ﰡ
٨٧ - قال الله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (٥)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنَّسَائِي عن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: نزلت فيَّ أربع آيات. أصبت سيفًا فأتى به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال: يا رسول اللَّه نفِّلنيه. فقال: (ضعه ثم قام فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ضعه من حيث أخذتَه). ثم قام فقال: نفلنيه يا رسول اللَّه فقال: (ضعه) فقام. فقال: يا رسول اللَّه نفلنيه. أَأُجعل كمن لا غناء له؟ فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ضعه من حيث أخدْته) قال: فنزلت هذه الآية: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ).
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآيات الكريمة، وقد أورد المفسرون هذه الأسباب عند تفسيرها كالطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور والشنقيطي.
فأما حديث عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقد قال عنه البخاري: لا يثبت، كما تقدم ذلك في دراسة إسناده.
فيبقى النظر حينئذٍ بين حديث سعد في أن الآية نزلت فيه، وحديث ابن عباس في أن الآية نزلت في اختلاف الصحابة في المغنم يوم بدر.
فأما حديث سعد فيعضده أمور:
أ - أن أحد رواته الإمام مسلم.
ب - أن سعدًا صاحب القصة، وصاحب القصة غالباً أعلم بها من غيره.
جـ - أن سعدًا كان يصرِّح بنزول أربع آيات فيه، هذه الآية إحداها.
وأما حديث ابن عبَّاسٍ فيؤيده لفظ الآية فإن الله قال في كتابه يسألونك ولم يقع في حديث سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سؤال، ولهذا قال القرطبي عن حديث سعد: (يقتضي أن يكون ثَمَّ سؤال عن حكم الأنفال، ولم يكن هنالك سؤال عن ذلك على ما يقتضيه هذا الحديث، وقال بعضهم: إن (عن) بمعنى (من) لأنه إنما سأل شيئًا معينًا وهو السيف) اهـ.
فإن قيل: حديث ابن عبَّاسٍ لم يذكر فيه أنهم سألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن حكم هذا؟
فالجواب: أن هذا صحيح، لكن عند التنازع، ليس لهم إلا أن يسألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امتثالاً لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (٥٩).
ثم في السياق أيضاً قول اللَّه: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) وليس في حديث سعد نزل، أو فساد ذات البين، بخلاف حديث ابن عبَّاسٍ فإنهم تنازعوا في المغنم (فقال المشيخة: كنا ردءًا لكم لو انهزمتم لفئتم إلينا فلا تذهبوا بالمغنم ونبقى، فأبى الفتيان وقالوا: جعله رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لنا) وإلى هذا الخلاف أشار عدد من المفسرين نظرا إلى سياق الآية:
قال ابن عطية: (فيجيء من مجموع هذه الآثار أن نفوس أهل بدر تنافرت ووقع فيها ما يقع في نفوس البشر من إرادة الأَثرة لا سيما من أبلى فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - الآية فرضي المسلمون وسلموا، فأصلح اللَّه ذات بينهم، ورد عليهم غنائمهم). اهـ.
وقال السعدي: (وكانت هذه الآيات في هذه السورة، قد نزلت في قصة بدر أول غنيمة كبيرة غنمها المسلمون من المشركين، فحصل بين بعض المسلمين فيها نزاع، فسألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنها فأنزل الله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ) كيف تقسم وعلى من تقسم؟) اهـ.
وقال الشنقيطي: (جمهور العلماء على أن الآية نزلت في غنائم بدر لما اختلف الصحابة فيها فقال بعضهم: نحن الذين حُزْنا الغنائم وحويناها فليس لغيرنا فيها نصيب، وقالت المشيخة: إنا كنا لكم ردءاً لو هزمتم للجأتم إلينا فاختصموا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) اهـ.
وبما تقدم يتبين أن أسعد الدليلين بالآية وأحرى الحديثين بها حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما بين الآية والحديث من الموافقة والمطابقة.
فإن قيل: كيف تجيب عن حديث سعد بأن الآية نزلت فيه؟
فالجواب: أن لفظ الترمذي لحديث سعد جاء فيه: قال: (لما كان يوم بدر جئت بسيف فقلت: يا رسول الله، إن الله قد شفى صدري من المشركين أو نحو هذا، هب لي هذا السيف، فقال: (هذا ليس لي ولا لك) فقلت: عسى أن يُعطَى هذا من لا يبلي بلائي فجاءني الرسول فقال: (إنك سألتني وليس لي، وقد صار لي وهو لك) قال: فنزلت (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ).
فقول رسول الله - ﷺ -: (هذا ليس لي ولا لك)، هنا لم يقع التنازع بين المسلمين بعدُ في شأن الغنائم، فلما وقع وأنزل اللَّه فيهم الآية جاء إليه وقال له: قد صار لي وهو لك.
وقوله: (فنزلت يسألونك عن الأنفال) ظناً منه أنها نزلت فيه لقرب قصته من قصتهم وإلا فالأمر ليس كما ظن.
وربما دلّ هذا اللفظ على أن قصة سعد ليست سبب نزولها، ولهذا قال له رسول الله - ﷺ -: (هذا ليس لي ولا لك) ولو كان سؤال سعد سبب نزولها لقال فنزلت الآية، لكنه أخَّر النزول حتى قال فجاءني الرسول فقال: (إنك سألتني وليس لي وقد صار لي وهو لك) فدل هذا على وقوع فاصل الله أعلم بزمنه.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآيات الكريمة حديث ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في اختلاف الصحابة وتنازعهم يوم بدر في الغنائم، وذلك لصحة سنده، وموافقته لسياق القرآن، واعتماد جمهور العلماء عليه كما قاله الشنقيطي، واللَّه تعالى أعلم.
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج مسلم وأحمد والترمذي عن عبد اللَّه بن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر، نظر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه (اللهم انجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تُهْلِك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض) فما زال يهتف بربه، مادًّا يديه، مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر. فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه. ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي اللَّه كذاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ) فأمده اللَّهُ بالملائكة.
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد أورد بعض المفسرين هذا الحديث في سبب نزول هذه الآية منهم الطبري والبغوي والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
* النتيجة:
أن هذا الحديث سبب لنزول الآية الكريمة لصحة إسناده وتصريحه بالنزول وموافقته لسياق القرآن، واعتماده عند المفسرين والله أعلم.
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج النَّسَائِي عن عبد الله بن ثعلبة بن صُعير قال: كان المستفتحَ يوم بدر أبو جهل، وإنه قال حين التقى القوم: اللهم أيُّنا كان أقطع للرحم، وآتى لما لا نعرف فافتح الغد، وكان ذلك استفتاحه فأنزل اللَّه: (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية الكريمة. وقد أورد جمهور المفسرين هذا
قال الطبري: (يقول تعالى ذكره للمشركين الذين حاربوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ببدر إن تستحكموا الله على أقطع الحزبين للرحم وأظلم الفئتين وتستنصروه عليه فقد جاءكم حكم الله ونصره المظلوم على الظالم، والمحق على المبطل) اهـ.
وقال البغوي: (ذلك أن أبا جهل - لعنه الله - قال يوم بدر لما التقى الناس: اللهم أيّنا أفخر؟ يعني نفسه ومحمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاطعاً للرحم وأتانا بما لم نعرف فأحنه الغداة فكان هو المستفتح على نفسه) اهـ.
وقال ابن عطية: (قال أكثر المتأولين هذه الآية مخاطبة للكفار أهل مكة وذلك أنه روي أن أبا جهل كان يدعو أبداً في محافل قريش ويقول اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يُعرف فأهلكه واجعله المغلوب يريد محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإياهم... ثم ذكر غيره... إلى أن قال: فقال لهم الله إن تطلبوا الفتح فقد جاءكم أي كما ترونه عليكم لا لكم) اهـ.
وقال القرطبي: (والصحيح أنه خطاب للكفار فإنهم لما نفروا لنصرة العير تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أهدى الطائفتين وأفضل الدينين) اهـ.
وقال ابن كثير: (يقول تعالى للكفار: (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) أي تستنصروا وتستقضوا اللَّه وتستحكموه أن يفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين فقد جاءكم ما سألتم ثم ساق الحديث وغيره معه) اهـ.
وقال الشنقيطي: (المراد بالفتح هنا في هذه الآية عند جمهور العلماء: الحكم وذلك أن قريشاً لما أرادوا الخروج إلى غزوة بدر تعلقوا بأستار الكعبة وزعموا أنهم قطان بيت الله الحرام، وأنهم يسقون الحجيج ونحو ذلك، وأن محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرق الجماعة، وقطع الرحم، وسفّه الآباء، وعاب الدين، ثم سألوا اللَّه أن يحكم بينهم وبين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن يهلك الظالم منهم وينصر
وقال ابن عاشور: (وذكر المفسرون في سبب نزولها أن أبا جهل وأصحابه لما أزمعوا الخروج إلى بدر استنصروا الله تجاه الكعبة، وأنهم قبل أن يشرعوا في القتال يوم بدر استنصروا اللَّه أيضاً وقالوا: ربنا افتح بيننا وبين محمد وأصحابه، فخوطبوا بأن قد جاءهم الفتح على سبيل التهكم أي الفتح الذي هو نصر المسلمين عليهم) اهـ.
قلت: وما ذكره بعض المفسرين من أن الاستفتاح كان من قريش لا يعكر على الحديث الذي معنا وفيه أن سببها استفتاح أبي جهل؛ لأن ابن عطية ذكر أن أبا جهل كان يدعو أبداً في محافل قريش فربما كان النزول عند دعائه هو لأنه أكثرهم استفتاحاً، وإلا فقد أشار القرطبي وابن عاشور إلى أن المشركين يستفتحون أيضاً.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية الكريمة استفتاح أبي جهل وغيره المذكور في الحديث وهو وإن كان مرسلاً لكنه يتأيد بلفظ الآية، واحتجاج المفسرين من السلف والخلف به واللَّه أعلم.
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج أحمد عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في قوله: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ) قال: تشاورت قريش ليلةً بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح، فأثبتوه بالوثاق. يريدون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال بعضهم: بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل أخرجوه. فأطلع الله - عَزَّ وَجَلَّ - نبيه على ذلك، فبات عليَّ على فراش النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلك الليلة، وخرج النبي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون علياً يحسبونه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوا علياً، رد الله مكرهم، فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري. فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل خُلِط عليهم فصعدوا في الجبل، فمرُّوا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل هاهنا، لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليالٍ.
هكذا جاء في تفسير الآية الكريمة، وقد أورد الطبري وابن كثير الحديث بنصه.
قال ابن العربي مصرحًا بسبب نزولها: (قد بينا أنها مكية، وسبب نزولها والمراد بها ما روي أن قريشًا اجتمعت في دار الندوة، وقالت: إن أمر محمد قد طال علينا. فماذا ترون؟ فأخذوا في كل جانب من القول فذكر الحديث... ) اهـ.
وقال ابن عطية: (وهذا المكر الذي ذكره اللَّه في هذه الآية هو بإجماع من المفسرين إشارة إلى اجتماع قريش في دار الندوة بمحضر إبليس في صورة شيخ نجدي على ما نص ابن إسحاق في سيره، الحديث بطوله وهو الذي كان خروج رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من مكة بسببه) اهـ.
وقال القرطبي: (هذا إخبار بما اجتمع عليه المشركون من المكر بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في دار الندوة فاجتمع رأيهم على قتله فبيتوه، ورصدوه على باب منزله طول ليلتهم ليقتلوه إذا خرج... حتى ذكر الحديث) اهـ.
وقال السعدي: (واذكر أيها الرسول ما منّ الله به عليك إذ يمكر بك الذين كفروا حين تشاور المشركون في دار الندوة فيما يصنعون بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إما أن يثبتوه عندهم بالحبس ويوثقوه، وإما أن يقتلوه فيستريحوا - بزعمهم من دعوته - وإما أن يخرجوه ويجلوه من ديارهم، فكل أبدى من هذه الآراء رأيا رآه.
فاتفق رأيهم على رأي رآه شريرهم، أبو جهل - لعنه اللَّه - وهو أن يأخذوا من كل قبيلة من قبائل قريش فتى ويعطوه سيفاً صارمًا ويقتله الجميع قتلة رجل واحد ليتفرق دمه في القبائل، فيرضى بنو هاشم ثمَّ بديته فلا يقدرون على مقاومة جميع قريش، فترصدوا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الليل ليوقعوا به إذا قام من فراشه، فجاء الوحي من السماء، وخرج عليهم فذر على رؤوسهم التراب
وقال ابن عاشور: (أشارت الآية إلى تردد قريش في أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين اجتمعوا للتشاور في ذلك بدار الندوة في الأيام الأخيرة قُبيل هجرته) اهـ.
وبما تقدم من نصوص العلماء يتبين أن ابن العربي وحده ذهب إلى أن القصة سبب لنزول الآية، وما عداه من العلماء لم يذكروا السببية، لكنهم أشاروا إلى أن الآية تتحدث عن مكر قريش بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حبساً أو قتلاً أو نفياً وإخراجاً وهذا هو الصحيح فإنه لا شيء يدل على أن الآية نزلت بسبب تلك القصة بل الدليل يدل على عكس ذلك فإن هذا المكر والتشاور كان بمكة، والآية التي تتحدث عن ذلك مدنية ولهذا قال البغوي:
(واذكر إذ يمكر بك الذين كفروا وإذ قالوا اللهم؛ لأن هذه السورة مدنية وهذا المكر والقول إنما كانا بمكة ولكن الله ذكرهم بالمدينة كقوله تعالى: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ) اهـ.
وإذا كان الأمر كذلك فكيف تنزل آية مدنية بسبب قصة مكية هذا خلاف المعهود عند العلماء في سبب النزول.
ثم يضاف إلى هذا أمران آخران:
الأول: أن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لم يذكر سبب النزول ولم يصرح به بل ذكر الآية من باب التفسير لها.
الثاني: أن الحديث ضعيف الإسناد فلا يحتج به على سبب النزول.
* النتيجة:
أن الحديث ليس سبباً لنزول الآية، لضعف سنده، وطول الأمد بين القصة ونزول الآية، مع ترك جل المفسرين الاحتجاج به على السببية واللَّه أعلم.
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري ومسلم عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال أبو جهل: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. فنزلت: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة، وقد أورد جمهور المفسرين هذا الحديث، لكنهم مع ذلك مختلفون فيه فمنهم من يذكر نزول الآية بسبب هذا القول ومنهم من أغفل ذكر النزول، ومنهم من يذكر اسم أبي جهل والنضر كالبغوي والقرطبي وابن كثير وابن عاشور. ومنهم من يذكر النضر بن الحارث وحده كالطبري وابن عطية.
قال الطبري: (يقول تعالى ذكره: واذكر يا محمد أيضًا ما حل بمن قال: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) إذ مكرت لهم فأتيتهم بعذاب أليم، وكان ذلك العذاب
وقال البغوي:
(نزلت في النضر بن الحارث من بنى عبد الدار إلى أن قال | وروى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الذي قاله أبو جهل - لعنه الله -) اهـ. |
وترتب أن يقول النضر بن الحارث مقالةً وينسبها القرآن إلى جميعهم لأن النضر كان فيهم موسوماً بالنبل والفهم مسكونًا إلى قوله، فكان إذا قال قولاً قاله منهم كثير واتبعوه عليه حسبما يفعله الناس أبداً بعلمائهم وفقهائهم) اهـ.
وقال القرطبي: (واختلف فيمن قال هذه المقالة فقال مجاهد وابن جبير: قائل هذا هو النضر بن الحارث، أنس بن مالك: قائله أبو جهل رواه البخاري ومسلم) اهـ.
وكذلك ابن كثير لكنه قدم القول بأن القائل أبو جهل ثم أعقبه بقول من قال: إنه النضر بن الحارث.
وقال ابن عاشور: (قائل هذه المقالة هو النضر بن الحارث، صاحب المقالة السابقة وقالها أيضاً أبو جهل، وإسناد القول إلى جميع المشركين من حيث إنهم كانوا يؤيدونه ويحكونه ويحاكونه) اهـ.
وقال القرطبي: (قول أبي جهل: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) غلب على أبي جهل جهلُه فساء قولُه وفعلُه انظر كيف غلبت عليه جهالتُه وشقوته، فاستجيبت منه دعوته، فجدل صريعاً وسحب على وجهه إلى جهنم سحبًا قصيفاً) اهـ.
وقال ابن حجر: (قال أبو جهل: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا.. ) إلخ ظاهر
وبعد ذكر أقوال العلماء لا بد من تحرير أمرين:
الأول: من هو القائل؟ الثاني: هل هذه المقالة هي سبب نزول الآية الكريمة؟ أما الأول: فقد صح الحديث عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بأنه أبو جهل، لكن يعكر على هذا أن أنساً أنصاري لا يعرف أبا جهل ولم يسمع منه ثم هو صغير السن وقتها، وهذا ربما هو الذي حمل أكثر المفسرين على القول بأنه النضر بن الحارث لأن الذي قال هذا ابن عبَّاسٍ وهو وإن كان صغيراً وقتها لكن الله علمه التأويل وميّزه به، ثم ابن عبَّاسٍ أيضاً يسمع هذا الكلام من أبيه وغيره وهو من أهل مكة، وأهل البلد عادةً أدرى بما فيه، ومما يؤيد هذا أن الآية التي سبقتها قالوا إنها تتحدث عن النضر بن الحارث فهو الذي قال: (لو نشاء لقلنا مثل هذا) وإذا كان هذا قوله فليكن ما بعده قولاً له أيضاً وهذا لا يمنع أن يكون أبو جهل قال هذا تلقفا لمقالة النضر فسمعه من سمعه فظن أنه قوله أصلاً.
أما الثاني: وهو هل هذا الدعاء سبب نزول الآية؟
فالجواب: أن المعروف عند المفسرين أن سورة الأنفال نزلت ببدر فقد أخرج البخاري عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عبَّاسٍ: سورة الأنفال. قال: نزلت في بدر.
قال ابن عاشور: (وقد اتفق رجال الأثر كلهم على أنها نزلت في غزوة
وإذا كان الأمر كذلك فكيف يكون الدعاء هذا سبباً لنزول آية بعده بعام ونصف؟ هذا ليس معهوداً وليس مصطلحاً عليه عند العلماء.
فإن قال قائل: هذا الدعاء لم يكن بمكة إنما كان ببدر عند حضورهم لحرب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى هذا فليس بين الدعاء والنزول أمد.
فالجواب: أن هذا الإيراد غير صحيح بل الدعاء كان بمكة بدلالة الآيات نفسها فإن الله قال: (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) فقال اللَّه: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ).
فعند الدعاء كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيهم، ولم يكن فيهم إلا حين كان بمكة قبل الهجرة.
ثم أيضاً قول الله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) لو كان الاستغفار يوم بدر لما وقع عليهم العذاب من القتل والأسرة لأن الاستغفار يمنع العذاب بنص الآية، فدل هذا على أن الاستغفار كان في الزمن الذي كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه بمكة وأضيف أيضاً لما سبق أن اللَّه بدأ الآية بقوله (وإذ) وهي ظرف لما مضى من الزمان، ومثلها قبلها (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ... ) الآية فالآيات تذكِّر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما ناله من الكافرين، وبرحمة اللَّه به وإحسانه إليه إذ أنجاه من المجرمين والحمد للَّه رب العالمين.
* النتيجة:
أن الحديث المذكور ليس سبب نزول الآية الكريمة لوجود زمن طويل بين القصة والنزول، بل الآية تذكير للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما جرى بينه وبين المشركين ولعل هذا هو سبب ترك المفسرين لهذا الحديث في السببية والتفاتهم لحديث النضر بن الحارث والله أعلم.
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج البخاري عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: لما نزلت: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) شق ذلك على المسلمين حين فرض عليهم أن لا يفر واحد من عشرة، فجاء التخفيف، فقال: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) قال: فلما خفف الله عنهم من العدة، نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في نزول هذه الآية. وقد أورد الطبري والقرطبي وابن كثير هذا الحديث على تفاوت بينهم في سياقه طولاً وقصرًا.
قال البغوي: (كان هذا يوم بدر فرض اللَّه على الرجل الواحد من المؤمنين قتال عشرة من الكافرين، فثقلت على المؤمنين فخفف اللَّه عنهم فنزل: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا) اهـ.
وقال ابن العربي: (قال قوم: كان هذا يوم بدر ثم نسخ، وهذا خطأ من قائله لأن المسلمين كانوا يوم بدر ثلاثمائة ونيِّفًا، والكفار كانوا تسعمائة ونيِّفًا فكان للواحد ثلاثة، وأما هذه المقابلة وهي الواحد بالعشرة فلم ينقل أن المسلمين صافُّوا المشركين عليها قط، ولكن الباري فرض ذلك عليهم أولاً،
قال ابن عاشور: (هذه الآية نزلت بعد نزول الآية التي قبلها بمدة. قال في الكشاف: (وذلك بعد مدة طويلة). ولعله بعد نزول جميع سورة الأنفال، ولعلها وضعت في هذا الموضع لأنها نزلت مفردة غير متصلة بآيات سورة أخرى، فجعل لها هذا الموضع لأنه أنسب بها لتكون متصلة بالآية التي نسخت هي حكمَها، ولم أرَ من عيَّن زمن نزولها ولا شك أنه كان قبل فتح مكة فهي مستأنفة استئنافاً ابتدائياً محضاً لأنها آية مستقلة) اهـ.
قال ابن حجر: (قوله: (شق ذلك على المسلمين) زاد الإسماعيلي من طريق سفيان ابن أبي شيبة عن جرير (جهد الناس ذلك وشق عليهم).
قوله: (فجاء التخفيف) في رواية الإسماعيلي: فنزلت الآية الأخرى - وزاد - ففرض عليهم أن لا يفر رجل من رجلين، ولا قوم من مثلهم) اهـ.
والظاهر - واللَّه أعلم - أن قول البغوي كان هذا يوم بدر فرض اللَّه على الرجل الواحد من المؤمنين قتال عشرة من الكافرين قولٌ صحيح فقد تقدم في السبب السابق أن سورة الأنفال نزلت في بدر.
وأن قول ابن العربي: لم ينقل أن المسلمين صافُّوا المشركين عليها قط، ولكن الباري فرض ذلك عليهم أولاً، أن هذا صحيح.
وأما قول ابن عاشور: أنها نزلت بعد الآية التي قبلها بمدة، ونقله عن صاحب الكشاف (وذلك بعد مدة طويلة) فلا أدري من أين أتى بهذا؟ وعلى أيِّ شيء يعتمد؟
ثم هو بعد سطرين فقط يقول: ولم أرَ من عيَّن زمن نزولها، هذا تردد يستغرب عليه.
أما قول ابن حجر في رواية الإسماعيلي: (جهد الناس ذلك وشق عليهم، إلى قوله: فنزلت الآية الأخرى) فهذا صحيح، وهو نظير قولهم
فإن قال قائل: ما قولك في قوله تعالى: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا) فالضعف يظهر عند التطبيق، والتخفيف بعده، وأنت صححت قول ابن العربي في أن هذا لم يقع؟
فالجواب: أن الضعف يظهر بالقول كما يظهر بالفعل، وفي القصة الأولى أظهر الصحابة ضعفهم بأقوالهم فقالوا: (وقد أُنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها).
وإذا كان الأمر كذلك فإني لا أرى ما يمنع أن يكون ثبات الواحد للعشرة من هذا الباب فلما شق على المسلمين فرضُ ذلك عليهم نسخه اللَّه بقوله: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا).
ولعل مما يؤيد قولي: قوله: (شق ذلك على المسلمين)، وقوله: (جهد الناس ذلك وشق عليهم) فإن هذا يشير إلى أن التخفيف جاء سريعاً. ولم يتأخر كما اختاره الزمخشري، وهذا من رحمة اللَّه بهذه الأمة التي رفع عنها الآصار والأغلال التي كانت على غيرهم ممن سبقهم. بل روح الشريعة وقلبها، وبها اليسر والسماحة ورفع الخرج، فالحمد للَّه أولاً وآخراً، وظاهرًا، وباطناً.
* النتيجة:
أن سبب نزول قوله: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ) أنه قد شق على المسلمين
* * * * *
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج مسلم وأحمد وأبو داود عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر، نظر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: (اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم آت ما وعدتني. اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض) فما زال يهتف بربه، مادّا يديه، مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كذاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ) فأمده الله بالملائكة.
قال أبو زُمَيْل: فحدثني ابن عبَّاسٍ قال: بينما رجل من المسلمين يومئذٍ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه. إذ سمع ضربة بالسوط فوقه. وصوت الفارس يقول: أَقْدِم حيزوم. فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقياً. فنظر إليه فإذا هو قد خُطم أنفه، وشق وجهه كضربة السوط فاخضرَّ ذلك أجمع،
قال أبو زميل: قال ابن عبَّاسٍ: فلما أسروا الأسارى قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي بكر وعمر (ما ترون في هؤلاء الأسارى؟) فقال أبو بكر: يا نبي اللَّه هم بنو العم والعشيرة أَرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوةً على الكفار فعسى الله أن يهديهم للإسلام. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ما ترى يا ابن الخطاب) قلت: لا والله يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبو بكر. ولكني أرى أن تُمكِّنَّا فنضرب أعناقهم فتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه. وتمكني من فلان (نسيباً لعمر) فأضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهوي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما قال أبو بكر ولم يهوَ ما قلت. فلما كان من الغد جئت فإذا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت: يا رسول الله أخبرني من أيِّ شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاءً تباكيت لبكائكما. فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَبكي للذي عرض عليَّ أصحابك من أخذهم الفداء. لقد عُرض عليَّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة) شجرة قريبة من نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) إلى قوله.. (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا) فأحل اللَّه الغنيمة لهم.
وأخرج أحمد والترمذي نحوه من حديث عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
٢ - وأخرج أحمد والترمذي والنَّسَائِي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم تحل الغنائم لقوم سود الرؤوس قبلكم، كانت تنزل النار من السماء فتأكلها، فلما كان يوم بدر أسرع الناس في الغنائم فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا).
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية. وقد أورد جمهور المفسرين هذه الأحاديث عند تفسيرها منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
وقد دلّ حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على صلة الغنائم بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا).
ومال إلى هذا الطبري فقال: (لولا قضاء من اللَّه سبق لكم أهل بدر في اللوح المحفوظ بأن الله مُحِلٌّ لكم الغنيمة، وأن اللَّه قضى فيما قضى، أنه لا يضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون وأنه لا يعذب أحدًا شهد المشهد الذي شهدتموه ببدر مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناصرًا دين اللَّه لنالكم من اللَّه بأخذكم الغنيمة والفداء عذاب عظيم) اهـ.
وقال ابن العربي: (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ) في إحلال الغنيمة لعذَّبتم بما اقتحمتم فيها مما ليس لكم اقتحامه إلا بشرع) اهـ.
وقال القرطبي: (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ) اختلف الناس في كتاب اللَّه السابق على أقوال أصحها ما سبق من إحلال الغنائم، فإنها كانت محرمة على من قبلنا فلما كان يوم بدر أسرع الناس إلى الغنائم فأنزل الله - عزَّ وجلَّ -: (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ) أي بتحليل الغنائم) اهـ.
وعندي - والله تعالى أعلم - أن قوله تعالى: (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) له صلة باستبقاء الأسرى وأخذ الفداء عن ذلك، ولا صلة له بالغنيمة لوجهين:
الأول: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعمر: أبكي للذي عرض عليَّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض عليَّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة.
فالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر أخذهم الفداء الناشئ عن استبقاء الرجال وربط العذاب بذلك، ولم يأتِ للغنائم ذكر، وأولى ما يُفسر به القرآن الصحيح من السنة.
الثاني: أن الله ذكر الفداء بقوله: (أَخَذْتُمْ) وهو تعبير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر الغنيمة بقوله: (غَنِمْتُمْ) واختلاف المباني يدل على اختلاف المقصود من المعاني.
فإن قال قائل: العذاب المستحق عليهم بأخذهم الفداء ما الذي رفعه؟
فالجواب: (الكتاب السابق من أنه لا يعذب من غير أن يتقدم بالإنذار) اهـ.
وهنا أسئلة ثلاثة تنتظر الجواب:
الأول: جاء في حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فلما كان يوم بدر أسرِع الناس في الغنائم فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) فالحديث دلّ على صلة الآية بالغنائم.
فالجواب: أن الآيات نزلت دفعة واحدة فظن بعض الناس أن لها صلةً بها فحدّث بذلك وأبو هريرة لم يشهد هذا بنفسه لأنه لم يُسلم بعد، والذي يحمل على هذا الظن أن الله ذكر بعدها أكل الغنائم فقال: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا) فالتبس هذا بهذا.
فإن قيل: هل سبق إلى هذا القول أحد من المفسرين؟
وقال في موضع آخر: (والذي أقول في هذا أن العتب لأصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ... ) إلى قوله: (عَظِيمٌ) إنما هو على استبقاء الرجال وقت الهزيمة رغبةً في أخذ المال منهم) اهـ.
فتأمل قوله: (إلى قوله (عَظِيمٌ) إنما هو على استبقاء الرجال رغبة في أخذ المال منهم، فإن هذا عين ما وقع فيه الإشكال.
الثاني: ماذا أفاد قوله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا... )؟
فالجواب: أنه لما وقع التوبيخ عليهم لأخذهم الفداء تحرجوا حتى من الغنيمة فأمسكوا عنها فبين اللَّه لهم حلها بقوله: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا). فأمرهم بالأكل وأحله وطيَّبه.
فإن قال قائل: أفلا يمكن أن يكون اللَّه قد أَحل الغنائم بهذه الآية؟
فالجواب: هذا لا يقال فقد تقدم حديث ابن عبَّاسٍ عند نزول قوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ) فقد اختلف المشيخة والفتيان في المغنم حتى أنزل اللَّه الآية، والقصة متقدمة لأن الذي نزل عليها أول السورة.
بل ذهب بعض أهل العلم إلى أن حِل الغنائم قد تقدم قصة بدر، قال ابن العربي: (وقد كانوا غنموا أول غنيمة في الإسلام حين أرسل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد اللَّه بن جحش في رجب مَقْفله من بدر الأولى، إلى أن قال... وعزل عبد اللَّه لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمس الغنيمة، وقسم سائرها بين أصحابه) اهـ.
قال ابن عطية مؤيدًا: (وكذلك ذكروا في هذه الآيات تحليل المغانم لهذه الأمة ولا أقول ذلك لأن حكم الله تعالى بتحليل المغنم لهذه الأمة قد كان تقدم قبل بدر وذلك في السرية التي قُتل فيها عمرو بن الحضرمي) اهـ.
الثالث: قال اللَّه تعالى: (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا) من المقصود بهذا؟
فالجواب: قال ابن القيم: (وأما بكاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنما كان رحمةً لنزول العذاب لمن أراد بذلك عرض الدنيا، ولم يُرد ذلك رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا أبو بكر، وإن أراده بعض الصحابة، فالفتنة كانت تعم، ولا تصيب من أراد ذلك خاصة، كما هزم العسكر يوم حنين بقول أحدهم: (لن نغلب اليوم من قلة) وبإعجاب كثرتهم لمن أعجبته منهم، فهزم الجيش بذلك فتنة ومحنة ثم استقر الأمر على النصر والظفر) اهـ.
* النتيجة:
أن نزول قوله: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ) إلى قوله: (عَظِيمٌ) كان بشأن أخذ الفداء واستبقاء الأسرى وهو ما دلّ عليه حديث ابن عبَّاسٍ - ربما -.
وأن قوله: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ... ) نزلت رافعةً للحرج الناشئ عن توبيخهم على أخذ الفداء وسبب هذا: النظر في سياق الآيات والوقائع المتعلقة بتاريخ القصة مع صحة الأحاديث، وتصريحها بالنزول واللَّه أعلم.
* * * * *