تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
المعروف بـالتحرير والتنوير
.
لمؤلفه
ابن عاشور
.
المتوفي سنة 1393 هـ
عرفت بهذا الاسم من عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : روى الواحدي في أسباب النزول عن سعد بن أبي وقاص قال :« لما كان يوم بدر قتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاصي فأخذت سيفه فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اذهب القبض بفتحتين الموضع الذي تجمع فيه الغنائم فرجعت في ما لا يعلمه إلا الله قتل أخي وأخذ سلبي فما جاوزت قريبا حتى نزلت سورة الأنفال ».
وأخرج البخاري، عن سعيد بن جبير، قال : قلت لابن عباس سورة الأنفال قال نزلت في بدر فباسم الأنفال عرفت بين المسلمين وبه كتبت تسميتها في المصحف حين كتبت أسماء السور في زمن الحجاج، ولم يثبت في تسميتها حديث، وتسميتها سورة الأنفال من أنها افتتحت بآية فيها اسم الأنفال، ومن أجل أنها ذكر فيها حكم الأنفال كما سيأتي.
وتسمى أيضا سورة بدر ففي الإتقان أخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : سورة الأنفال قال تلك سورة بدر.
وقد اتفق رجال الأثر كلهم على أنها نزلت في غزوة بدر : قال ابن إسحاق أنزلت في أمر بدر سورة الأنفال بأسرها، وكانت غزوة بدر في رمضان من العام الثاني للهجرة بعد عام ونصف من يوم الهجرة، وذلك بعد تحويل القبلة بشهرين، وكان ابتداء نزولها قبل الانصراف من بدر فإن الآية الأولى منها نزلت والمسلمون في بدر قبل قسمة مغانمها، كما دل عليه حديث سعد بن أبي وقاص والظاهر أنها استمر نزولها إلى ما بعد الانصراف من بدر.
وفي كلام أهل أسباب النزول ما يقتضي أن آية ﴿ الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ﴾ إلى ﴿ مع الصابرين ﴾ نزلت بعد نزول السورة بمدة طويلة، كما روي عن ابن عباس، وسيأتي تحقيقه هنالك.
وقال جماعة من المفسرين إن آيات ﴿ يا أيها النبي حسبك الله ﴾ إلى ﴿ لا يفقهون ﴾ نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل ابتداء القتال، فتكون تلك الآية نزلت قبل نزول أول السورة.
نزلت هذه السورة بعد سورة البقرة، ثم قيل هي الثانية نزولا بالمدينة، وقيل نزلت البقرة ثم آل عمران ثم الانفال، والأصح أنها ثانية السور بالمدينة نزولا بعد سورة البقرة.
وقد بينت في المقدمات أن نزول سورة بعد أخرى لا يفهم منه أن التالية تنزل بعد انقضاء نزول التي قبلها، بل قد يبتدأ نزول سورة قبل انتهاء السورة التي ابتدئ نزولها قبل، ولعل سورة الأنفال قد انتهت قبل انتهاء نزول سورة البقرة، لأن الأحكام التي تضمنتها سورة الأنفال من جنس واحد وهي أحكام المغانم والقتال، وتفننت إحكام سورة البقرة أفانين كثيرة : من أحكام المعاملات الاجتماعية، ومن الجائز أن تكون البقرة نزلت بعد نزولها بقليل سورة آل عمران، وبعد نزول آل عمران بقليل نزلت الأنفال، فكان ابتداء نزول الأنفال قبل انتهاء نزول البقرة وآل عمران وفي تفسير ابن عطية عند قوله تعالى ﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ﴾ من هذه السورة قالت فرقة نزلت هذه الآية كلها بمكة قال ابن أبزى نزل قوله ﴿ وما كان الله ليعذبهم ﴾ بمكة إثر قولهم ﴿ أو ائتنا بعذاب أليم ﴾ ونزل قوله ﴿ وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ﴾ عند خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد بقي بمكة مؤمنون يستغفرون ونزل قوله ﴿ وما لهم أن لا يعذبهم الله ﴾ بعد بدر.
وقد عدت السورة التاسعة والثمانين في عداد نزول سور القرآن في رواية جابر بن زيد عن ابن عباس، وإنها نزلت بعد سورة آل عمران وقبل سورة الأحزاب.
وعدد آيها، في عد أهل المدينة. وأهل مكة وأهل البصرة : ست وسبعون، وفي عد أهل الشام سبع وسبعون، وفي عد أهل الكوفة خمس وسبعون.
ونزولها بسبب اختلاف أهل بدر في غنائم يوم بدر وأنفاله، وقيل بسبب ما سأله بعض الغزاة النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم من الأنفال، كما سيأتي عند تفسير أول آية منها.
أغراض هذه السورة
ابتدأت ببيان أحكام الأنفال وهي الغنائم وقسمتها ومصارفها.
والأمر بتقوى الله في ذلك وغيره.
والأمر بطاعة الله ورسوله، في أمر الغنائم وغيرها.
وأمر المسلمين بإصلاح ذات بينهم، وأن ذلك من مقومات معنى الإيمان الكامل.
وذكر الخروج إلى غزوة بدر وبخوفهم من قوة عددهم وما لقوا فيها من نصر. وتأييد من الله ولطفه بهم.
وامتنان الله عليهم بأن جعلهم أقوياء.
ووعدهم بالنصر والهواية أن اتقوا بالثبات للعدو، والصبر.
والأمر بالاستعداد لحرب الأعداء.
والأمر باجتماع الكلمة والنهي عن التنازع.
والأمر بان يكون قصد النصرة للدين نصب أعينهم.
ووصف السبب الذي أخرج المسلمين إلى بدر.
وذكر مواقع الجيشين، وصفات ما جرى من القتال.
وتذكير النبي صلى الله عليه وسلم بنعمة الله عليه إذ أنجاه من مكر المشركين به بمكة وخلصه من عنادهم، وان مقامه بمكة كان أمانا لأهلها فلما فارقهم فقد حق عليهم عذاب الدنيا بما اقترفوا من الصد عن المسجد الحرام.
ودعوة المشركين للانتهاء عن مناوأة الإسلام وإيذانهم بالقتال.
والتحذير من المنافقين.
وضرب المثل بالأمم الماضية التي عاندت رسل الله ولم يشكروا نعمة الله.
وأحكام العهد بين المسلمين والكفار وما يترتب على نقضهم العهد، ومتى يحسن السلم.
وأحكام الأسرى.
وأحكام المسلمين الذين تخلفوا في مكة بعد الهجرة. وولايتهم وما يترتب على تلك الولاية.
وأخرج البخاري، عن سعيد بن جبير، قال : قلت لابن عباس سورة الأنفال قال نزلت في بدر فباسم الأنفال عرفت بين المسلمين وبه كتبت تسميتها في المصحف حين كتبت أسماء السور في زمن الحجاج، ولم يثبت في تسميتها حديث، وتسميتها سورة الأنفال من أنها افتتحت بآية فيها اسم الأنفال، ومن أجل أنها ذكر فيها حكم الأنفال كما سيأتي.
وتسمى أيضا سورة بدر ففي الإتقان أخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : سورة الأنفال قال تلك سورة بدر.
وقد اتفق رجال الأثر كلهم على أنها نزلت في غزوة بدر : قال ابن إسحاق أنزلت في أمر بدر سورة الأنفال بأسرها، وكانت غزوة بدر في رمضان من العام الثاني للهجرة بعد عام ونصف من يوم الهجرة، وذلك بعد تحويل القبلة بشهرين، وكان ابتداء نزولها قبل الانصراف من بدر فإن الآية الأولى منها نزلت والمسلمون في بدر قبل قسمة مغانمها، كما دل عليه حديث سعد بن أبي وقاص والظاهر أنها استمر نزولها إلى ما بعد الانصراف من بدر.
وفي كلام أهل أسباب النزول ما يقتضي أن آية ﴿ الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ﴾ إلى ﴿ مع الصابرين ﴾ نزلت بعد نزول السورة بمدة طويلة، كما روي عن ابن عباس، وسيأتي تحقيقه هنالك.
وقال جماعة من المفسرين إن آيات ﴿ يا أيها النبي حسبك الله ﴾ إلى ﴿ لا يفقهون ﴾ نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل ابتداء القتال، فتكون تلك الآية نزلت قبل نزول أول السورة.
نزلت هذه السورة بعد سورة البقرة، ثم قيل هي الثانية نزولا بالمدينة، وقيل نزلت البقرة ثم آل عمران ثم الانفال، والأصح أنها ثانية السور بالمدينة نزولا بعد سورة البقرة.
وقد بينت في المقدمات أن نزول سورة بعد أخرى لا يفهم منه أن التالية تنزل بعد انقضاء نزول التي قبلها، بل قد يبتدأ نزول سورة قبل انتهاء السورة التي ابتدئ نزولها قبل، ولعل سورة الأنفال قد انتهت قبل انتهاء نزول سورة البقرة، لأن الأحكام التي تضمنتها سورة الأنفال من جنس واحد وهي أحكام المغانم والقتال، وتفننت إحكام سورة البقرة أفانين كثيرة : من أحكام المعاملات الاجتماعية، ومن الجائز أن تكون البقرة نزلت بعد نزولها بقليل سورة آل عمران، وبعد نزول آل عمران بقليل نزلت الأنفال، فكان ابتداء نزول الأنفال قبل انتهاء نزول البقرة وآل عمران وفي تفسير ابن عطية عند قوله تعالى ﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ﴾ من هذه السورة قالت فرقة نزلت هذه الآية كلها بمكة قال ابن أبزى نزل قوله ﴿ وما كان الله ليعذبهم ﴾ بمكة إثر قولهم ﴿ أو ائتنا بعذاب أليم ﴾ ونزل قوله ﴿ وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ﴾ عند خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد بقي بمكة مؤمنون يستغفرون ونزل قوله ﴿ وما لهم أن لا يعذبهم الله ﴾ بعد بدر.
وقد عدت السورة التاسعة والثمانين في عداد نزول سور القرآن في رواية جابر بن زيد عن ابن عباس، وإنها نزلت بعد سورة آل عمران وقبل سورة الأحزاب.
وعدد آيها، في عد أهل المدينة. وأهل مكة وأهل البصرة : ست وسبعون، وفي عد أهل الشام سبع وسبعون، وفي عد أهل الكوفة خمس وسبعون.
ونزولها بسبب اختلاف أهل بدر في غنائم يوم بدر وأنفاله، وقيل بسبب ما سأله بعض الغزاة النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم من الأنفال، كما سيأتي عند تفسير أول آية منها.
أغراض هذه السورة
ابتدأت ببيان أحكام الأنفال وهي الغنائم وقسمتها ومصارفها.
والأمر بتقوى الله في ذلك وغيره.
والأمر بطاعة الله ورسوله، في أمر الغنائم وغيرها.
وأمر المسلمين بإصلاح ذات بينهم، وأن ذلك من مقومات معنى الإيمان الكامل.
وذكر الخروج إلى غزوة بدر وبخوفهم من قوة عددهم وما لقوا فيها من نصر. وتأييد من الله ولطفه بهم.
وامتنان الله عليهم بأن جعلهم أقوياء.
ووعدهم بالنصر والهواية أن اتقوا بالثبات للعدو، والصبر.
والأمر بالاستعداد لحرب الأعداء.
والأمر باجتماع الكلمة والنهي عن التنازع.
والأمر بان يكون قصد النصرة للدين نصب أعينهم.
ووصف السبب الذي أخرج المسلمين إلى بدر.
وذكر مواقع الجيشين، وصفات ما جرى من القتال.
وتذكير النبي صلى الله عليه وسلم بنعمة الله عليه إذ أنجاه من مكر المشركين به بمكة وخلصه من عنادهم، وان مقامه بمكة كان أمانا لأهلها فلما فارقهم فقد حق عليهم عذاب الدنيا بما اقترفوا من الصد عن المسجد الحرام.
ودعوة المشركين للانتهاء عن مناوأة الإسلام وإيذانهم بالقتال.
والتحذير من المنافقين.
وضرب المثل بالأمم الماضية التي عاندت رسل الله ولم يشكروا نعمة الله.
وأحكام العهد بين المسلمين والكفار وما يترتب على نقضهم العهد، ومتى يحسن السلم.
وأحكام الأسرى.
وأحكام المسلمين الذين تخلفوا في مكة بعد الهجرة. وولايتهم وما يترتب على تلك الولاية.
ﰡ
[١]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ١]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١)افْتِتَاحُ السُّورَة ب يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَعْلَمُوا مَاذَا يَكُونُ فِي شَأْنِ الْمُسَمَّى عِنْدَهُمُ الْأَنْفالِ وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَنَّهُمْ حَاوَرُوا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِصَرِيحِ السُّؤَالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَاصِمُ أَوْ يُجَادِلُ غَيْرَهُ بِمَا يُؤْذِنُ حَالُهُ بِأَنَّهُ يَتَطَلَّبُ فَهْمًا فِي هَذَا الشَّأْنِ، وَقَدْ تَكَرَّرَتِ الْحَوَادِثُ يَوْمَئِذٍ:
فَفِي «صَحِيح مُسلم»، و «جَامع التِّرْمِذِيِّ» عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ- أَصَبْتُ سَيْفًا لِسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِي فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ نَفِّلْنِيهِ، فَقَالَ: ضَعْهُ (فِي الْقَبَضِ)، ثُمَّ قُلْتُ: نَفِّلْنِيهِ فَقَالَ ضَعْهُ حَيْثُ أَخَذْتَهُ، ثُمَّ قُلْتُ: نَفِّلْنِيهِ فَقَالَ: ضَعْهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذته، فَنزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ»
وَفِي «أَسْبَابِ النُّزُول» لِلْوَاحِدِيِّ، و «سيرة ابْنِ إِسْحَاقَ» عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْأَنْفَالِ فَقَالَ: فِينَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ بَدْرٍ نَزَلَتْ حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النَّفَلِ يَوْمَ بَدْرٍ فَانْتَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ أَيْدِينَا حِينَ سَاءَتْ فِيهِ أَخْلَاقُنَا فَرَدَّهُ عَلَى رَسُولِهِ فَقَسَمَهُ بَيْنَنَا عَلَى بَوَاءٍ يَقُولُ عَلَى السَّوَاءِ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
«لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ ذَهَبَ الشُّبَّانُ لِلْقِتَالِ وَجَلَسَ الشُّيُوخُ تَحْتَ الرَّايَاتِ فَلَمَّا كَانَتِ الْغَنِيمَةُ جَاءَ الشُّبَّانُ يَطْلُبُونَ نَفَلَهُمْ فَقَالَ الشُّيُوخُ: لَا تَسْتَأْثِرُونَ عَلَيْنَا فَإِنَّا كُنَّا تَحْتَ الرَّايَاتِ وَلَوِ انْهَزَمْتُمْ لَكُنَّا رِدْءًا لَكُمْ، وَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ.
وَالسُّؤَالُ حَقِيقَتُهُ الطَّلَبُ، فَإِذا عدّي ب (عَن) فَهُوَ طَلَبُ معرفَة الْمَجْرُور ب (عَن) وَإِذَا عُدِّيَ بِنَفْسِهِ فَهُوَ طَلَبُ إِعْطَاءِ الشَّيْءِ، فَالْمَعْنَى، هُنَا: يَسْأَلُونَكَ مَعْرِفَةَ الْأَنْفَالِ، أَيْ مَعْرِفَةَ حَقِّهَا فَهُوَ مِنْ تَعْلِيقِ الْفِعْلِ بِاسْمِ ذَاتٍ، وَالْمُرَادُ حَالُهَا بِحَسَبِ الْقَرِينَةِ مِثْلَ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: ٣] وَإِنَّمَا سَأَلُوا عَنْ حُكْمِهَا صَرَاحَةً وَضِمْنًا فِي ضِمْنِ سُؤَالِهِمُ الْأَثَرَةَ بِبَعْضِهَا.
وَمَجِيءُ الْفِعْلِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ دَالٌّ عَلَى تَكَرُّرِ السُّؤَالِ، إِمَّا بِإِعَادَتِهِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْأُخْرَى مِنْ سَائِلَيْنِ مُتَعَدِّدَيْنِ، وَإِمَّا بِكَثْرَةِ السَّائِلِينَ عَنْ ذَلِكَ حِينَ الْمُحَاوَرَةِ فِي مَوْقِفٍ وَاحِدٍ.
وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْله يَسْئَلُونَكَ موذنا بتنازع بَين الْجَيْش فِي اسْتِحْقَاقِ الْأَنْفَالِ، وَقَدْ
كَانَتْ لَهُمْ عَوَائِدُ مُتَّبَعَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي الْغَنَائِمِ وَالْأَنْفَالِ أَرَادُوا الْعَمَلَ بِهَا وَتَخَالَفُوا فِي شَأْنِهَا فَسَأَلُوا،
248
وَضَمِيرُ جَمْعِ الْغَائِبِ إِلَى مَعْرُوفٍ عِنْدَ النَّبِيءِ وَبَيْنَ السَّامِعِينَ حِينَ نزُول الْآيَة.
و (الْأَنْفَال) جَمْعُ نَفَلَ- بِالتَّحْرِيكِ- وَالنَّفَلُ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّافِلَةِ وَهِيَ الزِّيَادَةُ فِي الْعَطَاءِ، وَقَدْ أَطْلَقَ الْعَرَبُ فِي الْقَدِيمِ الْأَنْفَالَ عَلَى الْغَنَائِمِ فِي الْحَرْبِ كَأَنَّهُمُ اعْتَبَرُوهَا زِيَادَةً عَلَى الْمَقْصُودِ مِنَ الْحَرْبِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَهَمَّ مِنَ الْحَرْبِ هُوَ إِبَادَةُ الْأَعْدَاءِ، وَلِذَلِكَ رُبَّمَا كَانَ صَنَادِيدُهُمْ يَأْبَوْنَ أَخْذَ الْغَنَائِمِ كَمَا قَالَ عَنْتَرَةُ:
وَأَقْوَالُهُمْ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، فَإِطْلَاقُ الْأَنْفَالِ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى الْغَنَائِمِ مَشْهُورٌ قَالَ عَنْتَرَةُ:
وَقَدْ قَالَ فِي الْقَصِيدَةِ الْأُخْرَى:
وَأَعِفُّ عِنْدَ الْمَغْنَمِ فَعَلَّمَنَا أَنَّهُ يُرِيدُ مِنَ الْأَنْفَالِ الْمَغَانِمَ وَقَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ الْأَسَدِيُّ وَهُوَ جَاهِلِيٌّ:
وَيَقُولُونَ نَفَّلَنِي كَذَا يُرِيدُونَ أَغْنَمَنِي، حَتَّى صَارَ النَّفَلُ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُعْطَاهُ الْمُقَاتِلُ مِنَ الْمَغْنَمِ زِيَادَةً عَلَى قِسْطِهِ مِنَ الْمَغْنَمِ لِمَزِيَّةٍ لَهُ فِي الْبَلَاءِ وَالْغَنَاءِ أَوْ عَلَى مَا يَعْثُرُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ قَتِيلِهِ، وَهَذَا صِنْفٌ مِنَ الْمَغَانِمِ.
فَالْمَغَانِمُ، إِذَنْ، تَنْقَسِمُ إِلَى: مَا قَصَدَ الْمُقَاتِلُ أَخْذَهُ مِنْ مَالِ الْعَدُوِّ مِثْلَ نَعَمِهِمْ، وَمِثْلَ مَا عَلَى الْقَتْلَى مِنْ لِبَاسٍ وَسِلَاحٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَاتِلِ، وَفِيمَا مَا لَمْ يَقْصِدْهُ الْمُقَاتِلُونَ مِمَّا عَثَرُوا عَلَيْهِ مِثْلَ لِبَاسِ قَتِيلٍ لَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ، فَاحْتَمَلَتِ الْأَنْفَالُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْمَغَانِمِ مُطْلَقًا، وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى مَا يُزَادُ لِلْمُقَاتِلِ عَلَى حَقِّهِ مِنَ الْمَغْنَمِ، فَحَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ كَانَ سُؤَالًا عَنْ تَنْفِيلٍ بِمَعْنَى زِيَادَةٍ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَكَى وُقُوعَ اخْتِلَافٍ فِي قِسْمَةِ الْمَغْنَمِ بَيْنَ مَنْ قَاتَلَ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، عَلَى أَنَّ طَلَبَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلُوا الْمُشَارِكَةَ فِي الْمَغْنَمِ يَرْجِعُ إِلَى طَلَبِ تَنْفِيلٍ، فَيَبْقَى النَّفَلُ فِي مَعْنَى الزِّيَادَةِ. وَلِأَجْلِ التَّوَسُّعِ فِي أَلْفَاظِ أَمْوَالِ الْغَنَائِمِ تَرَدَّدَ السَّلَفُ فِي الْمَعْنِيِّ مِنَ الْأَنْفَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ الْأَنْفَالِ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ قَالَ «الْفَرَسُ مِنَ النَّفَلِ وَالدِّرْعُ مِنَ النَّفَلِ» كَمَا فِي «الْمُوَطَّأِ»، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ
قَالَ: «وَالسَّلَبُ مِنَ النَّفَلِ» كَمَا فِي «كِتَابِ أَبِي عُبَيْدٍ» وَغَيْرِهِ.
وَقَدْ أَطْلَقُوا النَّفَلَ أَيْضًا عَلَى مَا صَارَ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُشْرِكِينَ بِدُونِ انْتِزَاعٍ وَلَا افْتِكَاكٍ كَمَا يُوجَدُ الشَّيْءُ لَا يَعْرَفُ مَنْ
و (الْأَنْفَال) جَمْعُ نَفَلَ- بِالتَّحْرِيكِ- وَالنَّفَلُ مُشْتَقٌّ مِنَ النَّافِلَةِ وَهِيَ الزِّيَادَةُ فِي الْعَطَاءِ، وَقَدْ أَطْلَقَ الْعَرَبُ فِي الْقَدِيمِ الْأَنْفَالَ عَلَى الْغَنَائِمِ فِي الْحَرْبِ كَأَنَّهُمُ اعْتَبَرُوهَا زِيَادَةً عَلَى الْمَقْصُودِ مِنَ الْحَرْبِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَهَمَّ مِنَ الْحَرْبِ هُوَ إِبَادَةُ الْأَعْدَاءِ، وَلِذَلِكَ رُبَّمَا كَانَ صَنَادِيدُهُمْ يَأْبَوْنَ أَخْذَ الْغَنَائِمِ كَمَا قَالَ عَنْتَرَةُ:
يُخْبِرُكِ مَنْ شَهِدَ الْوَقِيعَةَ أَنَّنِي | أَغْشَى الْوَغَى وَأَعِفُّ عِنْدَ الْمَغْنَمِ |
إِنَّا إِذا احمرا الْوَغَى نَرْوِي الْقَنَا | وَنَعِفُّ عِنْدَ مَقَاسِمِ الْأَنْفَالِ |
وَأَعِفُّ عِنْدَ الْمَغْنَمِ فَعَلَّمَنَا أَنَّهُ يُرِيدُ مِنَ الْأَنْفَالِ الْمَغَانِمَ وَقَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ الْأَسَدِيُّ وَهُوَ جَاهِلِيٌّ:
نَكَصْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ثُمَّ جِئْتُمُو | تَرْجُونَ أَنْفَالَ الْخَمِيسِ الْعَرَمْرَمِ |
فَالْمَغَانِمُ، إِذَنْ، تَنْقَسِمُ إِلَى: مَا قَصَدَ الْمُقَاتِلُ أَخْذَهُ مِنْ مَالِ الْعَدُوِّ مِثْلَ نَعَمِهِمْ، وَمِثْلَ مَا عَلَى الْقَتْلَى مِنْ لِبَاسٍ وَسِلَاحٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَاتِلِ، وَفِيمَا مَا لَمْ يَقْصِدْهُ الْمُقَاتِلُونَ مِمَّا عَثَرُوا عَلَيْهِ مِثْلَ لِبَاسِ قَتِيلٍ لَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ، فَاحْتَمَلَتِ الْأَنْفَالُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْمَغَانِمِ مُطْلَقًا، وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى مَا يُزَادُ لِلْمُقَاتِلِ عَلَى حَقِّهِ مِنَ الْمَغْنَمِ، فَحَدِيثُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ كَانَ سُؤَالًا عَنْ تَنْفِيلٍ بِمَعْنَى زِيَادَةٍ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَكَى وُقُوعَ اخْتِلَافٍ فِي قِسْمَةِ الْمَغْنَمِ بَيْنَ مَنْ قَاتَلَ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، عَلَى أَنَّ طَلَبَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلُوا الْمُشَارِكَةَ فِي الْمَغْنَمِ يَرْجِعُ إِلَى طَلَبِ تَنْفِيلٍ، فَيَبْقَى النَّفَلُ فِي مَعْنَى الزِّيَادَةِ. وَلِأَجْلِ التَّوَسُّعِ فِي أَلْفَاظِ أَمْوَالِ الْغَنَائِمِ تَرَدَّدَ السَّلَفُ فِي الْمَعْنِيِّ مِنَ الْأَنْفَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ الْأَنْفَالِ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ قَالَ «الْفَرَسُ مِنَ النَّفَلِ وَالدِّرْعُ مِنَ النَّفَلِ» كَمَا فِي «الْمُوَطَّأِ»، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ
قَالَ: «وَالسَّلَبُ مِنَ النَّفَلِ» كَمَا فِي «كِتَابِ أَبِي عُبَيْدٍ» وَغَيْرِهِ.
وَقَدْ أَطْلَقُوا النَّفَلَ أَيْضًا عَلَى مَا صَارَ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُشْرِكِينَ بِدُونِ انْتِزَاعٍ وَلَا افْتِكَاكٍ كَمَا يُوجَدُ الشَّيْءُ لَا يَعْرَفُ مَنْ
249
غَنِمَهُ، وَكَمَا يُوجَدُ الْقَتِيلُ عَلَيْهِ ثِيَابُهُ لَا يُعْرَفُ قَاتِلُهُ، فَيَدْخُلُ بِهَذَا الْإِطْلَاقِ تَحْتَ جِنْسِ الْفَيْءِ كَمَا سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَشْرِ [٦، ٧] بِقَوْلِهِ: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ- إِلَى قَوْلِهِ- بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَذَلِكَ مِثْلُ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ الَّتِي سَلَّمُوهَا قَبْلَ الْقِتَالِ وَفَرُّوا.
وَبِهَذَا تَتَحَصَّلُ فِي أَسْمَاءِ الْأَمْوَالِ الْمَأْخُوذَةِ مِنَ الْعَدُوِّ فِي الْقِتَالِ ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ:
الْمَغْنَمُ، وَالْفَيْءُ، وَهُمَا نَوْعَانِ، وَالنَّفَلُ. وَهُوَ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ الْقِسْمَةِ وَكَانَتْ مُتَدَاخِلَةً، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُ الْغَزْوِ فِي الْمُسْلِمِينَ خُصَّ كُلُّ اسْمٍ بِصِنْفٍ خَاصٍّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْفَال: ٤١] الْآيَةَ، وَلَا تَقْتَضِي اللُّغَةُ هَذَا التَّخْصِيصَ أَيْ تَخْصِيصُ اسْمِ الْغَنِيمَةِ بِمَالِ الْكُفَّارِ إِذَا أَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وَجْهِ الْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ، وَلَكِنَّ عُرْفَ الشَّرْعِ قَيَّدَ اللَّفْظَ بِهَذَا النَّوْعِ فَسَمَّى الْوَاصِلَ مِنَ الْكُفَّارِ إِلَيْنَا مِنَ الْأَمْوَالِ بِاسْمَيْنِ (أَيْ لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ) غَنِيمَةً وَفَيْئًا يَعْنِي وَأَمَّا النَّفَلُ فَهُوَ اسْمٌ لِنَوْعٍ مِنْ مَقْسُومِ الْغَنِيمَةِ لَا لِنَوْعٍ مِنَ الْمَغْنَمِ.
وَالَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ النَّفَلَ مَا يُعْطِيهِ الْإِمَامُ مِنَ الْخُمُسِ لِمَنْ يَرَى إِعْطَاءَهُ إِيَّاهُ، مِمَّنْ لَمْ يَغْنَمْ ذَلِكَ بِقِتَالٍ.
فَالْأَنْفَالُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ الْجُمْهُورُ: الْمُرَادُ بِهَا مَا كَانَ زَائِدًا عَلَى الْمَغْنَمِ. فَيَكُونُ النَّظَرُ فِيهِ لِأَمِيرِ الْجَيْشِ يَصْرِفُهُ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ يُعْطِيهِ لِبَعْضِ أَهْلِ الْجَيْشِ لِإِظْهَارِ مَزِيَّةِ الْبَطَلِ، أَوْ لِخَصْلَةٍ عَظِيمَةٍ يَأْتِي بِهَا، أَوْ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى النِّكَايَةِ فِي الْعَدُوِّ.
فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ»
وَقَدْ جَعَلَهَا الْقُرْآنُ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ، أَيْ لِمَا يَأْمُرُ بِهِ اللَّهُ رَسُولَهُ أَوْ لِمَا يَرَاهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» «وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ إِلَّا يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَلَا بَلَغَنَا عَنِ الْخُلَفَاءِ مِنْ بَعْدِهِ» (يَعْنِي مَعَ تَكَرُّرِ مَا يَقْتَضِيهِ فَأَرَادَ ذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ قَضِيَّةٌ خَاصَّةٌ بِيَوْمِ حُنَيْنٍ).
فَالْآيَةُ مَحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ بِقَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الْأَنْفَال: ٤١] فَيَكُونُ لِكُلِّ آيَةٍ مِنْهُمَا حُكْمُهَا إِذْ لَا تَدَاخُلَ بَيْنَهُمَا، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ:
وَهُوَ مَا حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا.
وَبِهَذَا تَتَحَصَّلُ فِي أَسْمَاءِ الْأَمْوَالِ الْمَأْخُوذَةِ مِنَ الْعَدُوِّ فِي الْقِتَالِ ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ:
الْمَغْنَمُ، وَالْفَيْءُ، وَهُمَا نَوْعَانِ، وَالنَّفَلُ. وَهُوَ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ الْقِسْمَةِ وَكَانَتْ مُتَدَاخِلَةً، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ أَمْرُ الْغَزْوِ فِي الْمُسْلِمِينَ خُصَّ كُلُّ اسْمٍ بِصِنْفٍ خَاصٍّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْفَال: ٤١] الْآيَةَ، وَلَا تَقْتَضِي اللُّغَةُ هَذَا التَّخْصِيصَ أَيْ تَخْصِيصُ اسْمِ الْغَنِيمَةِ بِمَالِ الْكُفَّارِ إِذَا أَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وَجْهِ الْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ، وَلَكِنَّ عُرْفَ الشَّرْعِ قَيَّدَ اللَّفْظَ بِهَذَا النَّوْعِ فَسَمَّى الْوَاصِلَ مِنَ الْكُفَّارِ إِلَيْنَا مِنَ الْأَمْوَالِ بِاسْمَيْنِ (أَيْ لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ) غَنِيمَةً وَفَيْئًا يَعْنِي وَأَمَّا النَّفَلُ فَهُوَ اسْمٌ لِنَوْعٍ مِنْ مَقْسُومِ الْغَنِيمَةِ لَا لِنَوْعٍ مِنَ الْمَغْنَمِ.
وَالَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ النَّفَلَ مَا يُعْطِيهِ الْإِمَامُ مِنَ الْخُمُسِ لِمَنْ يَرَى إِعْطَاءَهُ إِيَّاهُ، مِمَّنْ لَمْ يَغْنَمْ ذَلِكَ بِقِتَالٍ.
فَالْأَنْفَالُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ الْجُمْهُورُ: الْمُرَادُ بِهَا مَا كَانَ زَائِدًا عَلَى الْمَغْنَمِ. فَيَكُونُ النَّظَرُ فِيهِ لِأَمِيرِ الْجَيْشِ يَصْرِفُهُ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ يُعْطِيهِ لِبَعْضِ أَهْلِ الْجَيْشِ لِإِظْهَارِ مَزِيَّةِ الْبَطَلِ، أَوْ لِخَصْلَةٍ عَظِيمَةٍ يَأْتِي بِهَا، أَوْ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى النِّكَايَةِ فِي الْعَدُوِّ.
فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ»
وَقَدْ جَعَلَهَا الْقُرْآنُ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ، أَيْ لِمَا يَأْمُرُ بِهِ اللَّهُ رَسُولَهُ أَوْ لِمَا يَرَاهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» «وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ إِلَّا يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَلَا بَلَغَنَا عَنِ الْخُلَفَاءِ مِنْ بَعْدِهِ» (يَعْنِي مَعَ تَكَرُّرِ مَا يَقْتَضِيهِ فَأَرَادَ ذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ قَضِيَّةٌ خَاصَّةٌ بِيَوْمِ حُنَيْنٍ).
فَالْآيَةُ مَحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ بِقَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الْأَنْفَال: ٤١] فَيَكُونُ لِكُلِّ آيَةٍ مِنْهُمَا حُكْمُهَا إِذْ لَا تَدَاخُلَ بَيْنَهُمَا، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ:
وَهُوَ مَا حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا.
250
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَمُجَاهِدٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَقَتَادَةَ وَعَطَاءٍ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَنْفَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْغَنَائِمُ مُطْلَقًا. وَجَعَلُوا حُكْمَهَا هُنَا أَنَّهَا جُعِلَتْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ أَيْ أَنْ يُقَسِّمَهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَسْبِ مَا يَرَاهُ، بِلَا تَحْدِيدٍ وَلَا اطِّرَادٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَّلِ قِسْمَةٍ وَقَعَتْ بِبَدْرٍ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الْأَنْفَال: ٤١] الْآيَةَ إِذْ كَانَ قَدْ عَيَّنَ أَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ لِلْجَيْشِ، فَجَعَلَ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ الْخُمُسَ، وَجعل أَرْبَعَة الْأَخْمَاس حَقًّا لِلْمُجَاهِدِينَ. يَعْنِي وَبَقِيَ حُكْمُ الْفَيْءِ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ الْحَشْرِ غَيْرَ مَنْسُوخٍ وَلَا نَاسِخٍ، فَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَالْجُمْهُورُ: لَا نَفَلَ إِلَّا مِنَ الْخُمُسِ عَلَى الِاجْتِهَادِ مِنَ الْإِمَامِ وَقَالَ مَالِكٌ: «إِعْطَاء السَّلَبِ مِنَ التَّنْفِيلِ»، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَنْفَالُ هِيَ خُمُسُ الْمَغَانِمِ وَهُوَ الْمَجْعُولُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِلَّهِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي مَعْنَى الْأَنْفَالِ: لَامُ الْمِلْكِ، لِأَنَّ النَّفَلَ لَا يُحْسَبُ مِنَ الْغَنَائِمِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ حَقِّ الْغُزَاةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَالٍ لَا يُعْرَفُ مُسْتَحِقُّهُ، فَيُقَالُ هُوَ مِلْكٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَيُعْطِيهِ الرَّسُولُ لِمَنْ شَاءَ بِأَمْرِ اللَّهِ أَوْ بِاجْتِهَادِهِ، وَهَذَا ظَاهِرُ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي «التِّرْمِذِيِّ» إِذْ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَأَلْتَنِي هَذَا السَّيْف- معنى السَّيْفَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ- وَلَمْ يَكُنْ لِي وَقَدْ صَارَ لِي فَهُوَ لَكَ».
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، الْجَامِعِ لِجَمِيعِ الْمَغَانِمِ، فَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ، أَيِ: الْأَنْفَالُ تَخْتَصُّ بِاللَّهِ وَالرَّسُولِ، أَيْ حُكْمُهَا وَصَرْفُهَا، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ (إِلَى). تَقُولُ: هَذَا لَكَ أَيْ: إِلَى حُكْمِكَ مَرْدُودٌ، وَأَنَّ أَصْحَابَ ذَلِكَ الْقَوْلِ رَأَوْا أَنَّ الْمَغَانِمَ لَمْ تَكُنْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مُخَمَّسَةً بَلْ كَانَتْ تُقْسَمُ بِاجْتِهَادِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ خُمِّسَتْ بِآيَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الْأَنْفَال: ٤١] الْآيَةَ.
وَعُطِفَ «وَلِلرَّسُولِ» عَلَى اسْمِ اللَّهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ: الْأَنْفَالُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَسِّمُهَا فَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ قَبْلَ ذَلِكَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَ حَقًّا لِلْغُزَاةِ وَإِنَّمَا هِيَ لِمَنْ يُعَيِّنُهُ اللَّهُ بِوَحْيِهِ فَذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ لِفَائِدَتَيْنِ: أُولَاهُمَا: أَنَّ الرَّسُولَ إِنَّمَا يَتَصَرَّفُ فِي الْأَنْفَالِ بِإِذن الله توقيفا أَوْ تَفْوِيضًا. وَالثَّانِيَةُ: لِتَشْمَلَ الْآيَةُ تَصَرُّفَ أُمَرَاءِ الْجُيُوشِ فِي غَيْبَةِ الرَّسُولِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ مَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ كَانَ التَّصَرُّفُ فِيهِ لِخُلَفَائِهِ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِلَّهِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِي مَعْنَى الْأَنْفَالِ: لَامُ الْمِلْكِ، لِأَنَّ النَّفَلَ لَا يُحْسَبُ مِنَ الْغَنَائِمِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ حَقِّ الْغُزَاةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَالٍ لَا يُعْرَفُ مُسْتَحِقُّهُ، فَيُقَالُ هُوَ مِلْكٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، فَيُعْطِيهِ الرَّسُولُ لِمَنْ شَاءَ بِأَمْرِ اللَّهِ أَوْ بِاجْتِهَادِهِ، وَهَذَا ظَاهِرُ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي «التِّرْمِذِيِّ» إِذْ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَأَلْتَنِي هَذَا السَّيْف- معنى السَّيْفَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ- وَلَمْ يَكُنْ لِي وَقَدْ صَارَ لِي فَهُوَ لَكَ».
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، الْجَامِعِ لِجَمِيعِ الْمَغَانِمِ، فَاللَّامُ لِلِاخْتِصَاصِ، أَيِ: الْأَنْفَالُ تَخْتَصُّ بِاللَّهِ وَالرَّسُولِ، أَيْ حُكْمُهَا وَصَرْفُهَا، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ (إِلَى). تَقُولُ: هَذَا لَكَ أَيْ: إِلَى حُكْمِكَ مَرْدُودٌ، وَأَنَّ أَصْحَابَ ذَلِكَ الْقَوْلِ رَأَوْا أَنَّ الْمَغَانِمَ لَمْ تَكُنْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مُخَمَّسَةً بَلْ كَانَتْ تُقْسَمُ بِاجْتِهَادِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ خُمِّسَتْ بِآيَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الْأَنْفَال: ٤١] الْآيَةَ.
وَعُطِفَ «وَلِلرَّسُولِ» عَلَى اسْمِ اللَّهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ: الْأَنْفَالُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَسِّمُهَا فَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ قَبْلَ ذَلِكَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَ حَقًّا لِلْغُزَاةِ وَإِنَّمَا هِيَ لِمَنْ يُعَيِّنُهُ اللَّهُ بِوَحْيِهِ فَذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ لِفَائِدَتَيْنِ: أُولَاهُمَا: أَنَّ الرَّسُولَ إِنَّمَا يَتَصَرَّفُ فِي الْأَنْفَالِ بِإِذن الله توقيفا أَوْ تَفْوِيضًا. وَالثَّانِيَةُ: لِتَشْمَلَ الْآيَةُ تَصَرُّفَ أُمَرَاءِ الْجُيُوشِ فِي غَيْبَةِ الرَّسُولِ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ مَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ كَانَ التَّصَرُّفُ فِيهِ لِخُلَفَائِهِ.
251
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْأَنْفَالِ اخْتِلَافًا نَاشِئًا عَنِ اخْتِلَافِ اجْتِهَادِهِمْ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْآيَةِ، وَهُوَ اخْتِلَافٌ يُعْذَرُونَ عَلَيْهِ لِسِعَةِ الْإِطْلَاقِ فِي أَسْمَاءِ الْأَمْوَالِ الْحَاصِلَةِ لِلْغُزَاةِ، فَقَالَ
مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: النَّفَلُ إِعْطَاءُ بَعْضِ الْجَيْشِ أَوْ جَمِيعِهِ زِيَادَةً عَلَى قِسْمَةِ أَخْمَاسِهِمُ الْأَرْبَعَةِ مِنَ الْمَغْنَمِ، فَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ خُمُسِ الْمَغْنَمِ الْمَجْعُولِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِخُلَفَائِهِ وَأُمَرَائِهِ جَمْعًا بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الْأَنْفَال: ٤١] الْآيَةَ فَلَا نَفَلَ إِلَّا مِنَ الْخُمُسِ الْمَجْعُولِ لِاجْتِهَادِ أَمِيرِ الْجَيْشِ وَعِلَّةُ ذَلِكَ تَجَنُّبُ إِعْطَاءِ حَقِّ أَحَدٍ لِغَيْرِهِ وَلِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى إِيقَادِ الْإِحَنِ فِي نُفُوسِ الْجَيْشِ، وَقَدْ يَبْعَثُ الْجَيْشَ عَلَى عِصْيَانِ الْأَمِيرِ، وَلَكِنْ إِذَا رَأَى الْإِمَامُ مَصْلَحَةً فِي تَنْفِيلِ بَعْضِ الْجَيْشٍ سَاغَ لَهُ ذَلِكَ مِنَ الْخُمُسِ الَّذِي هُوَ مَوْكُولٌ إِلَيْهِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي آيَةِ الْمَغَانِمِ، لِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: لَا يَكُونُ التَّنْفِيلُ قَبْلَ قِسْمَةِ الْمَغْنَمِ وَجَعَلَ مَا صَدَرَ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ مِنْ
قَوْلِهِ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ»
خُصُوصِيَّةً لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ طَاعَةَ النَّاسِ لِلرَّسُولِ أَشَدُّ مِنْ طَاعَتِهِمْ لِمَنْ سِوَاهُ لِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّهُ مَعْصُومٌ عَنِ الْجَوْرِ وَبِأَنَّهُ لَا يَتَصَرَّفُ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، قَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» : وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرَ يَوْمِ حُنَيْنٍ وَلَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَعَلَاهُ فِي فُتُوحِهِمَا.
وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتِ الْفُقَهَاءُ: فِي أَنَّ النَّفَلَ هَلْ يَبْلُغُ جَمِيعَ الْخُمُسِ أَوْ يَخْرُجُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ، فَقَالَ مَالِكٌ مِنَ الْخُمُسِ كُلِّهِ وَلَوِ اسْتَغْرَقَهُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: النَّفَلُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ. وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي أَنَّ خُمُسَ الْمَغْنَمِ أَهْوَ مُقَسَّمٌ عَلَى مَنْ سَمَّاهُ الْقُرْآنُ أَمْ مُخْتَلِطٌ، وَسَيَجِيءُ ذَلِكَ فِي آيَةِ الْمَغَانِمِ. وَالْحُجَّةُ لِمَالِكٍ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي «الْمُوَطَّأ» أَنهم غَزْو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ نَجْدٍ فَغَنِمُوا إِبِلًا كَثِيرَةً فَكَانَتْ سُهْمَانُهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا وَنُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا فَأُعْطِيَ النَّفَلُ جَمِيعَ أَهْلِ الْجَيْشِ وَذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ يَجُوزُ التَّنْفِيلُ مِنْ جَمِيعِ الْمَغْنَمِ وَهَؤُلَاءِ يُخَصِّصُونَ عُمُومَ آيَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ [الْأَنْفَال: ٤١] بِآيَةِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أَيْ فَالْمَغَانِمُ الْمُخَمَّسَةُ مَا كَانَ دُونَ النَّفَلِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَسَدُّ وَأَجْرَى عَلَى الْأُصُولِ وَأَوْفَقُ بِالسُّنَّةِ، وَالْمَسْأَلَةُ تُبْسَطُ فِي الْفِقْهِ وَلَيْسَ مِنْ غَرَضِ الْمُفَسِّرِ إِلَّا الْإِلْمَامُ بِمَعَاقِدِهَا مِنَ الْآيَةِ.
وَتَفْرِيعُ فَاتَّقُوا اللَّهَ عَلَى جُمْلَةِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ لِأَنَّ فِي تِلْكَ الْجُمْلَةِ
مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: النَّفَلُ إِعْطَاءُ بَعْضِ الْجَيْشِ أَوْ جَمِيعِهِ زِيَادَةً عَلَى قِسْمَةِ أَخْمَاسِهِمُ الْأَرْبَعَةِ مِنَ الْمَغْنَمِ، فَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ خُمُسِ الْمَغْنَمِ الْمَجْعُولِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِخُلَفَائِهِ وَأُمَرَائِهِ جَمْعًا بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الْأَنْفَال: ٤١] الْآيَةَ فَلَا نَفَلَ إِلَّا مِنَ الْخُمُسِ الْمَجْعُولِ لِاجْتِهَادِ أَمِيرِ الْجَيْشِ وَعِلَّةُ ذَلِكَ تَجَنُّبُ إِعْطَاءِ حَقِّ أَحَدٍ لِغَيْرِهِ وَلِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى إِيقَادِ الْإِحَنِ فِي نُفُوسِ الْجَيْشِ، وَقَدْ يَبْعَثُ الْجَيْشَ عَلَى عِصْيَانِ الْأَمِيرِ، وَلَكِنْ إِذَا رَأَى الْإِمَامُ مَصْلَحَةً فِي تَنْفِيلِ بَعْضِ الْجَيْشٍ سَاغَ لَهُ ذَلِكَ مِنَ الْخُمُسِ الَّذِي هُوَ مَوْكُولٌ إِلَيْهِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي آيَةِ الْمَغَانِمِ، لِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: لَا يَكُونُ التَّنْفِيلُ قَبْلَ قِسْمَةِ الْمَغْنَمِ وَجَعَلَ مَا صَدَرَ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ مِنْ
قَوْلِهِ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ»
خُصُوصِيَّةً لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ طَاعَةَ النَّاسِ لِلرَّسُولِ أَشَدُّ مِنْ طَاعَتِهِمْ لِمَنْ سِوَاهُ لِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّهُ مَعْصُومٌ عَنِ الْجَوْرِ وَبِأَنَّهُ لَا يَتَصَرَّفُ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، قَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» : وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرَ يَوْمِ حُنَيْنٍ وَلَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَعَلَاهُ فِي فُتُوحِهِمَا.
وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتِ الْفُقَهَاءُ: فِي أَنَّ النَّفَلَ هَلْ يَبْلُغُ جَمِيعَ الْخُمُسِ أَوْ يَخْرُجُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ، فَقَالَ مَالِكٌ مِنَ الْخُمُسِ كُلِّهِ وَلَوِ اسْتَغْرَقَهُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: النَّفَلُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ. وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي أَنَّ خُمُسَ الْمَغْنَمِ أَهْوَ مُقَسَّمٌ عَلَى مَنْ سَمَّاهُ الْقُرْآنُ أَمْ مُخْتَلِطٌ، وَسَيَجِيءُ ذَلِكَ فِي آيَةِ الْمَغَانِمِ. وَالْحُجَّةُ لِمَالِكٍ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي «الْمُوَطَّأ» أَنهم غَزْو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ نَجْدٍ فَغَنِمُوا إِبِلًا كَثِيرَةً فَكَانَتْ سُهْمَانُهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا وَنُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا فَأُعْطِيَ النَّفَلُ جَمِيعَ أَهْلِ الْجَيْشِ وَذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ يَجُوزُ التَّنْفِيلُ مِنْ جَمِيعِ الْمَغْنَمِ وَهَؤُلَاءِ يُخَصِّصُونَ عُمُومَ آيَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ [الْأَنْفَال: ٤١] بِآيَةِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أَيْ فَالْمَغَانِمُ الْمُخَمَّسَةُ مَا كَانَ دُونَ النَّفَلِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَسَدُّ وَأَجْرَى عَلَى الْأُصُولِ وَأَوْفَقُ بِالسُّنَّةِ، وَالْمَسْأَلَةُ تُبْسَطُ فِي الْفِقْهِ وَلَيْسَ مِنْ غَرَضِ الْمُفَسِّرِ إِلَّا الْإِلْمَامُ بِمَعَاقِدِهَا مِنَ الْآيَةِ.
وَتَفْرِيعُ فَاتَّقُوا اللَّهَ عَلَى جُمْلَةِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ لِأَنَّ فِي تِلْكَ الْجُمْلَةِ
252
رَفْعًا لِلنِّزَاعِ بَيْنَهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْأَنْفَالِ، أَوْ فِي طَلَبِ التَّنْفِيلِ، فَلَمَّا حَكَمَ بِأَنَّهَا مِلْكٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أَوْ بِأَنَّ أَمْرَ قِسْمَتِهَا مَوْكُولٌ لِلَّهِ، فَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ عَلَى كَرَاهَةِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ مِمَّنْ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِتِلْكَ الْأَنْفَالِ مِمَّنْ أُعْطِيَهَا، تَبَعًا لِعَوَائِدِهِمُ السَّالِفَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ قَدْ وَجَبَ الرِّضَى بِمَا يُقَسِّمُهُ الرَّسُولُ مِنْهَا، وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْمَقُولِ.
وَقَدَّمَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى، لِأَنَّهَا جَامِعُ الطَّاعَاتِ.
وَعَطَفَ الْأَمْرَ بِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، لِأَنَّهُمُ اخْتَصَمُوا وَاشْتَجَرُوا فِي شَأْنِهَا كَمَا قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ: «اخْتَلَفْنَا فِي النَّفَلِ وَسَاءَتْ فِيهِ أَخْلَاقَنَا» فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالتَّصَافُحِ، وَخَتَمَ بِالْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الرِّضَى بِمَا قَسَمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَيِ الطَّاعَةُ التَّامَّةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ [النِّسَاء: ٦٥].
وَالْإِصْلَاحُ: جَعْلُ الشَّيْءِ صَالِحًا، وَهُوَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ كَانَ غَيْرَ صَالِحٍ، فَالْأَمْرُ بِالْإِصْلَاحِ دَلَّ عَلَى فَسَادِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ، وَهُوَ فَسَادُ التَّنَازُعِ وَالتَّظَالُمِ.
وذاتَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُؤَنَّثُ (ذُو) الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى صَاحِبٍ فَتَكُونُ أَلِفُهَا مُبْدَلَةً مِنَ الْوَاوِ. وَوَقَعَ فِي كَلَامِهِمْ مُضَافًا إِلَى الْجِهَاتِ وَإِلَى الْأَزْمَانِ وَإِلَى غَيْرِهِمَا، يُجْرُونَهُ مَجْرَى الصِّفَةِ لِمَوْصُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [١٨]، عَلَى تَأْوِيلِ جِهَةٍ، وَتَقُولُ: لَقِيتُهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ، وَلَقِيتُهُ ذَاتَ صَبَاحٍ، عَلَى تَأْوِيلِ الْمُقَدَّرِ سَاعَةَ أَوْ وَقْتَ، وَجَرَتْ مَجْرَى الْمَثَلِ فِي مُلَازَمَتِهَا هَذَا الِاسْتِعْمَالَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (ذَاتَ) أَصْلِيَّةُ الْأَلْفِ كَمَا يُقَالُ: أَنَا أَعْرِفُ ذَاتَ فُلَانٍ، فَالْمَعْنَى حَقِيقَةُ الشَّيْءِ وَمَاهِيَّتُهُ، كَذَا فَسَّرَهَا الزَّجَّاجُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ، فَهُوَ كَقَوْلِ ابْنِ رَوَاحَةَ:
فَتَكُونُ كَلِمَةً مُقْحَمَةً لِتَحْقِيقِ الْحَقِيقَةِ، جُعِلَتْ مُقَدَّمَةً، وَحَقُّهَا التَّأْخِيرُ لِأَنَّهَا لِلتَّأْكِيدِ مِثْلَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِمْ: جَاءَنِي بِذَاتِهِ، وَمِنْهُ يَقُولُونَ: ذَاتُ الْيَمِينِ وَذَات الشمَال، قَالَ تَعَالَى إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.
فَالْمَعْنَى: أَصْلِحُوا بَيْنَكُمْ، وَلِذَا فَ (ذَاتَ) مَفْعُولٌ بِهِ عَلَى أَنَّ (بَيْنَ) فِي الْأَصْلِ ظَرْفٌ فَخَرَجَ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ، وَجعل اسْما منتصرفا، كَمَا قُرِئَ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الْأَنْعَام: ٩٤] بِرَفْعِ بَيْنُكُمْ فِي قِرَاءَةِ جَمَاعَةٍ. فَأُضِيفَتْ إِلَيْهِ (ذَاتَ) فَصَارَ الْمَعْنَى: أَصْلِحُوا حَقِيقَةَ بَيْنِكِمْ
وَقَدَّمَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى، لِأَنَّهَا جَامِعُ الطَّاعَاتِ.
وَعَطَفَ الْأَمْرَ بِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، لِأَنَّهُمُ اخْتَصَمُوا وَاشْتَجَرُوا فِي شَأْنِهَا كَمَا قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ: «اخْتَلَفْنَا فِي النَّفَلِ وَسَاءَتْ فِيهِ أَخْلَاقَنَا» فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالتَّصَافُحِ، وَخَتَمَ بِالْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا الرِّضَى بِمَا قَسَمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَيِ الطَّاعَةُ التَّامَّةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ [النِّسَاء: ٦٥].
وَالْإِصْلَاحُ: جَعْلُ الشَّيْءِ صَالِحًا، وَهُوَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُ كَانَ غَيْرَ صَالِحٍ، فَالْأَمْرُ بِالْإِصْلَاحِ دَلَّ عَلَى فَسَادِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ، وَهُوَ فَسَادُ التَّنَازُعِ وَالتَّظَالُمِ.
وذاتَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُؤَنَّثُ (ذُو) الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى صَاحِبٍ فَتَكُونُ أَلِفُهَا مُبْدَلَةً مِنَ الْوَاوِ. وَوَقَعَ فِي كَلَامِهِمْ مُضَافًا إِلَى الْجِهَاتِ وَإِلَى الْأَزْمَانِ وَإِلَى غَيْرِهِمَا، يُجْرُونَهُ مَجْرَى الصِّفَةِ لِمَوْصُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [١٨]، عَلَى تَأْوِيلِ جِهَةٍ، وَتَقُولُ: لَقِيتُهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ، وَلَقِيتُهُ ذَاتَ صَبَاحٍ، عَلَى تَأْوِيلِ الْمُقَدَّرِ سَاعَةَ أَوْ وَقْتَ، وَجَرَتْ مَجْرَى الْمَثَلِ فِي مُلَازَمَتِهَا هَذَا الِاسْتِعْمَالَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (ذَاتَ) أَصْلِيَّةُ الْأَلْفِ كَمَا يُقَالُ: أَنَا أَعْرِفُ ذَاتَ فُلَانٍ، فَالْمَعْنَى حَقِيقَةُ الشَّيْءِ وَمَاهِيَّتُهُ، كَذَا فَسَّرَهَا الزَّجَّاجُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ، فَهُوَ كَقَوْلِ ابْنِ رَوَاحَةَ:
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ | يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ |
فَالْمَعْنَى: أَصْلِحُوا بَيْنَكُمْ، وَلِذَا فَ (ذَاتَ) مَفْعُولٌ بِهِ عَلَى أَنَّ (بَيْنَ) فِي الْأَصْلِ ظَرْفٌ فَخَرَجَ عَنِ الظَّرْفِيَّةِ، وَجعل اسْما منتصرفا، كَمَا قُرِئَ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الْأَنْعَام: ٩٤] بِرَفْعِ بَيْنُكُمْ فِي قِرَاءَةِ جَمَاعَةٍ. فَأُضِيفَتْ إِلَيْهِ (ذَاتَ) فَصَارَ الْمَعْنَى: أَصْلِحُوا حَقِيقَةَ بَيْنِكِمْ
253
أَيِ اجْعَلُوا الْأَمْرَ الَّذِي يَجْمَعُكُمْ صَالِحًا غَيْرَ فَاسِدٍ، وَيَجُوزُ مَعَ هَذَا أَنْ يُنَزَّلَ فِعْلُ أَصْلِحُوا مَنْزِلَةَ الْفِعْلِ اللَّازِمِ فَلَا يُقَدَّرُ لَهُ مَفْعُولٌ قَصْدًا لِلْأَمْرِ بِإِيجَادِ الصَّلَاحِ لَا بِإِصْلَاحِ شَيْءٍ فَاسِدٍ، وَتُنْصَبُ ذَاتَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِإِضَافَتِهَا إِلَى ظَرْفِ الْمَكَانِ وَالتَّقْدِيرُ: وَأَوْجِدُوا الصَّلَاحَ بَيْنَكُمْ، كَمَا قَرَأْنَا لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الْأَنْعَام: ٩٤] بِنَصْبِ بَيْنَكُمْ أَيْ لَقَدْ وَقَعَ التَّقْطِيعُ بَيْنَكُمْ.
وَاعْلَمْ أَنِّي لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْتِعْمَالِ (ذَاتِ بَيْنِ) فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَأَحْسَبُ أَنَّهَا مِنْ
مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ.
وَجَوَابُ شَرْطِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْجُمَلُ الْمُتَقَدِّمَةُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ إِلَى آخِرِهَا، لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمَّا وَقَعَ عقب تِلْكَ الْحمل كَانَ رَاجِعًا إِلَى جَمِيعِهَا عَلَى مَا هُوَ الْمُقَرَّرُ فِي الِاسْتِعْمَالِ، فَمَعْنَى الشَّرْطِ بَعْدَ تِلْكَ الْجُمَلِ الْإِنْشَائِيَّةِ: إِنَّا أَمَرْنَاكُمْ بِمَا ذُكِرَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، لِأَنَّا لَا نَأْمُرُ بِذَلِكَ غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا إِلْهَابٌ لِنُفُوسِهِمْ عَلَى الِامْتِثَالِ، لِظُهُورِ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ فَلَا تَتَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلَا تُصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ، وَلَا تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنَّ هَذَا مَعْنًى لَا يَخْطُرُ بِبَالِ أَهْلِ اللِّسَانِ وَلَا يَسْمَحُ بِمِثْلِهِ الِاسْتِعْمَالُ.
وَلَيْسَ الْإِتْيَانُ فِي الشَّرْط بِأَن تَعْرِيضًا بِضَعْفِ إِيمَانِهِمْ وَلَا بِأَنَّهُ مِمَّا يَشُكُّ فِيهِ مَنْ لَا يَعْلَمُ مَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ شَأْنَ (إِن) عدم الجرم بِوُقُوعِ الشَّرْطِ بِخِلَافِ (إِذَا) عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْمَعَانِي، وَلَكِنَّ اجْتِلَابَ (إِنْ) فِي هَذَا الشَّرْطِ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى إِظْهَارِ الْخِصَالِ الَّتِي يَتَطَلَّبُهَا الْإِيمَانُ وَهِيَ: التَّقْوَى الْجَامِعَةُ لِخِصَالِ الدِّينِ، وَإِصْلَاحُ ذَاتِ بَيْنِهِمْ، وَالرِّضَى بِمَا فَعَلَهُ الرَّسُولُ، فَالْمَقْصُودُ التَّحْرِيضُ عَلَى أَنْ يَكُونَ إِيمَانُهُمْ فِي أَحْسَنِ صُوَرِهِ وَمَظَاهِرِهِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ هَذَا الشَّرْطَ بِجُمْلَةِ الْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الْأَنْفَال: ٢] كَمَا سَيَأْتِي.
[٢]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٢]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ.
مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِوُجُوبِ تَقْوَى اللَّهِ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ وَطَاعَتِهِمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، لِأَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْجُمَلُ الَّتِي بَعْدَ إِنَّمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَحْمِلَ الْمُتَّصِفِينَ بِهِ عَلَى الِامْتِثَالِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ جُمَلُ الْأَمْرِ الثَّلَاثِ السَّابِقَةِ،
وَاعْلَمْ أَنِّي لَمْ أَقِفْ عَلَى اسْتِعْمَالِ (ذَاتِ بَيْنِ) فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَأَحْسَبُ أَنَّهَا مِنْ
مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ.
وَجَوَابُ شَرْطِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْجُمَلُ الْمُتَقَدِّمَةُ مِنْ قَوْلِهِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ إِلَى آخِرِهَا، لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمَّا وَقَعَ عقب تِلْكَ الْحمل كَانَ رَاجِعًا إِلَى جَمِيعِهَا عَلَى مَا هُوَ الْمُقَرَّرُ فِي الِاسْتِعْمَالِ، فَمَعْنَى الشَّرْطِ بَعْدَ تِلْكَ الْجُمَلِ الْإِنْشَائِيَّةِ: إِنَّا أَمَرْنَاكُمْ بِمَا ذُكِرَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، لِأَنَّا لَا نَأْمُرُ بِذَلِكَ غَيْرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا إِلْهَابٌ لِنُفُوسِهِمْ عَلَى الِامْتِثَالِ، لِظُهُورِ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ فَلَا تَتَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلَا تُصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ، وَلَا تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنَّ هَذَا مَعْنًى لَا يَخْطُرُ بِبَالِ أَهْلِ اللِّسَانِ وَلَا يَسْمَحُ بِمِثْلِهِ الِاسْتِعْمَالُ.
وَلَيْسَ الْإِتْيَانُ فِي الشَّرْط بِأَن تَعْرِيضًا بِضَعْفِ إِيمَانِهِمْ وَلَا بِأَنَّهُ مِمَّا يَشُكُّ فِيهِ مَنْ لَا يَعْلَمُ مَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ شَأْنَ (إِن) عدم الجرم بِوُقُوعِ الشَّرْطِ بِخِلَافِ (إِذَا) عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْمَعَانِي، وَلَكِنَّ اجْتِلَابَ (إِنْ) فِي هَذَا الشَّرْطِ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى إِظْهَارِ الْخِصَالِ الَّتِي يَتَطَلَّبُهَا الْإِيمَانُ وَهِيَ: التَّقْوَى الْجَامِعَةُ لِخِصَالِ الدِّينِ، وَإِصْلَاحُ ذَاتِ بَيْنِهِمْ، وَالرِّضَى بِمَا فَعَلَهُ الرَّسُولُ، فَالْمَقْصُودُ التَّحْرِيضُ عَلَى أَنْ يَكُونَ إِيمَانُهُمْ فِي أَحْسَنِ صُوَرِهِ وَمَظَاهِرِهِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ هَذَا الشَّرْطَ بِجُمْلَةِ الْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الْأَنْفَال: ٢] كَمَا سَيَأْتِي.
[٢]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٢]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ.
مَوْقِعُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ لِوُجُوبِ تَقْوَى اللَّهِ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ وَطَاعَتِهِمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، لِأَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْجُمَلُ الَّتِي بَعْدَ إِنَّمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَحْمِلَ الْمُتَّصِفِينَ بِهِ عَلَى الِامْتِثَالِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ جُمَلُ الْأَمْرِ الثَّلَاثِ السَّابِقَةِ،
254
وَقَدِ اقْتَضَى ظَاهِرُ الْقِصَرِ الْمُسْتَفَادُ مِنْ إِنَّمَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِلْ قَلْبُهُ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ، وَلَمْ تَزِدْهُ تِلَاوَةُ آيَاتِ اللَّهِ إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِ، وَلَمْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، وَلَمْ يُقِمِ الصَّلَاةَ، وَلَمْ يُنْفِقْ، لَمْ يَكُنْ مَوْصُوفًا بِصِفَةِ الْإِيمَانِ، فَهَذَا ظَاهِرٌ مُؤَوَّلٌ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَنْقُضُهُ الْإِخْلَالُ بِبَعْضِ الْوَاجِبَاتِ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الْأَنْفَال: ٤] فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْقَصْرَ ادِّعَائِيٌّ بِتَنْزِيلِ الْإِيمَانِ الَّذِي عُدِمَ الْوَاجِبَاتِ الْعَظِيمَةَ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ،
وَهُوَ قَصْرٌ مَجَازِيٌّ لِابْتِنَائِهِ عَلَى التَّشْبِيهِ، فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ: شُبِّهَ الْجَانِبُ الْمَنْفِيُّ فِي صِيغَةِ الْقَصْرِ بِمَنْ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وَطُوِيَ ذِكْرُ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَرُمِزَ إِلَيْهِ بِذِكْرِ لَازِمِهِ وَهُوَ حَصْرُ الْإِيمَانِ فِيمَنِ اتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الَّتِي لَمْ يَتَّصِفْ بِهَا الْمُشبه بِهِ، ويئول هَذَا إِلَى مَعْنَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الكاملو الْإِيمَانِ، فَالتَّعْرِيفُ فِي إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُفِيدُ قَصْرًا ادِّعَائِيًّا عَلَى أَصْحَابِ هَذِهِ الصِّفَاتِ مُبَالَغَةً، وَحَرْفُ (الْ) فِيهِ هُوَ مَا يُسَمَّى بِالدَّالَّةِ عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ.
وَقَدْ تَكُونُ جُمْلَةُ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ مستأنفة استينافا بَيَانِيًّا لِجَوَابِ سُؤَالِ سَائِلٍ يُثِيرُهُ الشَّرْطُ وَجَزَاؤُهُ الْمُقَدَّرُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَال: ١] بِأَنْ يَتَسَاءَلُوا عَنْ هَذَا الِاشْتِرَاطِ بَعْدَ مَا تَحَقَّقَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ مِنْ قَبْلُ، وَهَلْ يُمْتَرَى فِي أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، فَيُجَابُوا بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الَّذِينَ صِفَتُهُمْ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَيَعْلَمُوا أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَجْعُولَ شَرْطًا هُوَ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ فَتَنْبَعِثَ نُفُوسُهُمْ إِلَى الِاتِّسَامِ بِهِ وَالتَّبَاعُدِ عَنْ مَوَانِعِ زِيَادَتِهِ.
وَإِذْ قَدْ كَانَ الِاحْتِمَالَانِ غَيْرَ مُتَنَافِيَيْنِ صَحَّ تَحْمِيلُ الْآيَةِ إِيَّاهُمَا تَوْفِيرًا لِمَعَانِي الْكَلَامِ الْمُعْجِزِ فَإِنَّ عِلَّةَ الشَّيْءِ مِمَّا يُسْأَلُ عَنْهُ، وَإِنَّ بَيَانَ الْعِلَّةِ مِمَّا يَصح كَونه استينافا بَيَانِيًّا.
وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ وَقَعَتِ الْجُمْلَةُ مَفْصُولَةً عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِاسْتِغْنَائِهَا عَنِ الرَّبْطِ وَإِنِ اخْتَلَفَ مُوجِبُ الِاسْتِغْنَاءِ بِاخْتِلَافِ الِاحْتِمَالَيْنِ، وَالِاعْتِبَارَاتُ الْبَلَاغِيَّةُ يَصِحُّ تَعَدُّدُ أَسْبَابِهَا فِي الْمَوْقِعِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهَا اعْتِبَارَاتٌ مَعْنَوِيَّةٌ وَلَيْسَتْ كَيْفِيَّاتٍ لَفْظِيَّةً فَتَحَقَّقْهُ حَقَّ تَحَقُّقِهِ.
وَالْمَعْنَى لَيْسَ الْمُؤْمِنُونَ الْكَامِلُ إِيمَانُهُمْ إِلَّا أَصْحَابَ هَذِهِ الصِّلَةِ الَّتِي يَعْرِفُ الْمُتَّصِفُ بِهَا تَحَقُّقَهَا فِيهِ أَوْ عَدَمَهُ مِنْ عَرْضِ نَفْسِهِ عَلَى حَقِيقَتِهَا، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْكَلَامُ وَارِدًا
وَهُوَ قَصْرٌ مَجَازِيٌّ لِابْتِنَائِهِ عَلَى التَّشْبِيهِ، فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ: شُبِّهَ الْجَانِبُ الْمَنْفِيُّ فِي صِيغَةِ الْقَصْرِ بِمَنْ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وَطُوِيَ ذِكْرُ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَرُمِزَ إِلَيْهِ بِذِكْرِ لَازِمِهِ وَهُوَ حَصْرُ الْإِيمَانِ فِيمَنِ اتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الَّتِي لَمْ يَتَّصِفْ بِهَا الْمُشبه بِهِ، ويئول هَذَا إِلَى مَعْنَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الكاملو الْإِيمَانِ، فَالتَّعْرِيفُ فِي إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُفِيدُ قَصْرًا ادِّعَائِيًّا عَلَى أَصْحَابِ هَذِهِ الصِّفَاتِ مُبَالَغَةً، وَحَرْفُ (الْ) فِيهِ هُوَ مَا يُسَمَّى بِالدَّالَّةِ عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ.
وَقَدْ تَكُونُ جُمْلَةُ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ مستأنفة استينافا بَيَانِيًّا لِجَوَابِ سُؤَالِ سَائِلٍ يُثِيرُهُ الشَّرْطُ وَجَزَاؤُهُ الْمُقَدَّرُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَال: ١] بِأَنْ يَتَسَاءَلُوا عَنْ هَذَا الِاشْتِرَاطِ بَعْدَ مَا تَحَقَّقَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ مِنْ قَبْلُ، وَهَلْ يُمْتَرَى فِي أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، فَيُجَابُوا بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمُ الَّذِينَ صِفَتُهُمْ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَيَعْلَمُوا أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَجْعُولَ شَرْطًا هُوَ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ فَتَنْبَعِثَ نُفُوسُهُمْ إِلَى الِاتِّسَامِ بِهِ وَالتَّبَاعُدِ عَنْ مَوَانِعِ زِيَادَتِهِ.
وَإِذْ قَدْ كَانَ الِاحْتِمَالَانِ غَيْرَ مُتَنَافِيَيْنِ صَحَّ تَحْمِيلُ الْآيَةِ إِيَّاهُمَا تَوْفِيرًا لِمَعَانِي الْكَلَامِ الْمُعْجِزِ فَإِنَّ عِلَّةَ الشَّيْءِ مِمَّا يُسْأَلُ عَنْهُ، وَإِنَّ بَيَانَ الْعِلَّةِ مِمَّا يَصح كَونه استينافا بَيَانِيًّا.
وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ وَقَعَتِ الْجُمْلَةُ مَفْصُولَةً عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِاسْتِغْنَائِهَا عَنِ الرَّبْطِ وَإِنِ اخْتَلَفَ مُوجِبُ الِاسْتِغْنَاءِ بِاخْتِلَافِ الِاحْتِمَالَيْنِ، وَالِاعْتِبَارَاتُ الْبَلَاغِيَّةُ يَصِحُّ تَعَدُّدُ أَسْبَابِهَا فِي الْمَوْقِعِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهَا اعْتِبَارَاتٌ مَعْنَوِيَّةٌ وَلَيْسَتْ كَيْفِيَّاتٍ لَفْظِيَّةً فَتَحَقَّقْهُ حَقَّ تَحَقُّقِهِ.
وَالْمَعْنَى لَيْسَ الْمُؤْمِنُونَ الْكَامِلُ إِيمَانُهُمْ إِلَّا أَصْحَابَ هَذِهِ الصِّلَةِ الَّتِي يَعْرِفُ الْمُتَّصِفُ بِهَا تَحَقُّقَهَا فِيهِ أَوْ عَدَمَهُ مِنْ عَرْضِ نَفْسِهِ عَلَى حَقِيقَتِهَا، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْكَلَامُ وَارِدًا
255
مَوْرِدَ الْأَمْرِ بِالتَّخَلُّقِ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْإِيمَانُ أُحِيلُوا فِي مَعْرِفَةِ أَمَارَاتِ هَذَا التَّخَلُّقِ عَلَى صِفَاتٍ يَأْنَسُونَهَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ إِذَا عَلِمُوهَا.
وَالذِّكْرُ حَقِيقَتُهُ التَّلَفُّظُ بِاللِّسَانِ، وَإِذَا عُلِّقَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَاتٍ فَالْمَقْصُودُ مِنَ الذَّاتِ أَسْمَاؤُهَا، فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِذا ذُكِرَ اللَّهُ إِذَا نَطَقَ نَاطِقٌ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ أَوْ بشأن من شؤونه، مِثْلِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ جَرَيَانِ اسْمِهِ أَوْ ضَمِيرِهِ أَوْ مَوْصُولِهِ أَوْ إِشَارَتِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ ذَاتِهِ.
وَالْوَجَلُ خَوْفٌ مَعَ فَزَعٍ فَيَكُونُ لِاسْتِعْظَامِ الْمَوْجُولِ مِنْهُ.
وَقَدْ جَاءَ فِعْلُ وَجِلَ فِي الْفَصِيحِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي عَلَى طَرِيقَةِ الْأَفْعَالِ الدَّالَّةِ عَلَى الِانْفِعَالِ الْبَاطِنِيِّ مِثْلَ فَرِحَ، وَصَدِيَ، وَهَوِيَ، وَرَوِيَ.
وَأُسْنِدَ الْوَجَلُ إِلَى الْقُلُوبِ لِأَنَّ الْقَلْبَ يَكْثُرُ إِطْلَاقُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى إِحْسَاسِ الْإِنْسَانِ وَقَرَارَةِ إِدْرَاكِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ هَذَا الْعُضْوَ الصَّنَوْبَرِيَّ الَّذِي يُرْسِلُ الدَّمَ إِلَى الشَّرَايِينِ.
وَقَدْ أَجْمَلَتِ الْآيَةُ ذِكْرَ اللَّهِ إِجْمَالًا بَدِيعًا لِيُنَاسِبَ مَعْنَى الْوَجِلِ، فَذِكْرُ اللَّهِ يَكُونُ: بِذِكْرِ اسْمِهِ، وَبِذِكْرِ عِقَابِهِ، وَعَظَمَتِهِ، وَبِذِكْرِ ثَوَابِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَحْصُلُ مَعَهُ الْوَجَلُ فِي قُلُوبِ كُمَّلِ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُ يَحْصُلُ مَعَهُ اسْتِحْضَارُ جَلَالِ اللَّهِ وَشِدَّةِ بَأْسِهِ وَسِعَةِ ثَوَابِهِ، فَيَنْبَعِثُ عَنْ ذَلِكَ الِاسْتِحْضَارِ تَوَقُّعُ حُلُولِ بَأْسِهِ، وَتَوَقُّعُ انْقِطَاعِ بَعْضِ ثَوَابِهِ أَوْ رَحْمَتِهِ، وَهُوَ وَجَلٌ يَبْعَثُ الْمُؤْمِنَ إِلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْخَيْرِ وَتَوَقِّي مَا لَا يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى وَمُلَاحَظَةِ الْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِ اللَّهِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَلِذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: «أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِاللِّسَانِ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ».
وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ حَثَّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الرِّضَى بِمَا قَسَّمَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غنايم بَدْرٍ، وَأَنْ يَتْرُكُوا التَّشَاجُرَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ، نَاسَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى وَجِلِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ، وَالْوَجَلُ حَالَيْنِ يَحْصُلَانِ لِلْمُؤْمِنِ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ وَالْحَالُ الْآخَرُ هُوَ الْأَمَلُ وَالطَّمَعُ فِي الثَّوَابِ فَطَوَى ذِكْرَهُ هُنَا اعْتِمَادًا عَلَى اسْتِلْزَامِ الْوَجَلِ إِيَّاهُ، لِأَنَّ مِنَ الْوَجَلِ أَنْ يَجِلَ، مِنْ فَوَاتِ الثَّوَابِ أَوْ نُقْصَانِهِ.
وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً.
التِّلَاوَةُ: الْقِرَاءَةُ وَاسْتِظْهَارُ مَا يَحْفَظُهُ التَّالِي مِنْ كَلَامٍ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ يَحْكِيهِ لِسَامِعِهِ،
وَالذِّكْرُ حَقِيقَتُهُ التَّلَفُّظُ بِاللِّسَانِ، وَإِذَا عُلِّقَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَاتٍ فَالْمَقْصُودُ مِنَ الذَّاتِ أَسْمَاؤُهَا، فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِذا ذُكِرَ اللَّهُ إِذَا نَطَقَ نَاطِقٌ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ أَوْ بشأن من شؤونه، مِثْلِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ جَرَيَانِ اسْمِهِ أَوْ ضَمِيرِهِ أَوْ مَوْصُولِهِ أَوْ إِشَارَتِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ ذَاتِهِ.
وَالْوَجَلُ خَوْفٌ مَعَ فَزَعٍ فَيَكُونُ لِاسْتِعْظَامِ الْمَوْجُولِ مِنْهُ.
وَقَدْ جَاءَ فِعْلُ وَجِلَ فِي الْفَصِيحِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِي الْمَاضِي عَلَى طَرِيقَةِ الْأَفْعَالِ الدَّالَّةِ عَلَى الِانْفِعَالِ الْبَاطِنِيِّ مِثْلَ فَرِحَ، وَصَدِيَ، وَهَوِيَ، وَرَوِيَ.
وَأُسْنِدَ الْوَجَلُ إِلَى الْقُلُوبِ لِأَنَّ الْقَلْبَ يَكْثُرُ إِطْلَاقُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى إِحْسَاسِ الْإِنْسَانِ وَقَرَارَةِ إِدْرَاكِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ هَذَا الْعُضْوَ الصَّنَوْبَرِيَّ الَّذِي يُرْسِلُ الدَّمَ إِلَى الشَّرَايِينِ.
وَقَدْ أَجْمَلَتِ الْآيَةُ ذِكْرَ اللَّهِ إِجْمَالًا بَدِيعًا لِيُنَاسِبَ مَعْنَى الْوَجِلِ، فَذِكْرُ اللَّهِ يَكُونُ: بِذِكْرِ اسْمِهِ، وَبِذِكْرِ عِقَابِهِ، وَعَظَمَتِهِ، وَبِذِكْرِ ثَوَابِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَحْصُلُ مَعَهُ الْوَجَلُ فِي قُلُوبِ كُمَّلِ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُ يَحْصُلُ مَعَهُ اسْتِحْضَارُ جَلَالِ اللَّهِ وَشِدَّةِ بَأْسِهِ وَسِعَةِ ثَوَابِهِ، فَيَنْبَعِثُ عَنْ ذَلِكَ الِاسْتِحْضَارِ تَوَقُّعُ حُلُولِ بَأْسِهِ، وَتَوَقُّعُ انْقِطَاعِ بَعْضِ ثَوَابِهِ أَوْ رَحْمَتِهِ، وَهُوَ وَجَلٌ يَبْعَثُ الْمُؤْمِنَ إِلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْخَيْرِ وَتَوَقِّي مَا لَا يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى وَمُلَاحَظَةِ الْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِ اللَّهِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَلِذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: «أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِاللِّسَانِ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ».
وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ حَثَّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الرِّضَى بِمَا قَسَّمَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غنايم بَدْرٍ، وَأَنْ يَتْرُكُوا التَّشَاجُرَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ، نَاسَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى وَجِلِ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ، وَالْوَجَلُ حَالَيْنِ يَحْصُلَانِ لِلْمُؤْمِنِ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ وَالْحَالُ الْآخَرُ هُوَ الْأَمَلُ وَالطَّمَعُ فِي الثَّوَابِ فَطَوَى ذِكْرَهُ هُنَا اعْتِمَادًا عَلَى اسْتِلْزَامِ الْوَجَلِ إِيَّاهُ، لِأَنَّ مِنَ الْوَجَلِ أَنْ يَجِلَ، مِنْ فَوَاتِ الثَّوَابِ أَوْ نُقْصَانِهِ.
وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً.
التِّلَاوَةُ: الْقِرَاءَةُ وَاسْتِظْهَارُ مَا يَحْفَظُهُ التَّالِي مِنْ كَلَامٍ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ يَحْكِيهِ لِسَامِعِهِ،
256
وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ فِي الْبَقَرَةِ [١٠٢].
وَآيَاتُ اللَّهِ الْقُرْآنُ، سُمِّيَتْ آيَاتٌ، لِأَنَّ وَحْيَهَا إِلَى النَّبِيءِ الْأُمِّيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَجْزَ قَوْمِهِ، خَاصَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى صِدْقِ مَنْ جَاءَ بِهَا فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ آيَاتٌ.
وَيُسَمَّى الْقُرْآنُ كُلُّهُ آيَةً أَيْضًا بِاعْتِبَارِ دَلَالَةِ جُمْلَتِهِ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَإِسْنَادُ فِعْلِ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ إِلَى آيَاتِ اللَّهِ لِأَنَّهَا سَبَبُ تِلْكَ الزِّيَادَةِ لِلْإِيمَانِ بِاعْتِبَارِ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهَا، وَهُوَ تِلَاوَتُهَا لِاعْتِبَارِ مُجَرَّدِ وُجُودِهَا فِي صَدْرِ غَيْرِ الْمَتْلُوَّةِ عَلَيْهِ. وَهَذَا الْإِسْنَادُ مِنَ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ إِذْ جُعِلَتِ الْآيَاتُ بِمَنْزِلَةِ فَاعِلِ الزِّيَادَةِ فِي الْإِيمَانِ.
فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْرَفِ الْفَاعِلُ الْحَقِيقِيُّ لِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ، إِذْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ كَيْفِيَّةٌ نَفْسِيَّةٌ
عَارِضَةٌ، لِلْيَقِينِ، لَا يُعْرَفُ فَاعِلُ انْقِدَاحِهَا فِي الْعَقْلِ، وَغَايَةُ مَا يُعْرَفُ أَنْ يُقَالَ: ازْدَادَ إِيمَانُ فُلَانٍ، أَوِ ازْدَادَ فُلَانٌ إِيمَانًا، بِطَرِيقِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُطَاوَعَةِ، وَلَا الْتِفَاتَ فِي الِاسْتِعْمَالِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ الْأَحْوَالِ، كُلِّهَا إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ مَعْنَى الْفَاعِلِ الْحَقِيقِيِّ فِي الْعُرْفِ، وَلَوْ لُوحِظَ ذَلِكَ لَمْ يَنْقَسِمِ الْكَلَامُ إِلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ عَقْلِيَّيْنِ وَإِنَّمَا الْفَاعِلُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ من يَأْتِي بِالْفِعْلِ وَيَصْنَعُهُ كَالْكَاتِبِ لِلْكِتَابَةِ وَالضَّارِبِ بِالسَّيْفِ لِلْقَتْلِ.
وَالْإِيمَانُ: تَصْدِيقُ النَّفْسِ بِثُبُوتِ نِسْبَةِ شَيْءٍ لِشَيْءٍ، أَوْ بِانْتِفَاءِ نِسْبَةِ شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ، تَصْدِيقًا جَازِمًا لَا يَحْتَمِلُ نَقِيضَ تِلْكَ النِّسْبَةِ، وَقَدِ اشْتُهِرَ اسْمُ الْإِيمَانِ شَرْعًا فِي الْيَقِينِ بِالنِّسْبَةِ الْمُقْتَضِيَةِ وُجُودَ اللَّهِ وَوُجُودَ صِفَاتِهِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ أَوِ الشَّرْعِيَّةُ، وَالْمُقْتَضِيَةُ مَجِيءَ رَسُولِ اللَّهِ مُخْبِرًا عَنِ اللَّهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ وَثُبُوتَ صِفَاتِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الَّتِي لَا يَتِمُّ مَعْنَى رِسَالَتِهِ عَنِ اللَّهِ بِدُونِهَا: مِثْلَ الصِّدْقِ فِيمَا يُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ، وَالْعِصْمَةِ عَنِ اقْتِرَافِ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَمَعْنَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ: قُوَّةُ الْيَقِينِ فِي نَفْسِ الْمُوقِنِ عَلَى حَسَبِ شِدَّةِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ اسْتِحْضَارِ الْأَدِلَّةِ فِي نَفْسِهِ، وَعَنْ إِعَادَةِ النَّظَرِ فِيهَا، وَدَفْعِ الشَّكِّ الْعَارِضِ لِلنَّفْسِ، فَإِنَّهُ كُلَّمَا كَانَتِ الْأَدِلَّةُ أَكْثَرَ وَأَقْوَى وَأَجْلَى مُقَدِّمَاتٍ كَانَ الْيَقِينُ أَقْوَى، فَتِلْكَ الْقُوَّةُ هِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالزِّيَادَةِ، وَتَفَاوُتُهَا تَدَرُّجٌ فِي الزِّيَادَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تُسَمَّى قِلَّةُ التَّدَرُّجِ فِي الْأَدِلَّةِ نَقْصًا لَكِنَّهُ نَقْصٌ عَنِ الزِّيَادَةِ، وَذَلِكَ مَعَ مُرَاعَاةِ وُجُودِ أَصْلِ حَقِيقَةِ
وَآيَاتُ اللَّهِ الْقُرْآنُ، سُمِّيَتْ آيَاتٌ، لِأَنَّ وَحْيَهَا إِلَى النَّبِيءِ الْأُمِّيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَجْزَ قَوْمِهِ، خَاصَّتِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى صِدْقِ مَنْ جَاءَ بِهَا فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ آيَاتٌ.
وَيُسَمَّى الْقُرْآنُ كُلُّهُ آيَةً أَيْضًا بِاعْتِبَارِ دَلَالَةِ جُمْلَتِهِ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَإِسْنَادُ فِعْلِ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ إِلَى آيَاتِ اللَّهِ لِأَنَّهَا سَبَبُ تِلْكَ الزِّيَادَةِ لِلْإِيمَانِ بِاعْتِبَارِ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهَا، وَهُوَ تِلَاوَتُهَا لِاعْتِبَارِ مُجَرَّدِ وُجُودِهَا فِي صَدْرِ غَيْرِ الْمَتْلُوَّةِ عَلَيْهِ. وَهَذَا الْإِسْنَادُ مِنَ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ إِذْ جُعِلَتِ الْآيَاتُ بِمَنْزِلَةِ فَاعِلِ الزِّيَادَةِ فِي الْإِيمَانِ.
فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْرَفِ الْفَاعِلُ الْحَقِيقِيُّ لِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ، إِذْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ كَيْفِيَّةٌ نَفْسِيَّةٌ
عَارِضَةٌ، لِلْيَقِينِ، لَا يُعْرَفُ فَاعِلُ انْقِدَاحِهَا فِي الْعَقْلِ، وَغَايَةُ مَا يُعْرَفُ أَنْ يُقَالَ: ازْدَادَ إِيمَانُ فُلَانٍ، أَوِ ازْدَادَ فُلَانٌ إِيمَانًا، بِطَرِيقِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمُطَاوَعَةِ، وَلَا الْتِفَاتَ فِي الِاسْتِعْمَالِ إِلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ الْأَحْوَالِ، كُلِّهَا إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ مَعْنَى الْفَاعِلِ الْحَقِيقِيِّ فِي الْعُرْفِ، وَلَوْ لُوحِظَ ذَلِكَ لَمْ يَنْقَسِمِ الْكَلَامُ إِلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ عَقْلِيَّيْنِ وَإِنَّمَا الْفَاعِلُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ من يَأْتِي بِالْفِعْلِ وَيَصْنَعُهُ كَالْكَاتِبِ لِلْكِتَابَةِ وَالضَّارِبِ بِالسَّيْفِ لِلْقَتْلِ.
وَالْإِيمَانُ: تَصْدِيقُ النَّفْسِ بِثُبُوتِ نِسْبَةِ شَيْءٍ لِشَيْءٍ، أَوْ بِانْتِفَاءِ نِسْبَةِ شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ، تَصْدِيقًا جَازِمًا لَا يَحْتَمِلُ نَقِيضَ تِلْكَ النِّسْبَةِ، وَقَدِ اشْتُهِرَ اسْمُ الْإِيمَانِ شَرْعًا فِي الْيَقِينِ بِالنِّسْبَةِ الْمُقْتَضِيَةِ وُجُودَ اللَّهِ وَوُجُودَ صِفَاتِهِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ أَوِ الشَّرْعِيَّةُ، وَالْمُقْتَضِيَةُ مَجِيءَ رَسُولِ اللَّهِ مُخْبِرًا عَنِ اللَّهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ وَثُبُوتَ صِفَاتِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الَّتِي لَا يَتِمُّ مَعْنَى رِسَالَتِهِ عَنِ اللَّهِ بِدُونِهَا: مِثْلَ الصِّدْقِ فِيمَا يُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ، وَالْعِصْمَةِ عَنِ اقْتِرَافِ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَمَعْنَى زِيَادَةِ الْإِيمَانِ: قُوَّةُ الْيَقِينِ فِي نَفْسِ الْمُوقِنِ عَلَى حَسَبِ شِدَّةِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ اسْتِحْضَارِ الْأَدِلَّةِ فِي نَفْسِهِ، وَعَنْ إِعَادَةِ النَّظَرِ فِيهَا، وَدَفْعِ الشَّكِّ الْعَارِضِ لِلنَّفْسِ، فَإِنَّهُ كُلَّمَا كَانَتِ الْأَدِلَّةُ أَكْثَرَ وَأَقْوَى وَأَجْلَى مُقَدِّمَاتٍ كَانَ الْيَقِينُ أَقْوَى، فَتِلْكَ الْقُوَّةُ هِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالزِّيَادَةِ، وَتَفَاوُتُهَا تَدَرُّجٌ فِي الزِّيَادَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تُسَمَّى قِلَّةُ التَّدَرُّجِ فِي الْأَدِلَّةِ نَقْصًا لَكِنَّهُ نَقْصٌ عَنِ الزِّيَادَةِ، وَذَلِكَ مَعَ مُرَاعَاةِ وُجُودِ أَصْلِ حَقِيقَةِ
257
الْإِيمَانِ، لِأَنَّهَا لَوْ نَقَصَتْ عَنِ الْيَقِينِ لَبَطَلَتْ مَاهِيَّةُ الْإِيمَانِ، وَقَدْ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى هَذَا بِقَوْلِهِ: «بَابُ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ فَإِذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنَ الْكَمَالِ فَهُوَ نَاقِصٌ» فَلَوْ أَنَّ نَقْصَ الْأَدِلَّةِ بَلَغَ بِصَاحِبِهِ إِلَى انْخِرَامِ الْيَقِينِ لَمْ يَكُنِ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ لَهُ إِيمَانًا، حَتَّى يُوصَفَ بِالنَّقْصِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ وَصْفِ الْإِيمَانِ بِالزِّيَادَةِ، فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ بَيِّنٌ. وَلَمْ يَرِدْ عَنِ الشَّرِيعَةِ ذِكْرُ نَقْصِ الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُرِيدُهُ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ إِذَا قَالُوا الْإِيمَانَ يَزِيدُ كَمَا قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَلَا ينقص، وَهُوَ عِبَارَةٌ كَامِلَةٌ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْإِيمَانُ عَلَى الْأَعْمَالِ الَّتِي تَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ وَهُوَ إِطْلَاقٌ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ مِنْ شَرَائِعِ الْإِيمَانِ، كَمَا أُطْلِقَ عَلَى الصَّلَاةِ اسْمُ الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [الْبَقَرَة: ١٤٣] وَلَكِنَّ الِاسْمَ الْمَضْبُوطَ لِهَذَا الْمَعْنَى هُوَ اسْمُ (الْإِسْلَامِ) كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ حَدِيثُ سُؤَالِ جِبْرِيلَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ، فَالْإِيمَانُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَهُوَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ يُوصَفُ بِالنَّقْصِ وَالزِّيَادَةِ بِاعْتِبَارِ الْإِكْثَارِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْإِقْلَالِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَا
فِي نَظَائِرِهَا مِنْ آيَاتِ الْكتاب وأقوال النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ يُرِيدُهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ فَيَقُولُ:
الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَلَعَلَّ الَّذِي أَلْجَأَهُمْ إِلَى وَصْفِهِ بِالنَّقْصِ هُوَ مَا اقْتَضَاهُ الْوَصْفُ بِالزِّيَادَةِ. وَهَذَا مَذْهَبٌ أَشَارَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فِي قَوْلِهِ «بَابُ مَنْ قَالَ إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ».
وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ «وَأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَإِخْلَاصٌ بِالْقَلْبِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ يَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْأَعْمَالِ وَيَنْقُصُ بِنَقْصِ الْأَعْمَالِ فَيَكُونُ فِيهَا النَّقْصُ وَبِهَا الزِّيَادَةُ»، وَهُوَ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ مِنْ إِقْرَارِ ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ وَالسَّنَةِ، فِي الْأُمُورِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَلَكِنَّ وَصْفَ الْإِيمَانِ بِالنَّقْصِ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ لِعَدَمِ وُجُودِ مُقْتَضِيهِ لِعَدَمِ وَصْفِهِ بِالنَّقْصِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ.
وَكَيْفِيَّةُ تَأْثِيرِ تِلَاوَةِ الْآيَاتِ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ: أَنَّ دَقَائِقَ الْإِعْجَازِ الَّتِي تَحْتَوِي عَلَيْهَا آيَاتُ الْقُرْآنِ تَزِيدُ كُلُّ آيَةٍ تَنْزِلُ مِنْهَا أَوْ تَتَكَرَّرُ عَلَى الْأَسْمَاعِ سَامِعَهَا يَقِينًا بِأَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَتَزِيدُهُ اسْتِدْلَالًا عَلَى مَا فِي نَفْسِهِ، وَذَلِكَ يُقَوِّي الْإِيمَانَ حَتَّى يَصِلَ إِلَى مَرْتَبَةٍ تُقَرِّبُ مِنَ الضَّرُورَةِ عَلَى نَحْوِ مَا يَحْصُلُ فِي تَوَاتُرِ الْخَبَرِ مِنَ الْيَقِينِ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِينَ، وَيَحْصُلُ مَعَ تِلْكَ الزِّيَادَةِ زِيَادَةٌ فِي الْإِقْبَالِ عَلَيْهَا بِشَرَاشِرِ الْقُلُوبِ ثُمَّ فِي
فِي نَظَائِرِهَا مِنْ آيَاتِ الْكتاب وأقوال النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ يُرِيدُهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ فَيَقُولُ:
الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَلَعَلَّ الَّذِي أَلْجَأَهُمْ إِلَى وَصْفِهِ بِالنَّقْصِ هُوَ مَا اقْتَضَاهُ الْوَصْفُ بِالزِّيَادَةِ. وَهَذَا مَذْهَبٌ أَشَارَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فِي قَوْلِهِ «بَابُ مَنْ قَالَ إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ».
وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ «وَأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَإِخْلَاصٌ بِالْقَلْبِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ يَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْأَعْمَالِ وَيَنْقُصُ بِنَقْصِ الْأَعْمَالِ فَيَكُونُ فِيهَا النَّقْصُ وَبِهَا الزِّيَادَةُ»، وَهُوَ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ مِنْ إِقْرَارِ ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ وَالسَّنَةِ، فِي الْأُمُورِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَلَكِنَّ وَصْفَ الْإِيمَانِ بِالنَّقْصِ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ لِعَدَمِ وُجُودِ مُقْتَضِيهِ لِعَدَمِ وَصْفِهِ بِالنَّقْصِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ.
وَكَيْفِيَّةُ تَأْثِيرِ تِلَاوَةِ الْآيَاتِ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ: أَنَّ دَقَائِقَ الْإِعْجَازِ الَّتِي تَحْتَوِي عَلَيْهَا آيَاتُ الْقُرْآنِ تَزِيدُ كُلُّ آيَةٍ تَنْزِلُ مِنْهَا أَوْ تَتَكَرَّرُ عَلَى الْأَسْمَاعِ سَامِعَهَا يَقِينًا بِأَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَتَزِيدُهُ اسْتِدْلَالًا عَلَى مَا فِي نَفْسِهِ، وَذَلِكَ يُقَوِّي الْإِيمَانَ حَتَّى يَصِلَ إِلَى مَرْتَبَةٍ تُقَرِّبُ مِنَ الضَّرُورَةِ عَلَى نَحْوِ مَا يَحْصُلُ فِي تَوَاتُرِ الْخَبَرِ مِنَ الْيَقِينِ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِينَ، وَيَحْصُلُ مَعَ تِلْكَ الزِّيَادَةِ زِيَادَةٌ فِي الْإِقْبَالِ عَلَيْهَا بِشَرَاشِرِ الْقُلُوبِ ثُمَّ فِي
258
الْعَمَلِ بِمَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ، حَتَّى يَحْصُلَ كَمَالُ التَّقْوَى، فَلَا جَرَمَ كَانَ لِكُلِّ آيَةٍ تُتْلَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ زِيَادَةٌ فِي عَوَارِضِ الْإِيمَانِ مِنْ قُوَّةِ الْيَقِينِ وَتَكْثِيرِ الْأَعْمَالِ فَهَذَا وَصْفٌ رَاسِخٌ لِلْآيَاتِ وَيَجُوزُ أَنْ تُفَسَّرَ زِيَادَةُ الْإِيمَانِ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْآيَاتِ بِأَنَّهَا زِيَادَةُ إِدْرَاكٍ لِلْمَعَانِي الْمُؤْمَنِ بِهَا، كَمَا فُسِّرَتْ زِيَادَةُ الْإِيمَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَعْمَالِ، الَّتِي تَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ إِذْ تِلْكَ الْإِدْرَاكَاتُ تَعَلُّقَاتٌ بَعْضُهَا حِسِّيٍّ وَبَعْضُهَا عَقْلِيٌّ.
وَحَظُّ الْمَقَامِ الْمُتَعَلِّقِ بِأَحْكَامِ الْأَنْفَالِ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ هُوَ أَنَّ سَمَاعَ آيَاتِ حُكْمِ الْأَنْفَالِ يَزِيدُ إِيمَانَ الْمُؤْمِنِينَ قُوَّةً، بِنَبْذِ الشِّقَاقِ والتشاجر الطَّارِئ ببينهم فِي أَنْفَسِ الْأَمْوَالِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ الْمَالُ الْمُكْتَسَبُ مِنْ سُيُوفِهِمْ، فَإِنَّهُ أَحَبُّ أَمْوَالِهِمْ إِلَيْهِمْ.
وَفِي الْحَدِيثِ «وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي»
(١) وَبِذَلِكَ تَتَّضِحُ الْمُنَاسِبَةُ بَيْنَ ذِكْرِ حُكْمِ الْأَنْفَالِ، وَتَعْقِيبِهِ بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَالطَّاعَةِ، ثُمَّ تَعْلِيلُ ذَلِكَ بِأَنَّ شَأْنَ الْمُؤْمِنِينَ ازْدِيَادُ إِيمَانِهِمْ عِنْدَ تِلَاوَةِ آيَاتِ اللَّهِ.
وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.
صِلَةٌ ثَالِثَةٌ لِ الْمُؤْمِنُونَ أَوْ حَالٌ مِنْهُ، وَجُعِلَتْ فِعْلًا مُضَارِعًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَوَصْفُهُمْ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ الِاعْتِمَادُ عَلَى اللَّهِ فِي الْأَحْوَالِ وَالْمَسَاعِي لِيُقَدِّرَ لِلْمُتَوَكِّلِ تَيْسِيرًا مَرَّةً وَيُعَوِّضُهُ عَنِ الْكَسْبِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِأَحْسَنِ مِنْهُ مِنَ الْحَلَالِ الْمَأْذُونِ فِيهِ.
وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ التَّوَكُّلِ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَإِذا عَزَمْتَ، فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٥٩].
وَمُنَاسِبَةُ هَذَا الْوَصْفِ لِلْغَرَضِ: أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالتَّخَلِّي عَنِ الْأَنْفَالِ، وَالرِّضَى بِقِسْمَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا، فَمَنْ كَانَ قَدْ حُرِمَ مِنْ نَفَلِ قَتِيلِهِ يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ فِي تَعْوِيضِهِ بِأَحْسَنَ مِنْهُ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِمَّا لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ فَهُوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْفَصَاحَةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الِاهْتِمَامِ بِاسْمِ اللَّهِ، وَإِمَّا لِلتَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّهُمْ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى إِعَانَةِ الْأَصْنَامِ، قَالَ تَعَالَى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا [مَرْيَم: ٨١] فَيَكُونُ الْكَلَامُ مَدْحًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَتَعْرِيضًا بِذَمِّ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ فِيهِ تَحْذِيرٌ مِنْ أَنْ تَبْقَى فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ آثَارٌ مِنَ التَّعَلُّقِ بِمَا نُهُوا عَنِ التَّعَلُّقِ بِهِ، لِتَوَهُّمِهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا فَوَّتُوهُ فَقَدْ أَضَاعُوا خَيْرًا من الدُّنْيَا.
[٣]
_________
(١) ذكره البُخَارِيّ تَعْلِيقا فَقَالَ: وَيذكر عَن ابْن عمر عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَحَظُّ الْمَقَامِ الْمُتَعَلِّقِ بِأَحْكَامِ الْأَنْفَالِ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ هُوَ أَنَّ سَمَاعَ آيَاتِ حُكْمِ الْأَنْفَالِ يَزِيدُ إِيمَانَ الْمُؤْمِنِينَ قُوَّةً، بِنَبْذِ الشِّقَاقِ والتشاجر الطَّارِئ ببينهم فِي أَنْفَسِ الْأَمْوَالِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ الْمَالُ الْمُكْتَسَبُ مِنْ سُيُوفِهِمْ، فَإِنَّهُ أَحَبُّ أَمْوَالِهِمْ إِلَيْهِمْ.
وَفِي الْحَدِيثِ «وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي»
(١) وَبِذَلِكَ تَتَّضِحُ الْمُنَاسِبَةُ بَيْنَ ذِكْرِ حُكْمِ الْأَنْفَالِ، وَتَعْقِيبِهِ بِالْأَمْرِ بِالتَّقْوَى وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَالطَّاعَةِ، ثُمَّ تَعْلِيلُ ذَلِكَ بِأَنَّ شَأْنَ الْمُؤْمِنِينَ ازْدِيَادُ إِيمَانِهِمْ عِنْدَ تِلَاوَةِ آيَاتِ اللَّهِ.
وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.
صِلَةٌ ثَالِثَةٌ لِ الْمُؤْمِنُونَ أَوْ حَالٌ مِنْهُ، وَجُعِلَتْ فِعْلًا مُضَارِعًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَوَصْفُهُمْ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ الِاعْتِمَادُ عَلَى اللَّهِ فِي الْأَحْوَالِ وَالْمَسَاعِي لِيُقَدِّرَ لِلْمُتَوَكِّلِ تَيْسِيرًا مَرَّةً وَيُعَوِّضُهُ عَنِ الْكَسْبِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِأَحْسَنِ مِنْهُ مِنَ الْحَلَالِ الْمَأْذُونِ فِيهِ.
وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ التَّوَكُّلِ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَإِذا عَزَمْتَ، فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٥٩].
وَمُنَاسِبَةُ هَذَا الْوَصْفِ لِلْغَرَضِ: أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِالتَّخَلِّي عَنِ الْأَنْفَالِ، وَالرِّضَى بِقِسْمَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا، فَمَنْ كَانَ قَدْ حُرِمَ مِنْ نَفَلِ قَتِيلِهِ يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ فِي تَعْوِيضِهِ بِأَحْسَنَ مِنْهُ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِمَّا لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ فَهُوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْفَصَاحَةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الِاهْتِمَامِ بِاسْمِ اللَّهِ، وَإِمَّا لِلتَّعْرِيضِ بِالْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّهُمْ يَتَوَكَّلُونَ عَلَى إِعَانَةِ الْأَصْنَامِ، قَالَ تَعَالَى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا [مَرْيَم: ٨١] فَيَكُونُ الْكَلَامُ مَدْحًا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَتَعْرِيضًا بِذَمِّ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ فِيهِ تَحْذِيرٌ مِنْ أَنْ تَبْقَى فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ آثَارٌ مِنَ التَّعَلُّقِ بِمَا نُهُوا عَنِ التَّعَلُّقِ بِهِ، لِتَوَهُّمِهِمْ أَنَّهُمْ إِذَا فَوَّتُوهُ فَقَدْ أَضَاعُوا خَيْرًا من الدُّنْيَا.
[٣]
_________
(١) ذكره البُخَارِيّ تَعْلِيقا فَقَالَ: وَيذكر عَن ابْن عمر عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
259
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٣]
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)وَصْفُهُمْ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُونَ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ جَاءَ بِإِعَادَةِ الْمَوْصُولِ، كَمَا أُعِيدَ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤]، وَذَلِكَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِانْتِقَالِ، فِي وَصْفِهِمْ، إِلَى غَرَضٍ آخَرَ غَيْرِ الْغَرَضِ الَّذِي اجْتُلِبَ الْمَوْصُولُ الْأَوَّلُ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ هُنَا غَرَضُ مُحَافَظَتِهِمْ عَلَى رُكْنَيِ الْإِيمَانِ: وَهُمَا إِقَامَةُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، فَلَا عَلَاقَةَ لِلصِّلَةِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا بِأَحْكَامِ الْأَنْفَالِ وَالرِّضَى بِقَسْمِهَا، وَلَكِنَّهُ مُجَرَّدُ الْمَدْحِ، وَعَبَّرَ فِي جَانِبِ الصَّلَاةِ بِالْإِقَامَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣]. وَجِيءَ بِالْفِعْلَيْنِ الْمُضَارِعَيْنِ فِي يُقِيمُونَ ويُنْفِقُونَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ وَتُجَدُّدِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ مُقْتَضَى الِاسْتِعْمَالِ فِي الْخَبَرِ بِالصِّلَاتِ الْمُتَعَاطِفَةِ، الَّتِي مَوْصُولُهَا خَبَرٌ عَنْ مُبْتَدَأٍ أَنْ تُعْتَبَرَ خَبَرًا بِعِدَّةِ أَشْيَاءَ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ أَخْبَارٍ مُتَكَرِّرَةٍ، وَمُقْتَضَى الِاسْتِعْمَالِ فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَعَدِّدَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُعْتَبَرُ خَبَرًا مُسْتَقِلًّا عَنِ الْمُبْتَدَأِ فَلِذَلِكَ تَكُونُ كُلُّ صِلَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّلَاتِ بِمَنْزِلَةِ خَبَرٍ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَهِيَ مَحْصُورٌ فِيهَا الْمُؤْمِنُونَ أَيْ حَالُهُمْ فَيَكُونُ الْمَعْنَى،
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا. وَهَكَذَا فَمَتَى اخْتَلَّتْ صِفَةٌ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ اخْتَلَّ وَصْفُ الْإِيمَانِ عَنْ صَاحِبِهَا، فَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْقَصْرِ الْمُبَالِغَةَ الْآيِلَةَ إِلَى مَعْنَى قَصْرِ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ عَلَى صَاحِبِ كُلِّ صِلَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّلَاتِ، وَعَلَى صَاحِبِ الْخِبْرَيْنِ، لِظُهُورِ أَنَّ أَصْلَ الْإِيمَانِ لَا يُسْلَبُ مَنْ أَحَدٍ ذُكِرَ اللَّهُ عِنْدَهُ فَلَا يَجِلُ قَلْبُهُ، فَإِنَّ أَدِلَّةً قَطْعِيَّةً مَنْ أَصُولُ الدِّينِ تُنَافِي هَذَا الِاحْتِمَالَ فَتَعَيَّنَ تَأْوِيل الْمُؤْمِنُونَ [الْأَنْفَال: ٢] عَلَى إِرَادَةِ أَصْحَابِ الْإِيمَان الْكَامِل.
[٤]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٤]
أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)
جُمْلَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ [الْأَنْفَال: ٢] إِلَى آخِرِهَا وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ.
260
وَعُرِّفَ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ بِالْإِشَارَةِ لِوُقُوعِهِ عَقِبَ صِفَاتٍ لِتَدُلَّ الْإِشَارَةُ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِالْحُكْمِ الْمُسْنَدِ إِلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الصِّفَاتِ، فَكَأَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُمْ قَدْ تَمَيَّزُوا لِلسَّامِعِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ فَصَارُوا بِحَيْثُ يُشَارُ إِلَيْهِمْ.
وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَصْرٌ آخَرُ يُشْبِهُ الْقَصْرَ الَّذِي قَوْلُهُ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الْأَنْفَال: ٢] حَيْثُ قُصِرَ الْإِيمَانُ مَرَّةً أُخْرَى عَلَى أَصْحَابِ تِلْكَ الصِّفَاتِ وَلَكِنَّهُ قُرِنَ هُنَا بِمَا فِيهِ بَيَانُ الْمَقْصُورِ وَهُوَ أَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحِقَّاءُ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ.
وَالْحَقُّ أَصْلُهُ مَصْدَرُ حَقَّ بِمَعْنَى ثَبَتَ وَاسْتُعْمِلَ اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ لِلشَّيْءِ الثَّابِتِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ قَالَ تَعَالَى: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النِّسَاء: ١٢٢].
وَيُطْلَقُ كَثِيرًا، عَلَى الْكَامِلِ فِي نَوْعِهِ، الَّذِي لَا سُتْرَةَ فِي تَحَقُّقِ مَاهِيَّةِ نَوْعِهِ فِيهِ، كَمَا يَقُولُ أَحَدٌ لِابْنِهِ الْبَارِّ بِهِ: أَنْتَ ابْنِي حَقًّا، وَلَيْسَ يُرِيدُ أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ أبنائه لَيْسُوا لرشدة وَلَكِنَّهُ يُرِيدُ أَنْتَ بُنُوَّتُكَ وَاضِحَةٌ آثارها، وَيُطْلَقُ الْحَقُّ عَلَى الصَّوَابِ وَالْحِكْمَةِ فَاسْمُ الْحَقِّ يَجْمَعُ مَعْنَى كَمَالِ النَّوْعِ.
وَلِكُلِّ صِيغَةِ قَصْرٍ: مَنْطُوقٌ وَمَفْهُومٌ، فَمَنْطُوقُهَا هُنَا أَنَّ الَّذِينَ جَمَعُوا مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الصِّلَاتُ هُمْ مُؤْمِنُونَ حَقًّا، وَمَفْهُومُهَا أَنَّ مَنِ انْتَفَى عَنْهُ أَحَدُ مَدْلُولَاتِ تِلْكَ الصِّلَاتِ لَمْ
يَكُنْ مُؤْمِنًا كَامِلًا، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ ثَبَتَتْ لَهُ إِحْدَاهَا كَانَ مُؤْمِنًا كَامِلًا، إِذَا لَمْ يَتَّصِفْ بِبَقِيَّةِ خِصَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ، فَمَعْنَى أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا: أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ حَقًّا أَيْ كَامِلًا.
وَهَذَا تَأْوِيلٌ لِلْكَلَامِ دَعَا إِلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَ عَدِيدِ الْأَدِلَّةِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ مِنْ ثُبُوتِ وَصْفِ الْإِيمَانِ لِكُلِّ مَنْ أَيْقَنَ بِأَنَّ اللَّهَ مُنْفَرِدٌ بِالْإِلَهِيَّةِ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، فَتِلْكَ الْأَدِلَّةُ بَلَغَتْ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ الْمُحَصِّلِ لِلْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِأَنَّ الْإِخْلَالَ بِالْوَاجِبَاتِ الدِّينِيَّةِ لَا يَسْلِبُ صِفَةَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ عَنْ صَاحِبِهِ، فَلَيْسَ حَمْلُ الْقَصْرِ عَلَى الِادِّعَائِي هُنَا مُجَرّد صنع بِالْيَدِ، أَوْ ذَهَابٍ مَعَ الْهَوَى عَلَى أَنَّ شَأْنَ الِاتِّصَافِ بِبَعْضِ صِفَاتِ الْفَضَائِلِ أَنْ يَتَنَاسَقَ مَعَ نَظَائِرِهَا فَمَنْ كَانَ بِحَيْثُ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَ قَلْبُهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِ آيَاتُ اللَّهِ زَادَتْهُ إِيمَانًا، فَهَذَا تَحْقِيقُ مَعْنَى الْقَصْرَيْنِ.
وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَصْرٌ آخَرُ يُشْبِهُ الْقَصْرَ الَّذِي قَوْلُهُ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ [الْأَنْفَال: ٢] حَيْثُ قُصِرَ الْإِيمَانُ مَرَّةً أُخْرَى عَلَى أَصْحَابِ تِلْكَ الصِّفَاتِ وَلَكِنَّهُ قُرِنَ هُنَا بِمَا فِيهِ بَيَانُ الْمَقْصُورِ وَهُوَ أَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحِقَّاءُ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ.
وَالْحَقُّ أَصْلُهُ مَصْدَرُ حَقَّ بِمَعْنَى ثَبَتَ وَاسْتُعْمِلَ اسْتِعْمَالَ الْأَسْمَاءِ لِلشَّيْءِ الثَّابِتِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ قَالَ تَعَالَى: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النِّسَاء: ١٢٢].
وَيُطْلَقُ كَثِيرًا، عَلَى الْكَامِلِ فِي نَوْعِهِ، الَّذِي لَا سُتْرَةَ فِي تَحَقُّقِ مَاهِيَّةِ نَوْعِهِ فِيهِ، كَمَا يَقُولُ أَحَدٌ لِابْنِهِ الْبَارِّ بِهِ: أَنْتَ ابْنِي حَقًّا، وَلَيْسَ يُرِيدُ أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ أبنائه لَيْسُوا لرشدة وَلَكِنَّهُ يُرِيدُ أَنْتَ بُنُوَّتُكَ وَاضِحَةٌ آثارها، وَيُطْلَقُ الْحَقُّ عَلَى الصَّوَابِ وَالْحِكْمَةِ فَاسْمُ الْحَقِّ يَجْمَعُ مَعْنَى كَمَالِ النَّوْعِ.
وَلِكُلِّ صِيغَةِ قَصْرٍ: مَنْطُوقٌ وَمَفْهُومٌ، فَمَنْطُوقُهَا هُنَا أَنَّ الَّذِينَ جَمَعُوا مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الصِّلَاتُ هُمْ مُؤْمِنُونَ حَقًّا، وَمَفْهُومُهَا أَنَّ مَنِ انْتَفَى عَنْهُ أَحَدُ مَدْلُولَاتِ تِلْكَ الصِّلَاتِ لَمْ
يَكُنْ مُؤْمِنًا كَامِلًا، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ ثَبَتَتْ لَهُ إِحْدَاهَا كَانَ مُؤْمِنًا كَامِلًا، إِذَا لَمْ يَتَّصِفْ بِبَقِيَّةِ خِصَالِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ، فَمَعْنَى أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا: أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ حَقًّا أَيْ كَامِلًا.
وَهَذَا تَأْوِيلٌ لِلْكَلَامِ دَعَا إِلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَ عَدِيدِ الْأَدِلَّةِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ مِنْ ثُبُوتِ وَصْفِ الْإِيمَانِ لِكُلِّ مَنْ أَيْقَنَ بِأَنَّ اللَّهَ مُنْفَرِدٌ بِالْإِلَهِيَّةِ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، فَتِلْكَ الْأَدِلَّةُ بَلَغَتْ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ الْمُحَصِّلِ لِلْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِأَنَّ الْإِخْلَالَ بِالْوَاجِبَاتِ الدِّينِيَّةِ لَا يَسْلِبُ صِفَةَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ عَنْ صَاحِبِهِ، فَلَيْسَ حَمْلُ الْقَصْرِ عَلَى الِادِّعَائِي هُنَا مُجَرّد صنع بِالْيَدِ، أَوْ ذَهَابٍ مَعَ الْهَوَى عَلَى أَنَّ شَأْنَ الِاتِّصَافِ بِبَعْضِ صِفَاتِ الْفَضَائِلِ أَنْ يَتَنَاسَقَ مَعَ نَظَائِرِهَا فَمَنْ كَانَ بِحَيْثُ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَ قَلْبُهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِ آيَاتُ اللَّهِ زَادَتْهُ إِيمَانًا، فَهَذَا تَحْقِيقُ مَعْنَى الْقَصْرَيْنِ.
261
وَمِمَّا يَزِيدُ هَذَا الْمَعْنَى وُضُوحًا مَا
رَوَى الطَّبَرَانِيُّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْحَارِثِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ يَا حَارِثُ كَيْفَ أَصْبَحْتَ قَالَ أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا قَالَ اعْلَمْ مَا تَقُولُ- أَوِ انْظُرْ مَا تَقُولُ- إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ قَالَ عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا فَأَسْهَرْتُ لَيْلِي، وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ، وَكَأَنِّي أسمع عوراء أَهْلِ النَّارِ، فَقَالَ لَهُ يَا حَارِثُ عَرَفْتَ فَالْزَمْ ثَلَاثًا
وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ وَإِنْ كَثُرَتْ طُرُقُهُ.
فَقَوْلُ الْحَارِثِ «أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا» ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ أَرَادَ مِنْهُ مُؤْمِنًا كَامِلًا وَكَذَلِكَ
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ»
ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ مَا كَانَ بِهِ إِيمَانُهُ كَامِلًا وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ أَصْلِ مَاهِيَّةِ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَشُكُّ فِي أَنَّهُ مِنْ عِدَادِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا سعيد أمومن أَنْتَ فَقَالَ: «الْإِيمَانُ إِيمَانَانِ فَإِنْ كُنْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ، فَأَنَا بِهِ مُؤْمِنٌ، وَإِنْ كُنْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الْأَنْفَال: ٢- ٤] فو الله مَا أَدْرِي أَنَا مِنْهُمْ أَمْ لَا؟.
وَانْتَصَبَ حَقًّا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ أَيْ إِيمَانًا حَقًّا، أَوْ على أَنه موكد لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ أَيْ ثُبُوتُ الْإِيمَانِ لَهُمْ حَقٌّ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَهُوَ تَحْقِيقٌ لِمَعْنَى الْقَصْرِ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ،
وَلَيْسَ تَأْكِيدًا لِرَفْعِ الْمَجَازِ عَنِ الْقَصْرِ حَتَّى يَصِيرَ بِالتَّأْكِيدِ قَصْرًا حَقِيقِيًّا، بَلِ التَّأْكِيدُ بِمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرَائِنِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ هُمْ فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ مُؤَوَّلًا بِاسْمِ الْفَاعِلِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي وُقُوعِ الْمَصْدَرِ حَالا مثل أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً [يُوسُف: ١٠٧]، أَيْ مُحَقِّقِينَ إِيمَانَهُمْ بِجَلَائِلِ أَعْمَالِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا الْمَصْدَرِ فِي قَوْلِهِ: خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٢٢].
وَجُمْلَةُ: لَهُمْ دَرَجاتٌ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
رَوَى الطَّبَرَانِيُّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْحَارِثِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ يَا حَارِثُ كَيْفَ أَصْبَحْتَ قَالَ أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا قَالَ اعْلَمْ مَا تَقُولُ- أَوِ انْظُرْ مَا تَقُولُ- إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ قَالَ عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا فَأَسْهَرْتُ لَيْلِي، وَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ، وَكَأَنِّي أسمع عوراء أَهْلِ النَّارِ، فَقَالَ لَهُ يَا حَارِثُ عَرَفْتَ فَالْزَمْ ثَلَاثًا
وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ وَإِنْ كَثُرَتْ طُرُقُهُ.
فَقَوْلُ الْحَارِثِ «أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا» ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ أَرَادَ مِنْهُ مُؤْمِنًا كَامِلًا وَكَذَلِكَ
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ»
ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ مَا كَانَ بِهِ إِيمَانُهُ كَامِلًا وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ أَصْلِ مَاهِيَّةِ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَشُكُّ فِي أَنَّهُ مِنْ عِدَادِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا سعيد أمومن أَنْتَ فَقَالَ: «الْإِيمَانُ إِيمَانَانِ فَإِنْ كُنْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ، فَأَنَا بِهِ مُؤْمِنٌ، وَإِنْ كُنْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الْأَنْفَال: ٢- ٤] فو الله مَا أَدْرِي أَنَا مِنْهُمْ أَمْ لَا؟.
وَانْتَصَبَ حَقًّا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ أَيْ إِيمَانًا حَقًّا، أَوْ على أَنه موكد لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ أَيْ ثُبُوتُ الْإِيمَانِ لَهُمْ حَقٌّ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَهُوَ تَحْقِيقٌ لِمَعْنَى الْقَصْرِ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ،
وَلَيْسَ تَأْكِيدًا لِرَفْعِ الْمَجَازِ عَنِ الْقَصْرِ حَتَّى يَصِيرَ بِالتَّأْكِيدِ قَصْرًا حَقِيقِيًّا، بَلِ التَّأْكِيدُ بِمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرَائِنِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ هُمْ فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ مُؤَوَّلًا بِاسْمِ الْفَاعِلِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي وُقُوعِ الْمَصْدَرِ حَالا مثل أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً [يُوسُف: ١٠٧]، أَيْ مُحَقِّقِينَ إِيمَانَهُمْ بِجَلَائِلِ أَعْمَالِهِمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا الْمَصْدَرِ فِي قَوْلِهِ: خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٢٢].
وَجُمْلَةُ: لَهُمْ دَرَجاتٌ خَبَرٌ ثَانٍ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
262
وَاللَّامُ لِلِاسْتِحْقَاقِ، أَيْ دَرَجَاتٌ مُسْتَحَقَّةٌ لَهُمْ، وَذَلِكَ اسْتِعَارَةٌ لِلشَّرَفِ وَالْكَرَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ، لِأَنَّ الدَّرَجَاتِ حَقِيقَتُهَا مَا يُتَّخَذُ مِنْ بِنَاءٍ أَوْ أَعْوَادٍ لِإِمْكَانِ تَخَطِّي الصَّاعِدِ إِلَى مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ مُنْقَطِعٍ عَنِ الْأَرْضِ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢٨]، وَفِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَتُسْتَعَارُ الدَّرَجَةُ لِعِنَايَةِ الْعَظِيمِ بِبَعْضِ مَنْ يَصْطَفِيهِمْ فَتَشَبُّهُ الْعِنَايَةِ بِالدَّرَجَةِ تَشْبِيهُ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ، لِأَنَّ الدُّنُوَّ مِنَ الْعُلُوِّ عُرْفًا يَكُونُ بِالصُّعُودِ إِلَيْهِ فِي الدَّرَجَاتِ، فَشُبِّهَ ذَلِكَ الدُّنُوُّ بِدَرَجَاتٍ وَقَوْلُهُ: عِنْدَ رَبِّهِمْ قَرِينَةُ الْمَجَازِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تُسْتَعَارَ الدَّرَجَةُ هُنَا لِمَكَانِ جُلُوسِ الْمُرْتَفِعِ كَدَرَجَةِ الْمِنْبَرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [الْبَقَرَة: ٢٢٨] وَالْقَرِينَةُ هِيَ.
وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ: عِنْدَ رَبِّهِمْ عَلَى الْكَرَامَةِ وَالشَّرَفِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا بِتَوْجِيهِ عِنَايَتِهِ فِي الدُّنْيَا، وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّعِيمِ الْعَظِيمِ.
وَتَنْوِينُ دَرَجاتٌ لِلتَّعْظِيمِ لِأَنَّهَا مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ.
وَالرِّزْقُ اسْمٌ لِمَا يُرْزَقُ أَيْ يُعْطَى لِلِانْتِفَاعِ بِهِ، وَوَصْفُهُ بِكَرِيمٍ بِمَعْنَى النَّفِيسِ فَهُوَ وَصْفٌ حَقِيقِيٌّ لِلرِّزْقِ، وَفِعْلُهُ كَرُمَ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَالْكَرَمِ فِي كُلِّ شَيْء الصِّفَات المحمودية فِي صِنْفِهِ أَوْ نَوْعِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٢٩]، وَمِنْهُ إِطْلَاقُ الْكَرَمِ عَلَى السَّخَاءِ وَالْجُودِ، وَالْوَصْفُ مِنْهُ كَرِيمٌ، وَتَصِحُّ إِرَادَتُهُ هُنَا عَلَى أَنَّ وَصْفَ الرِّزْقِ بِهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، أَيْ كِرِيمٌ رَازِقُهُ، فَإِنَّ الْكَرِيمَ يَرْزُقُ بِوَفْرَةٍ وَبِغير حِسَاب.
[٥، ٦]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : الْآيَات ٥ إِلَى ٦]
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦)
تَشْبِيهُ حَالٍ بِحَالٍ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ: إِمَّا بِتَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، هُوَ اسْمُ إِشَارَةٍ
لِمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ، تَقْدِيرُهُ: هَذَا الْحَالُ كَحَالِ مَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ كَرَاهِيَةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي بَادِئِ الْأَمْرِ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ فِي الْوَاقِعِ
وَيَجُوزُ أَنْ تُسْتَعَارَ الدَّرَجَةُ هُنَا لِمَكَانِ جُلُوسِ الْمُرْتَفِعِ كَدَرَجَةِ الْمِنْبَرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [الْبَقَرَة: ٢٢٨] وَالْقَرِينَةُ هِيَ.
وَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ: عِنْدَ رَبِّهِمْ عَلَى الْكَرَامَةِ وَالشَّرَفِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا بِتَوْجِيهِ عِنَايَتِهِ فِي الدُّنْيَا، وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّعِيمِ الْعَظِيمِ.
وَتَنْوِينُ دَرَجاتٌ لِلتَّعْظِيمِ لِأَنَّهَا مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ.
وَالرِّزْقُ اسْمٌ لِمَا يُرْزَقُ أَيْ يُعْطَى لِلِانْتِفَاعِ بِهِ، وَوَصْفُهُ بِكَرِيمٍ بِمَعْنَى النَّفِيسِ فَهُوَ وَصْفٌ حَقِيقِيٌّ لِلرِّزْقِ، وَفِعْلُهُ كَرُمَ بِضَمِّ الْعَيْنِ، وَالْكَرَمِ فِي كُلِّ شَيْء الصِّفَات المحمودية فِي صِنْفِهِ أَوْ نَوْعِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ فِي سُورَةِ النَّمْلِ [٢٩]، وَمِنْهُ إِطْلَاقُ الْكَرَمِ عَلَى السَّخَاءِ وَالْجُودِ، وَالْوَصْفُ مِنْهُ كَرِيمٌ، وَتَصِحُّ إِرَادَتُهُ هُنَا عَلَى أَنَّ وَصْفَ الرِّزْقِ بِهِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، أَيْ كِرِيمٌ رَازِقُهُ، فَإِنَّ الْكَرِيمَ يَرْزُقُ بِوَفْرَةٍ وَبِغير حِسَاب.
[٥، ٦]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : الْآيَات ٥ إِلَى ٦]
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦)
تَشْبِيهُ حَالٍ بِحَالٍ، وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ: إِمَّا بِتَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، هُوَ اسْمُ إِشَارَةٍ
لِمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ، تَقْدِيرُهُ: هَذَا الْحَالُ كَحَالِ مَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ، وَوَجْهُ الشَّبَهِ هُوَ كَرَاهِيَةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي بَادِئِ الْأَمْرِ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ فِي الْوَاقِعِ
263
وَإِمَّا بِتَقْدِيرِ مَصْدَرٍ لِفِعْلِ الِاسْتِقْرَارِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْخَبَرُ بِالْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الْأَنْفَال: ١] إِذِ التَّقْدِيرُ: اسْتَقَرَّتْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ اسْتِقْرَارًا كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ، أَيْ فِيمَا يَلُوحُ إِلَى الْكَرَاهِيَةِ وَالِامْتِعَاضِ فِي بَادِئِ الْأَمْرِ، ثُمَّ نَوَالِهِمُ النَّصْرَ وَالْغَنِيمَةَ فِي نِهَايَةِ الْأَمْرِ، فَالتَّشْبِيهُ تَمْثِيلِيٌّ وَلَيْسَ مُرَاعًى فِيهِ تَشْبِيهُ بَعْضِ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِبَعْضِ أَجْزَاءِ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، أَيْ أَنَّ مَا كَرِهْتُمُوهُ مِنْ قِسْمَةِ الْأَنْفَالِ عَلَى خِلَافِ مُشْتَهَاكُمْ سَيَكُونُ فِيهِ خَيْرٌ عَظِيمٌ لَكُمْ، حَسَبَ عَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِمْ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى مَا فِي الْكَلَامِ مِنْ مَعْنَى مُخَالَفَةِ مُشْتَهَاهُمْ قَوْلُهُ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَال: ١] كَمَا تَقَدَّمَ، مَعَ قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ.
فَجُمْلَةُ: وَإِنَّ فَرِيقاً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَالْعَامِلُ فِيهَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ هَذَا وَجْهُ اتِّصَالِ كَافِ التَّشْبِيهِ بِمَا قبلهَا على مَا الْأَظْهَرِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ بَلَغَتِ الْعِشْرِينَ قَدِ اسْتَقْصَاهَا ابْنُ عَادِلٍ، وَهِيَ لَا تَخْلُو مِنْ تَكَلُّفٍ، وَبَعْضُهَا مُتَّحِدُ الْمَعْنَى وَبَعْضُهَا مُخْتَلِفُهُ، وَأَحْسَنُ الْوُجُوهِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَمَعْنَاهُ قَرِيبٌ مِمَّا ذَكَرْنَا وَتَقْدِيرُهُ بَعِيدٌ مِنْهُ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْأُسْلُوبِ: الِانْتِقَالُ إِلَى تَذْكِيرِهِمْ بِالْخُرُوجِ إِلَى بَدْرٍ وَمَا ظَهَرَ فِيهِ مِنْ دَلَائِلِ عِنَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْمُؤْمِنِينَ.
وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ. وَالْإِخْرَاجُ: إِمَّا مُرَادٌ بِهِ الْأَمْرُ بِالْخُرُوجِ لِلْغَزْوِ، وَإِمَّا تَقْدِيرُ الْخُرُوجِ لَهُمْ وَتَيْسِيرُهُ.
وَالْخُرُوجُ مُفَارَقَةُ الْمَنْزِلِ وَالْبَلَدِ إِلَى حِينِ الرُّجُوعِ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي خُرِجَ مِنْهُ، أَوْ إِلَى حِينِ الْبُلُوغِ إِلَى الْمَوْضِعِ الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ.
وَالْإِخْرَاجُ مِنَ الْبَيْتِ: هُوَ الْإِخْرَاجُ الْمُعَيَّنُ الَّذِي خَرَجَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَازِيًا إِلَى بَدْرٍ.
وَالْبَاءُ فِي بِالْحَقِّ لِلْمُصَاحَبَةِ أَيْ إِخْرَاجًا مُصَاحِبًا لِلْحَقِّ، وَالْحَقُّ هُنَا الصَّوَابُ، لِمَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنْ أَنَّ اسْمَ الْحَقِّ جَامِعٌ لِمَعْنَى كَمَالِ كُلِّ شَيْءٍ فِي مَحَامِدِ نَوْعِهِ.
وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ أَمْرًا مُوَافِقًا لِلْمَصْلَحَةِ فِي حَالِ كَرَاهَةِ فَرِيقٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ الْخُرُوجَ.
فَجُمْلَةُ: وَإِنَّ فَرِيقاً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَالْعَامِلُ فِيهَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ هَذَا وَجْهُ اتِّصَالِ كَافِ التَّشْبِيهِ بِمَا قبلهَا على مَا الْأَظْهَرِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ بَلَغَتِ الْعِشْرِينَ قَدِ اسْتَقْصَاهَا ابْنُ عَادِلٍ، وَهِيَ لَا تَخْلُو مِنْ تَكَلُّفٍ، وَبَعْضُهَا مُتَّحِدُ الْمَعْنَى وَبَعْضُهَا مُخْتَلِفُهُ، وَأَحْسَنُ الْوُجُوهِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَمَعْنَاهُ قَرِيبٌ مِمَّا ذَكَرْنَا وَتَقْدِيرُهُ بَعِيدٌ مِنْهُ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْأُسْلُوبِ: الِانْتِقَالُ إِلَى تَذْكِيرِهِمْ بِالْخُرُوجِ إِلَى بَدْرٍ وَمَا ظَهَرَ فِيهِ مِنْ دَلَائِلِ عِنَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْمُؤْمِنِينَ.
وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ. وَالْإِخْرَاجُ: إِمَّا مُرَادٌ بِهِ الْأَمْرُ بِالْخُرُوجِ لِلْغَزْوِ، وَإِمَّا تَقْدِيرُ الْخُرُوجِ لَهُمْ وَتَيْسِيرُهُ.
وَالْخُرُوجُ مُفَارَقَةُ الْمَنْزِلِ وَالْبَلَدِ إِلَى حِينِ الرُّجُوعِ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي خُرِجَ مِنْهُ، أَوْ إِلَى حِينِ الْبُلُوغِ إِلَى الْمَوْضِعِ الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ.
وَالْإِخْرَاجُ مِنَ الْبَيْتِ: هُوَ الْإِخْرَاجُ الْمُعَيَّنُ الَّذِي خَرَجَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَازِيًا إِلَى بَدْرٍ.
وَالْبَاءُ فِي بِالْحَقِّ لِلْمُصَاحَبَةِ أَيْ إِخْرَاجًا مُصَاحِبًا لِلْحَقِّ، وَالْحَقُّ هُنَا الصَّوَابُ، لِمَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنْ أَنَّ اسْمَ الْحَقِّ جَامِعٌ لِمَعْنَى كَمَالِ كُلِّ شَيْءٍ فِي مَحَامِدِ نَوْعِهِ.
وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ أَمْرًا مُوَافِقًا لِلْمَصْلَحَةِ فِي حَالِ كَرَاهَةِ فَرِيقٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ الْخُرُوجَ.
264
وَقَدْ أَشَارَ هَذَا الْكَلَامُ إِلَى السَّبَبِ الَّذِي خرج بِهِ الْمُسلمُونَ إِلَى بَدْرٍ، فَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
الْمُشْرِكِينَ يَوْمُ بَدْرٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِي أَوَائِلِ رَمَضَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِلْهِجْرَةِ أَنْ قَفَلَتْ عِيرٌ لِقُرَيْشٍ فِيهَا أَمْوَالٌ وَتِجَارَةٌ لَهُمْ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ، رَاجِعَةً إِلَى مَكَّةَ، وَفِيهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فِي زُهَاءِ ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُ هَذِهِ الْعِيرِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَدَبَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهَا فَانْتَدَبَ بَعْضُهُمْ وَتَثَاقَلَ بَعْضٌ، وَهُمُ الَّذِينَ كَرِهُوا الْخُرُوجَ، وَلَمْ يَنْتَظِرْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ تَثَاقَلُوا وَمَنْ لَمْ يَحْضُرْ ظَهْرُهُمْ أَيْ رَوَاحِلُهُمْ فَسَارَ وَقَدِ اجْتَمَعَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ خَرَجُوا يَوْمَ ثَمَانِيَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَكَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ لَا يَلْقَوْنَ حَرْبًا وَأَنَّهُمْ يُغِيرُونَ عَلَى الْعِيرِ ثُمَّ يَرْجِعُونَ، وَبَلَغَ أَبَا سُفْيَانَ خَبَرُ خُرُوجِ الْمُسْلِمِينَ فَأَرْسَلَ صَارِخًا يَسْتَصْرِخُ قُرَيْشًا لِحِمَايَةِ الْعِيرِ، فَتَجَهَّزَ مِنْهُمْ جَيْشٌ، وَلِمَا بَلَغَ الْمُسْلِمُونَ وَادِي ذَفِرَانَ بَلَغَهُمْ خُرُوجُ قُرَيْشٍ لِتَلَقِّي الْعِيرِ، فَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِالْمُضِيِّ فِي سَبِيلِهِ وَكَانَتِ الْعِيرُ يَوْمَئِذٍ فَاتَتْهُمْ، وَاطْمَأَنَّ أَبُو سُفْيَانَ لِذَلِكَ فَأَرْسَلَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ نَجَّى عِيرَكُمْ فَارْجِعُوا، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَرِدَ بَدْرًا (وَكَانَ بَدْرٌ مَوْضِعَ مَاءٍ فِيهِ سُوقٌ لِلْعَرَبِ فِي كُلِّ عَامٍ) فَنُقِيمُ ثَلَاثًا، فَنَنْحَرُ الْجُزُرَ وَنَسَقِي الْخَمْرَ وَتَعْزِفُ عَلَيْنَا الْقِيَانُ، وَتَتَسَامَعُ الْعَرَبُ بِنَا وَبِمَسِيرِنَا فَلَا يَزَالُوا يَهَابُونَنَا وَيَعْلَمُوا أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُصِبِ الْعِيرَ، وَأَنَّا قَدْ أَعْضَضْنَاهُ، فَسَارَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى بدر وتنبكت عِيرُهُمْ عَلَى طَرِيقِ السَّاحِلِ وَأَعْلَمَ اللَّهُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَأَعْلَمَ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَشَارَهُمْ وَقَالَ: الْعِيرُ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ أَمِ النَّفِيرُ، فَقَالَ أَكْثَرُهُمُ الْعِيرُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَعَادَ اسْتِشَارَتَهُمْ فَأَشَارَ أَكْثَرُهُمْ قَائِلِينَ: عَلَيْكَ بِالْعِيرِ فَإِنَّا خَرَجْنَا لِلْعِيرِ فَظَهَرَ الْغَضَبُ عَلَى وَجْهِهِ. فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَأَكْثَرُ الْأَنْصَارِ، فَفَوَّضُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ مَا يَرَى أَنْ يَسِيرَ إِلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُمْ حِينَئِذٍ أَنْ يَسِيرُوا إِلَى الْقَوْمِ بِبَدْرٍ فَسَارُوا. وَكَانَ النَّصْرُ الْعَظِيمُ الَّذِي هَزَّ بِهِ الْإِسْلَامُ رَأْسَهُ.
فَهَذَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ خَرَجُوا عَلَى نِيَّةِ التَّعَرُّضِ لِلْعِيرِ، وَأَنْ لَيْسَ دُونَ الْعِيرِ قِتَالٌ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ عَنْ تَجَمُّعِ قُرَيْشٍ لِقِتَالِهِمْ تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَأَحْسَنَ، وَتَكَلَّمَ عُمَرُ فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ
الْمُشْرِكِينَ يَوْمُ بَدْرٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِي أَوَائِلِ رَمَضَانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِلْهِجْرَةِ أَنْ قَفَلَتْ عِيرٌ لِقُرَيْشٍ فِيهَا أَمْوَالٌ وَتِجَارَةٌ لَهُمْ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ، رَاجِعَةً إِلَى مَكَّةَ، وَفِيهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فِي زُهَاءِ ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا بَلَغَ خَبَرُ هَذِهِ الْعِيرِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَدَبَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهَا فَانْتَدَبَ بَعْضُهُمْ وَتَثَاقَلَ بَعْضٌ، وَهُمُ الَّذِينَ كَرِهُوا الْخُرُوجَ، وَلَمْ يَنْتَظِرْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ تَثَاقَلُوا وَمَنْ لَمْ يَحْضُرْ ظَهْرُهُمْ أَيْ رَوَاحِلُهُمْ فَسَارَ وَقَدِ اجْتَمَعَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ خَرَجُوا يَوْمَ ثَمَانِيَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَكَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ لَا يَلْقَوْنَ حَرْبًا وَأَنَّهُمْ يُغِيرُونَ عَلَى الْعِيرِ ثُمَّ يَرْجِعُونَ، وَبَلَغَ أَبَا سُفْيَانَ خَبَرُ خُرُوجِ الْمُسْلِمِينَ فَأَرْسَلَ صَارِخًا يَسْتَصْرِخُ قُرَيْشًا لِحِمَايَةِ الْعِيرِ، فَتَجَهَّزَ مِنْهُمْ جَيْشٌ، وَلِمَا بَلَغَ الْمُسْلِمُونَ وَادِي ذَفِرَانَ بَلَغَهُمْ خُرُوجُ قُرَيْشٍ لِتَلَقِّي الْعِيرِ، فَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِالْمُضِيِّ فِي سَبِيلِهِ وَكَانَتِ الْعِيرُ يَوْمَئِذٍ فَاتَتْهُمْ، وَاطْمَأَنَّ أَبُو سُفْيَانَ لِذَلِكَ فَأَرْسَلَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ نَجَّى عِيرَكُمْ فَارْجِعُوا، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَرِدَ بَدْرًا (وَكَانَ بَدْرٌ مَوْضِعَ مَاءٍ فِيهِ سُوقٌ لِلْعَرَبِ فِي كُلِّ عَامٍ) فَنُقِيمُ ثَلَاثًا، فَنَنْحَرُ الْجُزُرَ وَنَسَقِي الْخَمْرَ وَتَعْزِفُ عَلَيْنَا الْقِيَانُ، وَتَتَسَامَعُ الْعَرَبُ بِنَا وَبِمَسِيرِنَا فَلَا يَزَالُوا يَهَابُونَنَا وَيَعْلَمُوا أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يُصِبِ الْعِيرَ، وَأَنَّا قَدْ أَعْضَضْنَاهُ، فَسَارَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى بدر وتنبكت عِيرُهُمْ عَلَى طَرِيقِ السَّاحِلِ وَأَعْلَمَ اللَّهُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَأَعْلَمَ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَشَارَهُمْ وَقَالَ: الْعِيرُ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ أَمِ النَّفِيرُ، فَقَالَ أَكْثَرُهُمُ الْعِيرُ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَعَادَ اسْتِشَارَتَهُمْ فَأَشَارَ أَكْثَرُهُمْ قَائِلِينَ: عَلَيْكَ بِالْعِيرِ فَإِنَّا خَرَجْنَا لِلْعِيرِ فَظَهَرَ الْغَضَبُ عَلَى وَجْهِهِ. فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَأَكْثَرُ الْأَنْصَارِ، فَفَوَّضُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ مَا يَرَى أَنْ يَسِيرَ إِلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُمْ حِينَئِذٍ أَنْ يَسِيرُوا إِلَى الْقَوْمِ بِبَدْرٍ فَسَارُوا. وَكَانَ النَّصْرُ الْعَظِيمُ الَّذِي هَزَّ بِهِ الْإِسْلَامُ رَأْسَهُ.
فَهَذَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ خَرَجُوا عَلَى نِيَّةِ التَّعَرُّضِ لِلْعِيرِ، وَأَنْ لَيْسَ دُونَ الْعِيرِ قِتَالٌ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ عَنْ تَجَمُّعِ قُرَيْشٍ لِقِتَالِهِمْ تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَأَحْسَنَ، وَتَكَلَّمَ عُمَرُ فَأَحْسَنَ، ثُمَّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ
265
فَقَالَ «يَا رَسُولَ اللَّهِ امْضِ لِمَا أَرَاكَ اللَّهُ فَنَحْنُ مَعَكَ وَاللَّهِ لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِمُوسَى اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ، نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ وَبَيْنِ يَديك وخلفك، فو الَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى (بَرْكِ الْغِمَادِ) (بِفَتْحِ بَاءِ بَرْكِ وَغَيْنُ الْغِمَادِ ومعجمة مَكْسُورَةٌ مَوْضِعٍ بِالْيَمَنِ بَعِيدٍ جِدًّا عَن مَكَّة) لجادلنا مَعَكَ مِنْ دُونِهِ حَتَّى تَبْلُغَهُ. ثُمَّ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَشِيرُوا
عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ»
وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ حِينَ بَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ قَالُوا يَوْمئِذٍ «إِنَّا برءاء مِنْ ذِمَامِكَ حَتَّى تَصِلَ إِلَى دِيَارِنَا فَإِذَا وَصَلْتَ إِلَيْنَا فَإِنَّكَ فِي ذِمَّتِنَا نَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا» فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَتَخَوَّفُ أَنْ يَكُونَ الْأَنْصَارُ لَا يَرَوْنَ نَصْرَهُ إِلَّا مِمَّنْ دَهَمَهُ بِالْمَدِينَةِ، وَأَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ مِنْ بِلَادِهِمْ، فَلَمَّا
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَشِيرُوا عَلَيَّ قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ «وَاللَّهِ لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: أَجَلْ قَالَ: فَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أَرَدْتَ فَنحْن مَعَك فو الَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْر فخصته لَخُضْنَاهُ مَعَكَ وَمَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا إِنَّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ صُدُقٌ فِي اللِّقَاءِ لَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ بِنَا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ» فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: سِيرُوا وَابْشُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ- أَيْ وَلَمْ يَخُصَّ وَعْدَ النَّصْرِ، بِتَلَقِّي الْعِيرِ فَقَطْ- فَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ زَالَ مِنْ نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَارِهِينَ لِلْقِتَالِ مَا كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْكَرَاهِيَةِ
، وَقَوْلُهُ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْإِخْرَاجِ الَّذِي أَفَادَتْهُ، (مَا) الْمَصْدَرِيَّةُ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ تَثَاقَلُوا وَقْتَ الْعَزْمِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَالَّذِينَ اخْتَارُوا الْعِيرَ دُونَ النَّفِيرِ حِينَ اسْتِشَارَةِ وَادِي ذَفِرَانَ، لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مُقْتَرِنٌ بِالْخُرُوجِ لِأَنَّ الْخُرُوجَ كَانَ مُمْتَدًّا فِي الزَّمَانِ، فَجُمْلَةُ الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ حَالٌ مُقَارِنَةٌ لِعَامِلِهَا وَهُوَ أَخْرَجَكَ.
وَتَأْكِيدُ خَبَرِ كَرَاهِيَةِ فَرِيقٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِإِنَّ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ شَأْنِهِمْ بِتَنْزِيلِ السَّامِعِ غَيْرِ الْمُنْكِرِ لِوُقُوعِ الْخَبَرِ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِ لِأَنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ مِمَّا
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَشِيرُوا
عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ»
وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْأَنْصَارَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ حِينَ بَايَعُوهُ بِالْعَقَبَةِ قَالُوا يَوْمئِذٍ «إِنَّا برءاء مِنْ ذِمَامِكَ حَتَّى تَصِلَ إِلَى دِيَارِنَا فَإِذَا وَصَلْتَ إِلَيْنَا فَإِنَّكَ فِي ذِمَّتِنَا نَمْنَعُكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا» فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَتَخَوَّفُ أَنْ يَكُونَ الْأَنْصَارُ لَا يَرَوْنَ نَصْرَهُ إِلَّا مِمَّنْ دَهَمَهُ بِالْمَدِينَةِ، وَأَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ مِنْ بِلَادِهِمْ، فَلَمَّا
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَشِيرُوا عَلَيَّ قَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ «وَاللَّهِ لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: أَجَلْ قَالَ: فَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أَرَدْتَ فَنحْن مَعَك فو الَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْر فخصته لَخُضْنَاهُ مَعَكَ وَمَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا إِنَّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ صُدُقٌ فِي اللِّقَاءِ لَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ بِنَا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ» فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: سِيرُوا وَابْشُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ- أَيْ وَلَمْ يَخُصَّ وَعْدَ النَّصْرِ، بِتَلَقِّي الْعِيرِ فَقَطْ- فَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ زَالَ مِنْ نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَارِهِينَ لِلْقِتَالِ مَا كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْكَرَاهِيَةِ
، وَقَوْلُهُ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْإِخْرَاجِ الَّذِي أَفَادَتْهُ، (مَا) الْمَصْدَرِيَّةُ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ تَثَاقَلُوا وَقْتَ الْعَزْمِ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَالَّذِينَ اخْتَارُوا الْعِيرَ دُونَ النَّفِيرِ حِينَ اسْتِشَارَةِ وَادِي ذَفِرَانَ، لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مُقْتَرِنٌ بِالْخُرُوجِ لِأَنَّ الْخُرُوجَ كَانَ مُمْتَدًّا فِي الزَّمَانِ، فَجُمْلَةُ الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ حَالٌ مُقَارِنَةٌ لِعَامِلِهَا وَهُوَ أَخْرَجَكَ.
وَتَأْكِيدُ خَبَرِ كَرَاهِيَةِ فَرِيقٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِإِنَّ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ شَأْنِهِمْ بِتَنْزِيلِ السَّامِعِ غَيْرِ الْمُنْكِرِ لِوُقُوعِ الْخَبَرِ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِ لِأَنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ مِمَّا
266
شَأْنُهُ أَنْ لَا يَقَعَ، إِذْ كَانَ الشَّأْنُ اتِّبَاعُ مَا يُحِبُّهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ التَّفْوِيضُ إِلَيْهِ، وَمَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَكْرَهُوا لِقَاءَ الْعَدُوِّ. وَيَسْتَلْزِمُ هَذَا التَّنْزِيلُ التَّعْجِيبَ مِنْ حَالِ الْمُخْبَرِ عَنْهُمْ بِهَذِهِ الْكَرَاهِيَةِ فَيَكُونُ تَأْكِيدُ الْخَبَرِ كِنَايَةً عَنِ التَّعْجِيبِ مِنَ الْمُخْبَرِ عَنْهُمْ.
وَجُمْلَةُ يُجادِلُونَكَ حَالٌ مِنْ فَرِيقاً فَالضَّمِيرُ لِفَرِيقٍ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَمْعٍ. وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ لِحِكَايَةِ حَالِ الْمُجَادَلَةِ زِيَادَةٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْهَا، وَهَذَا التَّعْجِيبُ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُجادِلُنا مِنْ قَوْلِهِ: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود: ٧٤] إِذْ قَالَ يُجادِلُنا وَلَمْ يَقِلْ «جَادَلَنَا».
وَقَوله: بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لَوْمٌ لَهُمْ عَلَى الْمُجَادَلَةِ فِي الْخُرُوجِ الْخَاصِّ، وَهُوَ الْخُرُوجُ
لِلنَّفِيرِ وَتَرْكُ الْعِيرِ، بَعْدَ أَنْ تَبَيَّنَ أَيْ ظَهَرَ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ لَهُمُ النَّصْرَ، وَهَذَا التَّبَيُّنُ هُوَ بَيِّنٌ فِي ذَاتِهِ سَوَاءٌ شَعَرَ بِهِ كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ فَإِنَّهُ بِحَيْثُ لَا يَنْبَغِي الِاخْتِلَافُ فِيهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَرَبًا أَذْكِيَاءَ، وَكَانُوا مُؤْمِنِينَ أَصْفِيَاءَ، وَقَدْ أَخْبَرَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ نَاصِرُهُمْ عَلَى إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: طَائِفَةِ الْعِيرِ أَوْ طَائِفَةِ النَّفِيرِ، فَنَصْرُهُمْ إِذَنْ مَضْمُونٌ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ الْعِيرَ قَدْ أَخْطَأَتْهُمْ، وَقَدْ بَقِيَ النَّفِيرُ، فَكَانَ بَيِّنًا أَنَّهُمْ إِذَا لَقُوا النَّفِيرَ يَنْصُرُهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ، ثمَّ رَأَوْا كَرَاهَة النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اخْتَارُوا الْعِيرَ، فَكَانَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي الْيَقِينِ بِأَنَّهُمْ إِذَا لَقُوا الْمُشْرِكِينَ يَنْتَصِرُونَ عَلَيْهِمْ لَا مَحَالَةَ، وَلَكِنَّهُمْ فَضَّلُوا غَنِيمَةَ الْعِيرِ عَلَى خَضْدِ شَوْكَةِ أَعْدَائِهِمْ وَنُهُوضِ شَوْكَتِهِمْ بِنَصْرِ بَدْرٍ، فَذَلِكَ مَعْنَى تَبَيُّنِ الْحَقِّ أَيْ رُجْحَانِ دَلِيلِهِ فِي ذَاتِهِ، وَمَنْ خُفِيَ عَلَيْهِ هَذَا التبيّن مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَعْذُرْهُ اللَّهُ فِي خَفَائِهِ عَلَيْهِ.
وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ يُؤْخَذُ حُكْمُ مُؤَاخَذَةِ الْمُجْتَهِدِ إِذَا قَصَّرَ فِي فَهْمِ مَا هُوَ مَدْلُولٌ لِأَهْلِ النَّظَرِ، وَقَدْ غَضِبَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سُؤَالِ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ بَعْدَ أَنْ سَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الْغَنَمِ فَأَجَابَهُ هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ. فَلَمَّا سَأَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ تَمَعَّرَ وَجْهُهُ
وَقَالَ «مَالَكَ وَلَهَا مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا تَشْرَبُ الْمَاءَ وَتَرْعَى الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا»
وَرَوَى مَالِكٌ، فِي «الْمُوَطَّأِ»، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ مَرَّ بِقَوْمٍ مُحْرِمِينَ فَاسْتَفْتَوْهُ فِي لَحْمِ صَيْدٍ وَجَدُوا أُنَاسًا أَحِلَّةً يَأْكُلُونَهُ فَأَفْتَاهُمْ بِالْأَكْلِ مِنْهُ ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَسَأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ
وَجُمْلَةُ يُجادِلُونَكَ حَالٌ مِنْ فَرِيقاً فَالضَّمِيرُ لِفَرِيقٍ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَمْعٍ. وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ لِحِكَايَةِ حَالِ الْمُجَادَلَةِ زِيَادَةٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْهَا، وَهَذَا التَّعْجِيبُ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُجادِلُنا مِنْ قَوْلِهِ: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود: ٧٤] إِذْ قَالَ يُجادِلُنا وَلَمْ يَقِلْ «جَادَلَنَا».
وَقَوله: بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لَوْمٌ لَهُمْ عَلَى الْمُجَادَلَةِ فِي الْخُرُوجِ الْخَاصِّ، وَهُوَ الْخُرُوجُ
لِلنَّفِيرِ وَتَرْكُ الْعِيرِ، بَعْدَ أَنْ تَبَيَّنَ أَيْ ظَهَرَ أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ لَهُمُ النَّصْرَ، وَهَذَا التَّبَيُّنُ هُوَ بَيِّنٌ فِي ذَاتِهِ سَوَاءٌ شَعَرَ بِهِ كُلُّهُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ فَإِنَّهُ بِحَيْثُ لَا يَنْبَغِي الِاخْتِلَافُ فِيهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَرَبًا أَذْكِيَاءَ، وَكَانُوا مُؤْمِنِينَ أَصْفِيَاءَ، وَقَدْ أَخْبَرَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ اللَّهَ نَاصِرُهُمْ عَلَى إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: طَائِفَةِ الْعِيرِ أَوْ طَائِفَةِ النَّفِيرِ، فَنَصْرُهُمْ إِذَنْ مَضْمُونٌ، ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ الْعِيرَ قَدْ أَخْطَأَتْهُمْ، وَقَدْ بَقِيَ النَّفِيرُ، فَكَانَ بَيِّنًا أَنَّهُمْ إِذَا لَقُوا النَّفِيرَ يَنْصُرُهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ، ثمَّ رَأَوْا كَرَاهَة النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا اخْتَارُوا الْعِيرَ، فَكَانَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي الْيَقِينِ بِأَنَّهُمْ إِذَا لَقُوا الْمُشْرِكِينَ يَنْتَصِرُونَ عَلَيْهِمْ لَا مَحَالَةَ، وَلَكِنَّهُمْ فَضَّلُوا غَنِيمَةَ الْعِيرِ عَلَى خَضْدِ شَوْكَةِ أَعْدَائِهِمْ وَنُهُوضِ شَوْكَتِهِمْ بِنَصْرِ بَدْرٍ، فَذَلِكَ مَعْنَى تَبَيُّنِ الْحَقِّ أَيْ رُجْحَانِ دَلِيلِهِ فِي ذَاتِهِ، وَمَنْ خُفِيَ عَلَيْهِ هَذَا التبيّن مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَعْذُرْهُ اللَّهُ فِي خَفَائِهِ عَلَيْهِ.
وَمِنْ هَذِهِ الْآيَةِ يُؤْخَذُ حُكْمُ مُؤَاخَذَةِ الْمُجْتَهِدِ إِذَا قَصَّرَ فِي فَهْمِ مَا هُوَ مَدْلُولٌ لِأَهْلِ النَّظَرِ، وَقَدْ غَضِبَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سُؤَالِ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ بَعْدَ أَنْ سَأَلَهُ عَنْ ضَالَّةِ الْغَنَمِ فَأَجَابَهُ هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ. فَلَمَّا سَأَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ تَمَعَّرَ وَجْهُهُ
وَقَالَ «مَالَكَ وَلَهَا مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا تَشْرَبُ الْمَاءَ وَتَرْعَى الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا»
وَرَوَى مَالِكٌ، فِي «الْمُوَطَّأِ»، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ مَرَّ بِقَوْمٍ مُحْرِمِينَ فَاسْتَفْتَوْهُ فِي لَحْمِ صَيْدٍ وَجَدُوا أُنَاسًا أَحِلَّةً يَأْكُلُونَهُ فَأَفْتَاهُمْ بِالْأَكْلِ مِنْهُ ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَسَأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ
267
ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بِمَ أَفْتَيْتَهُمْ قَالَ: أَفْتَيْتُهُمْ بِأَكْلِهِ فَقَالَ: «لَوْ أَفْتَيْتَهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ لَأَوْجَعْتُكَ».
وَجُمْلَةُ: كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي يُجادِلُونَكَ أَيْ حَالَتُهُمْ فِي وَقْتِ مُجَادَلَتِهِمْ إِيَّاكَ تُشْبِهُ حَالَتُهُمْ لَوْ سَاقَهُمْ سَائِقٌ إِلَى الْمَوْتِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَوْتِ الْحَالَةُ الْمُضَادَّةُ لِلْحَيَاةِ وَهُوَ مَعْنًى تَكْرَهُهُ نُفُوسُ الْبَشَرِ، وَيُصَوِّرُهُ كُلُّ عَقْلٍ بِمَا يَتَخَيَّلُهُ مِنَ الْفَظَاعَةِ وَالْبَشَاعَةِ كَمَا تَصَوَّرَهُ أَبُو ذُؤَيْبٍ فِي صُورَةِ سَبُعٍ فِي قَوْلِهِ:
وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا وَكَمَا تَخَيَّلَ، تَأَبَّطَ شَرًّا الْمَوْتَ طَامِعًا فِي اغْتِيَالِهِ فَنَجَا مِنْهُ حِينَ حَاصَرَهُ أَعْدَاؤُهُ فِي جُحْرٍ فِي جَبَلٍ:
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ تَشْبِيهٌ لِحَالِهِمْ، فِي حِينِ الْمُجَادَلَةِ فِي اللَّحَاقِ بِالْمُشْرِكِينَ، بِحَالِ مَنْ يُجَادِلُ وَيُمَانِعُ مَنْ يَسُوقُهُ إِلَى ذَاتِ الْمَوْت.
وَهَذَا التَّفْسِير أَلْيَقُ بِالتَّشْبِيهِ لِتَحْصُلَ الْمُخَالِفَةُ الْمُطْلَقَةُ بَيْنَ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهَةِ وَالْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، وَإِلَّا فَإِنَّ أَمْرَهُمْ بِقِتَالِ الْعَدُوِّ الْكَثِيرِ الْعَدَدِ، وَهُمْ فِي قِلَّةٍ، إِرْجَاءٌ بِهِمْ إِلَى الْمَوْتِ إِلَّا أَنَّهُ مَوْتٌ مَظْنُونٌ، وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ يَظْهَرُ حُسْنُ مَوْقِعِ جُمْلَةِ: وَهُمْ يَنْظُرُونَ أَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَتَأَوَّلُوا الْمَوْتَ فِي الْآيَةِ بِأَنَّهُ الْمَوْتُ الْمُتَيَقَّنُ فَيَكُونُ التَّخَالُفُ بَيْنَ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ تَخَالُفًا بِالتَّقْيِيدِ.
وَجُمْلَةُ: وَهُمْ يَنْظُرُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يُساقُونَ وَمَفْعُولُ يَنْظُرُونَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِلَى الْمَوْتِ أَيْ: وَهُمْ يَنْظُرُونَ الْمَوْتَ، لِأَنَّ حَالَةَ الْخَوْفِ مِنَ الشَّيْءِ الْمُخَوِّفِ إِذَا كَانَ مَنْظُورًا إِلَيْهِ تَكُونُ أَشَدَّ مِنْهَا لَوْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُسَاقُ إِلَيْهِ وَلَا يَرَاهُ، لِأَنَّ لِلْحِسِّ مِنَ التَّأْثِيرِ عَلَى الْإِدْرَاكِ مَا لَيْسَ لِمُجَرَّدِ التَّعَقُّلِ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ جَعْفَرِ بْنِ عُلْبَةَ:
يَرَى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا وَفِي عَكْسِهِ فِي الْمَسَرَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [الْبَقَرَة: ٥٠].
وَجُمْلَةُ: كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي يُجادِلُونَكَ أَيْ حَالَتُهُمْ فِي وَقْتِ مُجَادَلَتِهِمْ إِيَّاكَ تُشْبِهُ حَالَتُهُمْ لَوْ سَاقَهُمْ سَائِقٌ إِلَى الْمَوْتِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَوْتِ الْحَالَةُ الْمُضَادَّةُ لِلْحَيَاةِ وَهُوَ مَعْنًى تَكْرَهُهُ نُفُوسُ الْبَشَرِ، وَيُصَوِّرُهُ كُلُّ عَقْلٍ بِمَا يَتَخَيَّلُهُ مِنَ الْفَظَاعَةِ وَالْبَشَاعَةِ كَمَا تَصَوَّرَهُ أَبُو ذُؤَيْبٍ فِي صُورَةِ سَبُعٍ فِي قَوْلِهِ:
وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا وَكَمَا تَخَيَّلَ، تَأَبَّطَ شَرًّا الْمَوْتَ طَامِعًا فِي اغْتِيَالِهِ فَنَجَا مِنْهُ حِينَ حَاصَرَهُ أَعْدَاؤُهُ فِي جُحْرٍ فِي جَبَلٍ:
فَخَالَطَ سَهْلَ الْأَرْضِ لَمْ يَكْدَحِ الصَّفَا | بِهِ كَدْحَةً وَالْمَوْتُ خَزْيَانُ يَنْظُرُ |
وَهَذَا التَّفْسِير أَلْيَقُ بِالتَّشْبِيهِ لِتَحْصُلَ الْمُخَالِفَةُ الْمُطْلَقَةُ بَيْنَ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهَةِ وَالْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، وَإِلَّا فَإِنَّ أَمْرَهُمْ بِقِتَالِ الْعَدُوِّ الْكَثِيرِ الْعَدَدِ، وَهُمْ فِي قِلَّةٍ، إِرْجَاءٌ بِهِمْ إِلَى الْمَوْتِ إِلَّا أَنَّهُ مَوْتٌ مَظْنُونٌ، وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ يَظْهَرُ حُسْنُ مَوْقِعِ جُمْلَةِ: وَهُمْ يَنْظُرُونَ أَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَتَأَوَّلُوا الْمَوْتَ فِي الْآيَةِ بِأَنَّهُ الْمَوْتُ الْمُتَيَقَّنُ فَيَكُونُ التَّخَالُفُ بَيْنَ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ تَخَالُفًا بِالتَّقْيِيدِ.
وَجُمْلَةُ: وَهُمْ يَنْظُرُونَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يُساقُونَ وَمَفْعُولُ يَنْظُرُونَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: إِلَى الْمَوْتِ أَيْ: وَهُمْ يَنْظُرُونَ الْمَوْتَ، لِأَنَّ حَالَةَ الْخَوْفِ مِنَ الشَّيْءِ الْمُخَوِّفِ إِذَا كَانَ مَنْظُورًا إِلَيْهِ تَكُونُ أَشَدَّ مِنْهَا لَوْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُسَاقُ إِلَيْهِ وَلَا يَرَاهُ، لِأَنَّ لِلْحِسِّ مِنَ التَّأْثِيرِ عَلَى الْإِدْرَاكِ مَا لَيْسَ لِمُجَرَّدِ التَّعَقُّلِ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ جَعْفَرِ بْنِ عُلْبَةَ:
يَرَى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا وَفِي عَكْسِهِ فِي الْمَسَرَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [الْبَقَرَة: ٥٠].
268
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : الْآيَات ٧ إِلَى ٨]
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨)الْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ مَعْطُوفًا عَلَى كَما أَخْرَجَكَ [الْأَنْفَال: ٥] عَطْفُ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ فَيَكُونَ الْمَعْطُوفُ مُشَبَّهًا بِهِ التَّشْبِيهُ الْمُفَادُ بِالْكَافِ وَالْمَعْنَى: كَإِخْرَاجِكَ اللَّهُ مِنْ بَيْتِكَ وَكَوَقْتِ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ الْآيَةَ وَاسْمُ الزَّمَانِ إِذَا أُضِيفَ إِلَى الْجُمْلَةِ كَانَتِ الْجُمْلَةُ فِي تَأْوِيلِ الْمُفْرَدِ فَتُؤَوَّلُ بِمَصْدَرٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَكَوَقْتِ وَعْدِ اللَّهِ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، فَ إِذْ اسْمُ زَمَانٍ مُتَصَرِّفٌ مَجْرُورٌ بِالْعَطْفِ عَلَى مَجْرُورِ كَافِ التَّشْبِيهِ، وَجَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» إِذْ مَفْعُولًا لِفِعْلِ (اذْكُرْ) مَحْذُوفٍ شَأْنَ إِذْ الْوَاقِعَةِ فِي مُفْتَتَحِ الْقَصَصِ، فَيَكُونُ عَطْفُ جُمْلَةِ الْأَمْرِ الْمُقَدَّرِ عَلَى جُمْلَةِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ [الْأَنْفَالُ: ١] وَالْمُنَاسَبَةُ هِيَ أَنَّ كِلَا الْقَوْلَيْنِ فِيهِ تَوْقِيفُهُمْ عَلَى خَطَأِ رَأْيِهِمْ وَأَنَّ مَا كَرِهُوهُ هُوَ الْخَيْر لَهُم.
و «الطَّائِفَة» الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٠٢].
وَجُمْلَةُ: أَنَّها لَكُمْ فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ، هُوَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، أَيْ:
يَعِدُكُمْ مَصِيرَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ لَكُمْ، أَيْ كَوْنُهَا مُعْطَاةً لَكُمْ، وَهُوَ إِعْطَاءُ النَّصْرِ وَالْغَلَبَةِ عَلَيْهَا بَيْنَ قَتْلٍ وَأَسْرٍ وَغَنِيمَةٍ.
وَاللَّامُ لِلْمِلْكِ وَهُوَ هُنَا مِلْكٌ عُرْفِيٌّ، كَمَا يَقُولُونَ كَانَ يَوْمُ كَذَا لِبَنِي فُلَانٍ عَلَى بَنِي فُلَانٍ، فَيُعْرَفُ أَنَّهُ كَانَ لَهُم فِيهِ غَلَبَةَ حَرْبٍ وَهِيَ بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَالْغَنِيمَةِ.
وَتَوَدُّونَ إِمَّا عَطْفٌ عَلَى يَعِدُكُمُ أَيْ إِذْ يَقَعُ الْوَعْدُ مِنَ اللَّهِ وَالْوُدُّ مِنْكُمْ، وَإِمَّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَالْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ، أَيْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ فِي حَالِ وُدِّكُمْ لِقَاءَ الطَّائِفَةِ غَيْرِ ذَاتِ الشَّوْكَةِ وَهَذَا الْوُدُّ هُوَ مَحَلُّ التَّشْبِيهِ الَّذِي أَفَادَهُ عَطْفُ وَإِذْ يَعِدُكُمُ، مَجْرُورِ الْكَافِ فِي قَوْلِهِ: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ [الْأَنْفَال: ٥] فَهُوَ مِمَّا شُبِّهَ
269
بِهِ حَالُ سُؤَالِهِمْ عَنِ الْأَنْفَالِ سُؤَالًا مَشُوبًا بِكَرَاهِيَةِ صَرْفِ الْأَنْفَالِ عَنِ السَّائِلَيْنِ عَنْهَا الرائمين أَخذهَا.
و «الود» الْمَحَبَّةُ وذاتِ الشَّوْكَةِ صَاحِبَةُ الشَّوْكَةِ وَوَقَعَ ذاتِ صِفَةً لِمُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ الطَّائِفَةُ غَيْرُ ذَاتِ الشَّوْكَةِ، أَيِ الطَّائِفَةُ الَّتِي لَا تَسْتَطِيعُ الْقِتَالَ.
والشَّوْكَةِ أَصْلُهَا الْوَاحِدَةُ مِنَ الشَّوْكِ وَهُوَ مَا يَخْرُجُ فِي بَعْضِ النَّبَاتِ مِنْ أَعْوَادٍ دَقِيقَةٍ تَكُونُ مُحَدَّدَةَ الْأَطْرَافِ كَالْإِبَرِ، فَإِذَا نَزَغَتْ جِلْدَ الْإِنْسَانِ أَدْمَتْهُ أَوْ آلَمَتْهُ، وَإِذَا عَلِقَتْ بِثَوْبٍ أَمْسَكَتْهُ، وَذَلِكَ مِثْلُ مَا فِي وَرَقِ الْعَرْفَجِ، وَيُقَالُ هَذِهِ شَجَرَةٌ شَائِكَةٌ، وَمِنَ الْكِنَايَةِ عَنْ ظُهُورِ الشَّرِّ قَوْلُهُمْ: «إِنَّ الْعَوْسَجَ قَدْ أَوْرَقَ»، وَشَوْكَةُ الْعَقْرَبِ الْبَضْعَةُ الَّتِي فِي ذَنَبِهَا تَلْسَعُ بِهَا.
وَشَاعَ اسْتِعَارَةُ الشَّوْكَةِ لِلْبَأْسِ، يُقَالُ: فُلَانٌ ذُو شَوْكَةٍ، أَيْ ذُو بَأْسٍ يُتَّقَى كَمَا يُسْتَعَارُ الْقَرْنُ لِلْبَأْسِ فِي قَوْلِهِمْ: أَبْدَى قَرْنَهُ، وَالنَّابُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِمْ: كَشَّرَ عَنْ نَابِهِ، وَذَلِكَ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ أَيْ تَوَدُّونَ الطَّائِفَةَ الَّتِي لَا يُخْشَى بَأْسُهَا تَكُونُ لَكُمْ أَيْ مِلْكَكُمْ فَتَأْخُذُونَهُمْ.
وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى مَا فِي قِصَّةِ بَدْرٍ حِينَ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ بِانْصِرَافِ عِيرِ قُرَيْشٍ نَحْوَ السَّاحِلِ وَبِمَجِيءِ نَفِيرِهِمْ إِلَى بَدْرٍ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، أَيْ إِمَّا الْعِيرُ وَإِمَّا النَّفِيرُ وَعْدًا مُعَلَّقًا عَلَى اخْتِيَارِهِمْ إِحْدَاهُمَا، ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ فِي الْأَمْرِ أَيَخْتَارُونَ اللَّحَاقَ بِالْعِيرِ أَمْ يَقْصِدُونَ نَفِيرَ قُرَيْشٍ، فَقَالَ النَّاسُ: إِنَّمَا خَرَجْنَا لِأَجْلِ
الْعِيرِ، وَرَامُوا اللِّحَاقَ بِالْعِيرِ وَاعْتَذَرُوا بِضَعْفِ اسْتِعْدَادِهِمْ وَأَنَّهُمْ يَخْرُجُوا لِمُقَاتَلَةِ جَيْشٍ، وَكَانَتِ الْعِيرُ لَا تَشْتَمِلُ إِلَّا عَلَى أَرْبَعِينَ رَجُلًا وَكَانَ النَّفِيرُ فِيمَا قيل يشْتَمل عَلَى أَلْفِ رَجُلٍ مُسَلَّحٍ، فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ أَيْ تَوَدُّونَ غَنِيمَةً بِدُونِ حَرْبٍ، فَلَمَّا لَمْ يَطْمَعُوا بِلِقَاءِ الْجَيْشِ وَرَامُوا لِقَاءَ الْعِيرِ كَانُوا يَوَدُّونَ أَنْ تَحْصُلَ لَهُمْ غَنِيمَةُ الْعِيرِ وَلَعَلَّ الِاسْتِشَارَةَ كَانَتْ صُورِيَّةً، أَمَرَ اللَّهُ بِهَا نَبِيَّهُ لِتَثْبِيتِ الْمُسْلِمِينَ لِئَلَّا تَهِنَ قُوَّتُهُمُ النَّفْسِيَّةُ إِنْ أُعْلِمُوا بِأَنَّهُمْ سَيَلْقَوْنَ ذَاتَ الشَّوْكَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَتَوَدُّونَ عَلَى احْتِمَالَيْ
و «الود» الْمَحَبَّةُ وذاتِ الشَّوْكَةِ صَاحِبَةُ الشَّوْكَةِ وَوَقَعَ ذاتِ صِفَةً لِمُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ الطَّائِفَةُ غَيْرُ ذَاتِ الشَّوْكَةِ، أَيِ الطَّائِفَةُ الَّتِي لَا تَسْتَطِيعُ الْقِتَالَ.
والشَّوْكَةِ أَصْلُهَا الْوَاحِدَةُ مِنَ الشَّوْكِ وَهُوَ مَا يَخْرُجُ فِي بَعْضِ النَّبَاتِ مِنْ أَعْوَادٍ دَقِيقَةٍ تَكُونُ مُحَدَّدَةَ الْأَطْرَافِ كَالْإِبَرِ، فَإِذَا نَزَغَتْ جِلْدَ الْإِنْسَانِ أَدْمَتْهُ أَوْ آلَمَتْهُ، وَإِذَا عَلِقَتْ بِثَوْبٍ أَمْسَكَتْهُ، وَذَلِكَ مِثْلُ مَا فِي وَرَقِ الْعَرْفَجِ، وَيُقَالُ هَذِهِ شَجَرَةٌ شَائِكَةٌ، وَمِنَ الْكِنَايَةِ عَنْ ظُهُورِ الشَّرِّ قَوْلُهُمْ: «إِنَّ الْعَوْسَجَ قَدْ أَوْرَقَ»، وَشَوْكَةُ الْعَقْرَبِ الْبَضْعَةُ الَّتِي فِي ذَنَبِهَا تَلْسَعُ بِهَا.
وَشَاعَ اسْتِعَارَةُ الشَّوْكَةِ لِلْبَأْسِ، يُقَالُ: فُلَانٌ ذُو شَوْكَةٍ، أَيْ ذُو بَأْسٍ يُتَّقَى كَمَا يُسْتَعَارُ الْقَرْنُ لِلْبَأْسِ فِي قَوْلِهِمْ: أَبْدَى قَرْنَهُ، وَالنَّابُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِمْ: كَشَّرَ عَنْ نَابِهِ، وَذَلِكَ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ أَيْ تَوَدُّونَ الطَّائِفَةَ الَّتِي لَا يُخْشَى بَأْسُهَا تَكُونُ لَكُمْ أَيْ مِلْكَكُمْ فَتَأْخُذُونَهُمْ.
وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى مَا فِي قِصَّةِ بَدْرٍ حِينَ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ بِانْصِرَافِ عِيرِ قُرَيْشٍ نَحْوَ السَّاحِلِ وَبِمَجِيءِ نَفِيرِهِمْ إِلَى بَدْرٍ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ اللَّهَ وَعَدَهُمْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، أَيْ إِمَّا الْعِيرُ وَإِمَّا النَّفِيرُ وَعْدًا مُعَلَّقًا عَلَى اخْتِيَارِهِمْ إِحْدَاهُمَا، ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ فِي الْأَمْرِ أَيَخْتَارُونَ اللَّحَاقَ بِالْعِيرِ أَمْ يَقْصِدُونَ نَفِيرَ قُرَيْشٍ، فَقَالَ النَّاسُ: إِنَّمَا خَرَجْنَا لِأَجْلِ
الْعِيرِ، وَرَامُوا اللِّحَاقَ بِالْعِيرِ وَاعْتَذَرُوا بِضَعْفِ اسْتِعْدَادِهِمْ وَأَنَّهُمْ يَخْرُجُوا لِمُقَاتَلَةِ جَيْشٍ، وَكَانَتِ الْعِيرُ لَا تَشْتَمِلُ إِلَّا عَلَى أَرْبَعِينَ رَجُلًا وَكَانَ النَّفِيرُ فِيمَا قيل يشْتَمل عَلَى أَلْفِ رَجُلٍ مُسَلَّحٍ، فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ أَيْ تَوَدُّونَ غَنِيمَةً بِدُونِ حَرْبٍ، فَلَمَّا لَمْ يَطْمَعُوا بِلِقَاءِ الْجَيْشِ وَرَامُوا لِقَاءَ الْعِيرِ كَانُوا يَوَدُّونَ أَنْ تَحْصُلَ لَهُمْ غَنِيمَةُ الْعِيرِ وَلَعَلَّ الِاسْتِشَارَةَ كَانَتْ صُورِيَّةً، أَمَرَ اللَّهُ بِهَا نَبِيَّهُ لِتَثْبِيتِ الْمُسْلِمِينَ لِئَلَّا تَهِنَ قُوَّتُهُمُ النَّفْسِيَّةُ إِنْ أُعْلِمُوا بِأَنَّهُمْ سَيَلْقَوْنَ ذَاتَ الشَّوْكَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَتَوَدُّونَ عَلَى احْتِمَالَيْ
270
أَنَّ وَاوَهَا لِلْعَطْفِ أَوْ لِلْحَالِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِهَذِهِ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ إِظْهَارُ أَنَّ مَا يَوَدُّونَهُ لَيْسَ فِيهِ كَمَالُ مَصْلَحَتِهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ اخْتَارَ لَهُمْ مَا فِيهِ كَمَالُ مَصْلَحَتِهِمْ، وَإِنْ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ وَيُرْهِبُهُمْ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى الْأَصْلَحِ بِهِمْ. فَهَذَا تَلَطُّفٌ مِنَ اللَّهِ بِهِمْ.
وَالْمُرَادُ مِنَ الْإِرَادَةِ هُنَا إِرَادَةٌ خَاصَّةٌ وَهِيَ الْمَشِيئَةُ وَالتَّعَلُّقُ التَّنْجِيزِيِّ لِلْإِرَادَةِ الَّتِي هِيَ صِفَةُ الذَّاتِ. فَهَذَا كَقَوْلِهِ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَة: ١٨٥] أَيْ يُسْرٌ بِكُمْ.
وَمَعْنَى يُحِقَّ الْحَقَّ: يُثْبِتُ مَا يُسَمَّى الْحَقُّ وَهُوَ ضِدُّ الْبَاطِلِ يُقَالُ: حَقَّ الشَّيْءُ، إِذَا ثَبَتَ قَالَ تَعَالَى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ [الزمر: ١٩].
وَالْمُرَادُ بِالْحَقِّ. هُنَا: دِينُ الْحَقِّ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْحَقِّ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ [الزخرف: ٢٩] الْآيَة.
وإحقاقه باستيصال مُعَانِدِيهِ، فَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ نَفْعًا قَلِيلًا عَاجِلًا، وَأَرَادَ اللَّهُ نَفْعًا عَظِيمًا فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.
وَفِي قَوْلِهِ: لِيُحِقَّ الْحَقَّ جِنَاسُ الِاشْتِقَاقِ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَصْلَ مَادَّةِ الْحَقِّ هُوَ فِعْلُ حَقَّ. وَأَنَّ أَصْلَ مَادَّةِ الْبَاطِلِ هِيَ فِعْلُ بَطَلَ. وَنَظِيرُهُ
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِينَ قَالُوا فِي التَّشَهُّدِ السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ
. وَكَلِمَاتُ اللَّهِ مَا يَدُلُّ عَلَى مُرَادِهِ وَعَلَى كَلَامِهِ النَّفْسِيِّ، حَقِيقُهُ مِنْ أَقْوَالٍ لَفْظِيَّةٍ يَخْلُقُهَا خَلْقًا غَيْرَ مُتَعَارَفٍ لِيَفْهَمَهَا أَحَدُ الْبَشَرِ وَيُبَلِّغَهَا عَنِ اللَّهِ، مِثْلَ الْقُرْآنِ، أَوْ مَجَازًا مِنْ أَدِلَّةٍ غَيْرِ لَفْظِيَّةٍ، مِثْلَ مَا يُخَاطِبُ بِهِ الْمَلَائِكَةَ الْمَحْكِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ: ٢٣] وَفَسَّرَهُ
قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ ربكُم قَالَ لِلَّذِي قَالَ: الْحَقُّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ
. وَالْجَمْعُ الْمُعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ يُفِيدُ الْعُمُومَ، فَقَوْلُهُ: بِكَلِماتِهِ يَعُمُّ أَنْوَاعَ الْكَلَامِ الَّذِي يُوحِي بِهِ اللَّهُ الدَّالِّ عَلَى إِرَادَتِهِ تَثْبِيتَ الْحَقِّ. مِثْلَ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلَةِ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ وَمَا أَمَرَ بِهِ الْمَلَائِكَةَ مِنْ نُصْرَتِهِمُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَالْمُرَادُ مِنَ الْإِرَادَةِ هُنَا إِرَادَةٌ خَاصَّةٌ وَهِيَ الْمَشِيئَةُ وَالتَّعَلُّقُ التَّنْجِيزِيِّ لِلْإِرَادَةِ الَّتِي هِيَ صِفَةُ الذَّاتِ. فَهَذَا كَقَوْلِهِ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَة: ١٨٥] أَيْ يُسْرٌ بِكُمْ.
وَمَعْنَى يُحِقَّ الْحَقَّ: يُثْبِتُ مَا يُسَمَّى الْحَقُّ وَهُوَ ضِدُّ الْبَاطِلِ يُقَالُ: حَقَّ الشَّيْءُ، إِذَا ثَبَتَ قَالَ تَعَالَى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ [الزمر: ١٩].
وَالْمُرَادُ بِالْحَقِّ. هُنَا: دِينُ الْحَقِّ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَقَدْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْحَقِّ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ [الزخرف: ٢٩] الْآيَة.
وإحقاقه باستيصال مُعَانِدِيهِ، فَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ نَفْعًا قَلِيلًا عَاجِلًا، وَأَرَادَ اللَّهُ نَفْعًا عَظِيمًا فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.
وَفِي قَوْلِهِ: لِيُحِقَّ الْحَقَّ جِنَاسُ الِاشْتِقَاقِ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَصْلَ مَادَّةِ الْحَقِّ هُوَ فِعْلُ حَقَّ. وَأَنَّ أَصْلَ مَادَّةِ الْبَاطِلِ هِيَ فِعْلُ بَطَلَ. وَنَظِيرُهُ
قَوْلُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِينَ قَالُوا فِي التَّشَهُّدِ السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ
. وَكَلِمَاتُ اللَّهِ مَا يَدُلُّ عَلَى مُرَادِهِ وَعَلَى كَلَامِهِ النَّفْسِيِّ، حَقِيقُهُ مِنْ أَقْوَالٍ لَفْظِيَّةٍ يَخْلُقُهَا خَلْقًا غَيْرَ مُتَعَارَفٍ لِيَفْهَمَهَا أَحَدُ الْبَشَرِ وَيُبَلِّغَهَا عَنِ اللَّهِ، مِثْلَ الْقُرْآنِ، أَوْ مَجَازًا مِنْ أَدِلَّةٍ غَيْرِ لَفْظِيَّةٍ، مِثْلَ مَا يُخَاطِبُ بِهِ الْمَلَائِكَةَ الْمَحْكِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ: ٢٣] وَفَسَّرَهُ
قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ ربكُم قَالَ لِلَّذِي قَالَ: الْحَقُّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ
. وَالْجَمْعُ الْمُعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ يُفِيدُ الْعُمُومَ، فَقَوْلُهُ: بِكَلِماتِهِ يَعُمُّ أَنْوَاعَ الْكَلَامِ الَّذِي يُوحِي بِهِ اللَّهُ الدَّالِّ عَلَى إِرَادَتِهِ تَثْبِيتَ الْحَقِّ. مِثْلَ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلَةِ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ وَمَا أَمَرَ بِهِ الْمَلَائِكَةَ مِنْ نُصْرَتِهِمُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ.
271
وَالْبَاءُ فِي بِكَلِماتِهِ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَذِكْرُ هَذَا الْقَيْدِ لِلتَّنْوِيهِ بِإِحْقَاقِ هَذَا الْحَقِّ وَبَيَانِ أَنَّهُ مِمَّا أَرَادَ اللَّهُ وَيَسَّرَهُ وَبَيَّنَهُ لِلنَّاسِ مِنَ الْأَمْرِ، لِيَقُومَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنَ الْمَأْمُورِينَ بِمَا هُوَ حَظُّهُ مِنْ بَعْضِ تِلْكَ الْأَوَامِرِ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ كَلِمَاتِ الله لَا تتخلف كَمَا قَالَ تَعَالَى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ [الْفَتْح:
١٥]، وَلِمَدْحِ هَذَا الْإِحْقَاقِ بِأَنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبِ كَلِمَاتِ اللَّهِ.
وَقَطُعُ دَابِرِ الشَّيْءِ إِزَالَةُ الشَّيْءِ كُلِّهِ إِزَالَةً تَأْتِي عَلَى آخِرِ فَرْدٍ مِنْهُ يَكُونُ فِي مُؤَخِّرَتِهِ مِنْ وَرَائِهِ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٤٥].
وَالْمَعْنَى: أَرَدْتُمُ الْغَنِيمَةَ وَأَرَادَ اللَّهُ إِظْهَار أَمركُم وخضذ شَوْكَةِ عَدُوِّكُمْ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَحْرِمُكُمُ الْغِنَى الْعَارِضَ فَإِنَّ أَمْنَكُمْ وَاطْمِئْنَانَ بَالِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ تَحْسَبُونَ أَنْ لَا تَسْتَطِيعُوا هَزِيمَةَ عَدُوِّكُمْ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ لَامُ التَّعْلِيلِ. وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ أَيْ إِنَّمَا أَرَادَ ذَلِكَ وَكَوَّنَ أَسْبَابَهُ بِكَلِمَاتِهِ لِأَجْلِ تَحْقِيقِهِ الْحَقَّ وَإِبْطَالِهِ الْبَاطِلَ.
وَإِذْ قَدْ كَانَ مَحْصُولُ هَذَا التَّعْلِيلِ هُوَ عَيْنَ مَحْصُولِ الْمُعَلَّلِ فِي قَوْلِهِ: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَشَأْنُ الْعِلَّةِ أَنْ تَكُونَ مُخَالِفَةً لِلْمُعَلِّلِ، وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ، إِذْ فَائِدَةُ التَّعْلِيلِ إِظْهَارُ الْغَرَضِ الَّذِي يَقْصِدُهُ الْفَاعِلُ مِنْ فِعْلِهِ، فَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ لَا يَكُونَ تَعْلِيلُ الْفِعْلِ بِعَيْنِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، لِأَنَّ السَّامِعَ لَا يَجْهَلُ أَنَّ الْفَاعِلَ الْمُخْتَارَ مَا فَعَلَ فِعْلًا إِلَّا وَهُوَ مُرَادٌ لَهُ، فَإِذَا سَمِعْنَا مِنْ كَلَامِ الْبَلِيغِ تَعْلِيلَ الْفِعْلِ بِنَفْسِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، كَانَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِهِ مَا فَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ إِلَّا لِذَاتِ الْفِعْلِ، لَا لغَرَض آخر عَائِد عَلَيْهِ، فَإِفَادَةُ التَّعْلِيلِ حِينَئِذٍ مَعْنَى الْحَصْرِ حَاصِلَةٌ مِنْ مُجَرَّدِ التَّعْلِيلِ بِنَفْسِ الْمُعَلَّلِ.
وَالْحَصْرُ هُنَا مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرْكِيبِ، وَلَيْسَ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ، فَافْهَمْهُ فَإِنَّهُ دَقِيقٌ وَقَدْ
وَقَعَتْ فِيهِ غَفَلَاتٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْمُعَلَّلِ وَالْعِلَّةِ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ أَيْ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ لِأَنَّهُ يُرِيدُ إِحْقَاقَ الْحَقِّ عُمُومًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيُبْطِلَ الْباطِلَ فَهُوَ ضِدُّ مَعْنَى قَوْلِهِ: لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَهُوَ مِنْ لَوَازِمِ
١٥]، وَلِمَدْحِ هَذَا الْإِحْقَاقِ بِأَنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبِ كَلِمَاتِ اللَّهِ.
وَقَطُعُ دَابِرِ الشَّيْءِ إِزَالَةُ الشَّيْءِ كُلِّهِ إِزَالَةً تَأْتِي عَلَى آخِرِ فَرْدٍ مِنْهُ يَكُونُ فِي مُؤَخِّرَتِهِ مِنْ وَرَائِهِ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٤٥].
وَالْمَعْنَى: أَرَدْتُمُ الْغَنِيمَةَ وَأَرَادَ اللَّهُ إِظْهَار أَمركُم وخضذ شَوْكَةِ عَدُوِّكُمْ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَحْرِمُكُمُ الْغِنَى الْعَارِضَ فَإِنَّ أَمْنَكُمْ وَاطْمِئْنَانَ بَالِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ تَحْسَبُونَ أَنْ لَا تَسْتَطِيعُوا هَزِيمَةَ عَدُوِّكُمْ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ لَامُ التَّعْلِيلِ. وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ أَيْ إِنَّمَا أَرَادَ ذَلِكَ وَكَوَّنَ أَسْبَابَهُ بِكَلِمَاتِهِ لِأَجْلِ تَحْقِيقِهِ الْحَقَّ وَإِبْطَالِهِ الْبَاطِلَ.
وَإِذْ قَدْ كَانَ مَحْصُولُ هَذَا التَّعْلِيلِ هُوَ عَيْنَ مَحْصُولِ الْمُعَلَّلِ فِي قَوْلِهِ: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَشَأْنُ الْعِلَّةِ أَنْ تَكُونَ مُخَالِفَةً لِلْمُعَلِّلِ، وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ، إِذْ فَائِدَةُ التَّعْلِيلِ إِظْهَارُ الْغَرَضِ الَّذِي يَقْصِدُهُ الْفَاعِلُ مِنْ فِعْلِهِ، فَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ لَا يَكُونَ تَعْلِيلُ الْفِعْلِ بِعَيْنِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، لِأَنَّ السَّامِعَ لَا يَجْهَلُ أَنَّ الْفَاعِلَ الْمُخْتَارَ مَا فَعَلَ فِعْلًا إِلَّا وَهُوَ مُرَادٌ لَهُ، فَإِذَا سَمِعْنَا مِنْ كَلَامِ الْبَلِيغِ تَعْلِيلَ الْفِعْلِ بِنَفْسِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، كَانَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِهِ مَا فَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ إِلَّا لِذَاتِ الْفِعْلِ، لَا لغَرَض آخر عَائِد عَلَيْهِ، فَإِفَادَةُ التَّعْلِيلِ حِينَئِذٍ مَعْنَى الْحَصْرِ حَاصِلَةٌ مِنْ مُجَرَّدِ التَّعْلِيلِ بِنَفْسِ الْمُعَلَّلِ.
وَالْحَصْرُ هُنَا مِنْ مُسْتَتْبَعَاتِ التَّرْكِيبِ، وَلَيْسَ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ، فَافْهَمْهُ فَإِنَّهُ دَقِيقٌ وَقَدْ
وَقَعَتْ فِيهِ غَفَلَاتٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْمُعَلَّلِ وَالْعِلَّةِ بِالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ أَيْ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ لِأَنَّهُ يُرِيدُ إِحْقَاقَ الْحَقِّ عُمُومًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيُبْطِلَ الْباطِلَ فَهُوَ ضِدُّ مَعْنَى قَوْلِهِ: لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَهُوَ مِنْ لَوَازِمِ
272
مَعْنَى لِيُحِقَّ الْحَقَّ، لِأَنَّهُ إِذَا حَصَلَ الْحَقُّ ذَهَبَ الْبَاطِلُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ [الْأَنْبِيَاء: ١٨]، وَلَمَّا كَانَ الْبَاطِلُ ضِدَّ الْحَقِّ لَزِمَ مِنْ ثُبُوتِ أَحَدِهِمَا انْتِفَاءُ الْآخَرِ. وَمِنْ لَطَائِفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: كَمْ سِنُّكَ فَقَالَ ابْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وُلِدْتُ يَوْمَ مَاتَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «أَيُّ حَقٍّ رُفِعَ وَأَيُّ بَاطِلٍ وُضِعَ» أَيْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَفَائِدَةُ قَوْلِهِ: وَيُبْطِلَ الْباطِلَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى بِالْبَاطِلِ، فَكَانَ ذكر بَعْدَ قَوْلِهِ: لِيُحِقَّ الْحَقَّ بِمَنْزِلَةِ التَّوْكِيدِ لِقَوْلِهِ لِيُحِقَّ الْحَقَّ لِأَنَّ ثُبُوتَ الشَّيْءِ قَدْ يُؤَكَّدُ بِنَفْيِ ضِدِّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ [الْأَنْعَام: ١٤٠].
وَيَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: وَيُبْطِلَ الْباطِلَ مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ، وَمِنْ جِنَاسِ الِاشْتِقَاقِ، مَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ ثُمَّ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: لِيُحِقَّ الْحَقَّ- بِقَوْلِهِ- وَيُبْطِلَ الْباطِلَ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ.
وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ شَرْطٌ اتِّصَالِيٌّ. ولَوْ اتِّصَالِيَّةٌ تَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْأَحْوَالِ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى يُرِيدُ اللَّهُ، أَوْ عَلَى لِيُحِقَّ الْحَقَّ أَيْ يُرِيدُ ذَلِكَ لِذَلِكَ لَا لِغَيْرِهِ، وَلَا يَصُدُّ مُرَادَهُ مَا لِلْمُعَانِدِينَ مِنْ قُوَّةٍ بِأَنْ يَكْرَهَهُ الْمُجْرِمُونَ وهم الْمُشْركُونَ.
وَالْكَرَاهَة هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ لَوَازِمِهَا وَهِيَ الِاسْتِعْدَادُ لِمُقَاوَمَةِ الْمُرَادِ مِنْ تِلْكَ الْإِرَادَةِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ، بِكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ، يُرِيدُونَ إِحْقَاقَ الْبَاطِلِ، وَإِرَادَةُ اللَّهِ تَنْفُذُ بالرغم على كَرَاهَة الْمُجْرِمِينَ، وَأَمَّا مُجَرَّدُ الْكَرَاهَةِ فَلَيْسَ صَالِحًا أَنْ يَكُونَ غَايَةً لِلْمُبَالَغَةِ فِي أَحْوَالِ نُفُوذِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى إِحْقَاقَ الْحَقِّ: لِأَنَّهُ إِحْسَاسٌ قَاصِرٌ عَلَى صَاحِبِهِ، وَلَكِنَّهُ إِذَا بَعَثَهُ عَلَى مُدَافَعَةِ الْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ كَانَتْ أَسْبَابُ الْمُدَافِعَةِ هِيَ الْغَايَةَ لِنُفُوذِ الْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ عَلَى الْكَارِهِ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَوِ الِاتِّصَالِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٩١] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً فِي سُورَة الْبَقَرَة [١٧٠].
[٩]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٩]
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩)
يَتَعَلَّقُ ظَرْفُ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ بِفِعْلِ يُرِيدُ اللَّهُ [الْأَنْفَال: ٧] لِأَنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ مُسْتَمِرٌّ تَعَلُّقُهَا
وَيَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: وَيُبْطِلَ الْباطِلَ مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ، وَمِنْ جِنَاسِ الِاشْتِقَاقِ، مَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ ثُمَّ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ: لِيُحِقَّ الْحَقَّ- بِقَوْلِهِ- وَيُبْطِلَ الْباطِلَ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ.
وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ شَرْطٌ اتِّصَالِيٌّ. ولَوْ اتِّصَالِيَّةٌ تَدُلُّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْأَحْوَالِ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى يُرِيدُ اللَّهُ، أَوْ عَلَى لِيُحِقَّ الْحَقَّ أَيْ يُرِيدُ ذَلِكَ لِذَلِكَ لَا لِغَيْرِهِ، وَلَا يَصُدُّ مُرَادَهُ مَا لِلْمُعَانِدِينَ مِنْ قُوَّةٍ بِأَنْ يَكْرَهَهُ الْمُجْرِمُونَ وهم الْمُشْركُونَ.
وَالْكَرَاهَة هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ لَوَازِمِهَا وَهِيَ الِاسْتِعْدَادُ لِمُقَاوَمَةِ الْمُرَادِ مِنْ تِلْكَ الْإِرَادَةِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ، بِكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ، يُرِيدُونَ إِحْقَاقَ الْبَاطِلِ، وَإِرَادَةُ اللَّهِ تَنْفُذُ بالرغم على كَرَاهَة الْمُجْرِمِينَ، وَأَمَّا مُجَرَّدُ الْكَرَاهَةِ فَلَيْسَ صَالِحًا أَنْ يَكُونَ غَايَةً لِلْمُبَالَغَةِ فِي أَحْوَالِ نُفُوذِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى إِحْقَاقَ الْحَقِّ: لِأَنَّهُ إِحْسَاسٌ قَاصِرٌ عَلَى صَاحِبِهِ، وَلَكِنَّهُ إِذَا بَعَثَهُ عَلَى مُدَافَعَةِ الْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ كَانَتْ أَسْبَابُ الْمُدَافِعَةِ هِيَ الْغَايَةَ لِنُفُوذِ الْأَمْرِ الْمَكْرُوهِ عَلَى الْكَارِهِ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى لَوِ الِاتِّصَالِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٩١] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً فِي سُورَة الْبَقَرَة [١٧٠].
[٩]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٩]
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩)
يَتَعَلَّقُ ظَرْفُ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ بِفِعْلِ يُرِيدُ اللَّهُ [الْأَنْفَال: ٧] لِأَنَّ إِرَادَةَ اللَّهِ مُسْتَمِرٌّ تَعَلُّقُهَا
273
بِأَزْمِنَةٍ مِنْهَا زَمَانُ اسْتِغَاثَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ رَبَّهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، حِينَ لِقَائِهِمْ مَعَ عَدُوِّهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَكَانَتِ اسْتِجَابَةُ اللَّهِ لَهُمْ بِإِمْدَادِهِمْ بِالْمَلَائِكَةِ، مِنْ مَظَاهِرِ إِرَادَتِهِ تَحْقِيقَ الْحَقِّ فَكَانَتْ الِاسْتِغَاثَةُ يَوْمَ الْقِتَالِ فِي بَدْرٍ وَإِرَادَةُ اللَّهِ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ حَصَلَتْ فِي الْمَدِينَةِ يَوْمَ وَعَدَهُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَرَشَّحَ لَهُمْ أَنْ تَكُونَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ ذَاتَ الشَّوْكَةِ، وَبَيْنَ وَقْتِ الْإِرَادَةِ وَوَقْتِ الِاسْتِغَاثَةِ مُدَّةُ أَيَّامٍ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتِ الْإِرَادَةُ مُسْتَمِرَّةً إِلَى حِينِ النَّصْرِ يَوْمَ بَدْرٍ صَحَّ تَعْلِيقُ ظَرْفِ الِاسْتِغَاثَةِ بِفِعْلِهَا، لِأَنَّهُ اقْترن بِبَعْضِهَا فِي امْتِدَادِهَا، وَهَذَا أَحْسَنُ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرُوهَا فِي مُتَعَلِّقٍ هَذَا الظَّرْفِ أَوْ مَوْقِعِهِ.
وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى دُعَاءِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ، أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ «نَظَرَ نَبِيءُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفَ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَاسْتَقْبَلَ نَبِيءُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ وَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلَكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ [لَا] (١) تَعْبُدُ فِي الْأَرْضِ فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ أَلْتَزِمُهُ مِنْ وَرَائِهِ فَقَالَ يَا نَبِيءَ اللَّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَةَ رَبِّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ أَيْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي حِكَايَةِ تِلْكَ الْحَالَةِ. وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ ضَمِيرُ تَسْتَغِيثُونَ مُرَادًا بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبَّرَ عَنْهُ بضمير الْجَمَاعَة لِأَن كَانَ يَدْعُو لِأَجْلِهِمْ، وَلِأَنَّهُ كَانَ مُعْلِنًا بِدُعَائِهِ وَهُمْ يَسْمَعُونَهُ، فَهُمْ بِحَالِ مَنْ يَدْعُونَ، وَقَدْ جَاءَ فِي «السِّيرَةِ» أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا نَزَلُوا بِبَدْرٍ وَرَأَوْا كَثْرَةَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَغَاثُوا اللَّهَ تَعَالَى فَتَكُونُ الِاسْتِغَاثَةُ فِي جَمِيعِ الْجَيْشِ وَالضَّمِيرُ شَامِلًا لَهُمْ.
وَالِاسْتِغَاثَةُ: طَلَبُ الْغَوْثِ، وَهُوَ الْإِعَانَةُ عَلَى رَفْعِ الشِّدَّةِ وَالْمَشَقَّةِ وَلَمَّا كَانُوا يَوْمَئِذٍ فِي شِدَّةٍ وَدَعَوْا بِطَلَبِ النَّصْرِ عَلَى الْعَدُوِّ الْقَوِيِّ كَانَ دُعَاؤُهُمُ اسْتِغَاثَةً.
فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَيْ وَعَدَكُمْ بِالْإِغَاثَةِ.
وَفِعْلُ اسْتَجَابَ يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ الطَّلَبِ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ تَحْقِيقُ الْمَطْلُوبِ.
_________
(١) زِيَادَة من «سنَن التِّرْمِذِيّ» ٥/ ٢٦٩. كتاب «تَفْسِير الْقُرْآن» (٩) بَاب، وَمن سُورَة الْأَنْفَال، رقم (٣٠٨١).
وَقَدْ أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى دُعَاءِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ، أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ «نَظَرَ نَبِيءُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفَ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَاسْتَقْبَلَ نَبِيءُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ وَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلَكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ [لَا] (١) تَعْبُدُ فِي الْأَرْضِ فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ أَلْتَزِمُهُ مِنْ وَرَائِهِ فَقَالَ يَا نَبِيءَ اللَّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَةَ رَبِّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ أَيْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي حِكَايَةِ تِلْكَ الْحَالَةِ. وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ ضَمِيرُ تَسْتَغِيثُونَ مُرَادًا بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبَّرَ عَنْهُ بضمير الْجَمَاعَة لِأَن كَانَ يَدْعُو لِأَجْلِهِمْ، وَلِأَنَّهُ كَانَ مُعْلِنًا بِدُعَائِهِ وَهُمْ يَسْمَعُونَهُ، فَهُمْ بِحَالِ مَنْ يَدْعُونَ، وَقَدْ جَاءَ فِي «السِّيرَةِ» أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا نَزَلُوا بِبَدْرٍ وَرَأَوْا كَثْرَةَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَغَاثُوا اللَّهَ تَعَالَى فَتَكُونُ الِاسْتِغَاثَةُ فِي جَمِيعِ الْجَيْشِ وَالضَّمِيرُ شَامِلًا لَهُمْ.
وَالِاسْتِغَاثَةُ: طَلَبُ الْغَوْثِ، وَهُوَ الْإِعَانَةُ عَلَى رَفْعِ الشِّدَّةِ وَالْمَشَقَّةِ وَلَمَّا كَانُوا يَوْمَئِذٍ فِي شِدَّةٍ وَدَعَوْا بِطَلَبِ النَّصْرِ عَلَى الْعَدُوِّ الْقَوِيِّ كَانَ دُعَاؤُهُمُ اسْتِغَاثَةً.
فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَيْ وَعَدَكُمْ بِالْإِغَاثَةِ.
وَفِعْلُ اسْتَجَابَ يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ الطَّلَبِ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ تَحْقِيقُ الْمَطْلُوبِ.
_________
(١) زِيَادَة من «سنَن التِّرْمِذِيّ» ٥/ ٢٦٩. كتاب «تَفْسِير الْقُرْآن» (٩) بَاب، وَمن سُورَة الْأَنْفَال، رقم (٣٠٨١).
274
وَقَوْلُهُ: أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ هُوَ الْكَلَامُ الْمُسْتَجَابُ بِهِ وَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ فِي «الْكَشَّافِ» بِأَنَّ أَصْلَهُ بِأَنِّي مُمِدُّكُمْ أَيْ فَحَذَفَ الْجَارَ وسلط عَلَيْهِ فَاسْتَجابَ فَنَصَبَ مَحَلَّهُ.
وَأَرَى أَنَّ حَرْفَ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةَ الْهَمْزَةِ الْمُشَدَّدَةَ النُّونِ إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ (مَا) فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ أَنْ تَكُونَ مُفِيدَةً لِلتَّفْسِيرِ مَعَ التَّأْكِيدِ كَمَا كَانَتْ تُفِيدُ مَعْنَى الْمَصْدَرِيَّةِ مَعَ التَّأْكِيدِ، فَمِنَ الْبَيِّنِ أَنَّ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةَ الْهَمْزَةِ مُرَكَّبَةٌ مِنْ (أَنِ) الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ الْمُخَفَّفَةِ النُّونِ الْمَصْدَرِيَّةِ فِي الْغَالِبِ، يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ تَرْكِيبُهَا مِنْ (أَنِ) التَّفْسِيرِيَّةِ إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ (مَا) فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ، وَذَلِكَ مَظِنَّةُ (أَنِ) التَّفْسِيرِيَّةِ، وَأَعْتَضِدُ بِمَا فِي «اللِّسَانِ» مِنْ قَوْلِ الْفَرَّاءِ: «إِذَا جَاءَتْ (أَنَّ:) بَعْدَ الْقَوْلِ وَمَا تَصَرَّفَ مِنَ الْقَوْلِ كَانَتْ حِكَايَةً، فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا (أَيُّ الْقَوْلِ) فَهِيَ مَكْسُورَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ تَفْسِيرًا لِلْقَوْلِ نَصَبَتْهَا وَمِثْلُهُ: قَدْ قُلْتُ لَكَ كَلَامًا حَسَنًا أَنَّ أَبَاك شرِيف، فحت أَنَّ لِأَنَّهَا فَسَرَّتِ الْكَلَامَ. قُلْتُ: وَوُقُوعُ (أَنَّ) مَوْقِعَ التَّفْسِيرِ كَثِيرٌ: فِي الْكَلَامِ. وَفِي الْقُرْآنِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [الْمَائِدَة: ٤٥] الْآيَةَ، وَمَنْ تَأَمَّلَ بِإِنْصَافٍ وَجَدَ مَتَانَةَ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ فِي كَوْنِ (أَنَّ) تَفْسِيرِيَّةً، دُونَ كَوْنِهَا مَجْرُورَةً بِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذُوفٍ. مَعَ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ الْحَرْفِ غَيْرُ بَيِّنٍ.
وَالْإِمْدَادُ إِعْطَاءُ الْمَدَدِ وَهُوَ الزِّيَادَةُ مِنَ الشَّيْءِ النَّافِعِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ: بِفَتْحِ الدَّالِّ مِنْ مُرْدِفِينَ أَي يرد فهم غَيْرُهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَقَرَأَ الْبَقِيَّةُ: بِكَسْرِ الدَّالِّ أَيْ تَكُونُ الْأَلْفُ رَادِفًا لِغَيْرِهِمْ قَبْلَهُمْ.
وَالْإِرْدَافُ الِاتْبَاعُ وَالْإِلْحَاقُ فَيَكُونُ الْوَعْدُ بِأَلْفٍ وَبِغَيْرِهَا عَلَى مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ عِنْدَهُمْ مِنْ إِعْدَادِ نَجْدَةٍ لِلْجَيْشِ عِنْدَ الْحَاجَةِ تَكُونُ لَهُمْ مَدَدًا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَدَّهُمْ بِآلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بَلَغُوا خَمْسَةَ آلَافٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِأَلْفٍ هَنَا مُطْلَقُ الْكَثْرَةِ فَيُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: بِثَلاثَةِ آلافٍ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٢٤]، وَهُمْ مُرْدَفُونَ بِأَلْفَيْنِ، فَتِلْكَ خَمْسَةُ آلَافٍ، وَكَانَتْ عَادَتُهُمْ فِي الْحَرْبِ إِذَا كَانَ الْجَيْشُ عَظِيمًا أَنْ يَبْعَثُوا طَائِفَةً مِنْهُ ثُمَّ يُعْقِبُوهَا بِأُخْرَى لِأَنَّ ذَلِكَ أَرْهَبُ لِلْعَدُوِّ.
وَأَرَى أَنَّ حَرْفَ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةَ الْهَمْزَةِ الْمُشَدَّدَةَ النُّونِ إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ (مَا) فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ أَنْ تَكُونَ مُفِيدَةً لِلتَّفْسِيرِ مَعَ التَّأْكِيدِ كَمَا كَانَتْ تُفِيدُ مَعْنَى الْمَصْدَرِيَّةِ مَعَ التَّأْكِيدِ، فَمِنَ الْبَيِّنِ أَنَّ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةَ الْهَمْزَةِ مُرَكَّبَةٌ مِنْ (أَنِ) الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ الْمُخَفَّفَةِ النُّونِ الْمَصْدَرِيَّةِ فِي الْغَالِبِ، يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ تَرْكِيبُهَا مِنْ (أَنِ) التَّفْسِيرِيَّةِ إِذَا وَقَعَتْ بَعْدَ (مَا) فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ، وَذَلِكَ مَظِنَّةُ (أَنِ) التَّفْسِيرِيَّةِ، وَأَعْتَضِدُ بِمَا فِي «اللِّسَانِ» مِنْ قَوْلِ الْفَرَّاءِ: «إِذَا جَاءَتْ (أَنَّ:) بَعْدَ الْقَوْلِ وَمَا تَصَرَّفَ مِنَ الْقَوْلِ كَانَتْ حِكَايَةً، فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا (أَيُّ الْقَوْلِ) فَهِيَ مَكْسُورَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ تَفْسِيرًا لِلْقَوْلِ نَصَبَتْهَا وَمِثْلُهُ: قَدْ قُلْتُ لَكَ كَلَامًا حَسَنًا أَنَّ أَبَاك شرِيف، فحت أَنَّ لِأَنَّهَا فَسَرَّتِ الْكَلَامَ. قُلْتُ: وَوُقُوعُ (أَنَّ) مَوْقِعَ التَّفْسِيرِ كَثِيرٌ: فِي الْكَلَامِ. وَفِي الْقُرْآنِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [الْمَائِدَة: ٤٥] الْآيَةَ، وَمَنْ تَأَمَّلَ بِإِنْصَافٍ وَجَدَ مَتَانَةَ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ فِي كَوْنِ (أَنَّ) تَفْسِيرِيَّةً، دُونَ كَوْنِهَا مَجْرُورَةً بِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذُوفٍ. مَعَ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ الْحَرْفِ غَيْرُ بَيِّنٍ.
وَالْإِمْدَادُ إِعْطَاءُ الْمَدَدِ وَهُوَ الزِّيَادَةُ مِنَ الشَّيْءِ النَّافِعِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ: بِفَتْحِ الدَّالِّ مِنْ مُرْدِفِينَ أَي يرد فهم غَيْرُهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَقَرَأَ الْبَقِيَّةُ: بِكَسْرِ الدَّالِّ أَيْ تَكُونُ الْأَلْفُ رَادِفًا لِغَيْرِهِمْ قَبْلَهُمْ.
وَالْإِرْدَافُ الِاتْبَاعُ وَالْإِلْحَاقُ فَيَكُونُ الْوَعْدُ بِأَلْفٍ وَبِغَيْرِهَا عَلَى مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ عِنْدَهُمْ مِنْ إِعْدَادِ نَجْدَةٍ لِلْجَيْشِ عِنْدَ الْحَاجَةِ تَكُونُ لَهُمْ مَدَدًا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَدَّهُمْ بِآلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بَلَغُوا خَمْسَةَ آلَافٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِأَلْفٍ هَنَا مُطْلَقُ الْكَثْرَةِ فَيُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: بِثَلاثَةِ آلافٍ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٢٤]، وَهُمْ مُرْدَفُونَ بِأَلْفَيْنِ، فَتِلْكَ خَمْسَةُ آلَافٍ، وَكَانَتْ عَادَتُهُمْ فِي الْحَرْبِ إِذَا كَانَ الْجَيْشُ عَظِيمًا أَنْ يَبْعَثُوا طَائِفَةً مِنْهُ ثُمَّ يُعْقِبُوهَا بِأُخْرَى لِأَنَّ ذَلِكَ أَرْهَبُ لِلْعَدُوِّ.
275
وَيُوَجِّهُ سُيُوفَهُمْ، وَحُلُولُ الْمَلَائِكَةِ فِي الْمُسْلِمِينَ كَانَ بِكَيْفِيَّةٍ يَعْلَمُهَا اللَّهُ تَعَالَى: إِمَّا
بِتَجْسِيمِ الْمُجَرَّدَاتِ فَيَرَاهُمْ مَنْ أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِرُؤْيَتِهِمْ، وَإِمَّا بِإِرَاءَةِ اللَّهِ النَّاسَ مَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يرى عَادَة.
[١٠]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ١٠]
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠)
عَطْفٌ عَلَى أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الْأَنْفَال: ٩] فَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي قَوْلِهِ: جَعَلَهُ عَائِدٌ إِلَى الْقَوْلِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ [الْأَنْفَال: ٩] أَيْ مَا جَعَلَ جَوَابَكُمْ بِهَذَا الْكَلَامِ إِلَّا لِيُبَشِّرَكُمْ، وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ يَكْفِيكُمْ أَنْ يَضْمَنَ لَكُمُ النَّصْرَ دُونَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ بِإِمْدَادٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
وَفَائِدَةُ التَّبْشِيرِ بِإِمْدَادِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّ يَوْمَ بَدْرٍ كَانَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ لَقِيَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ عَدُوًّا قَوِيًّا وَجَيْشًا عَدِيدًا، فَبَشَّرَهُمُ اللَّهُ بِكَيْفِيَّةِ النَّصْرِ الَّذِي ضَمِنَهُ لَهُمْ بِأَنَّهُ بِجَيْشٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّ النُّفُوسَ أَمْيَلُ إِلَى الْمَحْسُوسَاتِ، فَالنَّصْرُ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي يَدِقُّ إِدْرَاكُهُ وَسُكُونُ النَّفْسِ لِتُصَوُّرِهِ بِخِلَافِ الصُّوَرِ الْمَحْسُوسَةِ مِنْ تَصْوِيرِ مَدَدِ الْمَلَائِكَةِ وَرُؤْيَةِ أَشْكَالِ بَعْضِهِمْ.
وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ إِلَّا لِتَعَرُّضٍ لِمَا بَيْنَ الْآيَتَيْنِ مِنَ اخْتِلَافٍ فِي تَرْتِيبِ النَّظْمِ وَذَلِكَ فِي ثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَالَ فِي آلِ عِمْرَانَ [١٢٦] : إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَحَذَفَ (لَكُمْ) هُنَا دَفْعًا لِتَكْرِيرِ لَفْظِهِ لَسَبْقِ كَلِمَةِ لَكُمْ قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ: فَاسْتَجابَ لَكُمْ [الْأَنْفَال: ٩] فَعَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ الْبُشْرَى لَهُمْ، فَأَغْنَتْ لَكُمْ الْأَوْلَى، بِلَفْظِهَا وَمَعْنَاهَا، عَنْ ذِكْرِ لَكُمْ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَلِأَنَّ آيَةَ آلِ عِمْرَانَ سِيقَتْ مَسَاقَ الِامْتِنَانِ وَالتَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ النَّصْرِ فِي حِينِ الْقِلَّةِ وَالضَّعْفِ، فَكَانَ تَقْيِيدُ بُشْرى بِأَنَّهَا لِأَجْلِهِمْ زِيَادَةً فِي الْمِنَّةِ أَيْ: جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بُشْرَى لِأَجْلِكُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْح: ١] وَأَمَّا آيَةُ الْأَنْفَالِ فَهِيَ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ الْعِتَابِ عَلَى كَرَاهِيَةِ الْخُرُوجِ إِلَى بَدْرٍ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَعَلَى اخْتِيَارِ أَنْ تَكُونَ الطَّائِفَةُ الَّتِي تُلَاقِيهِمْ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ، فَجَرَّدَ
بِتَجْسِيمِ الْمُجَرَّدَاتِ فَيَرَاهُمْ مَنْ أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِرُؤْيَتِهِمْ، وَإِمَّا بِإِرَاءَةِ اللَّهِ النَّاسَ مَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يرى عَادَة.
[١٠]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ١٠]
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠)
عَطْفٌ عَلَى أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الْأَنْفَال: ٩] فَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي قَوْلِهِ: جَعَلَهُ عَائِدٌ إِلَى الْقَوْلِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ [الْأَنْفَال: ٩] أَيْ مَا جَعَلَ جَوَابَكُمْ بِهَذَا الْكَلَامِ إِلَّا لِيُبَشِّرَكُمْ، وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ يَكْفِيكُمْ أَنْ يَضْمَنَ لَكُمُ النَّصْرَ دُونَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ بِإِمْدَادٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
وَفَائِدَةُ التَّبْشِيرِ بِإِمْدَادِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّ يَوْمَ بَدْرٍ كَانَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ لَقِيَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ عَدُوًّا قَوِيًّا وَجَيْشًا عَدِيدًا، فَبَشَّرَهُمُ اللَّهُ بِكَيْفِيَّةِ النَّصْرِ الَّذِي ضَمِنَهُ لَهُمْ بِأَنَّهُ بِجَيْشٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّ النُّفُوسَ أَمْيَلُ إِلَى الْمَحْسُوسَاتِ، فَالنَّصْرُ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي يَدِقُّ إِدْرَاكُهُ وَسُكُونُ النَّفْسِ لِتُصَوُّرِهِ بِخِلَافِ الصُّوَرِ الْمَحْسُوسَةِ مِنْ تَصْوِيرِ مَدَدِ الْمَلَائِكَةِ وَرُؤْيَةِ أَشْكَالِ بَعْضِهِمْ.
وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ إِلَّا لِتَعَرُّضٍ لِمَا بَيْنَ الْآيَتَيْنِ مِنَ اخْتِلَافٍ فِي تَرْتِيبِ النَّظْمِ وَذَلِكَ فِي ثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَالَ فِي آلِ عِمْرَانَ [١٢٦] : إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَحَذَفَ (لَكُمْ) هُنَا دَفْعًا لِتَكْرِيرِ لَفْظِهِ لَسَبْقِ كَلِمَةِ لَكُمْ قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ: فَاسْتَجابَ لَكُمْ [الْأَنْفَال: ٩] فَعَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ الْبُشْرَى لَهُمْ، فَأَغْنَتْ لَكُمْ الْأَوْلَى، بِلَفْظِهَا وَمَعْنَاهَا، عَنْ ذِكْرِ لَكُمْ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَلِأَنَّ آيَةَ آلِ عِمْرَانَ سِيقَتْ مَسَاقَ الِامْتِنَانِ وَالتَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ النَّصْرِ فِي حِينِ الْقِلَّةِ وَالضَّعْفِ، فَكَانَ تَقْيِيدُ بُشْرى بِأَنَّهَا لِأَجْلِهِمْ زِيَادَةً فِي الْمِنَّةِ أَيْ: جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بُشْرَى لِأَجْلِكُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْح: ١] وَأَمَّا آيَةُ الْأَنْفَالِ فَهِيَ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ الْعِتَابِ عَلَى كَرَاهِيَةِ الْخُرُوجِ إِلَى بَدْرٍ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَعَلَى اخْتِيَارِ أَنْ تَكُونَ الطَّائِفَةُ الَّتِي تُلَاقِيهِمْ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ، فَجَرَّدَ
بُشْرى عَنْ أَنْ يُعَلِّقَ بِهِ لَكُمْ إِذْ كَانَتِ الْبُشْرَى لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ لَمْ يَتَرَدَّدُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي آلِ عِمْرَانَ.
ثَانِيهَا: تَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ هُنَا فِي قَوْلِهِ: بِهِ قُلُوبُكُمْ وَهُوَ يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ لَا بِغَيْرِهِ، وَفِي هَذَا الِاخْتِصَاصِ تَعْرِيضٌ بِمَا اعْتَرَاهُمْ مِنَ الْوَجَلِ مِنَ الطَّائِفَةِ ذَاتِ الشَّوْكَةِ وَقَنَاعَتِهِمْ بِغَنْمِ الْعُرُوضِ الَّتِي كَانَتْ مَعَ الْعِيرِ، فَعَرَّضَ لَهُمْ
بِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَفَهَّمُوا مُرَادَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ اسْتَشَارَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ الْعِيرَ سَلَكَتْ طَرِيقَ السَّاحِلِ فَكَانَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ الطَّائِفَةَ الْمَوْعُودَ بِهَا تَمَحَّضَتْ أَنَّهَا طَائِفَةُ النَّفِيرِ، وَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يَظُنُّوا بِوَعْدِ اللَّهِ أَكْمَلَ الْأَحْوَالِ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَسْكِينَ رَوْعِهِمْ، وَعَدَهُمْ بِنُصْرَةِ الْمَلَائِكَةِ عِلْمًا بِأَنَّهُ لَا يُطَمْئِنُ قُلُوبَهُمْ إِلَّا ذَلِكَ، وَجَعَلَ الْفَخْرُ: التَّقْدِيمَ هُنَا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ الْوَعْدِ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّقْدِيمِ لَكِنَّهُ وَجَّهَ تَأْخِيرَهُ فِي آلِ عِمْرَانَ بِمَا هُوَ غَيْرُ مَقْبُولٍ.
ثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَالَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٢٦] الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَصَاغَ الصِّفَتَيْنِ الْعَلِيَّتَيْنِ فِي صِيغَةِ النَّعْتِ، وَجَعَلَهُمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي صِيغَةِ الْخَبَرِ الْمُؤَكَّدِ، إِذْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَنَزَّلَ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَرَدَّدُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ: وَهُمَا الْعِزَّةُ، الْمُقْتَضِيَةُ أَنَّهُ إِذَا وَعَدَ بِالنَّصْرِ لَمْ يُعْجِزْهُ شَيْءٌ، وَالْحِكْمَةُ، فَمَا يَصْدُرُ مِنْ جَانِبِهِ غَوْصُ الْأَفْهَامِ فِي تَبَيُّنِ مُقْتَضَاءِهِ، فَكَيْفَ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى أَنَّ اللَّهَ لَمَّا وَعَدَهُمُ الظَّفَرَ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وَقَدْ فَاتَتْهُمُ الْعِيرُ أَنَّ ذَلِكَ آيِلٌ إِلَى الْوَعْدِ بِالظَّفَرِ بِالنَّفِيرِ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ مستأنفة استينافا ابْتِدَائِيًّا جُعِلَتْ كَالْإِخْبَارِ بِمَا لَيْسَ بِمَعْلُوم لَهُم.
[١١]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ١١]
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١)
لَقَدْ أَبْدَعَ نَظْمُ الْآيَاتِ فِي التَّنَقُّلِ مِنْ قِصَّةٍ إِلَى أُخْرَى مِنْ دَلَائِلِ عِنَايَةِ اللَّهِ
ثَانِيهَا: تَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ هُنَا فِي قَوْلِهِ: بِهِ قُلُوبُكُمْ وَهُوَ يُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ لَا بِغَيْرِهِ، وَفِي هَذَا الِاخْتِصَاصِ تَعْرِيضٌ بِمَا اعْتَرَاهُمْ مِنَ الْوَجَلِ مِنَ الطَّائِفَةِ ذَاتِ الشَّوْكَةِ وَقَنَاعَتِهِمْ بِغَنْمِ الْعُرُوضِ الَّتِي كَانَتْ مَعَ الْعِيرِ، فَعَرَّضَ لَهُمْ
بِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَفَهَّمُوا مُرَادَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ اسْتَشَارَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ الْعِيرَ سَلَكَتْ طَرِيقَ السَّاحِلِ فَكَانَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ الطَّائِفَةَ الْمَوْعُودَ بِهَا تَمَحَّضَتْ أَنَّهَا طَائِفَةُ النَّفِيرِ، وَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يَظُنُّوا بِوَعْدِ اللَّهِ أَكْمَلَ الْأَحْوَالِ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَسْكِينَ رَوْعِهِمْ، وَعَدَهُمْ بِنُصْرَةِ الْمَلَائِكَةِ عِلْمًا بِأَنَّهُ لَا يُطَمْئِنُ قُلُوبَهُمْ إِلَّا ذَلِكَ، وَجَعَلَ الْفَخْرُ: التَّقْدِيمَ هُنَا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ الْوَعْدِ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ التَّقْدِيمِ لَكِنَّهُ وَجَّهَ تَأْخِيرَهُ فِي آلِ عِمْرَانَ بِمَا هُوَ غَيْرُ مَقْبُولٍ.
ثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَالَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٢٦] الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَصَاغَ الصِّفَتَيْنِ الْعَلِيَّتَيْنِ فِي صِيغَةِ النَّعْتِ، وَجَعَلَهُمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي صِيغَةِ الْخَبَرِ الْمُؤَكَّدِ، إِذْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَنَزَّلَ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَرَدَّدُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ: وَهُمَا الْعِزَّةُ، الْمُقْتَضِيَةُ أَنَّهُ إِذَا وَعَدَ بِالنَّصْرِ لَمْ يُعْجِزْهُ شَيْءٌ، وَالْحِكْمَةُ، فَمَا يَصْدُرُ مِنْ جَانِبِهِ غَوْصُ الْأَفْهَامِ فِي تَبَيُّنِ مُقْتَضَاءِهِ، فَكَيْفَ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى أَنَّ اللَّهَ لَمَّا وَعَدَهُمُ الظَّفَرَ بِإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وَقَدْ فَاتَتْهُمُ الْعِيرُ أَنَّ ذَلِكَ آيِلٌ إِلَى الْوَعْدِ بِالظَّفَرِ بِالنَّفِيرِ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ مستأنفة استينافا ابْتِدَائِيًّا جُعِلَتْ كَالْإِخْبَارِ بِمَا لَيْسَ بِمَعْلُوم لَهُم.
[١١]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ١١]
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١)
لَقَدْ أَبْدَعَ نَظْمُ الْآيَاتِ فِي التَّنَقُّلِ مِنْ قِصَّةٍ إِلَى أُخْرَى مِنْ دَلَائِلِ عِنَايَةِ اللَّهِ
277
تَعَالَى بِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، فَقَرَنَهَا، فِي قَرْنِ زَمَانِهَا، وَجَعَلَ يَنْتَقِلُ مِنْ إِحْدَاهَا إِلَى الْأُخْرَى بِوَاسِطَةِ إِذِ الزَّمَانِيَّةُ، وَهَذَا مِنْ أَبْدَعِ التَّخَلُّصِ، وَهُوَ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ فِيمَا أَحْسَبُ.
وَلِذَلِكَ فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الظَّرْفُ مَفْعُولًا فِيهِ لِقَوْلِهِ: وَمَا النَّصْرُ [الْأَنْفَال: ١٠] فَإِنَّ إِغْشَاءَهُمُ النُّعَاسَ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ وَقت حُصُوله طرفا لِلنَّصْرِ.
وَالْغَشْيُ وَالْغَشَيَانُ كَوْنُ الشَّيْءِ غَاشِيًا أَيْ غَامًّا وَمُغَطِّيًا، فَالنَّوْمُ يُغَطِّي الْعَقْلَ.
وَالنُّعَاسُ النَّوْمُ غَيْرُ الثَّقِيلِ، وَهُوَ مِثْلُ السِّنَةِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: يُغَشِّيكُمُ، بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ وَتَخْفِيفِ الشِّينِ بَعْدَهَا يَاءٌ مُضَارِعُ أَغْشَاهُ وَبِنَصْبِ النُّعاسَ وَالتَّقْدِيرُ: إِذْ يُغْشِيكُمُ اللَّهُ النُّعَاسَ، وَالنُّعَاس
مفعول ثَانِي لِيَغْشَى بِسَبَبِ تَعْدِيَةِ الْهَمْزَةِ وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الشِّينِ بَعْدَهَا أَلِفٌ، وَبِرَفْعِ النُّعَاسِ، عَلَى أَنَّ يَغْشَاكُمْ مُضَارِعُ غَشِيَ وَالنُّعَاسُ فَاعِلٌ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ: بِضَمِّ التَّحْتِيَّة وَفتح الْغَيْن وَتَشْدِيدِ الشِّينِ وَنَصْبِ النُّعَاسِ، عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعُ غَشَّاهُ الْمُضَاعَفِ وَالنُّعَاسُ مَفْعُولٌ ثَانٍ.
فَإِسْنَادُ الْإِغْشَاءِ أَوِ التَّغْشِيَةِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ الَّذِي قَدَّرَ أَنْ يَنَامُوا فِي وَقْتٍ لَا يَنَامُ فِي مِثْلِهِ الْخَائِفُ، وَلَا يَكُونُ عَامًّا سَائِرَ الْجَيْشِ، فَهُوَ نَوْمٌ مَنَحَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ لِفَائِدَتِهِمْ.
وَإِسْنَادُ الْغَشْيِ إِلَى النُّعَاسِ حَقِيقَةٌ عَلَى الْمُتَعَارَفِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ مِنْ تَقْدِيرِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ أَمَنَةً مِنْهُ.
و (الأمنة) الْأَمْنُ، وَتَقَدَّمَ فِي آلِ عِمْرَانَ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ (النُّعَاسَ)، وَعَلَى الْحَالِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ رَفَعَ (النُّعَاسَ).
وَإِنَّمَا كَانَ (النُّعَاسُ) أَمْنًا لَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا نَامُوا زَالَ أَثَرُ الْخَوْفِ مِنْ نُفُوسِهِمْ فِي مُدَّةِ النَّوْمِ فَتِلْكَ نِعْمَةٌ، وَلَمَّا اسْتَيْقَظُوا وَجَدُوا نَشَاطًا، وَنَشَاطُ الْأَعْصَابِ يُكْسِبُ صَاحِبَهُ شَجَاعَةً وَيُزِيلُ شُعُورِ الْخَوْفِ الَّذِي هُوَ فُتُورُ الْأَعْصَابِ.
وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يُغَشِّيكُمُ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ.
وَلِذَلِكَ فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الظَّرْفُ مَفْعُولًا فِيهِ لِقَوْلِهِ: وَمَا النَّصْرُ [الْأَنْفَال: ١٠] فَإِنَّ إِغْشَاءَهُمُ النُّعَاسَ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ يَكُونَ وَقت حُصُوله طرفا لِلنَّصْرِ.
وَالْغَشْيُ وَالْغَشَيَانُ كَوْنُ الشَّيْءِ غَاشِيًا أَيْ غَامًّا وَمُغَطِّيًا، فَالنَّوْمُ يُغَطِّي الْعَقْلَ.
وَالنُّعَاسُ النَّوْمُ غَيْرُ الثَّقِيلِ، وَهُوَ مِثْلُ السِّنَةِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: يُغَشِّيكُمُ، بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَسُكُونِ الْغَيْنِ وَتَخْفِيفِ الشِّينِ بَعْدَهَا يَاءٌ مُضَارِعُ أَغْشَاهُ وَبِنَصْبِ النُّعاسَ وَالتَّقْدِيرُ: إِذْ يُغْشِيكُمُ اللَّهُ النُّعَاسَ، وَالنُّعَاس
مفعول ثَانِي لِيَغْشَى بِسَبَبِ تَعْدِيَةِ الْهَمْزَةِ وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الشِّينِ بَعْدَهَا أَلِفٌ، وَبِرَفْعِ النُّعَاسِ، عَلَى أَنَّ يَغْشَاكُمْ مُضَارِعُ غَشِيَ وَالنُّعَاسُ فَاعِلٌ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ: بِضَمِّ التَّحْتِيَّة وَفتح الْغَيْن وَتَشْدِيدِ الشِّينِ وَنَصْبِ النُّعَاسِ، عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعُ غَشَّاهُ الْمُضَاعَفِ وَالنُّعَاسُ مَفْعُولٌ ثَانٍ.
فَإِسْنَادُ الْإِغْشَاءِ أَوِ التَّغْشِيَةِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ الَّذِي قَدَّرَ أَنْ يَنَامُوا فِي وَقْتٍ لَا يَنَامُ فِي مِثْلِهِ الْخَائِفُ، وَلَا يَكُونُ عَامًّا سَائِرَ الْجَيْشِ، فَهُوَ نَوْمٌ مَنَحَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ لِفَائِدَتِهِمْ.
وَإِسْنَادُ الْغَشْيِ إِلَى النُّعَاسِ حَقِيقَةٌ عَلَى الْمُتَعَارَفِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ مِنْ تَقْدِيرِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ أَمَنَةً مِنْهُ.
و (الأمنة) الْأَمْنُ، وَتَقَدَّمَ فِي آلِ عِمْرَانَ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ (النُّعَاسَ)، وَعَلَى الْحَالِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ رَفَعَ (النُّعَاسَ).
وَإِنَّمَا كَانَ (النُّعَاسُ) أَمْنًا لَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَمَّا نَامُوا زَالَ أَثَرُ الْخَوْفِ مِنْ نُفُوسِهِمْ فِي مُدَّةِ النَّوْمِ فَتِلْكَ نِعْمَةٌ، وَلَمَّا اسْتَيْقَظُوا وَجَدُوا نَشَاطًا، وَنَشَاطُ الْأَعْصَابِ يُكْسِبُ صَاحِبَهُ شَجَاعَةً وَيُزِيلُ شُعُورِ الْخَوْفِ الَّذِي هُوَ فُتُورُ الْأَعْصَابِ.
وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يُغَشِّيكُمُ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ.
278
وَ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْهُ لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ وصف ل (أَمَنَة) لِإِفَادَةِ تَشْرِيفِ ذَلِكَ النُّعَاسِ وَأَنَّهُ وَارِدٌ مِنْ جَانِبِ الْقُدُسِ، فَهُوَ لُطْفٌ وَسَكِينَةٌ وَرَحْمَةٌ رَبَّانِيَّةٌ، وَيَتَأَكَّدُ بِهِ إِسْنَادُ الْإِغْشَاءِ إِلَى اللَّهِ، عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبُوا (النُّعَاسَ)، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ إِسْنَادٌ مَخْصُوصٌ، وَلَيْسَ الْإِسْنَادُ الَّذِي يَعُمُّ الْمَقْدُورَاتِ كُلِّهَا، وَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ رَفَعُوا (النُّعَاسَ) يَكُونُ وَصْفُ الْأَمَنَةِ بِأَنَّهَا مِنْهُ سَارِيًا إِلَى الْغَشْيِ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ غَشْيٌ خَاصٌّ قُدْسِيٌّ، وَلَيْسَ مِثْلَ سَائِرِ غَشَيَانِ النُّعَاسِ فَهُوَ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ كَانَ كَرَامَةً لَهُمْ وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ كَمَا هُوَ صَرِيحُ هَذِهِ الْآيَةِ وَحَصَلَ النُّعَاسُ يَوْمَ أُحُدٍ لِطَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٥٤]، وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ: «كُنْتُ فِيمَنْ تَغَشَّاهُ النُّعَاسَ يَوْمَ أُحُدٍ حَتَّى سَقَطَ سَيْفِي مِنْ يَدِي مِرَارًا».
وَذَكَرَ اللَّهُ مِنَّةً أُخْرَى جَاءَتْ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ: وَهِيَ أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِسْنَادُ هَذَا الْإِنْزَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ أَكْرَمَهُمْ بِهِ وَذَلِكَ لِكَوْنِهِ نَزَلَ فِي وَقْتِ
احْتِيَاجِهِمْ إِلَى الْمَاءِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الْمُعْتَادِ فِيهِ نُزُولُ الْأَمْطَارِ فِي أُفُقِهِمْ، قَالَ أَهْلُ السِّيَرِ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ اقْتَرَبُوا مِنْ بَدْرٍ رَامُوا أَنْ يَسْبِقُوا جَيْشَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى مَاءِ بَدْرٍ، وَكَانَ طَرِيقُهُمْ دَهْسَاءَ أَيْ رَمْلًا لَيِّنًا، تَسُوخُ فِيهِ الْأَرْجُلُ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِسْرَاعُ السَّيْرِ إِلَى الْمَاءِ وَكَانَتْ أَرْضُ طَرِيقِ الْمُشْرِكِينَ مُلَبَّدَةً، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ الْمَطَرَ تَلَبَّدَتِ الْأَرْضُ فَصَارَ السَّيْرُ أَمْكَنَ لَهُمْ، وَاسْتَوْحَلَتِ الْأَرْضُ لِلْمُشْرِكِينَ فَصَارَ السَّيْرُ فِيهَا مُتْعِبًا، فَأَمْكَنَ لِلْمُسْلِمِينَ السَّبْقُ إِلَى الْمَاءِ مِنْ بَدْرٍ وَنَزَلُوا عَلَيْهِ وَادَّخَرُوا مَاءً كَثِيرًا مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ، وَتَطَهَّرُوا وَشَرِبُوا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ.
و (الرجز) الْقَذَرُ، وَالْمُرَادُ الْوَسَخُ الْحِسِّيُّ وَهُوَ النَّجَسُ، وَالْمَعْنَوِيُّ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ بِالْحَدَثِ. وَالْمُرَادُ الْجَنَابَةُ، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَعُمُّ الْجَيْشَ كُلَّهُ فَلِذَلِكَ قَالَ: وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الشَّيْطَانِ لِأَنَّ غَالِبَ الْجَيْشِ لَمَّا نَامُوا احْتَلَمُوا فَأَصْبَحُوا عَلَى جَنَابَةٍ وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ خَوَاطِرَ الشَّيْطَانِ يُخَيِّلُهَا لِلنَّائِمِ لِيُفْسِدَ عَلَيْهِ طَهَارَتَهُ بِدُونِ اخْتِيَارٍ طَمَعًا فِي تَثَاقُلِهِ عَنِ الِاغْتِسَالِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَلِأَنَّ فُقْدَانَ الْمَاءِ يُلْجِئُهُمْ إِلَى الْبَقَاءِ فِي تَنَجُّسِ الثِّيَابِ وَالْأَجْسَادِ
وَذَكَرَ اللَّهُ مِنَّةً أُخْرَى جَاءَتْ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ: وَهِيَ أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِسْنَادُ هَذَا الْإِنْزَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ أَكْرَمَهُمْ بِهِ وَذَلِكَ لِكَوْنِهِ نَزَلَ فِي وَقْتِ
احْتِيَاجِهِمْ إِلَى الْمَاءِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الْمُعْتَادِ فِيهِ نُزُولُ الْأَمْطَارِ فِي أُفُقِهِمْ، قَالَ أَهْلُ السِّيَرِ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ اقْتَرَبُوا مِنْ بَدْرٍ رَامُوا أَنْ يَسْبِقُوا جَيْشَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى مَاءِ بَدْرٍ، وَكَانَ طَرِيقُهُمْ دَهْسَاءَ أَيْ رَمْلًا لَيِّنًا، تَسُوخُ فِيهِ الْأَرْجُلُ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِسْرَاعُ السَّيْرِ إِلَى الْمَاءِ وَكَانَتْ أَرْضُ طَرِيقِ الْمُشْرِكِينَ مُلَبَّدَةً، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ الْمَطَرَ تَلَبَّدَتِ الْأَرْضُ فَصَارَ السَّيْرُ أَمْكَنَ لَهُمْ، وَاسْتَوْحَلَتِ الْأَرْضُ لِلْمُشْرِكِينَ فَصَارَ السَّيْرُ فِيهَا مُتْعِبًا، فَأَمْكَنَ لِلْمُسْلِمِينَ السَّبْقُ إِلَى الْمَاءِ مِنْ بَدْرٍ وَنَزَلُوا عَلَيْهِ وَادَّخَرُوا مَاءً كَثِيرًا مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ، وَتَطَهَّرُوا وَشَرِبُوا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ.
و (الرجز) الْقَذَرُ، وَالْمُرَادُ الْوَسَخُ الْحِسِّيُّ وَهُوَ النَّجَسُ، وَالْمَعْنَوِيُّ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ بِالْحَدَثِ. وَالْمُرَادُ الْجَنَابَةُ، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَعُمُّ الْجَيْشَ كُلَّهُ فَلِذَلِكَ قَالَ: وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الشَّيْطَانِ لِأَنَّ غَالِبَ الْجَيْشِ لَمَّا نَامُوا احْتَلَمُوا فَأَصْبَحُوا عَلَى جَنَابَةٍ وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ خَوَاطِرَ الشَّيْطَانِ يُخَيِّلُهَا لِلنَّائِمِ لِيُفْسِدَ عَلَيْهِ طَهَارَتَهُ بِدُونِ اخْتِيَارٍ طَمَعًا فِي تَثَاقُلِهِ عَنِ الِاغْتِسَالِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَلِأَنَّ فُقْدَانَ الْمَاءِ يُلْجِئُهُمْ إِلَى الْبَقَاءِ فِي تَنَجُّسِ الثِّيَابِ وَالْأَجْسَادِ
279
وَالنَّجَاسَةُ تُلَائِمُ طَبْعَ الشَّيْطَانِ.
وَتَقْدِيرُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ، لِأَنَّهَا بُنِيَتْ عَلَى مَدٍّ وَحَرْفٍ بَعْدَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَالَّتِي بَعْدَهَا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الِاهْتِمَامِ بِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ أَيْ يُؤَمِّنَكُمْ بِكَوْنِكُمْ وَاثِقِينَ بِوُجُودِ الْمَاءِ لَا تَخَافُونَ عَطَشًا وَتَثْبِيتُ الْأَقْدَامِ هُوَ التَّمَكُّنُ مِنَ السَّيْرِ فِي الرَّمْلِ، بِأَنْ لَا تَسُوخَ فِي ذَلِكَ الدَّهْسِ الْأَرْجُلُ، لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُنَاسِبُ حُصُوله بالمطر.
و (الرَّبْط) حَقِيقَتُهُ شَدُّ الْوَثَاقِ عَلَى الشَّيْءِ وَهُوَ مَجَازٌ فِي التَّثْبِيتِ وَإِزَالَةِ الِاضْطِرَابِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ رَابِطُ الْجَأْشِ وَلَهُ رَبَاطَةُ جَأْشٍ.
وعَلى مُسْتَعَارَةٌ لِتَمَكُّنِ الرَّبْطِ فَهِيَ ترشيح للمجاز.
[١٢، ١٣]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : الْآيَات ١٢ إِلَى ١٣]
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣)
إِذْ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ
[الْأَنْفَال: ٩].
وَجَعَلَ الْخِطَابَ هُنَا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَطُّفًا بِهِ، إِذْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي تَفْصِيلِ عَمَلِ الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَمَا خَاطَبَهُمُ اللَّهُ بِهِ فَكَانَ تَوْجِيهُ الْخِطَابِ بِذَلِكَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَحَقُّ مَنْ يَعْلَمُ مِثْلَ هَذَا الْعِلْمِ وَيَحْصُلُ الْعِلْمُ لِلْمُسْلِمِينَ تَبَعًا لَهُ، وَأَنَّ الَّذِي يَهُمُّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ هُوَ نَصْرُ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُمْ وَقَدْ حَصَلَ الْإِعْلَامُ بِذَلِكَ مِنْ آيَةِ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ [الْأَنْفَال: ٩] وَلِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَغَاثَ اللَّهَ، وَلِذَلِكَ عُرِّفَ اللَّهُ هَنَا بَاسِمِ الرَّبِّ وَإِضَافَتِهِ إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُوَافِقَ أُسْلُوبَ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ [الْأَنْفَال: ٩] وَلِمَا فِيهِ مِنَ التَّنْوِيهِ بِقَدْرِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لُطْفًا بِهِ وَرَفْعًا لِشَأْنِهِ.
وَالْوَحْيُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ الْمُرْسَلِينَ: إِمَّا بِطَرِيقِ إِلْقَاءِ هَذَا الْأَمْرِ فِي نُفُوسِهِمْ بِتَكْوِينٍ خَاصٍّ، وَإِمَّا بِإِبْلَاغِهِمْ ذَلِكَ بِوَاسِطَةٍ.
وَتَقْدِيرُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ، لِأَنَّهَا بُنِيَتْ عَلَى مَدٍّ وَحَرْفٍ بَعْدَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَالَّتِي بَعْدَهَا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الِاهْتِمَامِ بِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ أَيْ يُؤَمِّنَكُمْ بِكَوْنِكُمْ وَاثِقِينَ بِوُجُودِ الْمَاءِ لَا تَخَافُونَ عَطَشًا وَتَثْبِيتُ الْأَقْدَامِ هُوَ التَّمَكُّنُ مِنَ السَّيْرِ فِي الرَّمْلِ، بِأَنْ لَا تَسُوخَ فِي ذَلِكَ الدَّهْسِ الْأَرْجُلُ، لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُنَاسِبُ حُصُوله بالمطر.
و (الرَّبْط) حَقِيقَتُهُ شَدُّ الْوَثَاقِ عَلَى الشَّيْءِ وَهُوَ مَجَازٌ فِي التَّثْبِيتِ وَإِزَالَةِ الِاضْطِرَابِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فُلَانٌ رَابِطُ الْجَأْشِ وَلَهُ رَبَاطَةُ جَأْشٍ.
وعَلى مُسْتَعَارَةٌ لِتَمَكُّنِ الرَّبْطِ فَهِيَ ترشيح للمجاز.
[١٢، ١٣]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : الْآيَات ١٢ إِلَى ١٣]
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣)
إِذْ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ
[الْأَنْفَال: ٩].
وَجَعَلَ الْخِطَابَ هُنَا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَطُّفًا بِهِ، إِذْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي تَفْصِيلِ عَمَلِ الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَمَا خَاطَبَهُمُ اللَّهُ بِهِ فَكَانَ تَوْجِيهُ الْخِطَابِ بِذَلِكَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَحَقُّ مَنْ يَعْلَمُ مِثْلَ هَذَا الْعِلْمِ وَيَحْصُلُ الْعِلْمُ لِلْمُسْلِمِينَ تَبَعًا لَهُ، وَأَنَّ الَّذِي يَهُمُّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ هُوَ نَصْرُ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُمْ وَقَدْ حَصَلَ الْإِعْلَامُ بِذَلِكَ مِنْ آيَةِ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ [الْأَنْفَال: ٩] وَلِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَغَاثَ اللَّهَ، وَلِذَلِكَ عُرِّفَ اللَّهُ هَنَا بَاسِمِ الرَّبِّ وَإِضَافَتِهِ إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُوَافِقَ أُسْلُوبَ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ [الْأَنْفَال: ٩] وَلِمَا فِيهِ مِنَ التَّنْوِيهِ بِقَدْرِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لُطْفًا بِهِ وَرَفْعًا لِشَأْنِهِ.
وَالْوَحْيُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ الْمُرْسَلِينَ: إِمَّا بِطَرِيقِ إِلْقَاءِ هَذَا الْأَمْرِ فِي نُفُوسِهِمْ بِتَكْوِينٍ خَاصٍّ، وَإِمَّا بِإِبْلَاغِهِمْ ذَلِكَ بِوَاسِطَةٍ.
280
وَ (أَنِّي مَعَكُمْ) قِيلَ هُوَ فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ وَذَلِكَ الْمَصْدَرُ مَفْعُولُ يُوحِي، أَيْ يُوحِي إِلَيْهِمْ ثُبُوتَ مَعِيَّتِهِ لَهُمْ، فَيَكُونُ الْمَصْدَرُ، مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِيُوحِيَ، بِهَذَا التَّأْوِيلِ وَقِيلَ عَلَى تَقْدِيرِ بَاءِ الْجَرِّ.
وَأَنْتَ عَلَى ذِكْرٍ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ [الْأَنْفَال: ٩] مِنَ تَحْقِيقِ أَنْ تَكُونَ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ الْمُشَدَّدَةُ النُّونِ مُفِيدَةً مَعْنَى (أَنَّ) التَّفْسِيرِيَّةِ، إِذَا وَقَعَتْ مَعْمُولَةً لِمَا فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ.
وَالْمَعِيَّةُ حَقِيقَتُهَا هُنَا مُسْتَحِيلَةٌ فَتُحْمَلُ عَلَى اللَّائِقَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى أَعْنِي الْمَعِيَّةَ الْمَجَازِيَّةَ، فَقَدْ يكون مَعْنَاهَا توجه عِنَايَتِهِ إِلَيْهِمْ وَتَيْسِيرِ الْعَمَلِ لَهُمْ، وَقَدْ تَكَرَّرَ إِطْلَاقُ (مَعَ) بِمِثْلِ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الْحَدِيد: ٤].
وَإِيحَاءُ اللَّهِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ بِهَذَا مَقْصُودٌ مِنْهُ تَشْرِيفُهُمْ وَتَشْرِيفُ الْعَمَلِ الَّذِي سَيُكَلَّفُونَ بِهِ، لِأَنَّ الْمَعِيَّةَ تُؤْذِنُ إِجْمَالًا بِوُجُودِ شَيْءٍ يَسْتَدْعِي الْمُصَاحَبَةَ، فَكَانَ قَوْلُهُ لَهُمْ: أَنِّي مَعَكُمْ مُقَدِّمَةً لِلتَّكْلِيفِ بِعَمَلٍ شَرِيفٍ وَلِذَلِكَ يَذْكُرُ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَعِيَّةُ لِأَنَّهُ سَيُعْلَمُ مِنْ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ، أَيْ أَنِّي مَعَكُمْ فِي عَمَلكُمْ الَّذِي أكفلكم بِهِ.
وَمِنْ هُنَا ظَهَرَ مَوْقِعُ فَاءِ التَّرْتِيبِ فِي قَوْلِهِ: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ حَيْثُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ أَنِّي مَعَكُمْ مِنَ التَّهْيِئَةِ لِتَلَقِّي التَّكْلِيفِ بِعَمَلٍ عَظِيمٍ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْعَمَلُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ لِأَنَّهُ إِبْدَالٌ لِلْحَقَائِقِ الثَّابِتَةِ بِاقْتِلَاعِهَا وَوَضْعِ أَضْدَادِهَا لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْجُبْنَ شَجَاعَةً، وَالْخَوْفَ إِقْدَامًا
وَالْهَلَعَ ثَبَاتًا، فِي جَانِبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَجْعَلُ الْعِزَّةَ رُعْبًا فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ، وَيَقْطَعُ أَعْنَاقَهُمْ وَأَيْدِيَهُمْ بِدُونِ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْقَطْعِ الْمُعْتَادَةِ فَكَانَتِ الْأَعْمَالُ الَّتِي عَهِدَ لِلْمَلَائِكَةِ عَمَلَهَا خَوَارِقَ عَادَاتٍ.
وَالتَّثْبِيتُ هُنَا مَجَازٌ فِي إِزَالَةِ الِاضْطِرَابِ النَّفْسَانِيِّ مِمَّا يَنْشَأُ عَنِ الْخَوْفِ وَمِنْ عَدَمِ اسْتِقْرَارِ الرَّأْيِ وَاطْمِئْنَانِهِ.
وَعَرَّفَ الْمُثَبَّتُونَ بالموصول لما تومىء إِلَيْهِ صِلَةُ آمَنُوا مِنْ كَوْنِ إِيمَانِهِمْ هُوَ الْبَاعِثَ عَلَى هَذِهِ الْعِنَايَةِ، فَتَكُونُ الْمَلَائِكَةُ بِعِنَايَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَجْلِ وَصْفِ الْإِيمَانِ.
وَتَثْبِيتُ الْمُؤْمِنِينَ إِيقَاعِ ظَنٍّ فِي نُفُوسِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَنْصُورُونَ وَيُسَمَّى ذَلِكَ إِلْهَامًا وَتَثْبِيتًا، لِأَنَّهُ إِرْشَادٌ إِلَى مَا يُطَابِقُ الْوَاقِعَ، وَإِزَالَةٌ لِلِاضْطِرَابِ الشَّيْطَانِيِّ، وَإِنَّمَا
وَأَنْتَ عَلَى ذِكْرٍ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ [الْأَنْفَال: ٩] مِنَ تَحْقِيقِ أَنْ تَكُونَ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ الْمُشَدَّدَةُ النُّونِ مُفِيدَةً مَعْنَى (أَنَّ) التَّفْسِيرِيَّةِ، إِذَا وَقَعَتْ مَعْمُولَةً لِمَا فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ.
وَالْمَعِيَّةُ حَقِيقَتُهَا هُنَا مُسْتَحِيلَةٌ فَتُحْمَلُ عَلَى اللَّائِقَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى أَعْنِي الْمَعِيَّةَ الْمَجَازِيَّةَ، فَقَدْ يكون مَعْنَاهَا توجه عِنَايَتِهِ إِلَيْهِمْ وَتَيْسِيرِ الْعَمَلِ لَهُمْ، وَقَدْ تَكَرَّرَ إِطْلَاقُ (مَعَ) بِمِثْلِ هَذَا فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الْحَدِيد: ٤].
وَإِيحَاءُ اللَّهِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ بِهَذَا مَقْصُودٌ مِنْهُ تَشْرِيفُهُمْ وَتَشْرِيفُ الْعَمَلِ الَّذِي سَيُكَلَّفُونَ بِهِ، لِأَنَّ الْمَعِيَّةَ تُؤْذِنُ إِجْمَالًا بِوُجُودِ شَيْءٍ يَسْتَدْعِي الْمُصَاحَبَةَ، فَكَانَ قَوْلُهُ لَهُمْ: أَنِّي مَعَكُمْ مُقَدِّمَةً لِلتَّكْلِيفِ بِعَمَلٍ شَرِيفٍ وَلِذَلِكَ يَذْكُرُ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَعِيَّةُ لِأَنَّهُ سَيُعْلَمُ مِنْ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ، أَيْ أَنِّي مَعَكُمْ فِي عَمَلكُمْ الَّذِي أكفلكم بِهِ.
وَمِنْ هُنَا ظَهَرَ مَوْقِعُ فَاءِ التَّرْتِيبِ فِي قَوْلِهِ: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ حَيْثُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ أَنِّي مَعَكُمْ مِنَ التَّهْيِئَةِ لِتَلَقِّي التَّكْلِيفِ بِعَمَلٍ عَظِيمٍ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْعَمَلُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ لِأَنَّهُ إِبْدَالٌ لِلْحَقَائِقِ الثَّابِتَةِ بِاقْتِلَاعِهَا وَوَضْعِ أَضْدَادِهَا لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْجُبْنَ شَجَاعَةً، وَالْخَوْفَ إِقْدَامًا
وَالْهَلَعَ ثَبَاتًا، فِي جَانِبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَجْعَلُ الْعِزَّةَ رُعْبًا فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ، وَيَقْطَعُ أَعْنَاقَهُمْ وَأَيْدِيَهُمْ بِدُونِ سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْقَطْعِ الْمُعْتَادَةِ فَكَانَتِ الْأَعْمَالُ الَّتِي عَهِدَ لِلْمَلَائِكَةِ عَمَلَهَا خَوَارِقَ عَادَاتٍ.
وَالتَّثْبِيتُ هُنَا مَجَازٌ فِي إِزَالَةِ الِاضْطِرَابِ النَّفْسَانِيِّ مِمَّا يَنْشَأُ عَنِ الْخَوْفِ وَمِنْ عَدَمِ اسْتِقْرَارِ الرَّأْيِ وَاطْمِئْنَانِهِ.
وَعَرَّفَ الْمُثَبَّتُونَ بالموصول لما تومىء إِلَيْهِ صِلَةُ آمَنُوا مِنْ كَوْنِ إِيمَانِهِمْ هُوَ الْبَاعِثَ عَلَى هَذِهِ الْعِنَايَةِ، فَتَكُونُ الْمَلَائِكَةُ بِعِنَايَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَجْلِ وَصْفِ الْإِيمَانِ.
وَتَثْبِيتُ الْمُؤْمِنِينَ إِيقَاعِ ظَنٍّ فِي نُفُوسِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَنْصُورُونَ وَيُسَمَّى ذَلِكَ إِلْهَامًا وَتَثْبِيتًا، لِأَنَّهُ إِرْشَادٌ إِلَى مَا يُطَابِقُ الْوَاقِعَ، وَإِزَالَةٌ لِلِاضْطِرَابِ الشَّيْطَانِيِّ، وَإِنَّمَا
281
يَكُونُ خَيْرًا إِذَا كَانَ جَارِيًا عَلَى مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِحَيْثُ لَا يَكُونُ خَاطِرًا كَاذِبًا، وَإِلَّا صَارَ غُرُورًا، فَتَشْجِيعُ الْخَائِفِ حَيْثُ يُرِيدُ اللَّهُ مِنْهُ الشَّجَاعَةَ خَاطِرٌ مَلَكِيٌّ وَتَشْجِيعُهُ حَيْثُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّى وَيَخَافَ خَاطِرٌ شَيْطَانِيٌّ وَوَسْوَسَةٌ، لِأَنَّهُ تَضْلِيلٌ عَنِ الْوَاقِعِ وَتَخْذِيلٌ.
وَلَمْ يُسْنِدْ إِلْقَاءَ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى الْمَلَائِكَةِ بَلْ أَسْنَدَهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ وَحْدَهُ بِقَوْلِهِ: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ لِأَنَّ أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةَ الْمُخَاطَبِينَ كَانُوا مَلَائِكَةَ نَصْرٍ وَتَأْيِيدٍ فَلَا يَلِيقُ بِقُوَاهُمْ إِلْقَاءُ الرُّعْبِ، لِأَنَّ الرُّعْبَ خَاطِرٌ شَيْطَانِيٌّ ذَمِيمٌ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِوَاسِطَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْمَلَائِكَةِ.
وَأَسْنَدَ إِلْقَاءَ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِجْمَالِ دُونَ بَيَانٍ لِكَيْفِيَّةِ إِلْقَائِهِ، وَكُلُّ مَا يَقَعُ فِي الْعَالَمِ هُوَ مِنْ تَقْدِيرِ اللَّهِ عَلَى حَسَبِ إِرَادَتِهِ، وَأَشَارَ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ رُعْبٌ شَدِيدٌ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَى كَيْفِيَّةٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ، فَإِنَّ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ قَدْ تَصْدُرُ مِنَ الْقُوَى الشَّيْطَانِيَّةِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَهُوَ مَا يُسَمَّى فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِالْإِهَانَةِ وَبِالِاسْتِدْرَاجِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى قَصْدِ تَحْقِيرِ الشَّيْطَانِ بِإِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا قَصَدَ تَشْرِيفَ الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّ إِلْقَاءَ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ يَعُودُ بِالْفَائِدَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ مُبَارَكٌ أَيْضًا، وَإِنَّمَا كَانَ إِلْقَاءُ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ خَارِقَ عَادَةٍ، لِأَنَّ أَسْبَابَ ضِدِّهِ قَائِمَةٌ، وَهِيَ وَفْرَةُ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ وَإِقْدَامُهُمْ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَحِرْصُهُمْ عَلَى حِمَايَةِ أَمْوَالِهِمُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الْعِيرُ.
فَجُمْلَةُ: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا إِخْبَارًا لَهُمْ بِمَا
يَقْتَضِي التَّخْفِيفَ عَلَيْهِمْ فِي الْعَمَلِ الَّذِي كَلَّفَهُمُ اللَّهُ بِهِ بِأَنَّ اللَّهَ كَفَاهُمْ تَخْذِيلَ الْكَافِرِينَ بِعَمَلٍ آخَرَ غَيْرِ الَّذِي كَلَّفَ الْمَلَائِكَةَ بِعَمَلِهِ، فَلَيْسَتْ جُمْلَةُ سَأُلْقِي مُفَسِّرَةً لِمَعْنَى أَنِّي مَعَكُمْ.
وَلَمْ يُقِلْ سَنُلْقِي لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ لِلْمَلَائِكَةِ الْمُخَاطَبِينَ سَبَبًا فِي إِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا.
وَتَفْرِيعُ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ عَلَى جُمْلَةِ: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ
وَلَمْ يُسْنِدْ إِلْقَاءَ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى الْمَلَائِكَةِ بَلْ أَسْنَدَهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ وَحْدَهُ بِقَوْلِهِ: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ لِأَنَّ أُولَئِكَ الْمَلَائِكَةَ الْمُخَاطَبِينَ كَانُوا مَلَائِكَةَ نَصْرٍ وَتَأْيِيدٍ فَلَا يَلِيقُ بِقُوَاهُمْ إِلْقَاءُ الرُّعْبِ، لِأَنَّ الرُّعْبَ خَاطِرٌ شَيْطَانِيٌّ ذَمِيمٌ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِوَاسِطَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْمَلَائِكَةِ.
وَأَسْنَدَ إِلْقَاءَ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِجْمَالِ دُونَ بَيَانٍ لِكَيْفِيَّةِ إِلْقَائِهِ، وَكُلُّ مَا يَقَعُ فِي الْعَالَمِ هُوَ مِنْ تَقْدِيرِ اللَّهِ عَلَى حَسَبِ إِرَادَتِهِ، وَأَشَارَ ذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ رُعْبٌ شَدِيدٌ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَى كَيْفِيَّةٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ، فَإِنَّ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ قَدْ تَصْدُرُ مِنَ الْقُوَى الشَّيْطَانِيَّةِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَهُوَ مَا يُسَمَّى فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ بِالْإِهَانَةِ وَبِالِاسْتِدْرَاجِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى قَصْدِ تَحْقِيرِ الشَّيْطَانِ بِإِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا قَصَدَ تَشْرِيفَ الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّ إِلْقَاءَ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ يَعُودُ بِالْفَائِدَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ مُبَارَكٌ أَيْضًا، وَإِنَّمَا كَانَ إِلْقَاءُ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ خَارِقَ عَادَةٍ، لِأَنَّ أَسْبَابَ ضِدِّهِ قَائِمَةٌ، وَهِيَ وَفْرَةُ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ وَإِقْدَامُهُمْ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَحِرْصُهُمْ عَلَى حِمَايَةِ أَمْوَالِهِمُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الْعِيرُ.
فَجُمْلَةُ: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا إِخْبَارًا لَهُمْ بِمَا
يَقْتَضِي التَّخْفِيفَ عَلَيْهِمْ فِي الْعَمَلِ الَّذِي كَلَّفَهُمُ اللَّهُ بِهِ بِأَنَّ اللَّهَ كَفَاهُمْ تَخْذِيلَ الْكَافِرِينَ بِعَمَلٍ آخَرَ غَيْرِ الَّذِي كَلَّفَ الْمَلَائِكَةَ بِعَمَلِهِ، فَلَيْسَتْ جُمْلَةُ سَأُلْقِي مُفَسِّرَةً لِمَعْنَى أَنِّي مَعَكُمْ.
وَلَمْ يُقِلْ سَنُلْقِي لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ لِلْمَلَائِكَةِ الْمُخَاطَبِينَ سَبَبًا فِي إِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا.
وَتَفْرِيعُ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ عَلَى جُمْلَةِ: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ
282
الْمُفَرَّعَةِ هُنَا أَيْضًا عَلَى جُمْلَةِ: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْمَعْنَى، يُؤْذِنُ بِمَا اقْتَضَتْهُ جُمْلَةُ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ مِنْ تَخْفِيفِ عَمَلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ بَعْضَ التَّخْفِيفِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ إِجْمَالًا قَوْلُهُ: أَنِّي مَعَكُمْ كَمَا تَقَدَّمَ فَوْقَ الْأَعْناقِ على الظَّرْفِيَّة لَا ضربوا.
والْأَعْناقِ أَعْنَاقُ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ بَيِّنٌ مِنَ السِّيَاقِ، وَاللَّامُ فِيهِ وَالْمُرَادُ بَعْضُ الْجِنْسِ بِالْقَرِينَةِ لِلْجِنْسِ أَوْ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَ: وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ.
وَالْبَنَانُ اسْمُ جَمْعِ بَنَانَةٍ وَهِيَ الْإِصْبَعُ وَقِيلَ طَرْفُ الْإِصْبَعِ، وَإِضَافَةُ (كُلٍّ) إِلَيْهِ لِاسْتِغْرَاقِ أَصْحَابِهَا.
وَإِنَّمَا خُصَّتِ الْأَعْنَاقُ وَالْبَنَانُ لِأَنَّ ضَرْبَ الْأَعْنَاقِ إِتْلَافٌ لِأَجْسَادِ الْمُشْرِكِينَ وَضَرْبُ الْبَنَانِ، يُبْطِلُ صَلَاحِيَةَ الْمَضْرُوبِ لِلْقِتَالِ، لِأَنَّ تَنَاوُلَ السِّلَاحِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْأَصَابِعِ، وَمِنْ ثَمَّ كَثُرَ فِي كَلَامِهِمُ الِاسْتِغْنَاءُ بِذِكْرِ مَا تَتَنَاوَلُهُ الْيَدُ أَوْ مَا تَتَنَاوَلُهُ الْأَصَابِعُ، عَنْ ذِكْرِ السَّيْفِ، قَالَ النَّابِغَةُ:
يَعْنِي سَيْفَهُ، وَقَالَ أَبُو الْغُولِ الطَّهْوِيُّ:
يُرِيدُ السَّيْفَ وَمِثْلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ فَضَرْبُ الْبَنَانِ يَحْصُلُ بِهِ تَعْطِيلُ عَمَلِ الْيَدِ فَإِذَا ضُرِبَتِ الْيَدُ كُلُّهَا فَذَلِكَ أَجْدَرُ.
وَضَرْبُ الْمَلَائِكَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبَاشَرَةً بِتَكْوِينِ قَطْعِ الْأَعْنَاقِ وَالْأَصَابِعِ بِوَاسِطَةِ فِعْلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى كَيْفِيَّةٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مَا يَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَإِسْنَادُ الضَّرْبِ حَقِيقَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِتَسْدِيدِ ضَرَبَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَتَوْجِيهِ
الْمُشْرِكِينَ إِلَى جِهَاتِهَا، فَإِسْنَادُ الضَّرْبِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّهُمْ سَبَبُهُ، وَقَدْ قِيلَ:
الْأَمْرُ بِالضَّرْبِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ انْكِشَافِ الملحمة.
وَجُمْلَة: لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
تَعْلِيلٌ لِأَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْله أَنَّهُمْ
بَاءُ السَّبَبِيَّةِ
والْأَعْناقِ أَعْنَاقُ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ بَيِّنٌ مِنَ السِّيَاقِ، وَاللَّامُ فِيهِ وَالْمُرَادُ بَعْضُ الْجِنْسِ بِالْقَرِينَةِ لِلْجِنْسِ أَوْ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَ: وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ.
وَالْبَنَانُ اسْمُ جَمْعِ بَنَانَةٍ وَهِيَ الْإِصْبَعُ وَقِيلَ طَرْفُ الْإِصْبَعِ، وَإِضَافَةُ (كُلٍّ) إِلَيْهِ لِاسْتِغْرَاقِ أَصْحَابِهَا.
وَإِنَّمَا خُصَّتِ الْأَعْنَاقُ وَالْبَنَانُ لِأَنَّ ضَرْبَ الْأَعْنَاقِ إِتْلَافٌ لِأَجْسَادِ الْمُشْرِكِينَ وَضَرْبُ الْبَنَانِ، يُبْطِلُ صَلَاحِيَةَ الْمَضْرُوبِ لِلْقِتَالِ، لِأَنَّ تَنَاوُلَ السِّلَاحِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْأَصَابِعِ، وَمِنْ ثَمَّ كَثُرَ فِي كَلَامِهِمُ الِاسْتِغْنَاءُ بِذِكْرِ مَا تَتَنَاوَلُهُ الْيَدُ أَوْ مَا تَتَنَاوَلُهُ الْأَصَابِعُ، عَنْ ذِكْرِ السَّيْفِ، قَالَ النَّابِغَةُ:
وَأَنَّ تِلَادِي أَنْ نَظَرْتُ وَشِكَّتِي | وَمُهْرِي وَمَا ضَمَّتْ إِلَيَّ الْأَنَامِلُ |
فَدَتْ نَفْسِي وَمَا مَلَكَتْ يَمِينِي | فَوَارِسَ صُدِّقَتْ فِيهِمْ ظُنُونِي |
وَضَرْبُ الْمَلَائِكَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبَاشَرَةً بِتَكْوِينِ قَطْعِ الْأَعْنَاقِ وَالْأَصَابِعِ بِوَاسِطَةِ فِعْلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى كَيْفِيَّةٍ خَارِقَةٍ لِلْعَادَةِ وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مَا يَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى، فَإِسْنَادُ الضَّرْبِ حَقِيقَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِتَسْدِيدِ ضَرَبَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَتَوْجِيهِ
الْمُشْرِكِينَ إِلَى جِهَاتِهَا، فَإِسْنَادُ الضَّرْبِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّهُمْ سَبَبُهُ، وَقَدْ قِيلَ:
الْأَمْرُ بِالضَّرْبِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ بَعِيدٌ، لِأَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ انْكِشَافِ الملحمة.
وَجُمْلَة: لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
تَعْلِيلٌ لِأَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْله أَنَّهُمْ
بَاءُ السَّبَبِيَّةِ
283
فَهِيَ تُفِيدُ مَعْنَى التَّعْلِيلِ وَلِهَذَا فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ.
وَالْمُخَاطَبُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ: إِمَّا الْمَلَائِكَةُ، فَتَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُوحَى بِهِ إِلَيْهِمْ إِطْلَاعًا لَهُمْ عَلَى حِكْمَةِ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى. لِزِيَادَةِ تَقْرِيبِهِمْ، وَلَا يَرِيبُكَ إِفْرَادُ كَافِ الْخِطَابِ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَافِ مَعَ اسْمِ الْإِشَارَةِ الْإِفْرَادُ وَالتَّذْكِيرُ، وَإِجْرَاؤُهَا عَلَى حَسَبِ حَالِ الْمُخَاطَبِ بِالْإِشَارَةِ جَائِزٌ وَلَيْسَ بِالْمُتَعَيِّنِ، وَإِمَّا مَنْ تَبْلُغُهُمُ الْآيَةُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْأَحْيَاءِ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ، وَلِذَا فَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ لِلتَّحْذِيرِ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى مُشَاقَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
وَالْقَوْلُ فِي إِفْرَادِ الْكَافِ هُوَ هُوَ إِذِ الْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ وَالْمُرَادُ نَوْعٌ خَاصٌّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ بِهِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ ضَرْبِ الْأَعْنَاقِ وَقَطْعِ الْبَنَانِ.
وَإِفْرَادُ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِتَأْوِيلِهِ بِالْمَذْكُورِ، وَتَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَالْمُشَاقَّةُ الْعَدَاوَةُ بِعِصْيَانٍ وَعِنَادٍ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الشِّقِّ- بِكَسْرِ الشِّينِ- وَهُوَ الْجَانِبُ، هُوَ اسْمٌ بِمَعْنَى الْمَشْقُوقِ أَيِ الْمُفَرَّقُ، وَلَمَّا كَانَ الْمُخَالِفُ وَالْمُعَادِي يَكُونُ مُتَبَاعِدًا عَنْ عَدُوِّهِ فَقَدْ جُعِلَ كَأَنَّهُ فِي شِقٍّ آخَرَ، أَيْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، وَالتَّصْرِيحُ بِسَبَبِ الِانْتِقَامِ تَعْرِيضٌ لِلْمُؤْمِنِينَ لِيَسْتَزِيدُوا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّ الْمَشِيئَةَ لَمَّا كَانَتْ سَبَبَ هَذَا الْعِقَابِ الْعَظِيمِ فَيُوشِكُ مَا هُوَ مُخَالَفَةٌ لِلرَّسُولِ بِدُونِ مُشَاقَّةٍ أَنْ يُوقِعَ فِي عَذَابٍ دُونَ ذَلِكَ، وَخَلِيقٌ بِأَنْ يَكُونَ ضِدَّهَا وَهُوَ الطَّاعَةُ مُوجِبًا لِلْخَيْرِ.
وَجُمْلَةُ: مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
تَذْيِيلٌ يَعُمُّ كُلَّ مَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَيَعُمُّ أَصْنَافَ الْعَقَائِدِ.
وَالْمُرَادُ من قَوْله: إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
الْكِنَايَةُ عَنْ عِقَابِ الْمُشَاقِّينَ وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ الِارْتِبَاطُ بَيْنَ الْجَزَاءِ وَبَيْنَ الشَّرْطِ بِاعْتِبَارِ لَازِمِ الْخَبَرِ وَهُوَ الْكِنَايَةُ عَنْ تَعَلُّقِ مَضْمُونِ ذَلِكَ الْخَبَرِ بِمَنْ حَصَلَ مِنْهُ مَضْمُونُ الشَّرْطِ، كَقَوْلِ عنترة:
يُرِيدُ فَإِنِّي لَا يَخْفَى عَلَيَّ مَنْ يَسْتُرُ وَجْهَهُ مِنِّي وَأَنِّي أتوسّمه وأعرفه.
[١٤]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ١٤]
ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤)
الْخِطَابُ فِي ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذين قتلوا، وَالَّذين قُطِعَتْ بَنَانُهُمْ أَيْ يُقَالُ
وَالْمُخَاطَبُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ: إِمَّا الْمَلَائِكَةُ، فَتَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُوحَى بِهِ إِلَيْهِمْ إِطْلَاعًا لَهُمْ عَلَى حِكْمَةِ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى. لِزِيَادَةِ تَقْرِيبِهِمْ، وَلَا يَرِيبُكَ إِفْرَادُ كَافِ الْخِطَابِ فِي اسْمِ الْإِشَارَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْكَافِ مَعَ اسْمِ الْإِشَارَةِ الْإِفْرَادُ وَالتَّذْكِيرُ، وَإِجْرَاؤُهَا عَلَى حَسَبِ حَالِ الْمُخَاطَبِ بِالْإِشَارَةِ جَائِزٌ وَلَيْسَ بِالْمُتَعَيِّنِ، وَإِمَّا مَنْ تَبْلُغُهُمُ الْآيَةُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الْأَحْيَاءِ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ، وَلِذَا فَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ لِلتَّحْذِيرِ مِنَ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى مُشَاقَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
وَالْقَوْلُ فِي إِفْرَادِ الْكَافِ هُوَ هُوَ إِذِ الْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ وَالْمُرَادُ نَوْعٌ خَاصٌّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ بِهِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ ضَرْبِ الْأَعْنَاقِ وَقَطْعِ الْبَنَانِ.
وَإِفْرَادُ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِتَأْوِيلِهِ بِالْمَذْكُورِ، وَتَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَالْمُشَاقَّةُ الْعَدَاوَةُ بِعِصْيَانٍ وَعِنَادٍ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الشِّقِّ- بِكَسْرِ الشِّينِ- وَهُوَ الْجَانِبُ، هُوَ اسْمٌ بِمَعْنَى الْمَشْقُوقِ أَيِ الْمُفَرَّقُ، وَلَمَّا كَانَ الْمُخَالِفُ وَالْمُعَادِي يَكُونُ مُتَبَاعِدًا عَنْ عَدُوِّهِ فَقَدْ جُعِلَ كَأَنَّهُ فِي شِقٍّ آخَرَ، أَيْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، وَالتَّصْرِيحُ بِسَبَبِ الِانْتِقَامِ تَعْرِيضٌ لِلْمُؤْمِنِينَ لِيَسْتَزِيدُوا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَإِنَّ الْمَشِيئَةَ لَمَّا كَانَتْ سَبَبَ هَذَا الْعِقَابِ الْعَظِيمِ فَيُوشِكُ مَا هُوَ مُخَالَفَةٌ لِلرَّسُولِ بِدُونِ مُشَاقَّةٍ أَنْ يُوقِعَ فِي عَذَابٍ دُونَ ذَلِكَ، وَخَلِيقٌ بِأَنْ يَكُونَ ضِدَّهَا وَهُوَ الطَّاعَةُ مُوجِبًا لِلْخَيْرِ.
وَجُمْلَةُ: مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
تَذْيِيلٌ يَعُمُّ كُلَّ مَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَيَعُمُّ أَصْنَافَ الْعَقَائِدِ.
وَالْمُرَادُ من قَوْله: إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
الْكِنَايَةُ عَنْ عِقَابِ الْمُشَاقِّينَ وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ الِارْتِبَاطُ بَيْنَ الْجَزَاءِ وَبَيْنَ الشَّرْطِ بِاعْتِبَارِ لَازِمِ الْخَبَرِ وَهُوَ الْكِنَايَةُ عَنْ تَعَلُّقِ مَضْمُونِ ذَلِكَ الْخَبَرِ بِمَنْ حَصَلَ مِنْهُ مَضْمُونُ الشَّرْطِ، كَقَوْلِ عنترة:
إِن تغد فِي، دُونِي الْقِنَاعَ فَإِنَّنِي | طَبٌّ بِأَخْذِ الْفَارِسِ الْمُسْتَلْئِمِ |
[١٤]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ١٤]
ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤)
الْخِطَابُ فِي ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذين قتلوا، وَالَّذين قُطِعَتْ بَنَانُهُمْ أَيْ يُقَالُ
284
لَهُمْ هَذَا الْكَلَامُ حَيْثُ تُضْرَبُ أَعْنَاقُهُمْ وَبَنَانُهُمْ بِأَنْ يُلْقَى فِي نُفُوسِهِمْ حِينَمَا يُصَابُونَ إِنَّ إِصَابَتَهُمْ كَانَتْ لِمُشَاقَّتِهِمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ تَوَعُّدَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِالْعَذَابِ وَالْبَطْشِ كَقَوْلِهِ: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ [الدُّخان: ١٦] وَقَوْلِهِ: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْأَنْفَال: ٣٤] وَنَحْوِ ذَلِكَ وَكَانُوا لَا يَخْلُونَ مِنَ اخْتِلَاجِ الشَّكِّ نُفُوسَهُمْ، فَإِذَا رَأَوُا الْقَتْلَ الَّذِي لَمْ يَأْلَفُوهُ، وَرَأَى الْوَاحِدُ مِنْهُمْ نَفْسَهُ مَضْرُوبًا بِالسَّيْفِ، ضَرْبًا لَا يَسْتَطِيعُ لَهُ دِفَاعًا، عَلِمَ أَنَّ وَعِيدَ اللَّهِ تَحَقَّقَ فِيهِ، فَجَاشَ فِي نَفْسِهِ أَنَّ ذَلِكَ لِمُشَاقَّتِهِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ إِصَابَاتٍ تُصِيبُهُمْ مِنْ غَيْرِ مَرْئِيٍّ، فَجُمْلَةُ:
ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: قَائِلِينَ، هُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ [الْأَنْفَال: ١٢].
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ رَاجِعٌ إِلَى الضَّرْبِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ [الْأَنْفَال: ١٢] وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، فَإِمَّا أَنْ يُقَدَّرَ ذَلِكَ هُوَ الْعِقَابُ الْمَوْعُودُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله: أَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
[الْأَنْفَال:
١٣] فَالتَّقْدِيرُ ذَلِكَ بِأَنَّكُمْ شَاقَقْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
وَتَفْرِيعُ فَذُوقُوهُ عَلَى جُمْلَةِ: ذلِكُمْ بِمَا قُدِّرَ فِيهَا تَفْرِيعٌ لِلشَّمَاتَةِ عَلَى تَحْقِيقِ الْوَعِيدِ، فَصِيغَةُ الْأَمْرِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الشَّمَاتَةِ وَالْإِهَانَةِ، وَمَوْقِعُ فَذُوقُوهُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْجُمْلَةِ وَالْمَعْطُوفِ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ، وَالِاعْتِرَاضُ يَكُونُ بِالْفَاءِ كَمَا فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ:
قَالُوا وَفِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ للْعَطْف على الْمَقُول فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْقَوْلِ، وَالتَّعْرِيفُ فِي الْكَافِرِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَهُوَ تَذْيِيلٌ.
وَالْمَعْنَى: ذَلِكُمْ، أَيْ ضَرْبُ الْأَعْنَاقِ، عِقَابُ الدُّنْيَا، وَأَنَّ لَكُمْ عَذَابَ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ مَعَ جَمِيعِ الْكَافِرِينَ، وَالذَّوْقُ مَجَازٌ فِي الْإِحْسَاسِ وَالْعَلَاقَةُ الْإِطْلَاقُ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ عَطْفٌ عَلَى الْخَبَرِ الْمَحْذُوفِ أَيْ ذَلِكُمُ الْعَذَابُ وَأَنَّ عَذَابَ النَّارِ لجَمِيع الْكَافرين.
ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: قَائِلِينَ، هُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ [الْأَنْفَال: ١٢].
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ رَاجِعٌ إِلَى الضَّرْبِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ [الْأَنْفَال: ١٢] وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، فَإِمَّا أَنْ يُقَدَّرَ ذَلِكَ هُوَ الْعِقَابُ الْمَوْعُودُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله: أَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
[الْأَنْفَال:
١٣] فَالتَّقْدِيرُ ذَلِكَ بِأَنَّكُمْ شَاقَقْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
وَتَفْرِيعُ فَذُوقُوهُ عَلَى جُمْلَةِ: ذلِكُمْ بِمَا قُدِّرَ فِيهَا تَفْرِيعٌ لِلشَّمَاتَةِ عَلَى تَحْقِيقِ الْوَعِيدِ، فَصِيغَةُ الْأَمْرِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الشَّمَاتَةِ وَالْإِهَانَةِ، وَمَوْقِعُ فَذُوقُوهُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْجُمْلَةِ وَالْمَعْطُوفِ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ، وَالِاعْتِرَاضُ يَكُونُ بِالْفَاءِ كَمَا فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ:
ضِبَابِ بَنِي الطُّوَالَةِ فَاعْلَمِيهِ | وَلَا يَغْرُرْكِ نَأْيِي وَاغْتِرَابِي |
وَالْمَعْنَى: ذَلِكُمْ، أَيْ ضَرْبُ الْأَعْنَاقِ، عِقَابُ الدُّنْيَا، وَأَنَّ لَكُمْ عَذَابَ النَّارِ فِي الْآخِرَةِ مَعَ جَمِيعِ الْكَافِرِينَ، وَالذَّوْقُ مَجَازٌ فِي الْإِحْسَاسِ وَالْعَلَاقَةُ الْإِطْلَاقُ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ عَطْفٌ عَلَى الْخَبَرِ الْمَحْذُوفِ أَيْ ذَلِكُمُ الْعَذَابُ وَأَنَّ عَذَابَ النَّارِ لجَمِيع الْكَافرين.
285
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : الْآيَات ١٥ إِلَى ١٦]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦)لَمَّا ذَكَّرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِمَا أَيَّدَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ بِالْمَلَائِكَةِ وَالنَّصْرِ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَكْرَمَهُمْ بِأَنْ نَصَرَهُمْ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ وَأَكْثَرَ عَدَدًا وَعُدَدًا، وَأَعْقَبُهُ بِأَنْ أَعْلَمَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ شَأْنُهُ مَعَ الْكَافِرِينَ بِهِ اعْتَرَضَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ بِتَحْذِيرِهِمْ من الوهن والقرار، فَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ [الْأَنْفَال: ١٢] وَبَيْنَ جُمْلَةِ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ [الْأَنْفَال: ١٧] الْآيَةَ وَفِي هَذَا تَدْرِيبٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الشَّجَاعَةِ وَالْإِقْدَامِ وَالثَّبَاتِ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَهِيَ خُطَّةٌ مَحْمُودَةٌ عِنْدَ الْعَرَبِ لَمْ يَزِدْهَا الْإِسْلَامُ إِلَّا تَقْوِيَةً، قَالَ الْحُصَيْنُ بْنُ الْحُمَامِ:
تَأَخَّرْتُ أَسْتَبْقِي الْحَيَاةَ فَلَمْ أَجِدْ لِنَفْسِي | حَيَاةً مِثْلَ أَنْ أَتَقَدَّمَا |
وَاللِّقَاءُ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي كَلَامِهِمْ عَلَى مُنَاجَزَةِ الْعَدُوِّ فِي الْحَرْبِ.
فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَالْمُنَاسَبَةُ وَاضِحَةٌ، وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٤٥]، وَأَصْلُ اللِّقَاءِ أَنَّهُ الْحُضُورُ لَدَى الْغَيْرِ.
وَالزَّحْفُ أَصْلُهُ مَصْدَرُ زَحَفَ مِنْ بَابِ مَنَعَ، إِذَا انْبَعَثَ مِنْ مَكَانِهِ مُتَنَقِّلًا على مقعدته يجرر جيله كَمَا يَزْحَفُ الصَّبِيُّ.
ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى مَشْيِ الْمُقَاتِلِ إِلَى عَدُوِّهِ فِي سَاحَةِ الْقِتَالِ زَحْفٌ لِأَنَّهُ يَدْنُو إِلَى الْعَدُوِّ بِاحْتِرَاسٍ وَتَرَصُّدِ فُرْصَةٍ، فَكَأَنَّهُ يَزْحَفُ إِلَيْهِ.
286
وَيُطْلَقُ الزَّحْفُ عَلَى الْجَيْشِ الدَّهْمِ، أَيِ الْكَثِيرِ عَدَدِ الرِّجَالِ، لِأَنَّهُ لِكَثْرَةِ النَّاسِ فِيهِ يَثْقُلُ تَنَقُّلُهُ فَوُصِفَ بِالْمَصْدَرِ، ثُمَّ غُلِبَ إِطْلَاقُهُ حَتَّى صَارَ مَعْنًى مِنْ مَعَانِي الزَّحْفِ وَيُجْمَعُ عَلَى زُحُوفٍ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ طُرُقُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ الْمُرَادِ مِنْ لَفْظِ زَحْفاً فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ أَيِ الْمَشْيِ فِي الْحَرْب وجلعه وَصْفًا لِتَلَاحُمِ الْجَيْشَيْنِ عِنْدَ الْقِتَالِ، لِأَنَّ الْمُقَاتِلِينَ يَدِبُّونَ إِلَى أَقْرَانِهِمْ دَبِيبًا، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِمَعْنَى الْجَيْشِ الدَّهْمِ الْكَثِيرِ الْعَدَدِ، وَجَعَلَهُ وَصْفًا لِذَاتِ الْجَيْشِ.
وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَهُوَ: إِمَّا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ لَقِيتُمُ وَإِمَّا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَعَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ هُوَ نَهْيٌ عَنِ الِانْصِرَافِ مِنَ الْقِتَالِ فِرَارًا إِذَا الْتَحَمَ الْجَيْشَانِ، سَوَاءٌ جَعَلْتَ زَحْفًا حَالًا مِنْ ضَمِيرِ لَقِيتُمُ أَوْ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، لِأَنَّ مَشْيَ أَحَدِ الْجَيْشَيْنِ يَسْتَلْزِمُ مَشْيَ الْآخَرِ.
وَعَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي فَإِنْ جُعِلَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ لَقِيتُمْ كَانَ نَهْيًا عَنِ الْفِرَارِ إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ جَيْشًا كَثِيرًا، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا قِلَّةً فَلَا نَهْيَ، وَهَذَا الْمَفْهُومُ مُجْمَلٌ يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ- إِلَى- مَعَ الصَّابِرِينَ [الْأَنْفَال: ٦٥، ٦٦]، وَإِنْ جُعِلَ حَالًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا كَانَ الْمَعْنَى إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ وَهُمْ كَثِيرُونَ فَلَا تَفِرُّوا، فَيُفِيدُ النَّهْيَ عَنِ الْفِرَارِ إِذَا كَانَ الْكُفَّارُ قِلَّةً بِفَحْوَى الْخِطَابِ، وَيُؤَوَّلُ إِلَى مَعْنَى لَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ فِي كُلِّ حَالٍ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ نَزَلَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي التَّرَدُّدُ فِي صِحَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَإِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ الِاخْتِلَافِ فِي أَنْفَالِ الْجَيْشِ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ عِنْدَ قِسْمَةِ مَغَانِمِ بَدْرٍ، وَمَا هَذِهِ الْآيَةُ إِلَّا جُزْءٌ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فَحُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ شَرْعٌ شَرَعَهُ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ تِلْكَ الْغَزْوَةِ لِتَوَقُّعِ حُدُوثِ غَزَوَاتٍ يَكُونُ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا قَلِيلًا كَمَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنِ التقهقر إِذا لَا قوا الْعَدُوَّ.
فَأَمَّا يَوْمُ بَدْرٍ فَلَمْ يَكُنْ حُكْمٌ مَشْرُوعٌ فِي هَذَا الشَّأْنِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَقَعُوا فِي الْحَرْبِ بَغْتَةً وَتَوَلَّى اللَّهُ نَصْرَهُمْ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ طُرُقُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ الْمُرَادِ مِنْ لَفْظِ زَحْفاً فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ أَيِ الْمَشْيِ فِي الْحَرْب وجلعه وَصْفًا لِتَلَاحُمِ الْجَيْشَيْنِ عِنْدَ الْقِتَالِ، لِأَنَّ الْمُقَاتِلِينَ يَدِبُّونَ إِلَى أَقْرَانِهِمْ دَبِيبًا، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِمَعْنَى الْجَيْشِ الدَّهْمِ الْكَثِيرِ الْعَدَدِ، وَجَعَلَهُ وَصْفًا لِذَاتِ الْجَيْشِ.
وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَهُوَ: إِمَّا حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ لَقِيتُمُ وَإِمَّا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَعَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ هُوَ نَهْيٌ عَنِ الِانْصِرَافِ مِنَ الْقِتَالِ فِرَارًا إِذَا الْتَحَمَ الْجَيْشَانِ، سَوَاءٌ جَعَلْتَ زَحْفًا حَالًا مِنْ ضَمِيرِ لَقِيتُمُ أَوْ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا، لِأَنَّ مَشْيَ أَحَدِ الْجَيْشَيْنِ يَسْتَلْزِمُ مَشْيَ الْآخَرِ.
وَعَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي فَإِنْ جُعِلَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ لَقِيتُمْ كَانَ نَهْيًا عَنِ الْفِرَارِ إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ جَيْشًا كَثِيرًا، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا قِلَّةً فَلَا نَهْيَ، وَهَذَا الْمَفْهُومُ مُجْمَلٌ يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ- إِلَى- مَعَ الصَّابِرِينَ [الْأَنْفَال: ٦٥، ٦٦]، وَإِنْ جُعِلَ حَالًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا كَانَ الْمَعْنَى إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ وَهُمْ كَثِيرُونَ فَلَا تَفِرُّوا، فَيُفِيدُ النَّهْيَ عَنِ الْفِرَارِ إِذَا كَانَ الْكُفَّارُ قِلَّةً بِفَحْوَى الْخِطَابِ، وَيُؤَوَّلُ إِلَى مَعْنَى لَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ فِي كُلِّ حَالٍ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ نَزَلَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي التَّرَدُّدُ فِي صِحَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَإِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ الِاخْتِلَافِ فِي أَنْفَالِ الْجَيْشِ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ عِنْدَ قِسْمَةِ مَغَانِمِ بَدْرٍ، وَمَا هَذِهِ الْآيَةُ إِلَّا جُزْءٌ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فَحُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ شَرْعٌ شَرَعَهُ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ تِلْكَ الْغَزْوَةِ لِتَوَقُّعِ حُدُوثِ غَزَوَاتٍ يَكُونُ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا قَلِيلًا كَمَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنِ التقهقر إِذا لَا قوا الْعَدُوَّ.
فَأَمَّا يَوْمُ بَدْرٍ فَلَمْ يَكُنْ حُكْمٌ مَشْرُوعٌ فِي هَذَا الشَّأْنِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَقَعُوا فِي الْحَرْبِ بَغْتَةً وَتَوَلَّى اللَّهُ نَصْرَهُمْ.
287
وَحُكْمُ هَذِهِ الْآيَةِ بَاقٍ غَيْرُ مَنْسُوخٍ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَكِنَّهُمْ جَعَلُوا عُمُومَ هَذِهِ الْآيَةِ مَخْصُوصًا بِآيَةِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً- إِلَى قَوْلِهِ- بِإِذْنِ اللَّهِ [الْأَنْفَال: ٦٥، ٦٦].
وَالْوَجْهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى صِيَغِ عُمُومٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ
يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ- إِلَى قَوْلِهِ- فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَهِيَ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ مُطْلَقَةٌ فِي حَالَةِ اللِّقَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَتَكُونُ آيَاتُ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ- إِلَى قَوْلِهِ- يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ [الْأَنْفَال: ٦٥، ٦٦] مُخَصِّصَةً لِعُمُومِ هَاتِهِ الْآيَةِ بِمِقْدَارِ الْعَدَدِ وَمُقَيِّدَةً لِإِطْلَاقِهَا اللِّقَاءَ بِقَيْدِ حَالَةِ ذَلِكَ الْعَدَدِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَنَافِعٍ، وَقَتَادَةَ، وَالضَّحَّاكِ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَقَالُوا إِنَّ حُكْمَهَا نسخ بِآيَة الضُّعَفَاء آيَةِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ [الْأَنْفَال: ٦٥] الْآيَةَ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة، ومآل الْقَوْلَيْنِ وَاحِدٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَا بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي فِقْهِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ كَمَا سَيَأْتِي، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ كَمَا يَقْتَضِيهِ سِيَاقُ انْتِظَامِ آيِ السُّورَةِ، وَلَوْ صَحَّ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ الثَّانِي لَلَزِمَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْقِتَالِ يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْفَالِ فَأُلْحِقَتِ الْآيَةُ بِهَا، وَهَذَا مَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْأَثَرِ.
وَذَهَبَ فَرِيقٌ ثَالِثٌ: إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ الْآيَةَ مُحْكَمٌ عَامٌّ فِي الْأَزْمَانِ، لَا يُخَصَّصُ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَلَا بِغَيْرِهِ، وَلَا يخص بِعَدَدٍ دُونَ عَدَدٍ، وَنَسَبَ ابْنُ الْفُرْسِ، عَنِ النَّحَّاسِ، إِلَى عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَقَالَ ابْنُ الْفُرْسِ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَيْنَ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ ذَلِكَ، وَأَنَا لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ.
وَلَمْ يَسْتَقِرَّ مِنْ عَمَلِ جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ، فِي غَزَوَاتِهِمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَ الْأُمَرَاءِ الصَّالِحِينَ فِي زَمَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، مَا يَنْضَبِطُ بِهِ مَدَى الْإِذْنِ أَوِ الْمَنْعِ مِنَ الْفِرَارِ، وَقَدِ انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ فَعَنَّفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ [آل عمرَان: ١٥٥] وَمَا عَفَا عَنْهُمْ إِلَّا بَعْدَ أَنِ اسْتَحَقُّوا الْإِثْمَ، وَلَمَّا انْكَشَفُوا عِنْدَ لِقَاءِ هَوَازِنَ
وَالْوَجْهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ اشْتَمَلَتْ عَلَى صِيَغِ عُمُومٍ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ
يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ- إِلَى قَوْلِهِ- فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَهِيَ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ مُطْلَقَةٌ فِي حَالَةِ اللِّقَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَتَكُونُ آيَاتُ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ- إِلَى قَوْلِهِ- يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ [الْأَنْفَال: ٦٥، ٦٦] مُخَصِّصَةً لِعُمُومِ هَاتِهِ الْآيَةِ بِمِقْدَارِ الْعَدَدِ وَمُقَيِّدَةً لِإِطْلَاقِهَا اللِّقَاءَ بِقَيْدِ حَالَةِ ذَلِكَ الْعَدَدِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَعَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَنَافِعٍ، وَقَتَادَةَ، وَالضَّحَّاكِ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَقَالُوا إِنَّ حُكْمَهَا نسخ بِآيَة الضُّعَفَاء آيَةِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ [الْأَنْفَال: ٦٥] الْآيَةَ وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة، ومآل الْقَوْلَيْنِ وَاحِدٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَا بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي فِقْهِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ كَمَا سَيَأْتِي، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ كَمَا يَقْتَضِيهِ سِيَاقُ انْتِظَامِ آيِ السُّورَةِ، وَلَوْ صَحَّ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ الثَّانِي لَلَزِمَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْقِتَالِ يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْفَالِ فَأُلْحِقَتِ الْآيَةُ بِهَا، وَهَذَا مَا لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْأَثَرِ.
وَذَهَبَ فَرِيقٌ ثَالِثٌ: إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ الْآيَةَ مُحْكَمٌ عَامٌّ فِي الْأَزْمَانِ، لَا يُخَصَّصُ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَلَا بِغَيْرِهِ، وَلَا يخص بِعَدَدٍ دُونَ عَدَدٍ، وَنَسَبَ ابْنُ الْفُرْسِ، عَنِ النَّحَّاسِ، إِلَى عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَقَالَ ابْنُ الْفُرْسِ قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَيْنَ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ ذَلِكَ، وَأَنَا لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ.
وَلَمْ يَسْتَقِرَّ مِنْ عَمَلِ جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ، فِي غَزَوَاتِهِمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَ الْأُمَرَاءِ الصَّالِحِينَ فِي زَمَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، مَا يَنْضَبِطُ بِهِ مَدَى الْإِذْنِ أَوِ الْمَنْعِ مِنَ الْفِرَارِ، وَقَدِ انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ فَعَنَّفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ [آل عمرَان: ١٥٥] وَمَا عَفَا عَنْهُمْ إِلَّا بَعْدَ أَنِ اسْتَحَقُّوا الْإِثْمَ، وَلَمَّا انْكَشَفُوا عِنْدَ لِقَاءِ هَوَازِنَ
288
يَوْمَ حُنَيْنٍ عَنَّفَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ إِلَى قَوْلِهِ- ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [٢٥- ٢٧] وَذِكْرُ التَّوْبَةِ يَقْتَضِي سَبْقَ الْإِثْمِ.
وَمَعْنَى فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ لَا تُوَجِّهُوا إِلَيْهِمْ أَدْبَارَكُمْ، يُقَالُ: وَلَّى وَجْهَهُ فُلَانًا إِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْبَقَرَة: ١٤٤] فَيُعَدَّى فِعْلُ وَلَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ بِسَبَبِ التَّضْعِيفِ، (وَمُجَرَّدُهُ وَلِيَ) إِذَا جَعَلَ شَيْئًا وَالِيًا أَيْ قَرِيبًا فَيَكُونُ وَلَّى الْمُضَاعَفُ مِثْلَ قَرَّبَ الْمُضَاعَفِ، فَهَذَا نَظْمُ هَذَا التَّرْكِيب.
و (الأدبار) جَمْعُ دُبُرٍ، وَهُوَ ضِدُّ قُبُلِ الشَّيْءِ وَجْهُهُ، وَمَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ مِنْهُ عِنْدَ إِقْبَالِهِ عَلَى شَيْءٍ وَجَعْلُهُ أَمَامَهُ، وَدُبُرُهُ ظَهْرُهُ وَمَا تَرَاهُ مِنْهُ حِينَ انْصِرَافِهِ وَجَعْلُهُ إِيَّاكَ وَرَاءَهُ، وَمِنْهُ يُقَالُ اسْتَقْبَلَ وَاسْتَدْبَرَ وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَمَعْنَى تَوْلِيَتِهِمُ الْأَدْبَارَ صَرْفُ الْأَدْبَارِ إِلَيْهِمْ، أَيِ الرُّجُوعُ عَنِ اسْتِقْبَالِهِمْ، وَتَوْلِيَةُ الْأَدْبَارِ كِنَايَةٌ عَنِ الْفِرَارِ مِنَ الْعَدُوِّ بِقَرِينَةِ ذِكْرِهِ فِي سِيَاقِ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ مَعَ بَعْضِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ، وَإِلَّا فَإِنَّ صَرْفَ الظَّهْرِ إِلَى الْعَدُوِّ بَعْدَ النَّصْرِ لَا بُدَّ مِنْهُ وَهُوَ الِانْصِرَافُ إِلَى الْمُعَسْكَرِ، إِذْ لَا يَفْهَمُ أَحَدٌ النَّهْي عَن إدارة الْوَجْهِ عَنِ الْعَدُوِّ، وَإِلَّا لَلَزِمَ أَنْ يَبْقَى النَّاسُ مُسْتَقْبِلِينَ جَيْشَ عَدُوِّهِمْ، فَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُفَادَ مِنْ قَوْلِهِ: فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ النَّهْيُ عَنِ الْفِرَارِ قَبْلَ النَّصْرِ أَوِ الْقَتْلِ.
وَعَبَّرَ عَنْ حِينِ الزَّحْفِ بِلَفْظِ الْيَوْمِ فِي قَوْلِهِ يَوْمَئِذٍ أَيْ يَوْمَ الزَّحْفِ أَيْ يُوُلِّهِمْ يَوْمَ الزَّحْفِ دُبُرَهُ أَيْ حِينَ الزَّحْفِ.
وَمِنْ ثَمَّ اسْتَثْنَى مِنْهُ حَالَةَ التَّحَرُّفِ لِأَجْلِ الْحِيلَةِ الْحَرْبِيَّةِ وَالِانْحِيَازِ إِلَى فِئَةٍ مِنَ الْجَيْشِ لِلِاسْتِنْجَادِ بِهَا أَوْ لِإِنْجَادِهَا.
وَالْمُسْتَثْنَى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَاتًا مُسْتَثْنًى مِنَ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا رَجُلًا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ، فَحَذَفَ الْمَوْصُوفَ وَبَقِيَتِ الصِّفَةُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى حَالَةً مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ دَلَّ عَلَيْهَا الِاسْتِثْنَاءُ أَيْ إِلَّا فِي حَالِ تحرفه لقِتَال.
و (التحرف) الِانْصِرَافُ إِلَى الْحَرْفِ، وَهُوَ الْمَكَانُ الْبَعِيدُ عَنْ وَسَطِهِ فَالتَّحَرُّفُ مُزَايَلَةُ الْمَكَانِ الْمُسْتَقِرِّ فِيهِ وَالْعُدُولُ إِلَى أَحَدِ جَوَانِبِهِ، وَهُوَ يَسْتَدْعِي تَوْلِيَةَ الظَّهْرِ لِذَلِكَ الْمَكَانِ بِمَعْنَى الْفِرَارِ مِنْهُ.
وَمَعْنَى فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ لَا تُوَجِّهُوا إِلَيْهِمْ أَدْبَارَكُمْ، يُقَالُ: وَلَّى وَجْهَهُ فُلَانًا إِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْبَقَرَة: ١٤٤] فَيُعَدَّى فِعْلُ وَلَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ بِسَبَبِ التَّضْعِيفِ، (وَمُجَرَّدُهُ وَلِيَ) إِذَا جَعَلَ شَيْئًا وَالِيًا أَيْ قَرِيبًا فَيَكُونُ وَلَّى الْمُضَاعَفُ مِثْلَ قَرَّبَ الْمُضَاعَفِ، فَهَذَا نَظْمُ هَذَا التَّرْكِيب.
و (الأدبار) جَمْعُ دُبُرٍ، وَهُوَ ضِدُّ قُبُلِ الشَّيْءِ وَجْهُهُ، وَمَا يَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ مِنْهُ عِنْدَ إِقْبَالِهِ عَلَى شَيْءٍ وَجَعْلُهُ أَمَامَهُ، وَدُبُرُهُ ظَهْرُهُ وَمَا تَرَاهُ مِنْهُ حِينَ انْصِرَافِهِ وَجَعْلُهُ إِيَّاكَ وَرَاءَهُ، وَمِنْهُ يُقَالُ اسْتَقْبَلَ وَاسْتَدْبَرَ وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَمَعْنَى تَوْلِيَتِهِمُ الْأَدْبَارَ صَرْفُ الْأَدْبَارِ إِلَيْهِمْ، أَيِ الرُّجُوعُ عَنِ اسْتِقْبَالِهِمْ، وَتَوْلِيَةُ الْأَدْبَارِ كِنَايَةٌ عَنِ الْفِرَارِ مِنَ الْعَدُوِّ بِقَرِينَةِ ذِكْرِهِ فِي سِيَاقِ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ مَعَ بَعْضِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ، وَإِلَّا فَإِنَّ صَرْفَ الظَّهْرِ إِلَى الْعَدُوِّ بَعْدَ النَّصْرِ لَا بُدَّ مِنْهُ وَهُوَ الِانْصِرَافُ إِلَى الْمُعَسْكَرِ، إِذْ لَا يَفْهَمُ أَحَدٌ النَّهْي عَن إدارة الْوَجْهِ عَنِ الْعَدُوِّ، وَإِلَّا لَلَزِمَ أَنْ يَبْقَى النَّاسُ مُسْتَقْبِلِينَ جَيْشَ عَدُوِّهِمْ، فَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُفَادَ مِنْ قَوْلِهِ: فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ النَّهْيُ عَنِ الْفِرَارِ قَبْلَ النَّصْرِ أَوِ الْقَتْلِ.
وَعَبَّرَ عَنْ حِينِ الزَّحْفِ بِلَفْظِ الْيَوْمِ فِي قَوْلِهِ يَوْمَئِذٍ أَيْ يَوْمَ الزَّحْفِ أَيْ يُوُلِّهِمْ يَوْمَ الزَّحْفِ دُبُرَهُ أَيْ حِينَ الزَّحْفِ.
وَمِنْ ثَمَّ اسْتَثْنَى مِنْهُ حَالَةَ التَّحَرُّفِ لِأَجْلِ الْحِيلَةِ الْحَرْبِيَّةِ وَالِانْحِيَازِ إِلَى فِئَةٍ مِنَ الْجَيْشِ لِلِاسْتِنْجَادِ بِهَا أَوْ لِإِنْجَادِهَا.
وَالْمُسْتَثْنَى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَاتًا مُسْتَثْنًى مِنَ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا رَجُلًا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ، فَحَذَفَ الْمَوْصُوفَ وَبَقِيَتِ الصِّفَةُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى حَالَةً مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ دَلَّ عَلَيْهَا الِاسْتِثْنَاءُ أَيْ إِلَّا فِي حَالِ تحرفه لقِتَال.
و (التحرف) الِانْصِرَافُ إِلَى الْحَرْفِ، وَهُوَ الْمَكَانُ الْبَعِيدُ عَنْ وَسَطِهِ فَالتَّحَرُّفُ مُزَايَلَةُ الْمَكَانِ الْمُسْتَقِرِّ فِيهِ وَالْعُدُولُ إِلَى أَحَدِ جَوَانِبِهِ، وَهُوَ يَسْتَدْعِي تَوْلِيَةَ الظَّهْرِ لِذَلِكَ الْمَكَانِ بِمَعْنَى الْفِرَارِ مِنْهُ.
289
وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ أَيْ إِلَّا فِي حَالِ تَحَرُّفٍ أَيْ مُجَانَبَةٍ لِأَجْلِ الْقِتَالِ، أَيْ لِأَجْلِ إِعْمَالِهِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْقِتَالِ الِاسْمَ، أَوْ لِأَجْلِ إِعَادَةِ الْمُقَاتَلَةِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْقِتَالِ الْمَصْدَرَ، وَتَنْكِيرُ قِتَالٍ يُرَجِّحُ الْوَجْهَ الثَّانِي، فَالْمُرَادُ بِهَذَا التَّحَرُّفِ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْفَرِّ لِأَجْلِ الْكَرِّ فَإِنَّ الْحَرْبَ كَرٌّ وَفَرٌّ، وَقَالَ عَمْرو بن معديكرب:
وَالتَّحَيُّزُ طَلَبُ الْحَيِّزِ فَيْعِلٌ مِنَ الْحَوْزِ، فَأَصْلُ إِحْدَى يَاءَيْهِ الْوَاوُ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الْوَاوُ
وَالْيَاءُ وَكَانَتِ السَّابِقَةُ سَاكِنَةً قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتِ الْيَاءُ فِي الْيَاءِ، ثُمَّ اشْتَقُّوا مِنْهُ تَحَيُّزٌ، فَوَزْنُهُ تَفَيْعُلٌ وَهُوَ مُخْتَارُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» جَرْيًا عَلَى الْقِيَاسِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَجَوَّزَ التَّفْتَازَانِيُّ أَنْ يَكُونَ وَزْنُهُ تَفَعُّلُ بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِهِ مُشْتَقًّا مِنَ الْكَلِمَةِ الْوَاقِعِ فِيهَا الْإِبْدَالُ وَالْإِدْغَامُ وَهِيَ الْحَيِّزُ، وَنَظَّرَهُ بِقَوْلِهِمْ: «تَدَيُّرٌ» بِمَعْنَى الْإِقَامَةِ فِي الدَّارِ، فَإِنَّ الدَّارَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الدَّوَرَانِ وَلِذَلِكَ جُمِعَتْ عَلَى دُورٍ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ فِي جَمْعِهَا دِيَارٌ وَدِيَرَةٌ عُومِلَتْ مُعَامَلَةَ مَا عَيْنُهُ يَاءٌ، فَقَالُوا مِنْ ذَلِكَ تَدَيَّرَ بِمَعْنَى أَقَامَ فِي الدَّارِ وَهُوَ تَفَعَّلَ مِنَ الدَّارِ، وَاحْتَجَّ بِكَلَامِ ابْنِ جِنِّيٍّ وَالْمَرْزُوقِيِّ فِي «شَرْحِ الْحَمَاسَةِ»، يَعْنِي مَا قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ فِي «شَرْحِ الْحَمَاسَةِ» عِنْدَ قَوْلِ جَابِرِ بْنِ حَرِيشٍ:
«التَّدَيُّرُ تَفَعُّلٌ مِنَ الدَّارِ وَقِيَاسُهُ تَدَوَّرٌ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُمْ دِيَارَ أَنِسُوا بِالْيَاءِ وَوَجَدُوا جَانِبَهَا أَوْطَأَ حِسًّا وَأَلْيَنَ مَسًّا فَاجْتَرُّوا عَلَيْهَا فَقَالُوا تَدَيُّرٌ» وَمَا قَالَ الْمَرْزُوقِيُّ «الْأَصْلُ فِي تَدَيُّرٍ الْوَاوُ وَلَكِنَّهُمْ بَنَوْهُ عَلَى دِيَارٍ لِإِلْفِهِمْ لَهُ بِكَثْرَةِ تَرَدُّدِهِ فِي كَلَامِهِمْ».
فَمَعْنَى مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ أَنْ يَكُونَ رَجَعَ الْقَهْقَرَى لِيَلْتَحِقَ بِطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَيَتَقَوَّى بِهِمْ.
وَالْفِئَةُ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٤٩] فِي قَوْلِهِ:
وَلَقَدْ أَجْمَعُ رِجْلَيَّ بِهَا | حَذَرَ الْمَوْتِ وَإِنِّي لَفَرُورُ |
وَلَقَدْ أَعْطِفُهَا كَارِهَةً | حِينَ لِلنَّفْسِ مِنَ الْمَوْتِ هَرِيرُ |
كُلُّ مَا ذَلِكَ مِنِّي خُلُقٌ | وَبِكُلٍّ أَنَا فِي الرَّوْعِ جَدِيرُ |
وَالْيَاءُ وَكَانَتِ السَّابِقَةُ سَاكِنَةً قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتِ الْيَاءُ فِي الْيَاءِ، ثُمَّ اشْتَقُّوا مِنْهُ تَحَيُّزٌ، فَوَزْنُهُ تَفَيْعُلٌ وَهُوَ مُخْتَارُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» جَرْيًا عَلَى الْقِيَاسِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَجَوَّزَ التَّفْتَازَانِيُّ أَنْ يَكُونَ وَزْنُهُ تَفَعُّلُ بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِهِ مُشْتَقًّا مِنَ الْكَلِمَةِ الْوَاقِعِ فِيهَا الْإِبْدَالُ وَالْإِدْغَامُ وَهِيَ الْحَيِّزُ، وَنَظَّرَهُ بِقَوْلِهِمْ: «تَدَيُّرٌ» بِمَعْنَى الْإِقَامَةِ فِي الدَّارِ، فَإِنَّ الدَّارَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الدَّوَرَانِ وَلِذَلِكَ جُمِعَتْ عَلَى دُورٍ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ فِي جَمْعِهَا دِيَارٌ وَدِيَرَةٌ عُومِلَتْ مُعَامَلَةَ مَا عَيْنُهُ يَاءٌ، فَقَالُوا مِنْ ذَلِكَ تَدَيَّرَ بِمَعْنَى أَقَامَ فِي الدَّارِ وَهُوَ تَفَعَّلَ مِنَ الدَّارِ، وَاحْتَجَّ بِكَلَامِ ابْنِ جِنِّيٍّ وَالْمَرْزُوقِيِّ فِي «شَرْحِ الْحَمَاسَةِ»، يَعْنِي مَا قَالَ ابْنُ جِنِّيٍّ فِي «شَرْحِ الْحَمَاسَةِ» عِنْدَ قَوْلِ جَابِرِ بْنِ حَرِيشٍ:
إِذْ لَا تَخَافُ حُدُوجُنَا قَذْفَ النَّوَى | قَبْلَ الْفَسَادِ إِقَامَةً وَتَدَيُّرَا |
فَمَعْنَى مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ أَنْ يَكُونَ رَجَعَ الْقَهْقَرَى لِيَلْتَحِقَ بِطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَيَتَقَوَّى بِهِمْ.
وَالْفِئَةُ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٤٩] فِي قَوْلِهِ:
290
كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ وَتُطْلَقُ عَلَى مُؤَخَّرَةِ الْجَيْشِ لِأَنَّهَا يَفِيءُ إِلَيْهَا مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى إِصْلَاحِ أَمْرِهِ أَوْ مَنْ عُرِضَ لَهُ مَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْقِتَالِ مِنْ مَرَضٍ أَوْ جِرَاحَةٍ أَوْ يَسْتَنْجِدُ بِهِمْ، فَهُوَ تَوَلٍّ لِمَقْصِدِ الْقِتَالِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَنْحَازَ إِلَى جَمَاعَةٍ مُسْتَرِيحِينَ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْفِرَارِ، وَيَدْخُلُ فِي مَعْنَى التَّحَيُّزِ إِلَى الْفِئَةِ الرُّجُوعُ إِلَى مَقَرِّ أَمِيرِ الْجَيْشِ لِلِاسْتِنْجَادِ بِفِئَةٍ أُخْرَى، وَكَذَلِكَ الْقُفُولُ إِلَى مَقَرِّ أَمِيرِ الْمِصْرِ الَّذِي وَجَّهَ الْجَيْشَ لِلِاسْتِمْدَادِ بِجَيْشٍ آخَرَ إِذَا رَأَى أَمِيرُ الْجَيْشِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ كَمَا فَعَلَ الْمُسْلِمُونَ فِي فَتْحِ إِفْرِيقِيَّةَ وَغَيْرِهِ فِي زَمَنِ الْخُلَفَاءِ، وَلَمَّا انْهَزَمَ أَبُو عُبَيْدِ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيِّ يَوْمَ الْجِسْرِ بِالْقَادِسِيَّةِ، وَقُتِلَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: هَلَّا تَحَيَّزَ إِلَيَّ فَأَنَا فِئَتُهُ.
وباءَ رَجَعَ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ غَضِبَ عَلَيْهِ فِي رُجُوعِهِ ذَلِكَ فَهُوَ قَدْ رَجَعَ مُلَابِسًا لِغَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ. وَمُنَاسَبَةُ (بَاءَ) هُنَا أَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ سَبَبَ الْغَضَبِ عَلَيْهِ هُوَ ذَلِكَ الْبَوْءُ الَّذِي بَاءَهُ. وَهَذَا غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا الْمُسْتَحِقُّ الذَّمَّ وَغَيْرَهُ مِمَّا عَسَى أَنْ يَحْرِمَهُ عِنَايَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمَصِيرُ إِلَى عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
تَوْلِيَةَ الظَّهْرِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ كَبِيرَةٌ عَظِيمَةٌ. فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى تَحْرِيمِ التَّوَلِّي عَنْ مُقَابَلَةِ الْعَدُوِّ حِينَ الزَّحْفِ.
وَالَّذِي أُرَى فِي فِقْهِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ هُوَ تَحْرِيمُ التَّوَلِّي عَلَى آحَادِهِمْ وَجَمَاعَتِهِمْ إِذَا الْتَقَوْا مَعَ أَعْدَائِهِمْ فِي مَلَاحِمِ الْقِتَالِ وَالْمُجَالَدَةِ، بِحَيْثُ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ إِذَا تَوَجَّهُوا إِلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ أَوْ إِذَا نَزَلَ الْمُشْرِكُونَ لِمُقَاتَلَتِهِمْ وَعَزَمُوا عَلَى الْمُقَاتَلَةِ فَإِذَا الْتَقَى الْجَيْشَانِ لِلْقِتَالِ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الثَّبَاتُ وَالصَّبْرُ لِلْقِتَالِ، وَلَوْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْ جَيْشِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِمَّا أَنْ يَنْتَصِرُوا، وإمّا أَن يتشهدوا، وَعَلَى هَذَا فَلِلْمُسْلِمِينَ النَّظَرُ قَبْلَ اللِّقَاءِ هَلْ هُمْ بِحَيْثُ يَسْتَطِيعُونَ الثَّبَات وَجهه أَولا، فَإِنَّ وَقْتَ الْمُجَالَدَةِ يَضِيقُ عَنِ التَّدْبِيرِ، فَعَلَى الْجَيْشِ النَّظَرُ فِي عَدده وعُدده وَنِسْبَةُ ذَلِكَ مِنْ جَيْشِ عَدُوِّهِمْ، فَإِذَا أَزْمَعُوا الزَّحْفَ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الثَّبَاتَ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ شَأْنُهُمْ فِي مُدَّةِ نُزُولِهِمْ بِدَارِ الْعَدُوِّ، فَإِذَا رَأَوْا لِلْعَدُوِّ نَجْدَةً أَوِ ازْدِيَادَ قُوَّةٍ نَظَرُوا فِي أَمْرِهِمْ هَلْ يَثْبُتُونَ لِقِتَالِهِ أَوْ يَنْصَرِفُونَ بِإِذْنِ أَمِيرِهِمْ، فَإِمَّا أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالْكَفِّ عَنْ مُتَابَعَةِ ذَلِكَ
وباءَ رَجَعَ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ غَضِبَ عَلَيْهِ فِي رُجُوعِهِ ذَلِكَ فَهُوَ قَدْ رَجَعَ مُلَابِسًا لِغَضَبِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ. وَمُنَاسَبَةُ (بَاءَ) هُنَا أَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ سَبَبَ الْغَضَبِ عَلَيْهِ هُوَ ذَلِكَ الْبَوْءُ الَّذِي بَاءَهُ. وَهَذَا غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا الْمُسْتَحِقُّ الذَّمَّ وَغَيْرَهُ مِمَّا عَسَى أَنْ يَحْرِمَهُ عِنَايَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْمَصِيرُ إِلَى عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
تَوْلِيَةَ الظَّهْرِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ كَبِيرَةٌ عَظِيمَةٌ. فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى تَحْرِيمِ التَّوَلِّي عَنْ مُقَابَلَةِ الْعَدُوِّ حِينَ الزَّحْفِ.
وَالَّذِي أُرَى فِي فِقْهِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ هُوَ تَحْرِيمُ التَّوَلِّي عَلَى آحَادِهِمْ وَجَمَاعَتِهِمْ إِذَا الْتَقَوْا مَعَ أَعْدَائِهِمْ فِي مَلَاحِمِ الْقِتَالِ وَالْمُجَالَدَةِ، بِحَيْثُ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ إِذَا تَوَجَّهُوا إِلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ أَوْ إِذَا نَزَلَ الْمُشْرِكُونَ لِمُقَاتَلَتِهِمْ وَعَزَمُوا عَلَى الْمُقَاتَلَةِ فَإِذَا الْتَقَى الْجَيْشَانِ لِلْقِتَالِ وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الثَّبَاتُ وَالصَّبْرُ لِلْقِتَالِ، وَلَوْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْ جَيْشِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِمَّا أَنْ يَنْتَصِرُوا، وإمّا أَن يتشهدوا، وَعَلَى هَذَا فَلِلْمُسْلِمِينَ النَّظَرُ قَبْلَ اللِّقَاءِ هَلْ هُمْ بِحَيْثُ يَسْتَطِيعُونَ الثَّبَات وَجهه أَولا، فَإِنَّ وَقْتَ الْمُجَالَدَةِ يَضِيقُ عَنِ التَّدْبِيرِ، فَعَلَى الْجَيْشِ النَّظَرُ فِي عَدده وعُدده وَنِسْبَةُ ذَلِكَ مِنْ جَيْشِ عَدُوِّهِمْ، فَإِذَا أَزْمَعُوا الزَّحْفَ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الثَّبَاتَ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ شَأْنُهُمْ فِي مُدَّةِ نُزُولِهِمْ بِدَارِ الْعَدُوِّ، فَإِذَا رَأَوْا لِلْعَدُوِّ نَجْدَةً أَوِ ازْدِيَادَ قُوَّةٍ نَظَرُوا فِي أَمْرِهِمْ هَلْ يَثْبُتُونَ لِقِتَالِهِ أَوْ يَنْصَرِفُونَ بِإِذْنِ أَمِيرِهِمْ، فَإِمَّا أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالْكَفِّ عَنْ مُتَابَعَةِ ذَلِكَ
291
الْعَدُوِّ، وَإِمَّا أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالِاسْتِنْجَادِ وَالْعَوْدَةِ إِلَى قِتَالِ الْعَدُوِّ كَمَا صَنَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي غَزْوَةِ إِفْرِيقِيَّةَ الْأُولَى، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [الْأَنْفَال: ٤٥] وَمَا
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ قَامَ فِي النَّاسِ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ»
. وَلَعَلَّ حِكْمَةَ ذَلِكَ أَنْ يَمْضِيَ الْمُسْلِمُونَ فِي نَصْرِ الدِّينِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ لِأَمِيرِ الْجَيْشِ، إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي الِانْجِلَاءِ عَنْ دَارِ الْعَدُوِّ وَتَرْكِ قِتَالِهِمْ، أَنْ يُغَادِرَ دَارَ الْحَرْبِ وَيَرْجِعَ إِلَى مَقَرِّهِ، إِذَا أَمِنَ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ الْعَدُوُّ، وَكَانَ لَهُ مِنَ الْقُوَّةِ مَا يَسْتَطِيعُ بِهِ دِفَاعَهُمْ إِذَا لَحِقُوا بِهِ، فَذَلِكَ لَا يُسَمَّى تَوْلِيَةَ أَدْبَارٍ، بَلْ هُوَ رَأْيٌ وَمَصْلَحَةٌ، وَهَذَا عِنْدِي هُوَ مَحْمَلُ مَا
رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ بَعَثَهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «فَحَاصَ النَّاسُ حَيْصَةً فَكُنْتُ فِيمَنْ حَاصَ فَلَمَّا بَرَزْنَا قُلْنَا كَيْفَ نَصْنَعُ إِذَا دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ وَقَدْ فَرَرْنَا مِنَ الزَّحْفِ وَبُؤْنَا بِالْغَضَبِ ثُمَّ قُلْنَا لَوْ عَرَضْنَا أَنْفُسَنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ كَانَ لَنَا تَوْبَةٌ أَقَمْنَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ ذَهَبْنَا قَالَ «فَجَلَسْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ فَلَمَّا خَرَجَ قُمْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا نَحْنُ الْفَرَّارُونَ، فَأَقْبَلْ إِلَيْنَا فَقَالَ لَا بَلْ أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ (أَيِ الَّذِينَ يَكُرُّونَ يَعْنِي أَنَّ فِرَارَكُمْ مِنْ قَبِيلِ الْفَرِّ لِلْكَرِّ، يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا وَلَّى عَنِ الْحَرْبِ ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَيْهَا عَكَّرَ أَوِ اعْتَكَرَ) وَأَنَا فِئَةُ الْمُسْلِمِينَ»
يَتَأَوَّلُ لَهُمْ أَنَّ فِرَارَهُمْ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ- قَالَ ابْنُ عُمَرَ- فَدَنَوْنَا فَقَبَّلْنَا يَدَهُ فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ فِرَارَ ابْنِ عُمَرَ وَأَصْحَابِهِ لَمْ يَكُنْ فِي وَقْتِ مُجَالَدَتِهِمُ الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ انْسِلَالًا لِيَنْحَازُوا
إِلَى الْمَدِينَةِ فَتِلْكَ فِئَتُهُمْ.
وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْفِرَارَ فِي وَقْتِ مُنَاجَزَةِ الْمُشْرِكِينَ وَمُجَالَدَتِهِمْ وَهُوَ وَقْتُ اللِّقَاءِ لِأَنَّ الْفِرَارَ حِينَئِذٍ يُوقِعُ فِي الْهَزِيمَةِ الشَّنِيعَةِ وَالتَّقْتِيلِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ فَإِذَا أَقْدَمَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْقِتَالِ لَمْ يَكُنْ نَصْرُهُمْ إِلَّا بِصَبْرِهِمْ وَتَأْيِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، فَلَوِ انْكَشَفُوا بِالْفِرَارِ لَأَعْمَلَ الْمُشْرِكُونَ الرِّمَاحَ فِي ظُهُورِهِمْ فَاسْتَأْصَلُوهُمْ، فَلِذَلِكَ أَمَرَهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ، فَيَكُونُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ حُكْمُ الصَّبْرِ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَبِهَذَا يَكُونُ التَّقْيِيدُ بِحَالِ الزَّحْفِ لِلِاحْتِرَازِ عَنِ اللِّقَاءِ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْحَالَةِ. وَأَمَّا آيَةُ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الْأَنْفَال: ٦٥] فَقَدْ
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ قَامَ فِي النَّاسِ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ»
. وَلَعَلَّ حِكْمَةَ ذَلِكَ أَنْ يَمْضِيَ الْمُسْلِمُونَ فِي نَصْرِ الدِّينِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ لِأَمِيرِ الْجَيْشِ، إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي الِانْجِلَاءِ عَنْ دَارِ الْعَدُوِّ وَتَرْكِ قِتَالِهِمْ، أَنْ يُغَادِرَ دَارَ الْحَرْبِ وَيَرْجِعَ إِلَى مَقَرِّهِ، إِذَا أَمِنَ أَنْ يَلْحَقَ بِهِ الْعَدُوُّ، وَكَانَ لَهُ مِنَ الْقُوَّةِ مَا يَسْتَطِيعُ بِهِ دِفَاعَهُمْ إِذَا لَحِقُوا بِهِ، فَذَلِكَ لَا يُسَمَّى تَوْلِيَةَ أَدْبَارٍ، بَلْ هُوَ رَأْيٌ وَمَصْلَحَةٌ، وَهَذَا عِنْدِي هُوَ مَحْمَلُ مَا
رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ بَعَثَهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «فَحَاصَ النَّاسُ حَيْصَةً فَكُنْتُ فِيمَنْ حَاصَ فَلَمَّا بَرَزْنَا قُلْنَا كَيْفَ نَصْنَعُ إِذَا دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ وَقَدْ فَرَرْنَا مِنَ الزَّحْفِ وَبُؤْنَا بِالْغَضَبِ ثُمَّ قُلْنَا لَوْ عَرَضْنَا أَنْفُسَنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ كَانَ لَنَا تَوْبَةٌ أَقَمْنَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ ذَهَبْنَا قَالَ «فَجَلَسْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ فَلَمَّا خَرَجَ قُمْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا نَحْنُ الْفَرَّارُونَ، فَأَقْبَلْ إِلَيْنَا فَقَالَ لَا بَلْ أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ (أَيِ الَّذِينَ يَكُرُّونَ يَعْنِي أَنَّ فِرَارَكُمْ مِنْ قَبِيلِ الْفَرِّ لِلْكَرِّ، يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا وَلَّى عَنِ الْحَرْبِ ثُمَّ كَرَّ رَاجِعًا إِلَيْهَا عَكَّرَ أَوِ اعْتَكَرَ) وَأَنَا فِئَةُ الْمُسْلِمِينَ»
يَتَأَوَّلُ لَهُمْ أَنَّ فِرَارَهُمْ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ- قَالَ ابْنُ عُمَرَ- فَدَنَوْنَا فَقَبَّلْنَا يَدَهُ فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ فِرَارَ ابْنِ عُمَرَ وَأَصْحَابِهِ لَمْ يَكُنْ فِي وَقْتِ مُجَالَدَتِهِمُ الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ انْسِلَالًا لِيَنْحَازُوا
إِلَى الْمَدِينَةِ فَتِلْكَ فِئَتُهُمْ.
وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْفِرَارَ فِي وَقْتِ مُنَاجَزَةِ الْمُشْرِكِينَ وَمُجَالَدَتِهِمْ وَهُوَ وَقْتُ اللِّقَاءِ لِأَنَّ الْفِرَارَ حِينَئِذٍ يُوقِعُ فِي الْهَزِيمَةِ الشَّنِيعَةِ وَالتَّقْتِيلِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ فَإِذَا أَقْدَمَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْقِتَالِ لَمْ يَكُنْ نَصْرُهُمْ إِلَّا بِصَبْرِهِمْ وَتَأْيِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، فَلَوِ انْكَشَفُوا بِالْفِرَارِ لَأَعْمَلَ الْمُشْرِكُونَ الرِّمَاحَ فِي ظُهُورِهِمْ فَاسْتَأْصَلُوهُمْ، فَلِذَلِكَ أَمَرَهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ، فَيَكُونُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ حُكْمُ الصَّبْرِ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَبِهَذَا يَكُونُ التَّقْيِيدُ بِحَالِ الزَّحْفِ لِلِاحْتِرَازِ عَنِ اللِّقَاءِ فِي غَيْرِ تِلْكَ الْحَالَةِ. وَأَمَّا آيَةُ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الْأَنْفَال: ٦٥] فَقَدْ
292
بَيَّنَتْ حُكْمَ الْعَدَدِ الَّذِينَ عَلَيْهِمْ طَلَبُ جِهَادِ الْمُشْرِكِينَ بِنِسْبَةِ عَدَدِهِمْ إِلَى عَدَدِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَعَلَّ هَذَا مُرَادُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ مِنْ قَوْلِهِ: لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْكِتَابِ وَالْحَدِيثِ فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ الْفُرْسِ.
[١٧]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ١٧]
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧)
الْأَظْهَرُ أَنَّ الْفَاءَ فَصِيحَةٌ نَاشِئَةٌ عَنْ جُمْلَةِ: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ [الْأَنْفَال: ١٢] تُفْصِحُ عَنْ مُقَدَّرٍ قَبْلَهَا شَرْطٌ أَوْ غَيْرُهُ- وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فَتَكُونَ رَابِطَةً لِجَوَابِهِ، وَالتَّقْدِيرُ هُنَا إِذَا عَلِمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى الْمَلَائِكَةِ بِضَرْبِ أَعْنَاقِ الْمُشْرِكِينَ وَقَطْعِ أَيْدِيهِمْ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ أَنْتُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ أَيْ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّكُمْ لَمْ تَقْتُلُوهُمْ أَنْتُمْ، وَإِلَى هَذَا يُشِيرُ كَلَامُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» هُنَا وَتَبِعَهُ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» فِي آخِرِ بَابِ النَّهْيِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ عَاطِفَةً عَلَى جُمْلَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ [الْأَنْفَال: ١٥] أَيْ يَتَفَرَّعُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ أَنْ تُوَلُّوا الْمُشْرِكِينَ الْأَدْبَارَ تَنْبِيهُكُمْ إِلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي دَفَعَ الْمُشْرِكِينَ عَنْكُمْ وَأَنْتُمْ أَقَلُّ مِنْهُمْ عَدَدًا وَعُدَّةً، وَالتَّفْرِيعُ بِالْفَاءِ تَفْرِيعُ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ، فَإِنَّ كَوْنَ قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ وَرَمْيِهِمْ حَاصِلًا مِنَ اللَّهِ لِأَمْنِ الْمُسْلِمِينَ يُفِيدُ تَعْلِيلًا وَتَوْجِيهًا لِنَهْيِهِمْ عَنْ أَنْ يُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ. وَلِأَمْرِهِمُ الصَّبْرَ وَالثَّبَاتَ وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِضَمَانِ تَأْيِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ إِنِ امْتَثَلُوا لِقَوْلِهِ: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الْأَنْفَال ٤٦] فَإِنَّهُمْ إِذَا امْتَثَلُوا مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ كَانَ اللَّهُ نَاصِرَهُمْ، وَذَلِكَ يُؤَكِّدُ الْوَعِيدَ عَلَى تَوْلِيَةِ الْأَدْبَارِ، لِأَنَّهُ يَقْطَعُ عُذْرَ الْمُتَوَلِّينَ وَالْفَارِّينَ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ: إِنَّ
الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا [آل عمرَان:
١٥٥].
وَإِذْ قَدْ تَضَمَّنَتِ الْجُمْلَةُ إِخْبَارًا عَنْ حَالَةِ أَفْعَالٍ فَعَلَهَا الْمُخَاطَبُونَ، كَانَ الْمَقْصُودُ إِعْلَامَهُمْ بِنَفْيِ مَا يَظُنُّونَهُ مِنْ أَنَّ حُصُولَ قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ كَانَ بِأَسْبَابِ ضَرْبِ سُيُوفِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَنَّبَأَهُمْ أَنَّ تِلْكَ السُّيُوفَ مَا كَانَ يَحِقُّ لَهَا أَنْ تُؤَثِّرَ ذَلِكَ التَّأْثِيرَ الْمُصِيبَ الْمُطَّرِدَ الْعَامَّ الَّذِي حَلَّ بِأَبْطَالٍ ذَوِي شَجَاعَةٍ، وَذَوِي شَوْكَةٍ وَشِكَّةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ ضَرْبُ سُيُوفِ الْمُسْلِمِينَ صُورِيًّا، أَكْرَمَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِمُقَارَنَتِهِ فِعْلَ اللَّهِ تَعَالَى الْخَارِقَ لِلْعَادَةِ، فَالْمَنْفِيُّ هُوَ الضَّرْبُ الْكَائِنُ سَبَبَ الْقَتْلِ فِي الْعَادَةِ، وَبِذَلِكَ كَانَ الْقَتْلُ الْحَاصِلُ يَوْمَئِذٍ مُعْجِزَةً لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَرَامَةً لِأَصْحَابِهِ، وَلَيْسَ الْمَنْفِيُّ تَأْثِيرَ الضَّرْبِ
[١٧]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ١٧]
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧)
الْأَظْهَرُ أَنَّ الْفَاءَ فَصِيحَةٌ نَاشِئَةٌ عَنْ جُمْلَةِ: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ [الْأَنْفَال: ١٢] تُفْصِحُ عَنْ مُقَدَّرٍ قَبْلَهَا شَرْطٌ أَوْ غَيْرُهُ- وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فَتَكُونَ رَابِطَةً لِجَوَابِهِ، وَالتَّقْدِيرُ هُنَا إِذَا عَلِمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى الْمَلَائِكَةِ بِضَرْبِ أَعْنَاقِ الْمُشْرِكِينَ وَقَطْعِ أَيْدِيهِمْ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ أَنْتُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ أَيْ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّكُمْ لَمْ تَقْتُلُوهُمْ أَنْتُمْ، وَإِلَى هَذَا يُشِيرُ كَلَامُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» هُنَا وَتَبِعَهُ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» فِي آخِرِ بَابِ النَّهْيِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ عَاطِفَةً عَلَى جُمْلَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ [الْأَنْفَال: ١٥] أَيْ يَتَفَرَّعُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ أَنْ تُوَلُّوا الْمُشْرِكِينَ الْأَدْبَارَ تَنْبِيهُكُمْ إِلَى أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي دَفَعَ الْمُشْرِكِينَ عَنْكُمْ وَأَنْتُمْ أَقَلُّ مِنْهُمْ عَدَدًا وَعُدَّةً، وَالتَّفْرِيعُ بِالْفَاءِ تَفْرِيعُ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ، فَإِنَّ كَوْنَ قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ وَرَمْيِهِمْ حَاصِلًا مِنَ اللَّهِ لِأَمْنِ الْمُسْلِمِينَ يُفِيدُ تَعْلِيلًا وَتَوْجِيهًا لِنَهْيِهِمْ عَنْ أَنْ يُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ. وَلِأَمْرِهِمُ الصَّبْرَ وَالثَّبَاتَ وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِضَمَانِ تَأْيِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ إِنِ امْتَثَلُوا لِقَوْلِهِ: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الْأَنْفَال ٤٦] فَإِنَّهُمْ إِذَا امْتَثَلُوا مَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ كَانَ اللَّهُ نَاصِرَهُمْ، وَذَلِكَ يُؤَكِّدُ الْوَعِيدَ عَلَى تَوْلِيَةِ الْأَدْبَارِ، لِأَنَّهُ يَقْطَعُ عُذْرَ الْمُتَوَلِّينَ وَالْفَارِّينَ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ: إِنَّ
الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا [آل عمرَان:
١٥٥].
وَإِذْ قَدْ تَضَمَّنَتِ الْجُمْلَةُ إِخْبَارًا عَنْ حَالَةِ أَفْعَالٍ فَعَلَهَا الْمُخَاطَبُونَ، كَانَ الْمَقْصُودُ إِعْلَامَهُمْ بِنَفْيِ مَا يَظُنُّونَهُ مِنْ أَنَّ حُصُولَ قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ كَانَ بِأَسْبَابِ ضَرْبِ سُيُوفِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَنَّبَأَهُمْ أَنَّ تِلْكَ السُّيُوفَ مَا كَانَ يَحِقُّ لَهَا أَنْ تُؤَثِّرَ ذَلِكَ التَّأْثِيرَ الْمُصِيبَ الْمُطَّرِدَ الْعَامَّ الَّذِي حَلَّ بِأَبْطَالٍ ذَوِي شَجَاعَةٍ، وَذَوِي شَوْكَةٍ وَشِكَّةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ ضَرْبُ سُيُوفِ الْمُسْلِمِينَ صُورِيًّا، أَكْرَمَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ بِمُقَارَنَتِهِ فِعْلَ اللَّهِ تَعَالَى الْخَارِقَ لِلْعَادَةِ، فَالْمَنْفِيُّ هُوَ الضَّرْبُ الْكَائِنُ سَبَبَ الْقَتْلِ فِي الْعَادَةِ، وَبِذَلِكَ كَانَ الْقَتْلُ الْحَاصِلُ يَوْمَئِذٍ مُعْجِزَةً لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَرَامَةً لِأَصْحَابِهِ، وَلَيْسَ الْمَنْفِيُّ تَأْثِيرَ الضَّرْبِ
293
فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِنَاءً عَلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْقَتْلِ الْحَاصِلِ يَوْمَ بَدْرٍ مَزِيَّةٌ عَلَى أَيِّ قَتْلٍ يَقَعُ بِالْحَقِّ أَوْ بِالْبَاطِلِ، فِي جَاهِلِيَّةٍ أَوْ إِسْلَامٍ، وَذَلِكَ سِيَاقُ الْآيَةِ الَّذِي هُوَ تَكْرِيمُ الْمُسْلِمِينَ وَتَعْلِيلُ نَهْيِهِمْ عَنِ الْفِرَارِ إِذَا لَقُوا. وَلَيْسَ السِّيَاقُ لِتَعْلِيمِ الْعَقِيدَةِ الْحَقِّ.
وَأَصْلُ الْخَبَرِ الْمَنْفِيِّ أَنْ يَدُلَّ عَلَى انْتِفَاءِ صُدُورِ الْمُسْنَدِ عَنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، لَا أَنْ يَدُلَّ عَلَى انْتِفَاءِ وُقُوعِ الْمُسْنَدِ أَصْلًا فَلِذَلِكَ صَحَّ النَّفْيُ فِي قَوْلِهِ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ مَعَ كَوْنِ الْقَتْلِ حَاصِلًا، وَإِنَّمَا الْمَنْفِيُّ كَوْنُهُ صَادِرًا عَنْ أَسْبَابِهِمْ.
وَوَجْهُ الِاسْتِدْرَاكِ الْمُفَادِ بِ لكِنَّ أَنَّ الْخَبَرَ نَفَى أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ الْوَاقِعُ صَادِرًا عَنِ الْمُخَاطَبِينَ فَكَانَ السَّامِعُ بِحَيْثُ يَتَطَلَّبُ أَكَانَ الْقَتْلُ حَقِيقَةً أَمْ هُوَ دُونَ الْقَتْلِ، وَمَنْ كَانَ فَاعِلًا لَهُ، فَاحْتِيجَ إِلَى الِاسْتِدْرَاكِ بِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ.
وَقَدَّمَ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ دُونَ أَنْ يُقَالَ وَلَكِنْ قَتَلَهُمُ اللَّهُ، لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ لَا الِاخْتِصَاصُ، لِأَنَّ نَفْيَ اعْتِقَادِ الْمُخَاطَبِينَ أَنَّهُمُ الْقَاتِلُونَ قَدْ حَصَلَ مِنْ جُمْلَةِ النَّفْيِ، فَصَارَ الْمُخَاطَبُونَ مُتَطَلِّبِينَ لِمَعْرِفَةِ فَاعِلِ قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ مُهِمًّا عِنْدَهُمْ تَعْجِيلُ الْعِلْمِ بِهِ.
وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى.
اسْتِطْرَادٌ بِذِكْرِ تَأْيِيدٍ إِلَهِيٍّ آخَرَ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ حَرَّضَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ يَوْمَ بَدْرٍ أَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ خُذْ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فَارْمِهِمْ بِهَا فَأَخَذَ حفْنَة من الحصاء فَاسْتَقْبَلَ بِهَا
الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ قَالَ: «شَاهَتِ الْوُجُوهُ» ثُمَّ نَفَحَهُمْ بِهَا ثُمَّ أَمَرَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: شُدُّوا فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ غَيْرُهُ لَمْ يَبْقَ مُشْرِكٌ إِلَّا أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنَ الْحَصَا فِي عَيْنَيْهِ فَشُغِلَ بِعَيْنَيْهِ فَانْهَزَمُوا، فَلِكَوْنِ الرَّمْيِ قِصَّةً مَشْهُورَةً بَيْنَهُمْ حَذَفَ مَفْعُولَ الرَّمْيِ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ، وَهَذَا أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ، وَالْمُرَادُ بِالرَّمْيِ رَمْيُ الْحَصْبَاءِ فِي وُجُوهِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِيهِ رِوَايَاتٌ أُخْرَى لَا تُنَاسِبُ مَهْيَعَ السُّورَةِ، فَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: رَمَيْتَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالرَّمْيُ حَقِيقَتُهُ إِلْقَاءُ شَيْءٍ أَمْسَكَتْهُ الْيَدُ، وَيُطْلَقُ الرَّمْيُ عَلَى الْإِصَابَةِ بِسُوءٍ مِنْ
وَأَصْلُ الْخَبَرِ الْمَنْفِيِّ أَنْ يَدُلَّ عَلَى انْتِفَاءِ صُدُورِ الْمُسْنَدِ عَنِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، لَا أَنْ يَدُلَّ عَلَى انْتِفَاءِ وُقُوعِ الْمُسْنَدِ أَصْلًا فَلِذَلِكَ صَحَّ النَّفْيُ فِي قَوْلِهِ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ مَعَ كَوْنِ الْقَتْلِ حَاصِلًا، وَإِنَّمَا الْمَنْفِيُّ كَوْنُهُ صَادِرًا عَنْ أَسْبَابِهِمْ.
وَوَجْهُ الِاسْتِدْرَاكِ الْمُفَادِ بِ لكِنَّ أَنَّ الْخَبَرَ نَفَى أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ الْوَاقِعُ صَادِرًا عَنِ الْمُخَاطَبِينَ فَكَانَ السَّامِعُ بِحَيْثُ يَتَطَلَّبُ أَكَانَ الْقَتْلُ حَقِيقَةً أَمْ هُوَ دُونَ الْقَتْلِ، وَمَنْ كَانَ فَاعِلًا لَهُ، فَاحْتِيجَ إِلَى الِاسْتِدْرَاكِ بِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ.
وَقَدَّمَ الْمُسْنَدَ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ دُونَ أَنْ يُقَالَ وَلَكِنْ قَتَلَهُمُ اللَّهُ، لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ لَا الِاخْتِصَاصُ، لِأَنَّ نَفْيَ اعْتِقَادِ الْمُخَاطَبِينَ أَنَّهُمُ الْقَاتِلُونَ قَدْ حَصَلَ مِنْ جُمْلَةِ النَّفْيِ، فَصَارَ الْمُخَاطَبُونَ مُتَطَلِّبِينَ لِمَعْرِفَةِ فَاعِلِ قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ فَكَانَ مُهِمًّا عِنْدَهُمْ تَعْجِيلُ الْعِلْمِ بِهِ.
وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى.
اسْتِطْرَادٌ بِذِكْرِ تَأْيِيدٍ إِلَهِيٍّ آخَرَ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ حَرَّضَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ يَوْمَ بَدْرٍ أَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ خُذْ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فَارْمِهِمْ بِهَا فَأَخَذَ حفْنَة من الحصاء فَاسْتَقْبَلَ بِهَا
الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ قَالَ: «شَاهَتِ الْوُجُوهُ» ثُمَّ نَفَحَهُمْ بِهَا ثُمَّ أَمَرَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: شُدُّوا فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ غَيْرُهُ لَمْ يَبْقَ مُشْرِكٌ إِلَّا أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنَ الْحَصَا فِي عَيْنَيْهِ فَشُغِلَ بِعَيْنَيْهِ فَانْهَزَمُوا، فَلِكَوْنِ الرَّمْيِ قِصَّةً مَشْهُورَةً بَيْنَهُمْ حَذَفَ مَفْعُولَ الرَّمْيِ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ، وَهَذَا أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ، وَالْمُرَادُ بِالرَّمْيِ رَمْيُ الْحَصْبَاءِ فِي وُجُوهِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَفِيهِ رِوَايَاتٌ أُخْرَى لَا تُنَاسِبُ مَهْيَعَ السُّورَةِ، فَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: رَمَيْتَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالرَّمْيُ حَقِيقَتُهُ إِلْقَاءُ شَيْءٍ أَمْسَكَتْهُ الْيَدُ، وَيُطْلَقُ الرَّمْيُ عَلَى الْإِصَابَةِ بِسُوءٍ مِنْ
294
فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ كَمَا فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ:
رَمَى اللَّهُ فِي تِلْكَ الْأَكُفِّ الْكَوَانِعِ أَيْ أَصَابَهَا بِمَا يَشَلُّهَا- وَقَوْلِ جَمِيلٍ:
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ [النُّور: ٦] فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَمَيْتَ الْأَوَّلُ وَقَوْلُهُ: وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى مُسْتَعْمَلَيْنِ فِي مَعْنَاهُمَا الْمَجَازِيِّ أَيْ وَمَا أَصَبْتَ أَعْيُنَهُمْ بِالْقَذَى وَلَكِنَّ اللَّهَ أَصَابَهَا بِهِ لِأَنَّهَا إِصَابَةٌ خَارِقَةٌ لِلْعَادَةِ فَهِيَ مُعْجِزَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَرَامَةٌ لِأَهْلِ بَدْرٍ فَنُفِيَتْ عَنِ الرَّمْيِ الْمُعْتَادِ وَأُسْنِدَتْ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهَا بِتَقْدِيرٍ خَفِيٍّ مِنَ اللَّهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: إِذْ رَمَيْتَ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، وَفِي «الْقُرْطُبِيِّ» عَنْ ثَعْلَبٍ أَنَّ الْمَعْنَى وَمَا رَمَيْتَ الْفَزَعَ وَالرُّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ إِذْ رَمَيْتَ بِالْحَصْبَاءِ فَانْهَزَمُوا، وَفِيهِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ إِنَّ (رَمَيْتَ) الْأَوَّلَ وَالثَّانِي، وَ (رَمَى) مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعَانِيهَا الْحَقِيقِيَّةِ، وَهُوَ مَا دَرَجَ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ وَجَعَلُوا الْمَنْفِيَّ هُوَ الرَّمْيُ الْحَقِيقِيُّ وَالْمُثْبَتَ فِي قَوْلِهِ: إِذْ رَمَيْتَ هُوَ الرَّمْيُ الْمَجَازِيُّ وَجَعَلَهُ السَّكَاكِيُّ مِنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ الْعَقْلِيَّيْنِ فَجَعَلَ مَا رَمَيْتَ نَفْيًا لِلرَّمْيِ الْحَقِيقِيِّ وَجَعَلَ (إِذْ رَمَيْتَ) لِلرَّمْيِ الْمَجَازِيِّ.
وَقَوْلُهُ: إِذْ رَمَيْتَ زِيَادَةُ تَقْيِيدٍ لِلرَّمْيِ وَأَنَّهُ الرَّمْيُ الْمَعْرُوفُ الْمَشْهُورُ، وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْخَبَرِ وَلَمْ يُؤْتَ بِمِثْلِهِ فِي قَوْلِهِ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَمَّا كَانَتْ لَهُ أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ كَانَ اخْتِصَاصُ سُيُوفِ الْمُسْلِمِينَ بِتَأْثِيرِهِ غَيْرَ مُشَاهَدٍ، وَكَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَوْتَ قَدْ يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ فَاعِلٍ غَيْرِ اللَّهِ، لَمْ يَكُنْ نَفْيُ ذَلِكَ التَّأْثِيرِ، وَإِسْنَادُ حُصُولِهِ إِلَى مُجَرَّدِ فِعْلِ اللَّهِ مُحْتَاجًا إِلَى التَّأْكِيدِ بِخِلَافِ كَوْنِ رَمْيِ الْحَصَى الْحَاصِلِ بِيَدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاصِلًا مِنْهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ مُشَاهَدٌ لَا يَقْبَلُ الِاحْتِمَالَ، فَاحْتِيجَ فِي نَفْيِهِ إِلَى التَّأْكِيدِ إِبْطَالًا لِاحْتِمَالِ
الْمَجَازِ فِي النَّفْيِ بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى نَفْيِ رَمْيٍ كَامِلٍ، فَإِنَّ الْعَرَبَ قَدْ يَنْفُونَ الْفِعْلَ وَمُرَادُهُمْ نَفْيُ كَمَالِهِ حَتَّى قَدْ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الشَّيْءِ وَإِثْبَاتِهِ أَوْ نَفْيِ ضِدِّهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، كَقَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ:
فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعِ أَيْ شَيْئًا مُجْدِيًا، فَدَلَّ قَوْلُهُ: إِذْ رَمَيْتَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ فِي قَوْلِهِ: وَما رَمَيْتَ
رَمَى اللَّهُ فِي تِلْكَ الْأَكُفِّ الْكَوَانِعِ أَيْ أَصَابَهَا بِمَا يَشَلُّهَا- وَقَوْلِ جَمِيلٍ:
رَمَى اللَّهُ فِي عَيْنَيْ بُثَيْنَةَ بِالْقَذَى | وَفِي الْغُرِّ من أنيابها بالقوازح |
وَقَوْلُهُ: إِذْ رَمَيْتَ زِيَادَةُ تَقْيِيدٍ لِلرَّمْيِ وَأَنَّهُ الرَّمْيُ الْمَعْرُوفُ الْمَشْهُورُ، وَإِنَّمَا احْتِيجَ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْخَبَرِ وَلَمْ يُؤْتَ بِمِثْلِهِ فِي قَوْلِهِ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَمَّا كَانَتْ لَهُ أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ كَانَ اخْتِصَاصُ سُيُوفِ الْمُسْلِمِينَ بِتَأْثِيرِهِ غَيْرَ مُشَاهَدٍ، وَكَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَوْتَ قَدْ يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ فَاعِلٍ غَيْرِ اللَّهِ، لَمْ يَكُنْ نَفْيُ ذَلِكَ التَّأْثِيرِ، وَإِسْنَادُ حُصُولِهِ إِلَى مُجَرَّدِ فِعْلِ اللَّهِ مُحْتَاجًا إِلَى التَّأْكِيدِ بِخِلَافِ كَوْنِ رَمْيِ الْحَصَى الْحَاصِلِ بِيَدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاصِلًا مِنْهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ مُشَاهَدٌ لَا يَقْبَلُ الِاحْتِمَالَ، فَاحْتِيجَ فِي نَفْيِهِ إِلَى التَّأْكِيدِ إِبْطَالًا لِاحْتِمَالِ
الْمَجَازِ فِي النَّفْيِ بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى نَفْيِ رَمْيٍ كَامِلٍ، فَإِنَّ الْعَرَبَ قَدْ يَنْفُونَ الْفِعْلَ وَمُرَادُهُمْ نَفْيُ كَمَالِهِ حَتَّى قَدْ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الشَّيْءِ وَإِثْبَاتِهِ أَوْ نَفْيِ ضِدِّهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، كَقَوْلِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ:
فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعِ أَيْ شَيْئًا مُجْدِيًا، فَدَلَّ قَوْلُهُ: إِذْ رَمَيْتَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ فِي قَوْلِهِ: وَما رَمَيْتَ
295
هُوَ الرَّمْيُ بِمَعْنَى أَثَرِهِ وَحُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ وُقُوعِ الرَّمْيِ مِثْلَ الْمُرَادِ فِي قَوْلِهِ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ لِأَنَّ الرَّمْيَ وَاقِعٌ مِنْ يَدِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ تَأْثِيرِهِ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ الرَّمْيِ إِصَابَةُ عُيُونِ أَهْلِ جَيْشِ الْمُشْرِكِينَ وَمَا كَانَ ذَلِكَ بِالَّذِي يَحْصُلُ بِرَمْيِ الْيَدِ، لِأَنَّ أَثَرَ رَمْيِ الْبَشَرِ لَا يَبْلُغُ أَثَرُهُ مَبْلَغَ تِلْكَ الرَّمْيَةِ، فَلَمَّا ظَهَرَ مِنْ أَثَرِهَا مَا عَمَّ الْجَيْشَ كُلَّهُمْ، عُلِمَ انْتِفَاءُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الرَّمْيَةُ مَدْفُوعَةً بِيَدِ مَخْلُوقٍ، وَلَكِنَّهَا مَدْفُوعَةٌ بِقُدْرَةِ الْخَالِقِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْحَدِّ الْمُتَعَارَفِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِإِثْبَاتِ الرَّمْيِ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى كَالْقَوْلِ فِي وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْجُمْهُورُ وَلكِنَّ بِتَشْدِيدِ النُّونِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ بِسُكُونِ النُّونِ فِيهِمَا.
وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ الْآيَةَ وَقَوْلُهُ- وَما رَمَيْتَ الْآيَةَ.
فَإِنَّ قَتْلَهُمُ الْمُشْرِكِينَ وَإِصَابَةَ أَعينهم كَانَا الْغَرَض هَزْمِ الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ الْعِلَّةُ الْأَصْلِيَّةُ، وَلَهُ عِلَّةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنْ يُبْلِيَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بَلَاءً حَسَنًا أَيْ يُعْطِيَهُمْ عَطَاءً حَسَنًا يَشْكُرُونَهُ عَلَيْهِ، فَيَظْهَرُ مَا يَدُلُّ عَنْ قِيَامِهِمْ بِشُكْرِهِ مِمَّا تُخْتَبَرُ بِهِ طَوِيَّتُهُمْ لِمَنْ لَا يَعْرِفُهَا، وَهَذَا الْعَطَاءُ هُوَ النَّصْرُ وَالْغَنِيمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْجَنَّةُ فِي الْآخِرَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ مَادَّةِ هَذَا الْفِعْلِ هِيَ الْبَلَاءُ وَجَاءَ مِنْهُ الْإِبْلَاءُ بِالْهَمْزِ وَتَصْرِيفُ هَذَا الْفِعْلِ أَغْفَلَهُ الرَّاغِبُ فِي «الْمُفْرَدَاتِ» وَمَنْ رَأَيْتُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ مُضَارِعُ أَبْلَاهُ إِذَا أَحْسَنَ إِلَيْهِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْبَلْوَى الَّذِي أَصله الِاخْتِيَار ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى إِصَابَةِ أَحَدٍ أَحَدًا بِشَيْءٍ يَظْهَرُ بِهِ مِقْدَارُ تَأَثُّرِهِ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الْإِصَابَةَ بِشَرٍّ، ثُمَّ تُوُسِّعَ فِيهِ فَأُطْلِقَ عَلَى مَا يَشْمَلُ الْإِصَابَةَ بِخَيْرٍ قَالَ تَعَالَى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الْأَنْبِيَاء: ٣٥] وَهُوَ إِطْلَاقٌ كَنَائِيٌّ
وَشَاعَ ذَلِكَ الْإِطْلَاقُ الْكِنَائِيُّ حَتَّى صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْنَى الصَّرِيحِ، وَبَقِيَ الْفِعْلُ الْمُجَرَّدُ صَالِحًا لِلْإِصَابَةِ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ، وَاسْتَعْمَلُوا أَبْلَاهُ مَهْمُوزٌ أَيْ أَصَابَهُ بِخَيْرٍ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: «يُقَالُ مِنَ الْخَيْرِ أَبْلَيْتُهُ إِبْلَاءً وَمِنَ الشَّرِّ بَلَوْتُهُ أَبْلُوهُ بَلَاءً».
قُلْتُ: جَعَلُوا الْهَمْزَةَ فِيهِ دَالَّةً عَلَى الْإِزَالَةِ أَيْ إِزَالَةِ الْبَلَاءِ الَّذِي غَلَبَ فِي إِصَابَةِ الشَّرِّ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: بَلاءً حَسَناً وَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لفعل يبلي موكد لَهُ، لِأَنَّ فِعْلَ يُبْلِي دَالٌّ عَلَى بَلَاءٍ حَسَنٍ
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَالْجُمْهُورُ وَلكِنَّ بِتَشْدِيدِ النُّونِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ بِسُكُونِ النُّونِ فِيهِمَا.
وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ الْآيَةَ وَقَوْلُهُ- وَما رَمَيْتَ الْآيَةَ.
فَإِنَّ قَتْلَهُمُ الْمُشْرِكِينَ وَإِصَابَةَ أَعينهم كَانَا الْغَرَض هَزْمِ الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ الْعِلَّةُ الْأَصْلِيَّةُ، وَلَهُ عِلَّةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنْ يُبْلِيَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بَلَاءً حَسَنًا أَيْ يُعْطِيَهُمْ عَطَاءً حَسَنًا يَشْكُرُونَهُ عَلَيْهِ، فَيَظْهَرُ مَا يَدُلُّ عَنْ قِيَامِهِمْ بِشُكْرِهِ مِمَّا تُخْتَبَرُ بِهِ طَوِيَّتُهُمْ لِمَنْ لَا يَعْرِفُهَا، وَهَذَا الْعَطَاءُ هُوَ النَّصْرُ وَالْغَنِيمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْجَنَّةُ فِي الْآخِرَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ مَادَّةِ هَذَا الْفِعْلِ هِيَ الْبَلَاءُ وَجَاءَ مِنْهُ الْإِبْلَاءُ بِالْهَمْزِ وَتَصْرِيفُ هَذَا الْفِعْلِ أَغْفَلَهُ الرَّاغِبُ فِي «الْمُفْرَدَاتِ» وَمَنْ رَأَيْتُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ مُضَارِعُ أَبْلَاهُ إِذَا أَحْسَنَ إِلَيْهِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْبَلْوَى الَّذِي أَصله الِاخْتِيَار ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى إِصَابَةِ أَحَدٍ أَحَدًا بِشَيْءٍ يَظْهَرُ بِهِ مِقْدَارُ تَأَثُّرِهِ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الْإِصَابَةَ بِشَرٍّ، ثُمَّ تُوُسِّعَ فِيهِ فَأُطْلِقَ عَلَى مَا يَشْمَلُ الْإِصَابَةَ بِخَيْرٍ قَالَ تَعَالَى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الْأَنْبِيَاء: ٣٥] وَهُوَ إِطْلَاقٌ كَنَائِيٌّ
وَشَاعَ ذَلِكَ الْإِطْلَاقُ الْكِنَائِيُّ حَتَّى صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْنَى الصَّرِيحِ، وَبَقِيَ الْفِعْلُ الْمُجَرَّدُ صَالِحًا لِلْإِصَابَةِ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ، وَاسْتَعْمَلُوا أَبْلَاهُ مَهْمُوزٌ أَيْ أَصَابَهُ بِخَيْرٍ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: «يُقَالُ مِنَ الْخَيْرِ أَبْلَيْتُهُ إِبْلَاءً وَمِنَ الشَّرِّ بَلَوْتُهُ أَبْلُوهُ بَلَاءً».
قُلْتُ: جَعَلُوا الْهَمْزَةَ فِيهِ دَالَّةً عَلَى الْإِزَالَةِ أَيْ إِزَالَةِ الْبَلَاءِ الَّذِي غَلَبَ فِي إِصَابَةِ الشَّرِّ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: بَلاءً حَسَناً وَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لفعل يبلي موكد لَهُ، لِأَنَّ فِعْلَ يُبْلِي دَالٌّ عَلَى بَلَاءٍ حَسَنٍ
296
وَضَمِيرٌ مِنْهُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ وَ (مِنَ) الِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ لِتَشْرِيفِ ذَلِكَ الْإِبْلَاءِ وَيَجُوزُ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْقَتْلِ وَالرَّمْيِ وَيَكُونُ (مِنْ) لِلتَّعْلِيلِ وَالسَّبَبِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ تذييل لِلْكَلَامِ و (إِن) هَذَا مُقَيِّدَةٌ لِلتَّعْلِيلِ وَالرَّبْطِ أَيْ فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، فَقَدْ سَمِعَ دُعَاءَ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِغَاثَتَهُمْ وَعَلِمَ أَنَّهُمْ لِعِنَايَتِهِ وَنَصْرِهِ فَقَبِلَ دعاءهم ونصرهم.
[١٨]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ١٨]
ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨)
الْإِشَارَةُ بِ ذلِكُمْ إِلَى الْبَلَاءِ الْحَسَنِ وَهَذِهِ الْإِشَارَةُ لِمُجَرَّدِ تَأْكِيدِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْبَلَاءِ الْحَسَنِ وَأَنَّ ذَلِكَ الْبَلَاءَ عِلَّةٌ لِلتَّوْهِينِ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ يُفْتَتَحُ بِهِ الْكَلَامُ لِمَقَاصِدَ يَجْمَعُهَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَهَمِّيَّةِ مَا يَرِدُ بَعْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ [ص: ٥٥] وَيَجِيءُ فِي الْكَلَامِ الْوَارِدِ تَعْلِيلًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ [الْأَنْفَال: ٥١].
وَعَلَيْهِ فَاسْمُ الْإِشَارَةِ هُنَا مُبْتَدَأٌ حُذِفَ خَبَرُهُ وَعُطِفَ عَلَيْهِ جُمْلَةُ: وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ بِفَتْحِ هَمْزَةِ (أَنَّ)، فَمَا بَعْدَهَا فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ، مَجْرُورٍ بِلَامِ التَّعْلِيلِ مَحْذُوفَةٍ، وَالتَّقْدِيرُ وَلِتَوْهِينِ كَيْدِ الْكَافِرِينَ.
وَيَجُوزُ أَنْ تكون الْإِشَارَة ب ذلِكُمْ إِلَى الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الْأَنْفَال: ١٧] مِنْ تَعْلِيلِ الرَّمْيِ بِخَذْلِ الْمُشْرِكِينَ وَهَزْمِهِمْ وَإِبْلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الْبَلَاءَ الْحَسَنَ.
وَإِفْرَادُ اسْمِ الْإِشَارَةِ مَعَ كَوْنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ اثْنَيْنِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِالْمَذْكُورِ كَمَا
تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وكَيْدِ الْكافِرِينَ هُوَ قَصْدُهُمُ الْإِضْرَارَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي صُورَةٍ لَيْسَتْ ظَاهِرُهَا بِمُضِرَّةٍ، وَذَلِكَ أَنَّ جَيْشَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ جَاءُوا لِإِنْقَاذِ الْعِيرِ لَمَّا عَلِمُوا بِنَجَاةِ عِيرِهِمْ، وَظَنُّوا خْيَبَةَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا فِي طَلَبِهَا، أَبَوْا أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى مَكَةَ، وَأَقَامُوا عَلَى بَدْرٍ لِيَنْحَرُوا وَيَشْرَبُوا الْخَمْرَ وَيَضْرِبُوا الدُّفُوفَ فَرَحًا وَافْتِخَارًا بِنَجَاةِ عِيرِهِمْ،
وَقَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ تذييل لِلْكَلَامِ و (إِن) هَذَا مُقَيِّدَةٌ لِلتَّعْلِيلِ وَالرَّبْطِ أَيْ فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، فَقَدْ سَمِعَ دُعَاءَ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِغَاثَتَهُمْ وَعَلِمَ أَنَّهُمْ لِعِنَايَتِهِ وَنَصْرِهِ فَقَبِلَ دعاءهم ونصرهم.
[١٨]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ١٨]
ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨)
الْإِشَارَةُ بِ ذلِكُمْ إِلَى الْبَلَاءِ الْحَسَنِ وَهَذِهِ الْإِشَارَةُ لِمُجَرَّدِ تَأْكِيدِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْبَلَاءِ الْحَسَنِ وَأَنَّ ذَلِكَ الْبَلَاءَ عِلَّةٌ لِلتَّوْهِينِ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ يُفْتَتَحُ بِهِ الْكَلَامُ لِمَقَاصِدَ يَجْمَعُهَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَهَمِّيَّةِ مَا يَرِدُ بَعْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ [ص: ٥٥] وَيَجِيءُ فِي الْكَلَامِ الْوَارِدِ تَعْلِيلًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ [الْأَنْفَال: ٥١].
وَعَلَيْهِ فَاسْمُ الْإِشَارَةِ هُنَا مُبْتَدَأٌ حُذِفَ خَبَرُهُ وَعُطِفَ عَلَيْهِ جُمْلَةُ: وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ.
وَقَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ بِفَتْحِ هَمْزَةِ (أَنَّ)، فَمَا بَعْدَهَا فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ، مَجْرُورٍ بِلَامِ التَّعْلِيلِ مَحْذُوفَةٍ، وَالتَّقْدِيرُ وَلِتَوْهِينِ كَيْدِ الْكَافِرِينَ.
وَيَجُوزُ أَنْ تكون الْإِشَارَة ب ذلِكُمْ إِلَى الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الْأَنْفَال: ١٧] مِنْ تَعْلِيلِ الرَّمْيِ بِخَذْلِ الْمُشْرِكِينَ وَهَزْمِهِمْ وَإِبْلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الْبَلَاءَ الْحَسَنَ.
وَإِفْرَادُ اسْمِ الْإِشَارَةِ مَعَ كَوْنِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ اثْنَيْنِ عَلَى تَأْوِيلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِالْمَذْكُورِ كَمَا
تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وكَيْدِ الْكافِرِينَ هُوَ قَصْدُهُمُ الْإِضْرَارَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي صُورَةٍ لَيْسَتْ ظَاهِرُهَا بِمُضِرَّةٍ، وَذَلِكَ أَنَّ جَيْشَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ جَاءُوا لِإِنْقَاذِ الْعِيرِ لَمَّا عَلِمُوا بِنَجَاةِ عِيرِهِمْ، وَظَنُّوا خْيَبَةَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا فِي طَلَبِهَا، أَبَوْا أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى مَكَةَ، وَأَقَامُوا عَلَى بَدْرٍ لِيَنْحَرُوا وَيَشْرَبُوا الْخَمْرَ وَيَضْرِبُوا الدُّفُوفَ فَرَحًا وَافْتِخَارًا بِنَجَاةِ عِيرِهِمْ،
وَلَيْسَ ذَلِكَ لِمُجَرَّدِ اللَّهْوِ، وَلَكِنْ لِيَتَسَامَعَ الْعَرَبُ فَيَتَسَاءَلُوا عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ فَيُخْبِرُوا بِأَنَّهُمْ غَلَبُوا الْمُسْلِمِينَ فَيَصْرِفُهُمْ ذَلِكَ عَنِ اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ، فَأَرَادَ اللَّهُ تَوْهِينَهُمْ بِهَزْمِهِمْ تِلْكَ الْهَزِيمَةَ الشَّنْعَاءَ فَهُوَ مُوهِنُ كَيْدِهِمْ فِي الْحَالِ وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ، الْكَيْدِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٨٣].
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو جَعْفَرٍ، مُوَهِّنٌ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَبِتَشْدِيدِ الْهَاءِ وَبِالتَّنْوِينِ وَنَصْبِ كَيْدِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ، وَيَعْقُوبُ، مُوهِنٌ بِتَسْكِينِ الْوَاوِ وَتَخْفِيفِ الْهَاءِ وَنَصْبٍ كَيْدَ- وَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ سَوَاءٌ، وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِإِضَافَةِ مُوهِنِ إِلَى كَيْدِ، وَالْمَعْنَى وَهِيَ إِضَافَةٌ لَفْظِيَّةٌ مُسَاوِيَة للتنكير.
[١٩]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ١٩]
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩)
جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ جَعَلُوا الْخِطَابَ مُوَجَّهًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ اعْتِرَاضًا خُوطِبَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فِي خِلَالِ خُطَبَاتِ الْمُسْلِمِينَ بِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ [الْأَنْفَال: ١٨] وَالْخِطَابُ الْتِفَاتٌ مِنْ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ الَّذِي اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ [الْأَنْفَال: ١٨] وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَنَّ أَبَا جَهْلٍ وَأَصْحَابَهُ لَمَّا أَزْمَعُوا الْخُرُوجَ إِلَى بَدْرٍ اسْتَنْصَرُوا اللَّهَ تُجَاهَ الْكَعْبَةِ، وَأَنَّهُمْ قَبْلَ أَنْ يَشْرَعُوا فِي الْقِتَالِ يَوْمَ بَدْرٍ اسْتَنْصَرُوا اللَّهَ أَيْضًا وَقَالُوا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَخُوطِبُوا بِأَنْ قَدْ جَاءَهُمُ الْفَتْحُ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ أَيِ الْفَتْحُ الَّذِي هُوَ نَصْرُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ.
وَإِنَّمَا كَانَ تَهَكُّمًا لِأَنَّ فِي مَعْنَى جاءَكُمُ الْفَتْحُ اسْتِعَارَةَ الْمَجِيءِ لِلْحُصُولِ عِنْدَهُمْ تَشْبِيهًا بِمَجِيءِ الْمُنْجِدِ لِأَنَّ جَعْلَ الْفَتْحِ جَاءِيًا إِيَّاهُمْ. يَقْتَضِي أَنَّ النَّصْرَ كَانَ فِي جَانِبِهِمْ وَلِمَنْفَعَتِهِمْ، وَالْوَاقِعُ يُخَالِفُ ذَلِكَ، فَعُلِمَ أَنَّ الْخَبَرَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ بِقَرِينَةِ مُخَالَفَتِهِ الْوَاقِعَ
بِمَسْمَعِ الْمُخَاطَبِينَ وَمَرْآهُمْ.
وَحَمَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِعْلَ جاءَكُمُ عَلَى مَعْنَى: فَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمُ النَّصْرُ وَرَأَيْتُمُوهُ أَنَّهُ
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَأَبُو جَعْفَرٍ، مُوَهِّنٌ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَبِتَشْدِيدِ الْهَاءِ وَبِالتَّنْوِينِ وَنَصْبِ كَيْدِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ، وَيَعْقُوبُ، مُوهِنٌ بِتَسْكِينِ الْوَاوِ وَتَخْفِيفِ الْهَاءِ وَنَصْبٍ كَيْدَ- وَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ سَوَاءٌ، وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِإِضَافَةِ مُوهِنِ إِلَى كَيْدِ، وَالْمَعْنَى وَهِيَ إِضَافَةٌ لَفْظِيَّةٌ مُسَاوِيَة للتنكير.
[١٩]
[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ١٩]
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩)
جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ جَعَلُوا الْخِطَابَ مُوَجَّهًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ اعْتِرَاضًا خُوطِبَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فِي خِلَالِ خُطَبَاتِ الْمُسْلِمِينَ بِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ [الْأَنْفَال: ١٨] وَالْخِطَابُ الْتِفَاتٌ مِنْ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ الَّذِي اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ [الْأَنْفَال: ١٨] وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا أَنَّ أَبَا جَهْلٍ وَأَصْحَابَهُ لَمَّا أَزْمَعُوا الْخُرُوجَ إِلَى بَدْرٍ اسْتَنْصَرُوا اللَّهَ تُجَاهَ الْكَعْبَةِ، وَأَنَّهُمْ قَبْلَ أَنْ يَشْرَعُوا فِي الْقِتَالِ يَوْمَ بَدْرٍ اسْتَنْصَرُوا اللَّهَ أَيْضًا وَقَالُوا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَخُوطِبُوا بِأَنْ قَدْ جَاءَهُمُ الْفَتْحُ عَلَى سَبِيلِ التَّهَكُّمِ أَيِ الْفَتْحُ الَّذِي هُوَ نَصْرُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ.
وَإِنَّمَا كَانَ تَهَكُّمًا لِأَنَّ فِي مَعْنَى جاءَكُمُ الْفَتْحُ اسْتِعَارَةَ الْمَجِيءِ لِلْحُصُولِ عِنْدَهُمْ تَشْبِيهًا بِمَجِيءِ الْمُنْجِدِ لِأَنَّ جَعْلَ الْفَتْحِ جَاءِيًا إِيَّاهُمْ. يَقْتَضِي أَنَّ النَّصْرَ كَانَ فِي جَانِبِهِمْ وَلِمَنْفَعَتِهِمْ، وَالْوَاقِعُ يُخَالِفُ ذَلِكَ، فَعُلِمَ أَنَّ الْخَبَرَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ بِقَرِينَةِ مُخَالَفَتِهِ الْوَاقِعَ
بِمَسْمَعِ الْمُخَاطَبِينَ وَمَرْآهُمْ.
وَحَمَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِعْلَ جاءَكُمُ عَلَى مَعْنَى: فَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمُ النَّصْرُ وَرَأَيْتُمُوهُ أَنَّهُ
298
عَلَيْكُمْ لَا لَكُمْ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَجِيءُ بِمَعْنَى الظُّهُورِ: مِثْلِ وَجاءَ رَبُّكَ [الْفجْر: ٢٢] وَمِثْلِ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ [الْإِسْرَاء: ٨١] وَلَا يَكُونُ فِي الْكَلَامِ تَهَكُّمٌ.
وَصِيغَ تَسْتَفْتِحُوا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ مَعَ أَنَّ الْفِعْلَ مَضَى لِقَصْدِ اسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ مِنْ تَكْرِيرِهِمُ الدُّعَاءَ بِالنَّصْرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَبِذَلِكَ تَظْهَرُ مُنَاسِبَةُ عَطْفِ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ تَنْتَهُوا عَنْ كُفْرِكُمْ بَعْدَ ظُهُورِ الْحَقِّ فِي جَانِبِ الْمُسْلِمِينَ.
وَعُطِفَ الْوَعِيدُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ أَيْ: إِنْ تَعُودُوا إِلَى الْعِنَادِ وَالْقِتَالِ نَعُدْ، أَيْ نَعُدْ إِلَى هَزْمِكُمْ كَمَا فَعَلْنَا بِكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ.
ثُمَّ أَيْأَسَهُمْ مِنَ الِانْتِصَارِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كُلِّهِ بِقَوْلِهِ: وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ أَيْ لَا تَنْفَعُكُمْ جَمَاعَتُكُمْ عَلَى كَثْرَتِهَا كَمَا لَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَوْمَئِذٍ وَاثِقِينَ بِالنَّصْرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ جُمْلَةَ: إِنْ تَعُودُوا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ الْجَزَاءِ وَهِيَ: فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ.
ولَوْ اتِّصَالِيَّةٌ أَيْ لَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَلَوْ كَانَتْ فِي حَالِ كَثْرَةٍ عَلَى فِئَةِ أَعْدَائِكُمْ، وَصَاحِبُ الْحَال المقترنة ب (لَو) الِاتِّصَالِيَّةِ قَدْ يَكُونُ مُتَّصِفًا بِمَضْمُونِهَا، وَقَدْ يَكُونُ مُتَّصِفًا بِنَقِيضِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْعَوْدِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تَعُودُوا الْعَوْدَ إِلَى طَلَبِ النَّصْرِ لِلْمُحِقِّ فَالْمَعْنَى وَاضِحٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْعَوْدَ إِلَى مُحَارَبَةِ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ يُشْكِلُ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ انْتَصَرُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ مَعْنَى نَعُدْ وَلَا مَوْقِعَ لِجُمْلَةِ: وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ فَإِنَّ فِئَتَهُمْ أَغْنَتْ عَنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ.
وَالْجَوَابُ عَن هَذَا إِشْكَال أَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يَكُنْ بِأَدَاةِ شَرْطٍ مِمَّا يُفِيدُ الْعُمُومَ مِثْلَ (مَهْمَا) فَلَا يُبْطِلُهُ تَخَلُّفُ حُصُولِ مَضْمُونِ الْجَزَاءِ عَنْ حُصُولِ الشَّرْطِ فِي مَرَّةٍ، أَوْ نَقُولُ إِنَّ اللَّهَ قَضَى لِلْمُسْلِمِينَ بِالنَّصْرِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَنَصَرَهُمْ وَعَلِمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّهُمْ قَدْ غُلِبُوا ثُمَّ دَارَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْتَثِلُوا لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَرِحُوا عَنِ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَبْرَحُوا عَنْهُ طَلَبًا لِلْغَنِيمَةِ فَعُوقِبُوا بِالْهَزِيمَةِ كَمَا قَالَ: وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمرَان: ١٦٦]- وَقَالَ- إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ
الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا. وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ آلِ
وَصِيغَ تَسْتَفْتِحُوا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ مَعَ أَنَّ الْفِعْلَ مَضَى لِقَصْدِ اسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ مِنْ تَكْرِيرِهِمُ الدُّعَاءَ بِالنَّصْرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَبِذَلِكَ تَظْهَرُ مُنَاسِبَةُ عَطْفِ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ تَنْتَهُوا عَنْ كُفْرِكُمْ بَعْدَ ظُهُورِ الْحَقِّ فِي جَانِبِ الْمُسْلِمِينَ.
وَعُطِفَ الْوَعِيدُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ أَيْ: إِنْ تَعُودُوا إِلَى الْعِنَادِ وَالْقِتَالِ نَعُدْ، أَيْ نَعُدْ إِلَى هَزْمِكُمْ كَمَا فَعَلْنَا بِكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ.
ثُمَّ أَيْأَسَهُمْ مِنَ الِانْتِصَارِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كُلِّهِ بِقَوْلِهِ: وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ أَيْ لَا تَنْفَعُكُمْ جَمَاعَتُكُمْ عَلَى كَثْرَتِهَا كَمَا لَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَوْمَئِذٍ وَاثِقِينَ بِالنَّصْرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ جُمْلَةَ: إِنْ تَعُودُوا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ الْجَزَاءِ وَهِيَ: فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ.
ولَوْ اتِّصَالِيَّةٌ أَيْ لَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَلَوْ كَانَتْ فِي حَالِ كَثْرَةٍ عَلَى فِئَةِ أَعْدَائِكُمْ، وَصَاحِبُ الْحَال المقترنة ب (لَو) الِاتِّصَالِيَّةِ قَدْ يَكُونُ مُتَّصِفًا بِمَضْمُونِهَا، وَقَدْ يَكُونُ مُتَّصِفًا بِنَقِيضِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْعَوْدِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تَعُودُوا الْعَوْدَ إِلَى طَلَبِ النَّصْرِ لِلْمُحِقِّ فَالْمَعْنَى وَاضِحٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْعَوْدَ إِلَى مُحَارَبَةِ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ يُشْكِلُ بِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ انْتَصَرُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ مَعْنَى نَعُدْ وَلَا مَوْقِعَ لِجُمْلَةِ: وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ فَإِنَّ فِئَتَهُمْ أَغْنَتْ عَنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ.
وَالْجَوَابُ عَن هَذَا إِشْكَال أَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يَكُنْ بِأَدَاةِ شَرْطٍ مِمَّا يُفِيدُ الْعُمُومَ مِثْلَ (مَهْمَا) فَلَا يُبْطِلُهُ تَخَلُّفُ حُصُولِ مَضْمُونِ الْجَزَاءِ عَنْ حُصُولِ الشَّرْطِ فِي مَرَّةٍ، أَوْ نَقُولُ إِنَّ اللَّهَ قَضَى لِلْمُسْلِمِينَ بِالنَّصْرِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَنَصَرَهُمْ وَعَلِمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّهُمْ قَدْ غُلِبُوا ثُمَّ دَارَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْتَثِلُوا لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَرِحُوا عَنِ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَبْرَحُوا عَنْهُ طَلَبًا لِلْغَنِيمَةِ فَعُوقِبُوا بِالْهَزِيمَةِ كَمَا قَالَ: وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمرَان: ١٦٦]- وَقَالَ- إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ
الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا. وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ آلِ
299
عِمْرَانَ [١٥٥]، وَبَعْدُ فَفِي هَذَا الْوَعِيدِ بِشَارَةٌ أَن النَّصْرَ الْحَاسِمَ سَيَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُوَ نَصْرُ يَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ.
وَجُمْلَةُ: وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ زِيَادَةٌ فِي تَأْيِيسِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ النَّصْرِ، وَتَنْوِيهٌ بِفَضْلِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ النَّصْرَ الَّذِي انْتَصَرُوهُ هُوَ مِنَ اللَّهِ لَا بِأَسْبَابِهِمْ فَإِنَّهُمْ دُونَ الْمُشْرِكِينَ عَدَدًا وَعُدَّةً.
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ الْخِطَابَ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَنُسِبَ إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعَطَاءٍ، لِكَوْنِ خِطَابِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ قَدْ صَارَ نَادِرًا، لِأَنَّهُمْ أَصْبَحُوا بُعَدَاءَ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَة مستأنفة استينافا بَيَانِيًّا فَإِنَّهُمْ لَمَّا ذُكِّرُوا بِاسْتِجَابَةِ دُعَائِهِمْ بِقَوْلِهِ:
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ [الْأَنْفَال: ٩] الْآيَاتِ، وَأُمِرُوا بِالثَّبَاتِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَذُكِّرُوا بِنَصْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ بِقَوْلِهِ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ [الْأَنْفَال:
١٧، ١٨] كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ يُثِيرُ سُؤَالًا يَخْتَلِجُ فِي نُفُوسِهِمْ أَنْ يَقُولُوا أَيَكُونُ كَذَلِكَ شَأْنُنَا كُلَّمَا جَاهَدْنَا أَمْ هَذِهِ مَزِيَّةٌ لِوَقْعَةِ بَدْرٍ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُفِيدَةً جَوَابَ هَذَا التَّسَاؤُلِ. فَالْمَعْنَى: إِنْ تَسْتَنْصِرُوا فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَوْلُهُ فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي فِي جَوَابِ الشَّرْطِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ دَلِيلًا عَلَى كَلَامٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ تَسْتَنْصِرُوا فِي الْمُسْتَقْبَلِ نَنْصُرْكُمْ فَقَدْ نَصَرْنَاكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَالِاسْتِفْتَاحُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ كِنَايَةٌ عَنِ الْخُرُوجِ لِلْجِهَادِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ طَلَبَ النَّصْرِ وَمَعْنَى وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ إِنْ تُمْسِكُوا عَنِ الْجِهَادِ حَيْثُ لَا يَتَعَيَّنُ فَهُوَ أَيِ الْإِمْسَاكُ، خَيْرٌ لَكُمْ لِتَسْتَجْمِعُوا قُوَّتَكُمْ وَأَعْدَادَكُمْ، فَأَنْتُمْ فِي حَالِ الْجِهَادِ مُنْتَصِرُونَ، وَفِي حَالِ السِّلْمِ قَائِمُونَ بِأَمْرِ الدَّين وتدبير شؤونكم الصَّالِحَةِ، فَيَكُونُ
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ
، وَقِيلَ الْمُرَادُ وَإِنْ تَنْتَهُوا عَنِ التَّشَاجُرِ فِي أَمْرِ الْغَنِيمَةِ أَوْ عَنِ التَّفَاخُرِ بِانْتِصَارِكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ وُقُوعِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَهُوَ إِنْ تَعُودُوا إِلَى طَلَبِ النَّصْرِ نَعُدْ فَنَنْصُرَكُمْ أَيْ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ عَطَائِنَا كَمَا قَالَ زُهَيْر:
وَجُمْلَةُ: وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ زِيَادَةٌ فِي تَأْيِيسِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ النَّصْرِ، وَتَنْوِيهٌ بِفَضْلِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ النَّصْرَ الَّذِي انْتَصَرُوهُ هُوَ مِنَ اللَّهِ لَا بِأَسْبَابِهِمْ فَإِنَّهُمْ دُونَ الْمُشْرِكِينَ عَدَدًا وَعُدَّةً.
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ جَعَلَ الْخِطَابَ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَنُسِبَ إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعَطَاءٍ، لِكَوْنِ خِطَابِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ قَدْ صَارَ نَادِرًا، لِأَنَّهُمْ أَصْبَحُوا بُعَدَاءَ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَة مستأنفة استينافا بَيَانِيًّا فَإِنَّهُمْ لَمَّا ذُكِّرُوا بِاسْتِجَابَةِ دُعَائِهِمْ بِقَوْلِهِ:
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ [الْأَنْفَال: ٩] الْآيَاتِ، وَأُمِرُوا بِالثَّبَاتِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَذُكِّرُوا بِنَصْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ بِقَوْلِهِ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ [الْأَنْفَال:
١٧، ١٨] كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ يُثِيرُ سُؤَالًا يَخْتَلِجُ فِي نُفُوسِهِمْ أَنْ يَقُولُوا أَيَكُونُ كَذَلِكَ شَأْنُنَا كُلَّمَا جَاهَدْنَا أَمْ هَذِهِ مَزِيَّةٌ لِوَقْعَةِ بَدْرٍ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُفِيدَةً جَوَابَ هَذَا التَّسَاؤُلِ. فَالْمَعْنَى: إِنْ تَسْتَنْصِرُوا فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَوْلُهُ فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي فِي جَوَابِ الشَّرْطِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ دَلِيلًا عَلَى كَلَامٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ تَسْتَنْصِرُوا فِي الْمُسْتَقْبَلِ نَنْصُرْكُمْ فَقَدْ نَصَرْنَاكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَالِاسْتِفْتَاحُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ كِنَايَةٌ عَنِ الْخُرُوجِ لِلْجِهَادِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ طَلَبَ النَّصْرِ وَمَعْنَى وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أَيْ إِنْ تُمْسِكُوا عَنِ الْجِهَادِ حَيْثُ لَا يَتَعَيَّنُ فَهُوَ أَيِ الْإِمْسَاكُ، خَيْرٌ لَكُمْ لِتَسْتَجْمِعُوا قُوَّتَكُمْ وَأَعْدَادَكُمْ، فَأَنْتُمْ فِي حَالِ الْجِهَادِ مُنْتَصِرُونَ، وَفِي حَالِ السِّلْمِ قَائِمُونَ بِأَمْرِ الدَّين وتدبير شؤونكم الصَّالِحَةِ، فَيَكُونُ
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ
، وَقِيلَ الْمُرَادُ وَإِنْ تَنْتَهُوا عَنِ التَّشَاجُرِ فِي أَمْرِ الْغَنِيمَةِ أَوْ عَنِ التَّفَاخُرِ بِانْتِصَارِكُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ وُقُوعِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَهُوَ إِنْ تَعُودُوا إِلَى طَلَبِ النَّصْرِ نَعُدْ فَنَنْصُرَكُمْ أَيْ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ عَطَائِنَا كَمَا قَالَ زُهَيْر: