تفسير سورة الأنفال

بيان المعاني
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

عن ابن عباس قال: بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عنده جبريل عليه السلام إذ سمع نقيضا من فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء، فقال هذا باب من السماء قد فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال هذا ملك نزل من السماء إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته. وقدمنا أول هذه السورة من الأحاديث ما يؤكد فضلها ويؤيد نفعها، فلا بدع إن شفى الله ببركتها المصروع وغيره، وقد ختم الله هذه السورة الجليلة بمعنى ما بدأه بها من صفات المؤمنين الفاضلة، وجل صنوف الأحكام والشرائع والمواعظ والحكم في تضاعيفها حسبما قضته حكمته البالغة من سنن وقواعد تربط الأسباب بالمسببات والمقدمات بالغايات، وبين فيها ما يجعل النفس البشر قادرة على التصرف في كثير من مخلوقاته لتستفيد من القوى التي وهبها لها ومما سخر لها من الحيوان والمعادن لتتمكن من أداء مهمتها في الأرض وإعمارها. هذا ويوجد سورة المؤمن المارة في ج ٢ مختومة بما ختمت به هذه السورة فقط. والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تفسير سورة الأنفال عدد ٢ و ٩٨ و ٨
نزلت بالمدينة بعد سورة البقرة عدا الآيات من ٣٠ إلى ٣٦ فإنها نزلت بمكة.
وهي خمس وسبعون آية، وألف وخمس وسبعون كلمة، وخمسة آلاف وثمانون حرفا.
لا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به هذه السورة في القرآن العظيم، ويوجد سورتان مختومة بما ختمت به النساء والنور، ومثلها في عدد الآي سورة الزمر فقط.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال تعالى يا سيد الرسل إن قومك
«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ» هي غنائم الحرب «قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ» لا يحكم بتقسيمها أو تخصيصها أحد غيرهما «فَاتَّقُوا اللَّهَ» أيها المؤمنون، ولا تختلفوا فيها أو تتخاصموا من أجلها، بل اتركوها لمن وهبها لكم وفوضوا الأمر فيها لله
270
والرسول «وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ» واتركوا الشقاق وكونوا متآخين مجتمعين على كلمة الحق بينكم أنفسكم وبينكم وبين ربكم ولا تستبدوا بشيء أبدا حتى يقضى لكم فيه «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ١» بهما إيمانا صحيحا كاملا في القول والفعل والنية.
مطلب في الأنفال وكون الإيمان يزيد وينقص وقصة بدر ورؤيا عاتكة وتعهد الشيطان:
واعلم أن سبب نزول هذه الآية ما روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال:
قتل أخي عمير يوم بدر فقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه، فأعجبني، فجئت به رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلت إن الله قد شفى صدري من المشركين، فهب لي هذا السيف، فقال ليس هذا لي ولا لك، اطرحه في القبض (أي مجمع الغنائم المسماة بالأنفال جمع نفل) فطرحته وفي ما لا يعلمه إلا الله تعالى من قتل أخي وأخذ سلبي، فما جاوزت إلا قليلا حتى جاءني رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقد أنزلت سورة الأنفال، فقال يا سعد إنك سألتني السيف وليس لي وانه قد صار لي فاذهب فخذه- أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح- وأخرجه مسلم في حديث طويل قال: فأخذته وذهب ما كان يحوك في صدري، وعلمت أن حضرة الرسول لم يمنعه مني لأمر آخر، وإنما أراد قضاء الله في ذلك وغيره. ومن الطاعة أن لا يقول الرجل لولي أمره في شيء فعله لم فعلته، ولا في شيء لم يفعله لم لا تفعله أبدا. وليعلم بأنه أعم بما يفعل وبما لا يفعل، وما تؤول إليه العاقبة وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي والبيهقي وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما كان يوم بدر قال النبي صلّى الله عليه وسلم من قتل قتيلا فله كذا وكذا، فأما الشيخة فثبتوا تحت الرايات، وأما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم، فقالت الشيخة للشبان أشركونا معكم فإنا كنا رداءا ولو كان منكم شيء للجأتم إلينا، فاختصموا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فنزلت.
واخرج أحمد وابن جرير وابن مردويه والبيهقي في السنن وغيرهم عن أبي أمامة قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل، فساءت فيه أخلاقنا، فانتزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول
271
الله. وهذا أولى بأن يكون سببا للنزول، لأنه لو لم يكن اختلاف وتخاصم في النفل لما وقع السؤال عنه، ولما قال تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) إذ لا حاجة إلى التحذير والأمر بالصلح بعد الجواب. وقد جاءت روايات متعددة بشأن السيف المذكور على خلاف ما جاء في حديث سعد، ولذلك قالوا إنه أي الحديث الذي رواه سعد المار ذكره مضطرب، لأن البخاري أخرج في ناسخه عن سعيد بن جبير أن سعدا ورجلا من الأنصار خرجا يتنقلان، فوجدا سيفا ملقى، فخرا عليه جميعا، فقال سعد هو لي، وقال الأنصاري هو لي، لا أسلمه حتى آتي رسول الله، فأتياه فقصّا عليه القصة، فقال عليه الصلاة والسلام ليس لك يا سعد، ولا للأنصاري، ولكنه لي، فنزلت. وأخرج عبد ابن حميد وأبو الشيخ وابن مردويه وغيرهم عن سعد أنه قال أصاب رسول الله غنيمة فإذا فيها سيف فأخذته فأتيت رسول الله فقلت نفلني هذا السيف، فأنا من علمت، فقال ردّه من حيث أخذته، فرجعت به حتى أردت أن ألقيه في القبض لا متني نفسي، فرجعت إليه فقلت أعطنيه، فشد لي صوته وقال ردّه من حيث أخذته، فأنزل الله هذه الآية.
فالاختلاف في هذه الروايات ينفي الاعتماد على ذلك، وسياق الآية يوافق رواية ابن عباس والعمدة عليها لا على ما رواه سعد والحادثة وقعت بعد الرجوع من بدر ويؤكدها جمع الغنائم وجعلها في القبض ثم تقسيمها بمعرفة الرسول على المسلمين، ويدل عليها حديث عبادة بن الصامت المار ذكره. والنفل هو ما ينفله الغازي أي يعطاه زائدا على سهمه من المغنم، كان يقول الإمام تحريضا على البلاء في الحرب من قتل قتيلا فله سلبه، أو يقول لسرية ما أصبتم فهو لكم أو نصفه أو ربعه، وهذا لا يخمس، إذ يلزم الإمام الوفاء بوعده وهو مما يزيد في عزم المجاهد وحزمه وتقدمه لكل سرية، لأنه إذا علم أن ما يصيبه يكون له يزداد رغبة في لقاء الأعداء وهمة ونشاطا في خوض الحرب زيادة على رغبته في إعلاء كلمة الله وطاعة رسوله والشهادة في الآخرة. واعلم أن استباحة الغنائم من خصائص هذه الأمة، لأنها كانت حراما على من قبلها فتكون شريعة هذه الأمة ناسخة لشرائع من قبلها من الأنبياء ومخصصة لآية الخمس الآتية، وهي محكمة غير منسوخة بها كما قال عبد الرحمن
272
ابن زيد قول لابن عباس، وعلى هذا فإن معناها أن الغنائم لله ورسوله يضعها حيث يشاء، وقد بين الله تعالى مصارف الغنائم في آية الخمس بدليل ما صح من حديث بن عمر: بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم في سرية فغنمنا إبلا فأصاب كل واحد منا اثني عشر بعيرا وفضّلنا بعيرا. - أخرجاه في الصحيحين- وعليه فإن للإمام أن ينفل ما شاء بما يشاء ولمن شاء قبل التخميس، وإن حادثة بدر هذه أول حادثة وقعت بين حضرة الرسول نفسه وأصحابه وبين مشركي العرب من أهل مكة، وهي أول حرب شهدها حضرة الرسول. قال تعالى «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ» خافت وضعفت هيبة لجلال ربهم واستعظاما لعزة سلطانه «وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً» ويقينا وطمأنينة تفيد هذه الآية أن الإيمان يزيد وينقص وهو ما اعتمدته قبلا وذكرت أن الخلاف فيه بين الأشاعرة والماتريدية لفظي، لأن الإيمان من حيث هو إيمان لا يزيد ولا ينقص، ومن حيث الأعمال فلا شك أنه يقبل الزيادة ويتعرض للنقصان، لأن ذا الأعمال الصالحة أكمل إيمانا من غيره، فإذا كان الإيمان تصديقا بالقلب وإقرارا باللسان واعتقادا بالجنان فمن هذه الحيثية لا يزيد ولا ينقص، وإذا كان مع ذلك عملا بالأركان وفعلا بالجوارح فإنه يزيد وينقص حتما، وإذا قبل الزيادة فإنه يقبل النقص، فلا وجه لقول من يقول إنه يقبل الزيادة فقط. ولهذا أجاز الشافعي للرجل أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وأوجب أبو حنيفة أن يقول: أنا مؤمن حقا وأن من وصل الاستثناء في هذه الجملة فهو مشرك في إيمانه، وقدمنا في الآية ٥ من سورة البقرة المارة ما يتعلق في هذا البحث بصورة واضحة، وله صلة في الآية ١٢٥ من سورة التوبة الآتية فراجعها. ثم زاد في وصف أولئك المؤمنين فقال «وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» (٢) في أمورهم فلا يخشون ولا يرهبون غيره، ولا يعتمدون إلا عليه. هذا، ولما كان الخوف والرجاء والخضوع والخشية عند ذكر الله تعالى وزيادة الإيمان واليقين عند تلاوة القرآن والتوكل على الله والتفويض إليه عند العزم على الأعمال والأفعال، وهذه كلها من أعمال القلوب، وهي من كنوز البر التي عدها الإمام الشافعي رحمه الله في قوله:
273
يا من تعزز بالدنيا وزينتها والدهر يأتي على المبنيّ والباني
ومن يكن عزّه الدنيا وزينتها فعزّه عن قليل زائل فاني
واعلم بأن كنوز الأرض من ذهب فاجعل كنوزك من برّ وإحسان
ثم أتبعها بما هو من أعمال الجوارح فقال جل قوله «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ» بأوقاتها مكملين شروطها وأركانها «وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) » في وجوه البر والقربات «أُولئِكَ» الجامعون لهذه الصفات الخمس الحسيّة والمعنوية «هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا» وصدقا الكاملو الإيمان قولا فعلا «لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ» في جنته العالية على حسب كمال إيمانهم وصلاح أعمالهم «وَمَغْفِرَةٌ» لذنوبهم بأن يبقيها مستورة في الدنيا فيما بينه وبينهم ولا يفضحهم عليها بالآخرة كرما منه، ولا يؤاخذهم بها «وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) » لهم في مقعد صدق لا يكدره كد الكسب وهم المعيشة، ولا يشوبه خوف الحساب، ولا يعتريه توهم الفقر، ولا يتطرق إليه مظنة النفاد، الملازمات لرزق الدنيا. وان ما ذكر هو للمؤمنين بالآخرة حق لا مرية فيه «كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ» من المدينة إلى بدر إخراجا «بِالْحَقِّ» الوحي إليك من لدنه. وهذه الآية هي المشيرة إلى غزوة بدر التي وعد الله بها رسوله النصر، وهي مرتبطة بالآية الأولى من هذه السورة، وما بينهما من الآيات معترضات فهي من باب المقدم والمؤخر «وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» بك وبربك وكتابك من أصحابك «لَكارِهُونَ (٥) » خروجهم معك لقتال أعدائك الكافرين بسبب قلة عددهم وعددهم، ولم يعلموا أن الذي أخرجك من بيتك ما أخرجك إلا ليجعل النصر حليفك والظفر قرينك «يُجادِلُونَكَ» كراهية القتال، لأنهم لم يتمرنوا عليه، ويتصورون بأنفسهم أنك لم تدرب على القتال أيضا، لأنهم لم يعهدوك قاتلت قبل، وإن جدالهم لك «فِي الْحَقِّ» الذي أمرناك به «بَعْدَ ما تَبَيَّنَ» لهم أنك لا تعمل شيئا من نفسك لا يليق بهم بعد ما رأوا من صدقك وعدم استدراك شيء من عندك، وتراهم وهم سائرون معك «كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) » الموت بأعينهم، شبه حالهم في فرط فزعهم بحال من يقدم للقتل وهو ينظر إلى دواعيه ويعلم أنه ميت، ولا أبلغ من هذا
274
التشبيه أبدا «وَ» اذكر يا سيد الرسل لقومك نتيجة ما هم كارهون الذهاب إليه مقدما، ليطمئنوا ويسكن فزعهم، وقل لهم «إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ» في غزوتكم هذه التي أنتم كارهون الذهاب إليها «إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ» طائفة أبي سفيان مع العير أو طائفة أبي جهل مع النفير «أَنَّها لَكُمْ» وان الله يعلمه أيهما تختارون «وَتَوَدُّونَ» أيها المؤمنون المتقاعون عن الذهاب مع رسولكم «أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ» أي طائفة أبي سفيان والعير «تَكُونُ لَكُمْ» إذ لا سلاح فيها ولا قتال، لأنكم تجنحون إلى سفساف الأمور طلبا للفائدة العاجلة «وَيُرِيدُ اللَّهُ» لكم طائفة أبي جهل والنفير لتقاتلوهم وتكسروا شوكنهم، لأن الله يختار لكم معالي الأمور من النصر وعلو الكلمة ليعلي شأنكم «أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ» التي سبقت بوعد النصر إلى رسوله والظفر بأعدائه «وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ» (٧) ويهلكهم فلا يبقي لهم شأنا، ويريد أيضا «لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ» فيمحقه ويدحضه فيمحو الكفر ويظهر الإسلام ويثبته «وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨) » ذلك وهو كائن لا محالة رغم أنوفهم. قال ابن عباس وغيره في سبب نزول هذه الآيات: إن أبا سفيان أقبل من الشام في أربعين راكبا من قريش ومعهم تجارة كبيرة، وقد أخبر الله بهم نبيه صلّى الله عليه وسلم، فانتدب لهم أصحابه، فخف بعضهم وثقل بعضهم لظنهم أنه لم يلق حربا بعد، ولم يعلموا أن الله تعالى علمه كل شيء، كما ظهر لهم بعد، فسمع أبو سفيان بمقدم الرسول وأصحابه، فأرسل قمقما بن غراز الغفاري ليستفز أهل مكة ويخبرهم الخبر، فرأت عاتكة بنت عبد المطلب رؤيا قصتها على أخيها العباس وهي أنها رأت راكبا وقف بالأبطح وصرخ بأعلى صوته ألا فانفروا يا غدر إلى مصارعكم في ثلاث، وان الناس اجتمعت اليه ودخلوا المسجد ثم صرخ ذلك الصارخ من أعلى الكعبة وعلى رأس أبي قبيس بما صرخ به أولا، وأرسل صخرة أرفضت بأسفل الجبل لم يبق بيت إلا دخله فلقة منها، فقال اكتمها انها لفضيلة، وذكرها للوليد بن عتبة، واستكتمه إياها فذكرها الوليد لأبيه وفشت في قريش، وكل سرّ جاوز الاثنين شاع، أي خرج من الشفتين، إذ في كتمانه بقاؤه في القلب، وقيل جاوز الرجلين وليس بشيء لأنه إذا جاوز
275
صاحبه فشا فكيف بغيره، راجع الآية ٧ من سورة الروم ج ٢، قالوا ثم بينما العباس يطوف بالبيت استدعاه أبو جهل بن
هشام فقال له يا بني عبد المطلب ما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم، سنتربص هذه الثلاث التي ذكرت عاتكة في رؤياها، فإن كانت حقا فيكون، وإلا سنكتب كتابا بأنكم أكذب أهل بيت في العرب، ولما لم يرد عليه العباس جاءه نساء بن المطلب وقلن له أقررت لهذا الخبيث أن يقع في رجالكم حتى تناول النساء، ولم يكن عندك غيره، فذهب في اليوم الثالث وأقسم ليتعرضنّه، ودخل المسجد وأراد أن يمر عليه، فإذا هو يسمع صوت قمقم يصيح يا معشر قريش اللطيمة تعرض محمد لأموالكم، ولا أرى أنكم تدر كونها الغوث الغوث، وقد جدع بعيره وحول رحله وشق قميصه، وهذه من شأن المستغيث المستهلك علامة عندهم على صدق أخباره، قال فشغل عني وتجهز أشراف قريش إلا أبا لهب أرسل عنه العاص بن هشام بن المغيرة، وقد اجتمعت للسير، ثم ذكرت بعضها ما بينها وبين بني بكر بن عبد مناف بن كنانة من الحروب، وخافت أن تخلفهم على أموالهم ونسائهم، فتصوّر لهم الشيطان بصورة سراقة بن مالك بن خشعم من أشراف بني بكر، وقال لهم إني جار لكم من كنانة كما سيقصه الله بعد في الآية ٤٧ من هذه السورة، وخرجوا مسرعين، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأصحابه لليال مضت من رمضان، وأتاه الخبر بمسير قريش، فأرسل العيون ثم نزل عليه جبريل في هذه الآية وما بعدها، فاستشار أصحابه إلى أيهما يمضي أللعير أم للنفير، فقال أبو بكر وعمرو المقداد، امض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، ولا نقول كما قال بنو إسرائيل لموسى، فوالذي بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى برك الغمار (مدينة بالحبشة) لجادلنا معك من دونه حتى نبلغه. فدعا لهم بخير، ثم قال أشيروا علي أيها الناس، فقال سعد بن معاذ كأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال أجل (وذلك أنه لم ير على الأنصار وجوب نصرته خارج بلادهم ولم يعاهدهم أو يعاهدونه على ذلك، فأحب أن يختبرهم، لأن مبايعته لهم كانت مختصرة على ما يقع عليه في ديارهم)، قال امض لما أمرت به يا رسول الله فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما يتخلف منا أحد، وإنا
276
لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء ولعل الله أن يريك منا ما تقرّ به عينك، فسرّ بذلك وساروا على بركه الله. روى مسلم عن أنس بن مالك أن عمر بن الخطاب حدثه عن أهل بدر، قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس، يقول هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غدا إن شاء الله، وهذا مصرع فلان غدا إن شاء الله، فوالذي بعثه بالحق ما أخطئوا الحدود التي حدها رسول الله لهم. قال فجعلوا في بئر بعضهم على بعض، فانطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى انتهى إليهم، فقال: يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا؟ فإني قد وجدت ما وعدني الله حقا، فقال عمر يا رسول الله كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها؟ فقال ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علي شيئا راجع الآية ٢٢ من سورة فاطر في ج ١ والآية ٤٦ من سورة المؤمن في ج ٢ تجد ما يتعلق في هذا البحث. قال تعالى «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ» في قتال بدر. وقد خاطبه الله تعالى بلفظ الجمع تعظيما لحضرته. روى مسلم عن ابن عباس، قال حدثني عمر بن الخطاب قال:
لما كان يوم بدر نظر رسول الله إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله القبلة ثم مد يده فجعل يهتف بربه يقول اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض، فما زال يهتف بربه مادا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبه، فأتاه أبو بكر فأخذ بردائه وألقاه على منكبه، ثم التزمه من ورائه وقال يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك إن شاء، فأنزل عليه «فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) » غيرهم وراءهم مثلهم أو أكثر، لأن الردف أغلبه واحد، وقد يكون اثنين عند البشر، أما الملائكة فلا تحديد لردفهم. واعلموا أيها المؤمنون أن هذا الإمداد ما كان «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى» لكم بالنصر والظفر «وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ» هيئه وأرسله إليكم «وَمَا النَّصْرُ» في الحقيقة لكم «إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» لا من الملائكة ولا من غيرهم وإنه لو لم يرسلهم لنصركم بأمر من عنده
277
تحقيقا لوعده، وما كان إمدادكم بهم للنصر، وإنما هو للاطمئنان والبشارة فقط «إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» منيع الجانب قوي غالب لا يقهره شيء «حَكِيمٌ (١٠) » في تدبيره ونصره لأوليائه على أعدائه. روى البخاري عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال يوم بدر (بعد ما ناشد ربه) هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب.
قال ابن عباس كان سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض، ويوم حنين عمائم خضر، ولم تقاتل الملائكة في يوم من الأيام سوى يوم بدر، وكانوا يكونون فيما سواه عددا ومددا.
واذكر يا محمد لقومك أيضا «إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ» من الله لكم من عدوكم طمأنينة لقلوبكم ورأفة لأنفسكم وإزالة لرعبكم إذ كنتم في سهر من خوف عدوكم، وهذه نعمة عظيمة، لأن وقوعه في الحرب أمر خارق للعادة، لأن زمن الحرب وقت رهبة وخشية لا يتصور فيه حدوث النوم «وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ» ويطفىء غبار الأرض ويلبدها، وذلك أن المشركين سبقوهم إلى بدر ونزلوا عليه، ونزل المسلمون على كثيب رمل ولا ماء عندهم، وأصبحوا لا يجدون ما يشربون ولا ما يتوضئون ويغتسلون به، فلما أرسل لهم المطر طابت نفوسهم واستدلوا بهذه النعمة الثانية على أن الله تعالى ناصرهم على عدوهم «وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ» ثقله الحاصل على أثر انتباهكم من النوم ووسوسته التي ألقاها في قلوب بعضكم من أنه لو كنتم أولياءه لما غلبكم المشركون على الماء. وقال بعض المفسرين انهم كانوا مجتبين بدليل التشديد في قوله (لِيُطَهِّرَكُمْ) إذ يطلق غالبا على المبالغة في الطهارة ويراد بها الجنب، ولكن التفسير الأول أولى لأنه يشمل الجنب وغيره «وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ» برباط الصبر حتى لا يدخلها الجزع، والربط هو الشد فكل من صبر على أمر فقد ربط نفسه «وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١) » لئلا تسوخ في الرمل فضلا عن تلبده وتقويته ومنع الغبار من الأرض، وأذكر أيضا «إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ» بالنصر والمعونة والهيبة والهداية والروعة والدهشة في قلوب الأعداء «فَثَبِّتُوا» أيها الملائكة وقروا قلوب «الَّذِينَ آمَنُوا» بتكثير سوادهم وقتال أعدائهم، ولا ترعووا فإني «سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ» منكم والخوف
278
في قلوبهم، ولما لم تعرف الملائكة كيفية القتل علمهم الله تعالى بقوله «فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ» أي رءوس المشركين «وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) » الأطراف والمفاصل، وأصل البنان رءوس الأصابع ولكنها تطلق على ما ذكر من إطلاق الجزء وإرادة الكل، وخصت بالذكر لأن الفارس يمسك بها سلاحه ويقاتل بها، ومن قال إن الضمير في (فَاضْرِبُوا) يعود للمؤمنين فلا يكاد يصح لما فيه من البعد ومخالفتة سياق التنزيل ومغايرته للخطاب في سياق الآية وسياقها، ومما يؤيد هذا ما قاله ابن عباس: بينما رجل من المسلمين يومئذ (يوم بدر) يشتد (يعدو من عدا إذا أسرع) في إثر رجل من المشركين أمامه، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول أقدم حيزوم، إذا نظر إلى المشرك أمامه خرّ مستلقيا، فنظر إليه فإذا قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السيف، فأحصى ذلك أجمع، وجاء فحدث بذلك رسول الله، قال صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة، فنصرهم الله نصرا مؤزرا، وقتلوا سبعين، وأسروا سبعين مثلهم من المشركين، وهذا القتل والأسر يعد كثيرا جدا بالنسبة لذلك الزمن وعدده وعدده، وانتهت المعركة بهذا وأعز الله جنده، وصدق وعده ونصر عبده. وما روي عن أبي داود المازني وكان شهد بدرا قال: إني لأتبع رجلا من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أن قد قتله غيري. وما روي عن سهل بن الأحنف قال:
لقد رأيتنا يوم بدر وان أحدنا يشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف. وروى مقسم عن ابن عباس قال: كان الذي أسر العباس أبو اليسر كعب بن عمرو أخو ابن سلمة، وكان رجلا مجموعا، وكان العباس جسيما، فقال صلّى الله عليه وسلم لقد أعانك عليه ملك كريم. لِكَ»
الذي وقع لكم من النصر والظفر أيها المؤمنونِ أَنَّهُمْ»
أي المشركينَ اقُّوا»
خالفوا وجادلوا وخاصمواللَّهَ وَرَسُولَهُ»
وجانبوهما وصاروا في شق عنهماَ مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ»
القادر من إيقاع القهر والانتقامَ رَسُولَهُ»
المؤيد من لدنه بالنصر والإحكامَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) »
لهذا المخالف في الدنيا والآخرة وهو صعب الأخذ (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) راجع الآية ١٠٣ من سورة هود في ج ٢. هذا، وليعلم
279
أن ما أصابهم من القتل والأمر والنهب والسبي ليس بشيء بالنسبة لما خبىء إليهم من العذاب «ذلِكُمْ» الذي أصابكم من الغلب والاندحار «فَذُوقُوهُ» معجلا لكم أيها المشركون «وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ» منكم الذين يموتون على كفرهم عذاب أشد وأقسى وأعظم وهو «عَذابَ النَّارِ» (١٤) في الآخرة التي لا تقواها القوى البشرية. ولما فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم من حادثة بدر قيل له إذ وفقك الله على النفير فعليك بالبعير إذ تركت وليس دونها أحد، قال قتادة فناداه العباس من وثاقه لا يصلح لك، لأن الله وعدك إحدى الطائفتين، وقد أعطاك ما وعدك، قال صدقت- أخرجه الترمذي-. وكانت هذه الحادثة يوم الجمعة في ١٧ رمضان السنة الثانية من الهجرة. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً» قادمين عليكم، والزحف انبعاث مع جر الرجل كانبعاث الصبي قبل أن يمشي (وتقول العامة يحبو) وسمي به الجيش الدّهم المتوجه إلى العدو لتكاثفه، فيرى لكثرته كأنه يزحف زحفا إذ يكون كالجسم الواحد في تراصه، فيظن رائيه أنه بطيء الحركة مع أنه مسرع، انظر إلى فلكة المهواية ودواليب المحركات وصدور الرحى وكل متناه في السرعة تراه كأنه واقفا، قال تعالى (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) الآية ٨٨ من سورة النمل في ج ١، وقيل في المعنى:
وأرعن مثل الطود تحسب أنه وقوف لجاج والركاب تهملج
أي إذا رأيتم أيها المؤمنون أعداءكم مقبلين عليكم على هذه الصورة فاستقبلوهم بصدوركم «فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) » فتنهزمون أمامهم وتعطونهم ظهوركم فإنهم يستخفونكم ويلحقونكم فيدركونكم ويستأصلونكم، ثم هدد الله تعالى الهارب من عدوه على هذه الصفة بقوله «وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ» ظهره فرارا منهم يوم الزحف واشتداد المعركة «إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ» بأن يري عدوه الانهزام بقصد الكرة عليه أو يستدرجه فيطوقه من ورائه أو ينوي ضربا آخر من ضروب الحرب ومكايده وخدعه، لأن الحرب خدعة يجوز فيه ما لا يجوز في غيره، لأنه بعد أن استحل فيه سفك الدماء فلأن يحل فيه غيره من باب أولى.
280
ثم ذكر جل شأنه عذرا آخر في جواز الانسحاب إلى الوراء في اشتداد أزمة الحرب فقال «أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ» بقصد الانضمام إلى جماعة يريدون الهجوم على العدو من جهة أخرى، أو يريدون قتاله من مكان آخر، أو يريد أن يجابه العدو مع تلك الجماعة، أو بضرب آخر من فنون الحرب التي يراها، فهاتان الحالتان وما يتفرع عنهما جائز فيهما وفيما يراه من الطرق الأخرى التقهقر والهروب صنيعة بل هما مطلوبتان لما فيهما من النفع ومثاب عليهما فاعلهما، أما إذا كان انهزامه لمجرد الخوف والرهبة «فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ» والعياذ بالله، فإنه يرجع بالذم في الدنيا والعقاب في الآخرة بدل المدح والسعادة في الدنيا والشهادة والرضاء في الآخرة، لأن فعله هذا يكسر معنويات الجيش ويقوي جنان العدو فيسبب الذل والهوان والخزي والعار في الدنيا «وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ» في الآخرة «وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) » مصير أهلها ولما نصر الله عباده في واقعة بدر وكان ثابتا في علمه أنهم سيلاقون حروبا أخرى، وانها قد تكون سجالا بينهم (أي لهم وعليهم) فقد حثهم في هذه الآية على الثبات وحذرهم من الهزيمة، وهذه الآية محكمة وحكمها عام في كل منهزم إلى يوم القيامة لأنها مصدرة بخطاب المؤمنين ومطلقة باقية على إطلاقها لم تخصص ولم تقيد، وقد جاء في الحديث الصحيح أن الفرار من الزحف من السبع الموبقات التي أمر الرسول باجتنابها، وما قيل إنها منسوخة بآية (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ) قيل لا صحة له، لأن هذه الآية مقيدة ومخصصة للتي قبلها كما سيأتي، ثم ان المؤمنين بعد أن عادوا من بدر واستقروا في المدينة صاروا يتفاخرون بينهم مثل عادة الكفرة، هذا يقول قتلت فلانا، وهذا يقول أسرت فلانا، وهذا يقول رميت فلانا، فأنزل الله ردّا لهم كلهم «فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ» لا أنتم، لأنه هو الفاعل الحقيقي، وهو الذي أمدكم بملائكته وأمركم بقتالهم وتعهد لكم بالنصر، ولو ترككم وشأنكم لما قاتلتم ولا قتلتم وكان جبريل عليه السلام قال لحضرة الرسول أثناء اللقاء خذ قبضة من تراب وارم بها الكفرة ففعل وقال شاهت الوجوه (يعني قبحت) فلم يبق مشرك إلا ودخل في عينيه ومنخريه من ذلك التراب وسبب انهزام المشركين فأنزل الله «وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ»
281
المشركين بقبضة التراب «وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى» إذ أمر الريح بإيصاله لكل منهم، وهو الذي أمر جبريل أن يقول لك ذلك فهو المسبب الحقيقي لإصابة رميتك وجوه الكفار كافة حتى دخل أعينهم ومناخرهم، لأنك لا تقدر على ذلك، وإنما كنت سببا ظاهرا، وإذا كان الله تعالى يقول لحبيبه بأنه لم يرم وإنما الرامي هو جل جلاله، فلأن لا يفتخر أصحابه بما وقع منهم في هذه الحرب من قتل وأسر ونهب ورمي وسلب من باب أولى، لأن الله هو الذي أقدرهم على ذلك فنصرهم وخيب أعداءهم «وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ» فينعمه عليهم «بَلاءً حَسَناً» جميلا وقد فسر عامة المفسرين هذا البلاء بالنعمة، ويجوز تفسيره بالاختبار، أي أنه اختبرهم بهذه الحادثة اختبارا حسنا فكانوا عنده كما هم في علمه «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» لما تقولون أيها المؤمنون «عَلِيمٌ (١٧) » بما تضرونه لا يخفى عليه حالكم «ذلِكُمْ» البلاء الذي اختبركم الله به هو منه وحده «وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ» مضعف وما حق «كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨) » ومبطل مكرهم وحيلهم. قالوا لما خرج المشركون لقتال بدر تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا اللهم إن كان محمد على الحق فانصره، وإن كنا على الحق فانصرنا، وقال أبو جهل لما صار اللقاء اللهم أنصر أهدى الفئتين وخير الفريقين وأفضل الجمعين، اللهم من كان أفجر
واقطع لرحمه فأحنه (ألوه واكسره) اليوم. فأنزل الله «إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ»، وهذا خطاب لهم على سبيل التهكم بهم، وقد مر أن ذكرنا أن الفتح بمعنى القضاء والحكم، أي أن تستحكموا الله على ما قلتم فقد جاءكم حكمه، فعليكم أن تتيقنوا أن محمدا أحق منكم وأوصل الرحم وأهدى الفئتين وخير الفريقين وأفضل الجمعين هو وأصحابه، ولذلك فقد أجبت دعاءه وخيبتكم ونصرته عليكم، فآمنوا به وأطيعوه «وَإِنْ تَنْتَهُوا» من الآن عن الكفر بالله وتكذيب رسوله ومقاتلته «فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» في دينكم ودنياكم وعاقبة أمركم «وَإِنْ تَعُودُوا» لقتال رسولكم وتصروا على تكذيبه بعد أن شاهدتم كيفية نصرته عليكم وتوفيقه وتأييده من عند ربه، ولم ترجعوا عن الكفر وتؤمنوا به «نَعُدْ» لأمره ثانيا بقتالكم وننصره عليكم أيضا، وهكذا حتى تؤمنوا أو
282
تقتلوا «وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ» وجماعتكم مهما كانت من الله «شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ» فإن الله تعالى عنده أكثر وأكثر مما ترون ومما لا ترون «وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩) »
لا يتخلى عنهم لأنهم أولياؤه، والله نعم الولي عليهم ونعم النصير. قال تعالي «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» فيما يأمركم به من الجهاد وغيره، وابذلوا أموالكم وأنفسكم في سبيله «وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ» وتعرضوا عما يأمركم به وتفعلوا ما ينهاكم عنه «وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) » أي لا تنصرفوا عنه بوجه من الوجوه وحال من الأحوال ما دمتم سامعين هذه الآيات الناطقة بوجوب الطاعة والنهي عن المخالفة، والواو في (وَأَنْتُمْ) للحال،
«وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا» بألسنتهم «سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) » سماع قول إجابة، لأن هذا الصنف من المنافقين المار ذكرهم في الآية ٨ فما بعدها من البقرة فإنهم يقولون آمنا بألسنتهم وهم غير مؤمنين في قلوبهم. ثم ندّد جل شأنه عمّن هذه صفته فقال «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) » ما يراد بهم ولا يفهمون ما يطلب منهم، لأن من أشر من يدب على الأرض البهائم لعدم معرفتها بما يضرها وينفعها ومن هو لها ومن هو عليها ومن أشرها الذين لا يسمعون الحق ولا ينطقون به ولا يفقهون المعنى ولا يعون المغزى مما يخاطبون به «وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ» أي هؤلاء المنعوتين بتلك الصفات الذميمة «خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ» سماع قبول سماع المصدقين المحبين المنتفعين بحواسهم، لكنه تعالى لم يعلم الخير فيهم من قبل، ولهذا قال «وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ» بواسطة رسوله بعد أن علم أن لا خير فيهم وأنهم لم ينتفعوا بما يسمعون لأنهم خلقوا أشرارا ولا يتوخى منهم إلا الشر، ولذلك لو فرض إسماعهم «لَتَوَلَّوْا» عنه ولم يلتفتوا إليه «وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) » كأنهم لم يسمعوا شيئا، نزلت هاتان الآيتان في نفر من عبد الدار بن قصى كانوا يقولون نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد، وكانوا يقولون يا محمد أحيي لنا قصيا فإنه كان شيخا مباركا حتى يشهد لك بالنبوة فنؤمن بك، فأخبر الله تعالى أنهم لا يؤمنون، ولو أحيينا لهم قصيا وأمرهم بالإيمان بمحمد.
283
مطلب وجوب الاستجابة لدعوة الله ورسوله وآيات الصفات وعموم البلاء عند سكوت أهل الحل والعقد:
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ» بالانقياد والطاعة «إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ» حياة أبدية وهي الجهاد في سبيل الله والإيمان به والتصديق برسله وكتبه لأن في هذه الحياة العزة في الدنيا والنعيم في الآخرة، وفي ترك الجهاد الذل والموت المعنوي الذي هو شر من الموت الحقيقي «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ» فلا يستطيع أحد أن يؤمن أو يجرؤ على الجهاد أو ينفق ماله في سبيل الله، إلا بإذنه، أي قاتلوا وآمنوا فإنه تعالى يبدل خوفكم أمنا، وجبنكم جرأة وكفركم إيمانا وبخلكم جودا، لأن أحوال القلوب اعتقادات ودواعي، ولا بد من أن تتقدمها الإرادة، ولا بد للإرادة من فاعل مختار، والفاعل المختار المتصرف في القلوب المقلّب لها كيف يشاء هو الله وحده. روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء. ولذلك كان صلّى الله عليه وسلم يقول في دعائه: اللهم مصرف القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك. وهذا من أحاديث الصفات فيجب على المؤمن أن يعتقد فيه كما جاء مع تنزيه الله تعالى عما هو من سمات الآدميين، لأن الله جلت قدرته ليس له جوارح كجوارحنا، وليس كمثله شيء أبدا، راجع الآية ٢١٠ من سورة البقرة المارة، ونظير صدر هذه الآية الآية ١٠ فما بعدها، من سورة الصف الآتية. فاعلموا أيها الناس هذا «وَ» اعلموا «أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) » غدا لا لغيره فمصير الكل إليه وهناك يجازى العاصي ويكافيء الطائع. قال تعالى «وَاتَّقُوا فِتْنَةً» عذابا عظيما وذنبا كبيرا وعملا فظيعا وداهية كبرى «لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» فلا تقتصر على الظالمين بل تتعداهم إلى غيرهم، لأن البلاء يعم والخير يخص، وذلك إذا أصر المنكر على إنكاره والمداهن على مداهنته والمنافق على نفاقه، ولم يأمر العالمون والأبرار بالمعروف وينهوا عن المنكر وسكتوا على تفريق الكلمة، ولم يقمعوا البدع والمحدثات المخالفة للشرع، وكسلوا عن الجهاد،
284
فيكونون راضين بذلك كله، والراضي بالشيء كفاعله، ولهذا يعمهم الله بعذابه.
أخرج أبو داود وذكر ابن الأثير في جامع الأصول عن عدي بن عميرة الكندي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها. وأخرج ابن جرير بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه ولم يغيروا إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا.
لأن سكوتهم مع القدرة رضى منهم أو تهاون بحدود الله، ولذلك هددهم الله بقوله «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) » إذا عاقب فاتقوا عقابه أيها الناس ولا تسكتوا على انتهاك حرماته ما قدرتم وتعاونوا على البر والتقوى بالفعل وعدم الرضى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان بالسكوت والرضى على المخالفات مهما استطعتم.
روي عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من رأى منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان.
راجع الآية ١٦٥ من الأعراف في ج ١ والآية ٨٧ من سورة المائدة الآتية.
قال تعالى «وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ» أيها المؤمنون «مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ» من قبل كفار مكة وغيرهم قبل أن تهاجروا إلى المدينة ومن قبل أنتم وغيركم مستضعفون من قبل فارس والروم وكنتم سواء في الكفر، وبسبب ضعفكم كنتم «تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ» فيقتلونكم ويسبونكم «فَآواكُمْ» الله أولا إلى حرمه ثم إلى المدينة وأعزكم بالإسلام «وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ» على عدوكم «وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ» من غنائم الحرب لما فيها من اللذة القلبية وعلو الكلمة والكرامة «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦) » نعم الله فيزيدكم «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَ» لا «تَخُونُوا أَماناتِكُمْ» التي اؤتمنتم عليها من قبل الغير قليلة كانت أو كثيرة، وسواء كانت فيما بينكم أنفسكم أو بين الناس وبين الله ورسوله لعموم اللفظ. وسبب نزول هذه الآية على أقوال منها ما أخرجه أبو الشيخ عن جابر بن عبد الله أن أبا سفيان لما خرج من مكة وقد أخبر جبريل بمخرجه رسول الله فقال إن أبا سفيان بمكان
285
كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا، فكتب رجل من المنافقين إليه بذلك فنزلت.
وقال السدي: كانوا يسمعون الشيء من الرسول فيفشونه فنهوا عن ذلك بهذه الآية.
مطلب فيما عدّ خيانة على سفير رسول الله. والآيات المكية النازلة بالهجرة وعلى أي صورة نسخ القرآن العظيم:
وذكر الزهري والكلبي أنه لما هاجر رسول الله يهود بني قريظة في غزوته السابقة الكائنة في السنة الخامسة من الهجرة التي أشار الله إليها في الآية ٢٧ من سورة الأحزاب الآتية سألوه الصلح على ما صالح عليه بني النضير في غزوته الخامسة الواقعة في السنة الرابعة التي أشار إليها الله في الآية الثانية من سورة الحشر الآتية بأن يهاجروا إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام فأبى أن يعطيهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، قالوا وطلبوا منه أن يرسل إليهم أبا لبابة بن عبد المنذر ليسترشدوا برأيه إذ كان وماله وعياله وولده عندهم، فأرسله رسول الله صلّى الله عليه وسلم كسفير من قبله لعقد الصلح الذي طلبوه، فأتاهم فقالوا له أننزل على حكم سعد بن معاذ كما طلب رسولكم؟ فأشار بيده إلى حلقه، أي لا تفعلوا فإنه الذبح، وكان عليه أن يقول لهم امتثلوا أمره أو أرجوه أن يختار لكم غيره، لا أن يخبرهم بما سيقع عليهم وهم أعداء الله ورسوله والمؤمنين.
ولا يحتج هنا بقول الرسول المستشار مؤتمن، لأن الخدعة مطلوبة بالحروب كما مر آنفا في الآية ١٦، وبإشارته هذه يعتبر أنه قد خان الله ورسوله ورسالته التي أرسل بها، ولما عرف أبو لبابة ذلك وقال والله ما زالت قدماي عن مكانهما حتى علمت أني خنت رسالتي وخنت الله ورسوله، لذلك لم أرجع منهم إلى رسول الله بل انطلقت إلى المسجد رأسا وشددت نفسي على سارية وحلفت أن لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب علي الله، فلما بلغ ذلك حضرة الرسول قال أما لو جاء لا ستغفرت له، أما أن فعل ما فعل فإني لا أطلقه حتى يتوب الله عليه، فبقي سبعة أيام، وأغشي عليه من الجوع والعطش، ثم تاب الله عليه فأخبر فقال إلا أن يأتي رسول الله فيحلني بيده، فجاء إليه وحلته، فقال يا رسول الله إن تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أذنبت فيها وأن أنخلع من مالي كله، فقال
286
لا، يجزيك أن تتصدق بثلثه، فنزلت هذه الآية وهي الأوفق بسبب النزول بالنسبة لسياقها، ولهذا ختمها الله بقوله «وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) » أن عدم النصح لله ورسوله فيما تؤتمنون عليه خيانة عظيمة، وأنزل الله فيه أيضا «وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ»
تسبب إيقاعكم فيها، لأن أبا لبابة ما حمله على تلك الخيانة إلا وجود أمواله وأولاده عند يهود قريظة «وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨) »
فبالأحرى أن تحرصوا على ما عند الله وتزهدوا فيما عندكم، ومن هنا يعلم أن هذه الآيات من ٢٦- ٢٨ نزلت بعد سورتها لما علمت من تاريخ الحادثة، وفيها تنبيه على أن سعادة الآخرة ثواب الله تعالى وأن في أداء الأمانة الأجر الجزيل عند الله وحسن الظن به عند الناس، وسنأتي على ما يتعلق بها في الآية ٥٨ من سورة النساء بصورة مفصلة إن شاء الله تعالى، كما سنذكر قصة بني قريظة في سورة الأحزاب الآتية أيضا. وتشير هذه الآية إلى أن الكلام عند سامعه أمانة أيضا، فليحذر الأمين عليه عقاب الله المترتب على إفشائه، ولهذا قالوا لا فرق بين من يفشي سرا أؤتمن عليه ومن يخنلس مالا استودعه، راجع الآية الأخيرة من سورة الأحزاب الآتية. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ» وتخافوه في جمع أموركم «يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً» فصلا بينكم وبين أعدائكم ويقيكم منهم ويخولكم نصرا عليهم وظفرا بهم وتوفيقا ونجاة في الدنيا «وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ» بالآخرة «وَيَغْفِرْ لَكُمْ» ذنوبكم ويستر عيوبكم فيها فلا يفضحكم بكشف ما وقع منكم «وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩) » على عباده. واعلم أن الآيات المكيات التي نزلت قبل سورتها هذه أواخر صفر السنة الثالثة عشرة من البعثة وعلى أثرها هاجر حضرة الرسول من مكة إلى المدينة كما أشرنا إليها في قصة الهجرة بعد سورة المطففين آخر الجزء الثاني هي قوله تعالى «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا» من رؤساء قريش وغيرهم والشيخ النجدي مع أنك بعثت رحمة لهم، وقد أجمعت كلمتهم على التخلص منك «لِيُثْبِتُوكَ» يوثقوك ويحبسوك «أَوْ يَقْتُلُوكَ» وهو ما قرّ عليه رأيهم «أَوْ يُخْرِجُوكَ» من بلدك ينفوك ويبعدونك عنه «وَيَمْكُرُونَ» يحيكون
287
لك المكر ويدبرون المكايد بشأنك «وَيَمْكُرُ اللَّهُ» بما أعده لهم من العقاب لينزله عليهم ويريك الطريق الموجب لخلاصك منهم بما فيه الخير والمصلحة لك وللمؤمنين بك «وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠) » أقوى وأعظم تدبيرا. منهم. وأنفذ وأبلغ تدبيرا وتأثيرا فيهم، وسمي جزاء الله مكرا للمقابلة والمشاكلة، وقدمنا قسما من قصة الهجرة في الآية ٤٠ من سورة العنكبوت، وكان فيها الخير والكرامة له ولأمته إذ كان ما وعده الله به من النصر وانتشار الدعوة متوقفا عليها، وإلا لما هاجر، لأن أكثر أهل مكة من أقاربه وبوسعهم حمايته ممن عاداه وناوأه منهم، فضلا عن أنه بحماية الله القادر على هلاك من يرومه بلحظة واحدة، ولو كانوا أهل الأرض كلهم، لهذا فلا يقال إنه هاجر خوفا من القتل أو غيره، تدبر هذا واقمع به قول من قال بخلافه وراجع ما ذكرناه في قصة الهجرة من سورتي العنكبوت والمطففين في ج ٢.
قال تعالى «وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا» كفار مكة عنادا ومكابرة «قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا» الذي يتلوه محمد «إِنْ هذا» ما هو «إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١) » خرافاتهم وأكاذيبهم، كان النضر ابن الحارث بن علقمة من بني عبد الدار في بلاد فارس وكان أتى بنسخة من حديث رستم وإسفنديار وأحاديث العجم، وكان يخالط أهل الكتاب ويسمع منهم ويطلع على عادتهم وعبادتهم، فقال ما هذا الذي يقوله محمد ويزعم أنه من عند الله إلا من ذلك ولو أردت لقلت مثله، فقال له الرسول ويلك هذا كلام الله فكيف تقول مثله، وهو كقول ابن سرح الذي أشرنا إليه في الآية ٩٣ من سورة الأنعام في ج ٢، فنعى الله عليه كذبه في هذه الآية، وأنزل في أبي جهل وأضرابه قوله عزّ قوله «وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا» الذي يتلوه محمد «هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) » ولم يقولوا لجهلهم اللهم اهدنا إليه. وقد نزل في هذا الخبيث بضع عشرة آية منها (سَأَلَ سائِلٌ) فحاق به العذاب، وقتله يوم بدر حضرة الرسول بيده هو ورفيقه طعيمة بن عدي وعقبة بن معيط، وشر الناس من يقتله خير الناس، ثم أشار جلّ شأنه لحضرة الرسول بأن هؤلاء مرصدون بالعذاب إذا هاجرت عنهم بقوله
288
«وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ» يا سيد الرسل، أي أن عذاب الاستئصال لا يحل بهم وأنت بين أظهرهم، لأنك بعثت رحمة لهم وللعالمين أجمع، وإن إيقاع عذاب الاستئصال على أمة حال وجود رسولهم خارج عن عادة الله التي سنها في خلقه. ويجوز أن يكون المعنى لو كنت فيهم لم يعذبوا بالقتل والأسر في الدنيا لأن منهم من سبقت له العناية بالإيمان كأبي سفيان وصفوان بن أمية وعكرمة ابن أبي جهل وسهيل بن عمرو وحكيم بن خزام وغيرهم، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم إن الله أنزل علي أمانين لأمتي (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) الآية، فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة- أخرجه الترمذي عن ابن عباس عن أبي موسى الأشعري-.
«وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) » فلو استغفروا لم يعذبهم أيضا، وقد نزلت هذه الآية لأن كفار قريش قالوا عند نزولها إن الله لا يعذبنا ونحن نستغفره، ولا يعذب أمة ونبيها معها، فأصروا على ما هم عليه جهلا منهم، ولم يعدّوا ذلك نعمة عليهم فيرجعوا إلى الله، بل لازمهم الغرور فرد الله عليهم بقوله «وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ» أي شيء يمنعه من تعذيبهم بعد خروجك منهم وكيف لا يعذبهم «وَهُمْ يَصُدُّونَ» الناس وأنفسهم «عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ» من هم أولى به منهم كالرسول وأصحابه «وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ» أي المسجد كما يزعمون. وهذه الآية من دلائل النبوة إذ آل أمر البيت بعد نزول هذه الآية بثماني سنين إلى الرسول وأصحابه وجاءت ردا لهم إذ يقولون إنا أولى به منهم «إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ» الكفر والمعاصي لا المقيمون عليها «وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤) » ذلك جهلا منهم، وبعضهم يعلم ويقول ذلك عنادا. روى البخاري ومسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال أبو جهل (اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) الآية فنزلت (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) الآية، قال ولما خرج من بيته حين بعثوا عليه شبانهم ليقتلوه خرج خفية وترك عليا بمكانه وذهب إلى بيت أبي بكر ثم إلى الغار نزلت (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ) الآية.
قال تعالى «وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً» صفيرا «وَتَصْدِيَةً» تصفيقا ومن كانت هذه صلاتهم فليسوا بأهل لأن يكونوا أولياء له، ولهذا يقال
289
لهم في الآخرة «فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥) » في الدنيا وتكذبون الرسل والكتب. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا» الناس «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» بين الله في الآية السابقة كيفية عبادتهم الدينية بأنها عبارة عن سخرية واستهزاء، وذكر في هذه الآية عبادتهم المالية بأنها في مناوأة الله ورسوله، ولهذا قال جل قوله «فَسَيُنْفِقُونَها» بهذا القصد عبثا وسدى في الدنيا «ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً» وندامة يوم القيامة «ثُمَّ يُغْلَبُونَ» فلا يظفرون بما يؤملون وتكون عليهم خسارة في الدارين، وأن صدّهم الموقت سيزول ويتولى البيت أهله، «وَالَّذِينَ كَفَرُوا» وماتوا على كفرهم «إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) » لا إلى غيرها، وإنما كان ذلك جزاءهم في الآخرة «لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» فينجي الطيب «وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ» يجمعه ويضم بعضه إلى بعض «جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ» فريق الخبثاء «هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧) » أنفسهم وأموالهم المغبونون في الدنيا والآخرة. وهذا آخر الآيات السبع التي نزلت في مكة قبل الهجرة، فلم ينزل بعدها شيء فيها، وهي ثماني آيات، وقد أمر رسول الله بوضعها هنا من هذه السورة بإشارة من الأمين جبريل عليه السلام، وهو طبق ما هو مدون في لوح الله المحفوظ. وبقية آي السورة هذه كلها مدنية، وتقديم نزول بعض الآيات على بعض كما هو الواقع بأكثر سور القرآن العظيم المدني منها، والمكي كان بسبب الحوادث والوقائع والسؤال، وترتيب الآيات والسور على ما هو ثابت في المصاحف هو الموافق لما في علم الله المطابق لما أنزله إلى بيت العزّة، وان عمل عثمان رضي الله عنه مقصور على نسخه في المصاحف وأمر الكتبة الأمناء بإثباته ونقله من الصحف التي كانت عند عائشة رضي الله عنها المرتبة يعلم وامر حضرة الرسول، وتحرير بعض حروف الكلمات على لغة قريش عند الاختلاف بالنطق بها من إمالة وإشباع ومد وقصر وقطع ووصل وهمز وتسهيل وفكّ وإدغام وتفخيم وترقيق وفصل وإيصال وتشديد وتخفيف وما أشبه ذلك مما لا يخالف رسم الكلمة بزيادة حرف أو نقصه، كما أوضحناه في المقدمة وتطرقنا له عند كل مناسبة كهذه.
290
قال الكلبي والضحاك ومقاتل: نزلت هاتان الآيتان الأخيرتان في المطعمين يوم بدر وهم أبو جهل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وأبو البحتري والنضر وحكيم بن خزام وأبي بن خلف وزمعة بن الأسود والحارث بن عامر والعباس بن عبد المطلب، وكان كل منهم يذبح عشر جزر. قال ابن اسحق إنهما نزلتا في أصحاب العير، وذلك أنهم لما رجعوا من بدر طاف الذين فقدوا آباءهم على قريش وكلفوهم بالإنفاق عليهم كي يدركوا ثأرهم، ومعظمه العير كان لأبي سفيان، وبسببه وقعت حادثة بدر. وقال سعيد بن جبير ومجاهد نزلتا في أبي سفيان نفسه، لأنه جهز ألفين من الحبشة غير الذين استجاشهم لحرب أحد وأنفق عليهم أربعين أوقية من ذهب كل أوقية اثنان وأربعون درهما. واعلم أن هذه الحوادث الثلاث وإن كانت كل واحدة منها صالحة لأن تكون سببا للنزول ولكن ثبوت كون الآيات نازلة بمكة قبل حادثة بدر بسنتين وحادثة أحد بثلاث سنين ينفي ذلك، وكون الآيتين مسوقتين على كيفية نفقاتهم بعد بيان كيفية صلاتهم ومشعرتين بالتوبيخ على نوع الاتفاق والإنكار عليه يبعد القول بسبب النزول وسياق الآية الأولى لبيان غرض الإنفاق والثانية لبيان عاقبته يؤذن بأن المراد هو العموم، وانطباق الحوادث على ما جريات الآيات لا يعني أنها سبب لنزولها، وعاية ما فيها التشنيع على أعمال الكفار والتباعد عن مثلها والتحذير عن الوقوع فيما يستوجب الذم في الدنيا والعذاب في الآخرة. قال تعالى «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا» يا سيد الرسل «إِنْ يَنْتَهُوا» عن الشرك ودواعيه ويكفوا عن عداوة الرسول وأصحابه ويؤمنوا بالله إيمانا حقيقيا لا لعرض ولا لغرض عن طيب نفس وحسن نية «يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ» من جميع أفعالهم مهما كانت «وَإِنْ يَعُودُوا» إلى حالتهم الأولى التي كانوا عليها قبل حادثة بدر ولم يتعظوا بها ويعتبروا بما حل
بهم فيها، فلا مناص لهم من عذاب يصيبهم مثل ما أصاب قومهم في بدر، وهي عادة جرى فيها أمر الله بأمثالهم «فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٩) » الذين لم ينتهوا إلى ما يحل بهم بعد أن شاهدوا وسمعوا ما وقع بمن قبلهم، أي أنه لا بد وأن يجري عليهم من الهلاك والدمار مثل ما جرى على من قبلهم نصرة لنبيه وإعلاء لكلمته،
291
كما كان للأنبياء قبله، وقد أخذ من هذه الآية الكريمة الحكم الشرعي بأن الكافر إذا أسلم لا يلزمه شيء من قضاء العبادات الدينية والمالية، ويكون كيوم ولدته أمه، لأن الإسلام يحبّ ما قبله، كما أن الكفر يحبط ثواب الأعمال الصالحة قبله.
قال تعالى «وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ» أي لا يبقى شرك يفتتن به قط «وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ» بأن يضمحل كل ما يتدين به ويمحى من وجه الأرض عدا دين الإسلام. راجع نظير هذه الآية الآية ١٤٩ من سورة البقرة المارة «فَإِنِ انْتَهَوْا» عن الشرك ودواعيه وأسلموا لله وحده «فإنّ الله بما تعملون» صرا أو جهرا خالصا أو مشوبا. وقرئ الفعل بالياء والتاء على الغيبة والخطاب «بَصِيرٌ» بدقائق الأمور لا يخفى عليه شيء من عمل خلقه «وَإِنْ تَوَلَّوْا» عنك يا سيد الرسل وأعرضوا عن الإيمان وعادوا لقتالكم مرة ثانية بعد هذه التي استؤصل فيها كبارهم وصناديدهم وبقوا مصرين على الكفر «فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ» حافظكم منهم وناصركم عليهم وكافيكم شرهم وهو «نِعْمَ الْمَوْلى» لمن يتولاه ويكل أمره إليه «وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠) » لمن ينصره، ألا فليأمن من كان الله مولاه وناصره.
مطلب كيفية تقسيم الغنائم وصلاحية الأمر فيها، ولزوم ذكر الله عند اللقاء، والتمسك بأصول الدين ليتحقق لهم النصر من الله:
قال تعالى «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ» توصل ما مع أنّ إذا كانت كافة عن العمل، وتفصل كما هنا إذا كانت عاملة، وجملة غنمتم صلة، والعائد محذوف، والتقدير أن الذي غنمتموه «مِنْ شَيْءٍ» مطلق شيء بدليل التنوين «فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» أي يصرف إلى هؤلاء على هذا الترتيب، ومعنى الغنم الفوز والظفر، والغنيمة ما أصابه المسلمون من أموال الكفار عنوة في القتال، ويكون فيها الخمس لمن ذكر الله في هذه الآية، والأربعة أخماس لمن شهد الواقعة، أما ما صولح عليه من غير قتال فيكون جميعه لمن سمى الله تعالى فيتسلمه أمير المؤمنين ويقسمه بين أربابه، أما ما يأخذه الإمام من الأعشار والخراج والجزية والمكس ومال من لا وارث له
292
مسلما كان أو كافرا وبدل المهادنة وتعويض الحرب فيحفظة لديه ليصرفه في مصالح المسلمين وتقويتهم معنى ومادة، من عدد الحرب وإصلاح الطرق وعمارة القناطر والجسور ودور العجزة واليتامى والمجانين ودور العلم والذّكر وجميع المنافع العامة، وكيفية القسمة هي أن يقسم الخمس الذي هو لله خمسة أقسام: خمس لإمام المسلمين وخمس لأقارب الإمام غنيهم وفقيرهم سواء للذكر مثل حظ الأثنين كما كان في زمن الرسول والخلفاء من بعده وهو حق باق ثابت إلى الأبد لثبوته في هذه الآية ولما روي عن جبير بن مطعم قال جئت أنا وعثمان بن عفان إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله أعطيت بني المطلب وتركتنا ونحن وهم بمنزلة واحدة، فقال صلّى الله عليه وسلم إنما بنو هاشم وبنو المطلب واحد. وفي رواية أعطيت بني المطلب من خمس الخمس وتركتنا، وفي رواية لم يقسم النبي صلّى الله عليه وسلم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل شيئا- أخرجه البخاري- والدليل على أن غنيهم وفقيرهم سواء، إعطاء النبي صلّى الله عليه وسلم العباس وهو غني. وخمس لليتامى والفقراء. وخمس للمساكين والفقراء من غيرهم. وخمس لأبناء السبيل بفريضة الله تعالى. والأربعة أخماس يقسمها الإمام بين المجاهدين ثلاثة للفارس، واحد له واثنان لفرسه، وواحد الراجل. والدليل على هذا ما رواه ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قسم النفل للفرس سهمين، وللرجل واحدا. وفي رواية بإسقاط لفظ النفل، - أخرجه البخاري ومسلم- ويعطى للعبيد والنساء الذين حضروا الحروب وأعانوا المسلمين بالأكل والماء وحمل السلاح متيسر كما يعطى من حضر القسمة المبينة في الآية ٨ من سورة النساء الآتية. أما الأرض والعقار فللامام أن يجعلها وقفا للمسلمين يتداولونها جيلا بعد جيل ينتفعون بربعها ويحتفظون برقبتها، وهو أولى من قسمتها بينهم لأنه إذا قسمها الإمام بينهم لم يبق الذين من بعدهم شيء يقيمون به معاشهم لا سيما وإن بيت المال يجب أن يكون دائما مترعا بالأموال لحفظ بيضة الإسلام، فاعملوا بهذا أيها المؤمنون «إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ» ورضيتم بحكمه «وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا» المنزل عليه هذه الآيات في هذه «يَوْمَ الْفُرْقانِ» يوم نزوله وهو المسمى بأنه الفارق بين الحق والباطل وقال بعض المفسرين إن الفرقان هو يوم بدر، لأن الله فرق فيه وفصل بين الحق
293
والباطل، وكان يوم إنزال القرآن في ١٧ رمضان يوم الجمعة سنة ٤١ من الولادة الشريفة، ويوم بدر يوم الجمعة أيضا في ١٧ رمضان السنة الثانية من الهجرة، كما أشرنا إليه في المقدمة، ولهذا فإن التفسير الأول أولى، لأن الله تعالى القائل (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) لا يهمل يوم إنزال القرآن وهو أعظم من غيره، لهذا فقد قصده في هذه الآية والله أعلم. وقرن مع يوم بدر لعظمته أيضا، لأنه أول ظهور عظيم لشأن الإسلام ولمسلمين، ولذلك قال «يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ» جمع المسلمين وجمع الكافرين، وعليه يكون المعنى أن اليوم الذي أنزل فيه القرآن مثل اليوم الذي التقى فيه الجمعان برئاسة محمد صلّى الله عليه وسلم ورئاسة عتبة بن ربيعة خذله الله، لأن كلا منهما يوم جمعة ويوم رمضان، ولم يقع اختلاف في هذين اليومين من كونهما يومي جمعة وكونهما في رمضان، وانما اختلفوا هل كان إنزال القرآن في ١٧ أو ٢٧ من رمضان فقط، ولولا تعيين اليوم لا حتمل أن يقال نزل
جملة واحدة إلى بيت العزة في ٢٧ رمضان ونجوما على المصطفى في ١٧ منه والله أعلم «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٤١» ومن قدرته نصر المؤمنين في ذلك اليوم مع قلة عددهم وعددهم على الكافرين مع كثرتهم عددا وعددا، وهذه الآية نزلت في الغنائم الحاصلة من غزوة بني قينقاع الواقعة بعد حادثة بدر بشهر وثلاثة أيام في النصف من شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة، وقال بعض المفسرين نزلت في حادثة بدر وليس بشيء، وهي مخصّصة للآية التي نزلت في غنائم بدر ومقيدة لها، لا ناسخة كما ألمعنا إليه أول هذه السورة. ثم شرع بعدد نعمه التي أنعمها على المؤمنين في هذه الحادثة بقوله واذكروا أيها المؤمنين «إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا» سفير الوادي الأدنى من المدينة «وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى» البعدى منها مما يلي مكة «وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ» من المحل الذي به أبو سفيان وجماعته من قريش الذي خرجتم لأجله بعيد عنكم مما يلي البحر بثلاثة أميال «وَلَوْ تَواعَدْتُمْ» أنتم وإيّاهم على هذا الاجتماع في هذا المحل «لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ» ولما أمكنكم أن تجتمعوا به فيه، ولكنه كان صدفة من الصدف الغريبة وأمرا من الأمور العجيبة «وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً
294
كانَ مَفْعُولًا»
في أزله ومقدرا في مقدرته بأن يكون هذا المكان وهذا الزمان وإنما كان كذلك أيها المؤمنون «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ» رآها وعبرة عاينها وعفة شاهدها وحجة قامت عليه «وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» كذلك «وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ» لأقوالكم سرها وجهرها «عَلِيمٌ (٤٢) » بنيّاتكم وبما يقع لكم من النصر وعليهم من القهر. واذكر يا سيد الرسل لقومك «إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا» لتقوى قلوب أصحابك فيجرءوا عليهم «وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ» بسبب ضعف همة قومك، ولجبنوا عن عدوهم وحدثتهم أنفسهم بالتراجع وتشتتت آراؤهم «وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ» فيما بينكم فصار منكم من يحبذ الإقدام ويرغب فيه، ومنكم من يحبب الإحجام ويرغب عن اللقاء، فتتصادم الآراء ويحصل الشقاق وتفكك عرى التوثق بينكم «وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ» وعصم قلوبكم من ذلك بسبب ذلك التقليل وأنعم عليكم بعد وقوع الخلاف المؤدي للهزيمة «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ٤٤» يعلم ما يحصل فيها من الجرأة والجبن والصبر وا لجزع، ومن يميل إلى الإقدام ومن يجنح إلى الإحجام «وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ» أيها المؤمنون «إِذِ الْتَقَيْتُمْ» معهم يقظة عند التحام وتراص الصفين «فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا» تأكيدا لرؤياك يا صفوة الخلق ليطمئنوا ويتحققوا أن ما تقوله لهم حق واقع لا محالة سواء عن رؤيا منامية أو مشاهدة عينية، وهذه من أكبر النعم المقوية للقلوب الموجبة للإقدام عن رغبة، إذ أراهم الجمع الكثير شرذمة قليلة. قال ابن مسعود قلت لرجل جني تراهم منه، فأسرنا منهم رجلا، وسألناه، فقال نحن ألف «وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ» قبل اللقاء ليجرأوا على مهاجمتكم، ولا يتقاعسوا عنها حتى إذا قدموا عليكم رأوكم كثيرا فيبهتوا ويرعبوا وتنكسر شوكتهم وتختل معنوياتهم، فيغلبوا، وإنما فعل الله تعالى هذا معكم ومعهم «لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا» مقضيا بهلاكهم.
ومن مغزى هذه الآية عدا ما ذكر تعليم العباد بابا من أبواب الحرب، وذلك بأن يجعل القائد غير المدافع قوته العظيمة من وراء، ثم يتقدم لعدوه بقوة يسيرة ليغريه على الإقدام والهجوم طمعا بالغلب، فيجابه هذه القوة اليسيرة بكل ما لديه
295
من قوة بقصد سرعة القضاء على خصمه، حتى إذا التحم الفريقان داهمهم بقوته الأخرى كلها فيستأصلهم عن آخرهم، لأنهم يرعبون من الكثرة التي طرأت عليهم غير حاسبين لها حسابها، وإنما قلنا غير المدافع لأن القائد المدافع يجب عليه أن يستعين بكل مالديه من قوة دفعة واحدة كي يستطيع صد المهاجم، وإلا إذا قدم ثلة ثلة فإن العدو يفنيهم أولا بأول، ويستهين بقوتهم القليلة ويطمع بالاستيلاء عليهم، فيكون الغلب له، والقتل والسبي والأسر بالمدافعين «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» (٤٥) فيحكم فيها بما يريد وفق ما هو في أزله. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً» كافرة لا عهد لها معكم ولا ذمة «فَاثْبُتُوا» لها ووطنوا أنفسكم على الصبر على الحرب والصدق عند اللقاء، ولا تتصوروا الفرار أو تتخيّلوه أبدا، لأنه متى وقع في قلوبكم جبنتم وكبر عدوكم في أعينكم وألقى الرعب في قلوبكم، فتهزمون، فيستضعفكم عدوكم ويعلو عليكم فتسلبون وتقتلون، فقووا قلوبكم واثبتوا على الصبر واستعينوا بالله ربكم، لا تتكلوا على كثرة أو قلة:
من استعان بغير الله في طلب فإن ناصره عجز وخذلان
«وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً» أثناء هجومكم عليهم بأن تقولوا الله أكبر الله أكبر منهم وأعظم من كل شيء وكل شيء دونه حقير ضعيف، فكبروه كثيرا «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (٤٦) فتفوزون بالنصر على عدوكم والظفر فيهم. واعلم أن هذه الآية ليست بناسخة للآية ١٦ المارة كما قاله بعض المفسرين، لأنها لا تقدح بالثبات بالحرب، لأن التحرف والتحيّز منه، وإنما كان المراد بالذكر هنا هو التكبير والله أعلم لما فيه من خذلان العدو، فينبغي الإكنار منه عند المهاجمة والدعاء بالنصر وتخطر وعد الله بالظفر في القلب لأنه أدعى للثبات، ولأن ذكر الله في أشد الأحوال موجب للإجابة إذ لا يكون فيها إلا عن نيّة صادقة واعتماد تام «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» لأنها من واجبات النصر أيضا. وتباعدوا عن معصية الله ورسوله لأنكم في حالة أشد احتياجا إلى رحمته من غيرها، وهذان العنصران طاعة الله وذكره من أقوى الأسباب الداعية للنصر والثبات وخذلان العدو.
فليتكم أيها المسلمون ترجعون إلى ما يأمركم به ربكم فتعملون به وتنتهون عما
296
ينهاكم عنه فتتجنبونه وتعترفون بذنوبكم فتستغفرونه، فإنه تعالى يعينكم ويقويكم وينصركم. قال:
فإن اعتراف المرء يمحو اقترافه كما ان انكار الذنوب ذنوب
لأن المسلم المؤمن يلجأ إلى ربه فيأخذ بيده فلا يصر أحدكم على الذنب ولا يستصغره مهما كان، ويطلب النصرة من ربه عند الشدة، فالأحرى أن لا يرده الله ولهذا لما ترك المسلمون ما أمروا به وصاروا يستصحبون في الحروب الخمر والفتيات ويقولون عند الهجوم وطن وطن بدل أن يكبروا الله غلبوا وخسروا، لأن الوطن جزء من الإيمان وهم في حالة عارون فيها عنه، غافلون عن ربهم، فأنى يستجاب لهم؟ فالمسلمون لا ينصرهم الله إلا إذا تمسكوا بدينهم وعملوا ما أمروا به، وإذا خالفوا تركهم. قال صلّى الله عليه وسلم لا يزني الزاني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر وهو مؤمن فدعوى الإيمان وحب الوطن دعوى كاذبة، لذلك يكذبهم الله ولا يوفقهم ويسلط عليهم عدوهم، لأن الله تعالى قالَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)
الآية ٤٧ من سورة الروم في ج ٢ وقوله الحق ووعده الصدق، ولكن هات المؤمنين وانظر إلى نصر الله المبين، لأن المؤمنين لا يقيمون على المعاصي ولا يحاربون الله بما ينعم عليهم، فادعاؤهم الإيمان عبارة عن اسم، ولا يكون المؤمن مؤمنا إلا إذا قام بأركان الإسلام الخمسة عن يقين واعتقاد وعمل. فإذا فقد واحدا من هذه الثلاثة لا يكون مؤمنا، وكيف إذا تركوا الجميع؟ فالله سبحانه يتركهم، لأنهم هم محتاجون إليه وهو الغني عنهم. قال تعالى «وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا» وتخسروا لأن الفشل جبن مع ضعف «وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ» قوتكم وجرأتكم ودولتكم «وَاصْبِرُوا» على الشدائد في الحرب والمحنة فيه ولا تنهزموا «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» بعونه ونصره. روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقى فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس قام فيهم فقال: أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا (راجع الآية ١٥٣ من سورة البقرة المارة) واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ثم قال اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم.
297
قال تعالى «وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً» أشرا وطغيانا والبطر من تشغله نعمته عن الشكر «وَرِئاءَ النَّاسِ» ليقال أنهم غزوا وقاتلوا للشهرة والسمعة والصيت والحال أنهم يمنعون «وَيَصُدُّونَ» الناس «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٨) » لا يعزب عن علمه شيء لإحاطته بجميع خلقه.
نزلت هذه الآية في كفار مكة الذين خرجوا لاستخلاص عير أبي سفيان، فلما رأوه قد نجا بها قال لهم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم وقد نجاها الله فارجعوا، فقال أبو جهل والله ما نرجع حتى نرد بدرا فنقيم فيها ثلاثة أيام ننحر الجزور ونشرب الخمور وتعزف علينا القينات، فتسمع بنا العرب فيهابوننا. فلما نزلوا سقاهم الله كأس الحمام بدل الخمور، وناحت عليهم النوائح بدل القينات، وسمعت بهم العرب فاستذلتهم. قال تعالى مخبرا عن حالهم عند خروجهم لما خافوا من بني بكر كما مر في الآية ٨ «وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ» أي اذكروا أيها المؤمنون هذه النعمة أيضا لأنها من جملة ما حدث بقريش أعدائكم الألداء عند إرادتهم الخروج إلى قتالكم لتظفروا بهم «وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ» فأمنوا على عيالهم وأموالهم وخرجوا. ثم تصور لهم إبليس مرة ثانية مع جند من جنوده وشجعهم على اللقاء في صورة سراقة المذكور في الآية الثانية المارة، وقال لهم ما قاله سابقا، فلما رأى جبريل والملائكة عليهم السلام وكانت يده بيد الحارث بن هشام فنفض يده وولى هو وجنده، فقال له الحارث أفرارا من قتال يا سراقة وتزعم أنك جار لنا؟ فأجابه بما قصه الله عز وجل بقوله «فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ» فئة جبريل وفئة إبليس «نَكَصَ» إبليس وجنده «عَلى عَقِبَيْهِ» ورجع القهقرى «وَقالَ» إلى الحارث وقومه حينما تركهم وولى «إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى» من الملائكة «ما لا تَرَوْنَ» أنتم ما لا طاقة لي الوقوف معها.
مطلب الأشياء الموجودة الغير مرئية وتصور الشيطان والمحبة الخالصة الصادقة:
واعلم أن رؤية الشياطين للملائكة والأنس ثابتة لا نزاع فيها، قال تعالى (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) الآية ٢٧ من سورة الأعراف في ج ١،
298
وتوجد أشياء كثيرة موجودة حسا غير مرئية كنسخ الظل الشمسي وأعمدة المهواية وشبهها عند سرعة دورانها، وكذلك الهواء موجود غير مرئي والقوى الكهربائية موجودة غير مرئية. ثم قال الخبيث «إِنِّي أَخافُ اللَّهَ» لأنه ظن عليه اللعنة أن القيامة قامت لعلمه أن جبريل ينزل فيها هو والملائكة، ولذلك أردف قوله بما ذكر الله «وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٩) » وقد كذب أول الآية وصدق آخرها، ولهذا لما رجعت قريش إلى مكة قالوا هزم الناس سرافة، فجاءهم وقال لهم والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغني هزيمتكم، فقالوا له أما أتيتنا وقلت لنا ونحن بمكة أنا جار لكم ثم هربت؟ فقال والله ما جئتكم بالأولى ولا في الثانية. ولما أسلم من بقي منهم عرفوا أنه إبليس. أخرج مالك في الموطأ عن طلحة بن عبد الله ابن كرزان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ما رئي الشيطان يوما هو أصغر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يرى من نزول الرحمة وتجاوز الله تعالى عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر، فإنه قد رأى جبريل يزع الملائكة. أي يسوي صفوفهم ويصلحها فيأمر هذا أن يتقدم وهذا أن يتأخر. وسبق أن ذكرنا أنه كما تتصور الملائكة بصور البشر فكذلك الشياطين، وان النفس الباطنة لم تتغير ولا يلزم من تغيير الصورة تغيير الحقيقة. وليعلم أن ذكر الله تعالى في مواطن الشدة لا سيما في حالة الجهاد من أقوى الأدلة على محبته تعالى الصادقة التي لا يشوبها شيء، لأن فيه السكينة، قال تعالى (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الآية ٣١ من سورة الرعد الآتية، ومتى اطمأن القلب زال عنه دواعي الخوف فضلا عن أنه دليل المحبة لأن من أحب شيئا أكثر ذكره في كل حال ألا ترى قول عنترة:
ولقد ذكرنك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمى
فوددت تقبيل السيوف لأنها بوقت كبارق ثغرك المتبسم
وهو أبلغ ما قيل في هذا المعنى بالنسبة لمقام القول، وفي مقام المحبة تراكضت أرواح العاشقين وتفانت في ميدان أشباح السالكين، حتى قال قائلهم:
299
وقد عدوا الموت في الحب من الجهاد الأكبر، لأن الحياة الحقيقة التي فيها الوصال تعقبه، قال ابن الفارض أيضا:
ولو خطرت لي في سواك إرادة على خاطري سهوا حكمت بردتي
ومن لم يمت في حبه لم يعش به ودون اجتناء النحل ما جنت النحل
وقد حسنوا التذلل في هذا الباب وعدوّه من أسباب الوصال مع أنهم لم يعرفوا التذلل إلا لله فقالوا:
ويحسن إظهار التجلد للعدا ويقبح إلا العجز عند الحبائب
وقالوا إن من صفات المحبين الخضوع وإنكار النفس حتى بالغ بعضهم فقال:
مساكين أهل العشق حتى قبورهم عليها تراب الذل دون الخلائق
وفي رواية بين المقابر، واختلفوا في وصفه ومحله من الجسد، وقيل في ذلك:
يقولون إن الحب كالنار في الحشى ألا كذبوا فالنار تذكو وتخمد
وما هو إلا جذوة مس عودها ندى فهي لا تذكو ولا تتوقد
وقالوا في ذم من لم يحب:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا
وقدمنا في الآية ٦٧ من سورة الزخرف ج ٢ ما يتعلق بالمحبة فراجعها.
واذكر يا سيد الرسل لقومك «إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ» من أهل المدينة «وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» شك وريبة إذ لم يقو الإسلام في قلوبهم ولم تتشرب بشاشة الإيمان فيها لما رأوا قلتكم عند ذهابكم لقتال المشركين في بدر قال بعضهم لبعض «غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ» صدق إيمانهم بالله وحملهم على ما لا طاقة لهم به من لقاء عدوهم لأن عددهم وعددهم أكثر وأقوى، فقد هفوا ولم يعلموا أن توكلكم على ربكم لا على قوتكم وكثرتكم «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» ويثق به «فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» لا يغلب من يتوكل عليه «حَكِيمٌ (٤٩) » لا يسوّي بين أحبابه وأعدائه فإنه ينصر أولياءه على قلتهم، ويخذل أعداءه مع كثرتهم مهما كان عددهم وعددهم، لأنهم طلبوا النصر منه وحسنوا ظنهم فيه وأيقنوا بالإجابة منه والله عند حسن ظن عبده به. قال تعالى معجبا رسوله صلّى الله عليه وسلم مما يقع على الكافرين عند الموت من البلاء والشدة «وَلَوْ تَرى» يا أكمل الرسل «إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ
300
كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ»
لرأيت أمرا فظيعا هالك مرآه، لأنهم إذ ذاك «يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ» عند الاقدام «وَأَدْبارَهُمْ» حال الانهزام والأفظع من هذين الأمرين أنهم يقولون لهم بعد الموت موتوا «وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) » في جهنم فهي مثواكم في الآخرة
«ذلِكَ» الذي حل بكم أيها الكفار في الدنيا من القتل وفي الآخرة من العذاب هو «بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ» من الشرك والمعاصي وظلمكم أنفسكم بذلك.
ووصفت اليد لأنها آلة العمل المؤثرة، وإلا فالكفر محله القلب وعلامته اللسان «وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٥١) » إذ لا يعذب أحدا بلا ذنب، على أنه لو فعل فلا يعد ظلما لاستحالة نسبة الظلم إليه، لأنه المالك المطلق وللمالك التصرف بملكه كيف يشاء، ألا ترى أنك إذا هدمت دارك أو أخربت ما هو ملكك لا يعترضك فيه أحد؟ وإن عادة هؤلاء الكفار في كفرهم «كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢) » بحيث لا تطيقه الجبال الحديدية. وفي هذه الآية تهديد ووعيد لهؤلاء الكفار والمنافقين من أمة محمد صلّى الله عليه وسلم، وإعلام بأنه تعالى سيعذبهم في الدنيا بالهلاك وفي الآخرة بالنار، كما عذب أولئك في الدنيا ويعذبه مفي الآخرة.
والدأب إدامة العمل. وسميت العبادة دأبا لمداومة الإنسان عليها «ذلِكَ» العذاب والانتقام «بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» كي يكونوا هم السبب في ذلك ويندموا من حيث لا ينفعهم الندم، لأن ما يحدثه للخلق من بعض ما هو مدون في أزله قبل خلقهم، إذ لا يقع شيء إلا وهو مسجل في اللوح المحفوظ ثابت في علم الله «وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» لما يقع من عبده سرا أو جهرا «عَلِيمٌ (٥٣) » به قبل وقوعه. وليعلم كل إنسان أن يذكر مع كل نعمة زوالها كي يحافظ عليها بالشكر، ويذكر مع كل بلية كشفها ليحافظ على الرجاء من الله فإن ذلك أبقى للنعمة، وأسلم من البطر، وأقرب من الفرج، لأن الدنيا دار تجارة، فالويل لمن تزود منها الخسارة، ويكفيك أنها مزرعة الآخرة، وقيل في المعنى في هذا:
301
وتشير هذه الآية إلى أن الله تعالى أرسل محمدا نعمة عظمى لأهل مكة خاصة مكملة لنعمهم الأولى من جوارهم لحماه، وأمنهم مما يخافون، ومما يخافه غيرهم، وتخويلهم رحلة الشتاء والصيف، فلم يقدروها ولم يشكروها، بل قابلوها بالكفر والجحود، فنقله الله عنهم إلى الأنصار لأنه رحمة للعالمين أجمع، راجع الآية ٢٩ من سورة إبراهيم في ج ٢، والآية ٤٣ من سورة الرعد الآتية. وديدنهم هذا «كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ» لما كفروا بموسى عليه السلام «وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ» وكفروا بأنبيائهم أيضا «فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ» بعضهم بالخسف وبعضهم بالصيحة ومنهم بالحجارة ومنهم بالمسخ والغرق، وحرم فرعون نعمة موسى إذ نقلت لبني إسرائيل الذين اتبعوه «وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ» وأنجينا موسى وقومه «وَكُلٌّ» من المعذبين والمهلكين «كانُوا ظالِمِينَ (٥٤) » أنفسهم وغيرهم، فأخذناهم بظلمهم. وقد كررت ألفاظ هذه الآية تأكيدا لأنها جرت مجرى التفصيل للآية الأولى التي ذكر فيها أخذهم وكفرهم بآياته، وفي الثانية إعراضهم وتكذيبهم بآياته. قال تعالى «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) » لا يتوقع إيمانهم لتوغلهم بالكفر، وهؤلاء «الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ» يا سيد الرسل «ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) » (٥٦) نقض العهد مع أنهم أهل كتاب ودين يجب عليهم الوفاء به وعدم النكث بمقتضى كتابهم ودينهم، وهم على العكس شأنهم شأن الذين لا دين لهم بل أضل. قد نزلت هذه الآية في بني قريظة المار ذكرهم في الآية ٢٦ إذ عاهدهم الرسول أولا على أن لا يحاربوه ولا يعاونون عليه، فنقضوا عهدهم وأعانوا مشركي العرب عليه بسلاحهم، وقالوا نسينا وأخطأنا، ثم عاهدهم ثانيا فنكثوا أيضا ومالئوا عليه الكفار يوم الخندق، وذهب رئيسهم كعب بن الأشرف إلى مكة وحالف قريش وأهلها على حرب الرسول. وقال سعيد بن جبير: نزلت في ستة رهط من اليهود منهم ابن تابوت كانوا عاهدوا ثم نقضوا.
قال تعالى «فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ» يا محمد فتجدنّهم وتصادفنهم «فِي الْحَرْبِ» فتظفر بهم «فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ» أي نكّل بهم غيرهم بأن تقتلهم قتلا ذريعا
302
فظيعا، تفرق به جمعهم وتكسر به شوكتهم ليعتبر بهم كل من تحدثه نفسه بنقض العهد. وأصل التشريد التفريق مع الاضطراب «لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) » يتعظون فلا يجرؤ بعدهم أحد على نكثه. وهذه الآية من قبيل الإخبار بالغيب، إذ وقعت كما ذكر الله تعالى، لأن حضرة الرسول حكّم فيهم سعدا فحكم فيهم بحكم الله، كما سيأتي في الآية الثانية من سورة الحشر المشيرة إلى هذه الحادثة، وقد ألمعنا إليها في الآية ٢٧ المارة. وفي هذه الآية وما بعدها فنون من فنون الحرب ودواعيه وما يتعلق به يعلمها الله إلى رسوله قبل وقوعها ليطبقها عند الحاجة.
ولفظ الدواب يطلق على كل ما دبّ على وجه الأرض من إنسان وحيوان، وقد جعل الله الكافرين من صنف الدواب في هذه الآية لأنهم شرّ منهم، لأن الدواب الحقيقية لا تضر غالبا وهم يضرون الناس ويكفرون نعم الله. قال تعالى «وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ» معاهدين فتتوقع منهم «خِيانَةً» غدرا أو نقضا للعهد مثل بني قريظة «فَانْبِذْ» اطرح وارم عهدهم «إِلَيْهِمْ» وأعلمهم بفسخ المعاهدة ليكونوا على بصيرة من أمرهم ولئلا يقولوا لم تخبرنا بنقض العهد قبل ويتهموك بالنكث والغدر، حتى تكون أنت وإياهم في علم نقض العهد «عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨) » في كل شيء. الحكم الشرعي: إذا ظهرت آثار نقض العهد ممن هادنهم الإمام بأمر ظاهر مستفيض فلا حاجة لنبذ العهد وإعلامهم بالحرب، وإن ظهرت الخيانة به بأمارات من غير أمر مستفيض فيجب على الإمام إعلامهم بفسخ المعاهدة كما ذكر الله وقاية من سمات الغدر ولعلهم يرجعون إلى عهدهم أو يستسلمون ويسلمون. روى مسلم عن جابر عن رجل من حمير قال:
كان بين معاوية والروم معاهدة، وكان يسير نحو بلادهم ليتقرب منهم، حتى إذا نقض العهد غزاهم، فجاءه رجل على فرس أو برذون وهو يقول الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدرا، فإذا هو عمرو بن عينية، فأرسل إليه معاوية فسأله، فقال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشدّ عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء. فرجع معاوية. - أخرجه أبو داود- وأخرج النسائي بمعناه. وقد أسهبنا البحث في هذا عند الآية ٣٤ من سورة الإسراء
303
ج ١ والآية ٩١ فما بعدها من سورة النحل في ج ٢ فراجعها. قال تعالى «وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا» أفلتوا وانا لا نظفر بهم مرة ثانية، بلى لا بدّ من ذلك «إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ» (٥٩) لأن الطالب لهم غالب قوي قادر على الانتقام منهم في الدنيا قتلا وأسرا وجلاء، وفي الآخرة عذاب شديد «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ» مالا ورجالا وسلاحا وخدعا وغيرها من كل ما فيه معنى القوة «وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ» أيضا قوة، لأن ما يدركه الراكب لا يدركه الراجل، فإنكم في هذه الأشياء «تُرْهِبُونَ بِهِ» ترعبون وتخدعون «عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ» فعليكم أيها المؤمنون بالاستعداد لأعدائكم من كل ما يغيظهم ويرهبهم، لأنكم بذلك ترعبونهم «وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ» تخوفونهم أيضا كاليهود والمنافقين الموجودين في زمنك ومن بعدهم في زمن غيرك إلى آخر الدوران من أناس «لا تَعْلَمُونَهُمُ» أنتم ولكن «اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ» وسيظهرهم لكم بعد «وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» مما يقوي جانب المؤمنين ويرهب أعداءهم، وفي إعلاء كلمة الله ونصرة دينه وطاعة رسوله «يُوَفَّ إِلَيْكُمْ» ثوابه كاملا مضاعفا في الآخرة ويخلف عليكم أوفر منه في الدنيا «وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠) » شيئا من ثوابه وأنكم لا تعلمون كيف يكافئ الله عباده المنفقين أموالهم ابتغاء مرضاته، لأنهم يعطيهم ما لا يتصورونه ولا تعقله أفهامهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وفي هذه الآية تعليم من الله لعباده فيما تكون به عظمتهم وتقوى به شكيمتهم وتعظم به شوكتهم.
والعدة تطلق على الجند وعلى جميع الأسلحة والآلات والأطعمة التي هي من لوازم المحاربين في الحروب بالنسبة لما عند العدو وأقوى وأفخم، وكذلك الحصون والمعاقل وتعليم الجنود كيفة استعمال الأسلحة والرمي بها بحيث لا يقع سهم منها إلا في قلب عدو، وتعليمهم أيضا ماهية المحركات واستعمالها وركوبها برا وبحرا وهواء، والآلات الحديثة، والألغام والوقاية منها، والقاذفات وما يقذف بها، ومنها في الطائرات وغيرها وتعليم السير بها وتسييرها، وحثهم على المحافظة عليها ومناظرتها وتعليمهم الخدع والحيل والمكر، وجميع أبواب الحرب وتمرينهم عليها، وحثهم
304
على الطاعة للأوامر والاستعداد لتنفيذها عند الحاجة إليها. ويجب أن يكونوا يقظين نبهين، وأن يكون نصحهم بمواعظ حسنة تحبذ لهم بذل أنفسهم في سبيل الله إعلاء لكلمة الله وصيانة للبلاد والعباد ووقاية للأعراض والعجزى. واعلموا أيها الناس أن ما جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن عقبة بن ثامر من أن القوة الرمي لا ينفي كون غير الرمي من القوة، بل قوة أيضا، وهو على حد قوله صلّى الله عليه وسلم:
الحج عرفة والندم توبة والدين النصيحة. لأن غايته الدلالة على أنه من أفضل القوة، والقوة الرمي لأن معظم الحرب يكون به وهو كذلك. روى البخاري عن أبي أسيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم بدر حين ضعفنا لقريش إذا كبتوكم (أي غشوكم) - وفي رواية: أكثروكم- فارموهم واستبقوا نبلكم. وفي رواية:
إذا كبتوكم فعليكم بالنبل. وروى عقبة عن عامر قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول ليدخلن بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنه: صانعه يحتسب في عمله الخير، والرامي به، والمحدد له. وفي رواية: ومنبله، فارموا، وان ترموا أحب إلي من أن تركبوا. كل لهو باطل ليس من اللهو محمود إلا ثلاثة: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته أهله، ورميه بقوسه، أي بنبله، فإنهن من الحق، ومن ترك الرمي بعد ما علمه رغبة عنه فإنها نعمة تركها أو كفرها- أخرجه أبو داود والترمذي مختصرا-.
فهذا الحديث والذي بعده وغيرهما تحث على تعليم المسلمين ما يلاقون به أعداءهم عند الحرب من جميع أصناف آلاته ومعداته، وانه مما يثاب عليه عند الله تعالى ويستوجب محبة رسوله صلّى الله عليه وسلم. روى البخاري ومسلم عن سلمة بن الأكوع قال: مرّ النبي صلّى الله عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون بالقوس، فقال صلّى الله عليه وسلم ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا، وأنا مع بني فلان، فأمسك أحد الفريقين بأيديهم فقال صلّى الله عليه وسلم مالكم لا ترمون؟ فقالوا كيف نرمي وأنت معهم؟ فقال ارموا وأنا معكم كلكم. صلّى الله عليه وسلم ما أرضاه لربه وأرضاه لصحبه وإرضاء لأهله وأرضاه لأمته. وروى البخاري ومسلم عن عروة بن الجعد الباز حديثا بمعناه. ومثله عن ابن عمر وقال إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والغنيمة. وروى البخاري عن ابي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا
305
بالله وتصديقا بوعده فإن شبعه وريّه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة (يعني حسنات). وروى مسلم عن عقبة بن عامر قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول:
ستفتح عليكم الروم ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه. وإنما أمر الله تعالى وحث رسوله على التأهب والاستعداد للحرب لأن الكفار إذا علموا أن المسلمين مستكملون جميع مهمات الحرب ومعداته ومتهيئون له وباذلون أموالهم وأنفسهم في سبيله، فإنهم يتباعدون عن دار الإسلام وثغورهم، لا سيما إذا كانت الثغور معبأة بأعظم قوة وأقرى عدة، وهذا هو الرباط الذي حرض الرسول أمته عليه ووعدهم عليه ثواب الله العظيم. وسنبين في الآية ١٧٦ من سورة آل عمران الآتية ما يتعلق في بحث الرباط وفضله بصورة مستفيضة واضحة. قال صلّى الله عليه وسلم: رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وان من مات مرابطا أجري عليه عمله ورزقه، وأمن من الفتّان. وليعلم أن الاستعداد للحرب يسبب دخول الناس في الإسلام عفوا أو بذل الجزية للمسلمين دون إراقة الدماء توا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم.
مطلب في جواز طلب الصلح من العدو. وفي النسخ وجواز أخذ الفدية.
وعتاب الله الرسول على فداء الأسرى.
قال تعالى «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ» أي أعداؤك يا سيد الرسل بأن طلبوا الصلح «فَاجْنَحْ لَها» لا تعرض عنها «وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» ولا تخف من أن يبطنوا لك غيره، فالله يكفيكهم «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) » بما يؤول إليه أمر الصلح من خير على الأمة ويكسب ميل الخلق ومودتهم وفيه قيل:
لا تشد كل الشد فينفر عنك، ولا تلن كل اللّين فيطمع فيك. وقيل: لا تكن حلوا فتؤكل ولا مرا فتعاف. وفي هذه الآية إشارة إلى صلح الحديبية، إذ عاد على المسلمين بالنفع العام والخير الجزيل، ولذلك وافق رسول الله عليه مع ما فيه من الحيف تأسيا بوصية الله تعالى في هذه الآية. ثم خاطبه بما يوجب التيقظ بقوله «وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ» بطلب الصلح وميلهم إليه لتكف عنهم حال شدتهم ثم يكروا عليكم الكرة بعد استكمال قوتهم فلا يمنعك ذلك من قبول الصلح يا سيد الرسل، ولا تخش كيدا «فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ» هو كافيك عنهم وعن
306
مكرهم و «هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ» فأعزك وقواك «بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) » باطنا وظاهرا وبالمهاجرين والأنصار «وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ» بعد ما كانوا عليه من الخلاف والعداء والبغضاء تأليفا بليغا بحيث «لَوْ أَنْفَقْتَ» لابتغائه كما كان وحصل «ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ» مثل هذا التأليف الجامع «وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ» برحمته وجمع كلمتهم بقدرته وأماط تباغضهم وتماقنبهم بفضله «إِنَّهُ عَزِيزٌ» غالب على ما يريده قوي على أعدائه «حَكِيمٌ ٦٣» بصنعه. وذلك أن بعثة الرسول فيهم قلبت الأنفة التي بينهم، وعظمة بعضهم، على بعض، وعصبية بعضهم مع بعض، وحسدهم، وأضغانهم في بعضهم لطما ولينا ورقة وسهولة وصفاء ومودة، كيف لا وهم صباح مساء يتمتعون بأنواره البهية، ويأخذون من أطواره المرضية، فتهذبوا وتلطفوا وتطهرت قلوبهم فتآخوا فيما بينهم وطابت قلوبهم. قالوا وكان إذا لطم رجل منهم آخر قاتلت عنه قبيلته حتى يدركوا آثارهم، وبعد ما جاءهم الرسول اتفقوا على طاعة الله، وتركوا ما كان بينهم، وصاروا من أنصار الله ورسوله، وصاروا عظماء ألفاء أقاموا الدين والدنيا، ولكن مع الأسف الآن ترى عظماء الرجال كالنيازك يضيئون العالم برهة ثم يحترقون، فلا حول ولا قوة إلا بالله، قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (٦٤) عن كل أحد فصالح إذا صالحوا وقاتل إذا قاتلوا ولا نخش كيدا ولا غيره لأن الله ناصرك ومؤيدك عليهم وقاهرهم وخاذلهم «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ» من أعدائهم «وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ» صابرة «يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ٦٥»
ما أعد الله للمجاهد إذا قتل في سبيله مسلما، وفي هذه الآية الكريمة حث على الصبر عند لقاء العدو والثبات بأن يقابل المؤمن عشرة من الكافرين ويقاتلهم لأنهم لا يفهمون من نتيجة الحرب إلا الغلب، ولا يقاتلون إلا حمية وأنفة، وليقال إنهم قاتلوا، ولا يعتمدون إلا على أنفسهم، والمؤمنون يقاتلون لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه ويبتغون لقاء الله وإنجاز وعده وهو الثواب والسعادة
307
في الدنيا والشهادة والجنة في الآخرة، لهذا يجدر بهم أن يصبروا على لقاء الجماعة، لأنهم يعتمدون على معونة الله الذي لا يغلبه غالب ولا يلحقه طالب. وهذه الآية من الأخبار التي لا يدخلها النسخ، ومن قال بنسخها قال إن الإخبار فيها من قبيل الأمر. وعدها منسوخة بقوله تعالى «الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً» بأن لا يقدر الواحد على العشرة، ولا يستطيع الصبر على الثبات أمامهم ولا يمكنه الفرار لعدم جوازه ولشدة العقاب المترتب عليه، فخففه الله بقوله «فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ» على القتال «يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ» من الذين كفروا «وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦) » وهذا التخفيف من لطف الله بالمؤمنين، بأن جعل عليهم لزاما مقابلة الواحد للاثنين من أعدائهم والصبر على مقابلتهما وعدم جواز الهرب من أمامهما، ولكن الأحرى لهذا القائل بالنسخ أن يعدل إلى القول بأن الآية الثانية جاءت مخففة مخصصة للأولى ومقيدة لحكمها لا ناسخة لها، وعليه فلا حاجة لأن تقول إن الخبر هنا بمعنى الأمر من حيث لا دليل عليه، وقد أسهبنا البحث في هذه الآية في المقدمة في بحث الناسخ والمنسوخ فراجعها تعلم مغزى تسمية الله تعالى تخفيفا وأن لا يسوغ لنا أن نسميه نسخا، روى البخاري عن ابن عباس قال: لما أنزلت (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ) الآية كتب عليهم أن لا يفر واحد من عشرة ولا عشرون من مئتين، ثم نزلت (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ) فكتب
أن لا يفر مئة من مئتين، وفي رواية شق ذلك على المسلمين. ومن هنا قال من قال بالنسخ، مع أنه لا نسخ والآيتان محكمتان لقوي الإيمان قوي الجنان بأن يثبت ليس للعشرة فقط بل لأكثر وأكثر، وللضعيف فيهم أن لا يفرّ من الاثنين، وكم من ضعيف قلبه ضعيف إيمانه يفر من الصغير، وكم من قوي قلب قوي إيمانه يقابل الكتيبة وحده. وهذا مما لا ينكر قبل والآن وبعد كما هو ثابت بالتواتر حتى في زماننا هذا، مع وجود البنادق والرشاشات وغيرها، فكيف فيما كان الأمر مقتصرا فيه على السيف والرمح والنبل، وكيف بشاكي السلاح والأعزل قال تعالى «ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ
308
أي يكثر القتل والأسر ويبالغ فيهما حتى تذل له العصاة دون قتال وتطأطئ رؤسها إليه الكماة دون جدال، وتكسر شوكة المناوئين له، وتستسلم المجرمون لهيبته، ثم يقبل الفداء، ولهذا عاتب الله تعالى رسوله وأصحابه على قبولهم الفداء لأول أمرهم وبداية نصرهم في هذه الآية. ثم طفق يؤنب فعلهم بقوله «تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا» الفاني الزائل البالي «وَاللَّهُ يُرِيدُ» لكم شرف «الْآخِرَةَ» الدائم الباقي ويريد رفع شأنكم بإعزاز الإسلام والإغلاظ على الكفرة «وَاللَّهُ عَزِيزٌ» بالغ العزة والعظمة لو شاء لغلبهم دونكم بتسليط جند من جنوده عليهم «حَكِيمٌ (٦٨) » بالغ الحكمة في تسلطكم على نفيرهم الكثير مع قلتكم عددا وعددا لأمر يريده، وإلا لسلطكم على العير الذي كله دنيا، وأغناكم به عن الفداء وغيره وصرفكم عن النفير الذي فيه الدنيا والآخرة. فاعلموا أيها المؤمنون «لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ» بأنه لا يعذب أحدا باجتهاده في الحق «لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ» (٦٨) لا يقاوم ولا يطاق، لأن أخذ الفداء قبل أن تعظم الهيبة في قلوب الأعداء وقبل أن تفشو القسوة عند سائر الناس لا يليق الإقدام عليه. ومن هنا قالوا: المجتهد إذا أصاب له أجران، وإن أخطأ له أجر واحد. ولهذا لم يؤاخذ الله رسوله وأصحابه الذين أشاروا عليه بأخذ الفدية لخلوص نيتهم ولرعايتهم الأصلح باجتهادهم، إذ رأوا بالفدية صد حاجة المجاهدين واستبقاء المفديين أملا بإسلامهم.
قال محمد بن إسحاق لم يكن من المؤمنين أحد ممن حضر بدرا إلا أحب الفدية إلا عمر بن الخطاب، فإنه أشار على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقتل الأسرى وسعد بن معاذ فإنه قال يا رسول الله كان الإثخان في القتل أحبّ إلي من استبقاء الرجال، فقال صلّى الله عليه وسلم لو نزل عذاب من السماء ما نجا منه إلا عمر وسعد بن معاذ. وأخرج مسلم في افراده من حديث عمر بن الخطاب قال ابن عباس لما أسروا الأسارى، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأبي بكر ما ترون في هؤلاء الأسرى؟ فقال أبو بكر يا رسول الله هم بنو العشيرة أي إن تأخذ منهم فدية يكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما ترى يا ابن الخطاب؟
قال قلت لا والله يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكن أرى أن
309
تمكننا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه، وتمكني من فلان (نسيب لعمر) فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديده، فهوي رسول الله ما قاله أبو بكر ولم يهو ما قلت، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبو بكر يبكيان، فقلت يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكا كما، فقال صلّى الله عليه وسلم أبكي على أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة من نبي الله، فأنزل الله هذه الآية إلى (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ) فأحل الله الغنيمة لهم. ذكره الحميدي في مسنده عن عمر بن الخطاب بزيادة فيه، وأخرجه الترمذي بزيادة أيضا وهي قوله صلّى الله عليه وسلم إن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم، قال (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) الآية ٢٦ من سورة إبراهيم في ج ٢ ومثل عيسى قال (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) الآية ١١٨ من سورة المائدة الآتية، ومثلك يا عمر كمثل نوح (قال رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) الآية ٢٦ من سورة نوح في ج ٢، ومثلك يا عبد الله بن رواح كمثل موسى (قال رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) الآية ٨٨ من سورة يونس ج ٢ وذلك لأنه قال حينما استشاره الرسول صلّى الله عليه وسلم في أسرى بدر قال يا رسول الله انظر واديا كثير الحطب فادخلهم فيه ثم اضرم عليهم نارا. ولا دليل في هذا الآية على عدم عصمة الأنبياء كما قاله بعض العلماء، لأن الأنبياء معصومون من الخطأ، وما فعله حضرة الرسول من أخذ الفداء مطلق اجتهاد في حد الإثخان لأنه قتل يوم بدر سبعون وأسر سبعون من عظماء المشركين، وكان هذا بالنسبة لنظر الأصحاب الذين أشاروا على حضرة الرسول بأخذ الفداء وبالنسبة لذلك الزم والعدوّ المنازل جدير بأن يسمى اثخانا، لأن الإثخان ليس إهلاك من في الأرض في يقينهم، فكان قبولهم الفداء اجتهادا منهم بأن ذلك كاف لإيقاع الرهبة الأعداء، والمجتهد لا يؤاخذ باجتهاده لأنه قد يخطىء ويصيب، وأجمعت الأمة:
أن الاجتهاد لا ينقض بمثله، فلم ير رسول الله ترجيح اجتهاد عمر وأصحابه على رأى أبي بكر وأصحابه، لأنه لم يقدم على ما فعله من أخذ الفداء استبدادا بل عن روى
310
وتدبر. ولهذا لم يؤاخذهم الله تعالى الذي أخبرهم بأن ما فعلوه بالمشركين لا يعد إثما كما يستفاد من الآية، فلم يبق لأحد إلا أن يقول أنه بالنسبة لذلك الزمن ولعددهم يسمى إثخانا ابدا، وقول الله هو الفعل الحق على أن الأمر بالقتل كان مختصا بالأصحاب لإجماع المسلمين على أن النبي صلّى الله عليه وسلم نفسه لم يؤمر بمباشرة الجهاد أي القتل إلى أن نزلت آية النساء، وهي قوله تعالى (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) الآية ٨٤ الآتية، ولكنه ساوى نفسه مع أصحابه، ولم يفضلها عليهم ليقوى يقينهم وتزداد شكيمتهم قوة، فإذا كان ما وقع فيه شبهة ذنب فهو من الأصحاب لا منه صلّى الله عليه وسلم، مع أن أخذ الفداء لم يكن حراما، والآية لا تدل على التحريم، إذ لو كان حراما لمنعهم الله من أخذه ولردوه لأربابه. وأما بكاء النبي صلّى الله عليه وسلم فكان إشفاقا من نزول العذاب على أصحابه لاشتغالهم بالأسر وترك القتل، بدليل قوله صلّى الله عليه وسلم: عرض علي عذابهم، إلخ الحديث المتقدم، ولو كان مرادا لقال عرض علي العذاب، ولكان سياق خطاب الآية منصرفا إليه وحده، ولهذا لما تبين لهم أن اجتهادهم ليس بمحله وأن ما فعلوه لا يعد إثخانا عند الله ندموا على ما وقع منهم وخافوا من تأنيب الله إياهم، فصاروا يبكون، وإنما لم يرد الله أخذ الفداء لأن العرب إذا رأوا جواز الفداء عند محمد وأصحابه يسهل عليهم الإقدام على حريه ثانيا وثالثا إذ لا قيمة للمال عندهم في مثل هذه المواطن، وحتى الآن أمر العرب على هذا (ومنه ان من أهالي دير الزور السيد جمعة الفارس جاء إليه جماعة من عشيرته فطلبوا منه نصف مجيدي، فقال لماذا؟ قالوا قتلنا رجلا ونريد أن نؤديه، فأصاب كل رجل نصف مجيدي، فأعطاهم وقال لهم إذا كان من تقتلونه يصيب الرجل منا نصف مجيدي من ديته وتخلصون من دمه فاقتلوا كل يوم رجلا وتعالوا خذوا مني ما يصيني عن دمه.) والله يريد قمع دابرهم وأضعاف الخوف في قلوبهم، لأنهم إذا علموا أن الفداء لا يقبل وليس هناك إلا الذبح خافوا وأحجموا عن القتل والقتال، وذلوا فينقادوا للإسلام قسرا، وهذا هو المراد من قتالهم، وإلا لهان عليهم الفداء وحرص بعضهم بعضا على القتل كما وقع من هذا الديري بعد ألف وثلاثمائة وست وخمسين سنة أو أكثر على حادثة بدر هذه، والله أعلم بما يصلح لعباده.
311
قال تعالى مجيزا لهم أخذ الفداء المذكور ولو كان سابقا لأوانه لأن القصد من عدم أخذه ما ذكر أعلاه «فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً» لأنكم حزتموه بكسب أيديكم وبذل أموالكم ونفوسكم «وَاتَّقُوا اللَّهَ» من أن تقدموا مرة ثانية على عمل شيء قبل أن يعهد لكم فيه من قبل الله «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لكم ما تقدم فيما استبديتم به من أخذ الفداء «رَحِيمٌ (٦٩) » بكم إذا عفا عنكم ولم يؤاخذكم به، لأنه كان مبلغ علمكم ونتيجة اجتهادكم وجامعة شئونكم. قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى» الذين قبلتم منهم الفداء «إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً» من الإيمان به والتصديق لرسوله وكتابه «يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ» من الفداء الذي فديتم به أنفسكم «وَيَغْفِرْ لَكُمْ» ما سلف منكم إلى لحظة إيمانكم «وَاللَّهُ غَفُورٌ» لمن تاب مهما كان عليه من الكفر «رَحِيمٌ (٧٠) » بجميع عباده يريد لهم الخير والرشد ويمهلهم ليرجعوا إليه، فمتى رجعوا إليه عن يقين وإخلاص قبلهم على ما كان منهم، وعفا عنهم. هذا ويوجد في القرآن اثنتا عشر آية مصدرة ب (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ) هذه والتي قبلها عدد ٦٥، ٦٤ والآية ٧١ من سورة التوبة الآتية، وفي الأحزاب ٥ وواحدة في كل من سورة الممتحنة، والطلاق، والتحريم الآتيات. وقد نزلت هذه الآية في أسرى بدر الذين منهم العباس بن عبد المطلب، إذ أخرج معه عشرين اوقية من الذهب ليطعم بها قومه كسائر رؤساء قريش كما أشرنا إليه في الآية ٣٧ المارة، وقد صادفت نوبة إطعامه يوم الهزيمة فأسر ولم يطعم منها شيئا، فأخذوها منه مع جملة ما أخذوه
من غيره، وكان كلم حضرة الرسول بأن يحسبها من الفداء فلم يفعل، لأنها صارت غنيمة كبقية الأموال والمعدات التي آلت إليهم بسبب غلبهم عليهم، وكذلك الأمتعة والألبسة وغيرها، وقال له إن شيئا تستعين به علينا لا نتركه لك، وكلفه فداء ابني أخيه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، فقال يا محمد تريد تتركني أتكفف قريشا؟ فقال صلّى الله عليه وسلم أين الذهب الذي دفنته أم الفضل وقلت لها حين خروجك من مكة لا أدري ما يصيبني، فإن حدث بي حدث فهذا لك ولعبد الله وعبيد الله بني الفضل وقثم. قال ما يدريك يا ابن أخي؟ قال أخبرني ربي،
312
قال أشهد أنك لصادق وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك عبده ورسوله، والله لم يطلع على هذا أحد إلا الله وأنا وأم الفضل، وأمر ابني أخيه المذكورين، فأسلما، ويرحم الله الأبوصيري إذ يقول:
وإذا سخر الله سعيدا... لأناس فإنهم سعداء
قال تعالى «وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ» هؤلاء الأسرى يا سيد الرسل بعد ما مننت عليهم وأعتقتهم من القتل ولم يوف بعضهم بما تعهد به من الفداء «فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ» أن يخونوك فإنهم كفروا نعمته وكذبوا رسوله «فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ» أن يخونوك ولم يوفوا بما وعدوك به من بقية الفداء، إذ ليس هذا بشيء عندهم بالنسبة لموقفهم من الله «وَاللَّهُ عَلِيمٌ»
بما في صدورهم «حَكِيمٌ» (٧١) فيما يفعل بهم. هذا آخر ما نزل في حادثة بدر في هذه السورة، قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ابتغاء مرضاته «وَالَّذِينَ آمَنُوا» الرسول وأصحابه المهاجرين وأسكنوهم في منازلهم وساووهم بأنفسهم «وَنَصَرُوا» الرسول وأصحابه في حادثة بدر وغيرها على أعداء الله وهم الأنصار من الأوس والخزرج «أُولئِكَ» المتصفون بهذه الصفات الحميدة والأخلاق المجيدة «بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» في المعونة والنصرة والمودة والولاية، حتى أنهم يرث بعضهم بعضا دون أقاربهم الكفار. ومن هنا أخذ منع الإرث عند اختلاف الدين والدار. قال تعالى «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ» لأنهم مقيمون في مكة وأنتم في المدينة، فلا تعاون ولا تناصر ولا توارث بينكم وبينهم، ويستمر الأمر كذلك «حَتَّى يُهاجِرُوا» فيكون ذلك كله بينكم وبينهم «وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ» أولئك الذين في مكة «فِي الدِّينِ» واستغاثوا بكم من أجله «فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ» واجب وتلزمكم معاونتهم ليتخلصوا من براثن الكفر فتقاتلوا الكافرين معهم لتلك الغاية. وهذا فرض عليكم في كل حال «إِلَّا» إذا طلبوا معاونتكم «عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ» وعهد بعد المقاتلة فليس لكم نصرتهم وإعانتهم، لأن الوفاء بالعهد واجب ولا بترك الواجب لأجل واجب مثله «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) » لا يخفى
313
عليه شيء من أعمالكم وأقوالكم. وفي هذه الآية تحذير عن تعدي حد الشرع، ونهي عن تجاوز حدود الله، وأمر بمحافظة العهود، ولزوم مراقبة أوامر الله، لأن البصير هو المطلع على خفايا الأمور ووقائعها المحيط علمه بكل شيء. قال تعالى «وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» فلا توالوهم ولا تتولوهم وتباعدوا عنهم أيها المؤمنون، لأن نصرتكم إليهم يكون تقوية لهم وعزة لشأنهم، وقد أمرتم بإضعافهم وإذلالهم. وهذه الآية تفيد ثبوت ولاية الكافرين بعضهم لبعض، وتوارثهم بينهم، وفيما نهي عن معونتهم ونصرتهم، لأنها خبر بمعنى الإنشاء، يؤيد هذا قوله تعالى «إِلَّا تَفْعَلُوهُ» الذي أمرتم به من تعاون المؤمنين ومقاطعة الكافرين وخذلانهم «تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ» (٧٣) بينكم، لأن المسلمين إذا لم يكونوا يدا واحدة على عدوهم في كل أمورهم الحسية والمعنوية ظهرت أعداؤهم عليهم، وتفرقت كلمتهم، ووهنت قوتهم، وقد ينشأ من هذا اتفاق كلمة المشركين، وقوة شكيتهم، وتحديهم للمسلمين، لأن الفتنة هي قوة الكافر والفساد ضعف المسلمين، ولهذا البحث صلة في الآيات ٢٠/ ٢١ و ٦٤/ ٧٠ و ٧٢/ ٧٤ من سورة التوبة الآتية. قال تعالى «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا» لأنهم بذلوا أموالهم وأنفسهم في طاعة الله ورسوله وهؤلاء «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» عظيمة لذنوبهم مهما كانت كثيرة وكبيرة «وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) » في جنات النعيم، ولا يعد هذا تكرارا لأن الآية الأولى ذكر فيها حكم ولايتهم بعضهم لبعض كما ذكر بعدها ولاية الكفرة بعضهم لبعض، وفي هذه ذكر ما من الله به عليهم من فضله وخيره، على أن إعادة الشيء مرة بعد أخرى تدل على مزيد الاهتمام به والتعظيم لشأنه وعلو شرفه وإمكان مكانته وتمكن العناية به. قال تعالى «وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ» الهجرة الأولى ولحقوا بكم بعد الذين سبقوهم إليها «وَهاجَرُوا» بعدهم «وَجاهَدُوا مَعَكُمْ» بأموالهم وأنفسهم «فَأُولئِكَ مِنْكُمْ» وأنتم منهم إلا أنهم لم يبلغوا درجة المهاجرين الأولين، لأنهم عند الله أعظم مرتبة وقدرا وأكثر تفاوتا وأجرا، ولو لم يكن ذلك لما صح الإلحاق بهم «وَأُولُوا الْأَرْحامِ»
314
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
إذا أنت لم تبذر وأبصرت حاصدا ندمت على التفريط في زمن البذر