى - وعدكم إحدى الطائفتين، وقد ظفرتم بالجيش ؛ فليس لكم العير، فسكتوا.
قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: الْآيَة فِي أهل بدر خَاصَّة، مَا كَانَ يجوز لَهُم الانهزام بِحَال؛ لِأَن النَّبِي كَانَ مَعَهم وَلم يكن لَهُم فِئَة يتحيزون إِلَيْهَا، فَأَما فِي حق غَيرهم فالفرار من الزَّحْف لَا يكون كَبِيرَة؛ لِأَن الْمُسلمين بَعضهم فِئَة لبَعض، فَيكون الفار متحيزا إِلَى فِئَة.
وَهَذَا مَرْوِيّ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ - من الصَّحَابَة - وَيشْهد لذَلِك: قَول عمر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: لما أصَاب الْمُسلمين يَوْم الجسر مَا أَصَابَهُم وصبروا حَتَّى قتلوا، قَالَ عمر: هلا رجعُوا إليّ وَكَانَ إِذا بعث جَيْشًا بعد ذَلِك يَقُول: أَنا فِئَة لكل مُسلم.
وَيدل عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَن ابْن عمر - رَضِي الله عَنْهُمَا - أَنه قَالَ: " غزونا غَزْو فحصنا حَيْصَة، فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله، نَحن الْفَرَّارُونَ؟ فَقَالَ لَا؛ بل أَنْتُم الْعَكَّارُونَ، وَأَنا فِئَتكُمْ ".
وَفِي الْآيَة قَول آخر - وَهُوَ الْمَذْهَب الْيَوْم وَعَلِيهِ عَامَّة الْفُقَهَاء - أَنه إِن كَانَ الْكفَّار أَكثر من مثليهم جَازَ الْفِرَار من الزَّحْف؛ لقَوْله: ﴿الْآن خفف الله عَنْكُم﴾ وَلقَوْله: ﴿وَلَا تلقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة﴾ وَلَو صَبَرُوا جَازَ، اللَّهُمَّ أَن يعلمُوا قطعا أَنه لَا يُمكنهُم مقاومتهم، فَحِينَئِذٍ لَا يجوز الصَّبْر؛ لِأَنَّهُ يكون إِلْقَاء لنَفسِهِ فِي التَّهْلُكَة، وَإِن كَانَ الْكفَّار مثلي الْمُسلمين أَو دون المثلين لَا يجوز الْفِرَار من الزَّحْف إِلَّا متحرفا لقِتَال أَو متحيزا إِلَى فِئَة - يَعْنِي: إِلَى فِئَة قريبَة من الْجَيْش مثل السَّرَايَا - والفرار من الزَّحْف إِنَّمَا يكون كَثِيره من هَذِه الصُّورَة.
وَقيل مَعْنَاهُ: وَلَكِن الله قَتلهمْ ببعث الْمَلَائِكَة لكم مدَدا، فَقَتلهُمْ الله بِالْمَلَائِكَةِ.
﴿وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى﴾ روى: " أَن النَّبِي أَخذ كفا من الْحَصْبَاء يَوْم بدر وَرمى بِهِ إِلَى وُجُوه الْمُشْركين وَقَالَ: شَاهَت الْوُجُوه. فَلم يبْق مِنْهُم أحد إِلَّا وَأصَاب عَيْنَيْهِ من ذَلِك، وشغل بِعَيْنيهِ ".
﴿وَمَا رميت إِذْ رميت﴾ يُرِيد بِهِ ذَلِك الرَّمْي بالحصباء الَّتِي أَصَابَت عيونهم؛ إِذْ لَيْسَ هَذَا فِي قدرَة الْبشر أَن ترمي الْحَصْبَاء إِلَى وُجُوه جَيش بِحَيْثُ لَا تبقى عين إِلَّا ويصيبها مِنْهَا؛ ﴿وَلَكِن الله رمى﴾ بقوته وَقدرته. وَقيل مَعْنَاهُ: وَمَا بلغت إِذْ رميت؛ وَلَكِن الله بلغ، وَقيل مَعْنَاهُ: وَمَا رميت بِالرُّعْبِ فِي قُلُوبهم.
﴿وليبلي الْمُؤمنِينَ مِنْهُ بلَاء حسنا﴾ أَي: نعْمَة حَسَنَة ينعم بهَا على الْمُؤمنِينَ، وَذَلِكَ نعْمَة النَّصْر وَالظفر، والشدة بلَاء، وَالنعْمَة بلَاء، وَالله تَعَالَى يَبْتَلِي عَبده تَارَة بِالنعْمَةِ وَتارَة بالشدة ﴿إِن الله سميع عليم﴾.
﴿وَإِن تنتهوا فَهُوَ خير لكم وَإِن تعودوا نعد﴾ أَي: إِن تعودوا إِلَى الدُّعَاء نعد إِلَى الْإِجَابَة، وَإِن تعودوا إِلَى الْقِتَال نعد إِلَى النَّصْر ﴿وَلنْ تغني عَنْكُم فِئَتكُمْ شَيْئا وَلَو كثرت وَأَن الله مَعَ الْمُؤمنِينَ﴾.
﴿وَلَو أسمعهم لتولوا وهم معرضون﴾ فَإِن قيل: كَيفَ يَسْتَقِيم قَوْله: ﴿لأسمعهم وَلَو أسمعهم لتولوا﴾ ؟ قيل مَعْنَاهُ: لَو علم فيهم خيرا لأسمعهم سَماع التفهم، وَلَو
وَقَالَ قَتَادَة: هُوَ الْقُرْآن. وَقَالَ الْفراء: هُوَ الْجِهَاد. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: هُوَ الشَّهَادَة.
وروى أَبُو هُرَيْرَة " أَن النَّبِي دَعَا أبي بن كَعْب وَهُوَ فِي الصَّلَاة، فأسرع الْقِرَاءَة وَأتم الصَّلَاة وأجابه، فَقَالَ النَّبِي: مَا مَنعك أَن تُجِيبنِي؟ فَقَالَ: كنت فِي الصَّلَاة، فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَام -: أما سَمِعت قَوْله الله تَعَالَى: ﴿اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذا دعَاكُمْ لما يُحْيِيكُمْ﴾ ؟ فَقَالَ: علمت، لَا أَعُود ".
﴿وَاعْلَمُوا أَن الله يحول بَين الْمَرْء وَقَلبه﴾ قَالَ سعيد بن جُبَير وَجَمَاعَة: يحول بَين الْمُؤمن وَالْكفْر وَبَين الْكَافِر، وَالْإِيمَان. قَالَ الضَّحَّاك: يحول بَين الْمُؤمن وَالْمَعْصِيَة، وَبَين الْكَافِر وَالطَّاعَة.
وَفِيه قَول ثَالِث: أَن مَعْنَاهُ: يحول بَين الْمُؤمن وَالْخَوْف، وَبَين الْكَافِر والأمن؛ وَذَلِكَ أَن الْكفَّار كَانُوا آمِنين، وَالْمُسْلِمين كَانُوا خَائِفين؛ فأبدل الله تَعَالَى خوف هَؤُلَاءِ بالأمن، وَأمن هَؤُلَاءِ بالخوف، وَعبر بِالْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ مَحل الْخَوْف والأمن ﴿وَأَنه إِلَيْهِ تحشرون﴾.
قَالَ الزبير حِين رأى مَا رأى يَوْم الْجمل: مَا علمت أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِينَا أَصْحَاب رَسُول الله حَتَّى كَانَ هَذَا الْيَوْم. وَقَالَ ابْن عَبَّاس فِي معنى الْآيَة: لَا تقروا الْمُنكر بَيْنكُم، ومروا بِالْمَعْرُوفِ؛ كي لَا يعمكم الله بعقاب، فَيُصِيب الظَّالِم وَغير الظَّالِم.
وَقيل: أَرَادَ بالفتنة: تَفْرِيق الْكَلِمَة وَاخْتِلَاف الآراء، وَاتَّقوا فتْنَة تَفْرِيق الْكَلِمَة لَا تصيبن الَّذين ظلمُوا مِنْكُم خَاصَّة، فَيكون الْعَذَاب مضمرا فِيهِ ﴿وَاعْلَمُوا أَن الله شَدِيد الْعقَاب﴾.
وَقيل: الْآيَة فِي جَمِيع الْأَمَانَات، نهي الْعباد عَن الْخِيَانَة فِي الْأَمَانَات، وَتدْخل فِي الْأَمَانَات الطَّاعَات؛ فَإِن الطَّاعَات أمانات عِنْد الْعباد على معنى أَنَّهَا بَينهم وَبَين رَبهم أدوها أَو لم يؤدوها.
وَرُوِيَ أَن النَّبِي رأى الْحسن وَالْحُسَيْن فَقَالَ: " إِنَّكُم لتجبنوني وتبخلوني وتجهلوني، وَإِنَّكُمْ لمن ريحَان الله " وَأَشَارَ إِلَى الْحسن وَالْحُسَيْن يَعْنِي: توقعون الأباء فِي الْجُبْن وَالْبخل وَالْجهل. وَقَوله: " لمن ريحَان الله " أَي: من رزق الله.
﴿ويمكرون ويمكر الله﴾ وَالْمَكْر من الله: التَّدْبِير بِالْحَقِّ، وَقيل: هُوَ الْأَخْذ بَغْتَة. قَالَ الزّجاج مَعْنَاهُ: يجازيهم جَزَاء الْمَكْر.
﴿وَالله خير الماكرين﴾ أَي: خير المدبرين.
﴿إِن هَذَا إِلَّا أساطير الْأَوَّلين﴾ أَي: أكاذيب الْأَوَّلين؛ والأساطير: جمع الأسطورة، وَهِي الْمَكْتُوبَة. فَإِن قيل: إِذا كَانَ الْقُرْآن معجزا كَيفَ يَسْتَقِيم قَوْله: ﴿لَو نشَاء لقلنا مثل هَذَا﴾ وَهل يَقُول أحد: لَو شِئْت قلبت الْحجر ذَهَبا والعصا حَيَّة وَهُوَ عَاجز عَنهُ؟
قيل: إِن الْقُرْآن مطمع مُمْتَنع، فقد يتَوَهَّم صفوهم أَنه يَقُول مثله، وَيمْتَنع عَلَيْهِ ذَلِك فيخطئ ظَنّه. وَقيل: إِنَّه توهم بجهله أَنه يُمكنهُ الْإِتْيَان بِمثلِهِ وَكَانَ عَاجِزا.
وَهَذَا يدل على شدَّة بصيرتهم فِي الْكفْر، وَأَنه لم تكن لَهُم شُبْهَة وريبة فِي كذب الرَّسُول؛ لِأَن الْعَاقِل لَا يسْأَل الْعَذَاب بِمثل هَذَا مُتَرَدّد فِي أمره؛ وَهَذَا دَلِيل على أَن الْعَارِف لَيست بضرورته.
وَحكى عَن مُعَاوِيَة أَنه قَالَ لرجل من أهل الْيمن: مَا أَجْهَل قَوْمك حَيْثُ قَالُوا: رَبنَا باعد بَين أسفارنا، فَقَالَ الرجل وأجهل من قومِي قَوْمك؛ حَيْثُ قَالُوا: إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء أَو ائتنا بِعَذَاب أَلِيم.
أَحدهَا: أَن هَذَا فِي قوم من الْمُسلمين بقوا بِمَكَّة بعد هِجْرَة الرَّسُول، وَمَا كَانَ الله ليعذبهم وَفِيهِمْ من يسْتَغْفر.
وَقيل: فِي قوم علم الله تَعَالَى أَنهم يُؤمنُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ من أهل مَكَّة، وَذَلِكَ مثل: أبي سُفْيَان، وَصَفوَان بن أُميَّة، وَعِكْرِمَة بن أبي جهل، وَسُهيْل بن عَمْرو، وَحَكِيم بن حزَام، وَنَحْوهم، فَلَمَّا كَانَ فِي علم الله تَعَالَى أَنهم لأَصْحَابه يسلمُونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ؛ عدهم مستغفرين فِي الْحَال.
وَقيل مَعْنَاهُ: وَمَا كَانَ الله معذبهم وَفِي أصلابهم من يسْتَغْفر؛ إِذْ كَانَ لبَعْضهِم أَوْلَاد قد أَسْلمُوا.
وَقيل: إِنَّمَا قَالَ: ﴿وَمَا كَانَ الله معذبهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ﴾ دَعْوَة لَهُم إِلَى الْإِسْلَام وَالِاسْتِغْفَار، كَالرّجلِ يَقُول: لَا أعاقبك وَأَنت تطيعني، أَي: أطعني حَتَّى لَا أعاقبك.
وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي قَالَ: أنزل الله على أمانين لأمتي: ﴿وَمَا كَانَ الله ليعذبهم وَأَنت فيهم وَمَا كَانَ معذبهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ﴾ فَإِذا مضيت تركت لَهُم الاسْتِغْفَار إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ". وَهُوَ فِي جَامع أبي عِيسَى بطرِيق أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ.
وَعَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: من قَالَ فِي كل يَوْم: أسْتَغْفر الله الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ القيوم وَأَتُوب إِلَيْهِ، ثَلَاث مَرَّات، غفر لَهُ ذنُوبه وَإِن كَانَ فَارًّا من الزَّحْف.
وَاسْتدلَّ بِهَذَا الْأَثر من عد الْفِرَار من الزَّحْف من جملَة الْكَبَائِر.
وَقيل: المُرَاد بِهِ أُولَئِكَ الَّذين ترك تعذيبهم؛ لكَون النَّبِي بَينهم، وَمَعْنَاهُ: وَمَا لَهُم أَلا يعذبهم الله بعد خُرُوجك من بَينهم.
﴿وهم يصدون عَن الْمَسْجِد الْحَرَام﴾ أَي: يمْنَعُونَ عَنهُ ﴿وَمَا كَانُوا أولياءه﴾ وَذَلِكَ أَنهم كَانُوا يدعونَ: إِنَّا أَوْلِيَاء الْبَيْت ﴿إِن أولياؤه إِلَّا المتقون﴾ يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ ﴿وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ﴾.
(وحليل غانية تركت مجدلا | تمكو فريصته كشدق الأعلم) |
والقصة فِي ذَلِك: أَن أَرْبَعَة من بني عبد الدَّار كَانُوا إِذا صلى النَّبِي فِي الْمَسْجِد الْحَرَام وقف اثْنَان عَن يَمِينه، وَاثْنَانِ عَن يسَاره، فيصفر اللَّذَان عَن يَمِينه ويصفق اللَّذَان عَن يسَاره حَتَّى يخلطوا عَلَيْهِ الْقِرَاءَة.
قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: إِنَّمَا سَمَّاهُ صَلَاة؛ لأَنهم أمروا بِالصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِد، فَلَمَّا وضعُوا ذَلِك مَوضِع الصَّلَاة سَمَّاهُ صَلَاة ﴿فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنْتُم تكفرون﴾.
أَحدهمَا: أَن الْآيَة فِي المطمعين يَوْم بدر، وهم اثْنَا عشر نَفرا من رُؤْس الْمُشْركين: أَبُو جهل بن هِشَام، والْحَارث بن هِشَام، وَأبي بن خلف، وَعتبَة وَشَيْبَة ابْنا ربيعَة، ومنبه وَنبيه ابْنا الْحجَّاج، وَأَبُو البخْترِي بن هِشَام، وَحَكِيم بن حزَام، وَالنضْر بن الْحَارِث، وَزَمعَة بن الْأسود، وَالْعَبَّاس بن عبد الْمطلب؛ لِأَن كل وَاحِد مِنْهُم كَانَ كل يَوْم ينْحَر عشرَة أَبْعِرَة وَيطْعم الْجَيْش.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن هَذَا فِي أبي سُفْيَان بن حَرْب اسْتَأْجر ثَلَاثَة آلَاف رجل من الْأَحَابِيش يَوْم أحد لقِتَال النَّبِي - عَلَيْهِ السَّلَام - فَنزل قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الَّذين كفرُوا يُنْفقُونَ أَمْوَالهم ليصدوا عَن سَبِيل الله ثمَّ تكون حسرة عَلَيْهِم يَوْم الْقِيَامَة ثمَّ يغلبُونَ﴾.
قَالَ الْحسن: أَشد النَّاس حسرة يَوْم القيامه من يرى مَاله فِي ميزَان غَيره ﴿وَالَّذين كفرُوا إِلَى جَهَنَّم يحشرون﴾.
﴿وَيجْعَل الْخَبيث بعضه على بعض فيركمه جَمِيعًا﴾ أَي: يجمعه جَمِيعًا؛ يُقَال: سَحَاب مركوم إِذا كَانَ بعضه على بعض ﴿فَيَجْعَلهُ فِي جَهَنَّم أُولَئِكَ هم الخاسرون﴾.
وَعَن عبَادَة بن الصَّامِت - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: إِن الله تَعَالَى يجمع الدُّنْيَا يَوْم الْقِيَامَة، فَيَأْخُذ مَاله ويطرح الْبَاقِي فِي النَّار. ولأي معنى يطرحه فِي النَّار؟ قيل: ليضيق الْمَكَان على الْكفَّار، وَقيل: لتَكون الْحَسْرَة أَشد عَلَيْهِم إِذا نظرُوا إِلَيْهَا.
﴿وَإِن يعودوا فقد مَضَت سنة الْأَوَّلين﴾ قيل: سنة الْأَوَّلين: أَن يصل عَذَاب الدُّنْيَا بعقوبة الْآخِرَة.
اخْتلف الْعلمَاء فِي الْغَنِيمَة والفيء؛ فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَنَّهُمَا سَوَاء، وَهُوَ المَال الْمَأْخُوذ من الْكفَّار على وَجه الْقَهْر.
وَالْقَوْل الثَّانِي - وَهُوَ الْأَصَح -: أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ، وَالْفرق بَينهمَا: أَن الْغَنِيمَة: هِيَ المَال الْمَأْخُوذ من الْكفَّار على وَجه العنوة بِإِيجَاف الْخَيل والركاب، والفيء: هُوَ المَال الْمَأْخُوذ من غير إيجَاف خيل وَلَا ركاب.
وَهَذَا القَوْل مَنْقُول عَن سُفْيَان الثَّوْريّ، وَالشَّافِعِيّ - رَضِي الله عَنْهُمَا - وَغَيرهمَا.
﴿فَأن الله﴾ أَكثر الْمُفَسّرين على أَن قَوْله: ﴿لله﴾ افْتِتَاح كَلَام، وَلَيْسَ لله سهم مُنْفَرد؛ بل سهم الله وَسَهْم الرَّسُول وَاحِد.
وَفِيه قَول آخر: أَن لله سَهْما يصرف إِلَى الْكَعْبَة. وَقد رُوِيَ أَن الْحسن بن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة سُئِلَ عَن هَذِه الْآيَة فَقَالَ: قَوْله ﴿فَأن لله خَمْسَة﴾ افْتِتَاح كَلَام، لله الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَعَن أبي الْعَالِيَة الريَاحي قَالَ: " كَانَ رَسُول الله يقسم الْغَنِيمَة على
وَأما قَوْله: ﴿وَلِلرَّسُولِ﴾ أَكثر الْمُفَسّرين على أَن للرسول سَهْما مُفردا. وَقَالَ بَعضهم: لَيْسَ للرسول سهم أصلا؛ وَإِنَّمَا هُوَ افْتِتَاح كَلَام، وَمعنى ذكر الرَّسُول أَن التَّدْبِير إِلَيْهِ.
ثمَّ اخْتلفُوا على القَوْل الأول أَن ذَلِك السهْم بعد مَوته لمن يكون؟
قَالَ قَتَادَة: هُوَ للخليفة بعده. وَقَالَ بَعضهم: يرد إِلَى الأسهم الْأَرْبَعَة. وَأما مَذْهَب الشَّافِعِي: أَن ذَلِك السهْم يصرف إِلَى الْمصَالح.
وَفِيه قَول رَابِع: أَنه يصرف إِلَى الكراع وَالسِّلَاح فِي سَبِيل الله. وَهَذَا مَرْوِيّ عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَغَيره.
وَأما قَوْله: ﴿وَلِذِي الْقُرْبَى﴾ اخْتلفُوا فِي هَذَا على ثَلَاثَة أقاويل:
فمذهب الشَّافِعِي: أَن لَهُم سَهْما مُفردا بعد رَسُول الله إِلَى قيام السَّاعَة، يشْتَرك فِيهِ أغنياؤهم وفقراؤهم على مَا هُوَ الْمَعْرُوف. وَهَذَا قَول أَحْمد وَغَيره.
وَقَالَ مَالك: الْأَمر فِيهِ إِلَى الإِمَام إِن شَاءَ أَعْطَاهُم، وَإِن شَاءَ لم يعطهم، وَكَذَلِكَ فِي الْبَاقِي، وَإِنَّمَا ذكرُوا لجَوَاز الصّرْف إِلَيْهِم لَا للاستحقاق.
وَالْقَوْل الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة - رَضِي الله عَنهُ -: أَن سهم ذَوي الْقُرْبَى يرد إِلَى البَاقِينَ، وَلَيْسَ لَهُم سهم مُفْرد، فَيقسم على ثَلَاثَة أسْهم لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِين وَابْن السَّبِيل. ويروون هَذَا عَن الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة أَنهم قسموا على هَذَا الْوَجْه، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
ثمَّ اخْتلفُوا فِي ذَوي الْقُرْبَى من هم؟ قَالَ مُجَاهِد. هم بَنو هَاشم خَاصَّة؛ وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: جَمِيع قُرَيْش. وَحكى عَنهُ أَنه سُئِلَ عَن سهم ذَوي الْقُرْبَى فَقَالَ: نزعم أَنه لنا، ويأبى قَومنَا ذَلِك علينا.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن ذَوي الْقُرْبَى هم بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب، وَهَذَا قَول الشَّافِعِي - رَحمَه الله - وَقد دلّ عَلَيْهِ الْخَبَر الْمَرْوِيّ بطرِيق جُبَير بن مطعم - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي: " قسم سهم ذَوي الْقُرْبَى بَين بني هَاشم وَبني الْمطلب، فمشيت أَنا وَعُثْمَان إِلَى رَسُول الله وَقُلْنَا: يَا رَسُول الله، إِنَّا لَا ننكر فَضِيلَة بني هَاشم لِمَكَانِك الَّذِي وضعك الله فيهم؛ ولكننا وإخواننا بني الْمطلب فِي الْقَرَابَة مِنْك سَوَاء، وَقد أَعطيتهم وَحَرَمْتنَا، فَقَالَ: أَنا وَبني الْمطلب شَيْء وَاحِد - وَشَبك بَين أَصَابِعه - وَإِنَّهُم لم يفارقونا فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام ". ٍ
وَأما قَوْله تَعَالَى: ﴿واليتامى﴾ فاليتامى لَهُم سهم مُفْرد بِالْإِنْفَاقِ، واليتيم الَّذِي يسْتَحق السهْم هُوَ الَّذِي لَا أَب لَهُ فَيكون صَغِيرا فَقِيرا.
وَقَوله: ﴿وَالْمَسَاكِين﴾ فالمساكين هم أهل الْحَاجة، وَسَيَرِدُ الْفرق بَين الْمِسْكِين وَالْفَقِير فِي سُورَة بَرَاءَة.
وَأما قَوْله: ﴿وَابْن السَّبِيل﴾ فَهُوَ الْمُنْقَطع الَّذِي بعد عَن مَاله.
وَقَوله: ﴿إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه﴾ مَعْنَاهُ: وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خمسه وَلِلرَّسُولِ، على مَا ذكر، إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه. وَقيل مَعْنَاهُ: يأمران فِيهِ بِمَا يُريدَان فاقبلوا إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا أنزلنَا﴾ يَعْنِي: إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه وَبِمَا أنزلنَا ﴿على عَبدنَا﴾.
وَفِيه قَول آخر: أَن هَذَا رَاجع إِلَى قَوْله تَعَالَى: ﴿وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة﴾ إِن كُنْتُم آمنتم بِاللَّه وَبِمَا أنزلنَا على عَبدنَا ﴿يَوْم الْفرْقَان﴾ يَوْم بدر، فرق الله تَعَالَى فِيهِ بَين الْحق وَالْبَاطِل ﴿يَوْم التقى الْجَمْعَانِ﴾ مَعْنَاهُ: التقى حزب الله وحزب الشَّيْطَان
﴿وَالله على كل شَيْء قدير﴾.
وَرُوِيَ عَن الشّعبِيّ أَنه قَالَ: يَوْم الْفرْقَان يَوْم السَّابِع عشر من رَمَضَان أخبر الله تَعَالَى بِتمَام قدرته.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ليهلك من هلك عَن بَيِّنَة﴾ الْآيَة فِيهَا قَولَانِ:
أَحدهمَا - وَهُوَ الْأَظْهر -: أَن الْهَلَاك هُوَ الْكفْر، والحياة هِيَ الْإِيمَان، وَمَعْنَاهُ: ليكفر من كفر عَن حجَّة بَيِّنَة فِيمَا لَهُ وَعَلِيهِ ﴿ويحيا من حَيّ﴾ يَعْنِي: ويؤمن من آمن على مثل ذَلِك.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْهَلَاك هُوَ الْمَوْت، والحياة هِيَ الْعَيْش، وَمَعْنَاهُ: ليَمُوت من يَمُوت عَن حجَّة بَيِّنَة، ويعيش من يعِيش على مثل ذَلِك.
﴿وَإِن الله لسميع عليم﴾ سميع لأقوالكم، عليم بأموركم.
أظهر الْقَوْلَيْنِ: أَن الْمَنَام حَقِيقَة النّوم؛ فَرَآهُمْ رَسُول الله فِي نَومه أقل مِمَّا كَانُوا
وَالْقَوْل الثَّانِي وَهُوَ قَول الْحسن الْبَصْرِيّ: أَنه قَوْله تَعَالَى: ﴿فِي مَنَامك﴾ أَي: فِي عَيْنك قَلِيلا؛ وسمى الْعين مناما؛ لِأَنَّهَا مَوضِع النّوم.
﴿وَلَو أراكهم كثيرا لفشلتم﴾ لجبنتم ﴿ولتنازعتم فِي الْأَمر﴾ يَعْنِي: فِي الإحجام والإقدام ﴿وَلَكِن الله سلم﴾ أَي: سلمكم من الفشل والجبن ﴿إِنَّه عليم بِذَات الصُّدُور﴾.
وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه كَانَ يستعيذ بِاللَّه من الْجُبْن.
وَرُوِيَ عَن عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَالَ: قلت يَوْم بدر لبَعض من كَانَ بجنبي: تراهم سبعين رجلا، فَقَالَ: أَرَاهُم مائَة، ثمَّ إِنَّا أسرنا مِنْهُم فَقُلْنَا لَهُم: كم كُنْتُم؟ فَقَالُوا: كُنَّا ألفا ﴿ليقضي الله﴾ يَعْنِي: ليقضي الله من إعلاء الْإِسْلَام وإذلال الشّرك ونصرة الْمُؤمنِينَ وَقتل الْمُشْركين.
قَوْله: ﴿فاثبتوا واذْكُرُوا الله كثيرا﴾ وَمعنى ذكر الله: هُوَ الدُّعَاء بالنصرة وَالظفر ﴿لَعَلَّكُمْ تفلحون﴾ وَكُونُوا على رَجَاء الْفَلاح.
وَقَالَ قَتَادَة: الرّيح هَاهُنَا: ريح النُّصْرَة. وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " نصرت بالصبا، وأهلكت عَاد بالدبور ".
وَالْقَوْل الثَّالِث، قَول الْأَخْفَش وَغَيره: وَتذهب ريحكم أَي: دولتكم ﴿واصبروا إِن الله مَعَ الصابرين﴾ مَعْلُوم التَّفْسِير.
وَفِي الْآيَة فَضِيلَة عَظِيمَة لأهل الصَّبْر؛ فَإِن الله تَعَالَى قَالَ: ﴿إِن الله مَعَ الصابرين﴾ قَالَ الشَّاعِر:
(إِنِّي رَأَيْت فِي الْأَيَّام تجربة | للصير عَاقِبَة محمودة الْأَثر) |
وَالْآيَة نزلت فِي الْمُشْركين حِين أَقبلُوا إِلَى بدر،
﴿ويصدون عَن سَبِيل الله﴾ مَعْنَاهُ: يمْنَعُونَ عَن سَبِيل الْحق ﴿وَالله بِمَا يعلمُونَ مُحِيط﴾ رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ حِين أقبل الْمُشْركُونَ: " اللَّهُمَّ هَذِه قُرَيْش أَقبلت
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ إِنِّي أَخَاف الله وَقد ترك السُّجُود لآدَم وَهُوَ لم يخف الله؟ الْجَواب فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنه قَالَ هَذَا كذبا، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه خَافَ أَن يُؤْخَذ فيفتضح بَين الْإِنْس. وَمِنْهُم من قَالَ: خَافَ أَنه قد حضر أَجله ﴿وَالله شَدِيد الْعقَاب﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن يتوكل على الله﴾ وَمن يَثِق بِاللَّه ﴿فَإِن الله عَزِيز حَكِيم﴾ قد
أَحدهمَا: أَن هَذَا عِنْد الْمَوْت، وَقَوله: ﴿يضْربُونَ وُجُوههم وأدبارهم﴾ يضْربُونَ وُجُوههم بأسواط النَّار، وأدبارهم سوقا إِلَى الْعَذَاب.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن التوفي هَاهُنَا هُوَ الْقَتْل، وَمَعْنَاهُ: قتل الْمَلَائِكَة الْمُشْركين ببدر، وَقَوله ﴿يضْربُونَ وُجُوههم وأدبارهم﴾ مَعْنَاهُ: يضربونهم بِالسَّيْفِ إِذا أَقبلُوا. وَقَوله ﴿وأدبارهم﴾ ويضربونهم بِالسَّيْفِ إِذا أدبروا، وَيَقُولُونَ: ﴿وذوقوا عَذَاب الْحَرِيق﴾.
رُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: مَعَ الْمَلَائِكَة مَقَامِع من حَدِيد يضْربُونَ بهَا الْكفَّار، فتلتهب النَّار فِي جراحاتهم؛ فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿وذوقوا عَذَاب الْحَرِيق﴾.
أَحدهمَا: مَعْنَاهُ: ﴿لم يكن مغيرا نعْمَة﴾ يَعْنِي: لم يكن مبدلا النِّعْمَة بالبلية
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن هَذَا فِي أهل مَكَّة؛ فَإِن الرَّسُول كَانَ نعْمَة أنعمها الله تَعَالَى عَلَيْهِم، فَكَفرُوا بِهَذِهِ النِّعْمَة، فغيرها الله تَعَالَى، وَمَعْنَاهُ: أَنه نقلهَا إِلَى أهل الْمَدِينَة ﴿وَأَن الله سميع عليم﴾ معلومان.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين من قبلهم كذبُوا بآيَات رَبهم فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ﴾ يَعْنِي: نهلك هَؤُلَاءِ كَمَا أهلكنا أُولَئِكَ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وأغرقنا آل فِرْعَوْن وكل كَانُوا ظالمين﴾ يَعْنِي: الْأَوَّلين والآخرين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿لَعَلَّهُم يذكرُونَ﴾ يَعْنِي: يتذكرون.
وَمعنى الْآيَة: أَي نكل بهؤلاء الَّذين جَاءُوا لحربك أَو نقضوا عَهْدك تنكيلا يفرق بَينهم من خَلفهم من جماعاتهم.
وَالْمرَاد من الْآيَة: أَلا تقَاتلهمْ قبل نبذ الْعَهْد، وَقبل علمهمْ بالنبذ حَتَّى لَا تنْسب إِلَى نقض الْعَهْد، وَهَذِه الْآيَة تعد من فصيح الْقُرْآن.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الله لَا يحب الخائنين﴾ وَالْمعْنَى مَعْلُوم.
قَوْله ﴿إِنَّهُم لَا يعجزون﴾ يَعْنِي: لَا يفوتوني. وَقَرَأَ ابْن مُحَيْصِن: " لايعجزون " وَالصَّحِيح الْقِرَاءَة الأولى. وَقد قُرِئت الْآيَة بقراءتين: " أَنهم " و " إِنَّهُم " فَقَوله: " إِنَّهُم " على طَرِيق الِابْتِدَاء، وَقَوله: " أَنهم " يَعْنِي: لأَنهم لَا يفوتون. وَمعنى الْفَوات مَنْقُول عَن أبي عُبَيْدَة، وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: ﴿لَا يعجزون﴾ مَعْنَاهُ: إِن فاتهم عَذَاب الدُّنْيَا لَا يفوتهُمْ من عَذَاب الْآخِرَة.
أَحدهَا: مَا روى عقبَة بن عَامر: " أَن النَّبِي قَرَأَ هَذِه الْآيَة على الْمِنْبَر ثمَّ قَالَ: أَلا إِن الْقُوَّة الرَّمْي، أَلا إِن الْقُوَّة الرَّمْي ". أوردهُ مُسلم فِي " الصَّحِيح ".
وَالْقَوْل الثَّانِي: وَهُوَ أَن الْقُوَّة: ذُكُور الْخَيل، والرباط: إناثها. هَذَا قَول عِكْرِمَة.
وَرُوِيَ عَن خَالِد بن الْوَلِيد أَنه كَانَ لَا يركب فِي الْقِتَال إِلَّا الْإِنَاث؛ لقلَّة صهيلها.
وَعَن أبي محيريز قَالَ: كَانُوا يستحبون ركُوب ذُكُور الْخَيل عِنْد الصُّفُوف، وركوب إناث الْخَيل عِنْد الثَّبَات والغارات.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الْقُوَّة: هِيَ جَمِيع الأسلحة. وَقد قيل: إِن الْقُوَّة: الْحُصُون؛ والحصون: الْخُيُول، قَالَ الشَّاعِر:
(أَطُوف فِي الأباطح كل يَوْم | مَخَافَة أَن يشرد بِي حَكِيم) |
(وَلَقَد علمت على تجنبي الردى | أَن الْحُصُون الْخَيل لَا مدر الْقرى) |
رُوِيَ عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: هم بَنو قُرَيْظَة. وَفِيه قَول آخر: أَنهم المُنَافِقُونَ.
وَفِيه قَول ثَالِث: أَنهم الْجِنّ. وَعَن السدى أَنه قَالَ: أهل فَارس.
وَرُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لن يخبل الْجِنّ آدَمِيًّا فِي دَاره فرس عَتيق ". أوردهُ النقاش فِي تَفْسِيره.
وَفِي الْآيَة قَول رَابِع: رُوِيَ عَن معَاذ بن جبل أَنه قَالَ: ﴿وَآخَرين من دونهم﴾ يَعْنِي: الشَّيَاطِين.
وَقَوله: ﴿لَا تَعْلَمُونَهُم الله يعلمهُمْ﴾ ظَاهر.
قَوْله: ﴿وَمَا تنفقوا من شَيْء فِي سَبِيل الله يوف إِلَيْكُم وَأَنْتُم لَا تظْلمُونَ﴾ أَي: لَا ينقص أجوركم.
وَرُوِيَ عَن الْحسن وَقَتَادَة أَنَّهُمَا قَالَا: هَذِه الْآيَة مَنْسُوخَة بِآيَة السَّيْف.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وتوكل على الله﴾ مَعْنَاهُ: ثق بِاللَّه ﴿إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم﴾.
قَوْله: ﴿فَإِن حَسبك الله﴾ يَعْنِي: فَإِن كافيك هُوَ ﴿هُوَ الَّذِي أيدك بنصره﴾ هُوَ الَّذِي قواك بنصره ﴿وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾ أَي: قواك بِالْمُؤْمِنِينَ
وَعَن ابْن مَسْعُود - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: نزلت الْآيَة فِي المتحابين فِي الله.
وَفِي الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " الْمُؤمن مألفة، وَلَا خير فِيمَن لَا يؤلف وَلَا
وَعَن خَالِد بن معدان أَنه قَالَ: إِنَّه لله ملكا فِي السَّمَاء؛ نصفه من ثلج وَنصفه من نَار، وتسبيحه: اللَّهُمَّ كَمَا ألفت بَين الثَّلج وَالنَّار فألف بَين قُلُوب عِبَادك الصَّالِحين.
قَوْله ﴿لَو أنفقت مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا مَا ألفت بَين قُلُوبهم وَلَكِن الله ألف بَينهم إِنَّه عَزِيز حَكِيم﴾ أَي منيع فِي ملكه، حَكِيم فِي خلقه.
وَفِي الْآيَة قَولَانِ: أَحدهمَا: ﴿يَا أَيهَا النَّبِي حَسبك الله وَمن اتبعك﴾ أَي: يَكْفِيك الله وَيَكْفِي من اتبعك من الْمُؤمنِينَ، فَتكون " من " فِي مَوضِع النصب.
وَالْقَوْل الثَّانِي: ﴿حَسبك الله﴾ وحسبك تباعك من الْمُؤمنِينَ؛ فَتكون " من " فِي مَوضِع الرّفْع، قَالَ الشَّاعِر:
(إِذا كَانَت الهيجاء وانشقت الْعَصَا | فحسبك وَالضَّحَّاك سيف مهند) |
وَقَرَأَ الشّعبِيّ: " حَسبك الله وَمن اتبعك من الْمُؤمنِينَ " وَمَعْنَاهُ قريب من الأول.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن يكن مِنْكُم عشرُون صَابِرُونَ يغلبوا مِائَتَيْنِ وَإِن يكن مِنْكُم مائَة يغلبوا ألفا من الَّذين كفرُوا﴾ هَذَا خبر بِمَعْنى الْأَمر، وَكَانَ الله تَعَالَى أَمر الْمُؤمنِينَ أَلا يفر الْوَاحِد مِنْهُم عَن عشرَة، وَلَا تَفِر الْمِائَة مِنْهُم عَن ألف. فَإِن قَالَ قَائِل: أيش معنى ﴿بِأَنَّهُم قوم لَا يفقهُونَ﴾ وَأي اتِّصَال لهَذَا بِمَعْنى الْآيَة؟
جَوَابه: مَعْنَاهُ: أَنهم يُقَاتلُون على جَهَالَة لَا على حسبَة وبصيرة، وَأَنْتُم تقاتلون على بَصِيرَة وحسبة، فَلَا يثبتون إِذا ثبتمْ، ثمَّ إِن الْمُسلمين سَأَلُوا الله التَّخْفِيف، فَأنْزل الله تَعَالَى الْآيَة الْأُخْرَى، وَأمر أَلا يفر الْوَاحِد من أثنين، وَالْمِائَة من الْمِائَتَيْنِ.
فَإِن قَالَ قَائِل: الله تَعَالَى قَالَ: ﴿يغلبوا مِائَتَيْنِ﴾ وَنحن رَأينَا الْقِتَال على هَذَا الْعدَد بِلَا غَلَبَة، فَكيف يَسْتَقِيم معنى الْآيَة، وَالْخلف فِي خبر الله لَا يجوز؟
قُلْنَا: إِن معنى قَوْله: ﴿يغلبوا﴾ أَي: يقاتلوا؛ كَأَنَّهُ أَمرهم بِالْقِتَالِ على رَجَاء الظفر والنصرة من الله تَعَالَى.
﴿فَإِن يكن مِنْكُم مائَة صابرة يغلبوا مِائَتَيْنِ وَإِن يكن مِنْكُم ألف يغلبوا أَلفَيْنِ بِإِذن الله وَالله مَعَ الصابرين﴾ وَبَاقِي الْآيَة مَعْنَاهُ مَعْلُوم.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿حَتَّى يثخن فِي الأَرْض﴾ الْإِثْخَان: الْقَتْل، وَقيل: الْمُبَالغَة فِي التنكيل.
﴿تُرِيدُونَ عرض الدُّنْيَا﴾ بالإفداء.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالله يُرِيد الْآخِرَة﴾ مَعْنَاهُ: يرغبكم فِي الْآخِرَة، وَقَوله: ﴿وَالله عَزِيز حَكِيم﴾ قد ذكرنَا معنى الْعَزِيز الْحَكِيم.
وَاعْلَم أَن الْآيَة نزلت فِي أُسَارَى بدر؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ: " أَن النَّبِي قتل سبعين يَوْم بدر، وَأسر سبعين من الْمُشْركين، ثمَّ إِنَّه اسْتَشَارَ أَصْحَابه فِي الْأُسَارَى، فَقَالَ أَبُو بكر - رَضِي الله عَنهُ -: هَؤُلَاءِ قَوْمك وأسرتك وَأهْلك، اسْتَبْقِهِمْ لَعَلَّ الله أَن يهْدِيهم بك، وَخذ مِنْهُم الْفِدَاء؛ فَيكون مَعُونَة للْمُسلمين. وَقَالَ عمر: هَؤُلَاءِ آذوك وَأَخْرَجُوك وَكَفرُوا بِمَا جِئْت بِهِ فَاضْرب أَعْنَاقهم. فَمَال الرَّسُول إِلَى قَول أبي بكر وَأحب مَا ذكره ".
وَرُوِيَ " أَنه قَالَ لأبي بكر: مثلك مثل إِبْرَاهِيم حِين قَالَ: ﴿فَمن تَبِعنِي فَإِنَّهُ مني وَمن عَصَانِي فَإنَّك غَفُور رَحِيم﴾ وَقَالَ لعمر: مثلك مثل نوح حِين قَالَ: ﴿رب لَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين ديارًا﴾ " ثمَّ قَالَ لأَصْحَابه: لَا يخلين أحد مِنْكُم
أَحدهَا: لَوْلَا كتاب من الله سبق فِي تَحْلِيل الْغَنَائِم لمسكم فِيمَا أَخَذْتُم عَذَاب عَظِيم. هَذَا قَول سعيد بن جُبَير وَجَمَاعَة.
وَالثَّانِي: لَوْلَا كتاب من الله سبق من مغفرته لأهل بدر مَا صَنَعُوا؛ لمسكم فِيمَا أَخَذْتُم عَذَاب عَظِيم، هَذَا قَول الْحسن الْبَصْرِيّ.
وَالثَّالِث: لَوْلَا كتاب من الله سبق أَنهم لم يقدم إِلَيْكُم أَلا تَأْخُذُوا؛ لمسكم فِيمَا أَخَذْتُم عَذَاب عَظِيم؛ فَإِنَّهُ لَا يعذب من غير تقدمة.
وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أريت عذابكم دون هَذِه الشَّجَرَة، وَأَشَارَ إِلَى شَجَرَة قريبَة مِنْهُ ". وَرُوِيَ أَنه قَالَ لعمر: " لَو نزل الْعَذَاب مَا نجا أحد سواك ".
وَرُوِيَ أَنه قَالَ لَهُ: " كَاد يصيبنا ".
وَرُوِيَ أَنه لما نزلت الْآيَة الأولى كف أَصْحَاب رَسُول الله أَيْديهم عَمَّا أخذُوا من الْفِدَاء، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة إِلَى آخرهَا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن يعلم الله فِي قُلُوبكُمْ خيرا﴾ مَعْنَاهُ: إِن يعلم فِي قُلُوبكُمْ إِيمَانًا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يُؤْتكُم خير مِمَّا أَخذ مِنْكُم﴾ قَالَ الْعَبَّاس: فقد آتَانِي الله خيرا مِمَّا أَخذ مني، وَكَانَ لَهُ عشرُون عبدا يتجر كل عبد فِي عشْرين ألف دِرْهَم.
وَقَوله: ﴿وَيغْفر لكم وَالله غَفُور رَحِيم﴾ قَالَ الْعَبَّاس: وَأَنا أَرْجُو من الله الْمَغْفِرَة.
قَوْله: ﴿فَأمكن مِنْهُم﴾ يَعْنِي: مكن مِنْهُم ﴿وَالله عليم حَكِيم﴾.
وَرُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ: الْهِجْرَة قَائِمَة إِلَى قيام السَّاعَة، فعلى أهل الْبَوَادِي إِذا أَسْلمُوا أَن يهاجروا إِلَى الْأَمْصَار.
قَوْله: ﴿وَالَّذين آووا ونصروا﴾ هَؤُلَاءِ أهل الْمَدِينَة؛ وَمعنى الإيواء: ضمهم الْمُهَاجِرين إِلَى أنفسهم فِي الْأَمْوَال والمساكن.
قَوْله: ﴿أُولَئِكَ بَعضهم أَوْلِيَاء بعض﴾ فِيهِ قَولَانِ:
أَحدهمَا: أُولَئِكَ أعوان بعض.
وَالْقَوْل الثَّانِي مَعْنَاهُ: يَرث بَعضهم من بعض.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذين آمنُوا وَلم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شَيْء حَتَّى يهاجروا﴾ قطع الْمُوَالَاة بَين الْمُسلمين وَبينهمْ حَتَّى يهاجروا، وَكَانَ المُهَاجر لَا يَرث من الْأَعرَابِي، وَلَا الْأَعرَابِي من المُهَاجر، ثمَّ قَالَ: ﴿وَإِن استنصروكم فِي الدّين فَعَلَيْكُم النَّصْر﴾ يَعْنِي: وَإِن استنصروكم الَّذين لم يهاجروا فَعَلَيْكُم النَّصْر، ثمَّ اسْتثْنى وَقَالَ: ﴿إِلَّا على قوم بَيْنكُم وَبينهمْ مِيثَاق﴾ أَي: موادعة، فَلَا تنصروهم عَلَيْهِم. قَوْله: ﴿وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير﴾ مَعْنَاهُ ظَاهر.
وَالْقَوْل الثَّانِي: إِن بَعضهم يَرث من الْبَعْض.
وَقَوله ﴿إِلَّا تفعلوه﴾ يَعْنِي: إِن لم تقبلُوا هَذَا الحكم ﴿تكن فتْنَة فِي الأَرْض وَفَسَاد كَبِير﴾ الْفِتْنَة فِي الأَرْض: قُوَّة الْكفْر، وَالْفساد الْكَبِير: ضعف الْإِيمَان.
قُلْنَا: الْمُهَاجِرُونَ كَانُوا على طَبَقَات، وَكَانَ بَعضهم أهل الْهِجْرَة الأولى، وهم الَّذين هَاجرُوا قبل الْحُدَيْبِيَة، وَبَعْضهمْ أهل الْهِجْرَة الثَّانِيَة، وهم الَّذين هَاجرُوا بعد الْحُدَيْبِيَة قبل فتح مَكَّة، وَكَانَ بَعضهم ذَا هجرتين، وهما الْهِجْرَة إِلَى الْحَبَشَة وَالْهجْرَة إِلَى الْمَدِينَة؛ فَالْمُرَاد من الْآيَة الأولى الْهِجْرَة الأولى، وَالْمرَاد من الثَّانِيَة الْهِجْرَة الثَّانِيَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ هم الْمُؤْمِنُونَ حَقًا﴾ يَعْنِي: لَا مرية وَلَا ريب فِي إِيمَانهم.
قَوْله: ﴿لَهُم مغْفرَة ورزق كريم﴾ روى فِي الرزق الْكَرِيم أَن المُرَاد مِنْهُ: رزق الْجنَّة لَا يصير بخوى؛ بل يصير رشحا لَهُ ريح الْمسك.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأولُوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض فِي كتاب الله﴾ أَكثر الْمُفَسّرين على أَن هَذِه الْآيَة ناسخة لما سبق من إِثْبَات الْمِيرَاث بِالْهِجْرَةِ، فَنقل الْمِيرَاث من الْهِجْرَة إِلَى الْمِيرَاث بِالْقَرَابَةِ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فِي كتاب الله﴾ أَي: فِي حكم الله.
قَوْله: ﴿إِن الله بِكُل شَيْء عليم﴾ قَالَ أهل الْعلم: لَيْسَ المُرَاد من أولي الْأَرْحَام الأقرباء الَّذين لَيْسَ لَهُم عصوبة وَلَا فرض؛ وَإِنَّمَا المُرَاد من أولي الْأَرْحَام [أهل العصابات] ثمَّ مِيرَاث الأقرباء مَذْكُور فِي مَوضِع آخر، وَهُوَ آيَة الْمِيرَاث، وَالله أعلم.
اعْلَم أَن هَذِه السُّورَة مَدَنِيَّة، وَقد صَحَّ عَن النَّبِي بِرِوَايَة الْبَراء بن عَازِب: " أَنَّهَا آخر سُورَة أنزلت كَامِلَة " وَلها أَسمَاء كَثِيرَة.
وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه سُئِلَ عَن هَذِه السُّورَة، فَقَالَ: هِيَ الفاضحة؛ مازال ينزل قَوْله [تَعَالَى] : وَمِنْهُم، وَمِنْهُم، حَتَّى طننا أَنه لَا يتْرك منا أحدا. وَقَالَ حُذَيْفَة بن الْيَمَان: هِيَ سُورَة الْعَذَاب.
وَمن الْمَعْرُوف أَنَّهَا تسمى سُورَة البحوث، وَمن أسمائها: المبعثرة، وَمن أسمائها: المنيرة، وَمن أسمائها: الحافرة، لِأَنَّهَا حفرت عَن قُلُوب الْمُنَافِقين. وروى النقاش عَن ابْن عمر أَنَّهَا تسمى المقشقشة. وَعَن عمرَان بن حدير أَنه قَالَ: قَرَأت هَذِه السُّورَة على أَعْرَابِي، فَقَالَ: هَذِه السُّورَة أظنها آخر مَا أنزلت، فَقلت لَهُ: وَلم؟ فَقَالَ: أرى عهودا تنبذ، وعقودا تنقض.
وَعَن سعيد بن جُبَير: أَن هَذِه السُّورَة كَانَت تعدل سُورَة الْبَقَرَة فِي الطول.
وَأما الْكَلَام فِي حذف التَّسْمِيَة: رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: " قلت لعُثْمَان - رَضِي الله عَنهُ -: مَا بالكم عمدتم إِلَى سُورَة التَّوْبَة وَهِي من المئين، وَإِلَى سُورَة الْأَنْفَال وَهِي من المثاني، فقرنتم بَينهمَا وَلم تكْتبُوا سطر ﴿بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم﴾ ؟ فَقَالَ: " كَانَ إِذا أنزل على رَسُول الله الشَّيْء من الْقُرْآن دَعَا بعض من يكْتب، فَيَقُول لَهُ: ضَعْهُ فِي سُورَة كَذَا، ضَعْهُ فِي سُورَة كَذَا، وَكَانَت الْأَنْفَال من أول مَا أنزلت بِالْمَدِينَةِ، وَالتَّوْبَة من آخر مَا أنزلت، وَكَانَ قصتيهما شَبيهَة بَعْضهَا بِبَعْض، وَخرج رَسُول الله من الدُّنْيَا وَلم يبين لنا شَيْئا فظننا أَنَّهُمَا سُورَة وَاحِدَة؛ فَلذَلِك قرنا بَينهمَا وَلم نكتب ﴿بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم﴾.
وَهَذَا خبر فِي " الصَّحِيح " أوردهُ مُسلم، وروى أَن الصَّحَابَة اخْتلفُوا، فَقَالَ بَعضهم: هما سورتان، وَقَالَ بَعضهم: هما سُورَة وَاحِدَة؛ فاتفقوا أَن يفصلوا ببياض بَين السورتين، وَلَا يكتبوا: " بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم ".
وَالْقَوْل الثَّالِث: مَا حكى عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة من الْمُتَقَدِّمين، والمبرد من الْمُتَأَخِّرين: أَن السُّورَة سُورَة نقض الْعَهْد والبراءة من الْمُشْركين؛ وَالتَّسْمِيَة أَمَان وافتتاح خير؛ فَلهَذَا لم يكتبوا " بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم ".