بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأنفالمدنية وآياتها ٧٥
قال مجاهد : إلا آية واحدة وهي قوله ﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ﴾ ولا خلاف أن هذه السورة نزلت في شأن بدر وأمر غنائمه.
ﰡ
مدنيّة كلّها قال مجاهد: إلّا آية واحدة، وهي قوله: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا... الآية:
ولا خلاف أن هذه السورة نزلت في شأن بدر، وأمر غنائمه.
[سورة الأنفال (٨) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١)قوله عز وجل: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ... الآية، النَّفَلُ والنَّافلة، في كلام العرب:
الزِّيَادَةُ على الواجب، والأكثرُ في هذه الآيةِ أنَّ السؤال إِنما هو عَنْ حُكْمِ الأَنفال، وقالَتْ فرقةٌ: إنما سألوه الأَنْفَالَ نفْسَها محتجِّين بقراءة سعد بن أبي وقَّاص وغيره: «يَسْئَلُونَكَ الأَنْفَالَ» «١» وعن أبي أمامة الباهليِّ، قال: سَأَلْتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ عَنِ الأَنْفَال، فَقَالَ: فِينَا- أَهْلَ بَدْر- نَزَلَتْ، حِينَ اختلفنا، وَسَاءَتْ أَخْلاَقُنَا «٢»، فَنَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ أَيْدِيَنَا، وَجَعَلَهُ إلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم وقَسَمَهُ عليه السلام- بَيْنَ المُسْلِمينَ عَلَى بَوَاءٍ- يريد: على سَوَاءٍ- فكان في ذَلِكَ تَقْوَى اللَّه وطَاعَةُ رسوله، وصلاحُ ذات البين.
قال ع «٣» : ويجيء مِنْ مجموع الآثار المذكُورة هنا أن نفوسَ أهْلَ بدر تنافَرَتْ، ووقع فيها ما يَقَعُ في نفوس البَشَرَ مِنْ إِرادة الأثرة، لا سيَّمَا مَنْ أَبْلَى، فأنزل اللَّه عزَّ وجَلَّ الآيةَ، فَرضِيَ المسلمون، وسَلَّموا، فأصْلَح ذات بينهم، وردّ عليهم غنائمهم.
ينظر: «الشواذ» ص: (٥٤)، و «المحتسب» (١/ ٢٧٢)، و «الكشاف» (٢/ ١٩٥) و «المحرر الوجيز» (٢/ ٤٩٦)، وزاد نسبتها إلى عكرمة، والضحاك، وعطاء. وينظر: «البحر المحيط» (٤/ ٤٥٣)، و «الدر المصون» (٣/ ٣٩٢).
(٢) ذكره ابن عطية (٢/ ٤٩٧).
(٣) ينظر «المحرر الوجيز» (٢/ ٤٩٧).
وقوله سبحانه: وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ: تصريحٌ بأنه شَجَرَ بينهم اخْتِلاَفٌ، ومالت النفوس إلى التّشاحّ، وذاتَ في هذا المَوْضِعِ يُرَادُ بها نَفْسُ الشيء وحقيقته، والذي يُفْهَمُ من بَيْنِكُمْ هو معنى يعم جَمِيعَ الوُصَلِ، والالْتِحَامَات، والمَوَدَّات، وذات ذلك هو المَأْمُور بإِصلاحها، أي: نفسه وعينه، وباقي الآية بيّن.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٢ الى ٤]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)
وقوله سبحانه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ... الآية، إِنَّمَا لفظ لا تُفَارِقُهُ المُبَالَغَةُ والتأكيد حيث وقع، ويصلح مع ذلك لِلْحَصْرِ، بحسب القرينة، فقوله هنا: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ ظاهرها أنَّها للمبالغة والتأكيد فقط، أي الكاملون.
قال الشَّيْخُ أبو عَبْدُ اللَّه محمد بن محمد بن أحمد الأَنْصَارِيّ الساحلي المالقي في كتابه الذي ألَّفَهُ في «السلوك» : واعلم أن الإنْسَانَ مطلوب بطَهَارَة نفسه، وتزكيتها، وطُرُقُ التزكية وإن كَثُرَتْ، فطريق الذِّكْرِ أسرع نفعاً، وأقرب مَرَاماً، وعليه دَرَجَ أكثر مشائخ التربية، ثم قال: والذِّكْرُ ضد النسيان، والمطلوب منه عِمَارَةُ الباطن باللَّهِ تعالى في كل زمان، ومع كل حال لأن الذِّكْرَ يَدُلُّ على المذكور لا محالة، فذكره ديدنا يوجب المَحَبَّةَ له، والمعرفة به، والذكر وإن اختلف ألفاظه ومعانيه، فلكل معنًى [من] معانيه اختصاص بنوعٍ من التَّحْلِيَةِ والتخلية، والتزكية، ثم قال: والذِّكْرُ على/ قسمين: ذكر العامة، وذِكْرُ الخاصة. أما ذِكْرُ العامة، وهو ذِكْرُ الأجور، فهو أن يذكر العَبْدُ مَوْلاَهُ بما شاء من ذِكْرِهِ لا يقصد غير الأجور والثواب، وأما ذكر الخَاصَّة، فهو ذِكْرُ الحضور، وهو أن يذكر العَبْدُ مَوْلاَهُ بأذكار مَعْلُومَةٍ، على صفة مَخْصُوصَةٍ لِينال بذلك المَعْرِفَةَ باللَّهِ سبحانه بطهارة نَفْسِهِ من كل خُلُقٍ ذَمِيمٍ، وتحليتها بكل خُلُق كريم. انتهى.
ووَجِلَتْ: معناه: فَزِعَتْ، وَرَقَّتْ، وخافت، وبهذه المعاني فسرتها العلماء.
وتُلِيَتْ معناه: سُرِدَتْ، وقرئت، والآيات هنا: القرآن المَتْلُوُّ.
ومن كلام صاحب «الكلم الفارقية» : إن تَيَقَّظْتَ يقظة قلبية، وانْتَبَهْتَ انتباهة حقيقية لم تر في وَقْتِكَ سَعَةً لغير ذِكْرِ ربك، واستشعار عظمته، ومهابته، والإِقبال على طاعته، ما في
وزيادة الإيمان على وجوه كلها خَارِجٌ، عن نَفْسِ التصديق: منها أن المؤمن إذا كان لم يسمع حكما من أحكام الله عز وجل في القرآن، فنزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم فسمعه، فآمن به، زاد إيماناً إلى سائر ما قد آمن به إذ لكل حُكْم تَصْدِيقٌ خاص، وهذا يَتَرتَّبُ فيمن بَلَغَهُ ما لم يكن عنده من الشرع إلى يوم القِيَامَةِ، وترتب زيادة الإِيمان بزيادة الدَّلاَئِلِ، ولهذا قال مالك: الإِيمان يَزِيدُ ولا ينقص، ويترتب بِزِيَادَةِ الأعمال البَرَّةِ على قول من يَرَى أنَّ لَفْظَةَ الإيمان واقعة على التَّصْدِيقِ والطاعات، وهؤلاء يقولون: يزيد وينقص.
وقوله سبحانه: وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ عبارة جامعة لِمَصَالِحِ الدنيا والآخرة إذا اعتبرت، وعمل بحسبها في أن يَمْتَثِلَ الإنسان ما أمر به، ويبلغ في ذلك أقصى جهده دون عجز، وينتظر بعد ما وعد به من نَصْرٍ، أو رزق، أو غيره، وهذه أَوْصَافٌ جَمِيلَةٌ وَصَفَ اللَّه بها فُضَلاَءَ المؤمنين، فجعلها غاية للأُمَّةِ يَسْتَبِقُ إِليها الأَفَاضِلُ، ثم أَتْبَعَ ذلك وَعْدَهُمْ وَوَسْمَهُمْ بإِقامة الصلاة، ومدحهم بها حضّا على ذلك.
وقوله: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. قال جَمَاعَةٌ من المفسرين: هي الزَّكَاةُ وإِنما حملهم على ذلك اقْترَانُ الكلام بإِقَامَةِ الصَّلاَةِ، وإِلا فهو لفظ عام في الزكاة، ونوافل الخَيْرِ، وَصِلاَتِ المستحقين، ولفظ ابنَ عَبَّاسٍ في هذا المعنى محتمل.
وقوله سبحانه: لَهُمْ دَرَجاتٌ ظَاهِرُهُ، وهو قَوْلُ الجمهور أن المراد مَرَاتِبُ الجنة، ومنازلها، ودرجاتها على قَدْرِ أعمالهم، وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يريد مَآكِلَ الجنة، ومشاربها، وكَرِيمٌ صفة تقتضي رَفْعَ المَذَامِّ، كقوله: ثوب كَرِيمٌ.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٥ الى ٦]
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦)
وقوله سبحانه: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ... الآية: اختلف في معنى هذه الآية، فقال الفَرَّاءَ: التقدير امْضِ لأمرك/ في الغَنَائِمِ، وإن كرهوا كما أخرجك رَبُّكَ.
قال ع «١» : وتحرير هذا المعنى عندي أن يقال: هذه الكاف شبّهت هذه القصّة
وقال مجاهد وغيره: المعنى في الآية: كما أخرجك ربك من بَيْتِكَ على كَرَاهِيَةٍ من فريق منهم، كذلك يُجَادِلُونَكَ في قتال كفار «مكة»، ويوَدُّونَ غير ذَاتِ الشَّوْكَة من بعد ما تَبَيَّنَ لهم أنك إنما تفعل ما أمرت به لا ما يُريدُون «١» هم، وقائل هذه المَقَالَةِ يقول: إن المجادلين هم المؤمنون، وقائل المقالة الأولى يقول: إن المُجَادِلِينَ هم المشركون، وهذان القولان يتم بهما المَعْنَى، ويحسن رَصْفُ اللفظ.
وقيل غير هذا.
وقوله: مِنْ بَيْتِكَ يريد من «المدينة» «يثرب» قاله الجمهور.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٧ الى ١٠]
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠)
وقوله سبحانه: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ... الآية: في هذه الآية قَصَصٌ حَسَنٌ، محل استيعابه «كتاب سيرة رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم» لابن هشام، واختصاره: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما بلغه، وقيل: أوحي إليه أن أبا سُفْيَانَ بن حَرْبٍ، قد أَقبل من «الشام» بالعِيرِ التي فيها تجارة قُرَيْشٍ وأموالها قال لأصحابه: إن عِيرَ قريش قد عَنّتْ لكم، فاخرجوا إليها، لعل اللَّه أن يَنْفُلَكُمُوها. قال: فانبعث معه من خَفَّ، وثَقُلَ قوم، وكرهوا الخروج، وأسرع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يَلْوِي على من تَعَذَّرَ، ولا ينظر من غاب ظهره، فسار في ثلاث
هذه عِيرُنَا قد نَجَتْ، فلننصرف/ فحرش «١» أبو جهل وَلَجَّ، حتى كانَ أَمْرُ الواقعة. وقال بعضٍ المؤمنين: نحن لم نخرج لِقِتَالٍ، ولم نَسْتَعِدَّ له، فجمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أَصْحَابَهُ، وهو بِوَادٍ يسمى «دَقران» وقال: أشيروا علي أيها النَّاسُ، فقام أبو بَكْرٍ، فتكلم، وأحسن، وحَرَّضَ الناس على لقاء العدو، فأعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الاسْتِشَارَةَ، فَقَامَ عمر بِمِثْلِ ذلك، فأعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الاسْتِشَارَةَ، فتكلم المِقْدَادُ بْنُ الأسود الكندي «٢»، فقال: لا نقول لك يَا رَسُولَ اللَّه كما قالت بَنُو إِسرائيل: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، ولكن نَقُولُ: إِنا معكما مقاتلون، واللَّه لو أردت بنا برك الغماد يعني مدينة «الحبشة» لَقَاتَلْنَا معك من دُونِهَا، فسر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكلامه، ودعا له بخير، ثم قال: أشيروا علي أيها النَّاسُ، فكلمه سعد بنُ مُعَاذٍ، وقيل: سعد بن عبادة، ويحتمل هما معاً فقال: يا رسول اللَّه، كأنك إيانا تُريدُ معشر الأنصار، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أجل، فقال: إنا قد آمَنَّا بك، واتبعناك،
ينظر: «لسان العرب» (٨٣٤).
(٢) هو: المقداد بن عمرو (الأسود الكندي) بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن عامر بن مطرود بن عمرو بن سعد... أبو الأسود البهراوي.
الشهرة: المقداد بن الأسود الكندي، قال ابن حجر: أسلم قديما وتزوج ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب ابنة عم النبي، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرا والمشاهد بعدها، وكان فارسا يوم بدر حتى أنه لم يثبت أنه كان فيها على فرس غيره، وروى المقداد عن النبي أحاديث كثيرة، توفي سنة ٣٣ في خلافة عثمان وله ٧٠ سنة.
ينظر: «الثقات» (٣/ ٣٧١)، «أسد الغابة» (٥/ ٢٥١)، «التاريخ الصغير» (١/ ٨٣)، «معجم الثقات» (١٢٣)، «الاستبصار» (١٤٥، ٢٠٨)، «تقريب التهذيب» (٢/ ٢٧٢)، «المنمق» (٤٥٣، ٥١٣، ٥١٤)، «تراجم الأحبار» (٣/ ٣٥١، ٣٧٠)، «الإصابة» (٦/ ١٣٣)، «الأعلام» (٧/ ٢٨٢)، «أصحاب بدر» (٨٥)، «تجريد أسماء الصحابة» (٢/ ٩٢)، «الجرح والتعديل» (٨/ ٤٢٦)، «الطبقات» (١٦/ ١٢٠).
«امضوا على بَرَكَةِ اللَّه، فكأني أنظر إلى مَصَارِعِ القوم» فالتقوا وكانت وقعة بدر.
ت: وفي «صحيح البخاري» من حَدِيثِ عائشة، في خروج أبي بكر من «مكة» فلقيه ابن الدّغنة عند برك الغمَادِ «١» الحديث، وليست بمدينة «الحبشة» من غير شَكٍّ. فاللَّه أعلم، ولعلهما موضعان. انتهى.
والشَّوْكَةِ عبارة عن السِّلاَحِ والحِدَّةِ.
وقوله سبحانه: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ المعنى:
ويريد اللَّه أن يُظْهِرَ الإِسلام، ويعلي دعوة الشَّرْعِ بكلماته التي سَبَقَتْ في الأَزَلِ، والدابر الذي يدبر القَوْمَ، أي يأتي آخرهم، وإِذا قطع فقد أتى على آخرهم بشَرْطِ أَن يبدأ الإهلاك من أولهم، وهي عبارة في كل من أتى الهَلاَكُ عليه.
وقوله سبحانه: لِيُحِقَّ الْحَقَّ أي: ليظهر الحق الذي هو دين الإسلام، ويُبْطِلَ الْباطِلَ، أي: الكفر، وتَسْتَغِيثُونَ معناه: تطلبون الغوث، ومُمِدُّكُمْ أي: مكثركم، ومقويكم من: أمددت، ومُرْدِفِينَ معناه: متبعين.
وقرأ سائر السبعة «٢» غير نافع: «مردفين» - بكسر الدال-، ونافع بفتحها، وروي عن ابن عَبَّاسٍ: خَلْفَ كل مَلَكٍ مَلَكٌ «٣»، وهذا معنى التتابع، يقال: رَدِفَ وأَرْدَفَ إِذا اتبع، وجاء بعد الشَّيْءِ، ويحتمل أن يُرَادُ مُرْدِفِينَ للمؤمنين، ويحتمل أن يُرَادَ مردفين بعضهم بَعْضَاً، وأنشد الطبري «٤» شَاهِداً على أن أرْدَفَ بمعنى جاء تَابِعاً قَوْلَ الشاعر: [الوافر]
إِذَا الجَوْزَاءُ أَرْدَفَتِ الثُّرَيَّا | ظَنَنْتُ بِآلِ فَاطِمَةَ الظُّنُونَا «٥» |
(٢) ورويت عن أبي عمرو كما في «الكشاف» (٢/ ١- ٢)، و «المحرر الوجيز» (٢/ ٥٠٤)، و «البحر المحيط» (٤/ ٤٦٠)، و «الدر المصون» (٣/ ٣٩٨).
(٣) أخرجه الطبري (٦/ ١٨٩) برقم: (١٥٧٥٨)، وذكره ابن عطية (٢/ ٥٠٤)، وابن كثير (٢/ ٢٩٠)، والسيوطي (٣/ ٣١٠)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وأبي الشيخ.
(٤) ينظر: «تفسير الطبري» (٦/ ١٩٠).
(٥) البيت لخزيمة بن مالك. ينظر: «تفسير الطبري» (٦/ ١٩٠)، وينظر: «اللسان» (ردف)، و «الدر المصون» (٣/ ٤٠٠).
واختلف في غيره قال ابن إسحاق: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّه بن أبي بكر أنه حُدِّثَ عن ابن عباس، أنه قال: حدثني رَجُلٌ من بني غِفَارٍ، قال: أقبلت أنا وابن عَمٍّ لي حتى صَعَدْنَا في جَبَل يُشْرِفُ بنا على بَدْرٍ، ونحن مشركان ننتظر الوَقْعَةَ على من تكون، فَنَنْتَهِبُ مع من يَنْتَهِبُ. قال: فبينما نحن في الجَبَلِ، إذ دنت منا سَحَابَةٌ، فسمعنا فيها حَمْحَمَةَ الخَيْلِ، / فسمعت قائلاً يقول: أقدمَ حَيْزُوْم، فأما ابن عمي، فانكشف قِنَاعُ قَلْبِهِ، فمات مكانه، وأما أنا فَكِدْتُ أَهْلَكُ، ثم تَمَاسَكْتُ «١».
قال ابن إسحاق: وحدثني عَبْدُ اللَّه بن أبي بَكْرٍ عن بعض بني سَاعِدَةَ عن أبي سعيد مالك بن رَبِيعَةَ، وكان شهد بَدْراً، قال بعد أن ذهب بَصَرُهُ: لو كنت اليوم ببدر، ومعى بَصَرِي لأريتكم الشِّعْبَ الذي خَرَجَتْ منه المَلاَئِكَةُ لا أَشَكُّ ولا أَتَمَارَى. انتهى من «سيرة ابن هِشَامٍ».
وقوله سبحانه: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ الضمير في «جعله» عائد على الوَعْدِ، وهذا عندي أَمْكَنُ الأقوال من جهة المَعْنَى.
وقيل: عائد على المَدَدِ، والإِمداد.
وقيل: عائد على الإرداف.
وقيل: عائد على الأَلْف، وقوله: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ توقيف على أن الأَمْرَ كُلَّهُ للَّه وأن تَكَسُّبَ المَرْءِ لا يغني، إذا لم يساعده القَدَرُ، وإن كان مَطْلُوباً بالجدّ، كما ظاهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين در عين.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ١١ الى ١٣]
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣)
وقوله سبحانه: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ. القصد تعديد نعمه سبحانه على
يُغَشِّيكُمُ- بفتح الغين وَشَدِّ الشين المكسورة، وقرأ ابن كثير وغيره: «يَغْشَاكم» - بفتح الياء وألف بعد الشين- «النُّعَاسُ» بالرفع، ومعنى يُغَشِّيكُمُ: يغطيكم، والنُّعَاسُ أَخَفُّ النوم، وهو الذي يصيب الإِنْسَانَ، وهو واقف أو مَاشٍ، وينص على ذلك قَصَصُ هذه الآية أنهم إنما كان بهم خَفْقٌ بالرُّؤُوس، وقوله: أَمَنَةً مصدر من أَمِنَ يَأْمَنُ أَمْنَاً وأَمَنَةً وأَمَاناً، والهاء فيه لتأنيث المصدر، كما هي في المَسَاءَةِ والحَمَاقَةِ والمَشَقَّةِ.
وروي عن ابن مَسْعُودٍ أنه قال: النُّعَاسُ عند حضور القِتَالِ عَلاَمَةُ أمن، وهو من اللَّه، وهو في الصَّلاَةِ من الشيطان «٢».
قال ع «٣» : وهذا إنما طريقه الوَحْيُ، فهو لا مَحَالَةَ يسنده وقوله سبحانه:
وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ. وذلك أن قَوْماً من المؤمنين لحقتهم جَنَابَاتٌ في سفرهم، وعدموا المَاءَ قَرِيبَ بَدْرٍ، فصلوا كذلك، فَوَسْوَسَ الشيطان في نفوس بعضهم مع تخويفه لهم من كثرة العَدُوِّ وقلتهم، وأيضاً فكانت بينهم وبين مَاءِ بَدْرٍ مَسَافَةٌ، من رمل دَهْسٍ «٤» تَسُوخُ «٥» فيها الأَرْجُلُ، فكانوا يتوقعون أن يسبقهم الكُفَّارُ إلى ماء بدر، فأنزل اللَّه تلك المَطَرَةَ فَسَالَتِ الأودية، فاغتسلوا، وطهرهم اللَّه تعالى فذهب رِجْزُ الشيطان، وَتَدَمَّثَ «٦» الطريق، وتَلَبَّدَتْ «٧» تلك الرِّمَالُ، فسهل اللَّه عليهم السير، وأمكنهم الإسراع
(٢) أخرجه الطبري (٦/ ١٩٢) برقم: (١٥٧٧١- ١٥٧٧٢- ١٥٧٧٣)، وذكره ابن عطية (٢/ ٥٠٦)، والبغوي (٢/ ٢٣٤)، وابن كثير (٢/ ٢٩١).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٥٠٦).
(٤) رمل أدهس بيّن الدّهس، والدّهاس من الرمل: ما كان كذلك لا ينبت شجرا، وتغيب فيه القوائم...
وقيل: ما سهل ولان من الأرض، ولم يبلغ أن يكون رملا.
ينظر: «لسان العرب» (١٤٤١)، و «النهاية» (٢/ ١٤٥).
(٥) أي: غاصت في الأرض. ينظر: «اللسان» (٢١٤١).
(٦) الدّمث: السهول من الأرض، الواحدة دمثة، وهو أيضا المكان اللين ذو رمل، ودمّث الشيء: إذا مرسه حتى يلين.
ينظر: «لسان العرب» (١٤١٨- ١٤١٩).
(٧) أي: صارت قوية لا تسوخ فيها الأرجل.
ينظر: «لسان العرب» (٣٩٨٤).
والضمير في «به» على هذا الاحتمال عَائِدٌ على الماء، ويحتمل عَوْدُهُ على رَبْطِ القلوب، ويكون تثبيت/ الأقدام عِبَارَةً عن النصر والمعونة في مَوْطِنِ الحَرْبِ، ونزول الماء كان في الزمن قبل تَغْشِيَةِ النعاس، ولم يترتب كذلك في الآية، إذ القَصْدُ فيها تَعْدِيدُ النعم فقط.
وقوله سبحانه: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا وتثبيتهم يكون بقتالهم، وبحضورهم، وبأقوالهم المُؤْنِسَةِ، ويحتمل أن يكون التَّثْبِيتُ بما يلقيه المَلَكُ في القلب بِلَمَّتِهِ من تَوَهُّمِ الظَّفَرِ، واحتقار الكفار، وبخواطر تشجعه.
قال ع «١» : ويقوي هذا التأويل مطابقة قوله تعالى: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ وعلى هذا التأويل يجيء قوله: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ مخاطبة للملائكة، ويحتمل أن يكون مخاطبة للمؤمنين. وقوله سبحانه: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ قال عكرمة: هي على بابها، وأراد الرؤوس «٢»، وهذا أنبل الأقوال.
قال ع»
: ويحتمل عندي أن يريد وَصْفَ أبْلَغِ ضربات العنق وأحكمها، وهي الضربة التي تكون فَوْقَ عَظْمِ العنق دون عَظْمِ الرأس في المفصل، كما وصف دريد بن الصِّمَّة «٤»، فيجيء على هذا فوق الأَعْنَاقِ متمكناً.
والبَنَان: قالت فرقة: هي المَفَاصِلُ حيث كانت من الأعضاء.
(٢) أخرجه الطبري (٦/ ١٩٧) برقم: (١٥٨٠٠) نحوه، وذكره ابن عطية (٢/ ٥٠٨)، والبغوي (٢/ ٢٣٥)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٣١٣).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٥٠٨).
(٤) دريد بن الصمة الجشمي البكري، من هوازن: شجاع، من الأبطال، الشعراء، المعمرين في الجاهلية، كان سيد بني جشم وفارسهم وقائدهم، وغزا نحو مائة غزوة لم يهزم في واحدة منها، وعاش حتى سقط حاجباه عن عينيه، وأدرك الإسلام، ولم يسلم، فقتل على دين الجاهلية «يوم حنين»، وكانت هوازن خرجت لقتال المسلمين فاستصحبته معها تيمنا به، وهو أعمى، فلما انهزمت جموعها أدركه ربيعة بن رفيع السلميّ فقتله، له أخبار كثيرة، والصمة لقب أبيه معاوية بن الحارث.
ينظر ترجمته في: «الأعلام» (٢/ ٣٣٩) (٤١٦٤).
واقُّوا
: معناه خالفوا ونَابَذُوا، وقطعوا، وهو مأخوذ من الشَّقِّ، وهو القَطْعُ والفَصْلُ بين شيئين، وعبر المفسرون عن قوله: اقُّوا
أي: صاروا في شق غير شقه.
قال ع «١» : وهذا وإن كان معناه صَحِيحاً، فتحرير الاشتقاق إنما هو ما ذكرناه، وقوله: إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
جَوَابٌ للشرط، تضمن وَعِيداً وتهديدا.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ١٤ الى ١٦]
ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦)
وقوله سبحانه: ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ المُخَاطَبَةُ للكفار، أي ذلكم الضَّرْبُ والقَتْلُ، وما أوقع اللَّه بهم يوم بَدْرٍ، فكأنه قال: الأمر ذلكم فذوقوه، وكذا قرره سيبويه.
وقال بعضهم: يحتمل أن يكون «ذلكم» في موضع نَصْبٍ، كقوله: زيداً فاضربه، وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً... الآية: زَحْفاً يراد به متقابلي الصفوف والأشخاص، أي: يزحف بعضهم إِلى بعض، وأصل الزحف الاندفاع على الأَلْيَةِ، ثم سمي كل مَاشٍ إلى آخر في الحرب رُوَيْداً زاحفاً، إذ في مشيته من التَّمَاهُلِ والتَّبَاطُؤِ ما في مشي الزاحف، وفي هذا المعنى شواهد من كلام العرب، ونهى اللَّه سبحانه في هذه الآية عن تَوَلِّي الأَدْبَارِ، وهذا مقيد بالشَّريطَةَ المنصوصة في مثلي المؤمنين، والفرار هنالك كَبِيرَةٌ موبقة بظاهر القرآن، والحديث، وإجماع الأكثر من الأمة.
وقوله: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ... الآية. قال جمهور الأمة: الإشارة ب يَوْمَئِذٍ إلى يوم اللقاء الذي يتضمنه قوله: إِذا لَقِيتُمُ وحكم الآية باقٍ إِلى يوم القيامة، بشرط الضعف الذي بَيَّنَهُ اللَّه سبحانه.
ت: قال ابن رشد: وهذا ما لم يبلغ عَدَدُ/ المسلمين اثني عشر أَلْفاً، فإِن بلغ حرم الفرار، وإن زاد المشركون على الضعف للحديث «لن تغلب اثنا عشر ألفاً من قِلَّةٍ»، فإن أكثر أهل العِلْمِ خَصَّصُوا بهذا الحديث عموم الآية.
وفهم ع «١» : الحديث على التَّعَجُّبِ، ذكره عند قوله: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ [التوبة:
٢٥]، وما قاله ابنُ رشْدٍ هو الصواب. والله أعلم.
ومُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ يراد به الذي يَرَى: أن فعله ذلك أنْكَى للعدو، ونصبه على الحال، وكذلك نصب مُتَحَيِّزاً، وأما الاسْتِثْنَاءُ، فهو من المولين الذين تضمنهم «من».
والفِئَةُ هنا الجَمَاعَةُ الحاضرة للحرب، هذا قول الجمهور.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ١٧ الى ١٩]
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩)
وقوله سبحانه: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى هذه الألفاظ تَرِدُ على من يزعم أن أَفْعَالَ العباد خَلْقٌ لهم، ومذهب أهل السنة أنها خلق للرب سبحانه كسْبٌ للعبد روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذ يومئذٍ ثلاث قَبَضَاتٍ من حَصًى وتُرَابٍ، فرمى بها في وجوه القوم، فانهزموا عند آخر رمْيَةِ، ويروى أنه قال يوم بدر: «شَاهَتِ الوُجُوهُ» «٢» وهذه الفعلة أيضاً كانت يوم «حنين» بلا خلاف.
ولِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ أي: ليصيبهم ببلاء حَسَنٍ، وظاهر وصفه بالحسن يقتضي أنه أراد الغنيمة، والظفر، والعزة.
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لاستغاثتكم، عَلِيمٌ بوجوه الحكمة في جميع أفعاله لا إله إلا هو.
وقوله سبحانه: ذلِكُمْ إشارة إلى ما تقدم من قَتْلِ اللَّه لهم، ورميه إياهم، وموضع ذلِكُمْ من الإعراب رفع.
(٢) أخرجه أحمد (١/ ٣٠٣، ٣٦٨)، والحاكم (٣/ ١٥٧)، وابن حبان (٦٥٠٢)، والبيهقي في «دلائل النبوة» (٦/ ٢٤٠) من طريق ابن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس به. وصححه الحاكم وابن حبان.
وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٨/ ٢٢٨)، وقال: رواه أحمد بإسنادين، ورجال أحدهما: رجال الصحيح. [.....]
وقوله سبحانه: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ... الآية: قال أكثر المتأولين:
هذه الآية مخاطبة لكفار «مكة» روي أن قريشاً لما عَزَمُوا على الخروج إلى حِمَايَةِ العِيرِ، تعلقوا بأستار الكعبة، واستفتحوا، وروي أن أبا جَهْلٍ قال صبيحة يوم بدر: اللهم انصر أَحَبَّ الفئتين إليك، وأظهر خَيْرَ الدِّينَيْنِ عندك، اللهم أَقْطَعُنَا للرحم فَأَحْنِهِ الغَدَاةَ، ونحو هذا فقال اللَّه لهم: إن تطلبوا الفَتْحَ فقد جاءكم، أي: كما ترونه عليكم لاَ لَكُمْ، وفي هذا توبيخ لهم، وإن تنتهوا عن كفركم وغيكم فهو خَيْرٌ لكم، وإن تعودوا للاستفتاح نَعُدْ بمثل وَقْعَةِ بدر، وباقي الآية بيّن.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٢٠ الى ٢٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)
وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ... الآية: قيل: إنها نزلت بسبب اختلافهم في النَّفْل، ومجادلتهم في الحق، وكراهيتهم خروج النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتَوَلَّوْا أصله: تتولوا.
وقوله: أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ يريد دُعَاءه لكم بالقرآن والمواعظ.
وقوله: كَالَّذِينَ قالُوا يريد الكفار إما من قريش لقولهم: سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال: ٣١]، وأما الكفار على الإطلاق.
وقوله سبحانه: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ مَقْصِدُ الآية بيان أن هذه/ الصنيفة العاتية من الكُفَّارِ هي شَرُّ النَّاسِ عند اللَّه سبحانه وأنها في أخَسِّ المَنَازِلِ لديه، وعبر بالدواب ليتأكد ذمهم، وقوله: الصُّمُّ الْبُكْمُ عبارة عما في قلوبهم، وعدم انشراح صدورهم، وإدراك عقولهم.
وقوله: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ أي سماع هدى، وَتَفَهُّمٍ، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ أي: ولو فهمهم لَتَوَلَّوْا بحكم القضاء السابق فيهم، ولأعرضوا عما تبين لهم من الهدى.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٢٤ الى ٢٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦)
وقوله سبحانه: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ يحتمل وجوهاً:
منها: أنه لما أمرهم سبحانه بالاستجابة في الطاعة، حضَّهم على المبادرة والاستعجال، وأعلمهم أنَّه يحولُ بين المرء وقَلْبه بالموت والقَبْض، أي: فبادروا الطاعات، ويلتئم مع هذا التأويلِ قوله: وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، أي: فبادروا الطاعات، وتزوَّدوها ليوم الحَشْر.
ومنها: أن يقصد إِعلامهم أن قُدْرة اللَّه وعلْمه وإِحاطته حائلةٌ بين المرء وقلبه، فكأن هذا المعنَى يحضُّ على المراقبة والخَوْفِ للَّه المُطلَّع على الضمائر حُكِيَ هذا التأويلُ عن قتادة «٢» ويحتملُ أن يريد تخويفهم إِنْ لم يمتثلوا الطَّاعات، ويستجيبوا للَّه وللرَّسول أَنْ يَحُلَّ بهم ما حل بالكفَّار الذين أرادهم بقوله: وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال: ٢٣] لأن حَتْمهُ عليهم بأنهم لو سَمِعُوا لم ينتفعوا يقتضِي أنه كان قد حال بينهم وبَيْنَ قلوبهم.
ومنها: أنْ يكون المعنَى ترجيةً لهم بأنَّ اللَّه يبدِّل الخوف الذي في قلوبهم مِنْ كثرة الَعدُوِّ، فيجعله جراءةً وقوةً، وبضدِّ ذلك للكفَّار، أي: فإِن اللَّه تعالَى هو مقلِّب القلوب كما كان قسم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقيل غير هذا.
قال مكِّيٌّ، وقال الطبريُّ «٣» : هذا خبر من الله عز وجلّ أنه أَمْلَكُ بقلوبِ العباد منهم لها، وأنه يحولُ بينهم وبينها إِذا شاء حتى لا يُدْرِك الإِنسان شيئاً من إِيمان ولا كُفْر، ولا يعي شيئاً، ولا يفهم شيئاً إِلا بإذنه ومشيئته سبحانه، وقد كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كثيرا ما يقول في
(٢) أخرجه الطبري (٦/ ٢١٥) برقم: (١٥٩١٦) بنحوه.
(٣) ينظر: «الطبري» (٦/ ٢١٥).
وروى مالكُ بن أنس والنسائي، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دَعَا أُبَيَّ بْنُ كَعْب وهو في الصَّلاَة، فَلَمْ يُجِبْهُ، وأَسْرَعَ في بَقِيَّةِ صَلاَتِهِ، فَلَمَّا فرغ جاء، فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ألم يقل الله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ؟ قال أُبَيٌّ: لاَ جَرَمَ، يا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ تَدْعُونِي أَبَدَاً إِلاَّ أَجَبْتُكَ... » «٢» الحديث بطوله، واختلاف ألفاظه، وفي «البخاريِّ ومسلم» أن ذلك/ وقع مع أبي سَعِيدِ بن المعلى «٣»، وروي أنه وقع نحوه مع حُذَيْفَة بن اليَمَانِ «٤» في غزوة الخَنْدَق.
وقوله: عزَّ وجلَّ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً في الآية تأويلاتٌ، أسبقها إِلى النفْسِ، أن اللَّه سبحانه حذَّر جميع المؤمنين من فتنة إِن أصابَتْ لم تخصَّ الظلمة فقطْ، بل تصيبُ الكُلَّ من ظالمٍ وبريءٍ، وهذا تأويلُ الزُّبَيْر بن العَوَّام، والحسنِ البَصْرِيِّ «٥»، وكذلك تأويل ابن عباس فإنه قال: أمر اللَّه المؤمنين في هذه الآية ألاَّ يقروا المنكر بين أظهرهم، فيعمّهم العذاب «٦» وخَاصَّةً: نعت لمصدرٍ محذوف، تقديره إِصابةً خاصةً، فهي نصب على الحال، وقرأ علي «٧» بن أبي طالب رضي اللَّه عنه وغيره: «لتُصِيبَنَّ» - باللام- على جواب قسم، والمعنَى على هذا: وعيدٌ للظلمة فقط.
وقوله سبحانه: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ... الآية: هذه الآية تتضمَّنِ تعديد نِعَم اللَّه على المؤمنين، و «إذ» : ظرفٌ لمعمول، «واذكروا» : تقديره: واذكروا حالكم الكائنة، أو
(٢) تقدم تخريجه في سورة «الفاتحة».
(٣) تقدم تخريجه.
(٤) تقدم تخريجه في سورة «الفاتحة».
(٥) أخرجه الطبري (٦/ ٢١٦- ٢١٧) برقم: (١٥٩١٧) وبرقم: (١٥٩١٨- ١٥٩١٩- ١٥٩٢٠)، وذكره ابن عطية (٢/ ٥١٥)، وذكر نحوه البغوي (٢/ ٢٤١)، وابن كثير (٢/ ٢٩٩) بنحوه أيضا، والسيوطي (٣/ ٣٢١).
(٦) أخرجه الطبري (٦/ ٢١٧) برقم: (١٥٩٢٣)، وذكره ابن عطية (٢/ ٥١٥)، والبغوي (٢/ ٢٤١)، وابن كثير (٢/ ٢٩٩)، والسيوطي (٣/ ٣٢٢).
(٧) وقرأ بها ابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبو العالية، وأبو جعفر محمد بن علي، والربيع بن أنس، وابن جمّار.
ينظر: «الشواذ» ص: (٥٤)، و «المحتسب» (١/ ٢٧٧)، و «الكشاف» (٢/ ٢١٢) و «المحرر الوجيز» (٢/ ٥١٦)، و «البحر المحيط» (٤/ ٤٧٨)، و «الدر المصون» (٣/ ٤١٢).
وإِنما يعمل الذِّكْرُ في «إذْ» لو قدَّرناها مفعولة، واختلف في الحال المشار إِليها بهذه الآية.
فقَالَتْ فرقَةٌ وهي الأكثر: هي حالُ المؤمنين بمكَّة في وقْتِ بداءةِ الإسلام، والنَّاس الذين يُخَافُ تخطُّفُهم كُفَّار مكَّة، والمأْوَى: المدينةُ، والتأييدُ بالنَّصْر: وَقْعَةُ بَدْرٍ وما انجر معها في وقتها، والطيبات: الغنائم وسائر ما فتح الله عليهم به، وقالتْ فرقة: الحال المشارُ إليها هي حالهم في غزوة بَدْرٍ، والناس الذين يُخَافُ تخطُّفهم، على هذا: عسكر مكَّة وسائر القبائل المجاورة، فإن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يتخوَّف من بعضهم، والمأوى على هذا، والتأييد بالنصر: هو الإِمداد بالملائكَةِ والتغليبُ على العدو، والطّيّبات: الغنيمة.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)
وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ هذا خطابٌ لجميع المؤمنين إِلى يوم القيامة، وهو يجمع أنواع الخياناتِ كلَّها قليلَهَا وكثيرَهَا، والخيانةُ:
التنقُّص للشيءِ باختفاء، وهي مستعْمَلَةٌ في أنْ يفعل الإِنسان خلاف ما يَنْبَغِي مِنْ حفظ أمْرٍ مَّا، مالاً كان أو سرًّا أو غير ذلك، والخيانة للَّه عَزَّ وجل: هي في تنقّص أوامره في سِرٍّ.
وقوله: وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ.
قال الطبريُّ «١» : يحتمل أن يكون داخلاً في النهيْ كأنه قال: لا تخونوا اللَّه والرسولَ، ولا تخونوا أماناتِكُمْ، ويحتمل أن يكون المعنَى: لا تخونوا اللَّه والرسول فذلك خيانةٌ لأماناتكم.
وقوله: فِتْنَةٌ
، يريد: محنةً واختبارا وامتحانا ليرى كَيْفَ العملُ في جميع ذلك.
وقوله: وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
، يريد: فوز الآخرة، فلا تَدَعُوا حظَّكم منه للحيطة على أموالكم وأبنائكم فإِن المذخور للآخرة أعظم أجرا.
قوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ... الآية: وعْدٌ للمؤمنين بشرط
[الطويل]
وَكَيْفَ أُرَجِّي الخُلْدَ والمَوْتُ طَالِبِي | وَمَاليَ مِنْ كَأْسِ المَنيِّةِ فُرْقَانُ «٣» |
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١)
وقوله سبحانه: وَإِذْ يَمْكُرُ/ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا... الآية: تذكيرٌ بحال مكَّة وضيقها مع الكفرة، وجميل صُنْع اللَّه تعالى في جميع ذلك، والمَكْرُ: المخاتلة والتداهي تقول:
فلانٌ يَمْكُرُ بفلان إِذا كان يستدرجه، وهذا المكر الذي ذكر اللَّه تعالى في هذه الآية هو بإِجماع من المفسِّرين: إِشارةٌ إِلى اجتماع قُرَيْش في «دار النَّدْوَةِ» بمحْضَر إِبْليسَ في صورة شيخٍ نَجْدِيٍّ على ما نصَّ ابن إِسحاق في «سِيَرِهِ» الحديثَ بطوله، وهو الذي كان خُرُوجُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسببه، ولا خلاف أن ذلك كان بَعْدَ مَوْت أبي طالب، ففي القصَّة: أن أبا جهْلٍ قال: الرأْيُ أنْ نأخذ من كل بطنٍ في قريشٍ فَتًى قويًّا جَلْدياً، فيجتمعون ثم يأخُذ كُلُّ واحد منهم سيفاً، ويأتون محمداً في مَضْجَعه، فيضربونه ضَرْبةَ رجُلٍ واحدٍ، فلا تَقْدِرُ بَنُو هاشِمٍ على قِتالِ قُرَيْشَ بأسرها، فيأخذون العَقْلَ، ونستريحُ منه، فقال النَّجْدِيُّ: صدق الفَتَى هذا الرأيُ: لاَ رَأْيَ غيره، فافترقوا عَلَى ذلك، فأخبر اللَّه تعالَى بذلك نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، وأذن له في الخُرُوجِ إِلى المدينة، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ليلته، وقال لعليّ بن أبي
(٢) أخرجه الطبري (٢٢٣) برقم: (١٥٩٠، ١٥٩٥٨)، وذكره ابن عطية (٢/ ٥١٨).
(٣) ينظر البيت في: «البحر المحيط» (٤/ ٤٨١)، و «الدر المصون» (٤١٤)، و «القرطبي» (٧/ ٣٩٦). [.....]
وقوله سبحانه: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا، يعني: القرآن، قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا، وقولهم: إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، أي: قَصَصُهُمُ المَكْتُوبةُ المسْطُورة، وأساطيرُ: جمع «أسطورة»، ويحتمل جمع: «أَسْطَار»، وتواترتِ الرواياتُ عن ابنِ جُرَيْج وغيره: أن قائل هذه المقالة هو النضر بن الحارِثِ وذلك أنه كان كَثِيرَ السَّفَرِ إِلى فَارسَ والحِيرَة، فكان قد سَمِعَ من قصص الرهبان وأخبار رُسْتُم وإسْفِنْديَار، فلما «٣» سمع القرآن، ورأى فيه أخبار الأنبياء والأمم، قال: لو شئت لقلْتُ مثْلَ هذا، وكان النضْرُ من مردة قريش النائلين من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ونزلَتْ فيه آيات كثيرة من كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ، وأمْكَنَ اللَّه منْهُ يَوْمَ بدر، وقتله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صَبْراً بالصَّفْرَاء مُنْصَرَفَهُ من بَدْرٍ في موضعٍ يقال له «الأَثيل»، وكان أَسَرَهُ المِقْدادُ، فلما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بضرب عُنْقِهِ، قال المقداد:
أَسِيرِي، يا رَسُولَ الله! فقال/ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ في كِتَابِ اللَّهِ مَا قَدْ عَلِمْتُمْ»، ثُمَّ أَعَادَ الأَمْرَ بِقَتْلِهِ، فَأَعَادَ المقداد مقالته، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللَّهُمَّ، أَغْنِ المِقْدَادَ مِنْ فَضْلِكَ»، فَقَالَ المِقْدَادُ: هذا الّذي أردت، فضربت عنق النّضر «٤».
(٢) أخرجه الطبري (٦/ ٢٢٥) برقم: (١٥٩٧١)، وذكره ابن عطية (٢/ ٥١٩)، والبغوي (٢/ ٢٤٤)، وابن كثير (٢/ ٢٠٣)، والسيوطي (٣/ ٣٢٦).
(٣) أخرجه الطبري (٦/ ٢٢٩) برقم: (١٥٩٩١)، وذكره ابن عطية (٢/ ٥٢٠)، والبغوي (٢/ ٢٤٥)، وابن كثير (٢/ ٣٠٤)، والسيوطي (٣/ ٣٢٧).
(٤) أخرجه أبو داود في «المراسيل» (ص ٢٤٨- ٢٤٩) برقم: (٣٣٧) عن سعيد بن جبير مرسلا.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٢ الى ٣٤]
وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤)وقوله عز وجل: وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ... الآية: رُوِيَ عن مجاهدٍ وغيره: أن قائل هذه المقالة هو النَّضْرُ بْنُ الحَارثِ المذكورُ، وفيه نزلَتْ هذه الآية «١».
قال ع «٢» : وترتَّب أن يقول النَّضْرُ مقالَةً، وينسبها القُرآن إِلى جميعهم لأن النضر كان فيهم موسُوماً بالنُّبْل والفَهْم، مسكوناً إِلى قوله، فكان إِذا قال قولاً قاله منهم كثيرٌ، واتبعوه عليه حَسَب ما يفعله الناسُ أبداً بعلمائهم وفقهائهم.
ت: وخرَّج البخاريُّ بسنده، عن أنسِ بنِ مالكٍ، قال: قَالَ أَبو جَهْلٍ: اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عندكْ، فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فنزلَتْ:
وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ، إِلى: عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ «٣» اه، والمشار إِليه ب هذا هو القرآن وشَرْعُ محمّد صلّى الله عليه وسلّم، والذي حملهم على هذه المقالة هو الحَسَدُ، فعَمِيَتْ بصائرهم عن الهدَى، وصَمَّموا على أنَّ هذا ليس بحقٍّ، نعوذ باللَّه من جَهْدِ البلاءِ، وسُوء القضاء، وحكى ابن فُورَكَ: أن هذه المقالة خرجَتْ منهم مَخْرَجَ العنادِ، وهذا بعيدٌ في التأويل، ولا يقولُ هذا على جهة العناد عاقلٌ، وقراءةُ الناسِ إِنما هي بنَصْب «٤» «الحق» على أنه خَبَرَ «كان»، ويكون «هو» فصلا، فهو حينئذٍ اسم، و «أمْطِرْ» إِنما تستَعْملُ غالباً في المكروه، و «مَطَرَ» في الرحمة قاله أبو عُبَيْدة «٥».
وقوله سبحانه: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ... الآية: قالَتْ فرقة: نزلَتْ هذه الآية كلُّها بمكَّة، وقالت فرقة: نزلَتْ كلُّها بعد وقعة بَدْرٍ حكاية عما مضى.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٥٢٠).
(٣) أخرجه البخاري (٨/ ١٦٠) كتاب «التفسير» باب: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ، وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ برقم: (٤٦٤٩).
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٥٢١)، و «البحر المحيط» (٤/ ٤٨٢)، و «الدر المصون» (٣/ ٤١٤).
(٥) ذكره ابن عطية (٢/ ٥٢١).
وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ | إلى آخر الآية، بعد بَدْر عند ظهور العَذَاب عليهم. |
قال ع «٢» : وأجمعَ المتأوِّلون عَلى أن معنى قوله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ أن اللَّه عزَّ وجلَّ لم يعذِّب قطُّ أُمةً ونبيُّها بَيْنَ أظهرها، أي: فما كان اللَّه ليعذِّب هذه الأمة، وأنْتَ فيهم، بل كرامَتُكَ لديه أعظَمُ.
وقوله عز وجل: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ تُوعُّد بعذاب الدنيا، والضمير في قوله:
أَوْلِياءَهُ: عائدٌ على اللَّه سبحانه، أو على المسجدِ الحرامِ، كلُّ ذلك جيِّد، ورُوِيَ الأخير عن الحسن «٣».
وقال الطبريُّ «٤» : عن الحسنِ بْنِ أَبي الحسنِ أن قوله سبحانه: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ ناسخ لقوله: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.
قال ع «٥» : وفيه نظر لأنه خبر لا يدخله نسخ.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٥ الى ٣٦]
وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦)
قال البخاري: له صحبة، وقال ابن أبي داود: تابعي.
ينظر: «تهذيب الكمال» (٢/ ٧٧٢)، «تهذيب التهذيب» (٦/ ١٣٢)، «خلاصة تهذيب الكمال» (٢/ ١٢٣)، «الكاشف» (٢/ ١٥٤)، «الجرح والتعديل» (٥/ ٢٠٠٩).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٥٢١).
(٣) ذكره ابن عطية (٢/ ٥٢٢).
(٤) ينظر: «الطبري» (٦/ ٢٣٢).
(٥) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٥٢٣). [.....]
قال ع «٢» : والذي مَرَّ بي من أمر العرب في غير ما دِيوَان أنَّ المكاء والتصدية كانا مِنْ فعل العرب قديماً قبل الإِسلام علَى جهة التقرُّب به والتشرُّع وعلَى هذا يستقيم تغييرُهُم وتنقُّصهم بأَن شرعهم وصلاتهم لم تَكُنْ رهبةً ولا رغبةً، وإِنما كانَتْ مكاءً وتصديةً من نوع اللعب، ولكنَّهم كانوا يتزيّدون فيهما وقت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليشغلوه هو وأمته عن القراءة والصَّلاة.
وقوله سبحانه: فَذُوقُوا الْعَذابَ... الاية: إِشارةٌ إِلى عذابهم ببَدْرٍ بالسيف قاله الحسن وغيره «٣» فيلزم أن هذه الآية الآخِرَةَ نزلَتْ بعد بَدْرٍ، ولا بدَّ.
قال ع «٤» : والأشبه أنَّ الكلَّ نزل بعد بَدْرٍ حكايةً عما مضَى.
وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ... الآية:
لما قُتِلَ من قُتِلَ ببدر، اجتمع أبناؤهم وقراباتهم، فقالوا لِمَنْ خَلُصَ ماله في العِيرِ: إِن محمَّداً قد نال منَّا ما تَرَوْنَ، ولكنْ أعينونا بهذا المال الذي كان سَبَبَ الوَقعَةِ، فلعلَّنا أنْ ننال منه ثأراً، يريدون نفقته في غَزْوَةَ أَحُدٍ.
وقوله سبحانه: فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ، الحسرة: التلهّف
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٥٢٤).
(٣) ذكره ابن عطية (٢/ ٥٢٥).
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٥٢٥).
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٧ الى ٤٠]
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠)
وقوله سبحانه: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، وقرأ حمزة والكسائيُّ «١» :«لِيُمَيِّزَ اللَّهُ» - بضم الياءِ، وفتحِ الميم، وشدِّ الياء-، قال ابن عباس وغيره: المعنيُّ ب الْخَبِيثَ:
الكفَّارُ، وب الطَّيِّبِ المؤمنون «٢»، وقال ابْنُ سَلاَّم والزَّجَّاج: الْخَبِيثَ: ما أنفقه المشركون في الصَّدِّ عن سبيل اللَّه، والطَّيِّبِ: هو ما أنفقه المؤمنون في سبيل اللَّهِ «٣».
قال ع «٤» : روي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أَنَّ اللَّه سبحانه يُخْرِجُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنَ الأَمْوَالِ مَا كَانَ صَدَقَةً أَوْ قُرْبَةً، ثُمَّ يأْمُرُ بِسَائِرِ ذَلِكَ، فيلقى فِي النَّارِ: وعلى التأويلين: فقوله سبحانه: وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً إِنما هي عبارةٌ عن جَمْع ذلك، وضَمه، وتأليف أشتاته، وتكاثُفِه بالاجتماع، ويَرْكُمُهُ في كلام العرب: يُكَثِّفه ومنه سَحابٌ مَرْكُومٌ [الطور: ٤٤] وعبارة البخاريِّ: فيركمه: فَيَجْمَعه. انتهى.
وقوله سبحانه: إِنْ يَنْتَهُوا، يعني: عن الكفر، يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ لأن الإِسلام يجبّ ما قبله، وإِنْ يَعُودُوا، يريدُ بِهِ: إِلى القِتَالِ، ولا يصحُّ أن يُتَأَوَّل: وإن يعودوا إِلى الكُفْرِ لأنهم لم ينفصلوا عنه.
وقوله: فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ/ الْأَوَّلِينَ: عبارةٌ تجمَعُ الوعيدَ والتهديدَ والتمثيلَ بمَنْ هَلَكَ من الأمم في سالف الدَّهْرِ بعذاب اللَّه حين صدَّ في وَجْهِ نبيِّه بمَنْ هلك في يَوْمِ بَدْرٍ بسيف الإسلام.
وقوله سبحانه: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ قال ابن عباس، وابن عمر،
(٢) ذكره ابن عطية (٢/ ٥٢٦).
(٣) ذكره ابن عطية (٢/ ٥٢٦).
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٥٢٦).
قال ع «٢» : وهذا هو الظاهر، ويفسّر هذه الآية قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إله إلّا الله... » «٣» الحديث.
(١٦٠٩٣) عن السدي، وذكره ابن عطية (٢/ ٥٢٧) عن ابن عباس وغيره، وابن كثير (٢/ ٣٠٩).
(٢) ينظر «المحرر الوجيز» (٢/ ٥٢٨).
(٣) هذا الحديث متواتر، رواه جماعة من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وهم: أبو هريرة وابن عمر، وجابر، وأنس بن مالك، وأبو بكر، وعمر، وجرير، وسهل بن سعد، وأبو بكرة، وأبو مالك الأشجعي، وعياض الأنصاري، والنعمان بن بشير، وسمرة بن جندب، ومعاذ، وأوس بن أوس، ورجل من بلقين، وابن عباس. حديث أبي هريرة:
أخرجه البخاري (٣/ ٢٦٢) كتاب «الزكاة» باب: وجوب الزكاة، حديث (١٣٩٩)، ومسلم (١/ ٥٢) كتاب «الإيمان» باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلّا الله، وأبو داود (٣/ ١٠١)، كتاب «الزكاة» باب: على ما يقاتل المشركون، حديث (٢٦٤٠)، والترمذي (٤/ ١١٧)، كتاب «الإيمان» باب:
ما جاء أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، حديث (٢٧٣٣)، والنسائي (٥/ ١٤)، كتاب «الزكاة» باب: مانع الزكاة، وابن ماجه (٢/ ١٢٩٥) كتاب «الفتن» باب: الكف عمن قال: لا إله إلا الله، حديث (٣٩٢٧)، والشافعي (١/ ١٣) باب: الإيمان والإسلام، وعبد الرزاق (٦/ ٦٧) كتاب «أهل الكتاب» باب: أقاتلهم حتى يقولوا: لا إله إلا الله، حديث (١٠٠٢٢)، وأحمد (٢/ ٣٤٥)، وابن الجارود ص: (٣٤٣) باب: في ما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالدعاء إلى توحيد الله عز وجل والقتال عليها، حديث (١٠٣٢)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٣/ ٢١٣) كتاب «السير» باب: ما يكون الرجل به مسلما، وابن سعد في «الطبقات»، والدارقطني (١/ ٢٣١- ٢٣٢)، كتاب «الصلاة» باب:
تحريم دمائهم وأموالهم إذا شهدوا بالشهادتين، حديث (٢)، والحاكم (١/ ٣٨٧) كتاب «الزكاة»، وأبو نعيم في «الحلية» (٣/ ٣٠٦)، وابن حبان (١٧٤) من طرق عن أبي هريرة.
أما حديث ابن عمر:
أخرجه البخاري (١/ ٢٢) كتاب «الإيمان» باب: فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم، حديث (٢٥). ومسلم (١/ ٥٣) كتاب «الإيمان» باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله... (٣٦/ ٢٢)، والدارقطني (١/ ٢٣٢)، والبيهقي (٣/ ٩٢).
حديث جابر:
أخرجه مسلم (١/ ٥٣) كتاب «الإيمان» باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله... (٣٥/ ٢٢)، وابن ماجه (٢/ ١٢٩٥) كتاب «الفتن» باب: الكف عن من قال: لا إله إلا الله (٣٩٢٨)، والترمذي (٥/ ٤٠٩) كتاب «التفسير» باب: تفسير سورة الغاشية (٣٣٣٨)، وأحمد (٣/ ٢٩٥)، وأبو حنيفة في «مسنده» (٦)، وأبو يعلى (٤/ ١٩٠) برقم: (٢٢٨٢) من طرق عنه.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
- حديث أنس:
أخرجه البخاري (١/ ٥٩٤) كتاب «الصلاة» باب: فضل استقبال القبلة، حديث (٣٩٢)، وأحمد (٣/ ١٩٩، ٢٢٤)، وأبو داود (٢/ ٥٠- ٥١) كتاب «الجهاد» باب: على ما يقاتل المشركون، حديث
(٢٦٠٨)، والدارقطني (١/ ٢٣٢) كتاب «الصلاة» باب: تحريم دمائهم وأموالهم إذا تشهدوا بالشهادتين (٢)، وأحمد (٣/ ١٩٩)، وأبو نعيم في «الحلية» (٨/ ١٧٣)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٣/ ٢١٥)، والبيهقي (٣/ ٩٢)، والخطيب (١٠/ ٤٦٤)، والبغوي في «شرح السنة» (١/ ٩٦- بتحقيقنا)، من طريق حميد الطويل، عن أنس. وقال الترمذي: حسن صحيح غريب.
حديث أبي بكر وعمر:
ويرويه عنهما أنس بن مالك قال: قال عمر لأبي بكر في الردة: ألم يقل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإن قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله.
قال أبو بكر: إنما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة...
أخرجه النسائي (٧/ ٧٦- ٧٧)، وأبو يعلى (١/ ٦٩) رقم: (٦٨)، وابن خزيمة (٤/ ٧) رقم: (٢٤٤٧)، والحاكم (١/ ٣٦٨) من طريق عمران القطان، عن معمر، عن الزهري، عن أنس به.
وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١/ ٣٠)، وقال: رواه البزار وقال: لا أعلمه يروي عن أنس، عن أبي بكر إلا من هذا الوجه وأحسب أن عمران أخطأ في إسناده.
وقال الترمذي بعد الحديث (٢٦١٠) : وقد روى عمران القطان هذا الحديث عن معمر، عن الزهري، عن أنس بن مالك، عن أبي بكر وهو حديث خطأ.
وقد حكم عليه بالخطأ أيضا الإمام أبو زرعة الرازي فقال ابن أبي حاتم في «العلل» (٢/ ١٥٩) رقم:
(١٩٧٠) : سئل أبو زرعة عن حديث رواه عمرو بن عاصم، عن عمران القطان، عن معمر، عن الزهري، عن أنس... فذكر الحديث.
قال أبو زرعة: هذا وهم إنما هو الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة.
أما الحاكم فله مع هذا الحديث شأن آخر فقال بعد إخراجه: صحيح الإسناد غير أن الشيخين لم يخرجا عمران القطان وليس لهما حجة في تركه فإنه مستقيم الحديث، ووافقه الذهبي.
وعمران روى له البخاري تعليقا والأربعة، وقال الحافظ في «التقريب» (٢/ ٨٣) : صدوق يهم.
حديث جرير: أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (٢/ ٣٤٧) رقم: (٢٢٧٦)، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١/ ٢٩)، وقال: رواه الطبراني في «الكبير» وفي إسناده إبراهيم بن عيينة وقد ضعفه الأكثرون، قال ابن معين: كان مسلما صدوقا. اه.
وقال النسائي: ليس بالقوي.
وقال أبو حاتم: أتى بمناكير.
ينظر «المغني» (١/ ٢١).
حديث سهل بن سعد: أخرجه الطبراني في «الكبير» (٦/ ١٣٢) رقم: (٥٧٤٦)، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١/ ٣٠) وقال: رواه الطبراني وفي إسناده مصعب بن ثابت، وثقه ابن حبان والأكثر على تضعيفه اه. ضعفه أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، وقال الحافظ: لين الحديث.
حديث أبي بكرة: ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١/ ٣٠) وقال: رواه الطبراني في «الكبير والأوسط» وفيه عبد الله بن عيسى الخزاز وهو ضعيف لا يحتج به اه، وذكره الذهبي في «المغني» (١/ ٣٥٠) وقال: عبد الله بن عيسى أبو خلف الخزاز، عن يونس بن عبيد ضعفوه.
حديث أبي مالك الأشجعي: أخرجه الطبراني في «الكبير» (٨/ ٣٨٢) رقم: (٨١٩١)، وذكره الهيثمي في «المجمع» (١/ ٣٠) وقال: رواه الطبراني في «الكبير» ورجاله موثقون.
حديث عياض الأنصاري: أخرجه البزار (١/ ١٠- كشف) رقم: (٤) من طريق عبد الرحمن القرشي عن عياض مرفوعا: بلفظ: إن لا إله إلا الله كلمة على الله كريمة، لها عند الله مكان، وهي كلمة من قالها صادقا أدخله الله بها الجنة، ومن قالها كاذبا حقنت دمه وأحرزت ماله ولقي الله غدا فحاسبه.
قال البزار: ولا نعلم أسند عياض إلا هذا.
وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١/ ٣١) وقال: رواه البزار، ورجاله موثقون إن كان تابعه عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود.
حديث النعمان بن بشير: أخرجه البزار (١/ ١٥- كشف) رقم: (١٥) من طريق أسود بن عامر، ثنا إسرائيل، عن سماك، عن النعمان بن بشير به.
وقال البزار: وهذا أخطأ فيه أسود. وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١/ ٣١) : رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح.
حديث سمرة بن جندب: ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١/ ٣٠) وقال: رواه الطبراني في «الأوسط»، وفيه مبارك بن فضالة واختلف في الاحتجاج به.
حديث معاذ بن جبل: أخرجه ابن ماجه (١/ ٢٨) : المقدمة: باب في الإيمان، حديث (٧٢)، والدارقطني (١/ ٢٣٣) كتاب «الصلاة» :
باب تحريم دمائهم وأموالهم | من طريق شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ به. |
وفيه شهر بن حوشب وقد اختلف في الاحتجاج به.
حديث أوس بن أوس: أخرجه الدارمي (٢/ ٢١٨) كتاب «السير» باب: في القتال على قول النبي صلّى الله عليه وسلّم:
أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وابن ماجه (٣٩٢٩)، وأحمد (٤/ ٨)، وعزاه السيوطي في «الأزهار المتناثرة» ص: (٢٠) رقم: (٤) إلى ابن أبي شيبة.
حديث الرجل من بلقين: أخرجه أبو يعلى (١٣/ ١٣١- ١٣٢)، والبيهقي (٦/ ٣٣٦)، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١/ ٥٣- ٥٤)، وقال: رواه أبو يعلى وإسناده صحيح.
وذكره الحافظ ابن حجر في «المطالب العالية» (٢/ ١٨٥) رقم: (٢٠١٠)، وعزاه إلى أحمد بن منيع، وذكره برقم: (٢٠١١)، وعزاه إلى أبي يعلى.
حديث ابن عباس: ذكره الهيثمي في «المجمع» (١/ ٣٠)، وقال: رواه الطبراني، ورجاله موثقون إلا أن فيه إسحاق بن يزيد الخطابي، ولم أعرفه. وهذا الحديث قد صرح الحافظ السيوطي بتواتره فأورده في «الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة» ص: (١٩- ٢٠) رقم: (٤) وعزاه إلى الشيخين عن ابن عمر وأبي هريرة ومسلم عن جابر وابن أبي شيبة في «المصنف» عن أبي بكر الصديق، وعمر وأوس وجرير
وقوله سبحانه: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ:
معادلٌ لقوله: فَإِنِ انْتَهَوْا، المعنى: وإِن تولَّوا، ولم ينتهوا، فاعلموا أن اللَّه تعالَى ينصُرُكُمْ عليهم، وهذا وعد محض بالنصر والظّفر، والْمَوْلى هاهنا الموالى والمُعِينُ، والمَوْلَى في اللغة على معانٍ، هذا هو الذي يليقُ بهذا الموضعِ منها، والمَوْلَىَ: الذي هو السيِّد المقترنُ بالعَبْدِ يعمّ المؤمنين والمشركين.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤)
وقوله عزّ وجل: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ... الآية: الغنيمةُ في اللغة: ما يناله الرجل بسعي ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الصّيام في الشّتاء هي الغنيمة الباردة» «١»،
(١) أخرجه الترمذي (٣/ ١٥٣) كتاب «الصوم»، باب: ما جاء في الصوم في الشتاء، حديث (٧٩٧)، وأحمد (٤/ ٣٣٥)، وابن أبي شيبة (٣/ ١٠٠)، وأبو الشيخ في «الأمثال» (٢٢٣)، والبيهقي (٤/ ٢٩٦- ٢٩٧) كتاب «الصيام»، باب ما ورد في صوم الشتاء، والقضاعي في «مسند الشهاب» (٢٣١) كلهم من طريق نمير بن عريب، عن عامر بن مسعود مرفوعا.
وقال الترمذي: هذا حديث مرسل، عامر بن مسعود لم يدرك النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وقال البيهقي: هذا مرسل.
قال ابن أبي حاتم في «المراسيل» ص: (١٦٠) : قال أبو زرعة: عامر بن مسعود من التابعين.
وقال الترمذي في «العلل الكبير» ص (١٢٧) رقم: (٢١٨) : سألت محمدا عن حديث أبي إسحاق، عن نمير بن عريب، عن عامر بن مسعود، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الغنيمة الباردة الصوم في الشتاء».
فقال: هو حديث مرسل، وعامر بن مسعود لا صحبة له، ولا سماع من النبي صلّى الله عليه وسلّم اه.
وقد جزم بعدم صحبته أيضا أبو داود، وابن حبان، والبغوي، وابن السكن. ينظر: «الإصابة» (٣/ ٤٨٩) بتحقيقنا اهـ.
لكن لهذا الحديث شاهد من حديث أنس: أخرجه الطبراني في «الصغير» (١/ ٢٥٤)، وابن عدي في «الكامل» (٣/ ١٢١٠)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٣/ ٤١٦) رقم: (٣٩٤٣) من طريق الوليد بن مسلم، ثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أنس مرفوعا.
وقال الطبراني: لم يروه عن قتادة إلّا سعيد، تفرد به الوليد. وقال ابن عدي: لا يرويه عن قتادة غير سعيد، وعن سعيد غير الوليد. والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٣/ ٢٠٣) وقال: رواه الطبراني في «الصغير»، وفيه سعيد بن بشير، وهو ثقة لكنه اختلط اه.
وللحديث شاهد آخر من حديث جابر: أخرجه ابن عدي في «الكامل» (٣/ ١٠٧٥)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٣/ ٤١٦) رقم: (٣٩٤٢) من طريق عبد الوهاب بن الضحاك: نا الوليد بن مسلم، عن زهير بن محمد، عن ابن المنكدر، عن جابر مرفوعا.
وعبد الوهاب بن الضحاك: قال الحافظ في «التقريب» (١/ ٥٢٨) : متروك كذبه أبو حاتم.
(١) النّاضّ: أهل الحجاز يسمّون الدّراهم والدّنانير: النّاضّ والنّضّ. قال أبو عبيد: إنّما يسمّونها ناضّا: إذا تحوّل عينا بعد أن كان متاعا لأنّه يقال: ما نضّ بيدي منه شيء، وخذ ما نضّ لك من دين، أي: تيسّر وهو يستنضّ حقّه من فلان، أي: يستنجزه، ويأخذ منه الشّيء بعد الشّيء. مأخوذ من نضاضة الماء وهي: بقيّته، وكذلك النّضيضة، وجمعها: نضائض. ذكره الأزهري.
ينظر: «النظم» (١/ ١٥٤).
(٢) الأسرى: إما أن يكونوا من الرجال العقلاء البالغين، أو يكونوا من النساء، والصبيان، ومن في حكمهم، فإذا كانوا من هؤلاء فالمشهور عند عامّة الفقهاء أنهم يصيرون أرقاء بنفس الأسر، ولا يجوز قتلهم اتفاقا، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن قتل النساء والصبيان في حديث متفق عليه. أما إذا كانوا من الرجال البالغين العقلاء، فالإمام مخير فيهم بين خصال بعضها متفق عليه، وبعضها مختلف فيه، وهي كما يأتي:
«القتل» : ثبت عند فقهاء الأمصار أنه يجوز للإمام قتل المحارب الكافر بعد أسره، والاستيلاء عليه، وحكي عن الحسن البصري وعطاء، وسعيد بن جبير، والضحاك، وابن عمر كراهته.
«المنّ» : ويكون بتخلية سبيل الأسرى من غير عوض، وقال به الشافعية والمالكية في المشهور عنهم والحنابلة، وذهب الحنفية إلى عدم جوازه.
ومنها: الفداءُ، وهو مستحسنٌ في ذي المَنْصب الذي ليس بشُجَاع ولا يُخَاف منه رأْي ومَكِيدَة لانتفاع المسلمين بالمَال الذي يؤخَذُ منه.
ومنها: المَنُّ، وهو مستحْسَنٌ فيمن يرجى أنْ يحنو على أَسْرَى المسلمين، ونحو ذلك من القرائن.
ومنها: الاسترقاق.
ومنها: ضَرْبُ الجزية، والتَّرْكُ، في الذِّمَّة.
وأما الطعام، والغَنَمْ، ونَحْوَها ممَّا يؤكل، فهو مباحٌ في بلد العدو أكله، وما فَضَل منه كان في المَغْنَم.
ومحلُّ استيعاب فُرُوعِ هذا الفَصْل كُتُب الفقه.
وقوله سبحانه: وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا، أي: من النصر والظهور الذي أنزله الله
وأمّا الفداء بالمال فالجمهور على جوازه، والمشهور من مذهب الحنفية عدم الجواز، وقد جاء في «السير الكبير» أنه لا بأس به إذا كان بالمسلمين حاجة إليه.
«الاسترقاق» : اتفق الفقهاء على أن الأسير إذا كان مرتدا لا يجوز ضرب الرق عليه، فلا بد أن يسلم أو يقتل لأنه كفر بربه بعد ما هدي إلى الإسلام.
واختلفوا في غيره من الأسرى، فذهب المالكية، والشافعية والحنابلة إلى جواز استرقاقهم لا فرق بين عربي منهم أو عجمي، وذهب الحنفية إلى عدم جواز استرقاق المشركين من العرب. وإذا قلنا: إن الإمام مخير في الأسرى، فليس معناه أن يجعل التصرف فيهم تبعا لعاطفته وميل هواه، وإنما معناه أن يتحرى فيهم ما تقتضيه مصلحة المسلمين ثم ينفذها، فإذا كان الأسير شديد الدهاء، كثير التأليب على المسلمين والكيد لهم، ولا يؤمن مكره، أو تكرر نقضه لعهدهم قتله الإمام كفاية لشره وقطعا لدابره.
ويظهر ذلك للإمام من اطّلاع على أحواله أو علمه بأخباره، وإذا ظهر له أن الأسير مأمون الجانب، ويتألف بإطلاقه طائفة عظيمة على الإسلام، أو يتوسم أن تطلق عشيرته ما عندها من أسرى الحرب منّ عليه، وكذلك إذا كان الأسير من ذوي العلل والعاهات، أو الضعفاء والزمنى الذين لا يرجى منهم منفعة للمسلمين، أو كان للأسير قيمة، وترجح عند الإمام الحاجة إلى المال لمصالح المسلمين جعل نظير كل رقبة يطلقها مقدارا من المال يختلف بحسب مكانة الأسير في قومه، وإن رأى أن في استرقاقه عزة ومهابة للمسلمين اختار من بينهم من يضرب الرق عليه، وهكذا.
وقوله سبحانه: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، يَعْضُدُ أَنَّ قوله: وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا، يراد به النصْرُ والظَّفْر، أي: الآيات والعظائم مِنْ غلبة القليلِ للكثيرِ، وذلك بقدرة اللَّه عَزَّ وجَلَّ الذي هو عَلَى كلِّ شيء قدير.
وقوله سبحانه: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، العُدْوَة: شفيرُ الوادِي، وحَرْفُهُ الذي يتعذَّرُ المَشْيُ فيه بمنزلة رَجَا البئْر لأنها عَدَتْ ما في الوادِي من ماء ونحوه أن يتجاوز الوادِيَ، أي: منعته ومنه قول الشاعر: [الوافر]
عَدَتْنِي عَنْ زِيَارَتِكِ العَوَادِي | وَحَالَتْ دُونَهَا حَرْبٌ زَبُون «١» |
قال سِيبَوَيْهِ: وكان الرَّكْبُ، ومُدَبِّر أمره أبو سفيانَ بْنُ حَرْب، قد نَكَبَ عن بدر حين نذر بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأخَذَ سيْفَ البَحْرِ، فهو أَسْفَلُ بالإِضافة إِلى أَعلى الوَادِي.
وقوله سبحانه: وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ، المَقْصدُ من الآية: تَبْيينُ نعمة اللَّه سُبْحانه في شأنِ قِصَّة بَدْر، وتيسيره سُبْحانه ما يَسَّر من ذلك، والمَعنَى: لو تواعدتم، لاختلفتم في الميعادِ بَسَببِ العوارِضِ التي تَعْرضُ للناس، إِلاَّ مع تيسير اللَّه الذي تَممَّ ذلك، وهذا كما تقولُ لصاحبك في أمْر سَنَاهُ اللَّه تعالى دونَ تَعَبٍ كثير: لَوْ بَنَيْنَا عَلَى هَذَا، وسَعَيْنَا فِيهِ، لَمْ يَتِمَّ هَكَذَا، وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا، أي: لينفِّذَ ويُظْهِر أمراً قد قدَّره في الأزل مفعولاً لكم بشرط وجودكم في وَقْتِ وجودِكُمْ، وهذا كلُّه معلومٌ عنده عزَّ وجلّ
(٢) ينظر: «السبعة» (٣٠٦)، و «الحجة» (٤/ ١٢٨)، و «حجة القراءات» ص: (٣١٠- ٣١١)، و «إعراب القراءات» (١/ ٢٢٤)، و «إتحاف» (٢/ ٧٩)، و «معاني القراءات» (١/ ٤٤٠)، و «شرح الطيبة» (٤/ ٣٢٧)، و «شرح شعلة» (٤٠٦).
ت: قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب «فضل العلم» في قوله عزَّ وجلَّ:
لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ... الآية: البيِّنة: ما بان به الحقُّ. انتهى.
وقال ابنُ إِسْحَاق وغيره: معنى «لِيَهْلِكَ»، أيْ: لِيَكْفُرَ، و «يَحْيَا» أي: ليؤمنَ فالحياةُ والهلاكُ على هذا التأويل: مستعارتان.
وقوله سبحانه: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ/ قَلِيلًا... الآية: وتظاهرتِ الرواياتُ أن هذه الآية نزلَتْ في رُؤْيَا رآها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى فيها عَدَدَ الكُفَّار قليلاً، فأَخبر بذلك أصحابه، فقَوِيَتْ نفوسُهم، وحَرِصُوا على اللقاء قاله مجاهد وغيره، والظاهر أنه رآهم صلّى الله عليه وسلّم في نومه قليلاً قَدْرُهُم وبأْسُهم، ويحتمل أنه رآهم قليلاً عدَدُهم، فكان تأويلُ رؤياه انهزامهم، والفشل: الخور عن الأمر، ولَتَنازَعْتُمْ، أي: لتخالَفْتم في الأمر، يريد: في اللقاءِ والحرب. وسَلَّمَ: لفظ يعمُّ كلَّ متخوَّف.
وقوله سبحانه: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ... الآية، وهذه الرؤية هي في اليقظة بإِجماع، وهي الرؤية التي كانَتْ حين التقوا، ووقعتِ العَيْنُ على العين، والمعنَى: أن اللَّه تعالَى لَمَا أراده من إِنفاذ قضاءه في نُصْرة الإِسلام وإِظهار دِينِهِ، قَلَّلَ كُلَّ طائفةٍ في عُيُونِ الأخرَى، فوقع الخَلَلُ في التخمينِ والحَزْرِ الذي يستعمله الناسُ في هذا لتَجْسُرَ كلُّ طائفة على الأخرَى، وتتسبَّب أسبابُ الحَرْب، والأمر المفعولُ المذكورُ في الآيتين هو القصَّة بأجمعها.
وقوله: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ: تنبيهٌ علَى أن الحَوْلَ بأجمعه للَّه، وأنّ كلّ أمّر، فله وإليه.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٤٥ الى ٤٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧)
قال قتادة: افترض اللَّه ذِكْرَهُ عند اشغل ما يكونُ عنْدَ الضرِّاب والسُّيوف.
قال ع «١» : وهذا ذِكْرٌ خفيٌّ لأن رَفْعَ الصَّوْت في موطن القتَال رديءٌ مكروهٌ إِذا كان ألغاطاً، فأما إِن كان من الجميعِ عند الحَمْلة، فَحَسَنٌ فَاتٌّ في عَضُد العَدُوِّ قال قيسُ بْنُ عُبَادٍ «٢» : كان أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يكرهُونَ الصَّوْت عند ثلاثٍ عند قراءة القُرآن، وعند الجنازة، وعند القتال «٣»، وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «اطلبوا إِجَابَةَ الدُّعَاءِ عِنْدَ القِتَالِ، وإِقَامَةِ الصَّلاَةِ، ونُزُولِ الغَيْثِ» «٤» وكان ابن عباس يُكْرَه التلثُّم عنْدَ القتالِ «٥».
قال النَّوويُّ: وسُئِلَ الشيخُ أبو عَمْرِو بْنُ الصَّلاَحِ «٦»، عن القَدْرِ الذي يصيرُ به المرء
(٢) قيس بن عباد، القيسي الضّبعي أبو عبد الله البصري مخضرم، عن عمر وعلي وعمّار، وعنه ابنه عبد الله والحسن البصري، وابن سيرين مات بعد الثمانين.
ينظر ترجمته في: «الخلاصة» (٢/ ٣٥٧) (٥٨٨٦).
(٣) ذكره ابن عطية (٢/ ٥٣٦).
(٤) ذكره الهندي في «كنز العمال» (٢/ ١٠٢) رقم: (٣٣٣٩)، وعزاه للشافعي، والبيهقي في «المعرفة» عن مكحول مرسلا.
(٥) ذكره ابن عطية (٢/ ٥٣٥).
(٦) عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى بن أبي نصر، الإمام العلامة مفتي الإسلام، تقي الدين، أبو عمرو بن الإمام البارع صلاح الدين أبي القاسم، النصري- بالنون والصاد المهملة، نسبة إلى جده أبي نصر- الكردي، الشهرزوري الأصل، الموصلي المربا، الدمشقي الدار والوفاة، ولد سنة سبع وسبعين- بتقديم السين فيهما- وخمسمائة بشهرزور، وتفقه على والده، ثم نقله إلى الموصل فاشتغل بها مدة وبرع في المذهب.
ينظر ترجمته في «الأعلام» (٤/ ٣٦٩) و «طبقات الشافعية» للسبكي (٥/ ١٣٧) و «وفيات الأعيان» (٢/ ٤٠٨) و «البداية والنهاية» (١٣/ ١٦٨) و «طبقات الشافعية» لابن هداية ص: (٨٤) و «النجوم الزاهرة» (٦/ ٣٥٤) و «شذرات الذهب» (٥/ ٢٢١) و «مفتاح السعادة» (١/ ٣٩٧)، (٢/ ٢١٤) و «مرآة الزمان» (٨/ ٥٠٢) و «مرآة الجنان» (٤/ ١٠٨). [.....]
ت: وأَحْسَنُ من هذا جوابُهُ صلّى الله عليه وسلّم حَيْثُ قَالَ: «سَبَقَ المُفْرِّدُون! قَالُوا: «وَمَا المُفَرِّدُونَ، يَا رَسُولَ اللَّه؟ قَالَ: الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيراً والذَّاكِرَاتُ»، رواه مسلمٌ/، والترمذيُّ، وعنده: «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، وَمَا المُفَرِّدُونَ؟ قَالَ: المُسْتَهْتِرُونَ فِي ذِكْرِ اللَّهِ يَضَعُ عَنْهُمُ الذِّكْرُ أَثْقَالَهُمْ، فَيَأْتُونَ يوم القيامة خفافا» «١»، قال صاحب «سلاح المؤمن» : المستَهْتِرُونَ في ذكْر اللَّهِ، - هو بفتح التاءَيْنِ المثنّاتين- يعني: الذين أُولِعُوا به يقال: استهتر فُلانٌ بكَذَا، أي: أَولِعَ به، واللَّه أعلم. انتهى.
فقَد بيَّن صلّى الله عليه وسلّم هنا صفةَ الذاكرين اللَّه كثيراً، وقد نقلنا في غير هذا المَحَلِّ بيانَ صفةَ الذاكرين اللَّه كثيراً، بنحو هذا مِنْ طريق ابن المبارك، وإِذا كان العبد مُسْتَهْتِراً بِذِكْرِ مولاه، أَنِسَ به، وأَحبَّه، وأحبَّ لقاءه فلم يبال بلقاءِ العَدُوِّ، وإِن هي إِلا إِحدى الحسنيين: إِما النصْرُ وهو الأغلب لمن هذه صفته، أو الشهادة وذلك مناه، ومطلبه. انتهى.
وتُفْلِحُونَ: تنالون بغيتكم، وتنالون آمالكم، والجمهور علَى أن الرِّيحَ هنا مستعارةٌ.
قال مجاهد: الرِّيح: النصْرُ والقوة، وذهب ريح أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلّم حينَ نازعُوه يَوْمَ أحد «٢»، وقوله سبحانه: وَاصْبِرُوا... إلى آخر الآية: تتميمٌ في الوصية وِعدَةٌ مُؤْنِسَة، وقوله سبحانه: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ... الآية: الإشارة إِلى كفار قريش، والبَطَر: الأَشَر وغَمْطُ النِّعْمة، ورُوِيَ أن أبا سفيان، لمَّا أحرز عِيَره، بعث إِلى قريش، وقال: إِن اللَّه قد سَلَّم عِيركُمْ، فارجعوا، فأتَى رأْي الجماعةِ علَى ذلك، وخالَفَ أبو جَهْل، وقال: واللَّهِ، لاَ نَفْعَلُ حَتَّى نَأْتيَ بَدْراً- وكانَتْ بَدْرٌ سُوقاً من أسواقِ العَرَبِ لها يومُ موسمٍ- فننحَرُ عليها الإِبلَ، ونَشْرَب الخمر، وتَعْزِفُ علينا القِيَانُ، وتسمع بنا العربُ، ويَهَابُنا النَّاسُ، فهذا معنى قوله تعالى: وَرِئاءَ النَّاسِ.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦/ ٣٦١) برقم: (١٦١٧٨- ١٦١٧٩) بنحوه، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٢/ ٥٣٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٣٤٣)، وعزاه إلى الفريابي، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٤٨]
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لاَ غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨)وقوله سبحانه: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لاَ غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ، الضمير في لَهُمُ عائد على الكفّار، والشَّيْطانُ: إبليس نفْسُه، والذي عليه الجمهورُ، وتظاهرَتْ به الرواياتُ أن إبْلِيسَ جاء كُفَّار قريشٍ، ففي «السِّيَر» لابن هشامٍ: أنه جاءهم بمكَّة، وفي غيرها: أنَّه جاءهم، وهُمْ في طريقهم إِلى بَدْرٍ، وقد لحقهم خَوْفٌ من بني بَكْر وكِنَانَةَ لحروبٍ كانَتْ بينهم، فجاءهم إِبليس في صورة سُرَاقَةَ بْنِ مالِكِ بْنِ جُعْشُم، وهو سيِّد مِنْ ساداتهم، فقال لهم: إِنِّي جارٌ لَكُمْ، ولن تخافوا من قومي، وهم لكُمْ أعوانٌ على مَقْصِدِكم، ولَنْ يغلبكم أحدٌ، فروي أنه لما التقى الجمعانِ، كانَتُ يده في يدِ الحَارِثِ بن هشام، فلما رأَى الملائكَةَ، نَكَصَ، فقال له الحارثُ: أَتَفِرُّ يا سُرَاقَةُ؟! فلم يَلْو عَليه، ويروى أَنه قال له ما تضمَّنته الآيةُ، وروي أن عُمَيْرَ بْنَ وهبٍ، أو الحارثِ بْنَ هشامٍ قال له: أَيْنَ يا سُرَاقُ؟ فلم يَلْوِ مِثْلَ عَدُوِّ اللَّه، فذهبَ، ووقعتِ/ الهزيمة، فتحدَّثوا أنَّ سُرَاقَةَ فَرَّ بالنَّاسِ، فبلغ ذلك سُرَاقَةَ بْنَ مالك، فأتى مكَّة، فقال لهم: واللَّه، ما عَلِمْتُ بشيء منْ أمركم حتى بَلَغَتْني هزيمَتُكُمْ، ولا رأْيْتُكُم، ولا كُنْتُ معكم.
ت: قال ابنُ إسحاق: ذكر لي أنهم كانوا يرونه في كلِّ مَنْزِلٍ في صُورَة سُرَاقَة لا يُنْكِرُونه حتَّى إِذا كان يَوْمُ بَدْر، والتقى الجمعان، نكَصَ عدوُّ اللَّه على عَقِبَيْه، فأوردهم ثُمَّ أَسلمهم. انتهى من «السيرة» لابن هشام.
وقوله: إِنِّي جارٌ لَكُمْ أي: أنتم في ذمَّتي وحِمَائي، و «تراءت» : تفاعلَتْ من الرؤية، أي: رأى هؤلاءِ هؤلاءِ.
قوله: نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ، أي: رَجَعَ من حيث جاء، وأصْل النُّكُوص في اللغة:
الرجوعُ القَهْقَرَى.
وقوله: إِنِّي أَرى مَا لاَ تَرَوْنَ، يريد: الملائكةَ، وهو الخبيثُ، إِنما شرط أَنْ لاَ غَالِبَ لهم من الناس، فلما رأَى الملائكة، وخَرْقَ العادةِ، خَافَ وَفَرَّ.
وقوله: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ، قال الزَّجَّاج وغيره: خافَ ممَّا رأَى مِنَ الأمر، وهَوْلِهِ أنَّه يومُهُ الذي أُنْظِرَ إِليه ويقوِّي هذا أَنه رأَى خَرْقَ العادةِ، ونزولَ الملائكةِ للحَرْب.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٤٩ الى ٥١]
إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩) وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١)وقوله سبحانه: إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ... الآية: قال المفسرون: إِن هؤلاء الموصوفين بالنِّفاق، إِنما هُمْ من أهْل عَسْكر الكُفَّار ممَّن كان الإِسلام دَاخِلَ قلوبهم، خَرَجُوا مع المُشْركين إِلَى بَدْرٍ، منهم مكرَهٌ وغيرُ مُكْرَهٍ، فلما أشرفوا على المسلمينَ، ورأَوْا قلَّتهم، ارتابوا، وقالُوا مشيرين إِلى المسلمين: غَرَّ هؤلاءِ دينُهُمْ.
قال ع «١» : ولم يُذْكَرْ أحدٌ ممَّن شهد بدراً بنفاقٍ إِلا ما ظَهَرَ بعْدَ ذلك من مُعَتِّب ابن قُشَيْرٍ فإِنه القائل يَوْمَ أحُدٍ: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنا هاهُنا [آل عمران:
١٥٤] وقد يحتمل أنْ يكون منافقو المدينة، لما وَصَلَهم خروجُ قريشٍ في قوَّة عظيمةٍ، قالوا هذه المقالةَ، ثم أخبر اللَّه سبحانه بأنَّ مَنْ توكَّل عليه، وفوَّض أمره إليه، فإِن عزَّته سبحانه وحِكْمته كفيلةٌ بنَصْره، وقوله سبحانه: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ... الآية: هذه الآيةُ تتضمَّن التعجيبَ ممَّا حلَّ بالكُفَّار يوم بَدْر قاله مجاهدٌ وغيره، وفي ذلك وعيدٌ لمن بَقِيَ منهم، وقوله: وأَدْبارَهُمْ، قال جُلُّ المفسِّرين:
يريد أَسْتَاهَهْم، ولكنَّ اللَّه كريمٌ كَنَّى «٢»، وقال ابن عبَّاس، والحسن: أراد ظهورَهُمْ وما أَدْبَرَ منهم «٣» وباقي الآية بيِّن.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٥٢ الى ٥٤]
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤)
وقوله سبحانه: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ... الآية: الدَّأْبُ: العادةُ في كلام العربِ، وهو مأخوذٌ من دَأَبَ عَلَى العمل، إِذا لازمه.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦/ ٢٦٧) برقم: (١٦٢١٥- ١٦٢١٦- ١٦٢١٧) برقم: (١٦٢١٨) عن سعيد بن جبير، وذكره ابن عطية (٢/ ٥٤٠)، وعزاه إلى جمهور المفسرين، والبغوي في «تفسيره» (٢/ ٢٥٦) عن سعيد بن جبير ومجاهد برقم: (٥٠)، وابن كثير (٢/ ٣١٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٣٤٦)، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور، وأبي الشيخ، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٣) ذكره ابن عطية (٢/ ٥٤٠).
وقوله تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ/ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، هذا التكريرُ هو لمعنًى ليس للأول إذ الأول دَأْبٌ في أنْ هَلَكُوا لما كَفَرُوا، وهذا الثَّاني دأْبٌ في أَنَّهُ لم يغيِّرْ نعمتهم حتَّى غيروا ما بأنْفُسِهِم، والإِشارة بقوله:
وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، إِلى قومِ شعيبٍ وصالحٍ وهود ونوح وغيرهم.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٥٥ الى ٥٩]
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩)
وقوله سبحانه: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ، أجمع المتأوِّلون أن الآية نزلَتْ في بني قُرَيْظَةَ، وهي بَعْدُ تَعُمُّ كلَّ مَنِ اتصف بهذه الصفة إِلى يوم القيامة، وقوله:
فِي كُلِّ مَرَّةٍ: يقتضي أن الغَدْرَ قد تكرَّر منهم.
وحديثُ قُرَيْظَةَ هو أنهم عاهدوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على ألاَّ يحاربوه، ولا يعينوا عَلَيْه عدوًّا من غيرهم، فلمَّا اجتمعت الأحزاب على النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم بالمدينةِ، غَلَبَ على ظنِّ بني قريظة أَنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مغلوبٌ ومستأصَلٌ، وخَدَعَ حُيَيُّ بنُ أَخْطَبَ النَّضْرِيُّ كَعْبَ بْنَ أَسَدٍ القُرَظِيَّ صاحبَ عَقْد بني قريظة، وعهْدِهِم، فغدروا ووالوْا قريشاً، وأمدُّوهم بالسِّلاح والأَدْرَاعِ، فلما انجلت تلك الحالُ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، أمره اللَّه تعالَى بالخروج إِليهم وحَرْبِهم، فاستنزلوا، وضُرِبَتْ أعناقهم بحُكْم سَعْدٍ، واستيعاب قصَّتهم في «السِّير» وإِنما اقتضبت منها ما يخُصُّ تفسير الآية.
وقوله سبحانه: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ... الآية: معنى تَثْقَفَنَّهُمْ تأسرهم، وتحصِّلهم في ثِقَافِكَ، أو تَلْقَاهم بحالٍ تقدرُ عليهم فيها، وتغلبهم، ومعنى: فَشَرِّدْ أي:
والضمير في لَعَلَّهُمْ عائدٌ على الفرقة المشرَّدة، وقال ابن عباس: المعنى: نكِّل بهم مَنْ خلفهم «١».
وقالَتْ فرقة: معناه: سَمِّعْ بهم، والمعنَى متقارب، ومعنى: خَلْفَهُمْ أي: بعدهم، ويَذَّكَّرُونَ، أيْ: يتعظون.
وقوله سبحانه: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً... الآية: قال أكثر المفسِّرين: إِن الآية في بني قُرَيْظة، والذي يظهر من ألفاظ الآية أنَّ أَمْرَ بني قريظة قد انقضى عند قوله: فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ، ثم ابتدأ تبارَكَ وتعالَى في هذه الآية بما يَصْنَعُهُ في المستقبل، مع مَنْ يخافُ منه خيانةً إِلى آخر الدهر، وبَنُو قريظة لم يَكُونوا في حَدِّ مَنْ تُخَافُ خيانته، وقوله: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ، أي: أَلْقِ إِليهم عَهْدهم، وقوله: عَلى سَواءٍ، قيل: معناه: حتى يكونَ الأمْرُ في بيانِهِ والْعِلْمِ به، على سواءٍ منْكَ ومنهم فتكُونُونَ في استشعار الحَرْب سواءً، وذَكَرَ الفَرَّاء أن المعنَى: فانبذ إليهم على اعتدال وسواءٍ من الأمر، أي: بَيِّنْ لهم على قَدْر ما ظهر منهم، لا تُفَرِّطْ، ولا تَفْجَأْ بحربٍ، بل افعل بهم مِثْلَ ما فعلوا بك، يعني: موازنةً ومقايسةً، وقرأ نافع وغيره: «وَلاَ تَحْسَبَنَّ» - بالتاء- مخاطبةً للنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وسَبَقُوا: معناه: فَاتُوا بأنفسهم وأنْجَوْهَا، إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ أي: لا يُفْلِتُونَ، ولا يُعْجِزُونَ طالبهم، ورُوِيَ أن الآية نزلَتْ فيمن أَفْلَتَ من الكفَّار في بَدْرٍ وغيره فالمعنى: لا تظنَّهم نَاجِينَ، بل هم مُدْرَكُون، وقرأ حمزة وغيره: «ولا يحسبنّ» - بالياء من تحت، وبفتح السين «٢».
[سورة الأنفال (٨) : آية ٦٠]
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠)
(٢) وقرأ بها ابن عامر وحفص عن عاصم.
ينظر: «السبعة» ص: (٣٠٧)، «الحجة» (٤/ ١٥٤- ١٥٥)، «حجة القراءات» (٣١٢)، «إعراب القراءات» (١/ ٢٣٠)، و «إتحاف» (٢/ ٨١- ٨٢)، و «معاني القراءات» (١/ ٤٤١)، و «شرح الطيبة» (٤/ ٣٢٩)، و «العنوان» (١٠١).
وأخرجه الدارمي (٢/ ٢٠٤)، كتاب «الجهاد»، باب: في فضل الرمي والأمر به، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٤/ ٤٤) رقم: (٤٢٩٨)، كلاهما من طريق سعيد بن أبي أيوب: ثنا يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير مرثد بن عبد الله، عن عقبة به.
وأخرجه الترمذي (٥/ ٢٧٠- ٢٧١) كتاب «التفسير» باب: «ومن سورة الأنفال»، حديث (٣٠٨٣) من طريق صالح بن كيسان، عن رجل لم يسمه، عن عقبة بن عامر.
والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٣٤٨)، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، وأبي يعقوب إسحاق بن إبراهيم القراب في كتاب «فضل الرمي».
(٢) ورد عن جماعة من الصحابة: منهم: عروة البارقي، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وأبو هريرة، وجرير بن عبد الله، وأبو كبشة، وابن مسعود، وجابر:
أما حديث عروة البارقي، فأخرجه البخاري (٦/ ٦٤) في «الجهاد والسير» باب الخير معقود في نواصيها الخيل (٢٨٥٠)، و (٦/ ٦٦) باب: الجهاد ماض مع البر والفاجر (٢٨٥٢) و (٦/ ٢٥٣) في فرض الخمس (٣١١٩)، (٦/ ٧٣١) في المناقب (٣٦٤٣)، ومسلم (٣/ ١٤٩٣) في «الإمارة» باب: الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة (٩٨، ٩٩، ٨٧٣)، والنسائي (٦/ ٢٢٢) في «الجهاد» باب: فتل ناصية الفرس، وابن ماجه (٢/ ٩٢٣) في «الجهاد» باب: ارتباط الخيل في سبيل الله (٢٧٨٦)، وأحمد (٤/ ٣٧٥- ٣٧٦)، وأبو يعلى (٦٨٢٨)، والحميدي في «مسنده» (٢/ ٢٧٢- ٢٧٣) برقم: (٨٤١- ٨٤٢)، والدارمي (٢/ ٢١١- ٢١٢) في «الجهاد» باب: فضل الخيل في سبيل الله، وسعيد بن منصور في «سننه» (٢/ ١٩٨) في «الجهاد» باب: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة (٢٤٢٦)، والطيالسي في «الجهاد» (١/ ٢٤١) برقم: (١١٨٤- ١١٨٥) والطبراني (١٧/ ١٥٥) برقم (٣٩٦- ٤٠٠)، والبيهقي (٦/ ١١٢) في «القراض» : باب المضارب يخالف بما فيه زيادة لصاحبه، و (٦/ ٣٢٩) في قسم «الفيء» باب:
الإسهام للفرس دون غيره من الدواب، و (٩/ ٥٢) في «السير» باب: تفضيل الخيل و (١٠/ ١٥) في كتاب «السبق والرمي» باب: ارتباط الخيل عدة في سبيل الله عز وجل، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (١/ ٢٧٤- ٢٧٥)، وأبو نعيم في «الحلية» (٨/ ١٢٧)، والبغوي في «شرح السنة» بتحقيقنا (٥/ ٥٣٠) في «السير والجهاد» باب: اتخاذ الخيل للجهاد (٢٦٣٩) من طرق عنه به.
وأما حديث ابن عمر، فأخرجه البخاري (٦/ ٦٤) في «الجهاد والسير» باب: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة (٢٨٤٩)، و (٦/ ٧٣١) في «المناقب» (٣٦٤٤) ومسلم (٣/ ١٤٩٢- ١٤٩٣) في
وأما حديث أنس، فأخرجه البخاري (٦/ ٦٤) في «الجهاد» باب: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة (٢٨٥١)، (٦/ ٧٣١) في «المناقب» (٣٦٤٥)، ومسلم (٣/ ١٤٩٤) في «الإمارة» باب: الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة (١٠٠/ ١٨٧٤)، والنسائي (٦/ ٢٢١) في «الخيل» باب: بركة الخيل، وأحمد (٣/ ١٢٧، ٧٧١)، وسعيد بن منصور (٢/ ١٩٩) في «الجهاد» باب: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة (٢٤٢٧)، وأبو يعلى في «مسنده» (٤١٧٣، ٤١٧٧)، والبغوي في «شرح السنة» (٥/ ٥٢٩) برقم: (٢٦٣٧) بتحقيقنا من طريق شعبة عن أبي التياح قال: سمعت أنس بن مالك يحدث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «البركة في نواصي الخيل».
وأما حديث أبي هريرة، فأخرجه مسلم (٢/ ٦٨٢) في «الزكاة»، باب: إثم مانع الزكاة (٢٤- ٩٨٧)، والترمذي في «الجهاد» باب: ماء جاء في فضل من ارتبط فرسا في سبيل الله (١٦٣٦)، وابن ماجه (٢/ ٩٢٣) في «الجهاد» باب: ارتباط الخيل في سبيل الله (٢٧٨٨)، وأحمد (٢/ ١٠١، ٢٦٢، ٣٨٣)، وابن خزيمة (٤/ ١٠، ٣١) (٢٢٥٢، ٢٢٥٣، ٢٢٩١)، وأبو يعلى (٢٦٤٠- ٢٦٤١)، وأبو نعيم في «الحلية» (٨/ ٢٦١)، والخطيب في «التاريخ» (٥/ ١٩٦)، والبيهقي (٤/ ٨١) في الزكاة، باب ما ورد في الوعيد فيمن كنز مال زكاة ولم يؤد زكاته، من طرق عن أبي هريرة.
وأما حديث جرير، فأخرجه مسلم (٣/ ١٤٩٣) في «الإمارة» باب: الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة (٩٧/ ١٩٧٢)، والنسائي (٦/ ٢٢١) في الخيل، باب: فتل ناصية الفرس، وأحمد (٤/ ٣٦١)، والطحاوي (٣/ ٢٧٤)، والبغوي في «شرح السنة» بتحقيقنا (٥/ ٥٣٠) برقم: (٢٦٤٠) من طريق يونس بن عبيد، عن عمرو بن سعيد، عن أبي زرعة، عن جرير بن عبد الله قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يلوي ناصية فرس بإصبعه وهو يقول: «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر والغنيمة».
وأما حديث أبي كبشة، فأخرجه الطبراني (٢٢/ ٣٣٩) برقم: (٨٤٩)، وابن حبان (١٦٣٥) - موارد، والطحاوي (٢/ ٢٧٤)، والحاكم (٢/ ٩١) من طريق ابن وهب: حدثني معاوية بن صالح، حدثني نعيم بن زيادة، أنه سمع أبا كبشة صاحب النبي صلّى الله عليه وسلّم: يقول: الخيل معقود في نواصيها الخير، وأهلها معانون عليها، والمنفق عليها كالباسط يده بالصدقة.
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه بهذه الزيادة، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في «المجمع» (٥/ ٢٦٢) رجاله ثقات.
وأما حديث ابن مسعود فهو عند أبي يعلى (٥٣٩٦)، قال: حدثنا داود بن رشيد، حدثنا بقية بن الوليد، عن علي بن علي حدثني يونس، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن مسعود قال: جاءه
ورباطُ الخيل: مصدَرٌ مِنْ رَبَط، ولا يكثُرُ رَبْطُها إِلاَّ وهي كثيرة، ويجوز أن يكون
«الخيل معقود... » فذكره مطولا.
وذكره الهيثمي في «المجمع» (٥/ ٢٨٠) وقال: رواه أبو يعلى. وفيه بقية بن الوليد، وهو مدلس. وبقية رجاله ثقات.
وأما حديث جابر، فأخرجه أحمد (٣/ ٣٥٢) من طريق إبراهيم بن إسحاق، وعلي بن إسحاق، حدثنا ابن المبارك، عن عتبة بن أبي حكيم، حدثني حصين بن حرملة، عن أبي مصبح، عن جابر به.
وأخرجه أبو يعلى في «معجم شيوخه» (١٩٥) من طريق يحيى بن سعيد الأموي، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرفوعا.
وأخرجه ابن عدي في «الكامل» (٧/ ٢٥٥٧) من طريق الحسن بن سفيان، حدثنا محمد بن الصباح، حدثنا علي بن ثابت عن الوازع، عن أبي سلمة، عن جابر.
وذكره الهيثمي في «المجمع» (٥/ ٢٦١) وقال: رواه أحمد، والطبراني في «الأوسط» باختصار، ورجال أحمد ثقات.
وقال الحافظ في «الفتح» (٦/ ٦٧) : روى حديث «الخيل معقود في نواصيها الخير» جمع من الصحابة غير من تقدم ذكره، وهم: ابن عمر، وعروة، وأنس، وجرير، وممن لم يتقدم سلمة بن نفيل (٦/ ٢١٤)، وأبو هريرة عند النسائي، وعتبة بن عبد عند أبي داود (٢٥٤٢)، وجابر، وأسماء بنت يزيد (٦/ ٤٥٥)، وأبو ذر (٥/ ١٨١) عند أحمد، وابن مسعود عند أبي يعلى، وأبو كبشة عند أبي عوانة، وابن حبان في «صحيحيهما»، وحذيفة عند البزار، وأبو أمامة، وعريب: - (وهو بفتح المهملة وكسر الراء بعدها تحتانية ساكنة ثم موحدة) - المليكي، والنعمان بين بشير وسهل بن الحنظلية عند الطبراني.
وعن علي، عند ابن أبي عاصم في «الجهاد»...
(١) أخرجه مسلم (٣/ ١٥٢٢- ١٥٢٣) كتاب «الإمارة» باب: فضل الرمي والحث عليه وذم من علمه ثم نسيه، حديث (١٦٩/ ١٩١٩)، وابن ماجه (٢/ ٩٤٠- ٩٤١) كتاب «الجهاد» باب: الرمي في سبيل الله، حديث (٢٨١٤) من حديث عقبة بن عامر.
(٢) أخرجه أبو داود (٢/ ١٦- ١٧) كتاب «الجهاد» باب: في الرمي، حديث (٢٥١٣)، والترمذي (٤/ ١٧٤) كتاب «فضائل الجهاد» باب: ما جاء في فضل الرمي في سبيل الله، حديث (١٦٣٧)، والنسائي (٦/ ٢٢٢- ٢٢٣) كتاب «الخيل» باب: تأديب الرجل فرسه، حديث (٣٥٧)، والحاكم (٢/ ٩٥)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٤/ ٤٤- ٤٥) رقم: (٤٣٠١) من حديث عقبة بن عامر.
ت: وقد ذكرنا بعْضَ ما وردَ في فَضْلِ الرباط في آخر «آل عمران» قال صاحبُ «التذكرة» «٢» : وعن عثمانَ بْنِ عَفَّانَ، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «مَنْ رَابَطَ لَيْلَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَانَتْ لَهُ كَأَلْفِ لَيْلَةٍ صِيَامِهَا وَقِيَامِهِا» «٣»، وعن أبي بن كعب، قال: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لرباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسبا من غير شهر رمضان- أعظم أجرا من عبادة مائة سنة صيامها وَقِيَامِهَا، وَرِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ وَرَاءِ عَوْرَةِ المُسْلِمينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَان- أَفْضَلُ عند الله وأعظم أجرا- أراه قال: من عِبَادَةِ أَلْفِيْ سَنَةٍ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا- فَإِنْ رَدَّهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِهِ سالِماً، لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ أَلْفَ سَنَةٍ، ويُكْتَبُ لَهُ مِنَ الحَسَنَاتِ، وَيَجْرِي لَهُ أَجْرُ الرِّبَاطِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ» «٤»، قال القرطبيُّ»
في «تذكرته» : فدلَّ هذا الحديثُ على أن رباط يومٍ في رمضانَ يحصِّل له هذا الثوابَ الدائمَ، وإِنْ لم يَمُتْ مرابطاً. خرَّج هذا الحديث، والذي قبله ابنُ ماجه. انتهى من «التذكرة».
وتُرْهِبُونَ: معناه: تخوّفون وتفزّعون، والرهبة: الخوف: وقوله:
(٢) ينظر: «التذكرة» (١/ ٢٠٩).
(٣) أخرجه ابن ماجه (٢/ ٩٢٤) كتاب «الجهاد» باب: فضل الرباط في سبيل الله، حديث (٢٧٦٦) من طريق عبد الرحمن بن زَيْد بن أسْلَمُ، عن أبيه، عن مصعب بن ثابت، عن عبد الله بن الزبير، عن عثمان بن عفان به.
وقال البوصيري في «الزوائد» (٢/ ٣٩٠) : هذا إسناد ضعيف عبد الرحمن بن زيد ضعفه أحمد وابن معين وابن المديني والنسائي.
وقال الحاكم: روى عن أبيه أحاديث موضوعة. وقال ابن عبد البر: أجمعوا على ضعفه.
قال المنذري في «الترغيب» (٢/ ٢٠٣) : وآثار الوضع ظاهرة عليه اه.
وقال البوصيري في «الزوائد» (٢/ ٣٩٢- ٣٩٣) : هذا إسناد ضعيف، لضعف محمد بن يعلى وشيخه عمر بن صبيح، ومكحول لم يدرك أبي بن كعب، ومع ذلك فهو مدلس.
(٤) أخرجه ابن ماجه (٢/ ٩٢٤- ٩٢٥) كتاب «الجهاد» باب: فضل الرباط في سبيل الله، حديث (٢٧٦٨) من طريق محمد بن يعلى السلمي، ثنا عمر بن صبيح، عن عبد الرحمن بن عمرو، عن مكحول، عن أبي بن كعب مرفوعا.
(٥) ينظر: «التذكرة» (١/ ٢٠٩).
قال ع «١» : ويحسُنُ أن يقدَّر قوله: لاَ تَعْلَمُونَهُمُ، بمعنى: لا تَعْلَمُونهم فَازِعِينَ رَاهِبينَ.
وقال ص: لا تعلمُونَهُمْ بمعنى: لا تَعْرِفُونهم، فيتعدَّى لواحدٍ، ومَنْ عدَّاه إِلى اثنين، قدَّره: محاربين، واستُبْعِدَ لعدم تقدُّم ذكره، فهو ممنوعٌ عند بعضهم، وعزيز جدّا عند بعضهم انتهى.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦١ الى ٦٣]
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣)
وقوله سبحانه: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها جَنَحَ الرَّجُلُ إِلى الأمْرِ إِذا مال إِليه، وعاد الضميرُ في «لها» مؤنَّثاً إِذ «السَّلْم» بمعنى المسالمة والهُدْنَة، وذهب جماعةٌ من المفسِّرين إِلى أَن هذه الآية منسوخةٌ، والضمير في «جَنَحُوا» هو للذين نُبِذَ إِليهم على سواءٍ.
وقوله سبحانه: وَإِنْ يُرِيدُوا/ أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ... الآية: الضمير في قوله: «وإِن يريدوا» عائدٌ على الكفَّار الذين قال فيهم: وَإِنْ جَنَحُوا، أي: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ، بأنْ يُظْهِروا السَّلْم، ويُبْطِنُوا الغَدْر والخيانة، فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ، أي:
كافيك ومعطيك نصره، وأَيَّدَكَ: معناه: قوَّاك وَبِالْمُؤْمِنِينَ، يريد الأنصارَ، بذلك تظاهَرَتْ أقوالُ المفسَّرين.
وقوله: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ... الآية: إشارة إلى العداوة التي كانَتْ بين الأوْسِ والخَزْرَجِ.
قال ع «٢» : ولو ذَهَبَ ذاهبٌ إِلى عمومِ المؤمنين في المهاجرين والأنصارِ، وجعل التأليف ما كَانَ بيْنَ جميعهم من التحابِّ، لساغ ذلك، وقال ابنُ مَسْعُود: نزلَتْ هذه الآية في المتحابِّين في الله «٣».
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٥٤٨).
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦/ ٢٨١) برقم: (١٦٢٧٥)، وابن كثير (٢/ ٣٢٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٣٦١)، وزاد نسبته إلى ابن المبارك، وابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا في كتاب «الإخوان»، والنسائي، والبزار، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، والحاكم، وصححه.
قال ع «٣» : وهذا كلُّه تمثيلٌ حَسَنٌ بالآية، لا أنَّ الآية نزلَتْ في ذلك، وقد رَوَى سهْلُ بن سعد، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قَالَ: «المؤمن مَألَفَةٌ لاَ خَيْرَ فِيمَنْ لاَ يَأْلَفُ وَلاَ يُؤلَفُ» «٤».
قال ع «٥» : والتشابه سَبَبُ الأُلْفَة، فمَنْ كان من أهْل الخَيْر، أَلِفَ أشباهَهُ وأَلِفُوهُ.
ت: وفي «صحيح البخاريِّ» :«الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فما تَعَارَفَ مِنْهَا ائتلف، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اختلف» «٦». انتهى، وروى مالكٌ في «الموطإ»، عن أبي هريرة قال: قَالَ
قال الأوزاعي: لم يقدم علينا أفضل منه.
قال ابن عيينة: جالسته سنة ثلاث وعشرين ومائة.
ينظر: «الخلاصة» (٢/ ١٨٩)، «طبقات خليفة» (١٦٠)، «التاريخ الكبير» (٦/ ١١٤)، و «تهذيب التهذيب» (٦/ ٤٦١).
(٢) أخرجه الطبري (٦/ ٢٨٠) برقم: (١٦٢٧٤)، وذكره ابن عطية (٢/ ٥٤٨)، وابن كثير (٢/ ٣٢٣).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٥٤٨).
(٤) أخرجه أحمد (٥/ ٣٣٥)، والطبراني في «الكبير» (٦/ ١٣١) رقم: (٥٧٤٤)، والخطيب (١١/ ٣٧٦) من طريق مصعب بن ثابت، عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي به.
وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٨/ ٩٠) وقال: رواه أحمد والطبراني، وفيه مصعب بن ثابت، وثقه ابن حبان وغيره، وضعفه ابن معين وغيره، وبقية رجاله ثقات اه.
وذكره أيضا في (١٠/ ٢٧٦) وقال: وإسناده جيد.
(٥) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٥٤٩).
(٦) أخرجه مسلم (٤/ ٢٠٣١) في البر والصلة، باب: الأرواح جنود مجنّدة، (١٥٩/ ٢٦٣٨)، وأحمد (٢/ ٢٩٥، ٥٢٧)، والخطيب في «التاريخ» (٣/ ٣٢٩) (٤/ ٣٥٢) من طريق سهل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة به. وكذا أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (٩٠٨).
وأخرجه أبو داود (٢/ ٦٧٥) في «الأدب» باب: من يؤمر أن يجالس (٤٨٣٤)، وأحمد (٢/ ٥٣٩) من طريق جعفر بن يرقان، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة به.
وأخرجه البغوي في «شرح السنة» (٦/ ٤٦٠) برقم: (٣٣٦٥) بتحقيقنا من طريق محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
ويشهد له حديث عائشة، رواه البخاري في «الأدب المفرد» (٩٠٦- ٩٠٧)، وأبو يعلى (٤٣٨١)،
قال أبو عمر بن عبد البَرِّ في «التمهيد» : ورُوينا عن ابن مسعود، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَنه قال: «يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، أَتَدْرِي، أَيُّ عُرَى الإِيمَانِ أَوْثَقُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: الوِلاَيَةُ في اللَّهِ: الحُبُّ والبُغْضُ فِيهِ» «٢»، ورواه البراءُ بنُ عَازِبٍ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أيضاً «٣»، وعن عبد اللَّهِ في قوله تعالى: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ، قال: نزلَتْ في المتحابِّين في اللَّه «٤» قال أبو عمر: وأما قوله: الَيْومَ أُظلُّهُمْ فِي ظِلِّي، فإِنه أراد- واللَّه أعلم- في ظلِّ عرشه، وقد يكونُ الظِّلُّ كنايةً عن الرحْمةِ كما قال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ [المرسلات: ٤١]، يعني: بذلك مَا هُمْ فيه مِنَ الرحمة والنعيم. انتهى.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦٤ الى ٦٦]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦)
وعلقه البخاري (٦/ ٤٢٦) في أحاديث الأنبياء، باب: الأرواح جنود مجنّدة (٣٣٣٦). بهذا الإسناد، وقال الهيثمي في «المجمع» (٨/ ٩١) : رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح.
ويشهد له حديث علي رواه أبو نعيم في «الحلية» (٤/ ١١٠- ١١١) عن الأعمش، عن أبي وائل عنه وقال: غريب من حديث الأعمش لم نكتبه إلا بهذا الإسناد.
وأخرجه العقيلي (١/ ١٣٥) من طريق سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه عنه به.
وقال العقيلي: هذا الحديث يعرف من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي موقوف، كما يشهد له حديث سلمان. أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (١/ ١٩٨)، وينظر: «مجمع الزوائد» (٨/ ٩١) وحديث ابن عباس رواه السهمي في «تاريخ جرجان» ص: (٢٤٤)، وحديث ابن مسعود رواه الطبراني في «الكبير» (١٠/ ٢٨٣) برقم: (١٠٥٥٧) وفيه عن عبد الله بن مسعود أو غيره. [.....]
(١) أخرجه مالك (٢/ ٩٥٢) كتاب «الشعر» باب: ما جاء في المتحابين في الله، حديث (١٣)، ومسلم (٤/ ١٩٨٨) كتاب «البر والصلة» باب: فضل الحب في الله، حديث (٣٧/ ٢٥٦٦) وأحمد (٢/ ٢٣٧، ٥٣٥)، والطيالسي (٢٣٣٥)، والدارمي (٢/ ٣١٢)، وابن حبان (٢/ ٣٣٤) رقم: (٥٧٤) من حديث أبي هريرة.
(٢) أخرجه الطيالسي (٣٧٨)، والحاكم (٢/ ٤٨٠) من طريق الصعق بن حزن، عن عقيل الجعد، عن أبي إسحاق، عن سويد بن غفلة، عن ابن مسعود به.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد.
وتعقبه الذهبي فقال: ليس بصحيح، فإن الصعق وإن كان موثقا فإن شيخه منكر الحديث. قاله البخاري.
(٣) أخرجه أحمد (٤/ ٢٨٦) من حديث البراء بن عازب.
(٤) تقدم.
نزلَتْ هذه الآية بالبَيْداء «١» في غزوة بَدْر، وحُكِيَ عن ابنِ عبَّاس: أنها نزلَتْ في الأوس والخزرج.
وقيل: إِنها نزلَتْ حين أسلم عمر وكمَلَ المسلمون أَربَعِينَ. قاله ابن عمر، وأنس فهي على هذا مكِّيَّة: و «حسبك» في كلام العرب، وشرعك: بمعنى كافِيكَ ويَكْفِيك، والمحسب: الكافي، قالت فرقة: معنى الآية: يَكْفِيكَ اللَّهِ، ويكفيكَ مَنِ اتبعك، ف «مَنْ» في موضع رفع.
وقال الشَّعْبِيُّ وابن زَيْد: معنى الآية: حَسْبُكَ اللَّهُ وحَسْبُ مَنِ اتبعك من المؤمنين، ف «مَنْ» في موضع نَصْب عطفاً على موضع الكاف لأن موضعها نَصْبٌ على المعنى ب «يكفيك» التي سدَّتْ «حَسْبُكَ» مسدَّها.
قال ص: ورد بأنَّ الكاف لَيْسَ موضعها نصْب لأن إضافة حسب إليها إضافة صحيحة انتهى.
وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ... الآية: حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ، أي: حُثَّهم وحُضَّهم، وقوله سبحانه: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ... إلى آخر الآية، لفظُ خبرٍ، مضمَّنه وعدٌ بشرط لأن قوله: إِنْ يَكُنْ/ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ، بمنزلة أنْ يقال: إِنْ يَصْبِرْ منكم عشرون يغلبوا، وفي ضمنه الأمر بالصَّبر، قال الفخر: وحَسُنَ هذا التكليفُ لما كان مسبوقاً بقوله: حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فلمَّا وعد اللَّه المؤمنين بالكِفَايَة والنصرِ، كان هذا التكليفُ سَهْلاً لأن مَنْ تكلَّف اللَّه بنصره، فإِن أَهْلَ العَالَمِ لاَ يقدرون على إذاءته انتهى، وتظاهرت الرواياتُ عن ابن عبَّاس وغيره من الصحابة بأنَّ ثبوت الواحدِ للعَشَرةِ، كان فرضاً على المؤمنين، ثم لمَّا شَقَّ ذلك عليهم، حطّ الله
ينظر: «مراصد الاطلاع» (١/ ٢٣٩).
وقوله: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ: لفظُ خبرٍ في ضمنه وعْدٌ وحضٌّ على الصبر، ويُلْحَظُ منه وعيدٌ لمن لم يَصْبِرْ بأنه يغلب.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦٧ الى ٦٩]
مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩)
وقوله سبحانه: مَا كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى... الآية: قال ع «٢» : هذه آية تتضمَّن عندي معاتَبةً مِنَ اللَّه عزَّ وجلَّ لأصحاب نبيِّه عليه السلام والمعنى: ما كان ينبغي لكُمْ أَنْ تفعلوا هذا الفعْلَ الذي أوْجَبَ أن يكون للنبيِّ أَسْرَى قبل الإِثخان ولذلك استمرَّ الخطابُ لهم ب تُرِيدُونَ والنبيُّ صلّى الله عليه وسلّم لم يأمر باستبقاء الرِّجَالِ وقْتَ الحَرْبِ، ولا أراد صلّى الله عليه وسلّم قَطُّ عَرَضَ الدنيا، وإِنما فعله جمهورُ مُبَاشِرِي الحرب، وجاء ذكر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الآية مشيراً إِلى دخوله عليه السلام في العَتْبِ حين لم يَنْهَ عن ذلك حين رآه من العَرِيشِ، وأنْكَره سعْدُ بْنُ معاذ، ولكنّه صلّى الله عليه وسلّم شَغَلَهُ بَغْتُ الأمر، وظهورُ النصر عن النهْي ومَرَّ كثيرٌ من المفسِّرين على أنَّ هذا التوبيخَ إنما كان بسبب إشارة مَنْ أشار على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأخذ الفدْيَةِ، حين استشارهم في شأن الأَسرَى، والتأويل الأول أَحْسَنُ، والإِثخانُ: هو المبالغةُ في القَتْل والجراحةِ، ثم أمر مخاطبة أصحاب النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا، أي: مالها الذي يعز وَيَعْرِضُ، والمراد: ما أُخِذَ من الأسرى من الأموال، وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، أيْ: عمل الآخرة، وذكَر الطبريُّ وغيره أن رسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قال للنّاس: «إن
ينظر: «المعتمد» (١/ ٤١٦) «المحصول» (٧٦٦) (١/ ٣/ ٤٨٠) «المستصفى» (١/ ١٢٠) «التبصرة» » (٢٥٨)، «شرح الكوكب» (٣/ ٥٥٠) «العدة» (٣/ ٧٨٥) «الإحكام للآمدي» (٣/ ١٢٦) «ميزان الأصول» (٢/ ١٠٠٠) «كشف الأسرار» (٣/ ١٨٧) «التلويح» (٢/ ٣٦) «فتح الغفار» (٢/ ١٣٤) «إرشاد الفحول» (١٨٨) «الإبهاج» (٢/ ٢٣٨).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٢/ ٥٥١).
لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ فهذا يدُّلك على صحَّة ما قدَّمناه، أنَّ العتب لهم إِنما هو على استبقاءِ الرجالِ وقْتَ الهزيمةِ رغبةً في أخْذ المال، وهو الذي أقولُ به، وذكر المفسِّرون أيضاً في هذه الآيات تحليلَ/ المَغَانِمِ، ولا أَقولُ ذلك لأن تحليل المغانم قد تقدَّم قبْل بَدْرٍ في السَّرِيَّة التي قُتِلَ فيها ابْنُ الحَضْرَمِيِّ، وإِنما المُبْتَدَعُ في بَدْرٍ استبقاء الرِّجَال لأجل المال، والذي مَنَّ اللَّه به فيها: إِلحاق فدية الكافر بالمغانمِ التي تقدَّم تحليلها، وقوله سبحانه: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ... الآية: قال ابن عبَّاس، وأبو هريرة، والحَسَن، وغيرهم: الكِتَابُ: هو ما كان اللَّه قَضَاهُ في الأَزَلِ مِنْ إِحلالِ الغنائمِ والفداءِ لهذه الأمة، وقال مجاهد وغيره: الكتابُ السابق: مغفرةُ اللَّهِ لأهْلِ بدر، وقيل:
الكتاب السابقُ: هو ألاَّ يعذب اللَّه أحداً بذَنْبٍ إِلا بعد النَّهْيِ عنه، حكاه «٣» الطبريُّ.
قال ابنُ العربيِّ في «أحكام القُرآن» : وهذه الأقوالُ كلُّها صحيحةٌ ممكنَةٌ، لكن أقواها ما سبق مِنْ إِحلال الغنيمة، وقد كانوا غَنِمُوا أوَّلَ غنيمة في الإسلام حين أرسل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عَبْدَ اللَّه بْنَ جَحْش «٤». انتهى، ورُوِيَ أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «لَوْ نَزَلَ في هَذَا الأَمْرِ عَذَابٌ، لَنَجَا مِنْهُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّاب» «٥»، وفي حديث آخر: «وسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ» وذلك أن رأيهما كان
(٢) عبد بن حميد بن نصر الكشّي أبو محمد الحافظ مؤلف «المسند والتفسير» عن علي بن عاصم، ومحمد بن بشر العبدي، وعبد الرزاق، والنضر بن شميل، وخلائق، وعنه مسلم، والترمذي وخلق.
قال البخاري وقال عبد الحميد: أنبأنا عثمان بن عمر فذكر حديثا، قيل: عبد الحميد هو عبد بن حميد، قلت: روى الحديث مسلم، عن عبد بن حميد.
قال ابن حبان: مات سنة تسع وأربعين ومائتين. قاله في «الخلاصة» (٢/ ١٨٨).
(٣) ينظر: «تفسير الطبري» (٦/ ٢٨٨- ٢٨٩- ٢٩٠).
(٤) عبد الله بن جحش الأسدي بن رياب- براء تحتانية وآخره موحدة- ابن يعمر الأسدي: حليف بني عبد شمس، أحد السابقين.
قال ابن حبان: له صحبة، وقال ابن إسحاق: هاجر إلى الحبشة، وشهد بدرا، ودفن هو وحمزة في قبر واحد، وكان له يوم قتل نيف وأربعون سنة. ينظر: «الإصابة» (٤/ ٣١، ٣٣)، «أسد الغابة» (٢٨٥٨) بتحقيقنا، «الثقات» (٣/ ٢٣٧)، «صفوة الصفوة» (١/ ٣٨٥)، «حلية الأولياء» (١/ ١٠٨- ١٠٩).
(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٢٠٣)، وعزاه إلى ابن المنذر، وأبي الشيخ، وابن مردويه.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٧٠ الى ٧١]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١)
وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ، روي أنّ الأسرى ببدر أعلموا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنَّ لهم مَيْلاً إِلى الإِسلام، وأنهم إِنْ رجعوا إِلى قومهم، سَعَوْا في جلبهم إِلى الإِسلام، قال ابن عَبَّاس: الأَسْرَى في هذه الآية: عبّاس وأصحابه «١»، قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: آمنا بما جئْتَ به، ونشهد إِنك لَرَسُولُ اللَّه، ولَنَنْصَحَنَّ لك علَى قومنا، فنزلَتْ هذه الآيةُ، ومعنى الكلام: إِن كان هذا عَنْ جِدٍّ منكم، وَعَلِمَ اللَّهُ مِنْ أَنفسكم الخَيْرَ والإِسلام، فإِنه سيجبر عليكم أَفْضَلَ مما أَعطيتم فديةً، ويغفرْ لكم جميعَ ما اجترمتموه، وروي أنَّ العبَّاس بن عبد المطَّلب رضي اللَّه عنه قال: فيَّ وفي أصْحَابِي نَزَلَتْ هذه الآية، وقال حين أعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مِنْ مالِ البَحْرَيْنِ ما قَدِّرَ أنْ يقول: هذا خَيْرٌ ممَّا أُخِذَ مِنِّي، وأنا بَعْدُ أَرجُو أنْ يَغْفِرَ اللَّهِ «٢» لِي، وروي عنه أنه قال: ما أَوَدُّ أَنَّ هذه الآية لَمْ تَنْزِلْ «٣»، ولي الدنيا بأجمعها وذلك أن اللَّه تعالى قد أتاني خَيْراً مما أُخِذَ مني، وأنا أرجو أَنْ يَغْفِرَ لي، وقوله:
فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ أي: بالكُفْر، فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ أي: بأن جعلهم أسْرَى، وَاللَّهُ عَلِيمٌ فيما يبطنونه، حَكِيمٌ فيما يجازيهم به.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٧٢]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢)
وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
(٢) أخرجه ابن جرير (٦/ ٢٩٢) برقم: (١٦٣٣٨) نحوه، وذكره ابن عطية (٢/ ٥٥٥)، والبغوي (٢/ ٢٦٣) نحوه، والسيوطي (٣/ ٣٧٠) بنحوه، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في «الدلائل»، وابن عساكر. [.....]
(٣) ذكره ابن عطية (٢/ ٥٥٥).
معناه/: هَجَرَ أهله وقرابته، وهَجَرُوهُ، وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا: هم الأنصارُ، فحكَمَ سبحانه على هاتَيْنِ الطائفتين بأن بَعْضَهُم أولياءُ بَعْضٍ، فقال كثيرٌ من المفسِّرين: هذه الموالاةُ: هي المؤازرة، والمعاونة، واتصال الأيدي، وعليه فَسَّر الطبريُّ الآية، وهذا الذي قالوه لازم من دلالة لفظ الآية، وقال ابن عبَّاسٍ وغيره: هذه الموالاةُ هي في المواريث «١» وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم آخَى بين المهاجرين والأنصار، فكان المهاجريُّ إذا ماتَ، ولم يكُنْ له بالمدينةِ وليٌّ مهاجريٌّ، ورثه أخوه الأنْصَارِيُّ، وكان المسلم الذي لم يُهَاجِرْ لا ولايَةَ بينه، وبَيْنَ قريبه المهاجريِّ، ولا يرثه، ثم نُسِخَ ذلك بقوله سبحانه: وَأُولُوا الْأَرْحامِ... الآية [الأنفال: ٧٥] وعلى التأويلين، ففي الآية حضٌّ على الهجرة، قال أبو عُبَيْدَة: الوِلاَيَةُ- بالكسر- من وَليتُ الأَمْرَ إِليه، فهي في السلطان، وبالفَتْحِ هي من المَوْلَى يقال: مَوْلَى بَيِّنَ الوَلاَيَةِ- بفتح الواو-.
وقوله سبحانه: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ، يعني: إِن استدعى هؤلاء- المؤمنون الذين لم يُهَاجِروا نَصْرَكُمْ- فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فلا تنصروهم عليهم لأنّ ذلك غدر ونقض للميثاق.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٧٣ الى ٧٥]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥)
وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وذلك يجمع الموارثَةَ والمعاوَنَةَ والنُّصْرة، وهذه العبارةُ تحريضٌ وإِقامةٌ لنفوس المؤمنين كما تقولُ لمن تريدُ تحريضَهُ: عَدُوُّكَ مُجْتَهِدٌ أي: فاجتهد أَنْتَ، وحكى الطبريُّ في تفسير هذه الآية «٢»، عن
(٢) ينظر: «تفسير الطبري» (٦/ ٢٩٧).
الحديثَ على اختلاف ألفاظه، وقول قتادة، إِنما هو فيمن كان يُقيمُ متربِّصاً يقول: مَنْ غَلَبَ، كُنْتُ معه وكذلِكَ ذُكِرَ في كتاب «٢» «الطَّبريِّ»، وغيره، والضميرُ في قوله: إِلَّا تَفْعَلُوهُ، قيل:
هو عائدٌ على المُؤازرة والمعاونة، ويحتملُ على الميثاق المذكور، ويحتملُ على النَّصْر للمسلمين المستَنْصِرِينَ، ويحتمل على الموارثَة والتزامها، ويجوز أَن يعود مجملاً على جميعِ ما ذُكِرَ، والفتْنَةُ: المِحْنَة بالحَرْب وما انجر معها من الغارَاتِ، والجلاءِ، والأسر، والفسادُ الكَبيرُ: ظُهُورُ الشِّرْك.
وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا، تضمَّنت الآيةُ تخصيصَ المهاجرين والأنصار، وتشريفَهم بهذا الوَصْف العظيمِ.
ت: وهي مع ذلك عند التأمُّل يلوح منها تأويل قتادَةَ المتقدِّم، فتأمَّله، والرزْقُ الكريمُ: هو طعام الجنَّة كذا ذكر الطبريُّ وغيره «٣».
قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه» «٤» : وإِذا كان الإِيمان في القَلْب حقًّا، ظهر ذلك في
وقد أخرجه مرسلا الترمذي (٤/ ١٣٣) كتاب «السير» باب: ما جاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين، حديث (١٦٠٥)، والنسائي (٨/ ٣٦) كتاب «القسامة» باب: القود بغير حديدة، والبيهقي (٨/ ١٣٠) كتاب «القسامة»، كلهم من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم مرسلا.
وقال الترمذي: وهذا أصحّ وأكثر أصحاب إسماعيل، عن قيس بن أبي حازم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث سرية ولم يذكروا فيه عن جرير، ورواه حماد بن سلمة، عن الحجاج بن أرطاة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس عن جرير مثل حديث أبي معاوية. قال: وسمعت محمدا يقول: الصحيح حديث قيس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم اه.
(٢) ينظر: «تفسير الطبري» (٦/ ٢٩٨).
(٣) ينظر: «تفسير الطبري» (٦/ ٢٩٩).
(٤) ينظر: «أحكام القرآن» لابن العربي (٢/ ٨٨٩).
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ: قوله: «من بعد»، يريدُ به مِنْ بَعْدِ الحُدَيْبِيَةِ وذلك أن الهجرة مِنْ بعدِ ذلك كانَتْ أقلَّ رتبةً من الهجرة قبل ذلك، وكان يقال لها الهِجْرَةُ الثانية، وَجاهَدُوا مَعَكُمْ: لفظٌ يقتضي/ أنهم تَبَعٌ لا صَدْرٌ.
وقوله سبحانه: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ، قالَ مَنْ تقدَّم ذكره: هذه في المواريثِ، وهي ناسخةٌ للحُكْم المتقدِّم ذكْرُهُ.
وقالتْ فرقة، منها مالك: إن الآية لَيْسَتْ في المواريث، وهذا فَرارٌ من توريثِ الخَالِ والعَمَّة ونحو ذلك.
وقالَتْ فرقة: هي في المواريث، إِلا أنها نُسِخَتْ بآية المواريث المبيّنة، وقوله: فِي كِتابِ اللَّهِ: معناه: القرآن، أي: ذلك مُثْبَتٌ في كتاب اللَّه.
وقيل: في اللَّوْحِ المحفوظِ.
كَمَلَ تفسيرُ السُّورة، والحَمْدُ للَّهِ، وصلَّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.