تفسير سورة الأنفال

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
سورة الأنفال مدنية وهي خمس وسبعون آية

إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ هم الملائكة صلوات الله عليهم. ومعنى عِنْدَ دنوّ الزلفة، والقرب من رحمة الله تعالى وفضله، لتوفرهم على طاعته وابتغاء مرضاته وَلَهُ يَسْجُدُونَ ويختصونه بالعبادة لا يشركون به غيره، وهو تعريض بمن سواهم من المكلفين.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: من «قرأ سورة الأعراف جعل الله يوم القيامة بينه وبين إبليس ستراً، وكان آدم شفيعاً له يوم القيامة» «١»
سورة الأنفال
مدنية، [إلا من آية ٣٠ إلى غاية آية ٣٦ فمكية] وهي خمس وسبعون آية [نزلت بعد البقرة] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)
النفل: الغنيمة، لأنها من فضل الله تعالى وعطائه. قال لبيد:
إنَّ تَقْوَى رَبِّنَا خَيْرُ نَفَلْ «٢»
(١). ذكرت أسانيده في تفسير آل عمران وسيأتى في آخر الكتاب.
(٢).
إن تقوى ربنا خير نفل وبإذن الله ريثى وعجل
أحمد الله فلا ند له بيديه الخير ما شاء فعل
من هداه سبل الخير اهتدى ناعم البال ومن شاء أضل
للبيد بن ربيعة العامري، شبه الثواب الذي وعده الله عباده على التقوى بالنفل- بالتحريك- وهو ما يعده الامام المجاهد تحريضا على اقتحام الحرب فاستعار النفل له على طريق التصريحية وأخبر به عن التقوى لأنها سببه. ويجوز استعارة النفل التقوى يجامع النفع، وبإذن الله وتسهيله. ريثى: أى بطئى، وعجل: أى سرعتي، فحذفت ياء الاضافة للوزن، فلا ند: أى لا مثل له، بيديه: أى بقدرته التي هي كالآلة في أفعاله تعالى كاليدين لأفعالنا. ويحتمل أنه شبه خزائنه سبحانه باليد فيها شيء، لسهولة تصرفه فيما فيها واختصاصه به، فالباء بمعنى في. وتثنية اليد للمبالغة في التشبيه، ولا مانع من جعله ترشيحا للاستعارة على الوجهين. «ما شاء فعل» أى ما أراده فعله، وبين ذلك بقوله «من هداه طرق الخير اهتدى» حتما حال كونه طيب الشأن. ومن شاء إضلاله أضله حتما، أى تركه ونفسه ومنعه لطفه، حتى يضل حال كونه كاسف البال أى حزين القلب في العاقبة، فهي حال منتظرة «أو سيء الحال والشأن، وهذا محذوف معلوم من المقابلة بما قبله.
193
والنفل ما ينفله الغازي، أى يعطاه زائداً على سهمه من المغنم، وهو أن يقول الإمام تحريضاً على البلاء في الحرب: من قتل قتيلا فله سلبه. أو قال لسرية: ما أصبتم فهو لكم، أو فلكم نصفه أو ربعه. ولا يخمس النفل، ويلزم الإمام الوفاء بما وعد منه. وعند الشافعي رحمه الله في أحد قوليه: لا يلزم. ولقد وقع الاختلاف بين المسلمين في غنائم بدر، وفي قسمتها، فسألوا رسول الله ﷺ كيف تقسم، ولمن الحكم في قسمتها؟ أللمهاجرين أم للأنصار؟ أم لهم جميعاً؟
فقيل له: قل لهم هي لرسول الله ﷺ «١» وهو الحاكم فيها خاصة يحكم فيها ما يشاء، ليس لأحد غيره فيها حكم. وقيل شرط لمن كان له بلاء في ذلك اليوم أن ينفله، فتسارع شبانهم حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين، فلما يسر الله لهم الفتح اختلفوا فيما بينهم وتنازعوا، فقال الشبان:
نحن المقاتلون، وقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات: كنا ردآ لكم وفئة تنحازون إليها إن انهزمتم «٢» وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: المغنم قليل والناس كثير: وإن تعط هؤلاء ما شرطت لهم حرمت أصحابك. فنزلت. وعن سعد بن أبى وقاص: قتل أخى عمير يوم بدر، فقتلت به سعيد بن العاص «٣» وأخذت سيفه فأعجبنى، فجئت به إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فقلت: إنّ الله قد شفى صدري من المشركين، فهب لي هذا السيف فقال:
ليس هذا لي ولا لك، اطرحه في القبض «٤» فطرحته وبى مالا يعلمه إلا الله تعالى من قتل أخى وأخذ سلبي، فما جاوزت إلا قليلا حتى جاءني رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وقد أنزلت
(١). أخرجه أحمد وإسحاق وابن حبان والحاكم من حديث أبى أمامة عن عبادة بن الصامت. قال: خرجنا مع النبي ﷺ فشهدنا معه بدرا. فالتقى الناس. فهزم الله العدو. فذكر الحديث في اختلافهم في قسمة الغنائم. قال: فنزلت ويسألونك عن الأنفال- الآية. فقسمها النبي ﷺ بين المسلمين.
(٢). أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم من رواية داود بن أبى هند عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ «من أتى مكان كذا وكذا فله من النفل كذا وكذا. فتسارع إليه الشبان وثبت الشيوخ تحت الرايات- الحديث» قلت: وأما قوله «حتى قتلوا سبعين وأسروا سبعين» فليس في هذا الحديث.
(٣). «قوله فقتلت به سعيد بن العاص» في حواشي البيضاوي: أنه العاص بن سعيد. (ع)
(٤). قوله «في القبض- كسبب-: المال المقبوض. (ع)
194
سورة الأنفال، فقال: يا سعد، إنك سألتنى السيف وليس لي، وإنه قد صار لي فاذهب فخذه «١» وعن عبادة بن الصامت: نزلت فينا يا معشر أصحاب بدر حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا فجعله لرسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فقسمه بين المسلمين على السواء، وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله وإصلاح ذات البين «٢». وقرأ ابن محيصن:
يسألونك علنفال، بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام، وإدغام نون عن في اللام: وقرأ ابن مسعود: يسألونك الأنفال، أى يسألك الشبان ما شرطت لهم من الأنفال. فان قلت:
ما معنى الجمع بين ذكر الله والرسول في قوله قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ؟ قلت: معناه أنّ حكمها مختص بالله ورسوله، يأمر الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته ويمتثل الرسول أمر الله فيها، وليس الأمر في قسمتها مفوّضا إلى رأى أحد، والمراد: أنّ الذي اقتضته حكمة الله وأمر به رسوله أن يواسى المقاتلة المشروط لهم التنفيل الشيوخ الذين كانوا عند الرايات، فيقاسموهم على السوية ولا يستأثروا بما شرط لهم، فإنهم إن فعلوا لم يؤمن أن يقدح ذلك فيما بين المسلمين من التحاب والتصافي فَاتَّقُوا اللَّهَ في الاختلاف والتخاصم، وكونوا متحدين متآخين في الله وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وتآسوا وتساعدوا فيما رزقكم الله وتفضل به عليكم. وعن عطاء: كان الإصلاح بينهم أن دعاهم وقال: اقسموا غنائمكم بالعدل، فقالوا: قد أكلنا وأنفقنا، فقال: ليردّ بعضكم على بعض. فان قلت: ما حقيقة قوله ذاتَ بَيْنِكُمْ؟ قلت: أحوال بينكم، يعنى ما بينكم من الأحوال، حتى تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق، كقوله بِذاتِ الصُّدُورِ وهي مضمراتها.
لما كانت الأحوال ملابسة للبين قيل لها: ذات البين، كقولهم: اسقني ذا إنائك، يريدون ما في الإناء من الشراب. وقد جعل التقوى وإصلاح ذات البين وطاعة الله ورسوله من لوازم الإيمان وموجباته، ليعلمهم أنّ كمال الإيمان موقوف على التوفر عليها. ومعنى قوله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إن كنتم كاملى الإيمان. واللام في قوله إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إشارة إليهم. أى إنما الكاملو الإيمان من صفتهم كيت وكيت والدليل عليه قوله أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا. وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ فزعت. وعن أمّ الدرداء: الوجل في القلب كاحتراق السعفة «٣»، أما تجد له قشعريرة؟ قال. بلى، قالت: فادع الله فإنّ الدعاء يذهبه، يعنى فزعت لذكره استعظاما له، وتهيبا من جلاله وعزّة
(١). أخرجه أحمد وابن أبى شيبة وأبو شيبا وأبو عبيد في الأموال: وسعيد ابن منصور كلهم قال: حدثنا أبو معاوية عن الشيباني عن محمد بن عبيد بن أبى عون عنه قال أبو عبيد: كذا يقول: سعيد بن العاصي. والصواب العاص بن سعيد. وفي روايتهم فقلت سعيد بن العاصي لم يقولوا به. [.....]
(٢). أخرجه أحمد وإسحاق والطبري من طريق ابن إسحاق عن عبد الرحمن عن الحارث عن سليمان بن مكحول- عن أبى أمامة عنه به.
(٣). قوله «كاحتراق السعفة» أى غصن النخلة، كما في للصحاح. (ع)
195
سلطانه وبطشه بالعصاة وعقابه، وهذا الذكر خلاف الذكر في قوله ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ لأن ذلك ذكر رحمته ورأفته وثوابه. وقيل: هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية فيقال له: اتق الله فينزع. وقرئ: وجلت، بالفتح، وهي لغة نحو «وبق» في «وبق» «١».
وفي قراءة عبد الله: فرقت زادَتْهُمْ إِيماناً ازدادوا بها يقينا وطمأنينة في نفس، لأن تظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه وأثبت لقدمه، وقد حمل على زيادة العمل. وعن أبى هريرة رضى الله عنه: الإيمان سبع وسبعون شعبة، أعلاها: شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان «٢». وعن عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه: إن للإيمان سننا وفرائض وشرائع، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ولا يفوّضون أمورهم إلى غير ربهم، لا يخشون ولا يرجون إلا إياه.
جمع بين أعمال القلوب من الخشية والإخلاص والتوكل، وبين أعمال الجوارح من الصلاة والصدقة حَقًّا صفة للمصدر المحذوف، أى أولئك هم المؤمنون إيمانا حقا، أو هو مصدر مؤكد للجملة التي هي أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ كقولك: هو عبد الله حقا، أى حق ذلك حقا.
وعن الحسن أنّ رجلا سأله: أمؤمن أنت؟ قال: الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألنى عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنسار والبعث والحساب، فأنا مؤمن.
وإن كنت تسألنى عن قوله إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ فو الله لا أدرى أمنهم أنا أم لا. وعن الثوري: من زعم أنه مؤمن بالله حقا، ثم لم يشهد أنه من أهل الجنه، فقد آمن بنصف الآية. وهذا إلزام منه، يعنى كما لا يقطع بأنه من أهل ثواب المؤمنين حقا، فلا يقطع بأنه مؤمن حقا، وبهذا تعلق من يستننى في الإيمان. وكان أبو حنيفة رضى الله عنه ممن لا يستثنى فيه. وحكى عنه أنه قال لقتادة:
لم تستثنى في إيمانك؟ قال: اتباعا لإبراهيم عليه السلام في قوله وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ فقال له: هلا اقتديت به في قوله أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى؟ دَرَجاتٌ شرف وكرامة وعلوّ منزلة وَمَغْفِرَةٌ وتجاوز لسيئاتهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ نعيم الجنة. يعنى لهم منافع حسنة دائمة على سبيل التعظيم، وهذا معنى الثواب.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٥]
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥)
(١). قوله «نحو وبق في وبق... الخ» وبق: أى هلك. وفرقت: خافت. (ع)
(٢). أخرجه مسلم وأصحاب السنن وابن حبان برواية أبى صالح عن أبى هريرة، وهو في البخاري باختصار.
196
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ فيه وجهان «١» أحدهما. أن يرتفع محل الكاف على أنه خبر مبتدإ محذوف تقديره. هذه الحال كحال إخراجك. يعنى أنّ حالهم في كراهة ما رأيت من تنفيل الغزاة، مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب. والثاني: أن ينتصب على أنه صفة مصدر الفعل المقدّر في قوله الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أى الأنفال استقرّت لله والرسول، وثبتت مع كراهتهم ثباتا مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك وهم كارهون. ومِنْ بَيْتِكَ يريد بيته بالمدينة، أو المدينة نفسها، لأنها مهاجره ومسكنه، فهي في اختصاصها به كاختصاص البيت بساكنه بِالْحَقِّ أى إخراجاً ملتبسا بالحكمة والصواب الذي لا محيد عنه وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ في موضع الحال، أى أخرجك في حال كراهتهم، وذلك أن عير قريش أقبلت من الشأم فيها تجارة عظيمة «٢» معها أربعون راكبا، منهم أبو سفيان وعمرو بن العاص وعمرو ابن هشام، فأخبر جبريل رسول الله ﷺ فأخبر المسلمين، فأعجبهم تلقى العير لكثرة الخير وقلة القوم، فلما خرجوا بلغ أهل مكة خبر خروجهم، فنادى أبو جهل فوق الكعبة: يا أهل مكة النجاء النجاء على كل صعب وذلول، عيركم أموالكم، إن أصابها محمد لن تفلحوا بعدها أبداً، وقد رأت أخت العباس بن عبد المطلب رؤيا فقالت لأخيها: إنى رأيت عجبا رأيت كأنّ ملكا نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل ثم حلق بها فلم يبق بيت من بيوت مكة إلا أصابه حجر من تلك الصخرة. فحدّث بها العباس فقال أبو جهل: ما يرضى رجالهم أن يتنبئوا حتى تتنبأ نساؤهم، فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهم النفير. في المثل السائر: لا في العير ولا في النفير، فقيل له: إنّ العير أخذت طريق الساحل ونجت، فارجع بالناس إلى مكة، فقال: لا والله لا يكون ذلك أبدا حتى ننحر الجزور، ونشرب الخمور، ونقيم القينات والمعازف ببدر، فيتسامع جميع العرب بمخرجنا، وإن محمداً لم يصب العير، وإنا قد أعضضناه «٣»، فمضى
(١). قال محمود: «في «كما» وجهان، أحدهما: أن يرتفع محل الكاف... الخ» قال أحمد: وكان جدي أبو العباس أحمد الفقيه الوزير رحمه الله يذكر في معنى الآية وجها أوجه من هذين، وهو أن المراد تشبيه اختصاصه عليه السلام بالأنفال، وتفويض أمرها إلى حكمه من حيث الاثابة والجزاء، بإخراجه من بيته مطيعا لله تعالى سامعا لأمره راضيا بحكمه على كراهة المؤمنين لذلك في الطاعة، فشبه الله تعالى ثوابه بهذه المزية بطاعته المرضية، فكما بلغت طاعته الغاية في نوع الطاعات، فكذلك بلغت إثابة الله له الغاية في جنس المثوبات. وجماع هذا المعنى هو المشار إليه بقوله عليه الصلاة والسلام «الأجر على قدر النصب» ولك على هذا المعنى أن تجعل الكاف مرفوعة ومنصوبة على حسب التقدير، والله الموفق.
(٢). هذه القصة منتزعة من سيرة ابن هشام إلا قوله «إن في أهل العير عمرو بن هشام فان عمرو بن هشام هو أبو جهل ولم يكن في العير، وإنما كان في النفير وأخرجه الطبري من قول ابن إسحاق، وبعضه عن ابن عباس وعن عروة وعن السدى بتقديم وتأخير وزيادة ونقس وفي مغازي الواقدي عن محمود بن لبيد بعضه. وعن سعيد بن المسبب بعضه.
(٣). قوله «وإنا قد أعضضناه»
في الصحاح: أعضضته الشيء فعضه. وفي الحديث «فأعضوه بهن أبيه» ويقال:
أعضضته سيفي، أى ضربته به. وأعض القوم. أكلت إيلهم العض، وهو بالضم علف الأمصار، وبالكسر الشوك الصغير. (ع).
197
بهم إلى بدر- وبدر ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوما في السنة- فنزل جبريل عليه السلام فقال: يا محمد، إن الله وعدكم إحدى الطائفتين: إمّا العير، وإمّا قريشا، فاستشار النبي ﷺ أصحابه وقال: ما تقولون، إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول، فالعير أحب إليكم أن النفير؟ قالوا: بل العير أحب إلينا من لقاء العدوّ، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم ردّد عليهم فقال: إن العير قد مضت على ساحل البحر، وهذا أبو جهل قد أقبل، فقالوا يا رسول الله، عليك بالعير ودع العدوّ، فقام عند غضب النبي ﷺ أبو بكر وعمر رضى الله عنهما فأحسنا، ثم قام سعد بن عبادة فقال:
انظر أمرك فامض. فو الله لو سرت إلى عدن أبين «١» ما تخلف عنك رجل من الأنصار، ثم قال المقداد بن عمرو يا رسول الله، امض لما أمرك الله، فإنا معك حيثما أحببت لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن: اذهب أنت وربك فقاتلا إنما معكما مقاتلون، ما دامت عين منا تطرف، فضحك رسول الله ﷺ ثم قال: أشيروا علىّ أيها الناس وهو يريد الأنصار، لأنهم قالوا له حين بايعوه على العقبة: إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا، نمنعك مما نمنع منه آباءنا ونساءنا، فكان النبي ﷺ يتخوّف أن لا تكون الأنصار لا ترى «٢» عليهم نصرته إلا على عدوّ دهمه بالمدينة، فقام سعد بن معاذ فقال: لكأنك تريدنا يا رسول الله؟
قال: أجل، قال: قد آمنا بك وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، ولعلّ الله يريك منا ما تقرّبه عينك، فسر بنا على بركة الله، ففرح رسول الله ﷺ وبسطه قول سعد، ثم قال: سيروا على بركة الله وأبشروا، فإنّ الله وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأنى الآن أنظر إلى مصارع القوم. وروى أنه قيل لرسول الله ﷺ حين فرغ من بدر: عليك بالعير ليس
(١). قوله «إلى عدن أبين» في الصحاح: أبين اسم رجل نسب إليه عدن، فقيل: عدن أبين. (ع)
(٢). قوله «يتخوف أن لا تكون الأنصار لا ترى» لعله «أن تكون» أو لعله «الأنصار ترى» وبالجملة فأحد الحرفين يغنى عن الآخر. (ع)
198
دونها شيء، فناداه العباس وهو في وثاقه: لا يصلح «١» فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لم؟
قال: لأنّ الله وعدك إحدى الطائفتين. وقد أعطاك ما وعدك، وكانت الكراهة من بعضهم لقوله وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٦]
يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦)
والحق الذي جادلوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلقى النفير، لإيثارهم عليه تلقى العير بَعْدَ ما تَبَيَّنَ بعد إعلام رسول الله ﷺ بأنهم ينصرون. وجدالهم: قولهم ما كان خروجنا إلا للعير، وهلا قلت لنا لنستعد ونتأهب؟ وذلك لكراهتهم القتال. ثم شبه حالهم في فرط فزعهم ورعبهم وهم يسار بهم إلى الظفر والغنيمة، بحال من يعتل إلى القتل «٢» ويساق على الصغار إلى الموت المتيقن، وهو مشاهد لأسبابه، ناظر إليها لا يشك فيها. وقيل:
كان خوفهم لقلة العدد، وأنهم كانوا رجالة. وروى أنه ما كان فيهم إلا فارسان.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٧]
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧)
إِذْ منصوب بإضمار اذكر. وأَنَّها لَكُمْ بدل من إحدى الطائفتين. والطائفتان:
العير والنفير. غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ العير، لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسا، والشوكة كانت في النفير لعددهم وعدّتهم: والشوكة: الحدّة مستعارة من واحدة الشوك. ويقال: شوك القنا لشباها «٣». ومنها قولهم: شائك السلاح، أى تتمنون أن تكون لكم العير، لأنها الطائفة التي لا حدّة لها ولا شدّة، ولا تريدون الطائفة الأخرى أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ أن يثبته ويعليه بِكَلِماتِهِ بآياته المنزلة في محاربة ذات الشوكة، وبما أمر الملائكة من نزولهم للنصرة، وبما قضى من أسرهم وقتلهم وطرحهم في قليب بدر. والدابر الآخر: فاعل من دبر. إذا أدبر. ومنه دابرة الطائر. وقطع الدابر عبارة عن الاستئصال، يعنى أنكم تريدون الفائدة العاجلة وسفساف
(١). أخرجه الترمذي وأحمد وإسحاق وأبو يعلى والبزار وابن حيان والحاكم من رواية إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضى الله عنهما.
(٢). قوله «بحال من يعتل إلى القتل» أى يجذب جذبا عنيفا. أفاده الصحاح. (ع)
(٣). قوله «شوك القنا لشباها» شباه كل شيء: حد طرفه، والجمع شبا وشبوات، كذا في الصحاح. مشياها جمع مضاف لضمير القنا. (ع)
الأمور «١» وأن لا تلقوا ما يرزؤكم في أبدانكم وأحوالكم «٢» والله عز وجلّ يريد معالى الأمور، وما يرجع إلى عمارة الدين، ونصرة الحق، وعلوّ الكلمة، والفوز في الدارين. وشتان ما بين المرادين. ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة، وكسر قوّتهم بضعفكم، وغلب كثرتهم بقلتكم، وأعزّكم وأذلهم، وحصل لكم مالا تعارض أدناه العير وما فيها. وقرئ: بكلمته، على التوحيد.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٨]
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨)
فإن قلت: بم يتعلق قوله لِيُحِقَّ الْحَقَّ؟ قلت: بمحذوف تقديره: ليحق الحق ويبطل الباطل فعل ذلك، ما فعله إلا لهما. وهو إثبات الإسلام وإظهاره، وإبطال الكفر ومحقه.
فإن قلت: أليس هذا تكريراً؟ قلت: لا، لأنّ المعنيين متباينان، وذلك أنّ الأوّل تمييز بين الإرادتين وهذا بيان لغرضه فيما فعل من اختيار ذات الشوكة على غيرها لهم ونصرتهم عليها، وأنه ما نصرهم ولا خذل أولئك إلا لهذا الغرض الذي هو سيد الأغراض. ويجب أن يقدّر المحذوف متأخراً حتى يفيد معنى الاختصاص فينطبق عليه المعنى: وقيل: قد تعلق بيقطع.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٩]
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩)
فإن قلت: بم يتعلق إِذْ تَسْتَغِيثُونَ؟ قلت: هو بدل من إِذْ يَعِدُكُمُ وقيل بقوله لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ واستغاثتهم أنهم لما علموا أنه لا بدّ من القتال، طفقوا يدعون الله ويقولون: أى ربنا انصرنا على عدوّك، يا غياث المستغيثين أغثنا. وعن عمر رضى الله عنه أنّ رسول الله ﷺ نظر إلى المشركين وهم ألف، وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة، فاستقبل القبلة ومدّ يديه يدعو: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض- فما زال كذلك حتى سقط رداؤه فأخذه أبو بكر رضى الله عنه فألقاه على منكبه والتزمه من ورائه، وقال: يا نبى الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك «٣» أَنِّي مُمِدُّكُمْ
(١). قال محمود: «يعنى أنكم تريدون العاجلة وسفاسف الأمور... الخ» قال أحمد: والتحقيق في التمييز بين الكلامين أن الأول ذكر الارادة فيه مطلقة غير مقيدة بالواقعة الخاصة، كأنه قيل: وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم، ومن شأن الله تعالى إرادة تحقيق الحق وتمحيق الكفر على الإطلاق، ولإرادته أن يحق الحق ويبطل الباطل خصكم بذات الشوكة، فبين الكلامين عموم وخصوص، وإطلاق وتقييد. وفي ذلك مالا يخفى من المبالغة في تأكيد المعنى بذكره على وجهين: إطلاق، وتقييد. والله أعلم.
(٢). قوله «وأحوالكم» لعله وأموالكم. (ع) [.....]
(٣). أخرجه مسلم من روآية ابن عباس عن عمر رضى الله عنه.
200
أصله بأنى ممدكم، فحذف الجار وسلط عليه استجاب فنصب محله. وعن أبى عمرو أنه قرأ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بالكسر، على ارادة القول، أو على إجراء استجاب مجرى «قال» لأنّ الاستجابة من القول. فإن قلت: هل قاتلت الملائكة يوم بدر؟ قلت: اختلف فيه، فقيل:
نزل جبريل في يوم بدر في خمسمائة ملك على الميمنة وفيها أبو بكر، وميكائيل في خمسمائة على الميسرة وفيها علىّ بن أبى طالب في صور الرجال، عليهم ثياب بيض وعمائم بيض وقد أرخوا أذنابها بين أكتافهم. فقالت. وقيل: قاتلت يوم بدر ولم تقاتل يوم الأحزاب ويوم حنين.
وعن أبى جهل أنه قال لابن مسعود: من أين كان ذلك الصوت الذي كنا نسمع ولا نرى شخصا؟ قال: من الملائكة، فقال أبو جهل: هم غلبونا لا أنتم. وروى أنّ رجلا من المسلمين بينما هو يشتد في أثر رجل من المشركين: إذ سمع صوت ضربة بالسوط فوقه، فنظر إلى المشرك قد خر مستلقيا وشقّ وجهه، فحدث الأنصارى رسول الله ﷺ فقال: صدقت ذاك من مدد السماء «١». وعن أبى داود المازني: تبعت رجلا من المشركين لأضربه يوم بدر فوقع رأسه بين يدي قبل أن يصل إليه «٢» سيفي، وقيل لم يقاتلوا وإنما كانوا يكثرون السواد ويثبتون المؤمنين، وإلا فملك واحد كاف في إهلاك أهل الدنيا كلهم، فإنّ جبريل عليه السلام أهلك بريشة من جناحه مدائن قوم لوط، وأهلك بلاد ثمود قوم صالح بصيحة واحدة. وقرئ مُرْدِفِينَ بكسر الدال وفتحها، من قولك: ردفه إذا تبعه. ومنه قوله تعالى رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ بمعنى ردفكم. وأردفته إياه: إذا أتبعته. ويقال: أردفته، كقولك أتبعته، إذا جئت بعده، فلا يخلو المكسور الدال من أن يكون بمعنى متبعين، أو متبعين، فإن كان بمعنى متبعين «٣» فلا يخلو من أن يكون بمعنى: متبعين بعضهم بعضاً، أو متبعين بعضهم لبعض، أو بمعنى: متبعين إياهم المؤمنين، أى يتقدمونهم فيتبعونهم أنفسهم، أو متبعين لهم يشيعونهم ويقدمونهم بين أيديهم وهم على ساقتهم، ليكونوا على أعينهم وحفظهم. أو بمعنى متبعين أنفسهم ملائكة آخرين، أو متبعين غيرهم من الملائكة: ويعضد هذا الوجه قوله تعالى في سورة آل عمران بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ. بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ومن قرأ مُرْدِفِينَ بالفتح فهو بمعنى متبعين أو متبعين. وقرئ: مردّفين، بكسر الراء وضمها وتشديد الدال: وأصله مرتدفين، أى مترادفين أو متبعين، من ارتدفه، فأدغمت تاء الافتعال
(١). هذا طرف من حديث ابن عباس رضى الله عنهما في الذي قبله.
(٢). أخرجه ابن إسحاق في المغازي: حدثني أبى عن رجال من بنى مازن عن أبى داود المازني- فذكره، ومن طريقه أخرجه إسحاق والطبري وغيرهما.
(٣). قوله «فان كان بمعنى متبعين» يقرأ هذا بالتسكين، ولم يذكر مقابله وهو ما كان بمعنى متبعين بالتشديد. (ع)
201
في الدال، فالتقى ساكنان فحرّكت الراء بالكسر على الأصل، أو على إتباع الدال. وبالضم على إتباع الميم. وعن السدى: بآلاف من الملائكة. على الجمع ليوافق ما في سورة آل عمران.
فإن قلت: فبم يعتذر لمن قرأ على التوحيد ولم يفسر المردفين بإرداف الملائكة ملائكة آخرين، والمردفين بارتدافهم غيرهم؟ قلت: بأنّ المراد بالألف من قاتل منهم. أو الوجوه منهم الذين من سواهم أتباع لهم.
[سورة الأنفال (٨) : آية ١٠]
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠)
فإن قلت: إلام يرجع الضمير في وَما جَعَلَهُ؟ قلت: إلى قوله أَنِّي مُمِدُّكُمْ لأن المعنى:
قاستجاب لكم بإمدادكم. فإن قلت: ففيمن قرأ بالكسر؟ قلت: إلى قوله أَنِّي مُمِدُّكُمْ لأنه مفعول القول المضمر فهو في معنى القول. ويجوز أن يرجع إلى الإمداد الذي يدل عليه ممدّكم إِلَّا بُشْرى إلا بشارة لكم بالنصر، كالسكينة لبنى إسرائيل، يعنى أنكم استغثتم وتضرعتم لقلتكم وذلتكم، فكان الإمداد بالملائكة بشارة لكم بالنصر، وتسكيناً منكم، وربطا على قلوبكم وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يريد ولا تحسبوا النصر من الملائكة، فإن الناصر هو الله لكم وللملائكة. أو وما النصر بالملائكة وغيرهم من الأسباب إلا من عند الله، والمنصور من نصره الله.
[سورة الأنفال (٨) : آية ١١]
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١)
إِذْ يُغَشِّيكُمُ بدل ثان من إِذْ يَعِدُكُمُ أو منصوب بالنصر، أو بما في مِنْ عِنْدِ اللَّهِ من معنى الفعل، أو بما جعله الله، أو بإضمار اذكر. وقرئ: يغشيكم بالتخفيف والتشديد «١» ونصب النعاس
(١). قال محمود: «وقرئ إِذْ يُغَشِّيكُمُ بالتخفيف والتشديد... الخ» قال أحمد: ومثل هذا النظر يجرى عند قوله تعالى هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً لأن فاعل الارادة هو الله عز وجل، وفاعل الخوف والطمع هم، وقد انتصبا مفعولا لهما فالجواب: أنه لما كان الله تعالى إذا أراهم البرق رأوه، كانوا فاعلين في المعنى وكان المعنى وهو الذي يريكم البرق فترونه خوفا وطعما، فهذا مثل آية الأنفال، فان المفعول في المعنى فاعل. وسيأتى مزيد بحث في هذه النكتة. وقد جرى القلم بتعجيلها هاهنا، وذلك أن لقائل أن يقول: فاعل يغشى النعاس إياهم هو الله تعالى، وهو فاعل الأمنة أيضا وخالقها وحينئذ يتحد فاعل الفعل والعلة فيرتفع السؤال ويزول الاشكال على قواعد السنة التي تقتضي نسبة أفعال الخلق إلى الله تعالى على أنه خالقها ومبدعها، ولمورد السؤال أن يقول المعتبر أن يكون فاعل الفعل متصفا بالعلة كما هو متصف بالفعل، والباري عز وجل. إن كان خالق الأمنة العبد وكان بها آمنا فالعبد هو الفاعل اللغوي وإن كان الله تعالى هو الفاعل حقيقة وعقيدة، وحينئذ يفتقر السؤال إلى الجواب السالف والله الموفق.
202
والضمير لله عزّ وجل. وأَمَنَةً مفعول له. فإن قلت: أما وجب أن يكون فاعل الفعل المعلل والعلة واحداً؟ قلت: بلى، ولكن لما كان معنى يغشاكم النعاس. تنعسون، انتصب أمنة على أن النعاس والأمنة لهم. والمعنى: إذ تنعسون أمنة بمعنى أمنا، أى لأمنكم، ومِنْهُ صفة لها: أى أمنة حاصلة لكم من الله عزّ وجلّ. فإن قلت: فعلى غير هذه القراءة «١» قلت: يجوز أن تكون الأمنة بمعنى الإيمان، أى ينعسكم إيماناً منه. أو على يغشيكم النعاس فتنعسون أمناً، فإن قلت: هل يجوز أن ينتصب على أنّ الأمنة للنعاس الذي هو فاعل يغشاكم؟ أى يغشاكم النعاس لأمنه على أن إسناد الأمن إلى النعاس إسناد مجازى وهو لأصحاب النعاس على الحقيقة، أو على أنه أنامكم في وقت كان من حق النعاس في مثل ذلك الوقت المخوف أن لا يقدم على غشيانكم؟ وإنما غشيكم أمنة حاصلة من الله لولاها لم يغشكم على طريقة التمثيل والتخييل؟ قلت: لا تبعد فصاحة القرآن عن احتماله، وله فيه نظائر، وقد ألم به من قال:
يهاب النّوم أن يغشى عيونا تهابك فهو نفّار شرود «٢»
وقرئ «أمنة» بسكون الميم. ونظير «أمن أمنة» «حيي حياة» ونحو «أمن أمنة» «رحم رحمة» والمعنى: أن ما كان بهم من الخوف كان يمنعهم من النوم، فلما طامن الله قلوبهم وأمنهم رقدوا وعن ابن عباس رضى الله عنه: النعاس في القتال: أمنة من الله، وفي الصلاة: وسوسة من الشيطان «٣» وَيُنَزِّلُ قرئ بالتخفيف والتثقيل. وقرأ الشعبي: ما ليطهركم به: قال ابن جنى:
ما موصولة وصلتها حرف الجر بما جره، فكأنه قال: ما للطهور. ورِجْزَ الشَّيْطانِ وسوسته إليهم، وتخويفه إياهم من العطش. وقيل: الجنابة، لأنها من تخييله. وقرئ: رجس الشيطان مم؟؟؟؟
وذلك أن إبليس تمثل لهم، وكان المشركون قد سبقوهم إلى الماء «٤» ونزل المسلمون في كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام على غير ماء، وناموا فاحتلم أكثرهم، فقال لهم: أنتم يا أصحاب محمد تزعمون أنكم على الحق وأنكم تصلون على غير وضوء وعلى الجنابة، وقد عطشتم، ولو كنتم على حق ما غلبكم هؤلاء على الماء وما ينتظرون بكم إلا أن يجهدكم العطش، فإذا قطع العطش أعناقكم
(١). عاد كلامه. قال: فان قلت فعلى غير هذه القراءة قلت كذلك... الخ» قال أحمد: وجه حسن بشرط الأدب في إسقاط لفظة التخييل، وقد تقدمت له أمثالها.
(٢). للزمخشري، يقول: يخالف النوم أن يغزو عيونا تخافك فالنوم كثير النفار والشرود، شبهه بحيوان يصح منه الخوف على طريق المكنية. وقوله فهو نفار شرود: تفريع للترشيح. ونسبة الخوف للعيون مجاز عقلى.
(٣). لم أجده عن ابن عباس. والظاهر أنه تحرف وإنما هو ابن مسعود. كذا ذكره الثعلبي. وأخرجه عبد الرزاق والطبري. وكذا ابن أبى شيبة والطبراني كلهم من حديث ابن مسعود موقوفا.
(٤). الثعلبي بغير إسناد. وأخرجه الطبراني وابن مردويه من طريق على بن أبى طلحة عن ابن عباس مطولا وفي هذا ما ليس فيه وهو عند أبى نعيم والبيهقي في الدلائل من هذا الوجه.
203
مشوا إليكم فقتلوا من أحبوا وساقوا بقيتكم إلى مكة، فحزنوا حزناً شديداً وأشفقوا، فأنزل الله عز وجل المطر، فمطروا ليلا حتى جرى الوادي واتخذ رسول الله ﷺ وأصحابه الحياض على عدوة الوادي، وسقوا الركاب، واغتسلوا وتوضؤوا، وتلبد الرمل الذي كان بينهم وبين العدو حتى ثبتت عليه الأقدام، وزالت وسوسة الشيطان وطابت النفوس. والضمير في بِهِ للماء. ويجوز أن يكون للربط، لأن القلب إذا تمكن فيه الصبر والجرأة ثبتت القدم في مواطن القتال.
[سورة الأنفال (٨) : آية ١٢]
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢)
إِذْ يُوحِي يجوز أن يكون بدلا ثالثاً من إِذْ يَعِدُكُمُ وأن ينتصب بيثبت أَنِّي مَعَكُمْ مفعول يوحى وقرئ: إنى، بالكسر على إرادة القول، أو على إجراء يوحى مجرى يقول، كقوله أَنِّي مُمِدُّكُمْ والمعنى: أنى معينكم على التثبيت فثبتوهم. وقوله سَأُلْقِي... فَاضْرِبُوا يجوز أن يكون تفسيراً لقوله أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا ولا معونة أعظم من إلقاء الرعب في قلوب الكفرة ولا تثبيت أبلغ من ضرب أعناقهم. واجتماعهما غاية النصرة. ويجوز أن يكون غير تفسير، وأن يراد بالتثبيت أن يخطروا ببالهم ما تقوى به قلوبهم وتصحّ عزائمهم ونياتهم في القتال، وأن يظهروا ما يتيقنون به أنهم ممدّون بالملائكة. وقيل: كان الملك يتشبه بالرجل الذي يعرفون وجهه فيأتى فيقول: إنى سمعت المشركين يقولون: والله لئن حملوا علينا لننكشفنّ، ويمشى بين الصفين فيقول: أبشروا، فإن الله ناصركم لأنكم تعبدونه وهؤلاء لا يعبدونه. وقرئ «الرعب» بالتثقيل فَوْقَ الْأَعْناقِ أراد أعالى الأعناق التي هي المذابح، لأنها مفاصل، فكان إيقاع الضرب فيها حزا وتطييراً للرءوس. وقيل: أراد الرؤوس لأنها فوق الأعناق، يعنى ضرب الهام. قال:
وَأضْرِبُ هَامَةَ الْبطَلِ الْمُشِيحِ «١»
غشّيته وهو في جأواء باسلة عضبا أصاب سواء الرّأس فانفلقا «٢»
(١). مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة (٤٠٩) فراجعه إن شئت اه مصححه.
(٢).
وفارس في غمار الموت منغمس إذا تألى على مكروهة صدقا
غشيته وهو في جأواء باسلة عضبا أصاب سواء الرأس فانفلقا
لبلعاء بنى قيس الكناني والغمر الماء الكثير فشبه الموت بسيل عظيم على سبيل الكناية. والغمار والانغماس فيه تخييل.
ويجوز أن تستعار الغمار لأهوال الموت على طريق التصريحية. ويحتمل أن تستعار لجيش ذلك الفارس على طريق التصريحية أيضا. وأضافه للموت لأنه ينشأ عنها والانغماس ترشيح. «إذا تألى» أى حلف «على مكروهة» أى حرب «صدق» أى بر في يمينه «غشيته» ألحقت به والحال أنه «في جأواء» أى كتيبة عظيمة اسودت أو اخضرت بكثرة السلاح والدروع، من الجوة مثل الحوة، أو من الجؤوة مثل الحمرة، وهي هي بشرط أن يرهقها سواد.
وقيل السواد يرهقه خضرة لصدإ دروعها «باسلة» أى مانعة عابسة. ويجوز أن الجأواء الدرع الصدئة. وعضبا:
مفعول غشيته، أى سيفا قاطعا «أصاب» أى طلب ونال «سواء» أى وسط الرأس «فانفلق» الرأس أو وسطه، مدح قرنه مع ظفره به، ليدل على بلوغه غاية الشجاعة.
والبنان: الأصابع، يريد الأطراف. والمعنى: فاضربوا المقاتل والشوى، لأنّ الضرب إما واقع على مقتل أو غير مقتل، فأمرهم بأن يجمعوا عليهم النوعين معاً. ويجوز أن يكون قوله سَأُلْقِي إلى قوله كُلَّ بَنانٍ عقيب قوله فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا تلقينا للملائكة ما يثبتونهم به، كأنه قال: قولوا لهم قوله سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ أو كأنهم قالوا: كيف نثبتهم؟
فقيل: قولوا لهم قوله سَأُلْقِي فالضاربون على هذا هم المؤمنون.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ١٣ الى ١٤]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤)
ِكَ
إشارة إلى ما أصابهم من الضرب والقتل والعقاب العاجل، ومحله الرفع على الابتداء وأَنَّهُمْ
خبره، أى ذلك العقاب وقع عليهم بسبب مشاقتهم. والمشاقة: مشتقة من الشق، لأن كلا المتعاديين في شق خلاف شق صاحبه، وسئلت في المنام عن اشتقاق المعاداة فقلت: لأن هذا في عدوة وذاك في عدوة، كما قيل: المخاصمة والمشاقة، لأن هذا في خصم أى في جانب، وذاك في خصم، وهذا في شق، وذاك في شق. والكاف في لِكَ
لخطاب الرسول عليه السلام، أو لخطاب كل واحد، وفي ذلِكُمْ للكفرة، على طريقة الالتفات. ومحل ذلِكُمْ الرفع على ذلكم العقاب، أو العقاب ذلكم فَذُوقُوهُ ويجوز أن يكون نصباً على: عليكم ذلكم فذوقوه، كقولك: زيداً فاضربه وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عطف على ذلكم في وجهيه، أو نصب على أن الواو بمعنى مع. والمعنى: ذوقوا هذا العذاب العاجل مع الآجل الذي لكم في الآخرة، فوضع الظاهر موضع الضمير، وقرأ الحسن: وإن للكافرين بالكسر.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ١٥ الى ١٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦)
زَحْفاً حال من الذين كفروا. والزحف: الجيش الدهم «١» الذي يرى لكثرته كأنه يزحف، أى يدب دبيباً، من زحف الصبى إذا دبّ على استه قليلا قليلا، سمى بالمصدر والجمع زحوف والمعنى: إذا لقيتموهم للقتال وهم كثير جم وأنتم قليل فلا تفرّوا، فضلا أن تدانوهم في العدد أو تساووهم، أو حال من الفريقين. أى إذا لقيتموهم متزاحفين هم وأنتم، أو حال من المؤمنين كأنهم أشعروا بما كان سيكون منهم يوم حنين حين تولوا مدبرين، وهم زحف من الزحوف اثنى عشر ألفاً، وتقدمة «٢» نهى لهم عن الفرار يومئذ. وفي قوله وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ أمارة عليه إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ هو الكرّ بعد الفرّ، يخيل عدوّه أنه منهزم ثم يعطف عليه، وهو باب من خدع الحرب ومكايدها أَوْ مُتَحَيِّزاً أو منحازاً إِلى فِئَةٍ إلى جماعة أخرى من المسلمين سوى الفئة التي هو فيها. وعن ابن عمر رضى الله عنه: خرجت سرية وأنا فيهم ففرّوا «٣» فلما رجعوا إلى المدينة استحيوا فدخلوا البيوت، فقلت: يا رسول الله نحن الفرّارون، فقال: بل أنتم العكارون «٤» وأنا فئتكم. وانهزم رجل من القادسية، فأتى المدينة إلى عمر رضى الله عنه فقال:
يا أمير المؤمنين هلكت، فررت من الزحف، فقال عمر رضى الله عنه: أنا فئتك «٥». وعن ابن عباس رضى الله عنه: إنّ الفرار من الزحف من أكبر الكبائر. فإن قلت: بم انتصب إِلَّا مُتَحَرِّفاً؟
قلت: على الحال، وإلا لغو. أو على الاستثناء من المولين، أى: ومن يولهم إلا رجلا منهم متحرّفا أو متحيزاً، وقرأ الحسن دُبُرَهُ بالسكون ووزن متحيز متفيعل لا متفعل، لأنه من حاز يحوز، فبناء متفعل منه متحوّز.
[سورة الأنفال (٨) : آية ١٧]
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧)
لما كسروا أهل مكة وقتلوا وأسروا أقبلوا على التفاخر، فكان القائل يقول: قتلت
(١). قوله «الجيش الدهم» هو العدد الكثير، والدهمة: السواد، كذا في الصحاح. (ع)
(٢). قوله و «تقدمة نهى لهم» لعله عطف على المعنى، أى: إشعاراً وتقدمة نهى. (ع)
(٣). أخرجه أبو داود والترمذي والبخاري في الأدب المفرد من رواية يزيد بن أبى زياد عن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن عمر رضى الله عنهما. وكذا أخرجه أحمد وإسحاق وابن أبى شيبة وأبو يعلى والبزار في مسانيدهم. قال الترمذي: لا نعرفه إلا من رواية يزيد بن أبى زياد. [.....]
(٤). قوله «بل أنتم العكارون» من عكر إذا عطف وكر. أفاده الصحاح. (ع)
(٥). أخرجه ابن أبى شيبة من رواية منصور عن إبراهيم. قال: فر رجل فذكره.
206
وأسرت، ولما طلعت قريش قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه قريش قد جاءت «١» بخيلائها وفخرها يكذبون رسلك، اللهم إنى أسألك ما وعدتني، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فقال- لما التقى الجمعان- لعلى رضى الله عنه: أعطنى قبضة من حصباء الوادي، فرمى بها في وجوههم وقال: شاهت الوجوه، فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه، فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم «٢»، فقيل لهم فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ والفاء جواب شرط محذوف تقديره: إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ لأنه هو الذي أنزل الملائكة وألقى الرعب في قلوبهم، وشاء النصر والظفر وقوّى قلوبكم، وأذهب عنها الفزع والجزع وَما رَمَيْتَ أنت يا محمد إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى يعنى أنّ الرمية التي رميتها لم ترمها أنت على الحقيقة، لأنك لو رميتها لما بلغ أثرها إلا ما يبلغه أثر رمى البشر، ولكنها كانت رمية الله حيث أثرت ذلك الأثر العظيم، فأثبت الرمية لرسول الله ﷺ لأنّ صورتها وجدت منه، ونفاها عنه لأنّ أثرها الذي لا تطيقه البشر فعل الله عزّ وجلّ، فكأن الله هو فاعل الرمية على الحقيقة، وكأنها لم توجد من الرسول عليه الصلاة والسلام أصلا. وقرئ: ولكن الله
(١). قال محمود: «ولما جاءت قريش قال عليه الصلاة والسلام: هذه قريش جاءت... الخ» قال أحمد رحمه الله:
أوضح مصداق في التمييز بين الحقيقة والمجاز. ألا تراك تقول للبليد: ليس بحمار، ويصدق عليه مع صدق قولك فيه على سبيل التجوز إنه حمار، فإذا ثبت لك أن من مميزات المجاز صدق سلبه بخلاف الحقيقة، فافهم أن هذه الآية تكفح وجوه القدرية بالرد، وذلك أن الله تعالى أثبت الفعل للخلق ونفاه عنهم، ولا محمل لذلك إلا أن ثبوته لهم مجاز، والفاعل والخالق حقيقة هو الله تعالى، فأثبته لهم مجازاً، ونفاه عنهم حقيقة. وإياك أن تعرج على تنكيس الزمخشري في تأويل الآية، فانه نظر أعوج، وباطل مخلج، والحق أبلج، والله الموفق بكرمه.
(٢). قال الطيبي: لم يذكر أحد من أئمة الحديث أن هذه الرمية كانت ببدر، ثم حديث سلمة بن الأكوع.
قال: غزونا مع رسول الله ﷺ حنينا فذكر القصة، وهو تعقيب غير مرضى فقد روى الواقدي في المغازي عن ابن أبى الزهري عن الزهري عن عروة بن الزبير قال «لما رأى رسول الله ﷺ قريشا فذكر نحوه إلى قوله: ما وعدتني» وروى الطبري من وجه آخر عن هشام بن عروة عن عروة قال «لما ورد رسول الله ﷺ بدرا قال: فزعموا أنه قال، هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها تجادل وتكذب رسولك، اللهم إنى أسألك ما وعدتني. فلما أقبلوا استقتلوا فحثا في وجوههم فهزمهم الله تعالى» وروى الطبري من رواية على بن أبى طلحة قال «رفع رسول الله ﷺ يده يوم بدر «فقال: يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن نعبد في الأرض أبدا. فأمره جبريل فأخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم. فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخره وفمه تراب. فولوا مدبرين» وعنده أيضا من طريق أسباط عن السدى «أن رسول الله ﷺ قال لعلى يوم بدر: أعطنى حصباء من الأرض. فناوله حصا عليه تراب، فرمى به في وجوه القوم، فلم يبق مشرك إلا دخل في عينه من ذلك التراب، ثم ردفهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم. وأنزل الله فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ- الآية. وروى الواقدي في المغازي أيضاً من طريق حكيم بن حزام في قصة بدر قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ كفاً من الحصباء فرماهم بها وقال: شاهت الوجوه. فما بقي منهم أحد إلا امتلأ وجهه وعيناه فانهزم أعداء الله، والمسلمون يقتلون ويأسرون. وأخرجه الطبري من وجه آخر عن حكيم بن حزام نحوه دون ما في آخره.
207
قتلهم. ولكن الله رمى، بتخفيف «لكن» ورفع ما بعده وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ وليعطيهم بَلاءً حَسَناً عطاء جميلا. قال زهير:
فَأبْلَاهُمَا خَيْرَ الْبَلَاءِ الَّذِى يَبْلُو «١»
والمعنى: وللإحسان إلى المؤمنين فعل ما فعل، وما فعله إلا لذلك إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لدعائهم عَلِيمٌ بأحوالهم.
[سورة الأنفال (٨) : آية ١٨]
ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨)
ذلِكُمْ إشارة إلى البلاء الحسن، ومحله الرفع: أى الغرض ذلكم وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ معطوف على ذلك. يعنى: أن الغرض إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين. وقرئ: موهن، بالتشديد. وقرئ على الإضافة، وعلى الأصل الذي هو التنوين والإعمال.
[سورة الأنفال (٨) : آية ١٩]
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩)
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم، وذلك أنهم حين أرادوا أن ينفروا تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهمّ انصر أقرانا للضيف وأوصلنا للرحم وأفكنا للعانى، إن كان محمد على حق فانصره، وإن كنا على حق فانصرنا. وروى أنهم قالوا:
اللهمّ انصر أعلى الجندين، وأهدى الفئتين، وأكرم الحزبين. وروى أنّ أبا جهل قال يوم بدر:
اللهمّ أينا كان أهجر وأقطع للرحم فأحنه اليوم، أى فأهلكه. وقيل: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا خطاب للمؤمنين وَإِنْ تَنْتَهُوا خطاب للكافرين، يعنى: وإن تنتهوا عن عداوة رسول الله ﷺ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وأسلم وَإِنْ تَعُودُوا لمحاربته نَعُدْ لنصرته عليكم وَأَنَّ اللَّهَ قرئ بالفتح على: ولأنّ الله معين المؤمنين كان ذلك. وقرئ بالكسر، وهذه أوجه. ويعضدها قراءة ابن مسعود: والله مع المؤمنين. وقرئ: ولن يغنى عنكم، بالياء للفصل.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٢٠ الى ٢٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)
(١).
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
يقول: كافأ الله بإحسانه إليهما ما فعلاه بكم من الإحسان. وأبلى: مضمن معنى أعطى. يقال: بلاه الله وأبلاه وابتلاء، بمعنى اختبره. والاسم: البلاء. ويجيء بمعنى النقمة وبمعنى النعمة كما هنا. وأعطاهما خير نعمته التي يبلوها الناس ويختبرهم بإعطائها
208
وَلا تَوَلَّوْا قرئ بطرح إحدى التاءين وإدغامها، والضمير في عَنْهُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنّ المعنى: وأطيعوا رسول الله كقوله: الله ورسوله أحق أن يرضوه، ولأنّ طاعة الرسول وطاعة الله شيء واحد مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ فكأن رجوع الضمير إلى أحدهما كرجوعه إليهما، كقولك: الإحسان والإجمال لا ينفع في فلان. ويجوز أن يرجع إلى الأمر بالطاعة، أى: ولا تولوا عن هذا الأمر وامتثاله وأنتم تسمعونه. أو ولا تتولوا عن رسول الله ﷺ ولا تخالفوه وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ أى تصدقون لأنكم مؤمنون لستم كالصمّ المكذبين من الكفرة وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا أى ادّعوا السماع وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ لأنهم ليسوا بمصدّقين فكأنهم غير سامعين. والمعنى: أنكم تصدّقون بالقرآن والنبوّة، فإذا توليتم عن طاعة الرسول في بعض الأمور من قسمة الغنائم وغيرها، كان تصديقكم كلا تصديق، وأشبه سماعكم سماع من لا يؤمن. ثم قال إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ أى إنّ شر من يدب على وجه الأرض. أو إنّ شرّ البهائم الذين هم صمّ عن الحق لا يعقلونه، جعلهم من جنس البهائم، ثم جعلهم شرّها وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ في هؤلاء الصم البكم خَيْراً أى انتفاعا باللطف لَأَسْمَعَهُمْ للطف بهم «١» حتى يسمعوا سماع المصدقين، ثم قال وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا عنه.
يعنى: ولو لطف بهم لما نفع فيهم اللطف، فلذلك منعهم ألطافه. أو ولو لطف بهم فصدقوا لارتدوا بعد ذلك وكذبوا ولم يستقيموا، وقيل: هم بنو عبد الدار بن قصى لم يسلم منهم إلا
(١). قال محمود «يعنى: ولو علم الله أن اللطف ينفع في هؤلاء... الخ» قال أحمد رحمه الله: إطلاق القول بأن الله تعالى يلطف بالعبد فلا ينفع لطفه مردود، فان اللطف هو إسداء الجميل والالطاف به، واسمه اللطيف من ذلك، فإذا أسدى الجميل إلى العبد بأن أسمعه إسماع لطيف به، فتلك الغاية المرجوة ومعنى اللطف به على هذا: أن يخلق في قلبه قبول الحق وحسن الإصغاء إليه والاهتداء به، ولكن لا يتم ذلك على عقيدة الاعتزال والرأى الفاسد في خلق الأفعال، لأن مقتضاها أن العبد هو الذي يخلق لنفسه قبول الحق والهداية وحسن الاستماع والإصغاء، وأن الله تعالى لا يشارك العبد في خلق ذلك، بل الذي ينسب إلى الله تعالى إرادة الهداية من جميع الخلق، ولا يلزم حصول مراده على العموم- تعالى الله عما يقولون- ثم ولو تنزيل متنزل على هذه القاعدة لما استقام تأويل الزمخشري أيضا، فان حاصله: ولو علم الله فيهم خيراً للطف بهم، ولو لطف بهم لما انتفعوا باللطف، فيلزم عدم انتفاعهم باللطف على تقدير علم الله الخير فيهم، وهذا غير مستقيم لما يلزم عليه من وقوع خلاف المعلوم لله تعالى، وذلك محال عقلا، فلا يرتفع الاشكال إلا بتقدير الاسماع الواقع جوابا أولا وخلاف الاسماع الواقع شرطا ثانيا، كيلا يتكرر الوسط فيلزم المحال المذكور. وأقرب وجه في اختلاف الاسماعين: أن يراد بالأول: ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم إسماعا يخلق لهم به الهداية والقبول، ولو أسمعهم لا على أنه يخلق لهم الاهتداء، بل إسماعا مجرداً من ذلك، لتولوا وهم معرضون. فهذا هو الوجه في تأويل الآية، والله الموفق.
209
رجلان: مصعب بن عمير، وسويد بن حرملة: كانوا يقولون: نحن صم بُكم عُمى عما جاء به محمد، لا نسمعه ولا نجيبه، فقتلوا جميعا بأحد، وكانوا أصحاب اللواء. وعن ابن جريج: هم المنافقون.
وعن الحسن: أهل الكتاب.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٢٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤)
إِذا دَعاكُمْ وحد الضمير كما وحده فيما قبله، لأن استجابة رسول الله ﷺ كاستجابته، وإنما يذكر أحدهما مع الآخر للتوكيد، والمراد بالاستجابة. الطاعة والامتثال.
وبالدعوة: البعث والتحريض. وروى أبو هريرة أن النبي ﷺ مرّ على باب أبىّ ابن كعب فناداه وهو في الصلاة فعجل في صلاته ثم جاء فقال: ما منعك عن إجابتى؟ قال: كنت أصلى. قال: ألم تخبر فيما أوحى إلىّ اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ قال: لا جرم لا تدعوني إلا أجبتك «١». وفيه قولان، أحدهما: إن هذا مما اختص به رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني أن دعاءه كان لأمر لم يحتمل التأخير، وإذا وقع مثله للمصلي فله أن يقطع صلاته لِما يُحْيِيكُمْ من علوم الديانات والشرائع، لأن العلم حياة، كما أنّ الجهل موت. ولبعضهم:
لَا تُعْجِبَنَّ الْجَهُولَ حُلَّتُهُ فَذَاكَ مَيْتٌ وَثَوْبُهُ كَفَنُ «٢»
وقبل لمجاهدة الكفار، لأنهم لو رفضوها لغلبوهم وقتلوهم، كقوله وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ وقيل للشهادة، لقوله بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ يعنى أنه يميته فتفوته الفرصة التي هو واجدها «٣» وهي التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله ورده سليما كما يريده الله، فاغتنموا هذه الفرصة، وأخلصوا قلوبكم لطاعة الله ورسوله وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فيثيبكم على حسب سلامة القلوب وإخلاص الطاعة. وقيل:
(١). أخرجه الترمذي والنسائي دون قوله: لا جرم إلى آخره وأخرجه ابن مردويه من الوجه الذي أخرجه منه الترمذي وفي آخره قال «انى لا جرم يا رسول الله لا تدعوني إلا أجبتك هو إن كنت أصلى» وفي الباب عن أبى سعيد ابن الحكم، أخرجه البخاري بغير هذا السياق واقتصر عليه الطيبي.
(٢). للزمخشري، نهي للجهول عن العجب والخيلاء بثيابه، لأنه كالميت في عدم النفع وعدم الإدراك، ويلزم من ذلك أن ثوبه الذي يعجب به كالكفن، حيث اشتمل على جسم لا إدراك فيه ولا نفع. والميت هنا بالتخفيف.
(٣). قال محمود: «معناه أنه يميته فتفوته الفرصة التي هو واجدها... الخ» قال أحمد رحمه الله: نعم، هذا عقد أهل السنة الذي استعار لهم لقب المجبرة، وهو العقد الحق المؤسس على التقوى وتفويض المخلوقات كلها إلى الواحد الحق خالق الخلق، فان كان ذلك ظلما فأنا بريء من الطائفة المتسمية بالعدلية، إصراراً على هذا الرأى الباطل والمعتقد الماحل، والله الموفق.
معناه إنّ الله قد يملك على العبد قلبه فيفسخ عزائمه، ويغير نياته ومقاصده، ويبدله بالخوف أمناً وبالأمن خوفاً وبالذكر نسياناً، وبالنسيان ذكراً، وما أشبه ذلك مما هو جائز على الله تعالى.
فأما ما يثاب عليه العبد ويعاقب «١» من أفعال القلوب فلا، والمجبرة على أنه يحول بين المرء والإيمان إذا كفر، وبينه وبين الكفر إذا آمن، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيراً. وقيل معناه: أنه يطلع على كل ما يخطره المرء بباله، لا يخفى عليه شيء من ضمائره، فكأنه بينه وبين قلبه.
وقرئ: بين المر، بتشديد الراء. ووجهه أنه قد حذف الهمزة وألقى حركتها على الراء، كالخب، ثم نوى الوقف على لغة من يقول: مررت بعمرّ.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦)
فِتْنَةً ذنبا. قيل هو إقرار المنكر بين أظهرهم. وقيل: افتراق الكلمة. وقيل فِتْنَةً عذاباً. وقوله: لا تُصِيبَنَّ لا يخلو من أن يكون جواباً للأمر. أو نهياً بعد أمر. أو صفة لفتنة، فإذا كان جواباً، فالمعنى إن إصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصة ولكنها تعمكم وهذا كما يحكى أن علماء بنى إسرائيل نهوا عن المنكر تعذيراً «٢» فعمهم الله بالعذاب، وإذا كانت نهياً بعد أمر فكأنه قيل: واحذروا ذنباً أو عقاباً، ثم قيل: لا تتعرضوا للظلم فيصيب العقاب أو أثر الذنب ووباله من ظلم منكم خاصة، وكذلك إذا جعلته صفة على إرادة القول، كأنه قيل:
واتقوا فتنة مقولا فيها لا تصيبنّ، ونظيره قوله:
حَتَّي إذَا جَنَّ الظَّلَامُ وَاخْتَلَطْ... جَاؤُا بِمَذْقٍ هَلْ رَأَيْتَ الذِّئْبَ قَطْ «٣»
(١). قوله «فأما ما يثاب العبد عليه... الخ» المسألة هنا من فروع مسألة خلق أفعال العباد الاختيارية، فعند المعتزلة أن المريد الخالق لها هو العبد، وإذا صح تكليفه لظهور اختياره. وعند أهل السنة أن المريد الخالق لها هو الله تعالى. وإنما صح تكليف العبد لما له فيها من الكسب، وهو اختيار بعضها على بعض بشهادة الوجدان، خلافا للجبرية القائلين بالجبر المحض، ومحله التوحيد.
(٢). قوله نهوا عن المنكر تعذيراً التعذير في الأمر: التقصير فيه اه صحاح. (ع)
(٣).
بتنا بحسان ومعزاه يئط... يلحس أذنيه وحينا يمتخط
ما زلت أسعى فيهمو وأختبط... حتى إذا جن الظلام واختلط
جاءوا بمذق هل رأيت الذيب قط
لأحمد الرجاز. وقيل: إنه للعجاج، يصف رجلا بالبخل. وبات بالقوم: إذا نزل بهم ليلا. والأط: صوت الجوف. والمعز- محركة ومسكنة- والمعيز، والأمعوز، والمعزى: خلاف الضأن من الغنم. فهو اسم جمع، وتأنيث المعزى لغة. والاختباط: تطلب المعروف من غير اهتداء. يقول: نزلنا عند حسان ليلا، والحال أن معزاه جائعة هزيلة، فالأطيط كناية عن الأول، والامتخاط كناية عن الثاني، ويجوز أن ذلك كناية عن كثرة المعز عنده، وليخله قراهم بالمذق بعد مدة كان يمكنه أن يذبح لهم فيها شاة، وهذا أنسب بما بعده، وضمير أذنيه يحتمل عوده على المعزى لأنه مذكر عند الأكثر، ويجوز أنه عائد لحسان، وهو ذم شنيع. وفيهم: أى في حيه. وجن النبت: طال. والليل: أظلم. والذباب: كثرت أصواته. والظلام: كثر واختلط وتراكم بعضه فوق بعض بحيث لا يتخلله نور. والمذق: المزج. والمراد به لبن مخلوط بماء. ويروى: بمذق- بالكسر-: وهو ذلك اللبن.
ويروى: جاءوا بضيح، بمعجمة فمثناة تحتية فمهملة، بمعنى المذق، إلا أنه رقيق، و «هل رأيت» استفهام تقريرى والجملة صفة لمذق، أى مذق مقول فيه ذلك، والمراد تشبيه المذق بالذيب في الكدرة، فكنى بالاستفهام عن ذلك، لأن من أراد إخطار الشيء بالبال ورسمه في الخيال يستفهم عنه، فكأنه قال له هل رأيته؟ فقال نعم، قال: إن اللبن مثله، لكن حذف هذا كله واستغنى بالاستفهام عنه. وقط: ظرف مبنى على الضم، وسكن الوقف.
211
أى بمذق مقول فيه هذا القول، لأنه سمار فيه لون الورقة «١» التي هي لون الذئب. ويعضد المعنى الأخير قراءة ابن مسعود: لتصيبنّ، على جواب القسم المحذوف. وعن الحسن: نزلت في علىّ وعمار وطلحة والزبير وهو يوم الجمل خاصة. قال الزبير: نزلت فينا وقرأناها زماناً، وما أرانا من أهلها، فإذا نحن المعنيون بها. وعن السدى: نزلت في أهل بدر فاقتتلوا يوم الجمل. وروى «أن الزبير كان يساير النبي ﷺ يوماً، إذ أقبل علىّ رضى الله عنه، فضحك إليه الزبير فقال رسول الله ﷺ كيف حبك لعلّى؟ فقال يا رسول الله، بأبى أنت وأمى، إنى أحبه كحبي لوالدي أو أشدّ حبا. قال: فكيف أنت إذا سرت إليه تقاتله» «٢» فإن قلت: كيف جاز أن يدخل النون المؤكدة في جواب الأمر؟ قلت: لأنّ فيه معنى النهى، إذا قلت: انزل عن الدابة لا تطرحك، فلذلك جاز لا تطرحنك ولا تصيبنّ ولا يحطمنكم. فإن قلت: فما معنى «من» في قوله الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ؟ قلت: التبعيض على الوجه الأوّل، والتبيين على الثاني، لأنّ المعنى: لا تصيبنكم خاصة على ظلمكم، لأن الظلم أقبح منكم من سائر الناس «٣».
(١). قوله «لأنه سمار فيه لون الورقة» قوله «سمار» هو- بالفتح- لبن رقيق. وتسمير اللبن. ترقيقه بالماء.
والورقة: بياض يضرب إلى سواد وإلى خضرة اه صحاح. (ع)
(٢). لم أجده هكذا وإنما رواه ابن أبى شيبة من طريق الأسود بن قيس حدثني من رأى الزبير يعقص الخيل فناداه على: يا أبا عبد الله فأقبل حتى التقت أعناق دوابهما فقال له على: أنشدك الله، أتذكر يوم أتانا رسول الله ﷺ وأنا أناجيك فقال: أتناجيه؟ والله ليقاتلنك وهو لك ظالم قال: فضرب الزبير وجه دابته فانصرف «وروى البيهقي في الدلائل من طريق أبى حرب بن أبى الأسود الديلمي عن أبيه قال: «لما دنا على وأصحابه من طلحة والزبير ودنت الصفوف بعضها من بعض خرج على فنادى: ادعوا لي الزبير فأقبل حتى اختلفت أعناق دوابهما فقال على رضى الله عنهما يا زبير، نشدتك الله، أتذكر يوم مر بنا رسول الله ﷺ ونحن بمكان كذا وكذا فقال: يا زبير، أتحب عليا؟ فقلت: ألا أحب ابن خالي وابن عمّتى وعلى قريبي؟ قال: أما والله لتقاتلنه وأنت له ظالم؟ قال، بلى، ولكنى نسيته وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة قال «لما ولى الزبير يوم الجمل بلغ عليا فقال: لو كان يعلم أنه على حق ما ولى وذلك أن النبي ﷺ لقيه في سقيفة بنى ساعدة فقال: أتحبه يا زبير؟ قال: وما يمنعني؟ قال: فكيف بك إذا قاتلته». [.....]
(٣). قوله «أقبح منكم من سائر الناس» لعله منه من سائر الناس. (ع)
212
إِذْ أَنْتُمْ نصبه على أنه مفعول به مذكور لا ظرف: أى اذكروا وقت كونكم أقلة أذلة مستضعفين فِي الْأَرْضِ أرض مكة قبل الهجرة تستضعفكم قريش تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ لأن الناس كانوا جميعا لهم أعداء منافين مضادّين فَآواكُمْ إلى المدينة وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ بمظاهرة الأنصار وبإمداد الملائكة يوم بدر وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من الغنائم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إرادة أن تشكروا هذه النعم. وعن قتادة: كان هذا الحىّ من العرب أذلّ الناس، وأشقاهم عيشا، وأعراهم جلداً، وأبينهم ضلالا، يؤكلون ولا يأكلون، فمكن الله لهم في البلاد، ووسع لهم في الرزق والغنائم وجعلهم ملوكا.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٢٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧)
معنى الخون: النقص، كما أن معنى الوفاء التمام. ومنه: تخوّنه، إذا تنقصه، ثم استعمل في ضدّ الأمانة والوفاء، لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان فيه، وقد استعير فقيل: خان الدلو الكرب، وخان المشتار السبب «١» لأنه إذا انقطع به فكأنه لم يف له.
ومنه قوله تعالى وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ والمعنى لا تخونوا الله بأن تعطلوا فرائضه، ورسوله بأن لا تستنوا به. وأَماناتِكُمْ فيما بينكم بأن لا تحفظوها وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ تبعة ذلك ووباله، وقيل وأنتم تعلمون أنكم تخونون، يعنى أن الخيانة توجد منكم عن تعمد لا عن سهو. وقيل: وأنتم علماء تعلمون قبح القبيح وحسن الحسن. وروى أن نبى الله ﷺ حاصر يهود بنى قريظة إحدى وعشرين ليلة «٢» فسألوا الصلح كما صالح إخوانهم
(١). قوله «خان الدلو الكرب وخان المشتار السبب. قوله «الكرب» حبل يشد في رأس الدلو. والمشتار مجتنى العسل. والسبب: الحبل اه صحاح (ع)
(٢). أخرجه الثعلبي عن الكلبي بغير سند، لكن سنده إليه في أول الكتاب. وقد روى ابن إسحاق في المغازي:
حدثنا إسحاق بن يسار عن عبد بن كعب السلمى «أن رسول الله ﷺ حاصرهم- يعنى قريظة- خمساً وعشرين ليلة- فذكر القصة بطولها- إلى أن قال: ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر فذكر قصة مختصرة. وأخرجها البيهقي في الدلائل من طريق سعيد بن المسبب في قصة طويلة- فذكر نحو ما هنا. وهكذا ذكرها عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: كان أبو لبابة ممن تخلف عن رسول الله ﷺ في تبوك. فربط نفسه بسارية فذكر القصة» وأخرجه الواقدي عن معمر عن الزهري عن ابن كعب بن مالك مثله.
«تنبه» تسمية أبى لبابة مروان لم أره إلا من هذه الرواية. ومدة حصار بنى قريظة المحفوظ فيها ما قاله ابن إسحاق.
بنى النضير على أن يسيروا إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام، فأبى رسول الله ﷺ إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأبوا وقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة مروان بن عبد المنذر وكان مناصحاً لهم لأنّ عياله وماله في أيديهم، فبعثه إليهم فقالوا له: ما ترى، هل ننزل على حكم سعد؟ فأشار إلى حلقه إنه الذبح، قال أبو لبابة فما زالت قدماي حتى علمت أنى قد خنت الله ورسوله فنزلت، فشدّ نفسه على سارية من سوارى المسجد وقال: والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله علىّ، فمكث سبعة أيام حتى خر مغشياً عليه ثم تاب الله عليه، فقيل له: قد تيب عليك فحل نفسك. فقال: لا والله لا أحلها حتى يكون رسول الله ﷺ هو الذي يحلني، فجاءه فحله بيده فقال: إنّ من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالى. فقال صلى الله عليه وسلم: يجزيك الثلث أن تتصدّق به. وعن المغيرة: نزلت في قتل عثمان بن عفان رضى الله عنه. وقيل أَماناتِكُمْ ما ائتمنكم الله عليه من فرائضه وحدوده. فإن قلت: وَتَخُونُوا جزم هو أم نصب؟ قلت: يحتمل أن يكون جزما داخلا في حكم النهى «وأن يكون نصباً بإضمار «أن» كقوله وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وقرأ مجاهد:
وتخونوا أمانتكم، على التوحيد.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٢٨]
وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨)
جعل الأموال والأولاد فتنة، لأنهم سبب الوقوع في الفتنة وهي الإثم أو العذاب. أو محنة من الله ليبلوكم كيف تحافظون فيهم على حدوده وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
فعليكم أن تنوطوا بطلبه وبما تؤدى إليه هممكم، وتزهدوا في الدنيا، ولا تحرصوا على جمع المال وحب الولد، حتى تورّطوا أنفسكم من أجلهما، كقوله الْمالُ وَالْبَنُونَ الآية. وقيل: هي من جملة ما نزل في أبى لبابة وما فرط منه لأجل ماله وولده.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٢٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)
فُرْقاناً نصراً، لأنه يفرق بين الحق والباطل وبين الكفر بإذلال حزبه، والإسلام بإعزاز أهله. ومنه قوله تعالى يَوْمَ الْفُرْقانِ أو بياناً وظهورا يشهر أمركم ويبث صيتكم وآثاركم في أقطار الأرض، من قولهم «بتّ أفعل كذا» حتى سطع الفرقان: أى طلع الفجر. أو مخرجا من الشبهات وتوفيقاً وشرحاً للصدور. أو تفرقة بينكم وبين غيركم من أهل الأديان، وفضلا ومزية في الدنيا والآخرة.

[سورة الأنفال (٨) : آية ٣٠]

وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠)
لما فتح الله عليه، ذكره مكر قريش به حين كان بمكة، ليشكر نعمة الله عز وجل في نجاته من مكرهم واستيلائه عليهم وما أتاح الله له من حسن العاقبة، والمعنى: واذكر إذ يمكرون بك وذلك أن قريشا- لما أسلمت الأنصار وبايعوه- فرقوا أن يتفاقم أمره «١»، فاجتمعوا في دار الندوة متشاورين في أمره، فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ وقال: أنا شيخ من نجد، ما أنا من تهامة دخلت مكة فسمعت باجتماعكم، فأردت أن أحضركم ولن تعدموا منى رأيا ونصحا، فقال أبو البختري: رأيى أن تحبسوه في بيت وتشدّوا وثاقه وتسدوا بابه غير كوّة تلقون إليه طعامه وشرابه منها، وتتربصوا به ريب المنون. فقال إبليس: بئس الرأى، يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم: فقال هشام بن عمرو: رأيى أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظهركم، فلا يضركم ما صنع واسترحتم. فقال إبليس: بئس الرأى يفسد قوما غيركم ويقاتلكم بهم. فقال أبو جهل: أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاماً وتعطوه سيفاً صارماً، فيضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم، فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا. فقال الشيخ- لعنه الله-: صدق هذا الفتى، هو أجودكم رأياً.
فتفرقوا على رأى أبى جهل مجتمعين على قتله. فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله ﷺ وأمره أن لا يبيت في مضجعه، وأذن الله له في الهجرة، فأمر علياً رضى الله عنه فنام في مضجعه، وقال له: اتشح ببردتي، فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه، وباتوا مترصدين، فلما أصبحوا ثاروا إلى مضجعه، فأبصروا علياً فبهتوا وخيب الله عز وجل سعيهم، واقتصوا أثره فأبطل الله مكرهم «٢» لِيُثْبِتُوكَ ليسجنوك أو يوثقوك أو يثخنوك بالضرب والجرح، من قولهم:
ضربوه حتى أثبتوه لا حراك به ولا براح، وفلان مثبت وجعاً. وقرئ: ليثبتوك، بالتشديد. وقرأ النخعي: ليبيتوك، من البيات، وعن ابن عباس: ليقيدوك، وهو دليل لمن فسره بالإيثاق
(١). قوله «فرقوا أن يتفاقم أمره» أى خافوا أن يعظم أمره. اه صحاح. (ع)
(٢). القصة أخرجها ابن إسحاق في المغازي: حدثني من لا أنهم عن ابن أبى نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال «لما اجتمعت قريش في دار الندوة وتشاوروا في أمر رسول الله ﷺ اعترضهم إبليس في هيئة شيخ فذكره مطولا» وأخرجه الطبري وأبو نعيم في الدلائل من طريق ابن إسحاق عن ابن أبى نجيح. وليس في أوّله أن ذلك بسبب الأنصار. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة قال «لما كثر المسلمون- فذكر معناها. ووصلها الواقدي عن معمر بذكر عائشة قال: وعن ابن أبى خيثمة عن داود بن حصين عن عكرمة عن ابن عباس نحوه.
وَيَمْكُرُونَ ويخفون المكايد له وَيَمْكُرُ اللَّهُ ويخفى الله ما أعد لهم حتى يأتيهم بغتة وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أى مكره أنفذ من مكر غيره وأبلغ تأثيراً، أو لأنه لا ينزل إلا ما هو حق وعدل ولا يصيب إلا بما هو مستوجب.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣١ الى ٣٤]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١) وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤)
لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا نفاجة منهم وصلف «١» تحت الراعدة، فإنهم لم يتوانوا في مشيئتهم لو ساعدتهم الاستطاعة، وإلا فما منعهم إن كانوا مستطيعين أن يشاءوا غلبة من تحدّاهم وقرعهم بالعجز، حتى يفوزوا بالقدح المعلى دونه، مع فرط أنفتهم واستنكافهم أن يغلبوا في باب البيان خاصة، وأن يماتنهم واحد، فيتعللوا بامتناع المشيئة، ومع ما علم وظهر ظهور الشمس، من حرصهم على أن يقهروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتهالكهم على أن يغمروه «٢». وقيل: قائله النضر بن الحرث المقتول صبراً، حين سمع اقتصاص الله أحاديث القرون: لو شئت لقلت مثل هذا. وهو الذي جاء من بلاد فارس بنسخة حديث رستم وإسفنديار فزعم أن هذا مثل ذاك، وأنه من جملة تلك الأساطير، وهو القائل إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ وهذا أسلوب من الجحود بليغ، يعنى إن كان القرآن هو الحق فعاقبنا على إنكاره بالسجيل، كما فعلت بأصحاب الفيل، أو بعذاب آخر. ومراده نفى كونه حقاً، وإذا انتفى كونه حقا لم يستوجب منكره عذاباً فكان تعليق العذاب بكونه حقا مع اعتقاد أنه ليس بحق، كتعليقه بالمحال في قولك:
إن كان الباطل حقا، فأمطر علينا حجارة. وقوله: هُوَ الْحَقَّ تهكم بمن يقول على سبيل التخصيص والتعيين: هذا هو الحق. وقرأ الأعمش «هو الحق» بالرفع، على أن هو مبتدأ غير
(١). قوله «نفاجة منهم وصلف الخ» «نفاجة» أى تكبر. و «الصلة» مجاوزة الحد كيرا. «والراعدة» السحابة. وهذا مثل يضرب للرجل يتوعد ثم لا يقوم به. والقدح المعلى: أحد سهام الميسر يخرج للغالب اه صحاح (ع)
(٢). قوله «على أن يغمروه» يقال للرجل: غمره القوم، إذا علوه شرفا، كذا في الصحاح. (ع)
216
فصل. وهو في القراءة الأولى فصل. ويقال: أمطرت السماء، كقولك أنجمت وأسبلت «١» ومطرت، كقولك: هتنت وهتلت. وقد كثر الأمطار في معنى العذاب. فإن قلت: ما فائدة قوله مِنَ السَّماءِ؟ والأمطار لا تكون إلا منها. قلت: كأنه يريد أن يقال: فأمطر علينا السجيل وهي الحجارة المسوّمة للعذاب، فوضع حِجارَةً مِنَ السَّماءِ موضع السجيل، كما تقول:
صب عليه مسرودة من حديد، تريد درعاً بِعَذابٍ أَلِيمٍ أى بنوع آخر من جنس العذاب الأليم، يعنى أن أمطار السجيل بعض العذاب الأليم، فعذبنا به أو بنوع آخر من أنواعه.
وعن معاوية أنه قال لرجل من سبإ ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة! قال: أجهل من قومي قومك قالوا لرسول الله ﷺ حين دعاهم إلى الحق إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً ولم يقولوا: إن كان هذا هو الحق فاهدنا له. اللام لتأكيد النفي، والدلالة على أنّ تعذيبهم وأنت بين أظهرهم غير مستقيم في الحكمة، لأن عادة الله وقضية حكمته أن لا يعذب قوما عذاب استئصال ما دام نبيهم بين أظهرهم وفيه إشعار بأنهم مرصدون بالعذاب إذا هاجر عنهم. والدليل على هذا الإشعار قوله وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وإنما يصح هذا بعد إثبات التعذيب، كأنه قال: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، وهو معذبهم إذا فارقتهم، وما لهم أن لا يعذبهم وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ في موضع الحال. ومعناه نفى الاستغفار عنهم: أى ولو كانوا ممن يؤمن ويستغفر من الكفر لما عذبهم، كقوله: وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون، ولكنهم لا يؤمنون ولا يستغفرون، ولا يتوقع ذلك منهم. وقيل: معناه وما كان الله معذبهم وفيهم من يستغفر، وهم المسلمون بين أظهرّهم ممن تخلف عن رسول الله ﷺ من المستضعفين، وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وأى شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم، يعنى:
لاحظّ لهم في ذلك وهم معذبون لا محالة. وكيف لا يعذبون وحالهم أنهم يصدّون عن المسجد الحرام كما صدّوا رسول الله ﷺ عام الحديبية، وإخراجهم رسول الله ﷺ والمؤمنين من الصدّ، وكانوا يقولون: نحن ولاة البيت والحرم فنصدّ من نشاء وندخل من نشاء وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ وما استحقوا مع إشراكهم وعداوتهم للدين أن يكونوا ولاة أمره وأربابه إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ من المسلمين ليس كل مسلم أيضاً ممن يصلح لأن يلي أمره، إنما يستأهل ولايته من كان برا تقياً، فكيف بالكفرة عبدة الأصنام وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ كأنه استثنى من كان يعلم وهو يعاند ويطلب الرياسة. أو أراد بالأكثر: الجميع، كما يراد بالقلة: العدم.
(١). قوله «أنجمت وأسبلت الخ» أنجمت: أى انكشفت نجومها. وأسبلت: أمطرت. وهتنت وهتلت:
تتابع مطرها. اه صحاح (ع)
217

[سورة الأنفال (٨) : آية ٣٥]

وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥)
المكاء: فعال بوزن الثغاء والرغاء «١» من مكا يمكو إذا صفر: ومنه المكاء، كأنه سمى بذلك لكثرة مكائه. وأصله الصفة، نحو الوضاء والفراء. وقرئ: مكا بالقصر. ونظيرهما:
البكى والبكاء. والتصدية: التصفيق، تفعلة من الصدى أو من صدَّ يصدّ «٢» إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وقرأ الأعمش: وما كان صلاتهم، بالنصب على تقديم خبر كان على اسمه، فإن قلت: ما وجه هذا الكلام؟ قلت: هو نحو من قوله:
وَمَا كُنْتُ أخْشَى أنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ أدَاهِمَ سُوداً أوْ مُحَدْرَجَةً سُمْرَا «٣»
والمعنى أنه وضع القيود والسياط موضع العطاء، ووضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة، وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة: الرجال والنساء، وهم مشبكون بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون، وكانوا يفعلون نحو ذلك إذا قرأ رسول الله ﷺ في صلاته يخلطون عليه فَذُوقُوا عذاب القتل والأسر يوم بدر، بسبب كفركم وأفعالكم التي لا يقدم عليها إلا الكفرة.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧)
قيل نزلت في المطعمين يوم بدر، كان يطعم كل واحد منهم كلّ يوم عشر جزائر. وقيل:
(١). قوله «بوزن الثغاء والرغاء» الثغاء: صوت الغنم. والرغاء: صوت الإبل. والمكا- بالتشديد-: طائر وجمعه مكاكى اه صحاح (ع)
(٢). قوله «أو من صد يصد» في الصحاح: صد يصد ويصد صديداً: أى ضج (ع)
(٣). للفرزدق «والأدهم» في الأصل الأسود، ثم غلب على الحية السوداء، ثم سمى به القيد الحديد.
«والمحدرج» المفتول: أى ما كنت. أظن أن يكون عطاؤه قيوداً سوداً، أو سياطاً مفتولة سمرا حقيقة، أو وصفها بذلك لقبحها، كما يصفون الحسن بالأخضر. ويروى «حمرا» فوضع القيود والسياط موضع العطاء، ووضع الشاعر الرجاء موضع الظن، وأطلق العطاء على العقاب مجازا، وعرض بذلك إلى أنه كان يرجو العطا، ويروى «أخاف زيادا أن يكون».
قالوا لكل من كان له تجارة في العير: أعينوا بهذا المال على حرب محمد، لعلنا ندرك منه ثأرنا بما أصيب منا ببدر. وقيل: نزلت في أبى سفيان وقد استأجر ليوم أحد ألفين من الأحابيش سوى من استجاش من العرب، وأنفق عليهم أربعين أوقية. والأوقية اثنان وأربعون مثقالا لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أى كان غرضهم في الإنفاق الصدّ عن اتباع محمد وهو سبيل الله، وإن لم يكن عندهم كذلك ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً أى تكون عاقبة إنفاقها ندماً وحسرة، فكأنّ ذاتها تصير ندما وتنقلب حسرة ثُمَّ يُغْلَبُونَ آخر الأمر وإن كانت الحرب بينهم وبين المؤمنين سجالا قبل ذلك فيرجعون طلقاء «١» كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي. وَالَّذِينَ كَفَرُوا والكافرون منهم إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لأنّ منهم من أسلم وحسن إسلامه لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ الفريق الخبيث من الكفار مِنَ الفريق الطَّيِّبِ من المؤمنين، فيجعل الفريق الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً عبارة عن الجمع والضم، حتى يتراكبوا، كقوله تعالى: كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً يعنى لفرط ازدحامهم أُولئِكَ إشارة إلى الفريق الخبيث، وقيل: ليميز المال الخبيث الذي أنفقه المشركون في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من المال الطيب الذي أنفقه المسلمون كأبى بكر وعثمان في نصرته فَيَرْكُمَهُ فيجعله في جهنم في جملة ما يعذّبون به، كقوله فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ... الآية، واللام على هذا متعلقة بقوله ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً وعلى الأوّل بيحشرون، وأولئك: إشارة إلى الذين كفروا. وقرئ: ليميز على التخفيف.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٣٨]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا من أبى سفيان وأصحابه. أى قل لأجلهم هذا القول وهو إِنْ يَنْتَهُوا ولو كان بمعنى خاطبهم به لقيل: إن تنتهوا يغفر لكم، وهي قراءة ابن مسعود. ونحوه:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ خاطبوا به غيرهم لأجلهم ليسمعوه، أى إن ينتهوا عماهم عليه من عداوة رسول الله ﷺ وقتاله بالدخول في الإسلام يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ لهم من العداوة وَإِنْ يَعُودُوا لقتاله فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ منهم الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر. أو فقد مضت سنة الذين تحزّبوا على أنبيائهم من الأمم فدمّروا، فليتوقعوا مثل ذلك إن لم ينتهوا. وقيل: معناه أنّ الكفار إذا انتهوا عن
(١). قوله «فيرجعون طلقاء» في الصحاح «الطليق» الأسير الذي أطلق عنه إساره وخلى سبيله. (ع)
الكفر وأسلموا غفر لهم ما قد سلف لهم من الكفر والمعاصي، وخرجوا منها كما تنسلّ الشعرة من العجين. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «الإسلام يجب ما قبله» «١» وقالوا: الحربي إذا أسلم لم يبق عليه تبعة قط. وأما الذي فلا يلزمه قضاء حقوق الله وتبقى عليه حقوق الآدميين.
وبه احتجّ أبو حنيفة رحمه الله في أنّ المرتدَّ إذا أسلم لم يلزمه قضاء العبادات المتروكة في حال الردّة. وقبلها، وفسر وَإِنْ يَعُودُوا بالارتداد. وقرئ يُغْفَرْ لَهُمْ على أن الضمير لله عز وجل
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٩ الى ٤٠]
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠)
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ إلى أن لا يوجد فيهم شرك قط وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ويضمحل عنهم كل دين باطل، ويبقى فيهم دين الإسلام وحده فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر وأسلموا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يثيبهم على توبتهم وإسلامهم. وقرئ: تعملون، بالتاء، فيكون المعنى: فإن الله بما تعملون من الجهاد في سبيله والدعوة إلى دينه والإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإسلام بَصِيرٌ يجازيكم عليه أحسن الجزاء وَإِنْ تَوَلَّوْا ولم ينتهوا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ أى ناصركم ومعينكم، فثقوا بولايته ونصرته.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٤١]
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١)
(١). أخرجه مسلم من رواية عبد الرحمن بن أسامة عن عمرو بن العاص في قصة. وفيها هذا لكن بلفظ «يهدم ما قبله» قال النووي: غلط كثير من الفقهاء فذكره بلفظ «يجب ما قبله» ويروى «يحت» بالمهملة والمثناة اه. وقد رواه الطبري من هذا الوجه، بلفظ «إن الإسلام يجب ما كان قبله» وأخرجه ابن إسحاق في المغازي من طريق حبيب بن أبى أويس الثقفي حدثني عمرو بن العاص من فيه إلى في قال «لما جئت أريد الإسلام فذكر القصة. وفيها يا عمرو، إن الإسلام يجب ما قبله. والهجرة تجب ما كان قبلها» ومن هذا الوجه أخرجه أحمد وإسحاق والبيهقي في الدلائل. وأخرجه ابن سعد في خالد بن الوليد من طريق المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال قال خالد ابن الوليد... فذكر قصة إسلامه وفيها «إن الإسلام يجب ما كان قبله» وفي ترجمة المغيرة بن شعبة من رواية يعقوب ابن عتبة عن المغيرة. فذكر قصة إسلامه. وفيها ذلك. وفي ترجمة هبار بن الأسود من حديث جبير بن مطعم في قصة إسلام هبار. وفيه «والإسلام يجب ما كان قبله» وفي أسانيد الثلاثة الواقدي.
220
أَنَّما غَنِمْتُمْ ما موصولة. ومِنْ شَيْءٍ بيانه. قيل: من شيء حتى الخيط والمخيط، فَأَنَّ لِلَّهِ مبتدأ خبره محذوف، تقديره: فحق، أو فواجب أن الله خمسه. وروى الجعفي عن أبى عمرو، فإن الله بالكسر. وتقويه قراءة النخعي: فلله خمسه. والمشهورة آكد وأثبت للإيجاب، كأنه قيل: فلا بد من ثبات الخمس فيه، لا سبيل إلى الإخلال به والتفريط فيه، من حيث إنه إذا حذف الخبر واحتمل غير واحد من المقدرات، كقولك: ثابت واجب حق لازم، وما أشبه ذلك، كان أقوى لإيجابه من النص على واحد، وقرئ: خمسه بالسكون فإن قلت: كيف قسمة الخمس؟ قلت: عند أبى حنيفة رحمه الله أنها كانت في عهد رسول الله ﷺ على خمسة أسهم: سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسهم لذوي قرباء من بنى هاشم وبنى المطلب، دون بنى عبد شمس وبنى نوفل، استحقوه حينئذ بالنصرة والمظاهرة، لما روى عن عثمان وجبير بن مطعم رضى الله عنهما، أنهما قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله منهم، أرأيت إخواننا بنى المطلب أعطيتهم وحرمتنا، وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة: فقال صلى الله عليه وسلم: إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد، وشبك بين أصابعه «١» وثلاثة أسهم: لليتامى والمساكين، وابن السبيل. وأمّا بعد رسول الله ﷺ فسهمه ساقط بموته، وكذلك سهم ذوى القربى، وإنما يعطون لفقرهم، فهم أسوة سائر الفقراء، ولا يعطى أغنياؤهم فيقسم على اليتامى والمساكين وابن السبيل. وأمّا عند الشافعي رحمه الله فيقسم على خمسة أسهم: سهم لرسول الله ﷺ يصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين: كعدّة الغزاة من السلاح والكراع «٢» ونحو ذلك. وسهم لذوي القربى من أغنيائهم وفقرائهم، يقسم بينهم الذكر مثل حظ الأنثيين. والباقي للفرق الثلاث. وعند مالك ابن أنس رحمه الله: الأمر فيه مفوّض إلى اجتهاد الإمام إن رأى قسمه بين هؤلاء، وإن رأى أعطاه بعضهم دون بعض، وإن رأى غيرهم أولى وأهم فغيرهم. فإن قلت: ما معنى ذكر الله عز وجل وعطف الرسول وغيره عليه «٣» قلت: يحتمل أن يكون معنى لله وللرسول، لرسول الله
(١). أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة من طريق سعيد بن المسيب عن جبير بن مطعم بتمامه وهو في الصحيح دون قوله «لم يفارقونى». [.....]
(٢). قوله «من السلاح والكراع» الكراع: هو اسم جمع الخيل اه صحاح. (ع)
(٣). قال محمود «إن قلت ما معنى ذكر الله وعطف الرسول وغيره عليه... الخ» قال أحمد: لأن مالكا رضى الله عنه لا يرى ذكر الوجوه المذكورة لبيان أنه لا يصرف فيما سواها، وليس لأن يتملكاها ولا على التحديد حتى لا يجوز الاقتصار على بعض الوجوه دون بعض، بل الأمر عنده موكول إلى نظر الامام فيصرف الخمس في مصالح المسلمين ومن جملتها قرابته عليه الصلاة والسلام، ولا تحديد عنده في ذلك البتة، وهذا التأويل الثالث ينطبق على مذهبه، وبيان ذلك أن المراد حينئذ بذكر الله تعالى بيان أن الخمس يصرف في وجوه التقربات لله تعالى غير مقيد، ثم تخصيص الوجوه المذكورة بعد ليس تحديداً، ولكن تنبيها على فضلها والتخصيص لقصد التفصيل بعد التعميم لا يرفع حكم العموم الأول، بل هو قار على حاله، كما أن العموم ثابت للملائكة وإن خص جبريل وميكال، بعده، والله تعالى أعلم.
221
صلى الله عليه وسلم، كقوله وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ وأن يراد بذكره إيجاب سهم سادس يصرف إلى وجه من وجوه القرب. وأن يراد بقوله فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ أن من حق الخمس أن يكون متقرّبا به إليه لا غير. ثم خص من وجوه القرب هذه الخمسة، تفضيلا لها على غيرها. كقوله تعالى وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فعلى الاحتمال الأول مذهب الإمامين. وعلى الثاني ما قال أبو العالية:
أنه يقسم على ستة أسهم: سهم لله تعالى يصرف إلى رتاج الكعبة «١». وعنه: كان رسول الله ﷺ يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه، فيأخذ منه قبضة فيجعلها للكعبة وهو سهم الله تعالى، ثم يقسم ما بقي على خمسة «٢». وقيل: إن سهم الله تعالى لبيت المال، وعلى الثالث مذهب مالك بن أنس. وعن ابن عباس رضى الله عنه أنه كان على ستة أسهم لله وللرسول سهمان، وسهم لأقاربه حتى قبض، فأجرى أبو بكر رضى الله عنه الخمس على ثلاثة. وكذلك روى عن عمر ومن بعده من الخلفاء. وروى أنّ أبا بكر رضى الله عنه منع بنى هاشم الخمس وقال: إنما لكم أن يعطى فقيركم ويزوّج أيمكم ويخدم من لا خادم له منكم، فأما الغنى منكم فهو بمنزلة ابن سبيل غنىّ لا يعطى من الصدقة شيئا، ولا يتيم موسر. وعن زيد بن على رضى الله عنه: كذلك قال، ليس لنا أن نبنى منه قصوراً، ولا أن نركب منه البراذين. وقيل: الخمس كله للقرابة. وعن على رضى الله عنه أنه قيل له: إنّ الله تعالى قال وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ فقال: أيتامنا ومساكيننا.
وعن الحسن رضى الله عنه في سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه لولى الأمر من بعده.
وعن الكلبي رضى الله عنه أنّ الآية نزلت ببدر. وقال الواقدي: كان الخمس في غزوة بنى قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال، على رأس عشرين شهراً من الهجرة. فإن قلت:
بم تعلق قوله إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ؟ قلت: بمحذوف يدل عليه وَاعْلَمُوا المعنى: إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنّ الخمس من الغنيمة يجب التقرب به، فاقطعوا عنه أطماعكم واقتنعوا بالأخماس الأربعة، وليس المراد بالعلم المجرّد، ولكنه العلم المضمن بالعمل، والطاعة لأمر الله تعالى،
(١). قوله «يصرف إلى رتاج الكعبة» في الصحاح «الرتج» بالتحريك: الباب العظيم، وكذلك الرتاج. ومنه.
وتاج الكعبة، (ع)
(٢). أخرجه أبو داود في كتاب المراسيل من طريق الربيع بن أنس عن أبى العالية. قال «كان النبي ﷺ إذا أتى بالغنيمة قسمها خمسة أقسام، ثم يقبض بيده قبضة من الخمس أجمع ثم يقول: هذه الكعبة. ثم يقول لا تجعلوا لله نصيباً فان لله الآخرة والدنيا ثم يأخذ سهما لنفسه وسهما لذي القربى وسهما اليتامى، وسهما لمساكين، وسهما لابن السبيل، أخرجه أبو عبيدة في الأموال، والطبري من هذا الوجه.
222
لأنّ العلم المجرّد يستوي فيه المؤمن والكافر وَما أَنْزَلْنا معطوف على بِاللَّهِ أى إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل عَلى عَبْدِنا وقرئ عبدنا كقوله وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ بضمتين يَوْمَ الْفُرْقانِ يوم بدر. والْجَمْعانِ الفريقان من المسلمين والكافرين. والمراد ما أنزل عليه من الآيات والملائكة والفتح يومئذ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يقدر على أن ينصر القليل على الكثير والذليل على العزيز، كما فعل بكم ذلك اليوم.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٤٢]
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢)
إِذْ بدل من يوم الفرقان. والعدوة: شط الوادي بالكسر والضم والفتح. وقرئ بهنّ وبالعدية، على قلب الواو ياء، لأنّ بينها وبين الكسرة حاجزاً غير حصين كما في الصبية.
والدنيا والقصوى: تأنيث الأدنى والأقصى. فإن قلت: كلتاهما «فعلى» من بنات الواو، فلم جاءت إحداهما بالياء والثانية بالواو؟ قلت: القياس هو قلب الواو ياء كالعليا. وأما القصوى فكالقود في مجيئه على الأصل. وقد جاء القصيا، إلا أنّ استعمال القصوى أكثر، كما كثر استعمال «استصوب» مع مجيء «استصاب» و «أغيلت» مع «أغالت» «١» والعدوة الدنيا مما يلي المدينة، والقصوى مما يلي مكة وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ يعنى الركب الأربعين الذين كانوا يقودون العير أسفل منكم بالساحل. وأسفل: نصب على الظرف، معناه: مكانا أسفل من مكانكم، وهو مرفوع المحل، لأنه خبر للمبتدإ. فإن قلت: ما فائدة هذا التوقيت وذكر مراكز الفريقين «وأن العير كانت أسفل منهم «٢» ؟ قلت: الفائدة فيه الإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدوّ وشوكته، وتكامل عدّته، وتمهد أسباب الغلبة له، وضعف شأن المسلمين والتياث أمرهم «٣» وأنّ غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلا صنعاً من الله سبحانه، ودليلا على أنّ ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله وقوّته وباهر قدرته، وذلك أنّ العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء، وكانت أرضاً لا بأس بها ولا ماء بالعدوة الدنيا وهي خبار «٤»
(١). قوله «وأغيلت مع أغالت» أغيلت: أى أرضعت وهي موطوءة. أفاده الصحاح. (ع)
(٢). قال محمود: «إن قلت ما فائدة ذكر مركز الفريقين وأن العير كانت أسفل منهم... الخ» قال أحمد: وهذا الفصل من خواص حسنات الزمخشري وتنقيبه عن أسرار الكتاب العزيز.
(٣). قوله «والتياث أمرهم» أى اختلاط أمرهم اه صحاح. (ع)
(٤). قوله «وهي خبار» أى رخوة ذات جحرة. اه صحاح (ع)
تسوخ فيها الأرجل، ولا يمشى فيها إلا بتعب ومشقة. وكانت العير وراء ظهور العدوّ مع كثرة عددهم، فكانت الحماية دونها، تضاعف حميتهم وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم. ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم، ليبعثهم الذب عن الحريم والغيرة على الحرم على بذلك جهيداهم في القتال، وأن لا يتركوا وراءهم ما يحدّثون أنفسهم بالانحياز إليه، فيجمع ذلك قلوبهم ويضبط هممهم ويوطن نفوسهم على أن لا يبرحوا مواطنهم ولا يخلوا مراكزهم، ويبذلوا منتهى نجدتهم وقصارى شدّتهم. وفيه تصوير ما دبر سبحانه من أمر وقعة بدر، ليقضى أمراً كان مفعولا من إعزاز دينه وإعلاء كلمته حين وعد المسلمين إحدى الطائفتين مبهمة غير مبينة، حتى خرجوا ليأخذوا الغير راغبين في الخروج، وشخص بقريش «١» مرعوبين مما بلغهم من تعرّض رسول الله ﷺ لأموالهم، حتى نفروا ليمنعوا عيرهم، وسبب الأسباب حتى أناخ هؤلاء بالعدوة الدنيا وهؤلاء بالعدوة القصوى ووراءهم العير يحامون عليها، حتى قامت الحرب على ساق وكان ما كان وَلَوْ تَواعَدْتُمْ أنتم وأهل مكة وتواضعتم بينكم على موعد تلتقون فيه للقتال، لخالف بعضكم بعضاً فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد، وثبطهم ما في قلوبهم من تهيب رسول الله ﷺ والمسلمين، فلم يتفق لكم من التلاقي في ما وفقه الله وسبب له لِيَقْضِيَ متعلق بمحذوف، أى ليقضى أمراً كان واجباً أن يفعل، وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه دبر ذلك. وقوله لِيَهْلِكَ بدل منه. واستعير الهلاك والحياة للكفر والإسلام، أى ليصدر كفر من كفر عن وضوح بينة، لا عن مخالجة شبهة، حتى لا تبقى له على الله حجة، ويصدر إسلام من أسلم أيضاً عن يقين وعلم بأنه دين الحق الذي يجب الدخول فيه والتمسك به وذلك أن ما كان من وقعة بدر من الآيات الغرّ المحجلة التي من كفر بعدها كان مكابراً لنفسه مغالطاً لها.
وقرئ: ليهلك، بفتح اللام. وحيي، بإظهار التضعيف لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ يعلم كيف يدبر أموركم ويسوى مصالحكم. أو لسميع عليم بكفر من كفر وعقابه، وبإيمان من آمن وثوابه.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٤٣]
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣)
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ نصبه بإضمار اذكر. أو هو بدل ثان من يوم الفرقان، أو متعلق بقوله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ أى يعلم المصالح إذ يقللهم في عينك فِي مَنامِكَ في رؤياك. وذلك أن الله عزّ وجل أراه إياهم في رؤياه قليلا، فأخبر بذلك أصحابه فكان تثبيتاً لهم وتشجيعاً على عدوهم. وعن
(١). قوله «وشخص بقريش» يقال للرجل إذا ورد عليه أمرا أقلقه: شخص به. اه صحاح. (ع)
الحسن: في منامك في عينك، لأنها مكان النوم، كما قيل للقطيفة «١» : المنامة، لأنه ينام فيها.
وهذا تفسير فيه تعسف، وما أحسب الرواية صحيحة فيه عن الحسن، وما يلائم علمه بكلام العرب وفصاحته لَفَشِلْتُمْ لجبنتم وهبتم الإقدام وَلَتَنازَعْتُمْ في الرأى، وتفرقت فيما تصنعون كلمتكم، وترجحتم بين الثبات والفرار وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ أى عصم وأنعم بالسلامة من الفشل والتنازع والاختلاف إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعلم ما سيكون فيها من الجرأة والجبن والصبر والجزع.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٤٤]
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤)
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ الضميران مفعولان. يعنى: وإذ يبصركم إياهم. وقَلِيلًا نصب على الحال، وإنما قللهم في أعينهم تصديقاً لرؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليعاينوا ما أخبرهم به فيزداد يقينهم ويجدّوا ويثبتوا. قال ابن مسعود رضى الله عنه: لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي: أتراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة، فأسرنا رجلا منهم فقلنا له: كم كنتم؟ قال.
ألفاً «٢» وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ حتى قال قائل منهم: إنما هم أكلة جزور. فإن قلت: الغرض في تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهر، فما الغرض في تقليل المؤمنين في أعينهم؟ قلت:
قد قللهم في أعينهم قبل اللقاء، ثم كثرهم فيها بعده ليجترءوا عليهم، قلة مبالاة بهم، ثم تفجؤهم الكثرة فيبهتوا ويهابوا، وتفل شوكتهم «٣» حين يرون ما لم يكن في حسابهم وتقديرهم، وذلك قوله يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ولئلا يستعدوا لهم، وليعظم الاحتجاج عليهم باستيضاح الآية البينة من قلتهم أوّلا وكثرتهم آخراً. فإن قلت: بأى طريق يبصرون الكثير قليلا «٤» ؟ قلت بأن يستر الله عنهم
(١). قوله «للقطيفة» هي دثار مخمل. اه صحاح. (ع)
(٢). قال إسحاق في مسنده: أخبرنا عمرو بن محمد، ويحيى بن آدم قال حدثنا إسرائيل. عن أبى إسحاق عن أبى عبيدة عن عبد الله بن مسعود. فذكره، ومن هذا الوجه أخرجه الطبري وابن أبى حاتم.
(٣). قوله «وتفل شوكتهم» أى تكسر. أفاده الصحاح. (ع)
(٤). قال محمود: «إن قلت بأى طريق يبصرون الكثير قليلا... الخ» قال أحمد: وفي هذا دليل بين على أن الله تعالى هو الذي يخلق الإدراك في الحاسة غير موقوف على سبب من مقابلة أو قرب أو ارتفاع حجب أو غير ذلك، إذ لو كانت هذه الأسباب موجبة للرؤية عقلا لما أمكن أن يستر عنهم البعض وقد أدركوا البعض، والسبب الموجب مشترك، فعلى هذا يجوز أن يخلق الإدراك مع اجتماعها، فلا ربط إذا بين الرؤية ونفيها في مقدرة الله تعالى، وهي رادة على القدرية المنكرين لرؤية الله تعالى، بناء على اعتبار هذه الأسباب في حصول الإدراك عقلا، وأنها تستلزم الجسمية، إذ المقابلة والقرب وارتفاع الحجب إنما تتأتى في جسم، فهذه الآية حسبهم في إبطال زعمهم، ولكنهم يمرون عليها. وهم عنها معرضون، والله الموفق.
بعضه بساتر أو يحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير، كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين. قيل لبعضهم: إن الأحول يرى الوحد اثنين، وكان بين يديه ديك واحد فقال:
مالى لا أرى هذين الديكين أربعة؟
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٤٥ الى ٤٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦)
إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً إذا حاربتم جماعة من الكفار، وترك أن يصفها لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار. واللقاء اسم للقتال غالب فَاثْبُتُوا لقتالهم ولا تفرّوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً في مواطن الحرب مستظهرين بذكره، مستنصرين به، داعين له على عدوكم: اللهم اخذلهم، اللهم اقطع دابرهم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لعلكم تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة. وفيه إشعار بأنّ على العبد أن لا يفتر عن ذكر ربه أشغل ما يكون قلباً وأكثر ما يكون هما، وأن تكون نفسه مجتمعة لذلك وإن كانت متوزعة عن غيره. وناهيك بما في خطب أمير المؤمنين عليه السلام في أيام صفين وفي مشاهده مع البغاة والخوارج- من البلاغة والبيان ولطائف المعاني وبليغات المواعظ والنصائح- دليلا على أنهم كانوا لا يشغلهم عن ذكر الله شاغل وإن تفاقهم الأمر وَلا تَنازَعُوا قرئ بتشديد التاء فَتَفْشَلُوا منصوب بإضمار أن، أو مجزوم لدخوله في حكم النهى، وتدل على التقديرين قراءة من قرأ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ بالتاء والنصب، وقراءة من قرأ: ويذهب ريحكم، بالياء والجزم. والريح: الدولة، شبهت في نفوذ أمرها وتمشيه بالريح وهبوبها، فقيل:
هبت رياح فلان إذا دالت له الدولة ونفذ أمره. ومنه قوله:
يَا صَاحِبَىَّ ألَا لَاحَىَّ بِالْوَادِى إلّا عبِيدٌ قُعُودٌ بَيْنَ أذوَادِ
أتُنْظِرَانِ قَلِيلًا رَيْثَ غَفْلَتِهِمْ أمْ تَعْدُوَانِ فَإنَّ الرِّيحَ لِلْعَادِى «١»
(١). لسليك بن سلكة، مر مع صاحبيه بجوف مراد واد باليمن فوجدوا إبلا قد ملأته، فقال لهما: أتنظراني هنا حتى آتى الرعاء فأعلم خبر الحي أقريب أم بعيد، فلم يزل يلاطفهم حتى أخبروه بمكان الحي، فإذا هم بعيد، فقال لهم: ألا أغنيكم؟ قالوا: بلى، فتغنى بأعلى صوته بالبيتين، فأتاه صاحباه فاستاقوا الإبل. وآم بالمد. قيل: جمع إماء جمع أمة. وقيل: هو أيضا جمع أمة، فأصله أأمو كأذرع جمع ذراع. وعلى الثاني أأمو أيضا، كآكم جمع أكمة، لأن أمة أصله أموة، فأبدلت الهمزة الثانية في الجمع ألفا وقلبت الواو ياء لتطرفها. والهمزة كسرة لمناسبتها، ثم أعل إعلال قاض. وروى بدله «قعود» والذود من الإبل: من ثلاثة إلى عشرة. وأ تنظران، من أنظرته إذا أخرته. والريث: التأخر والتواني، وهو نصب على البدلية من قليلا. أو على الظرفية. ويجوز قراءة «أتنظران» من نظره إذا انتظره. فريث. يجوز أنه مفعول به. و «وتعدوان» من العدو، وهو السرعة السير، أو من العدوان، وهو تعدى الحد. واستعار الريح الدولة والأمر النافذ بجامع النفوذ من كل. ويروى «تغدوان» و «للغادى» بالغين المعجمة: أى أم تسرعان إلى، فان الظفر للمسرع. وفيه دلالة على أن السرعة أرجح من التأخر. [.....]
وقيل لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تعالى. وفي الحديث: «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور» «١»
[سورة الأنفال (٨) : آية ٤٧]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧)
حذرهم- بالنهى عن التنازع واختلاف الرأى- نحو ما وقع لهم بأحد لمخالفتهم رسول الله ﷺ من فشلهم وذهاب ريحهم كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ هم أهل مكة حين خرجوا الحماية العير، فأتاهم رسول أبى سفيان وهم بالجحفة: أن ارجعوا فقد سلمت عيركم، فأبى أبو جهل وقال: حتى نقدم بدراً نشرب بها الخمور، وتعزف علينا القيان «٢» ونطعم بها من حضرنا من العرب. فذلك بطرهم ورئاؤهم الناس بإطعامهم، فوافوها، فسقوا كئوس المنايا مكان الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القيان، فنهاهم أن يكونوا مثلهم بطرين طربين مرائين بأعمالهم، وأن يكونوا من أهل التقوى «٣» والكآبة والحزن من خشية الله عز وجل، مخلصين أعمالهم لله.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٤٨]
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨)
وَاذكر إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ التي عملوها في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووسوس إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون، وأوهمهم أن اتباع خطوات الشيطان وطاعته مما يجيرهم فلما تلاقى الفريقان نكص الشيطان وتبرأ منهم، أى بطل كيده حين نزلت جنود الله وكذا عن الحسن رحمه الله: كان ذلك على سبيل الوسوسة ولم يتمثل لهم. وقيل: لما اجتمعت قريش على السير ذكرت الذي بينها وبين بنى كنانة من الحرب، فكان ذلك يثنيهم، فتمثل لهم إبليس
(١). متفق عليه من طريق مجاهد عن ابن عباس.
(٢). قوله «وتعزف علينا القيان» تلعب بالملاهي وتغنى والقينة الأمة مغنية أو غير مغنية والجمع القيان والقين الحداد والجمع القيون وكل عبد هو عند العرب قين وقان الشيء يقينه قينا إذا أصلحه وزينه أفاده الصحاح. (ع)
(٣). قوله «وأن يكونوا من أهل التقوى» لعله: وأن لا يكونوا. أو لعله بأن يكونوا. (ع)
في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الشاعر الكناني- وكان من أشرافهم- في جند من الشياطين معه راية، وقال: لا غالب لكم اليوم، وإنى مجيركم من بنى كناية. فلما رأى الملائكة تنزل، نكص وقيل: كانت يده في يد الحارث بن هشام، فلما نكص قال له الحارث: إلى أين؟ أتخذ لنا في هذه الحال؟ فقال: إنى أرى مالا ترون، ودفع في صدر الحارث وانطلق، وانهزموا، فلما بلغوا مكة قالوا: هزم الناس سراقة، فبلغ ذلك سراقة فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان. وفي الحديث: وما رئي إبليس يوما أصغر ولا أدحر «١» ولا أغيظ من يوم عرفة لما يرى من نزول الرحمة إلا ما رئي يوم بدر «٢». فإن قلت: هلا قيل لا غالباً لكم كما يقال: لا ضاربا زيداً عندنا؟ قلت: لو كان لَكُمُ مفعولا لغالب، بمعنى: لا غالباً إياكم لكان الأمر كما قلت: لكنه خبر تقديره: لا غالب كائن لكم.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٤٩]
إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩)
إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ بالمدينة وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يجوز أن يكون من صفة المنافقين، وأن يراد الذين هم على حرف ليسوا بثابتى الأقدام في الإسلام. وعن الحسن: هم المشركون غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ يعنون أنّ المسلمين اغتروا بدينهم وأنهم يتقوّون به وينصرون من أجله، فخرجوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر إلى زهاء ألف، ثم قال جوابا لهم وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب يسلط القليل الضعيف على الكثير القوى.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٥٠ الى ٥١]
وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١)
وَلَوْ تَرى ولو عاينت وشاهدت، لأن «لو» تردّ المضارع إلى معنى الماضي، كما تردّ «إن»
(١). قوله «ولا أدحر» الدحور: الطرد والابعاد، اه صحاح، (ع)
(٢). أخرجه مالك في الموطأ من رواية طلحة بن عبيد الله بن كريز مرسلا، ومن طريق مالك أخرجه عبد الرزاق والطبري، والبيهقي في الشعب وانفرد أبو النضر بن إسماعيل بن إبراهيم العجلى عن مالك. فقال عن طلحة عن أبيه قال ابن عبد البر: الصواب مرسل «تنبيه» هو طلحة بن عبد الله بن بكير، وكريز مصغر، ووقع في المناسك للنووي طلحة بن عبد الله أحد العشرة، وهو وهم بين.
الماضي إلى معنى الاستقبال. وإِذْ نصب على الظرف. وقرئ: يتوفى. بالياء والتاء.
والْمَلائِكَةُ رفعها بالفعل ويَضْرِبُونَ حال منهم، ويجوز أن يكون في يَتَوَفَّى ضمير الله عز وجل، والْمَلائِكَةُ مرفوعة بالابتداء، ويَضْرِبُونَ خبر. وعن مجاهد: وأدبارهم:
أستاههم، ولكن الله كريم يكنى، وإنما خصوهما بالضرب. لأنّ الخزي والنكال في ضربهما أشدّه، وبلغني عن أهل الصين أن عقوبة الزاني عندهم أن يصبر، ثم يعطى الرجل القوى البطش شيئاً عمل من حديد كهيئة الطبق فيه رزانة وله مقبض، فيضربه على دبره ضربة واحدة بقوّته فيجمد في مكانه. وقيل: يضربون ما أقبل منهم وما أدبر وَذُوقُوا معطوف على يَضْرِبُونَ على إرادة القول: أى ويقولون ذوقوا عَذابَ الْحَرِيقِ أى مقدمة عذاب النار. او وذوقوا عذاب الاخرة: بشارة لهم به. وقيل: كانت معهم مقامع من حديد، كلما ضربوا بها التهبت النار أو ويقال لهم يوم القيامة: ذوقوا. وجواب لَوْ محذوف: أى لرأيت أمراً فظيعاً منكراً ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ يحتمل أن يكون من كلام الله ومن كلام الملائكة، وذلِكَ رفع بالابتداء وبِما قَدَّمَتْ خبره وَأَنَّ اللَّهَ عطف عليه، أى ذلك العذاب بسببين: بسبب كفركم ومعاصيكم وبأن الله لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ لأن تعذيب الكفار من العدل كإثابة المؤمنين. وقيل: ظلام للتكثير لأجل العبيد «١» أو لأن العذاب من العظم بحيث لولا الاستحقاق لكان المعذب بمثله ظلاما بليغ الظلم متفاقمه.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٥٢ الى ٥٤]
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤)
الكاف في محل الرفع: أى دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون. ودأبهم: عادتهم وعملهم الذي دأبوا فيه: أى داوموا عليه وواظبوا. وكَفَرُوا تفسير لدأب آل فرعون. وذلِكَ إشارة
(١). قال محمود: «وقيل ظلام للتكثير لأجل العبيد... الخ» قال أحمد: وبهذه النكتة يجاب عن قول القائل نفى الأدنى أبلغ من نفى الأعلى، فلم عدل عن الأبلغ. والمراد تنزيه الله تعالى وهو جدير بالمبالغة، فهذان الجوابان عتيدان في هذا السؤال.
إلى ما حل بهم، يعنى ذلك العذاب أو الانتقام بسبب أن الله لم ينبغ له ولم يصحّ في حكمته أن يغير نعمته عند قوم حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بهم من الحال. فإن قلت: فما كان من تغيير آل فرعون ومشركي مكة حتى غير الله نعمته عليهم؟ ولم تكن لهم حال مرضية فيغيروها إلى حال مسخوطة قلت: كما تغير الحال المرضية إلى المسخوطة، تغير الحال المسخوطة إلى أسخط منها، وأولئك كانوا قبل بعثة الرسول إليهم كفرة عبدة أصنام، فلما بعث إليهم بالآيات البينات فكذبوه وعادوه وتحزبوا عليه ساعين في إراقة دمه، غيروا حالهم إلى أسوإ مما كانت، فغير الله ما أنعم به عليهم من الإمهال وعاجلهم بالعذاب وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما يقول مكذبو الرسل عَلِيمٌ بما يفعلون كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ تكرير للتأكيد. وفي قوله بِآياتِ رَبِّهِمْ زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحق. وفي ذكر الإغراق بيان للأخذ بالذنوب وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ وكلهم من غرقى القبط وقتلى قريش كانوا ظالمين أنفسهم بالكفر والمعاصي.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٥٥ الى ٥٧]
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧)
الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أى أصروا على الكفر ولجوا فيه، فلا يتوقع منهم إيمان وهم بنو قريظة، عاهدهم رسول الله ﷺ أن لا يمالئوا عليه فنكثوا بأن أعانوا مشركي مكة بالسلاح وقالوا: نسينا وأخطأنا، ثم عاهدهم فنكثوا ومالوا معهم يوم الخندق، وانطلق كعب بن الأشرف إلى مكة فحالفهم الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ بدل من الذين كفروا، أى الذين عاهدتهم من الذين كفروا جعلهم شر الدواب، لأن شر الناس الكفار، وشر الكفار المصرون منهم، وشر المصرين الناكثون للعهود وَهُمْ لا يَتَّقُونَ لا يخافون عاقبة الغدر ولا يبالون ما فيه من العار والنار فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فإما تصادفنهم وتظفرنّ بهم فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ ففرق عن محاربتك ومناصبتك بقتلهم شر قتلة والنكاية فيهم، من وراءهم من الكفرة، حتى لا يجسر عليك بعدهم أحد، اعتباراً بهم واتعاظاً بحالهم. وقرأ ابن مسعود رضى الله عنه: فشرذ، بالذال المعجمة، بمعنى: ففرق، وكأنه مقلوب «شذر» من قولهم «ذهبوا شذر مذر «١» » ومنه: الشذر: المتلقط من المعدن لتفرّقه. وقرأ أبو حيوة: من خلفهم. ومعناه: فافعل
(١). قوله «وكأنه مقلوب شذر، من قولهم ذهبوا «شذر مذر» بفتحات، أى في كل وجهة. اه صحاح. (ع)
التشريد من ورائهم، لأنه إذا شرد الذين وراءهم فقد فعل التشريد في الوراء وأوقعه فيه، لأن الوراء جهة المشردين، فإذا جعل الوراء ظرفا للتشريد فقد دلّ على تشريد من فيه، فلم يبق فرق بين القراءتين لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ لعلّ المشردين من ورائهم يتعظون.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٥٨]
وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨)
وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ معاهدين خِيانَةً ونكثا بأمارات تلوح لك فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ فاطرح إليهم العهد عَلى سَواءٍ على طريق مستو قصد، وذلك أن تظهر لهم نبذ العهد وتخبرهم إخباراً مكشوفا بينا أنك قطعت ما بينك وبينهم، ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد فيكون ذلك خيانة منك إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ فلا يكن منك إخفاء نكث العهد والخداع وقيل: على استواء في العلم بنقض العهد. وقيل على استواء في العداوة. والجار والمجرور في موضع الحال، كأنه قيل: فانبذ إليهم ثابتاً على طريق قصد سوى، أو حاصلين على استواء في العلم أو العداوة، على أنها حال من النابذ والمنبوذ إليهم معاً.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٥٩]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩)
سَبَقُوا أفلتوا وفاتوا من أن يظفر بهم إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ إنهم لا يفوتون ولا يجدون طالبهم عاجزاً عن إدراكهم. وقرئ: أنهم، بالفتح، بمعنى: لأنهم، كل واحدة من المكسورة والمفتوحة تعليل، إلا أن المكسورة على طريقة الاستئناف، والمفتوحة تعليل صريح وقرى:
يعجزون، بالتشديد. وقرأ ابن محيصن: يعجزون، بكسر النون. وقرأ الأعمش: ولا تحسب الذين كفروا، بكسر الباء وبفتحها، على حذف النون الخفيفة. وقرأ حمزة: ولا يحسبن بالياء على أن الفعل للذين كفروا. وقيل فيه: أصله أن سبقوا، فحذفت أن، كقوله وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ واستدل عليه بقراءة ابن مسعود رضى الله عنه: أنهم سبقوا. وقيل: وقع الفعل على أنهم لا يعجزون، على أن «لا» صلة، وسبقوا في محل الحال، بمعنى سابقين أى مفلتين هاربين. وقيل معناه: ولا يحسبنهم الذين كفروا سبقوا، فحذف الضمير لكونه مفهوما. وقيل: ولا يحسبن قبيل المؤمنين الذين كفروا سبقوا. وهذه الأقاويل كلها متمحلة، وليست هذه القراءة التي تفرد بها حمزة بنيرة. وعن الزهري أنها نزلت فيمن أفلت من فل المشركين.

[سورة الأنفال (٨) : آية ٦٠]

وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠)
مِنْ قُوَّةٍ من كل ما يتقوّى به في الحرب من عددها. وعن عقبة بن عامر «١» : سمعت رسول الله ﷺ يقول على المنبر: «ألا إن القوة الرمي «٢» » قالها ثلاثا. ومات عقبة عن سبعين قوسا في سبيل الله. وعن عكرمة: هي الحصون، والرباط: اسم للخيل التي تربط في سبيل الله. ويجوز أن يسمى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة. ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال. وقرأ الحسن: ومن ربط الخيل، بضم الباء وسكونها جمع رباط. ويجوز أن يكون قوله وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تخصيصاً للخيل من بين ما يتقوى به، كقوله وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ وعن ابن سيرين رحمه الله أنه سئل عمن أوصى بثلث ماله في الحصون؟ فقال: يشترى به الخيل، فترابط في سبيل الله ويغزى عليها، فقيل له: إنما أوصى في الحصون، فقال: ألم تسمع قول الشاعر:
أنّ الحصون الخيل لا مدر القرى «٣»
تُرْهِبُونَ قرئ بالتخفيف والتشديد. وقرأ ابن عباس ومجاهد رضى الله عنهما تخزون والضمير في بِهِ راجع إلى ما استطعتم عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ هم أهل مكة وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ هم اليهود وقيل المنافقون «وعن السدى هم أهل فارس، وقيل كفرة الجن، وجاء في الحديث. إن الشيطان لا يقرب صاحب فرس ولا داراً فيها فرس عتيق» وروى أنّ صهيل الخيل يرهب الجن «٤»
(١). قال محمود: «القوة الرمي، روى عقبة بن عامر أنها الرمي... الخ» قال أحمد: والمطابق للرمي أن يكون الرباط على بابه مصدراً، والله أعلم، وهو حسبي ونعم الوكيل.
(٢). أخرجه مسلم أتم منه.
(٣).
ولقد علمت على تجنبى الردى أن الحصون الخيل لا مدر القرى
لأشعر الجعفي، يقول: ولقد تيقنت مع أنى متجنب للردى أن الحصون المانعة منه هي الخيل وآلات الحرب لا البناء، كالقلاع التي في القرى. وأتى بقوله «على تجنبى الردى» لدفع توهم أنه رجل يلقى بنفسه إلى التهلكة فلذلك يحب الحرب، فهو من باب الاحتراس. ويروى: على توقى الردى- بتشديد الياء- أى: مع أنى أتوقى الهلاك.
قال رجل لعبيد الله بن الحسن: إن أبى أوصى بثلث ماله للحصون. قال: اذهب فاشتر به خيلا. قال: إنما ذكر الحصون. فقال: أما سمعت قول الأشعر، فأنشد البيت.
(٤). لم أجده هكذا، وروى ابن سعد والطبراني وابن عدى من رواية سعيد بن سنان عن يزيد بن عبد الله ابن عريب عن أبيه عن جده. رفعه في قوله عز وجل وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ- الآية قال: هم الجن، ولن يختل الشيطان إنسانا في داره فرس عتيق وأهله ابن عدى، بسعيد بن سنان وضعفه عن أبى معين، وغيره، وله شاهد من رواية الوضين بن عطاء عن سليمان بن موسى مرسلا، ولابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس في هذه الآية قال: هو الشيطان، لا يقرب ناصية فرس وإسناده واه. وقوله: «روى أن صهيل الخيل يطرد الجن» لم أجده.

[سورة الأنفال (٨) : آية ٦١]

وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١)
جنح له وإليه: إذا مال. والسلم تؤنث تأنيث نقيضها وهي الحرب قال:
السِّلْمُ تَأْخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِهِ وَالْحَرْبُ يَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِهَا جُرَعُ «١»
وقرئ بفتح السين وكسرها. وعن ابن عباس رضى الله عنه أن الآية منسوخة بقوله تعالى قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وعن مجاهد بقوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ والصحيح أن الأمر موقوف على ما يرى فيه الامام صلاح الإسلام وأهله من حرب أو سلم، وليس بحتم أن يقاتلوا أبدا، أو يجابوا إلى الهدنة أبداً. وقرأ الأشهب العقيلي. فاجنح بضم النون وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ولا تخف من إبطانهم المكر في جنوحهم إلى السلم، فإنّ الله كافيك وعاصمك من مكرهم وخديعتهم. قال مجاهد، يريد قريظة.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦٢ الى ٦٣]
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣)
فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ فإن محسبك الله: قال جرير:
إنِّى وَجَدْتُ مِنَ الْمَكارِمِ حَسْبَكُمْ أَنْ تَلْبَسُوا خَزَّ الثِّيَابِ وَتَشْبَعُوا «٢»
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ التأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله ﷺ من الآيات الباهرة، لأنّ العرب- لما فيهم من الحمية والعصبية، والانطواء على الضغينة في أدنى شيء وإلقائه بين أعينهم إلى أن ينتقموا- لا يكاد يأتلف منهم قلبان، ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع
(١). مر شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ٢٥٢ فراجعه إن شئت اه مصححه.
(٢).
إنى وجدت من المكارم حسبكم أن تلبسوا خز الثياب وتشبعوا
فإذا تذوكرت المكارم مرة في مجلس أنتم به فتقنعوا
لجرير، أى: إنى وجدت كافيكم من المكارم ليس الخز من الثياب والشبع من الطعام والشراب، وجعلهما من المكارم تهكما بهم. أو على زعمهم، أو المعنى: مغنيكم عنها هاتان الخصلتان، فمن للبدل، أو المعنى: إن كان ذلك من المكارم فهو كافيكم لمبالغتكم فيه. ويروى: حر الثياب، بمهملتين، أى جيدها. وتذوكرت: مبنى للمجهول، أى: فإذا تذاكر الناس بالمكارم ولو مرة واحدة فغطوا وجوهكم حياء كالنساء فلستم من المكارم في شيء.
رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتحدوا، وأنشؤا يرمون عن قوس واحدة، وذلك لما نظم الله من ألفتهم وجمع من كلمتهم، وأحدث بينهم من التحاب والتوادّ، وأماط عنهم من التباغض والتماقت، وكلفهم من الحب في الله والبغض في الله، ولا يقدر على ذلك إلا من يملك القلوب، فهو يقلبها كما شاء، ويصنع فيها ما أراد، وقيل: هم الأوس والخزرج، كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك سادتهم ورؤساءهم ودق جماجمهم، ولم يكن لبغضائهم أمد ومنتهى، وبينهما التجاور الذي يهيج الضغائن ويديم التحاسد والتنافس، وعادة كل طائفتين كانتا بهذه المثابة أن تتجنب هذه ما آثرته أختها وتكرهه وتنفر عنه، فأنساهم الله تعالى ذلك كله حتى اتفقوا على الطاعة وتصافوا وصاروا أنصاراً وعادوا أعواناً، وما ذاك إلا بلطيف صنعه وبليغ قدرته
[سورة الأنفال (٨) : آية ٦٤]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤)
وَمَنِ اتَّبَعَكَ الواو بمعنى مع وما بعده منصوب، تقول: حسبك وزيداً درهم، ولا تجرّ، لأنّ عطف الظاهر المجرور على المكنى ممتنع قال:
فَحَسْبُكَ وَالضَّحَّاكَ عَضْبٌ مُهَنَّدُ «١»
والمعنى: كفاك وكفى أتباعك من المؤمنين الله ناصراً أو يكون في محل الرفع: أى كفاك الله وكفاك المؤمنون، وهذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال، وعن ابن عباس رضى الله عنه نزلت في إسلام عمر رضى الله عنه، وعن سعيد بن جبير أنه أسلم مع النبي ﷺ ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة ثم أسلم عمر، فنزلت.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦)
(١).
إذا كانت الهيجاء واشتقت العصا فحسبك والضحاك سيف مهتد
يقول: إذا وجدت الحرب وافترقت العصبة ووقع الخلاف وظهر الشر فيكفيك مع الضحاك سيف مطبق من حديد الهند، فانشقاق العصا تمثيل لوقوع الخلاف وظهور الشر. وحسب: اسم فعل بمعنى يكفى. والكاف مفعوله.
والضحاك مفعول معه. وسيف فاعله. والجمهور على أنه صفة مشبهة بمعنى كافى مبتدأ، والكاف مضاف إليه.
وسيف خبره. والضحاك مفعول لمحذوف، أى يكفى لأن الصفة المشبهة لا تنصب المفعول معه. وروى الضحاك بالجر، أى: وحسب الضحاك، وبالرفع على إنابته مناب «حسب» المحذوف. والواو للمعية على الأول، والعطف على غيره ويروى: عضب مهند. والعضب: السيف القاطع. [.....]
التحريض: المبالغة في الحث على الأمر من الحرض، وهو أن ينهكه المرض ويتبالغ فيه حتى يشفى على الموت، أو أن تسميه حرضا: وتقول له: ما أراك إلا حرضاً في هذا الأمر وممرضاً فيه، ليهيجه ويحرّك منه. ويقال: حركه وحرضه وحرصه وحرشه وحربه، بمعنى، وقرئ حرص، بالصاد غير المعجمة، حكاها الأخفش، من الحرص، وهذه عدة من الله وبشارة بأن الجماعة من المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم من الكفار بعون الله تعالى وتأييده، ثم قال بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ أى بسبب أنَّ الكفار قوم جهلة يقاتلون على غير احتساب وطلب ثواب كالبهائم، فيقل ثباتهم ويعدمون لجهلهم بالله نصرته ويستحقون خذلانه، خلاف من يقاتل على بصيرة ومعه ما يستوجب به النصر والإظهار من الله تعالى. وعن ابن جريج كان عليهم أن لا يفروا ويثبت الواحد منهم للعشرة، وكان رسول الله ﷺ بعث حمزة رضى الله عنه في ثلاثين راكباً، فلقى أبا جهل في ثلاثمائة راكب. قيل: ثم ثقل عليهم ذلك وضجوا منه، وذلك بعد مدّة طويلة، فنسخ وخفف عنهم بمقاومة الواحد الاثنين، وقيل: كان فيهم قلة في الابتداء، ثم لما كثروا بعد نزل التخفيف. وقرئ: ضعفاً، بالفتح والضم، كالمكث والمكث، والفقر والفقر. وضعفاً: جمع ضعيف. وقرئ الفعل المسند إلى المائة بالتاء والياء في الموضعين، والمراد بالضعف: الضعف في البدن. وقيل: في البصيرة والاستقامة في الدين، وكانوا متفاوتين في ذلك فإن قلت: لم كرّر المعنى الواحد وهو مقاومة الجماعة لأكثر منها مرّتين قبل التخفيف وبعده؟ قلت: للدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت، لأن الحال قد تتفاوت بين مقاومة العشرين المائتين والمائة الألف، وكذلك بين مقاومة المائة المائتين والألف الألفين.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦٧ الى ٦٨]
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨)
وقرئ: للنبي، على التعريف. وأسارى. ويثخن، بالتشديد. ومعنى الإثخان: كثرة القتل والمبالغة فيه، من قولهم: أثخنته الجراحات إذا أثبتته حتى تثقل عليه الحركة. وأثخنه المرض إذا أثقله من الثخانة التي هي الغلظ والكثافة، يعنى حتى يذل الكفر ويضعفه بإشاعة القتل
235
في أهله، ويعز الإسلام ويقويه بالاستيلاء والقهر. ثم الأسر بعد ذلك. ومعنى ما كانَ ما صح له وما استقام، وكان هذا يوم بدر، فلما كثر المسلمون نزل فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً وروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتى بسبعين أسيراً فيهم العباس عمه وعقيل بن أبى طالب، فاستشار أبا بكر رضى الله عنه فيهم «١» فقال: قومك وأهلك استبقهم لعلّ الله أن يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تقوى بها أصحابك. وقال عمر رضى الله عنه: كذبوك وأخرجوك فقدّمهم واضرب أعناقهم، فإنّ هؤلاء أئمة الكفر، وإن الله أغناك عن الفداء: مكن علياً من عقيل، وحمزة من العباس، ومكنى من فلان لنسيب له، فلنضرب أعناقهم. فقال صلى الله عليه وسلم: إنّ الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدّد قلوب رجال حتى تكون أشدّ من الحجارة، وإنّ مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم، قال فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ومثلك يا عمر مثل نوح، قال رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً ثم قال لأصحابه: أنتم اليوم عالة فلا يفلتن أحد منكم إلا بفداء أو ضرب عنق. وروى أنه قال لهم: إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم، واستشهد منكم بعدّتهم، فقالوا: بل نأخذ الفداء، فاستشهدوا «٢» بأحد: وكان فداء الأسارى عشرين أوقية، وفداء العباس أربعين أوقية. وعن محمد بن سيرين: كان فداؤهم مائة أوقية، والأوقية أربعون درهما وستة دنانير «٣». وروى أنهم لما أخذوا الفداء نزلت الآية، فدخل عمر على رسول الله
(١). أخرجه مسلم عن ابن عباس عن عمر في حديث طويل، وقد تقدم طرف منه في أوائل السورة، وفي الباب عن أبى عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه كما سيأتى قريبا.
(٢). قوله «وروى أنه قال لهم: إن شئتم قتلتم وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدتهم: فقالوا: بلى. نأخذ الفداء فاستشهدوا بأحد» أخرجه الطبري من طريق أشعث بن سوار عن محمد بن سيرين عن عبيدة هو ابن عمرو قال «أسر المسلمون من المشركين سبعين وقتلوا سبعين، فقال رسول الله ﷺ اختاروا أن تأخذوا منهم الفداء، فتتقووا به على عدوكم ويقتل منكم سبعين، أو تقتلوهم، فقالوا: بل نأخذ الفدية منهم ويقتل منا سبعون، قال فأخذوا منهم الفدية، وقتل سبعون ورواه ابن مردويه موصولا من طريق ابن عون. عن ابن سيرين عن عبيدة عن على وزاد فيه: قال «وكان آخر السبعين ثابت بن قيس بن شماس» وروى الواقدي في المغازي من طريق يحيى ابن أبى كثير. عن على. قال «أتى جبريل النبي ﷺ يوم بدر فخيره في الأسرى. أن يضرب أعناقهم.
أو يأخذ منهم الفداء ويستشهد منكم في قابل عدتهم. الحديث مع ضعفه وهو منقطع.
(٣). قوله «وكان فداء الأسارى عشرين أوقية وفداء العباس أربعين أوقية والأوقية أربعون درهما وستة دنانير»
أما كون الفداء كان عشرين أوقية. فروى الطبري من طريق عبيدة بن عمر قال «كان فداء أسارى بدر مائة أوقية والأوقية أربعون درهما ومن الدنانير ستة دنانير. وأما فداء العباس رضى الله عنه. فروى ابن مردويه من طريق على وابن عباس، قال كان العباس يوم بدر أسيرا فافتدى نفسه بأربعين أوقية ذهب» وروى ابن مردويه. من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال «لما كان يوم بدر أسر سبعون فجعل عليهم رسول الله ﷺ أربعين أوقية ذهبا وجعل على عمه العباس مائة أوقية: وعلى عقيل ثمانين، فقال القرابة صنعت هذا. الحديث.
236
صلى الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان «١» فقال: يا رسول الله أخبرنى، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت، فقال: أبكى على أصحابك في أخذهم الفداء، ولقد عرض علىّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة- لشجرة قريبة منه- وروى أنه قال: لو نزل عذاب من السماء لما نجا منه غير عمرو سعد بن معاذ، رضى الله عنهما، لقوله كان الإثخان في القتل أحب إلىّ «٢» عَرَضَ الدُّنْيا حطامها، سمى بذلك لأنه حدث قليل اللبث، يريد الفداء وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ يعنى ما هو سبب الجنة من إعزاز الإسلام بالإثخان في القتل. وقرئ:
يريدون، بالياء. وقرأ بعضهم والله يريد الآخرة، بجرّ الآخرة على حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه على حاله، كقوله:
أَكُلَّ امْرِىءٍ تَحْسَبِينَ امْرَأً وَنَارٍ تَوَقَّدُ بِالَّليْلِ نَارَا «٣»
ومعناه والله يريد عرض الآخرة. على التقابل، يعنى ثوابها وَاللَّهُ عَزِيزٌ يغلب أولياءه على أعدائه ويتكنون منهم قتلا وأسراً ويطلق لهم الفداء، ولكنه حَكِيمٌ يؤخر ذلك إلى أن يكثروا ويعزوا وهم يعجلون لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لولا حكم منه سبق إثباته في اللوح وهو أنه لا يعاقب أحد بخطإ، وكان هذا خطأ في الاجتهاد، لأنهم نظروا في أن استبقاءهم ربما كان سبباً في إسلامهم وتوبتهم، وأنّ فداءهم يتقوّى به على الجهاد في سبيل الله، وخفى عليهم أن قتلهم أعز للإسلام وأهيب لمن وراءهم وأفل لشوكتهم. وقيل كتابه أنه سيحل لهم الفدية التي أخذوها. وقيل: إن أهل بدر مغفور لهم. وقيل: إنه لا يعذب قوماً إلا بعد تأكيد الحجة وتقديم النهى، ولم يتقدم نهى عن ذلك فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ روى أنهم أمسكوا عن الغنائم ولم
(١). أخرجه أحمد والطبري. من رواية الأعمش عن عمر بن سمرة عن أبى عبيدة عن عبد الله فذكره مطولا.
(٢). أخرجه الطبري من طريق ابن إسحاق قال «لم يكن أحد من المؤمنين ممن حضر بدراً إلا أحب الغنائم غير عمر بن الخطاب فانه جعل لا يلقى أسيرا إلا ضرب عنقه وقال سعد بن معاذ: يا رسول الله الإثخان في القتل أحب إلى من استبقاء الرجال فقال رسول الله ﷺ «لو نزل من السماء عذاب لما نجا منه غير عمر بن الخطاب وسعد بن معاذ» ورواه الواقدي في المغازي من وجه آخر منقطع بمعناه. وروى ابن مردويه من حديث ابن عمر رفعه «لو نزل العذاب. ما أفلت منه إلا ابن الخطاب».
(٣). لأبى دواد. وقيل لحارثة بن حمران الأيادي، وهو من أبيات الكتاب. والهمزة للاستفهام الإنكاري، يخاطب امرأة، أو نفسه، أى: لا تحسبي أن كل رجل رجل كامل، ولا تحسبي أن كل نار تتوقد في الليل نار متوقدة لقرى الضيفان، يعنى أن الرجل هو الكريم الشجاع، والنار هي نار القرى لا غير. وحذف المضاف مع بقاء المضاف إليه على حالة الاضافة مطرد، إذا عطف على مثله ليدل عليه كما هنا، وإلا فهو سماعي، بل مطرد عند الكوفيين ولو بغير عطف. ونار مجرور بمضاف محذوف، ولا يصح عطفه على امرئ. وعطف المنصوب على المنصوب لئلا يلزم العطف على معمولى عاملين مختلفين، وهما «كل» و «تحسبين» وهو ممنوع عند سيبويه ومن وافقه.
237
يمدّوا أيديهم إليها، فنزلت. وقيل: هو إباحة للفداء، لأنه من جملة الغنائم وَاتَّقُوا اللَّهَ فلا تقدموا على شيء لم يعهد إليكم فيه.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٦٩]
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩)
فإن قلت: ما معنى الفاء؟ قلت: التسبيب والسبب محذوف، معناه: قد أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم. وحلالا: نصب على الحال من المغنوم، أو صفة للمصدر، أى أكلا حلالا. وقوله إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ معناه أنكم إذا اتقيتموه بعد ما فرط منكم من استباحة الفداء قبل أن يؤذن لكم فيه، غفر لكم ورحمكم وتاب عليكم.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٧٠]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠)
فِي أَيْدِيكُمْ في ملكتكم، كأن أيديكم قابضة عليهم. وقرئ: من الأسرى فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً خلوص إيمان وصحة نية يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ من الفداء، إما أن يخلفكم في الدنيا أضعافه، أو يثيبكم في الآخرة. وفي قراءة الأعمش: يثبكم خيراً. وعن العباس رضى الله عنه أنه قال: كنت مسلماً، لكنهم استكرهوني. فقال رسول الله ﷺ «إن يكن ما تذكره حقا فالله يجزيك» فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا «١» وكان أحد الذين ضمنوا إطعام أهل بدر وخرج بالذهب لذلك. وروى أن رسول الله ﷺ قال للعباس: «افد ابني أخيك عقيل بن أبى طالب ونوفل بن الحارث، فقال: يا محمد، تركتني أتكفف قريشاً ما بقيت. فقال له: فأين الذهب الذي دفعته إلى أمّ الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها:
لا أدرى ما يصيبني في وجهى هذا، فإن حدث بى حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل، فقال العباس وما يدريك؟ قال «أخبرنى به ربى»
قال العباس: فأنا أشهد أنك صادق، وأن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، والله لم يطلع عليه أحد إلا الله، ولقد دفعته إليها في سواد الليل، ولقد كنت مرتاباً في أمرك، فأمّا إذ أخبرتنى بذلك فلا ريب. قال العباس رضى الله عنه: فأبدلنى الله خيراً من ذلك، لي الآن عشرون عبداً، إن أدناهم ليضرب في عشرين ألفاً، وأعطانى زمزم ما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربى «٢». وروى أنه قدم على رسول الله
(١). أخرجه ابن إسحاق في المغازي، والحاكم من طريقه- حدثني يحيى بن عباد عن أبيه عن عائشة قالت:
لما بعث أهل مكة في فداء أسرهم وبعثت زينب في فداء أبى العاص قال العباس يا رسول الله إنى كنت مسلما. فذكره
(٢). هو الذي قبله بتمامه بالإسناد المذكور. ورواه أبو نعيم في الدلائل من طريق إسحاق: حدثني بعض أصحابنا عن مقسم عن ابن عباس. بمعناه مطولا. ورواه ابن مردويه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس بمعناه، وفيه محمد بن حميد الرازي، وهو ضعيف، وقوله «وكان العباس أحد الذين ضمنوا إطعام بدر، وخرج بالذهب لذلك» لم أجد هذا.
صلى الله عليه وسلم مال البحرين ثمانون ألفاً، فتوضأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرقه، وأمر العباس أن يأخذ منه ما قدر على حمله، وكان يقول: هذا خير مما أخذ منى وأرجو المغفرة «١» وقرأ الحسن وشيبة: مما أخذ منكم، على البناء للفاعل.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٧١]
وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١)
وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ نكث ما بايعوك عليه من الإسلام والردّة واستحباب دين آبائهم فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ في كفرهم به ونقض ما أخذ على كل عاقل من ميثاقه فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ كما رأيتم يوم بدر فسيمكن منهم إن أعادوا الخيانة. وقيل: المراد بالخيانة منع ما ضمنوا من الفداء.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٧٢]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢)
الذين هاجروا: أى فارقوا أوطانهم وقومهم حبا لله ورسوله: هم المهاجرون. والذين آووهم إلى ديارهم ونصروهم على أعدائهم: هم الأنصار بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أى يتولى بعضهم بعضاً في الميراث، وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون ذوى القرابات، حتى نسخ ذلك بقوله تعالى وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ وقرئ: من ولايتهم، بالفتح والكسر، أى من توليهم في الميراث. ووجه الكسر أن تولى بعضهم بعضا شبه بالعمل والصناعة، كأنه بتوليه صاحبه يزاول أمراً ويباشر عملا فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ فواجب عليكم أن تنصروهم على المشركين إِلَّا عَلى قَوْمٍ منهم بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عهد فإنه لا يجوز لكم نصرهم عليهم لأنهم لا يبتدؤون بالقتال، إذ الميثاق مانع من ذلك.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٧٣]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣)
(١). أخرجه الطبري حدثنا بشرين بن معاذ حدثنا يزيد. حدثنا سعد بن أبى عروبة. عن قتادة هكذا. وروى الحاكم في فضائل العباس من طريق سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال. عن أبى موسى «أن العلاء بن الحضرمي بعث إلى رسول الله ﷺ من البحرين بثمانين ألفا فأمر بها فنثرت على الحصير ونودي بالصلاة... الحديث»
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ظاهره إثبات الموالاة بينهم كقوله تعالى في المسلمين أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ومعناه: نهى المسلمين عن موالاة الذين كفروا وموارثتهم وإيجاب مباعدتهم ومصارمتهم وإن كانوا أقارب، وأن يتركوا يتوارثون بعضهم بعضا ثم قال:
إِلَّا تَفْعَلُوهُ أى إلا تفعلوا ما أمرتكم به من تواصل المسلمين وتولى بعضهم بعضاً حتى في التوارث، تفضيلا لنسبة الإسلام على نسبة القرابة ولم تقطعوا العلائق بينكم وبين الكفار.
ولم تجعلوا قرابتهم كلا قرابة تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة، لأنّ المسلمين ما لم يصيروا يداً واحدة على الشرك، كان الشرك ظاهراً والفساد زائداً. وقرئ كثير بالثاء.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٧٤ الى ٧٥]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥)
أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لأنهم صدقوا إيمانهم وحققوه، بتحصيل مقتضياته من هجرة الوطن ومفارقة الأهل والانسلاخ من المال لأجل الدين، وليس بتكرار لأن هذه الآية واردة للثناء عليهم والشهادة لهم «١» مع الموعد الكريم، والأولى للأمر بالتواصل وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ يريد اللاحقين بعد السابقين إلى الهجرة، كقوله وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ ألحقهم بهم وجعلهم منهم تفضلا منه وترغيبا وَأُولُوا الْأَرْحامِ أولو القرابات أو أولى بالتوارث، وهو نسخ للتوارث بالهجرة والنصرة فِي كِتابِ اللَّهِ تعالى في حكمه وقسمته. وقيل في اللوح. وقيل في القرآن، وهو آية المواريث وقد استدل به أصحاب أبى حنيفة رحمه الله على توريث ذوى الأرحام.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم» من قرأ سورة الأنفال وبراءة فأنا شفيع له يوم القيامة، وشاهد أنه بريء من النفاق وأعطى عشر حسنات بعدد كل منافق ومنافقة، وكان العرش وحملته يستغفرون له أيام حياته في الدنيا» «٢»
(١). قوله «والشهادة لهم» لعله: والشهادة لهم بالايمان. (ع)
(٢). ذكرت أسانيده في تفسير آل عمران.
240
سورة التوبة
(مدنية [إلا الآيتين الأخيرتين فمكيتان] وآياتها ١٣٠ وقيل ١٢٩ [نزلت بعد المائدة] ) لها عدة أسماء: براءة، التوبة، المقشقشة، المبعثرة، المشردة، المخزية، الفاضحة، المثيرة، الحافرة، المنكلة، المدمدمة، سورة العذاب، لأنّ فيها التوبة على المؤمنين، وهي تقشقش من النفاق أى تبرئ منه، وتبعثر عن أسرار المنافقين تبحث «١» عنها وتثيرها وتحفر عنها وتفضحهم وتنكلهم وتشرد بهم وتخزيهم وتدمدم عليهم. وعن حذيفة رضى الله عنه: إنكم تسمونها سورة التوبة، وإنما هي سورة العذاب، والله ما تركت أحداً إلا نالت منه. فإن قلت: هلا صدرت بآية التسمية كما في سائر السور؟ قلت: سأل عن ذلك عبد الله بن عباس عثمان رضى الله عنهما فقال: إنّ رسول الله ﷺ كان إذا نزلت عليه السورة أو الآية قال: اجعلوها في الموضع الذي يذكر فيه كذا وكذا، وتوفى رسول الله ﷺ ولم يبين لنا أين نضعها، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، «٢» فلذلك قرنت بينهما، وكانتا تدعيان القرينتين «٣». وعن أبى كعب: إنما توهموا ذلك، لأنّ في الأنفال ذكر العهود وفي براءة نبذ العهود. وسئل ابن عيينة رضى الله عنه فقال: اسم الله سلام وأمان، فلا يكتب في النبذ والمحاربة، قال تعالى وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً قيل: فإنّ النبي ﷺ قد كتب إلى أهل الحرب: بسم الله الرحمن الرحيم. قال: إنما ذلك ابتداء يدعوهم ولم ينبذ إليهم، ألا تراه يقول وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى «٤» فمن دعى إلى الله عزّ وجلّ فأجاب ودعى «٥» إلى الجزية فأجاب فقد اتبع الهدى، وأمّا النبذ فإنما هو البراءة
(١). قوله «تبحث» لعله أى تبحث. (ع)
(٢). قوله «شبيهة بقصتها» هذا الضمير للأنفال، بدليل التشبيه، وإن لم يجر لها ذكر هنا. وعبارة الخازن ولم يبين لنا أين نضعها، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت التوبة من آخر ما نزل من القرآن، وكانت قصتها... الخ. (ع)
(٣). أخرجه أصحاب السنن، وابن حبان وأحمد وإسحاق وأبو يعلى والبزار. من طريق يوسف بن مهران.
ويزيد الفارسي. عن ابن عباس. قال «سألت عثمان بن عفان، ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما فذكر الحديث بطوله سوى قوله وكانتا تدعيان القرينتين، فلم يذكرها إلا إسحاق [.....]
(٤). هو في حديث ابن عباس الطويل عن أبى سفيان. وهو متفق عليه. وفيه فقرأ الكتاب فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى هر قل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى. الحديث.
(٥). قوله «ودعى»
لعله: أو دعى. (ع)
241
Icon