تفسير سورة الأنفال

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: ﴿ يَسْأَلُونَكَ ﴾ السؤال إن كان تعيين الشيء وتبيينه، تعدى للمفعول الثاني بعن كما هنا، وإن كان بمعنى طلب الإعطاء، تعدى للمفعولين بنفسه، كسألت زيداً مالاً، خلافاً لمن فهم أن ما هنا من الثاني وادعى زيادة عن. قوله: ﴿ عَنِ ٱلأَنْفَالِ ﴾ جمع نفل مثل سبب وأسباب، ويقال نفل بسكون الفاء أيضاً وهي الزيادة، لزيادة هذه الأمة بها عن الأمم السابقة، فإنها لم تكن حلالاً لهم، بل كانوا إذا غنموا غنيمة وضعوها في مكان، فإن قبلها الله منهم، أنزل عليها ناراً أحرقتها، وإلا بقيت. قوله: ﴿ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ ﴾ قيل: إن معنى ذلك، أنها مملوكة الله، وأعطاها ملكاً لرسوله يتصرف فيها كيف يشاء، وعلى هذا فقوله:﴿ وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ ﴾[الأنفال: ٤١] الآية ناسخة لها، وقيل إن ما يأتي توضيح لما هنا وتفصيل له، والآية محكمة، فيكون المعنى لله والرسول من حيث قسمتها على المجاهدين. قوله: (يجعلانها حيث شاءا) أي فامتثلوا ما يأمركم به. قوله: ﴿ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ أي امتثلوا أمره وأمر نبيه. قوله: ﴿ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ ﴾ أي الحالة وهي الوصلة الإسلامية، فالمعنى اتركوا النزاع والشحناء، والزموا المودة والمحبة بينكم، ليحصل النصر والخير لكم. قوله: ﴿ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ أي فيما يأمركم به. قوله: ﴿ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه. قوله: (حقاً) أي كاملين في الإيمان، فعلامة كمال الإيمان، طاعة الله والرسول، وعدم وجود الحرج في النفس، قال تعالى:﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ﴾[النساء: ٦٥].
قوله: ﴿ إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾ استئناف مسوق لبيان صفات المؤمنين، فهو كالدليل لما قبله. قوله: (الكاملون الإيمان) بالنصب على نزع الخافض، أي فيه، وفي بعض النسخ بحذف النون، فيكون مضافاً للإيمان. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ ﴾ وصل ﴿ ٱلَّذِينَ ﴾ بثلاث صلات كلها متعلقة بالقلب. قوله: ﴿ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ أي فزعت لاستيلاء هيبته على قلوبهم. قوله: (تصديقاً) أشار بذلك إلى أن التصديق يقبل الزيادة، إذ لا يصح أن يكون إيمان الأنبياء كإيمان الفساق، وما قبل الزيادة قبل النقص، وبذلك أخذ مالك والشافعي وجمهور أهل السنة. قوله: (به يتقون) أشار بذلك إلى أن ﴿ وَعَلَىٰ ﴾ بمعنى الباء، و ﴿ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ بمعنى يتقون، وقوله: (لا بغيره) حصر أخذ من تقديم المعمول، والمعنى أن ثقتهم بالله لا. بغيره، فلا يعتمدون على عمل ولا على مال، ولا يخافون من غيره. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ ﴾ أي يلازمونها في أوقاتها، مستوفية الشروط والأركان والآداب. قوله: ﴿ يُنفِقُونَ ﴾ أي النفقة الواجبة كالزكاة، أو المندوبة كالصدقة. قوله: ﴿ حَقّاً ﴾ صفة لمصدر محذوف، أي إيماناً حقاً. قوله: (بلا شك) أي لظهور علامة الإيمان الكامل فيهم. قوله: ﴿ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ العندية عندية مكانة لا مكان. قوله: ﴿ وَمَغْفِرَةٌ ﴾ أي غفران لذنوبهم. قوله: ﴿ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ أي دائم مستمر لا نكد فيه ولا تعب، مقرون بالتعظيم والتكريم.
قوله: ﴿ كَمَآ أَخْرَجَكَ ﴾ الكاف بمعنى مثل، وما مصدرية خبر لمحذوف، والتقدير قسم الغنائم عموماً، والحال أن بعض الصحابة كارهون لذلك، مثل إخراجك من بيتك، والحال أنهم كارهون لذلك، فهو تشبيه حكم بحكم، أو قصة بقصة، وهذا أحسن الأعاريب، ولذا درج عليه المفسر، فالمشبه: قسم الغنائم عموماً، والمشبه به: الخروج لقتال ذي الشوكة، بجامع أن كلاً كان فيه كراهة لبعض المؤمنين، بحسب الصورة الظاهرية، وفي الواقع: ونفس الأمر خير ومصلحة للعموم في كل، لأن الأول ترتب عليه إصلاح ذات البين، والثاني ترتب عليه عز الإسلام ونصره. قوله: ﴿ مِن بَيْتِكَ ﴾ أي الكائن بالمدينة، أو المراد بالبيت نفس المدينة، قوله: (متعلق بإخراج) أي والباء سببية، والمعنى: أخرجك من بيتك بسبب الحق، أي إظهار الدين ورفع شأنه، ويصح أن تكون الباء للملابسة، والجار والمجرور متعلق بمحذوف حال من الكاف في أخرجك، أي أخرجك متلبساً بالحق أي الوحي، لا عن هوى نفسك. قوله: (والجملة حال) أي مقدرة، لأنهم وقت الخروج لم يكونوا كارهين، وإنما طرأت الكراهة عند الأمر بقتال ذي الشوكة. قوله: (أي هذه الحال) أي وهي قسم الغنائم على العموم. قوله: (في كراهتهم لها) هذا هو وجه المماثلة والمشابهة بينهما. قوله: (فكذلك أيضاً) أي قسم الغنائم كان خيراً انتهاء لما فيه من إصلاح ذات البين. قوله: (قدم بعير) أي إبل حاملة تجارة، وكان فيها أموال كثيرة ورجال قليلة نحو الأربعين. قوله: (فعلمت قريش) إي بإخبار ضمضمة بن عمرو الغفاري الذي اكتراه أبو سفيان، ليعلم قريشاً بذلك. قوله: (ومقاتلو مكة) أي وكانوا ألفاً إلا خمسين. قوله: (وأخذ أبو سفيان) أي عدل عن الطريق المعتاد للمدينة، وسار بساحل البحر. قوله: (فشاور صلى الله عليه وسلم أصحابه) أي في المضي إلى بدر لقتال النفير. قوله: (فوافقوه) أي آخراً، بعد أن توقف بعضهم محتجاً بعدم التهيؤ، وكان إذ ذلك صلى الله عليه وسلم بوادي دقران، بدال وقاف وراء، بوزن سلمان، وإذ قريب من الصفراء، وعند المشاورة قام أبو بكر وعمر فأحسنا في القول، ثم قام سعد بن عبادة فقال: انظر أمرك فامض فيه، فوالله لو سرت إلى عدن ما تخلف عنك رجل من الأنصار، ثم قال مقداد بن عمرو: امض كما أمرك الله، فإنا معك حيثما أحببت، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى:﴿ فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾[المائدة: ٢٤]، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا معكما مقاتلون. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال:" أيها الناس أشيروا علي، وهو يريد الأنصار، فقام سعد بن معاذ، فقال: كأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال أجل، قال إنا قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أنا ما جئت به هو الحق، فامش يا رسول الله لما أردت فإنا لا نكره أن يلقى عدونا، وإنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله، ثم قال رسول الله: سيروا على بركة الله وأبشروا، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم ".
قوله: ﴿ يُجَادِلُونَكَ فِي ٱلْحَقِّ ﴾ أي يقيمون حجة قبالة حجة، فليس المراد بالجدال، الجدال في الباطل. قوله: (ظهر لهم) أي تحتم القتال. قوله: ﴿ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى ٱلْمَوْتِ ﴾ أي كأنهم مثل من يساق إلى القتال، وهو ينظر بعينه أسبابه. قوله: (في كراهتهم له) هذا هو وجه المشابهة، وسبب تلك الكراهة قلة عددهم وعددهم، فقد ورد أنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر، والكل رجال، وليس فيهم إلا فرسان. قوله: (بخلاف النفير) أي فإنه كثير العدد والعدد. قوله: (يظهره) جواب عما يقال إن فيه تحصيل الحاصل، وكذا يقال في قوله: ﴿ وَيُبْطِلَ ٱلْبَاطِلَ ﴾.
قوله: ﴿ لِيُحِقَّ ٱلْحَقَّ ﴾ ليس مكرراً مع ما قبله، لأن المراد بالأول، تثبيت ما وعد به في هذه الواقعة من النصرة والظفر بالأعداء، والمراد بالثاني، تقوية الدين وإظهار الشريعة مدى الأيام. قوله: ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ ﴾ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُرْدِفِينَ } إما خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فقط، فيكون الجمع للتعظيم، أو خطاب للنبي وأصحابه، روي عن ابن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب قال،" لما كان يوم بدر، نظر صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، فاستقبل نبي الله القبلة، ثم مد يديه، فجعل يهتف بربه يقول: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض، فما زال يهتف بربه ماداً يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه، فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك "، فنزلت هذه الآية. قوله: (تطلبون منه الغوث) أشار بذلك إلى أن السين والتاء للطلب. قوله: ﴿ مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ ﴾ ورد أن جبريل نزل بخمسمائة وقاتل بها في يسار الجيش وفيه علي، ولم يثبت أن الملائكة قاتلت في وقعة إلا في بدر، وأما في غيرها فكانت تنزل الملائكة لتكثير عدد المسلمين ولا تقاتل. قوله: (يردف بعضهم بعضاً) أي يعقبه في المجيء. قوله: (وعدهم بها أولاً) أشار بذلك إلى الجمع بين ما هنا وبين ما في آل عمران. وقوله: (قرىء) أي شذوذاً. قوله: (كأفلس) أي فأبدلت الهمزة الثانية ألفاً. قوله: ﴿ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ﴾ أي فلا يتوقف على تهيؤ بعدد ولا عدد.
قوله: ﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ ﴾ أي دفعة واحدة فناموا كلهم، وهذا على خلاف العادة، فهي معجزة لرسول الله، حيث غشي الجميع النوم في وقت الخوف، وفيه ثلاث قراءات سبعية، يغشاكم كيلقاكم، والنعاس مرفوع على الفاعلية، ويغشيكم بتشديد الشين وضم ياء المضارعة، ويغشيكم بتخفيف الشين وضم ياء المضارعة، والنعاس منصوب على المفعولية في هاتين القراءتين. قوله: ﴿ أَمَنَةً ﴾ منصوب على الحال على القراءة الأولى، أو المفعول لأجله على القراءتين الأخرتين، قال عبدالله بن مسعود: النعاس في القتال أمنة في الصلاة من الشيطان، قيل إنهم لما خافوا على أنفسهم، لكثرة عدد العدو وعددهم، وقلة المسلمين، وعطشوا عطشاً شديداً ألقى الله عليهم النوم، حتى حصلت لهم الراحة، وزال عنهم العطش، وتمكنوا من قتال عدوهم، فكان ذلك النوم نعمة في حقهم، لأنه كان خفيفاً بحيث لو قصدهم العدو لتنبهوا له، وقدروا على دفعه. قوله: (من الخوف) بيان لما. قوله: ﴿ لِّيُطَهِّرَكُمْ ﴾ إلخ أي وذلك أنهم وقفوا في كثيب رمل، فشق المشي عليهم فيه من لينه ونعومته، واشتد عليهم الخوف من أن يأتيهم العدو في تلك الحالة، فألقى الله عليهم النعاس، فاحتلم معظمهم فاشتد احتياجهم إلى الماء، فوسوس لهم الشيطان بما ذكره المفسر، فرد الله كيده بإنزال المطر الكثير عليهم، فشربوا وتطهروا وملؤوا القرب، وتلبد الرمل حتى سهل المشي عليه. قوله: ﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ ﴾ معمول لمحذوف أي اذكر، ولم يقدره المفسر اتكالاً على تقديره فيما سبق. قوله: ﴿ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ ﴾ أل للعهد الذكرى، أي المذكورين فيما سبق في قوله:﴿ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ ﴾[الأنفال: ٩] كما أشار إليه المفسر. قوله: ﴿ أَنِّي مَعَكُمْ ﴾ الجملة في محل نصب مفعول ليوحي. قوله: ﴿ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ أي قووا قلوبهم، واختلف في كيفية هذه التقوية، فقيل إن الشيطان كما أن قوة في إلقاء الوسوسة في قلب آدم بالسوء، كذلك الملك له قوة في إلقاء الإلهام في قلب ابن آدم بالخير، ويسمي ما يلقيه الملك إلهاماً، وقيل إن ذلك التثبيت حضورهم القتال معهم، ومعونتهم لهم بالقتال بالفعل، وقيل معناه بشرورهم بالنصر والظفر، فكان الملك يمشي في صفة رجل أمام الصف ويقول: أبشروا فإن الله ناصركم عليهم. قوله: ﴿ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ ﴾ كالتفسير لقوله: و ﴿ أَنِّي مَعَكُمْ ﴾ وقوله: ﴿ فَٱضْرِبُواْ ﴾ الخ. كالتفسير لقوله: ﴿ فَثَبِّتُواْ ﴾ فهو لف ونشر مرتب. قوله: (الرؤوس) تفسير للفظ ﴿ فَوْقَ ﴾ وقد توسع فيه حيث استعملوه مفعولاً به، وإن كان أصله ظرف مكان ملازم للظرفية، وقيل إن لفظة ﴿ فَوْقَ ﴾ زائدة، وقد أشار له المفسر بقوله: (يقصد ضرب رقبة الكافر) إلخ، فقد أشار المفسر إلى قولين، وقيل إن فوق باقية على ظرفيتها والمفعول محذوف، أي فاضربوهم فوق الأعناق، وقيل إن فوق بمعنى على، والمفعول محذوف أيضاً، أي فاضربوهم على الأعناق. قوله: (أي أطراف اليدين والرجلين) في المصباح: البنان الأصابع، وقيل أطرافها، والواحدة بنانة. قوله: (إلا دخل في عينيه) أي وفي فمه وأنفه.
قوله: ﴿ ذٰلِكَ ﴾ (العذاب) أي من إلقاء الرعب والقتل والأسر، وقوله: ﴿ بِأَنَّهُمْ ﴾ الباء سببيه. قوله: (خالفوا) ﴿ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ أصل معناها المجانبة، لأنهم صاروا في شق، وجانب عن النبي والمؤمنين. قوله: ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴾ أي وما نزل بهم في هذا اليوم قليل، بالنسبة لما ادخر لهم عند الله. قوله: ﴿ ذٰلِكُمْ ﴾ (العذاب) اسم إشارة مبتدأ خبره محذوف قدره المفسر، وقوله: ﴿ فَذُوقُوهُ ﴾ لا تعلق له بما قبله من جهة الإعراب. قوله: ﴿ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ ﴾ عطف على ذلكم، أو نصب على المفعول معه. قوله: ﴿ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمُ ﴾ خطاب لكل من يحضر القتال. قوله: ﴿ زَحْفاً ﴾ حال من المفعول به وهو ﴿ ٱلَّذِينَ ﴾ فهو مؤول بالمشتق، أي حال كونهم زاحفين. قوله: (أي مجتمعين) إلخ، أي فالمعنى على التشبيه بالزاحفين على أدبارهم في بطء السير، وذلك لأن الجيش إذا كثروا التحم بعضه ببعض، يتراءى أن سيره بطيء، وإن كان في نفس الأمر سريعاً، وفي المصباح زحف القوم زحفاً من باب نفع. قوله: ﴿ فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ٱلأَدْبَارَ ﴾ ويطلق الدبر على مقابل القبل، ويطلق على الظهر وهو المراد هنا، والمقصود ملزوم توليه الظهر وهو الانهزام، فهذا اللفظ استعمل في ملزوم معناه كما أشار المفسر بقوله: (مهزومين) و ﴿ ٱلأَدْبَارَ ﴾ مفعول ثان لتولوهم. وكذا ﴿ دُبُرَهُ ﴾ مفعول ثان ليولوهم، وفي الآية تعريض، حيث ذكر لهم حالة تستهجن من فاعلها في تعبيره بلفظ الدبر دون الظهر. قوله: (أي يوم لقائهم) حل معنى، وإلا فمقتضى التنوين في إذ، أن يقول: يوم لقيتموهم، لأنه عوض عن جملة. قوله: ﴿ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً ﴾ في نصبه مع ما عطف عليه وجهان: أحدهما أنه حال، والثاني أنه مستثنى من ضمير المؤمنين. قوله: (الفرة) بفتح الفاء. وهي المرة من الفر، بمعنى الفرار، أي الهرب، وقوله: (مكيدة) أي خديعة ومكراً، قوله: (وهو يريد الكرة) أي الرجعة، لأن الكرة المرة من الرجوع، والكر الرجوع، وهذا أحد أبواب الحرب ومكايدها. قوله: ﴿ أَوْ مُتَحَيِّزاً ﴾ التحيز والتحوز الانضمام، وأصل تحيز: تحيوز، اجتمعت الواو والياء، وسبقت إحدهما بالسكون، قلت الواو ياء، وادغمت الياء في الياء قوله: (يستنجد) أي يستنصر ويستعين. قوله: ﴿ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ ﴾ جواب الشرط وهو من، والباء للملابسة، أي ملتبساً ومصحوباً بغضب. قوله: ﴿ وَمَأْوَاهُ ﴾ أي مسكنه، وفي الآية وعيد عظيم، ولذلك قيل: إن الفرار أكثر الكبائر بعد الكفر. قوله: (مخصوص) أي مقصور، أي فإن زادت عن الضعف، كما إذا كان المسلمون ربع الكفار، فلا يجرم الفرار.
قوله: ﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ﴾ نزلت هذه الآية لما افتخر المسلمون بعد رجوعهم من بدر، فكان الواحد منهم يقول: أنا قتلت كذا، أسرت كذا، فعلمهم الله الأدب بقوله: ﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ﴾ إلخ، والفاء واقعة في جواب شرط مقدر، أي افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم. قوله: ﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ ﴾ قرىء بتشديد لكن وتخفيفها، فعلى التخفيف تكون مهملة، ولفظ الجلالة مرفوع على الابتداء، وعلى التشديد تكون عاملة عمل إن، ولفظ الجلالة منصوب على أنه اسمها، وهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ﴾ ظاهرة التناقض، حيث جمع بين النفي والإثبات، والجواب أن المنفي الرمي، بمعنى إيصال الحصى لأعينهم، والمثبت فعل الرمي، كما أشار لهذا الجواب المفسر بقوله: (بإيصال ذلك اليهم). قوله: ﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ ﴾ في القراءتان المتقدمتان، وقد علمت أن حكمة قوله تعالى: ﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ﴾ التأديب لبعض المؤمنين، وأما حكمة قوله تعالى: ﴿ وَمَا رَمَيْتَ ﴾ إثبات أنه معجزة من الله لنبيه، لتذكر من جملة معجزاته التي أمر بالتحدث بها، قال تعالى:﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾[الضحى: ١١]، وقال البوصيري: ورمى بالحصى فأقصد جيشاً   ما الحصا عنده وما الإلقاءقوله: (فعل) أي الله ذلك، أي القتل والرمي، وقوله: (ليقهر) إلخ قدره ليعطف عليه ﴿ وَلِيُبْلِيَ ﴾.
قوله: (عطاء) أي فالمراد من الإبلاء الإعطاء، فهو إبلاء بخير لا بشر، فإن البلاء يقع على النعمة وعلى المحنة لأن أصله الاختيار، وذلك كما يكون بالمحنة لإظهار الصبر، يكون بالنعمة لإظهار الشكر. قوله: ﴿ ذٰلِكُمْ ﴾ مبتدأ خبره محذوف، قدره المفسر بقوله: (حق)، وقوله: ﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ ﴾ يجوز أن يكون معطوفاً على ﴿ ذٰلِكُمْ ﴾ فيكون في محل رفع بالابتداء، وخبره محذوف أيضاً، والمعنى ذلكم الإبلاء للمؤمنين حق، وتوهين كيد الكافرين حق و ﴿ مُوهِنُ ﴾ بفتح الواو وتشديد الهاء والتنوين، فكيد منصوب على المفعولية به، ويقرأ بسكون الواو، وتخفيف الهاء من أوهن، كأكرم، منوناً أو مضافاً، إلى كيد، فالقراءات ثلاث، وكلها سبعية. قوله: (أيها الكفار) أي فهو خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم، لأنهم الذين وقع بهم الهلاك، والفتح وقع لغيرهم. قوله: (أي القضاء) أي الحكم بينكم وبين محمد، بنصر المحق وخذلان المبطل. قوله: (حيث قال أبو جهل) أي وغيره من قريش، حين أرادوا الخروج إلى بدر، وتعلقوا بأستار الكعبة، ودعوا بما ذكره المفسر. قوله: (أينا) أي الفريقين، يعني نفسه ومن معه، ومحمداً ومن معه، وهو يزعم أن محمداً هو القاطع للرحم، حيث خرج من بلده وترك أقاربه. قوله: (فأحنه الغداة) الحين، بالفتح الهلاك، حان الرجل: هلك، وأحانه الله، أهلكه، والغداة ظرف للحين أي أهلكه فيما يستقبل. قوله: (وفتحها على تقدير اللام) أي فهما قراءتان سبعيتان، أي واللام المقدرة للتعليل.
قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ ﴾ أي دوموا على طاعته وعلى عدم التولي يدم لكم العز الذي حصل ببدر. قوله: ﴿ إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ ﴾ إلخ نزلت في جماعة من بني عبد الدار بن قصي، كانوا يقولون: نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد، وتوجهوا مع أبي جهل حاملين اللواء لقتال النبي وأصحابه ببدر، فقتلوا جميعاً، ولم يسلم منهم إلا اثنان، مصعب بن عمير، وسبيط بن حرملة، والدواب في اللغة ما دب على وجه الأرض، عاقلاً أو غيره، وفي العرف، مخصوص بالخيل والبغال والحمير، وفي الآية غاية الذم لهم، بأنهم أشر من الكلب والخنزير والحمير. قوله: ﴿ وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً ﴾ هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم على عدم إيمانهم، ولو حرف امتناع لامتناع، والمعنى امتنع سماعهم الخير، سماع سماع تفهم لامتناع علم الخير فيهم. قوله: ﴿ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ ﴾ هذا ترق في التسلية، والمعنى لو فرض أن الله أسمعهم سماع تفهم، لتولوا وهو معرضون عنه عناداً فلا تحزن على كفرهم، فإن كفرهم ثابت مطلقاً، فهموا الحق أولا، هذا حاصل معنى الآية، واستشكل ظاهرها بأن الآية دلت على القياس، حاصلة لو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم، ولو أسمعهم لتولوا، ينتج، لو علم الله فيهم خيراً لتولوا وهو فاسد، إذ لو علم الله الخير فيهم لآمنوا ولم يكفروا، وأجيب بجوابين، الأول: أن الحد المكرر لم يتحد معنى، وشرط الإنتاج اتحاده معنى، لأن المراد بالإسماع الأول الموجب للفهم والإذعان، والإسماع الثاني للفهم من غير إذعان. الثاني: أن الكلام تم عند قوله: ﴿ لأَسْمَعَهُمْ ﴾ وقوله: ﴿ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ ﴾ ترق في التشنيع عليهم، فالمعنى هو لم يؤمنوا ولم ينقادوا عند التفهم على فرض حصوله، فعدم إيمانهم عند عدمه أولوي، نظير لو لم يخف الله لم يعصه، ولكن توليهم عند ظهور الحق عناد وجحود، وعند عدمه جهل.
قوله: ﴿ ٱسْتَجِيبُواْ ﴾ السين والتاء زائدتان للتوكيد. قوله: ﴿ إِذَا دَعَاكُم ﴾ أفرد لأن دعوة الرسول في الحقيقة هي لله، وذكر الرسول أولاً، لأنه المبلغ عن الله، فعدم طاعته مخالفة لله. قوله: ﴿ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ ما إما نكرة وجملة يحييكم صفة، أو اسم موصول وما بعدها صلة، والمعنى لما فيه حياتكم الأبدية. قوله: (من أمر الدين) أي وهو الإيمان والإسلام، وقيل هو القرآن، لأنه حيلة القلوب، وبه النجاة من أهوال الدنيا والآخرة، وقيل هو الحق مطلقاً، وقيل الجهاد في سبيل الله وأتمها ما قاله المفسر. قوله: ﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾ أي يفصل بينهما بتصاريفه وأحكامه، وذلك كناية عن كونه أقرب للشخص من قلبه ومن قلبه لذاته، بل هو أقرب من السمع للأذن، ومن البصر للعين، ومن اللمس للجسد، ومن الشم للأنف، ومن الذوق للسان، فشبه القرب بالحيلولة، واستعير اسم المشبه به، وهو الحيلولة للمشبه، وهو القرب واشتق من الحيلولة يحول بمعنى يقرب، على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية. قوله: (فلا يستطيع أن يؤمن أو يفكر إلا بإرادته) تقدم أنه لا مفهوم للفكر والإيمان بل السمع والبصر والشم والذوق واللمس في قبضة الله سبحانه، إن شاء أبقاه وإن شاء أذهبه، وإنما خص الإيمان والكفر لأن مناط السعادة والشقوة بهما. قوله: (فيجازيكم بأعمالكم) أي إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. قوله: ﴿ وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً ﴾ أي سبب فتنة وهي المعاصي، فإنها سبب لنزول المصائب الدنيوية. قوله: ﴿ تُصِيبَنَّ ﴾ الجملة صفة لفتنة، و ﴿ لاَّ ﴾ نافية، و ﴿ تُصِيبَنَّ ﴾ فعل مضارع مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وهو واقع في جواب شرط مقدر، قدره المفسر بقوله: (إن أصابتكم) وليس جواباً للأمر، لأن المرتب على تقواها عدم إصابتها أحداً لا خصوصاً ولا عمومياً، وإنما أكد الفعل المضارع المنفي بالنون، إجراء له مجرى النهي، قوله: (بل تعمهم وغيرهم) أي فالظالم لظلمه، وغير الظالم لإقراره وسكوته وعدم نهيه عن المنكر، وفي الحديث ما معناه" مثل الظالم كمثل جماعة في أسفل مركب، ومثل غير الظالم كمثل جماعة في أعلى المركب، فأراد أهل الأسفل أن يخرقوا خرقاً يستقون منه، فإن سلم لهم أهل الأعلى هلكوا جميعاً، وإن قاموا عليهم نجوا جميعاً "قال ابن عباس: إن الله أمر المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم، فيعمهم الله بالعذاب، فيصيب الظالم وغير الظالم، وفي الحديث:" إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم، وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه فإذا فعلوا ذلك، عذب الله العامة والخاصة "، وورد" إذا عمت الخطيئة في الأرض، كان من شهدها فأنكر، كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها، كان كمن شهدها "، إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في ذلك، فإذا علمت ذلك، فلا تشكل هذه بقوله تعالى﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ﴾[الأنعام: ١٦٤]، بما علمت أن الساكت على المنكر، مؤخذ بوزر نفسه لا بوزر المباشر.
قوله: ﴿ وَٱذْكُرُوۤاْ ﴾ خطاب للنبي وأصحابه، نزلت بعد غزوة بدر. قوله: ﴿ مُّسْتَضْعَفُونَ ﴾ أي مظهرون الضعف لعدم أمركم بالقتال. قوله: (الغنائم) أي فلما هاجروا وأمروا بالقتال، تركوا التجارة وصار رزقهم من الغنائم، وفي الحديث:" جعل رزقي تحت ظل رمحي "قوله: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ أي فتزدادوا من النعم، لأن بالشكر تزداد النعم، قال تعالى:﴿ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ ﴾[إبراهيم: ٧].
قوله: (ونزل في أبي لبابة) اسمه مروان كما في بعض النسخ، وقيل رفاعة. قوله: (وقد بعثه) إلخ حاصل قصته:" أن رسول الله حاصر قريظة خمساً وعشرين ليلة، وقيل خمسة عشر، وقيل بضعة عشر يوماً، فلما اشتد عليهم الأمر، قام عليهم رئيسهم كعب بن أسد، وعرض عليهم الإيمان، فقال: يا معشر اليهود، قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني أعرض عليكم خصالاً ثلاثاً، فخذوا أيها شئتم، قالوا: وما هي؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه، فوالله لقد تبين أنه نبي مرسل، وأنه الذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم، فأبوا، فقال: هلم نقتل أبناءنا ونسائنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه، رجالاً مجردين السيوف من أغمادها، ولم نترك وراءنا ثقلاً، حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فقالوا: أي عيش لنا بعد أبنائنا ونسائنا؟ فقال: إن هذه الليلة ليلة السبت، وعسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا فيها، فانزلوا لعلنا نصيب منهم غزوة، فقالوا: نفسد سبتنا، وقد علمت مسخ من خالف السبت، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث لنا أبا لبابة نستثيره في أمرنا فأرسله إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وفزع النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرق لهم، وقالوا: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال نعم، وأشار بيده إلى حلقه إنه الذبح، فقال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني خنت الله ورسوله، ثم انطلق وسلك طريقاً أخرى، فلم يأتِ رسول الله حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده وقال: لا أبرح من مكاني هذا حتى يتوب الله علي مما صنعت، فلما بلغ خبره رسول الله وقد استبطأه قال: أما جاءني لاستغفرت له، وأما إذا فعل ما فعل، فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه، فأقام أبو لبابة مرتبطاً بالجذع ست ليال، وقيل بضعة عشر ليلة، حتى ذهب سمعه وكاد يذهب بصره، وكانت امرأته تأتيه في وقت كل صلاة، فتحله للصلاة ثم تربطه، ثم نزلت توبته في بيت أم سلمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم سحراً، فقام يضحك، فقالت أم سلمة: مم تضحك أضحك الله سنك؟ قال: تِيب على أبي لبابة، قالت: أفلا أبشره، يا رسول الله؟ قال: بلى إن شئت، فقامت على باب حجرتها، وذلك قبل أن تنزل آية الحجاب، فقالت: يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك، فتسارع إليه الناس ليطلقوه، فقال لا والله حتى يكون رسول الله هو الذي يطلقني بيده، فلما أصبح الصبح أطلقه فلما اشتد الحصار على بني قريظة، أطاعوا وانقادوا أن ينزلوا على حكم رسول الله، فحكم فيهم سعد بن معاذ وكان في خيمة في المسجد الشريف لآمرأة من أسلم يقال لها رفيدة، وكانت تداوي الجرحى حسبة، فأتي به، فلما حضر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قوموا لسيدكم، فقاموا إليه، فقالوا: إن رسول الله ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم، فقال سعد: إني أحكم فيهم أن تقتل الرجال، وتقسم الأموال، وتسبي الذراري والنساء، فقال عليه الصلاة والسلام: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة "، والرقيع السماء، ففعل بهم كما قال سعد.
قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ إنما عمم الخطاب إشارة إلى الستر عليه، وأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قوله: ﴿ وَتَخُونُوۤاْ ﴾ معطوف على الفعل قبله، فهو في حيز النهي، ولذا قدر المفسر لا، فهو نهي عن الخيانتين. قوله: ﴿ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ الجملة حالية من فاعل ﴿ تَخُونُواْ ﴾.
قوله: (صادة) أي مانعة. قوله: (فلا تفوتوه بمراعاة الأموال) إلخ. أي لأنها أمور زائلة فانية، وسعادة الآخرة لا نهاية لها فهي أولى بتقديمها على ما يفنى. قوله: ﴿ فُرْقَاناً ﴾ أي نجاة مما تخافون، وقد أشار لهذا المفسر بقوله: (فتنجون) وقيل: المراد بالفرقان النور الكائن في القلب الذي يفرق به بين الحق والباطل، وهو أولى. قوله: ﴿ وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ﴾ أي يمحها، فقوله: ﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾ عطف مرادف عليه.
قوله: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ﴾ إذ ظرف معمول لمحذوف قدره المفسر بقوله: (اذكر) وهذا تذكير لنعمة الله على نبيه، إثر تذكير نعمة الله على المؤمنين بقوله:﴿ وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾[الأنفال: ٢٦].
والمكر الاحتيال على إيصال الضر للغير. وحاصل ذلك: أن قريشاً عرفوا لما أسلم الأنصار، أن أمر رسول الله يتفاخم ويظهر، فاجتمع نفر من كبار قريش في دار الندوة ليتشاوروا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رؤساؤهم: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل، وأبو سفيان، وطعمة بن عدي، والنضر بن الحرث، وأبو البحتري بن هشام، وزمعة بن الأسود، فجاءهم إبليس في صورة شيخ نجدي، فلما رأوه قالوا له: من أنت؟ قال: أنا شيخ من نجد، سمعت باجتماعكم فأردت أن أحضركم، ولن تعدموا مني رأياً ونصحاً، فقالوا له: ادخل فدخل، فقال أبو البحتري: أما أنا فأرى أن تأخذوا محمداً وتحبسوه في بيت مقيداً، وتسدوا باب البيت غير كوة تلقون منها طعامه وشرابه حتى يهلك، فصرخ ذلك الشيخ النجدي وقال: بئس الرأي، إن أصحابه يقاتلونكم ويخرجونه قهراً عليكم، فقالوا: صدق الشيخ النجدي فقال هشام بن عمرو: إني أرى أن تحملوه على بعير فتخرجوه من بين أظهركم، فلا يضركم ما صنع، فقال الشيخ النجدي: ما هذا برأي، تعمدون إلى رجل قد اتبعه سفهاؤكم، فتخرجوه إلى غيركم فيفسدهم، ألم تروا إلى حلاوة منطقه وطلاقة لسانه، لئن فعلتم ذلك، يذهب ويستميل قلوب آخرين، فيسير بهم إليكم فيخرجكم من بلادكم، فقال أبو جهل: إني أرى أن تأخذوا من كل بطن من قريش شاباً نسيباً، ويعطى كل شاب سيفاً صارماً، ثم يضربونه به ضربة واحدة، فإذا قتل تفرق دمه في القبائل، ولا أظن أن هذا الحي من بني هاشم، يقوون على حرب قريش كلها، غايته يطلبون ديته وهو أمر سهل، فقال إبليس: إنه أجودكم رأياً فتفرقوا على ذلك، فأتى جبريل وأخبر رسول الله بذلك، وبأن الله أذن له في الخروج إلى المدينة، فلما كان الليل، اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام، فأمر رسول الله علياً أن يبيت بمضجعه، وقال له: تسج ببردتي، فإنه لن يخلص إليك منهم أمر تكرهه، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، وقد أخذ أبصارهم، فلم يره منهم أحد، ونثر على رؤوسهم التراب وهو يتلو قول تعالى﴿ يسۤ ﴾[ يس: ١] إلى قوله:﴿ فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾[يس: ٩] ثم أتاهم آت فقال لهم: إن محمداً خرج عليكم ووضع التراب على رؤوسكم، فما من رجل منهم أصابه ذلك التراب، إلا قتل يوم بدر كافراً. قوله: (بدار الندوة) أي بالدار التي يقع فيها الحديث والاجتماع، وهي أول دار بنيت بمكة، فلما حج معاوية، اشتراها من الزبير العبدري بمائة الف درهم، ثم صارت كلها بالمسجد الحرام، وهي في جانبه الشمالي. قوله: ﴿ لِيُثْبِتُوكَ ﴾ هذا إشارة لرأي أبي البحتري. قوله: ﴿ أَوْ يَقْتُلُوكَ ﴾ أي شبان القبائل كلهم قتلة رجل واحد، وهو إشارة لرأي أبي جهل. قوله: ﴿ أَوْ يُخْرِجُوكَ ﴾ هو إشارة لرأي هشام بن عمرو. قوله: ﴿ وَيَمْكُرُونَ ﴾ (بك) أي يحتالون ويتدبرون في أمرك. قوله: (بتدبير أمرك) جواب عما يقال: إن حقيقة المكر محالة على الله تعالى، لأنه الاحتيال على الشيء من أجل حصول العجز عنه، وأجيب أيضاً: بأن المراد يمكر الله، معاملته لهم معاملة الماكر، حيث خيب سعيهم وضيع أملهم، أو المراد جازاهم على مكرهم، فسمى الجزاء مكراً لأنه في مقابلته. قوله: (أعلمهم به) دفع بذلك ما يقال: إن المكر لا خير فيه، وأجيب أيضاً: بأن اسم التفضيل ليس على بابه. قوله: ﴿ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ﴾ هذا من جملة قبائح أهل مكة. قوله: ﴿ مِثْلَ هَـٰذَا ﴾ تنازعه كل من سمعنا وقلنا. قوله: (الحيرة) بلدة بقرب الكوفة. قوله: (اخبار الأعاجم) أي كالفرس والروم قوله: ﴿ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ﴾ جمع اسطورة، كأكاذيب جمع أكذوبة وزنا ومعنى، وقد رد الله عليهم تلك المقالة بقوله تعالى:﴿ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ ﴾[هود: ١٣]، وقال أيضاً﴿ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ ﴾[يونس: ٣٨]، فعجزوا عن ذلك وقال البوصيري: سور منه أشبهت صورا   منا ومثل النظائر النظراءقوله: ﴿ وَإِذْ قَالُواْ ﴾ هذا من جملة قبائحهم الشنيعة. قوله: ﴿ هُوَ ٱلْحَقَّ ﴾ القراء السبعة على نصب الحق خبراً لكان، وهو ضمير فصل لا محل له من الإعراب، وقرىء شذوذاً برفعه على أنه خبر للضمير، والجملة خبر لكان. قوله: ﴿ مِنْ عِندِكَ ﴾ حال من الحق. قوله: ﴿ حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ﴾ أي من سجيل مسومة كما أرسلتها على اصحاب الفيل. قوله: ﴿ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ أي كالصيحة والخسف. قوله: (قاله النضر) أي ابن الحرث، وقوله: (وغيره) أي وهو أبو الجهل، ولا مانع من أن كلا قال ذلك. قوله: (استهزاء) أي سخرية به صلى الله عليه وسلم. قوله: (وإيهاماً أنه على بصيرة) أي لأن اصعب الأيمان الدعاء على النفس.
قوله: (بما سألوه) أي وهو الحجارة أو العذاب الأليم، ولا بالعذاب العام، لرفعه ببركته صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ وَأَنتَ فِيهِمْ ﴾ أي في بلدهم، فإن خرجت منها أنت والمؤمنون، عذبهم الله على أيديكم عذاباً خاصاً بهم. قوله: ﴿ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ ﴾ أي عذاباً عاماً ولا خاصاً. قوله: ﴿ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ الجملة حالية من الضمير في معذبهم. والمعنى أن الله لا يعذبهم، والحال أنهم يستغفرون، فاستغفارهم نافع لهم، بعدم نزول العذاب عليهم. إن قلت: يشكل على هذا قوله تعالى:﴿ وَقَدِمْنَآ إِلَىٰ مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً ﴾[الفرقان: ٢٣]، وقوله تعالى:﴿ وَمَا دُعَاءُ ٱلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ ﴾[غافر: ٥٠]، أجيب: بأن استغفارهم نافع في الدنيا فقط، وأما هاتان الآيتان فالمراد منهما ما يحصل في الآخرة، فأعمال الكفار الصالحة التي لا تفتقر إلى نية، كالصدقات وفعل المعروف والاستغفار، تنفعهم في الدنيا وتمنع عنهم العذاب فيها، ولا تنفعهم في الآخرة. قوله: (وقيل هم المؤمنون) أي فضمير معذبهم يعود ألى أهل مكة، وقوله: ﴿ وَهُمْ ﴾ الضمير عائد على أهل مكة باعتبار مجموعهم وهم المؤمنون. قوله: (تزيلوا) أي تميز المؤمنون على الكفار. قوله: ﴿ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ ﴾ أي: أي شيء ثبت لهم في عدم تعذيب الله لهم، أي لا مانع لهم منه. قوله: (والمستضعفين) أي وخروج المستضعفين أيضاً. قوله: (وعلى القول الأول) أو وهو كون الضمير عائد على الكفار. قوله: (هي ناسخة لما قبلها) أي وهي قوله: ﴿ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ لأنه اخبر أولاً أنه لا يعذبهم مع استغفارهم، وأخبر ثانياً أنه يعذبهم ولا يبالي باستغفارهم، والوجه أنها ليست منسوخة لأنها خَبر، والأخبار لا تنسخ، وايضاً استغفارهم قد انقطع بخروجهم للمقاتلة، لارتباط استغفارهم بالبيت. قوله: ﴿ وَهُمْ يَصُدُّونَ ﴾ الجملة حالية من ضمير ﴿ يُعَذِّبَهُمُ ﴾ قوله: (أن يطوفوا به) أي النبي والمؤمنون. قوله: ﴿ وَمَا كَانُوۤاْ أَوْلِيَآءَهُ ﴾ رد لقولهم نحن ولاة البيت فنصد من نشاء، وندخل من نشاء. قوله: ﴿ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ ٱلْمُتَّقُونَ ﴾ أي المجتنبون الشرك. قوله: (أو لا ولاية لهم عليه) أشار بذلك إلى أن مفعول ﴿ يَعْلَمُونَ ﴾ محذوف.
قوله: ﴿ إِلاَّ مُكَآءً ﴾ استثناء من الصلاة على حسب زعمهم، حيث أن المكاء والتصدية من جنس الصلاة، فالإستثناء زيادة في التشنيع عليهم. قوله: (صفيراً) أي فكان الواحد منهم يشبك اصابع إحدى كفيه بأصابع الأخرى ويضمها وينفخ فيهما، فيظهر من ذلك صوت. قوله: (تصفيقاً) أي ضرباً بأحدى اليدين على الأخرى. قوله: (أي جعلوا ذلك) إلخ، جواب عما يقال: إن المكاء والتصدية ليسا من جنس الصلاة، فكيف يصح استثناؤهما منها؟ فأجاب بأنهم كانوا يعتقدون أنهما من جنسها، فجرى الاستثناء على معتقدهم، كانوا يفعلون ذلك حين يشتغل النبي والمؤمنون بالصلاة وقراءة القرآن، كما حكى الله عنهم بقوله:﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ ﴾[فصلت: ٢٦].
قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ نزلت في كفار مكة، ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإن المشاهد في الكفار ذلك إلى يوم القيامة. قوله: ﴿ فَسَيُنفِقُونَهَا ﴾ أي يعلمون عاقبة إنفاقها. قوله: ﴿ ثُمَّ تَكُونُ ﴾ (في عاقبة الأمر) أي وهي عدم وصولهم لمقصودهم. قوله: ﴿ ثُمَّ يُغْلَبُونَ ﴾ التعبير بثم إشارة إلى أنهم يمهلون استدراجاً لهم، وزيادة حسرة لهم في العاقبة. قوله: (بالتخفيف والتشديد) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ جَمِيعاً ﴾ إما حال من الهاء في ﴿ فَيَرْكُمَهُ ﴾ أو توكيدها لها. قوله: (يجمعه متراكماً بعضه على بعض) ظاهر الآية أن هذا الجمع قبل دخولهم النار، وحينئذ فيكون بياناً لحالهم في الموقف كما تقدم أنه يكون سبعون الف قدم على قدم. قوله: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ ﴾ أي الخائبون في الدنيا وفي الآخرة. قوله: ﴿ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ ﴾ أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلغ الكفار ما ذكر. قوله: (كأبي سفيان وأصحابه) إنما خصهم لأنهم هم الباقون من كفار مكة، لأن الآية نزلت بعد بدر، وفيها قتل من قتل من صناديدهم، وبقي من بقي، فالخطاب لمن بقي. قوله: ﴿ إِن يَنتَهُواْ ﴾ (عن الكفر) أي بأن ينطقوا بالشهادتين صادقين مصدقين، فكلمة التوحيد سبب للانتقال من ديوان الأشقياء لديوان السعداء إذا علمت أن هذا الفضل لمن سبق له الكفر، فما بلك بمن لم يسبق له الكفر وعاش مؤمناً ومات كذلك، قال السنوسي: فعلى العاقل أن يكثر من ذكرها مستحضراً لما احتوت عليه المعاني، حتى تمتزج مع معناها بلحمه ودمه، فإنه يرى لها من الأسرار والعجائب ما لا يدخل تحت حصر. قوله: (من أعمالهم) أي السيئة وأعظمها الكفر. قوله: ﴿ وَإِنْ يَعُودُواْ ﴾ وأصل العود الرجوع عن الشيء بعد التلبس به، وحينئذ فيكون المعنى وإن يرتدوا عن الإسلام بعد تلبسهم به، ويصح أن يفسر العود بالاستمرار على الكفر. قوله: ﴿ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ ﴾ أي كعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ممن هلك، إن قلت: إن هؤلاء قد أصابهم الهلاك العام، وأما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فمحفوظة منه. وأجيب: بأن التشبيه في مطلق هلاك، وإن كان ما سبق عاماً وهذا خاص، والأقرب أن يراد بالأولين من سبق قبلهم من أولاد عمهم وأقاربهم ممن قتل ببدر، وجملة ﴿ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ ﴾ تعليل لمحذوف ولا يصلح للجواب، وتقدير الجواب: إن يعودوا نهلكهم كما أهلكنا الأولين.
قوله: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ ﴾ أي الكفار مطلقاً، مشركين أو غيرهم. قوله: ﴿ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ أي شوكة لأهل الشرك، أي بأن ينقرضوا رأساً، أو بدخولهم في الإسلام، أو بأن يؤدوا الجزية بدليل قوله تعالى﴿ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ ﴾[التوبة: ٢٩] إلى أن قال:﴿ حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ ﴾[التوبة: ٢٩] فالمكلف به مأخوذ من مجموع الآيتين. قوله: (توجد) أشار بذلك إلى أن كان تامة و ﴿ فِتْنَةٌ ﴾ بالرفع فاعلها. قوله: ﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ ﴾ ﴿ وَيَكُونَ ﴾ ناقصة و ﴿ الدِّينُ ﴾ اسمها و ﴿ لله ﴾ متعلق بمحذوف خبرها. قوله: ﴿ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ القراء السبعة على الياء التحتية، وقرأ يعقوب من العشرة بالتاء الفوقية. قوله: (فيجازيهم به) أي بالذي تعملونه من خير وشر. قوله: ﴿ وَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ أي اعرضوا ولم يمتثلوا. قوله: وَ ﴿ نِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ ﴾ هذا ثناء من الله على نفسه، فهو حمد قديم لقديم، والمعنى أن الله ينصر العبد ويشكره ولا يضيعه، بخلاف الناصر من الخلق، ينصر ويمنّ بذلك النصر. قوله: (هو) أشار بذلك إلى أن المخصوص بالمدح محذوف.
قوله: ﴿ وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ ﴾ تقدم أن الحق أن هذه الآية مفصلة لآية:﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ ﴾[الأنفال: ١] قوله: ﴿ مِّن شَيْءٍ ﴾ بيان لما ونكرة ليشمل الجليل والحقير، والشريف والوضيع. قوله: ﴿ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ﴾ بفتح الهمزة خبر لمحذوف، والتقدير فحكمه أم خمسه لله. قوله: (يأمر فيه بما يشاء) أي فالخمس يقسم ستة أقسام: قسم لله يصرف في الكعبة، والخمسة أقسام: للنبي، ولآله، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، وبذلك قال بعض الأئمة غير الأربعة، وقال الأربعة: إنه يقسم خمسة أقسام فقط للخمسة المذكورين، وذكر الله للتعظيم، وهذا ما كان في زمنه، وأما بعد وفاته، فالخمس الذي كان يأخذه النبي يوضع في بيت المال، يصرف في مصالح المسلمين، وهو كواحد منهم، وبهذا قال الشافعي، وقال مالك: النظر فيه للإمام، وقال أبو حنيفة: سقط سهمه وسهم القربى بوفاته، وصار الكل للثلاثة فقط. قوله: (من بني هاشم وبني المطلب) هذا مذهب الشافعي، وعند مالك: الآل بنو هاشم فقط، وعند أبي حنيفة فرق خمسة: آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس، وآل الحرث. قوله: ﴿ وَٱلْمَسَاكِينِ ﴾ المراد بهم ما يشمل الفقراء. قوله: (المنقطع في سفره) أي المحتاج ولو غنياً ببلده. قوله: (أي يستحقه النبي) إنما لم يقل الله، و(الْنَبِيَّ) إشار إلى أن ذكر اسم الله للتعظيم والتبريك، كم هو التحقيق. قوله: (من أن لكل) أي من الأصناف الخمسة. قوله: (والأخماس الأربعة) بيان لمفهوم قوله خمسة. قوله: (فاعلموا ذلك) أشار بذلك إلى أن جواب الشرط محذوف، لدلالة ما قبله عليه، والمراد علم ذلك مع العمل بمقتضاه، لأن العلم المجرد لا ثمرة له. قوله: (عطف على بالله) أي على مدخول الباء، وهو لفظ الجلالة. قوله: (من الملائكة) إلخ بيان لما. قوله: (الفارق بين الحق) أي بظهوره واتضاحه. وقوله: (والباطل) أي بخموده وذهابه. قوله: ﴿ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ ﴾ بدل من يوم الأول. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ كالتذييل والتدليل لما قبله. قوله: (بدل من يوم) أي الثاني بدل اشتمال. قوله: (بضم العين وكسرها) أي فهما قراءتان سبعيتان، والعدوة الشاطىء والشفير والجانب، سميت بذلك لأن السيل يعدوها ويتجاوزها لعلوها عن الوادي، والمعنى أنتم بالجانب القريب من المدينة، وهو بالجانب الآخر، وبينهما مقدار الرامي. قوله: (كائنون بمكان) ﴿ أَسْفَلَ مِنكُمْ ﴾ أشار المفسر إلى أن ﴿ وَٱلرَّكْبُ ﴾ مبتدأ خبره محذوف وقوله: ﴿ أَسْفَلَ ﴾ ظرف صفة لمحذوف، والمعنى أن ﴿ وَٱلرَّكْبُ ﴾ في مكان ﴿ أَسْفَلَ مِنكُمْ ﴾ بحيث لو استغاثوا بقومهم لأغاثوهم. قوله: ﴿ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ ﴾ أي أعلم كل منكم الآخر بالخروج للقتال. قوله: ﴿ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي ٱلْمِيعَادِ ﴾ أي لأماكن اختلافكم في التواعد، بمعنى انكم لم توفوا بذلك، بل قد تتخلفون عن الخروج. قوله: ﴿ لِّيَهْلِكَ ﴾ علة لمحذوف قدره المفسر بقوله: (فعل ذلك) وهو جمعهم بغير ميعاد، وإخراجهم بغير تأهل. قوله: (يكفر) أي يستمر على كفره. قوله: (أي بعد حجة) أشار بذلك إلى أن ﴿ عَن ﴾ بمعنى بعد، على حد قوله تعالى:﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ ﴾[الأنشقاق: ١٩]، والمعنى أنه لم يبق لهم عذر في عدم إيمانهم، بل صار كفرهم عناداً. قوله: ﴿ وَيَحْيَىٰ ﴾ أي يستمر على الحياة وهي الإيمان. قوله: ﴿ مَنْ حَيَّ ﴾ بالفك والإدغام، قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَسَمِيعٌ ﴾ أي بأقوالكم ﴿ عَلِيمٌ ﴾ فيجازيكم عليها.
قوله: ﴿ قَلِيلاً ﴾ مفعول ثالث، لأن رأي العلمية تنصب مفعولين بلا همز، فإذا دخلت عليها الهمزة نصبت ثلاثة، والمعنى اذكر يا محمد هذه النعمة العظيمة، وهي رؤيتك إياهم في المنام قليلاً، تشجيعاً لأصحابك وتثبيتاً لهم، وإشارة إلى ضعف الكفار، وأنهم يهزمون، وبهذا اندفع ما يقال: إن رؤيا الأنبياء حق، فكيف يراهم قليلاً مع كثرتهم. قوله: ﴿ وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً ﴾ أي وأخبرت أصحابك بذلك. قوله: ﴿ وَلَتَنَازَعْتُمْ ﴾ عطف على فشلتم، عطف سبب على مسبب. قوله: ﴿ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ سَلَّمَ ﴾ مفعوله محذوف قدره المفسر، وقوله: (من الفشل) إلخ، متعلق بسلم. قوله: (بما في القلوب) أي الخطرات والسرائر التي احتوت عليها القلوب، فالمراد بصاحبات الصدور والسرائر، و ﴿ ٱلصُّدُورِ ﴾ القلوب، من باب تسمية الحال باسم محله، قوله: ﴿ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ ﴾ هذه الرؤية بصرية، فتنصب مفعولاً واحداً إن لم تدخل عليها الهمزة، وإلا نصبت مفعولين، فالكاف مفعول أول، والهاء مفعول ثان، و ﴿ قَلِيلاً ﴾ حال. قوله: (أيها المؤمنون) تفسير للكاف. قوله: (وهم ألف) أي في الواقع ونفس الأمر. قوله: (لتقدموا عليهم) علة لقوله: ﴿ يُرِيكُمُوهُمْ ﴾ إلخ. قوله: (ليقدموا) علة لقوله: ﴿ وَيُقَلِّلُكُمْ ﴾.
قوله: (وهذا) أي تقليلكم في أعينهم. قوله: (أراهم) أي الكفار، (إياهم) أي المسلمين (مثليهم) أي مثلي الكفار وكانوا ألفاً، فرأوا المسلمين قدر ألفين، لتضعف قلوبهم، ويتمكن المسلمون منهم، فلا تنافي بين ما هنا، وبين ما تقدم. قوله: ﴿ لِيَقْضِيَ ٱللَّهُ أَمْراً ﴾ علة لمحذوف تقديره فعل ذلك ليقضي إلخ. قوله: ﴿ تُرْجَعُ ﴾ بالبناء للفاعل أو للمفعول، قراءتان سبعيتان، و ﴿ ٱلأُمُورُ ﴾ فاعل على الأول، ونائب على الثاني. قوله: (تصير) هذا على قراءة البناء للفاعل، وأما على قراءة البناء للمفعول، فمعناه ترد. قوله: ﴿ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً ﴾ أي حاربتم جماعة، والفئة اسم جمع لا واحد له من لفظه. قوله: ﴿ فَٱثْبُتُواْ ﴾ أمر للمؤمنين في أي زمان. قوله: (ادعوه بالنصر) أي فالمراد بالذكر ما يشمل الدعاء، ويصح أن يبقى الذكر على إطلاقه، فيشمل ملاحظته تعالى بالقلوب، وأنه معهم بالعون والنصر. قوله: ﴿ لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ ﴾ الترجي بمنزلة التحقق لأنه وعد ووعد الله لا يخلف.
قوله: ﴿ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ أي فيما يأمركم به. قوله: ﴿ فَتَفْشَلُواْ ﴾ عطف مسبب على سبب قوله: (تجبنوا) أي عن الحرب. قوله: ﴿ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ عطف مسبب على سبب أيضاً، وهذا على الترتيب، فالاختلاف ينشأ عنه الجبن، والجبن ينشأ عنه ذهاب الريح. قوله: (قوتكم) أي ويطلق على الغلبة والرحمة والنصرة. قوله: (ودولكتم) الدولة في الحرب بفتح الدال وجمعها دول بكسر الدال، وأما دولة المال فبضم الدال وجمعها دول بضم الدال. قوله: ﴿ وَٱصْبِرُوۤ ﴾ أي على قتالهم. قوله: ﴿ كَٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم ﴾ أي وهم أبو جهل ومن ذلك أنهم لما بلغوا الجحفة، وافاهم رسول الله أبي سفيان وقال لهم: ارجعوا فقد سلمت عيركم، فقال أبو جهل: لا والله حتى نقدم بدراً، ونشرب الخمر، وننحر الجزور، وتضرب علينا القيان، فيتسامع بذلك الناس ويهابوننا. قوله: (ليمنعوا عيرهم) أي ليمنعوا المسلمين عن قافلتهم التي كانت مع أبي سفيان. قوله: (ولم يرجعوا بعد نجاتها) قدره المفسر إشارة إلا أن ﴿ بَطَراً ﴾ وما عطف عليه علة لمحذوف لا، لقوله: ﴿ خَرَجُواْ ﴾ لأن خروجهم ليس للبطر، بل لمنع الناس عن العير، والبطر علة لعدم رجوعهم بعد نجاحها. قوله: ﴿ بَطَراً ﴾ هو وما بعده مفعول لأجله، والبطر كفران النعمة وعدم شكرها. قوله: (القيان) جمع قينة، وهي الجارية المغنية. قال ابن مالك: فعل وفعله قيام لهما. قوله: (فيتسامع بذلك الناس) أي القبائل فيهابوننا، وقد بدلهم الله شرب الخمور بشرب كأس الموت، وضرب القيان بنوح النائحات، ونحر الجزور بنحر رقابهم. قوله: ﴿ وَيَصُدُّونَ ﴾ عطف على بطرا، فهو في قوة المصدر أي وصداً، قال ابن مالك: واعطف على اسم شبه فعلى فعلاً. قوله: (بالياء والتاء) ظاهره أنهما سبعيتان وليس كذلك، بل الفوقية لم يقرأ بها السبعة ولا العشرة، فذكرها سبق قلم.
قوله: ﴿ وَإِذْ زَيَّنَ ﴾ عطف على ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ ﴾ عطف قصة على قصة ﴿ وَإِذْ ﴾ ظرف معمول لمحذوف قدره بقوله: (اذكر). قوله: (لما خافوا الخروج) أي لما خافوا من أعدائهم حين الخروج من مكة لقتالهم. قوله: (بني بكر) أي وهم قبيلة كنانة، وكانت قريبة من قريش، وبينهم الحروب الكثيرة. قوله: ﴿ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ ﴾ أي مجير ومعين. قوله: (وكان أتاهم) إلخ، قال ابن عباس: جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين، معه راية في صورة رجل من رجال بني مدلج سراقة بن مالك، فقال المشركين: لا غالب لكم اليوم من الناس. قوله: (ورأى الملائكة) أي نازلين من السماء. قوله: (أتخذلنا) أي تترك نصرتنا في هذه الحالة فعلى بمعنى في. قوله: (أن يهلكني) أي بتسليط الملائكة علي. إن قلت: إنه من المنظرين، فكيف يخاف الهلاك حينئذ؟ أجيب: بأنه لشدة ما رأى من الهول، نسي الوعد بأنه من المنظرين، وما أشار له المفسر جواب عما يقال، إن الشيطان لا خوف عنده، وإلا لما كفر وأضل غيره. وأجيب أيضاً بأن قوله: ﴿ إِنَّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ ﴾ كذب ولا مانع من ذلك. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴾ يصح أن يكون من جملة قول الشيطان واعتذاره، أو مستأنف تهديد له من كلام الله تعالى. قوله: ﴿ إِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ ﴾ أي الكائنون بالمدينة، وقوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ أي الكائنون بمكة، إذ لم يحضر وقعة بدر منافق، إلا عبد الله بن أبي فقط، ولم يكن فيها ضعيف إيمان. قوله: (توهماً) مفعول لخرجوا والضمير في (بسببه) عائد على الدين. قوله: (يغلب) قدره إشاره إلى أن جواب الشرط محذوف، وقوله: ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ دليل عليه. قوله: ﴿ وَلَوْ تَرَىٰ ﴾ الرؤية بصرية، ومفعولها محذوف تقديره حال الكفار وقت الموت. ﴿ وَلَوْ ﴾ حرف شرط تقلب المضارع ماضياً عكس إن. قوله: (بالياء والتاء) أي فهما قراءتان سبعيتان، فعلى الياء الأمر ظاهر، وعلى التاء فلأن الجمع يجوز تذكيره وتأنيثه. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ قيل المراد جمع الكفار من وجد وسيوجد، وقيل المراد الكفار الذين قتلوا ببدر، واختلف أيضاً في وقت الضرب، فقيل عند الموت تعجيلاً للمساءة، وقيل ذلك يوم القيامة، ولا مانع من الجميع. قوله: (حال) أي من الملائكة. قوله: ﴿ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ﴾ المراد أمامهم وخلفهم فيعمون جميع أجسادهم بالضرب. قوله: (بمقامع من حديد) جمع مقمعة بكسر الميم، وهي العصا من الحديد الممحاة بالنار، ولو وضعت على جبال الدنيا لدكت. قوله: ﴿ وَذُوقُواْ ﴾ قدر المفسر (يقولون) إشارة إلى أنه معطوف على ﴿ يَضْرِبُونَ ﴾ فهو حال أيضاً.
قوله: ﴿ ذٰلِكَ ﴾ اسم الإشارة مبتدأ، وقوله: ﴿ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ متعلق بمحذوف خبر، والباء سببية. قوله: (عبر بها) إلخ. دفع بذلك ما يقال إن إذاقة العذاب حاصلة، بسبب ما فعلوا بجميع أعضائهم، فلم خصت الأيدي؟ فأجاب بما ذكر، وبعضهم فسر الأيدي بالقدر جمع قدرة، فيكون المعنى ذلك، بسبب ما قدمته قدرتكم وكسبكم، فإن اليد تطلق ويراد بها القدرة، قال تعالى:﴿ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِ ﴾[الفتح: ١٠].
قوله: ﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ ﴾ معطوف على ﴿ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾، والمعنى ذلك بسبب ما قدمت أيديكم، وبسبب ﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّٰمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ ونفي الظلم عن الله كناية عن العدل، فكأنه قال ذلك بسبب الذي قدمته أيديكم، وبسبب عدل الله فيكم. قوله: (أي بذي ظلم) دفع بذلك ما يتوهم من ظاهر الآية، أن أصل الظلم ثابت لله، والمنفي كثرته، فأجاب المفسر بأن هذه الصيغة ليست للمبالغة بل للنسب، قال ابن مالك: ومع فعل وفعال فعل   في نسب أغنى عن اليا فقبلوحينئذ فقد انتفى أصل الظلم، بل لا يريده أصلاً، قال تعالى:﴿ وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ ﴾[آل عمران: ١٠٨] لأن الإرادة لا تتعلق إلا بالجائز، والظلم من الله مستحيل عقلاً، لأن حقيقة التصرف في ملك الغير من غير إذنه، ولا يتصور العقل ملكاً لغير الله. قوله: ﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾ الكاف متعلقة بمحذوف خبر لمبتدأ محذوف، قدره المفسر بقوله: (دأب هؤلاء) وهذا تسلية له صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ﴾ تفصيل للدأب وتفسير له، كما قال المفسر. قوله: ﴿ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ ﴾ أي أهلكهم، لكن هلاك غير هذه الأمة بالرجفة والزلزلة والكسف والمسح من كل عذاب عام، وهلاك كفار هذه الأمة بالسيف، فالمماثلة في مطلق الهلاك. قوله: ﴿ بِذُنُوبِهِمْ ﴾ الباء سببية. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴾ كالدليل لما قبله. قوله: (أي تعذيب الكفرة) أي بسبب ما قدمت أيديهم. قوله: ﴿ بِأَنَّ ٱللَّهَ ﴾ الجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر عن اسم الإشارة، والجملة تعليل لمجموع المعلول وعلته السابقين. قوله: ﴿ لَمْ يَكُ ﴾ مجزوم بسكون النون المحذوفة تخفيفاً، قال ابن مالك: ومن مضارع لكان منجزم   تحذف نون وهو حذف ما التزموأصله يكون دخل الجازم فسكنت النون فالتقى ساكنان، حذفت الواو لالتقائهما، ثم حذفت النون تخفيفاً. قوله: (يبدلوا نعمتهم كفراً) أي يتركوا ما يجب للنعم من شكرها والقيام بحقها، ويرتكبوا عدم الشكر، وعدم القيام بحقها، والمعنى يبدولون ما بهم من الحال إلى حال أسوأ منه، فتغيرت نعمة إمهالهم بمعاجلة العذاب لهم. قوله: ﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ ﴾ أي لأقوالكم عليم باحوالكم.
قوله: ﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾ إلخ، كرر تفصيلاً لما قبله، لأنه مقام ذم وهو كالمدح، البلاغة فيه الإطناب. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ أي كقوم نوح وهود، وقوم صالح وغيرهم. قوله: ﴿ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ﴾ أي بسببها. قوله: (قومه معه) أشار بذلك إلى أن المراد بآل فرعون هو وآله. قوله: ﴿ كَانُواْ ظَالِمِينَ ﴾ فيه مراعاة معنى كل، ولو روعي لفظها لقيل وكل كان ظالماً، وكل صحيح، وإنما روعي معناها مراعاة للفواصل. قوله: (ونزل في قريظة) أي حين قدم رسول الله المدينة، وعاهدهم أن لا يحاربوه ولا يعاونوا عليه، فنقضوا عهده وأعانوا عليه مشركي مكة بالسلاح ثم قالوا نسينا وأخطأنا، فعاهدهم الثانية، فنقضوا ايضاً، وتمالؤوا مع الكفار على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق. قوله: ﴿ إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ ﴾ في ذلك إشارة إلى أنهم بمعزل من جنسهم، وإنما هم من جنس الدواب ومع ذلك هم شر من جميع أفرادها، قال تعالى: و﴿ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ﴾[الفرقان: ٤٤].
قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ﴾ بدل من الموصول قبله، أو نعت أو عطف بيان. قوله: (لا يعينوا المشركين) أي كفار مكة، فنقضوا أولاً وثانياً. قوله: ﴿ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ ﴾ أي تظفرن بهم. قوله: ﴿ فَشَرِّدْ بِهِم ﴾ الباء سببية، والكلام على حذف مضاف، أي سبب عقوبتهم وتنكيلهم. قوله: ﴿ مَّنْ خَلْفَهُمْ ﴾ مفعول لشرد، والمراد بمن خلفهم كفار مكة، والمعنى إذا ظفرت بقريظة فعاقبهم، ليتفرق كفار مكة وغيرهم بمن نقض عهدك ويتعظوا بهم، فصيرهم عبرة لغيرهم، حتى لا يكون لهم قوة على محاربتك. قوله: ﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ ﴾ خطاب عام للمسلمين وولاة الأمور، وإن كان أصل نزولها في قريظة قوله: ﴿ فَٱنْبِذْ إِلَيْهِمْ ﴾ أي أعلمهم بأن لا عهد لهم بعد اليوم فشبه العهد بالشيء الذي يرمى، وطوى ذكر المشبه به، ورمز له بشيء من لوازمه وهو النبذ، فإثباته تخييل. قوله: (بأن تعلمهم به) أي لم يكن عذرهم ظاهراً طهوراً بينا، وإلا فلا يحتاج للإعلان. والحاصل: أنه إذا ظهرت أمارات نقض العهد، وجب على الإمام أن ينبذ عهدهم، ويعلمهم بالحرب قبل الركوب عليهم، بحيث لا يعد الإمام غادراً لهم، وإن ظهرت الخيانة ظهوراً مقطوعاً به فلا حاجة إلى نبذ العهد ولا الإعلام، بل يبادرهم بالقتال. قوله: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلخَائِنِينَ ﴾ تعليل للأمر بنبذ العهد. قوله: (ونزل فيمن أفلت) أي في الكفار الذين خلصوا وهربوا، وهذا تسلية لرسول الله وأصحابه، حيث حزنوا على نجاة من نجا من الكفار، وكان غرضهم استئصالهم بالقتل والأسر.
قوله: ﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ ﴾ الخطاب لرسول الله، والمعنى لا تظن يا محمد الذين كفروا فائتين الله وفارين من عقابه، إنهم لا يعجزونه، وهذا وإن كان في أهل بدر، إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وحسب تتعدى للمفعولين: الأول ﴿ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾، والثاني: جملة سبقوا، وهذا على قراءة التاء الفوقية، وأما على قراءة الياء التحتية، فالذين كفروا فاعل، والمفعول الأول محذوف تقديره أنفسهم كما قال المفسر، والمفعول الثاني جملة ﴿ سَبَقُوۤاْ ﴾.
قوله: (وفي قراءة بفتح أن) أي مع الياء التحتية لا غير، فالقراءات ثلاث، خلافاً لما يوهمه المفسر من أنها أربع: وحاصلها أن التاء فيها وجهان، فتح إن وكسرها، والياء فيها وجه واحد، وهو فتح أن لا غير. قوله: (تقدير اللام) أي التي للتعليل. قوله: ﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ ﴾ أي للكفار مطلقاً، أو لناقضي العهد. قوله: ﴿ مِّن قُوَّةٍ ﴾ بيان لما. قوله: (هي الرمي) هذا الحديث رواه عقبة بن عامر قال:" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: " ﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ ﴾ ألا إن القوة الرمي " ثلاثاً "، أخرجه مسلم وقيل: المراد بالقوة جميع ما يتقوى به في الحرب على العدو، من سلاح ورمي وخيل ورجال ودروع وغير ذلك، ولا منافاة بين هذا وبين قوله عليه الصلاة والسلام:" ألا أن القوة الرمي "، لأن المراد القوة الرمي على حد الحج عرفة، والندم توبة، وهذا هو الأحسن. قوله: (مصدر) أي سماعي، وإلا فالقياسي لما يقتضي الاشتراك، كقاتل وخاصم وضارب. قوله: ﴿ تُرْهِبُونَ بِهِ ﴾ أي بالرباط الذي هو بمعنى الربط. قوله: (أي كفار مكة) هذا باعتبار سبب نزول الآية، وإلا فالعبرة بعموم اللفظ، فالمراد جميع الكفارة في أي زمان. قوله: (وهم المنافقون) أورد عليه أن المنافقين لا يقاتلون. أجيب بأن المراد بإرهابهم، ادخال الرعب والحزن في قلوبهم، لأنهم إذا شاهدوا قوة المسلمين وشهامتهم، كان ذلك مرهباً ومخوفاً لهم. قوله: (أو اليهود) أو مانعة خلو، فتجوز الجمع. قوله: ﴿ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ﴾ أي لا تعلمون بواطنهم وما انطووا عليه. قوله: ﴿ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ أي في جهاد الكفار. قوله: ﴿ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ﴾ (جزاؤه) أي فالحسنة بسبعمائة، قال تعالى:﴿ مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ ﴾الآية. قوله: (تفقصون منه شيئاً) أي وسماه ظلماً لأن وعده بالخير لا يتخلف فكأنه واجب، وضده مستحيل، وليس المراد الظلم الحقيقي، لأنه التصرف في ملك الغير، ولا ملك لأحد معه،
قوله: ﴿ وَإِن جَنَحُواْ ﴾ أي الكفار مطلقاً وبنو قريظة، وعلى هذين القولين، يتخرج القول بالنسخ والقول بالتخصيص، الذي أشار له المفسر بقوله: (قال ابن عباس) الخ، وهذا مبني على أن المراد بالصلح عقد الجزية، وأما إن أريد بالصلح غيره من الهدنة والأمان فلا نسخ، إذ يصح عقد ذلك لكل كافر، وهذا التقرير مرور على مذهب الشافعي، من أن الجزية لا تضرب إلا على أهل الكتاب فقط، وقال مالك: إن الجزية تضرب على كل كافر صح سباؤه، كان من أهل الكتاب أو لا، فعلى مذهبه ليس في الآية نسخ أصلاً. قوله: (بكسر السين وفتحها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ ﴾ أي فوض أمرك له. قوله: ﴿ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ ﴾ تعليل لما قبله. قوله: ﴿ وَإِن يُرِيدُوۤاْ أَن يَخْدَعُوكَ ﴾ شرط حذف جوابه، تقديره فصالحهم ولا تخف من عذرهم. قوله: ﴿ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي قواك بأسباب باطنية، وهي نصره لك من غير واسطة، وبأسباب ظاهرية وهم المؤمنون. قوله: (بعد الإحن) جمع إحنة وهي العداوة والشحناء التي كانت بين الأوس والخزرج. قوله: ﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ﴾ أي بعد أن كان كان ما كان بينهم من البغضاء والعداوة والحروب العظيمة، مائة وعشرين سنة، حتى لو أن رجلاً من قبيلة لطم لطمة واحدة لقاتل عنه أهل قبيلته، حتى يدركوا ثأرهم، فلما آمنو برسول الله، زالت تلك الحالة، وانقلبت العداوة محبة في الله ورسوله، فكان معجزة عظيمة لرسول الله صلى الله عليم وسلم. قوله: ﴿ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ الخ، هذا امتنان من الله على نبيه بتلك النعمة العظيمة. قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَسْبُكَ ٱللَّهُ ﴾ قيل نزلت ببدر، فالمراد بالمؤمنين: الذين كانوا حاضرين وقعتها، فيكون في ذلك مدح عظيم لهم، ودليل على شرفهم، ويؤخذ من ذلك، أن المؤمنين إذا اجتمعت قلوبهم مع شخص لا يخذلون أبداً، وليس في ذلك اعتماد على غير الله، لأن المؤمنين ما التفت لهم إلا لإيمانهم وكونهم حزب الله، فرجع الأمر لله، وقيل: نزلت في إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بعد إسلام ثلاثة وثلاثين رجلاً وست نسوة، فيكون هو متماً للأربعين، فعلى الأول الآية مدنية كبقيتها، وعلى الثاني تكون الآية مكية، اثناء سورة مدنية، ولا مانع أنها نزلت مرتين بمكة يوم إسلام عمر، ومرة بالمدينة في أهل بدر. قوله: ﴿ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ ﴾ معطوف على لفظ الجلالة. قوله: ﴿ حَرِّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَى ٱلْقِتَالِ ﴾ أي مرهم أمراً أكيداً، أو رغبهم فيه. قوله: ﴿ إِن يَكُن مِّنكُمْ ﴾ إما تامة وفاعلها ﴿ عِشْرُونَ ﴾ و ﴿ مِّنكُمْ ﴾ حال، وإما ناقصة، فعشرون اسمها، ومنكم خبرها، وهكذا يقال فيما بعدها. و ﴿ يَكُنْ ﴾ وقع هنا خمس مرات: الأول والرابع بالياء بالياء لا غير، والثاني والثالث والخامس بالياء والتاء، كما سيأتي للمفسر، فيما سكت عنه فبالياء لا غير، وما نبه عليه ففية الوجهان. قوله: ﴿ صَابِرُونَ ﴾ أي محتسبون أجرهم عند الله، وهذا خبر بمعنى الأمر، لقلة المسلمين وكثرة الكافرين، وحكمة ذلك: التكليف أن المسلمين وليهم الله، فهم معتمدون عليه، ومتوكلون عليه، فبذلك الوصف كان الواحد مكلفاً بقتال عشرة، وأما الكفار فلا ناصر لهم، وهم معتمدون على قوتهم، وذلك داع للضعف والهزيمة، وفي الآية من المحسنات البديعية الاحتباك، وهو الحذف من كل نظير ما أثبت في الآخر، فقد اثبت صابرون في الأول، وحذف الين كفروا منه، وأثبت الذين كفروا في الثاني، وحذف لفظ الصبر منه. قوله: (وهذا خبر بمعنى الأمر) أي وقد كان هذا في صدر الإسلام، وكان فرار المائة من الألف حراماً، ثم نسخ. قوله: (بضم الضاد وفتحها) أي فهما قراءتان سبعيتان، والمراد الضعف في الأبدان، لكثرة العبادة والتعب، فرحمهم الله وأكرمهم، وأيضاً علم الله ضعف ما يأتي بعد الصدر الأول عن القتال، فخفف الله عن الجميع. قوله: (وهو خبر بمعنى الأمر) أي وقد استمر ذلك الأمر إلى يوم القيامة. قوله: (ونزل لما أخذوا الفداء من أسرى بدر) أي وكانوا سبعين من صناديدهم، روي" أنه لما جيء بالأسارى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما تقولون في هؤلاء؟ " فقال أبو بكر: يا رسول الله، أهلك وقومك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم، وخذ منهم فداء يكون لنا قوة على الكفار، وقال عمر: يا رسول الله، كذبوك وأخرجوك، قدمهم نضرب أعناقهم، مكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، ومكن حمزة من العباس يضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر، وقال ابن رواحة: انظر وادياً كثير الحطب، فأدخلهم فيه ثم أضرمه عليهم ناراً فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجبهم، ثم دخل، فقال ناس يأخذ بقول عمر، وقال ناس يأخذ بقول ابن رواحة، ثم خرج رسول الله علية الصلاة والسلام فقال: " إن الله ليلين قلوب رجال، حتى تكون ألين من اللبن، ويشد قلوب رجال، حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر مثل ابراهيم. قال ﴿ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ ومثل عيسى قال: ﴿ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴾ ومثلك يا عمر مثل نوح نوح قال: ﴿ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً ﴾ ومثل موسى: قَال ﴿ رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ وَٱشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ ﴾ الآية، ثم قال رسول: اليوم أنتم عالة، فلا يفلتن أحد منهم، إلا بفداء أو ضرب عنقه " قال عمر بن الخطاب: فهوى رسول الله ما قاله أبو بكر، ولم يهوه ما قلت، وأخذ منهم الفداء وهو عن كل واحد عشرون أوقية من الذهب، وقيل أربعون أوقية، إلا العباس فأخذ منه ثمانون أوقية عن نفسه، وعن ابني أخيه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث ثمانون، وأخذ منه وقت الحرب عشرون، فجملة ما أخذ منه مائة وثمانون أوقية، قال عمر: فلما كان من الغد جئت، فإذا رسول الله وأبو بكر يبكيان، قلت: يا رسول الله، أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله: أبكي للذي عرض لأصحابي من أخذهم الفداء، فقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة منه صلى الله عليه وسلم "فنزلت الآية، وهذا من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين، فرسول الله لن يعمل إلا ما أبيح له، وإنما عتابه تعليماً لمن يتولى الأمور من أمته حسن السياسة، من أنه لا يقبل الفداء من الكفار، حتى يكون قادراً عليهم، وظافراً بهم. قوله: (بالتاء والياء) أي فهما سبعيتان، لكن على الفوقية تتعين الإمالة في أسرى، وعلى التحتية تجوز الإمالة وعدمها.
قوله: ﴿ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ أي حتى تظهر شوكة الإسلام وقوته، وذل الكافرين. قوله: ﴿ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا ﴾ أي متاعها، سمي عرضاً لزواله وعدم ثباته. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ ﴾ أي يرضاها لكم. قوله: (وهذا منسوخ) أي قوله: ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ ﴾ هكذا مشى المفسر على هذا القول وهو ضعيف، بل ما هنا مقيد بالإثخان، أي كثرة القتال المترتب عليها عز الإسلام وقوته، وما يأتي في سوة القتال من التخيير محله بعد ظهور شوكة الإسلام حيث قال: فإذا اثخنتموهم فشدوا الوثاق، فإذا علمت ذلك، فالآيتان متوافقتان في أن كلاً يدل على أنه لا بد من تقديم الإثخان ثم بعده الفداء. قوله: ﴿ لَّوْلاَ كِتَابٌ ﴾ ﴿ لَّوْلاَ ﴾ حرف امتناع لوجود، و ﴿ كِتَابٌ ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾ صفة له، وكذا قوله: ﴿ سَبَقَ ﴾ والخبر محذوف تقديره موجود، والمعنى لولا وجود حكم من الله مكتوب بإحلال الغنائم لمسكم إلخ، فهو عتاب على ترك الأولى، لا على فعل منهي عنه، تنزيهاً لرسول أي أكلاً حلالاً. قوله: ﴿ طَيِّباً ﴾ أي خالصاً لا شبهة فيه.
قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّمَن فِيۤ أَيْدِيكُمْ مِّنَ ٱلأَسْرَىٰ ﴾ نزلت في العباس عم رسول الله، وكان أحد العشرة الذين ضمنوا أن يطعموا الناس الذين خرجوا من مكة لبدر، وكان معه عشرون اوقية من ذهب، فلما أخذ اسيراً أخذت منه، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحسبها من فدائه فأبى وقال له: شيء خرجت به لتستعين به علينا فلا نتركه لك، فقال العباس: يا محمد أتتركني اتكفف قريشاً ما بقيت؟ فقال رسول الله: فأين الذهب الذي وضعته عند أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا، فإن حدث بي حادث فهذا المال لك ولعبد الله ولعبيد الل وللفضل، فقال العباس: وما يدريك يا ابن أخي؟ فإني اعطيتها إياه في سواد الليل، ولم يطلع عليه أحد إلا الله، فقال: أخبرني به ربي، فقال: اشهد أن لا إله إلا الله، واشهد أنك عبده ورسوله، وأنك صادق، وامر ابني اخية عقيلاً ونوفل بن الحرث فأسلما، فنزل قوله تعالى: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ﴾ الآية، فكان العباس يقول: ابدلني الله خيراً مما أخذ مني، عشرين عبداً تجاراً يضربون بمال كثير، ادناهم يضرب بعشرين الفاً مكان العشرين اوقية، واعطاني زمزم، وما أحب أن لي بها جميع أموال اهل مكة، وأنا انتظر المغفرة من ربي. قوله: ﴿ مِّنَ ٱلأَسْرَىٰ ﴾ بالإمالة لا غير.. قوله: (وفيقراءة الأسرى) أي بالإمالة وتركها، فالقراءات ثلاث، وكلها سبعية. قوله: (من الفداء) بيان لما قوله: ﴿ خِيَانَتَكَ ﴾ أي بنقض العهد الذي عاهدوك عليه، وهو أن لا يحاربوك، ولا يعاونوا عليك المشركين. قوله: (بما اظهروا من القول) أي قولهم: (رضينا بالإسلام). قوله: (فليتوقعوا) هذا في الحقيقة جواب الشرط الذي هو قوله: ﴿ وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ ﴾.
قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ ﴾ أي سبق لهم الإيمان والانتقال مع رسول الله من مكة إلى المدينة، وهم السابقون الأولون الذين حضروا الغزوات قبل الفتح، الذين قال الله فيهم للفقراء المهاجرين﴿ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ ﴾[الحشر: ٨]: قوله: ﴿ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ﴾ متعلق بجاهدوا أي بذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ ﴾ (النبي) أي والمهاجرين، ولم يذكرهم المفسر لأنهم تبع لرسول الله. قوله: (وهم الأنصار) أي الذين قال الله فيهم﴿ وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾[الحشر: ٩].
قوله: (في النصرة والإرث) أي فكان الأنصار ينصرون المهاجرين وبالعكس، وكان المهاجري يرث الأنصاري الذي آخاه معه رسول الله وبالعكس. قوله: ﴿ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ ﴾ أي بأن أقاموا بمكة. قوله: (بكسر الواو وفتحها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ مِّن شَيْءٍ ﴾ (من) زائدة، و ﴿ شَيْءٍ ﴾ مبتدأ خبره الجار والمجرور قبله. قوله: (فلا إرث بينكم وبينهم) أي لا إرث بين المهاجرين والأنصار، وبين الذين لم يهاجروا. قوله: (ولا نصيب لهم في الغنيمة) اعترض بأن الغنيمة لا يأخذها إلى من قاتل، وهؤلاء لم يقاتلوا، فالأولى حذف هذه العبارة. قوله: (وهذا منسوخ) اسم الإشارة على ما تقدم، من أن الإرث بين المهاجرين والأنصار ثابت بالإيمان والهجرة، ومنفي بين من لم يهاجر وبين الأنصار والمهاجرين. قوله: (بآخر السورة) أي وهو قوله: ﴿ وَأْوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ ﴾قوله: ﴿ وَإِنِ ٱسْتَنصَرُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ ﴾ أي طلبوا منكم النصرة لأجل إعزاز الدين، والضمير عائد على ﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ ﴾.
قوله: ﴿ إِلاَّ عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ ﴾ أي من الكفار، وهم أهل مكة. قوله: (وتنقضوا عهدهم) أي الصلح الكائن بالحديبية سنة ست على ترك القتال عشر سنين. قوله: (في النصرة والإرث) أي فهما ثابتان بين الكفار بعضهم لبعض. قوله: (فلا إرث بينكم وبينهم) أي ولا نصرة. قوله: ﴿ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ ﴾ إن شرطية مدغمة في لا النافية، و ﴿ تَفْعَلُوهُ ﴾ فعل الشرط، و ﴿ تَكُنْ ﴾ جواب الشرط. والمعنى: إن لم تفعلوا ما ذكر من تولي المؤمنين وقطع الكفار، بل توليتم الكفار، وقطعتم المؤمنين، تكن فتنة في الأرض وفساد كبير، لأنه يترتب على ذلك، قوة الكفار، وضعف المسلمين، وهذا ما حل به المفسر، ويحتمل أن لا زائدة والمعنى: إن تفعلوا ما نهيتم عنه من موالاة الكفار وقطع المؤمنين. قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ ﴾ إلخ ليس مكرراً مع ما تقدم، لأن ما هنا بيان لفضلهم، وما تقدم بيان لكونهم أولياء بعض، وأيضاً ما تقدم في الهجرة قبل عام الحديبية، وما هنا في الهجرة قبل الفتح، وكان قبل الحديبية أو بعدها. قوله: ﴿ أُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً ﴾ أي الكاملون في الإيمان بلا شك. قوله: (لهم مغفرة) أي لذنوبهم. قوله: ﴿ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ أي لا تعب فيه ولا مشقة، ويؤخذ من هذه الآية أن جميع المهاجرين والأنصار مبشرون بالجنة من غير سابقة عذاب، وأما ما ورد من أن المبشرين عشرة، فلأنهم جمعوا في حديث واحد. قوله: ﴿ مِن بَعْدُ ﴾ أي بعد الحديبية قبل الفتح، ولأنه بعد الفتح لا هجرة. قوله: ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ مِنكُمْ ﴾ أي محسوبون منكم، وفي الآية دليل على أن المهاجرين الأولين أعلى وأجل من المتأخرين بالهجرة، لأن الله ألحقهم بهم، ومن المعلوم أن المفضول يلحق بالفاضل. قوله: ﴿ وَأْوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ ﴾ هذه الآية نزلت بعد الفتح، وهي ناسخة للآية المتقدمة، وهي ميراث المهاجرين للأنصار. قوله: (من التوارث) متعلق بأولى. قوله: (أي اللوح المحفوظ) وقيل المراد بها القرآن، لأن قسمة المواريث مذكورة في سورة النساء من كتاب الله وهو القرآن. قوله: (ومنه حكمة الميراث) أي التوارث بمقتضى الإيمان والهجرة بدون قرابة ونسخة والتوارث بالقرابة.
Icon