تفسير سورة الضحى

تفسير الألوسي
تفسير سورة سورة الضحى من كتاب روح المعاني المعروف بـتفسير الألوسي .
لمؤلفه الألوسي . المتوفي سنة 1342 هـ
سورة الضحى
مكية وآيها إحدى عشرة آية بلا خلاف ولما ذكر سبحانه فيما قبلها وسيجنبها الأتقى وكان سيد الأتقين رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عقب سبحانه ذلك بذكر نعمه عز وجل عليه صلى الله تعالى عليه وسلم وقال الإمام لما كانت الأولى سورة أبي بكر رضي الله تعالى عنه وهذه سورة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عقب جل وعلا بها ولم يجعل بينهما واسطة ليعلم أن لا واسطة بين رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم والصديق رضي الله تعالى عنه وتقديم سورة الصديق على سورته عليه الصلاة والسلام لا يدل على أفضليته منه صلى الله تعالى عليه وسلم ألا ترى أنه تعالى أقسم أولا بشيء من مخلوقاته سبحانه ثم أقسم بنفسه عز وجل في عدة مواضع منها السورة السابقة على ما علمت والخدم قد تتقدم بين يدي السادة وكثير من السنن أمر بتقديمه على فروض العبادة ولا يضر النور تأخره عن أغصانه ولا السنان كونه في أطراف مرانه ثم أن ما ذكره زهرة ربيع لا تتحمل الفرك كما لا يخفى.

سورة الضّحى
مكية وآيها إحدى عشرة آية بلا خلاف. ولما ذكر سبحانه فيما قبلها وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى [الليل: ١٧] وكان سيد الأتقين رسول الله صلّى الله عليه وسلم، عقب سبحانه ذلك بذكر نعمه عز وجل عليه صلّى الله عليه وسلم وقال الإمام: لما كانت الأولى سورة أبي بكر رضي الله تعالى عنه وهذه سورة رسول الله صلّى الله عليه وسلم عقب جل وعلا بها ولم يجعل بينهما واسطة ليعلم أن لا واسطة بين رسوله صلّى الله عليه وسلم والصديق رضي الله تعالى عنه، وتقديم سورة الصديق على سورته عليه الصلاة والسلام لا يدل على أفضليته منه صلّى الله عليه وسلم ألا ترى أنه تعالى أقسم أولا بشيء من مخلوقاته سبحانه ثم أقسم بنفسه عز وجل في عدة مواضع منها السورة السابقة على ما علمت، والخدم قد تتقدم بين يدي السادة وكثير من السنن أمر بتقديمه على فروض العبادة ولا يضر النور تأخره عن أغصانه ولا السنان كونه في أطراف مرّانه ثم إن ما ذكره زهرة ربيع لا تتحمل الفرك كما لا يخفى.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالضُّحى تقدم الكلام فيه والمراد به هنا وقت ارتفاع الشمس الذي يلي وقت بروزها للناظرين دون ضوئها وارتفاعها لأنه أنسب بما بعد. وتخصيصه بالإقسام به لأنه شباب النهار وقوله فيه قوة غير قريبة من ضدها. ولذا عد شرفا يوميا للشمس وسعدا ولأنه على ما قالوا الساعة التي كلم الله تعالى فيها موسى عليه السلام وألقى فيه السحرة سجدا لقوله تعالى وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [طه: ٥٩] ففيه مناسبة للمقسم عليه وهو أنه تعالى لم يترك النبي صلّى الله عليه وسلم ولم يفارقه إلطافه تعالى وتكليمه سبحانه. وقيل المراد به النهار كما في قوله تعالى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى [الأعراف: ٩٨] واعتراض بالعرق فإنه وقع هناك في مقابلة البيات وهو مطلق الليل، وهنا في مقابلة الليل مقيدا معنى باشتداد ظلمته فالمناسب أن يراد به وقت ارتفاعه وقوة إضاءته. وأجيب بمنع دلالة القيد على الاشتداد وستسمع إن شاء الله تعالى ما في ذلك وأيّا ما كان فالظاهر أن المراد الجنس أي وجنس الضحى وَاللَّيْلِ أي وجنس الليل إِذا سَجى أي سكن أهله
372
على أنه من السجو وهو السكون مطلقا كما قال غير واحد والإسناد مجازي أو هو على تقدير المضاف كما قيل، ونحوه ما روي عن قتادة أي سكن الناس والأصوات فيه وهذا يكون في الغالب فيما بين طرفيه أو بعد مضي برهة من أوله أو ركد ظلامه من سجا البحر سكنت أمواجه. قال الأعشى:
وما ذنبنا أن جاش بحر ابن عمكم وبحرك ساج لا يواري الدعامصا
فالسجو قيل على هذا في الأصل سكون الأمواج ثم عم، والمراد بسكون ظلامه عدم تغيره بالاشتداد والتنزيل أي فيما يحس ويظهر وذلك إذا كمل حسا بوصول الشمس إلى سمت القدم وقبيله وبعيده. وصرح باعتبار الاشتداد ابن الأعرابي حيث قال: سجا الليل اشتد ظلامه. وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جبير أنه قال: أي إذا أقبل فغطى كل شيء. وأخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس تفسير سجا بأقبل بدون ذكر التغطية، وأخرجاهما وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا أنه قال: سجا إذا ذهب، وكلا التفسيرين خلاف المشهور. وشاع ليل ساكن أو ساج لما لا ريح فيه ووصفه بذلك أعني السكون قيل على الحقيقة كما إذا قيل: ليل لا ريح فيه، ولا يقال إن الساكن هو الريح بالحقيقة لأن السكون عليها حقيقة محال لأنه هواء متحرك ثم إنهم يقولونه لما لا ريح فيه لا لما سكن ريحه والتحقيق أن يقال إن السكون على تفسيريه أعني عدم الحركة عما من شأنه الحركة أو كونين في حيّز واحد لا يصح على الليل لأنه زمان خاص، لكن لما كان سكون الهواء بمنزلة عدم له في العرف العامي لعدم الإحساس أو لتضمنه عدم الريح لا الهواء قيل ليل ساج وساكن. وصف الليل على الحقيقة أي لا إسناد فيه إلى غير ملائم على أنه يحتمل أن يجعل السكون بهذا المعنى حقيقة عرفية، وجوز حمل ما في الآية على هذا الشائع ولعل التقييد بذلك لأن الليل الذي لا ريح فيه أبعد عن الغوائل. وقد ذكر بعض الفقهاء أن الريح الشديدة ليلا عذر من أعذار الجماعة. ونقل عن قتادة ومقاتل أن المراد بالضحى هو الضحى الذي كلم الله تعالى فيه موسى عليه السلام، وبالليل ليلة المعراج.
ومن الناس من فسر الضحى بوجهه صلّى الله عليه وسلم بشعره عليه الصلاة والسلام كما ذكر الإمام، وقال: لا استبعاد فيه وهو كما ترى. ومثله ما قيل: الضحى ذكور أهل بيته عليه الصلاة والسلام والليل إناثهم وقال الإمام يحتمل أن يقال الضحى رسالته صلّى الله عليه وسلم والليل زمان احتباس الوحي فيه لأن في حال النزول حصل الاستئناس وفي زمان الاحتباس حصل الاستيحاش، أو الضحى نور علمه تعالى الذي يعرف المستور من الغيوب والليل عفوه تعالى الذي به يستر جميع العيوب، أو الضحى إقبال الإسلام بعد أن كان غريبا والليل إشارة إلى أنه سيعود غريبا، أو الضحى كمال العقل والليل حال الموت، أو الضحى علانيته عليه الصلاة والسلام التي لا يرى الخلق عليها عيبا والليل سره صلّى الله عليه وسلم لا يعلم عالم الغيب عليها عيبا انتهى. ولا يخفى أنه ليس من التفسير في شيء وباب التأويل والإشارة يدخل فيه أكثر من ذلك.
وتقديم الضحى على الليل بناء على ما قلنا أولا لرعاية شرفه لما فيه من ظهور زيادة النور وللنور شرف ذاتي على الظلمة لكونه وجوديا أو لكثرة منافعه أو لمناسبته لعالم الملائكة فإنها نورانية، وتقديم الليل في السورة السابقة لما فيه من الظلمة التي هي لعدميتها أصل للنور الحادث بإزالتها لأسباب حادثة، وقيل تقديمه هناك لأن السورة في أبي بكر وهو قد سبقه كفر، وتقديم الضحى هنا لأن السورة في رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو صلّى الله عليه وسلم لم يسبقه ذلك.
وتخصيصه تعالى الوقتين بالإقسام قيل ليشير سبحانه بحالهما إلى حال ما وقع له عليه الصلاة والسلام ويؤيد عز وجل نفي ما توهم فيه فكأنه تعالى يقول: الزمان ساعة فساعة ساعة ليل وساعة نهار ثم تارة تزداد ساعات الليل وتنقص ساعات النهار وأخرى بالعكس فلا الزيادة لهوى ولا النقصان لقلى بل كل لحكمة، وكذا أمر الوحي مرة إنزال وأخرى حبس فلا كان الإنزال عن هوى ولا الحبس عن قلى بل كل لحكمة. وقيل ليسلّي عز وجل بحالهما حبيبه عليه
373
الصلاة والسلام كأنه سبحانه يقول: انظر إلى هذين المتجاورين لا يسلم أحدهما من الآخر بل الليل يغلب تارة والنهار أخرى فكيف تطمع أن تسلم من الخلق؟ والقولان مبنيان على أن المراد بالضحى النهار كله وبالليل إذا سجى جميع الليل وتخصيص الضحى على ما سمعت أولا لما سمعت وتخصيص الليل بناء على أن المراد وقت اشتداد الظلمة قيل لأنه وقت خلو المحب بالمحبوب والأمن من كل واش ورقيب. وقال الطيبي طيب الله تعالى ثراه في ذلك: أنه تعالى أقسم له صلّى الله عليه وسلم بوقتين فيهما صلاته عليه الصلاة والسلام التي جعلت قرة عينه وسبب مزيد قربه وأنسه، أما الضحى فلما
رواه الدارقطني في المجتبى عن ابن عباس مرفوعا: «كتب عليّ النحر ولم يكتب عليكم، وأمرت بصلاة الضحى ولم تؤمروا بها»
. وأما الليل فلقوله تعالى وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ [الإسراء: ٧٩] إرغاما لأعدائه وتكذيبا لهم في زعم قلاه وجفائه فكأنه قيل وحق قربك لدينا وزلفاك عندنا إنّا اصطفيناك وما هجرناك وقليناك فهو كقوله:
وثناياك إنها إغريض وهو مما تستطيبه أهل الأذواق ويمكن أن يكون الإقسام بالليل على ما نقل عن قتادة من باب وثناياك أيضا وكذا الإقسام بهما على بعض الأوجه المارة كما لا يخفى. وعلى كون المراد بالضحى الوقت المعروف من النهار وبالليل جميعه قيل إن التفرقة للإشارة إلى أن ساعة من النهار توازي جميع الليل كما أن النبيّ عليه الصلاة والسلام يوازي جميع الأنبياء عليهم السلام وللإشارة لكون النهار وقت السرور والليل وقت الوحشة والغم إلى أن هموم الدنيا وغمومها أدوم من سرورها.
وقد روي أن الله تعالى لما خلق العرش أظلت عن يساره غمامة فنادت: ماذا أمطر؟ فأمرت أن تمطر الغموم والأحزان فأمطرت مائة سنة ثم انكشفت فأمرت مرة أخرى بذلك، وهكذا إلى إتمام ثلاثمائة سنة ثم أظلت عن يمين العرش غمامة بيضاء فنادت: ماذا أمطر؟ فأمرت أن تمطر السرور ساعة فلذا ترى الغموم والأحزان أدوم من المسار في الدنيا
والله تعالى أعلم بصحة الخبر وقيل غير ذلك.
وقوله تعالى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ إلخ جواب القسم وودع من التوديع وهو في الأصل من الدعة وهو أن تدعو للمسافر بأن يدفع الله تعالى عنه كآبة السفر وأن يبلغه الدعة وخفض العيش كما أن التسليم دعاء له بالسلامة، ثم صار متعارفا في تشييع المسافر وتركه ثم استعمل في الترك مطلقا وفسر به هنا أي ما تركك ربك. وفي البحر والكشاف:
التوديع مبالغة في الودع أي الترك لأن من ودعك مفارقا فقد بالغ في تركك، قيل: وعليه يلزم أن يكون المنفي الترك المبالغ فيه دون أصل الترك مع أن الظاهر نفي ذلك فلا بد من أن يقال إنه إنما نفى ذلك لأنه الواقع في كلام المشركين الذي نزلت له الآية، أو أن المبالغة تعود على النفي فيكون المراد المبالغة في النفي لا نفي المبالغة، وقد ذكروا نظير هذين الوجهين في قوله تعالى وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: ٤٦] فتدبر. وقيل: إن المعنى ما قطعك قطع المودع على أن التوديع مستعارة تبعية للترك وفيه من اللطف والتعظيم ما لا يخفى فإن الوداع إنما يكون بين الأحباب ومن تعز مفارقته كما قال المتنبي:
حشاشة نفس ودعت يوم ودعوا فلم أدر أي الظاعنين أشيّع
وحقيقة التوديع المتعارف غير متصورة هاهنا، وتعقب بأنه على هذا لا يكون ردّا لما قاله المشركون لأنهم لم يقولوا ودعه ربه على هذا المعنى كيف وهم بمعزل عن اعتقاد كونه عليه الصلاة والسلام بالمحل الذي هو صلّى الله عليه وسلم فيه من ربه سبحانه؟ وقيل في الجواب: إنه يجوز أن يدل ودعه ربه على ذلك إلّا أنهم قاتلهم
374
الله تعالى قالوه على سبيل التهكم والسخرية، وحين رد عليهم قصد ما يشعر به اللفظ على التحقيق. وقيل: إن الترك مطلق في كلامهم والظاهر من حالهم أنهم لم يريدوا الماهية من حيث هي ولا من حيث تحققها في ضمن ما لا يخل بشريف مقامه عليه الصلاة والسلام بل الماهية من حيث تحققها في ضمن ما يخل بذلك، ولما كان المقصود إيناسه صلّى الله عليه وسلم وإزالة وحشته عليه الصلاة والسلام جيء بما يتضمن نفي ما زعموه على أبلغ وجه كأنه قيل: إن هذا النوع الغير المخل بمقامك من الترك لم يكن فضلا عما زعموه من الترك المخل بعزيز مقامك وعندي أن الظاهر أن ذلك القول بأي معنى كان صادر على سبيل التهكم إذا كان المراد بالرب هو الله عز وجل وكان القائل من المشركين كما لا يخفى على المتأمل. وقرأ عروة بن الزبير وابنه هشام وأبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة «ما ودعك» بالتخفيف وهي على ما قال ابن جني قراءة النبيّ صلّى الله عليه وسلم وخرجت على أن ودع مخفف ودع ومعناه معناه. قال في القاموس: ودعه كوضعه وودع بمعنى، وقيل: ليس بمخففة بل هو فعل برأسه بمعنى ترك وأنه يعكر على قول النحاة أماتت العرب ماضي يدع ويذر ومصدرهما واسم فاعلهما واسم مفعولهما واستغنوا بما ليترك من ذلك. وفي المغرب أن النحاة زعموا أن العرب أماتت ذلك والنبي صلّى الله عليه وسلم أفصحهم
وقد قال عليه الصلاة والسلام: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجماعات»
وقرأ ما وَدَّعَكَ وقال أبو الأسود:
ليت شعري عن خليلي ما الذي غاله في الحب حتى ودعه
ومثله قول آخر:
وثم ودعنا آل عمرو وعامر فرائس أطراف المثقفة السمر
وهو دليل أيضا على استعمال ودع وهو بمعنى ترك المتعلق بمفعولين فلا تغفل.
وفي الحديث: «اتركوا الترك ما تركوكم ودعوا الحبشة ما ودعكم»
وفي المستوفى أن كل ذلك قد ورد في كلام العرب ولا عبرة بكلام النحاة. وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. نعم وروده نادر وقال الطيبي: بعد أن ذكر وروده نظما ونثرا إنما حسن هذه القراءة الموافقة بين الكلمتين يعني هذه وما بعدها كما في حديث الترك والحبشة لأن رد العجز على الصدر وصنعة الترصيع قد جبرا منه. وقيل: إن القائلين إنما قالوا «ودعه ربه» بالتخفيف فنزلت فيكون المحسن له قصد المشاكلة لما قالوه وهم تكلموا بغير المعروف طيرة منهم كان غير المعروف من اللفظ مما يتشاءم به من الفأل الرديء أو أنهم لما قصدوا السخرية حسن استعمال اللفظ وقد قالوا يحسن استعمال الألفاظ الغريبة ونحوها في الهجاء فلا يبعد أن يكون في السخرية كذلك. والحق أنه بعد ثبوت وروده لا يحتاج إلى تكليف محسن له، والظاهر أن المراد بالرب هو الله عز وجل وفي التعبير عنه بعنوان الربوبية وإضافته إلى ضميره صلّى الله عليه وسلم من اللطف ما لا يخفى فكأنه قيل ما تركك المتكفل بمصلحتك والمبلغ لك على سبيل التدريج كما لك اللائق بك وَما قَلى أي وما أبغضك، وحذف المفعول لئلا يواجه عليه الصلاة والسلام بنسبة القلى وإن كانت في كلام منفي لطفا به صلّى الله عليه وسلم وشفقة عليه عليه الصلاة والسلام أو لنفي صدوره عنه عز وجل بالنسبة إليه صلّى الله عليه وسلم ولأحد من أصحابه ومن أحبه صلّى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، أو للاستغناء عنه بذكره من قبل مع أن فيه مراعاة للفواصل. واللغة المشهورة في مضارع قلى يقلي كيرمي وطيىء تقول: يقل بفتح العين كيرضى وتفسير القلى بالبغض شائع. وفي القاموس من الواوي قلا زيدا قلا وقلاه أبغضه ومن اليائي قلاه كرماه ورضيه قلى وقلاه مقيلة أبغضه وكرهه غاية الكراهة فتركه أو قلاه في الهجر وقليه في البغض. وفي مفردات
375
الراغب القلى شدة البغض يقال: قلاه يقلوه ويقليه فمن جعله من الواوي فهو من القلو أي الرمي من قولهم:
قلت الناقة براكبها قلوا وقلوت بالقلة فكان المقلو هو الذي يقذفه القلب من بغضه فلا يقبله، ومن جعله من اليائي فمن قليت البسر والسويق على المقلاة انتهى وبينهما مخالفة لا تخفى. وعلى اعتبار شدة البغض فالظاهر أن ذلك في الآية ليس إلّا لأنه الواقع في كلامهم قال المفسرون: أبطأ جبريل عليه السلام على النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فقال المشركون: قد قلاه ربه وودعه، فأنزل الله تعالى ذلك.
وأخرج الحاكم عن زيد بن أرقم قال لما نزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: ١] إلخ قيل لامرأة أبي لهب أم جميل إن محمدا صلّى الله عليه وسلم قد هجاك فأتته عليه الصلاة والسلام وهو صلّى الله عليه وسلم جالس في الملأ فقالت: يا محمد علام تهجوني؟ قال: «إني والله ما هجوتك ما هجاك إلّا الله تعالى» فقالت: هل رأيتني أحمل حطبا أو في جيدي حبلا من مسد؟ ثم انطلقت فمكث رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا ينزل عليه فأتته فقالت: ما أرى صاحبك إلّا قد ودعك وقلاك، فأنزل الله تعالى ذلك.
وأخرج الترمذي وصححه وابن أبي حاتم واللفظ له عن جندب البجلي قال: رمي صلّى الله عليه وسلم بحجر في أصبعه فقال:
ما أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم فقالت له امرأة: ما أرى شيطانك إلّا قد تركك
وفي رواية للترمذي أيضا والإمام أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وجماعة بلفظ: اشتكى النبي صلّى الله عليه وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثا فأنزل الله تعالى وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى
وليس فيه حديث المرأة ولا الحجر والرجز وذلك لا يطعن في صحته.
وقال جمع من المفسرين: إن اليهود سألوه عليه الصلاة والسلام عن أصحاب الكهف، وعن الروح، وعن قصة ذي القرنين فقال عليه الصلاة والسلام: «سأخبركم غدا» ولم يستثن فاحتبس عنه الوحي فقال المشركون ما قالوا فنزلت.
وقيل إن عثمان أهدى إليه صلّى الله عليه وسلم عنقود عنب وقيل عذق تمر فجاء سائل فأعطاه ثم اشتراه عثمان بدرهم فقدمه إليه عليه الصلاة والسلام ثانيا، ثم عاد السائل فأعطيه وهكذا ثلاث مرات فقال عليه الصلاة والسلام ملاطفا لا غضبان: «أسائل أنت يا فلان أم تاجر؟» فتأخر الوحي أياما فاستوحش فنزلت
، ولعلهم أيضا قالوا ما قالوا.
وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده والطبراني وابن مردويه من حديث خولة وكانت تخدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن جروا دخل تحت سرير رسول الله صلّى الله عليه وسلم فمات ولم نشعر به، فمكث رسول الله صلّى الله عليه وسلم أربعة أيام لا ينزل عليه الوحي فقال: «يا خولة ما حدث في بيت رسول الله عليه الصلاة والسلام جبريل لا يأتيني» فقلت: يا نبي الله ما أتى علينا يوم خير منا اليوم، فأخذ برده فلبسه وخرج فقلت في نفسي لو هيأت البيت وكنسته فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذا بشيء ثقيل فلم أزل به حتى بدا لي الجر وميتا فأخذته بيدي فألقيته خلف الدار، فجاء النبيّ صلّى الله عليه وسلم ترعد لحيته وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته الرعدة فقال: يا خولة دثريني، فأنزل الله تعالى وَالضُّحى وَاللَّيْلِ- إلى قوله سبحانه- فَتَرْضى
وهذه الرواية تدل على أن الانقطاع كان أربعة أيام. وعن ابن جريج أنه كان اثني عشر يوما، وعن الكلبي خمسة عشر يوما وقيل بضعة عشر يوما، وعن ابن عباس خمسة وعشرين يوما، وعن السدّي ومقاتل أربعين يوما وأنت تعلم أن مثل ذلك مما يتفاوت العلم بمبدئه ولا يكاد يعلم على التحقيق إلّا منه عليه الصلاة والسلام والله تعالى أعلم. وفي بعض الروايات ما يدل على أن قائل ذلك هو النبيّ عليه الصلاة والسلام.
فعن الحسن أنه قال: أبطأ الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال لخديجة: «إن ربي ودعني وقلاني» يشكو إليها، فقالت: كلا والذي بعثك بالحق ما ابتدأك الله تعالى بهذه الكرامة إلّا وهو سبحانه يريد أن يتمها لك فنزلت
. واستشكل هذا بأنه لا يليق بالرسول
376
صلّى الله عليه وسلم أن يظن أن الله تعالى شأنه ودعه وقلاه وهل إلّا نحو من العزل وعزل النبيّ عن النبوة غير جائز في حكمته عز وجل، والنبيّ عليه الصلاة والسلام أعلم بذلك ويعلم صلّى الله عليه وسلم أيضا أن إبطاء الوحي وعكسه لا يخلو كل منهما عن مصلحة وحكمة. وأجيب بأن مراده عليه الصلاة والسلام إن صح أن يجربها ليعرف قدر علمها أو ليعرف الناس ذلك فقال ما قال صلّى الله عليه وسلم بضرب من التأويل كأن يكون قد قصد إن ربي ودعني وقلاني بزعم المشركين، أو أن معاملته سبحانه إياي بإبطاء الوحي تشبه صورة معاملة المودع والقالي. وأنت تعلم أن هذه الرواية شاذة لا يعول عليها ولا يلتفت إليها فلا ينبغي إتعاب الذهن بتأويلها. ونحوها ما دل على أن قائل ذاك خديجة رضي الله تعالى عنها.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عروة قال: أبطأ جبريل عليه السلام عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم فجزع جزعا شديدا فقالت خديجة: أرى ربك قد قلاك مما أرى من جزعك فنزلت وَالضُّحى وَاللَّيْلِ
إلى آخرها، والقول بأنها رضي الله تعالى عنها أرادت أن هذا الجزع لا ينبغي أن يكون إلّا من قلى ربك إياك وحاشى أن يقلاك فما هذا الجزع بعيد غاية البعد والمعول ما عليه الجمهور وصحت به الأخبار أن القائل هم المشركون وأنه عليه الصلاة والسلام إنما أحزنه بمقتضى الطبيعة البشرية تعبيرهم وعدم رؤية جبريل عليه السلام مع مزيد حبه إياه.
وفي بعض الآثار أنه صلّى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام: «ما جئتني حتى اشتقت إليك» فقال جبريل عليه السلام:
كنت أنا إليك أشوق ولكني عبد مأمور وتلا وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ
[مريم: ٦٤]
وفي رواية أنه عاتبه عليهما الصلاة والسلام فقال أما علمت أنّا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة.
وراوي هذا يروي أن السبب في إبطاء الوحي وجود جرو في بيته عليه الصلاة والسلام والروايات في ذلك مختلفة، وجوز بعضهم أن يكون الإبطاء لتجمع الأسباب ثم إنه قد زعم بعض بناء على بعض الروايات السابقة جواز أن يكون المراد بربك في ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ دون ما بعد صاحبك والمراد به جبريل عليه السلام وهو كما ترى.
وحيث تضمن ما سبق من نفي التوديع والقلى أنه عز وجل لا يزال يواصله عليه الصلاة والسلام بالوحي والكرامة في الدنيا بشر صلّى الله عليه وسلم بأن ما سيؤتاه في الآخرة أجل وأعظم من ذلك فقيل: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى لما أنها باقية صافية عن الشوائب على الإطلاق وهذه فانية مشوبة بالمضار وما أوتي عليه الصلاة والسلام من شرف النبوة وإن كان مما لا يعادله شرف ولا يدانيه فضل لكنه لا يخلو في الدنيا عن بعض العوارض القادحة في تمشية الأحكام مع أنه عند ما أعدّ له عليه الصلاة والسلام في الآخرة من السبق والتقدم على كافة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام يوم الجمع يوم يقوم الناس لرب العالمين، وكون أمته صلّى الله عليه وسلم شهداء على سائر الأمم، ورفع درجات المؤمنين وإعلاء مراتبهم بشفاعته صلّى الله عليه وسلم وغير ذلك من الكرامات السنية التي لا تحيط بها العبارات وتقصر دونها الإشارات بمنزلة بعض المبادئ بالنسبة إلى المطالب كذا في الإرشاد والاختصاص الذي تقتضيه اللام قيل إضافي على معنى اختصاصه عليه الصلاة والسلام بخيرية الآخرة دون من آذاه وشمت بتأخير الوحي عنه صلّى الله عليه وسلم، ولا مانع من عمومه لجميع الفائزين كيف وقد علم بالضرورة أن الخير المعدّ له عليه الصلاة والسلام خير من المعدّ لغيره على الإطلاق، ويكفي في ذلك اختصاص المقام المحمود به صلّى الله عليه وسلم على أن اختصاص اللام ليس قصريا كما قرر في موضعه، وحمل الآخرة على الدار الآخرة المقابلة للدنيا والأولى على الدار الأولى وهي الدنيا هو الظاهر المروي عن أبي إسحاق وغيره. وقال ابن عطية وجماعة:
يحتمل أن يراد بهما نهاية أمره صلّى الله عليه وسلم وبدايته فاللام فيهما للعهد أو عوض عن المضاف إليه أي لنهاية أمرك خير من بدايته لا تزال تتزايد قوة وتتصاعد رفعة. وفي بعض الأخبار المرفوعة ما هو أظهر في الأول
أخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «عرض عليّ
377
ما هو مفتوح لأمتي بعدي فسرني» فأنزل الله تعالى وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى
ثم إن ربط الآية بما قبلها على الوجه الذي سمعت هو ما اختاره غير واحد من الأجلّة وجوز أن يقال فيه إنه لما نزل ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى حصل له عليه الصلاة والسلام به تشريف عظيم فكأنه صلّى الله عليه وسلم استعظم ذلك فقيل له وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى على معنى أن هذا التشريف وإن كان عظيما إلّا أن ما لك عند الله تعالى في الآخرة خير وأعظم. وجوز أيضا أن يكون المعنى أن انقطاع الوحي لا يجوز أن يكون لما يتوهمون لأنه عزل عن النبوة وهو مستحيل في الحكمة بل أقصى ما في الباب أن يكون ذلك لأنه حصل الاستغناء عن الرسالة وذلك أمارة الموت فكأنه تعالى قال: انقطاع الوحي متى حصل دل على الموت لكن الموت خير لك فإن ما لك عند الله تعالى في الآخرة أفضل مما لك في الدنيا، وهذا كما ترى دون ما قبله بكثير والمتبادر مما قرروه أن الجملة مستأنفة واللام فيها ابتدائية. وقد صرح جمع بأنها كذلك في قوله تعالى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى وقالوا: فائدتها تأكيد مضمون لجملة وبعدها مبتدأ محذوف أي ولأنت سوف يعطيك إلخ وأورد عليه أن التأكيد يقتضي الاعتناء والحذف ينافيه ولذا قال ابن الحاجب: إن المبتدأ المؤكد باللام لا يحذف وإن اللام مع المبتدأ كقد مع الفعل وإن مع الاسم فكما لا يحذف الفعل والاسم ويبقيان بعد حذفهما كذلك لا يحذف المبتدأ وتبقى اللام وإنه يلزم التقدير والأصل عدمه وأن اللام لتخلص المضارع الذي في حيزها للحال كتأكيد مضمون الجملة وهو هنا مقرون بحرف التنفيس والتأخير فيلزم التنافي. وردّ بأن المؤكد الجملة لا المبتدأ وحده حتى ينافي تأكيده حذفه وكلام ابن الحاجب ليس حجة على الفارسي وأمثاله وأن يحذف معها الاسم كثيرا كما ذكره النحاة وكذا قد يحذف بعدها الفعل كقوله:
أزف الترحل غير أن ركابنا لما تزل برحالنا وكأن قد
مع أنه لو سلم فقد يفرق كما قال الطيبي بين أن وقد وهذه اللام بأنهما يؤثران في المدخول عليه مع التأكيد بخلاف هذه اللام فإن مقتضاها أن تؤكد مضمون الجملة لا غير وهو باق، وإن حذف المبتدأ فالقياس قياس مع الفارق والنحويون يقدرون كثيرا في الكلام كما قدروا المبتدأ في نحو قمت وأصك عينه وهو لأجل الصناعة دون المعنى كما فيما نحن فيه واللام المؤكدة لا نسلم أنها لتخليص المضارع للحال أيضا بل هي لمطلق التأكيد فقط ويفهم معها الحال بالقرينة لأنه أنسب بالتأكيد. وعلى تسليم أنها لتخليصه للحال أيضا يجوز أن يقال إنها تجردت للتأكيد هنا بقرينة ذكر سوف بعدها، والمراد تأكيد المؤخر أعني الإعطاء لا تأكيد التأخير فالمعنى أن الإعطاء كائن لا محالة وإن تأخر لحكمة وعلى تسليم أنها للأمرين ولا تجرد يجوز أن يقال نزل المستقبل أعني الإعطاء الذي يعقبه الرضا لتحقق وقوعه منزلة الواقع الحالي نظير ما قيل في قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [النحل: ١٢٤] وقيل يحسن هذا جدا فيما نحن فيه على القول بأن الإعطاء قد شرع فيه عند نزول الآية بناء على أحد أوجهها الآتية بعد أن شاء الله تعالى، وذهب بعضهم بأن اللام الأولى للقسم وكذا هذه اللام وبقسميتها جزم غير واحد فالواو عليه للعطف فكلا الوعدين داخل في المقسم عليه، ويكون الله تعالى قد أقسم على أربعة أشياء اثنان منفيان واثنان مثبتان وهو حسن في نظري، واعترض بأن لام القسم لا تدخل على المضارع إلّا مع النون المؤكدة فلو كانت للقسم لقيل «لسوف يعطيك ربك» ولا يخفى أن هذا أحد مذهبين للنحاة والآخر أنه يستثنى ما قرن بحرف تنفيس كما هنا، ففي المغني أنه تجب اللام وتمتنع النون فيه كقوله:
378
فوربي لسوف يجزى الذي أسلف المرء سيئا أو جميلا
وكذا مع فصل معمول بين اللام والفعل نحو وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [آل عمران:
١٥٨] ومع كون الفعل للحال نحو «لا قسم» وقد يمتنعان وذلك مع الفعل المنفي نحو تَاللَّهِ تَفْتَؤُا [يوسف:
٨٥] وقد يجبان وذلك فيما بقي نحو تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ [الأنبياء: ٥٧] وعليه لا يتجه الاعتراض مع أن الممنوع بدون النون في جواب القسم لا في المعطوف عليه كما هنا فإنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع، وإنما ذكرت اللام تأكيدا للقسم وتذكيرا به، وبالجملة هذا الوجه أقل دغدغة من الوجه السابق ولا يحتاج فيه إلى توجيه جميع اللام مع سوف إذ لم يقل أحد من علماء العربية بأن اللام القسمية مخلصة المضارع للحال كما لا يخفى على من تتبع كتبهم. وظاهر كلام الفاضل الكلنبوي أن كلّا من اللامين موضوع للدلالة على الحال ووجه الجمع على تقدير كونها في الآية قسمية بأنها محمولة على معناها الحقيقي، وسوف محمولة على تأكيد الحكم ولذا قامت مقام إحدى النونين عند أبي علي الفارسي وقد أطال رحمه الله تعالى الكلام فيما يتعلق بهذا المقام وأتى على غزارة فضله بما يستبعد صدوره من مثله. وقال عصام الدين: الأظهر أن جملة ما وَدَّعَكَ حالية أي ما ودعك ربك وما قلاك، والحال أن الآخرة خير لك من الأولى وأنت تختارها عليها، ومن حاله كذلك لا يتركه ربه ففيه إرشاد للمؤمنين إلى ما هو ملاك قرب العبد إلى الرب عز وجل وتوبيخ للمشركين بما هم فيه من التزام أمر الدنيا والإعراض عن الآخرة، وحينئذ معنى قوله سبحانه وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ أنه سوف يعطيك الآخرة ولا يخفى حينئذ كمال اشتباك الجمل انتهى. وفيه أن دخول اللام عليها مع دخوله على الجملة بعدها وسبقهما بالقسم يبعد الحالية جدا، وأيضا المعنى ذكره على تقديرها غير ظاهر من الآية وكان الظاهر عليه عندك بدل لك كما لا يخفى عليك واختلف في قوله تعالى وَلَسَوْفَ إلخ فقيل: هو عدة كريمة شاملة لما أعطاه الله عز وجل في الدنيا من كمال النفس وعلوم الأولين والآخرين وظهور الأمر وإعلاء الدين بالفتوح الواقعة في عصره صلّى الله عليه وسلم وفي أيام خلفائه عليه الصلاة والسلام وغيرهم من الملوك الإسلامية وفشو الدعوة والإسلام في مشارق الأرض ومغاربها. ولما ادّخر جل وعلا له عليه الصلاة والسلام في الآخرة من الكرامات التي لا يعلمها إلا هو جل جلاله وعم نواله وقيل عدة بما أعطاه سبحانه وتعالى في الدنيا من فتح مكة وغيره والجمهور على أنه عدة أخروية فأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال هي الشفاعة، وروي نحوه عن بعض أهل البيت رضي الله تعالى عنهم.
أخرج ابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية من طريق حرب بن شريح قال: قلت لأبي جعفر محمد بن عليّ بن الحسين على جدهم وعليهم الصلاة والسلام: أرأيت هذه الشفاعة التي يتحدث بها أهل العراق أحق هي؟ قال: أي والله حدثني محمد بن الحنفية عن عليّ كرم الله تعالى وجهه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أشفع لأمتي حتى ينادي ربي أرضيت يا محمد؟ فأقول: نعم يا رب رضيت» ثم أقبل عليّ فقال إنكم تقولون يا معشر أهل العراق إن أرجى آية في كتاب الله تعالى يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر:
٣٥] قلت إنا لنقول ذلك قال فكلنا أهل البيت نقول: إن أرجى آية في كتاب الله تعالى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى وقال: هي الشفاعة
.. وقيل: هي أعم من الشفاعة وغيرها ويرشد إليه ما
أخرجه العسكري في المواعظ وابن مردويه وابن النجار عن جابر بن عبد الله قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم على فاطمة وهي تطحن بالرحا وعليها كساء من جلد الإبل فلما نظر إليها قال: «يا فاطمة تعجلي مرارة الدنيا بنعيم الآخرة غدا» فأنزل الله تعالى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى
. وقال أبو حيان: الأولى العموم لما في الدنيا والآخرة على اختلاف
379
أنواعه والخبر المذكور لو سلم صحته لا يأبى ذلك. نعم عطايا الآخرة أعظم من عطايا الدنيا بكثير فقد روى الحاكم وصححه وجماعة عن ابن عباس أنه قال أعطاه الله تعالى في الجنة ألف قصر من لؤلؤ ترابه المسك في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم. وأخرج ابن جرير عنه أنه قال في الآية من رضا محمد صلّى الله عليه وسلم أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار. وأخرج البيهقي ففي شعب الإيمان عنه أنه قال: رضاه صلّى الله عليه وسلم أن يدخل أمته كلهم الجنة. وفي رواية الخطيب في تلخيص المتشابه من وجه آخر عنه لا يرضى محمد صلّى الله عليه وسلم وأحد من أمته في النار وهذا ما تقتضيه شفقته العظيمة عليه الصلاة والسلام على أمته فقد كان صلّى الله عليه وسلم حريصا عليهم رؤوفا بهم مهتما بأمرهم.
وقد أخرج مسلم كما في الدر المنثور عن ابن عمر أنه صلّى الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم عليه السلام فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي [إبراهيم: ٣٦] وقوله تعالى في عيسى إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ [المائدة:
١١٨] الآية فرفع عليه الصلاة والسلام يديه وقال: «اللهم أمتي أمتي» وبكى فقال الله تعالى: يا جبريل اذهب إلى محمد صلّى الله عليه وسلم فقل له إنا سنرضيك في أمتك يخفى ولا نسوؤك.
وفي إعادة اسم الرب مع إضافته إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى أيضا من اللطف به صلّى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى تعديل لما أفاض صلّى الله عليه وسلم من أول أمره إلى وقت النزول من فنون النعماء العظام ليستشهد بالخاص الموجود على المترقب الموعود فيزداد قلبه الشريف وصدره الرحيب طمأنينة وسرورا وانشراحا وحبورا ولذا فصلت الجملة. والهمزة لإنكار النفي وتقرير النفي على أبلغ وجه كأنه قيل قد وجدك إلخ. ووجدته على ما قال الرضي بمعنى أصبته على صفة ويراد بالوجود فيه العلم مجازا بعلاقة اللزوم.
وفي مفردات الراغب لوجود اضرب وجود بالحواس الظاهرة ووجود بالقوى الباطنة ووجود بالعقل وما نسب إلى الله تعالى من الوجود فبمعنى العلم المجرد إذ كان الله تعالى منزها عن الوصف بالجوارح والآلات، وقد فسره بعضهم هنا بالعلم وجعل مفعوله الأول الضمير ومفعوله الثاني يَتِيماً وبعضهم بالمصادفة وجعله متعديا لواحد ف يَتِيماً حالا وأنت تعلم أن المصادفة لا تصح في حقه تعالى لأنها ملاقاة ما لم يكن في علمه سبحانه وتقديره جل شأنه، فلا بد من التجوز بها عن تعلق علمه عز وجل بذلك. واليتم انقطاع الصبي عن أبيه قبل بلوغه، والإيواء ضم الشيء إلى آخر يقال: آوى إليه فلانا أي ضمّه إلى نفسه أي ألم يعلمك طفلا لا أبا لك فضمك إلى من قام بأمرك. روي أن عبد المطلب بعث ابنه عبد الله أبا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يمتار تمرا من يثرب فتوفي ورسول الله صلّى الله عليه وسلم جنين قد أتت عليه ستة أشهر فلما وضعته كان في حجر جده مع أمه فماتت وهو عليه الصلاة والسلام ابن ست سنين، ولما بلغ عليه الصلاة والسلام ثماني سنين مات جده فكفله عمه الشفيق الشقيق أبو طالب بوصية من أبيه عبد المطلب وأحسن تربيته صلّى الله عليه وسلم. وفي الكشاف ماتت أمه عليه الصلاة السلام وهو ابن ثماني سنين فكفله عمه وكان شديد الاعتناء بأمره إلى أن بعثه الله تعالى وكان يرى منه صلّى الله عليه وسلم في صغره ما لم ير من صغير
روي أنه قال يوما لأخيه العباس: ألا أخبرك عن محمد صلّى الله عليه وسلم بما رأيت منه.
فقال: بلى. قال: إني ضممته إليّ فكنت لا أفارقه ساعة من ليل ولا نهار ولم ائتمن عليه أحدا حتى أني كنت أنومه في فراشي، فأمرته ليلة أن يخلع ثيابه وينام معي فرأيت الكراهية في وجهه وكره أن يخالفني فقال: يا عماه اصرف وجهك عني حتى أخلع ثيابي إني لا أحب أن تنظر إلى جسدي، فتعجبت من قوله وصرفت بصري حتى دخل الفراش فلما دخلت معه الفراش إذا بيني وبينه ثوب والله ما أدخلته في فراشي فإذا هو في غاية اللين وطيب الراحة كأنه غمس في المسك، فجهدت لأنظر إلى جسده فما كنت أرى شيئا وكثيرا ما
380
كنت أفقده من فراشي فإذا قمت لأطلبه ناداني ها أنا يا عم فارجع، وكنت كثيرا ما أسمع منه كلاما يعجبني وذلك عند ما مضى بعض الليل وكنا لا نسمي على الطعام والشراب ولا نحمد وكان يقول في أول الطعام:
بسم الله الأحد، فإذا فرغ من طعامه قال: الحمد لله، فكنت أعجب منه ولم أر منه كذبة ولا ضحكا ولا جاهلية ولا وقف مع الصبيان وهم يلعبون وهذا لعمري غيض من فيض:
في المهد يعرب عن سعادة جده أثر النجابة ساطع البرهان
وقيل: المعنى ألم يجدك يتيما أبتك المراضع فآواك من مرضعة تحنو عليك بأن رزقها بصحبتك الخير والبركة حتى أحبتك وتكفلتك، والأول هو الظاهر، وقيل غير ذلك مما ستعلمه بعد إن شاء الله تعالى. ومن بدع التفاسير على ما قال الزمخشري أن يتيما من قولهم درة يتيمة والمعنى ألم يجدك واحدا في قريش عديم النظير فآواك والأولى عليه أن يقال ألم يجدك واحدا عديم النظير في الخليقة لم يحو مثلك صدف الإمكان فآواك إليه وجعلك في حق اصطفائه. وقرأ أبو الأشعث «فأوى» ثلاثيا فجوز أن يكون من أواه بمعنى آواه وأن يكون من أوى له أي رحمه ومصدره أياواية وماويّة وماوية وتحقيقه على ما قال الراغب أي رجع إليه بقلبه ومنه قوله:
أو أني ولا كفران لله أية وقوله تعالى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى عطف على ما يقتضيه الإنكار السابق كما أشير إليه أو على المضارع المنفي بلم داخل في حكمه كأنه قيل: أما وجدك يتيما فآوى ووجدك غافلا عن الشرائع التي لا تهتدي إليها العقول كما في قوله تعالى ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ [الشورى: ٥٢] وقوله سبحانه وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ
[يوسف: ٣] فهداك إلى مناهجها في تضاعيف ما أوحي إليك من الكتاب المبين وعلمك ما لم تكن تعلم، وعلى هذا كما قال الواحدي أكثر المفسرين وهو اختيار الزجاج. وروى سعيد بن المسيب أنه صلّى الله عليه وسلم سافر مع عمه أبي طالب إلى الشام فبينما هو راكب ناقة ذات ليلة ظلماء وهو نائم جاءه إبليس فأخذ بزمام الناقة فعدل به عن الطريق فجاءه جبريل عليه الصلاة والسلام فنفخ إبليس نفخة وقع منها بالحبشة ورده إلى القافلة، فما في الآية إشارة إلى ذلك على ما قيل. وقيل إشارة إلى ما روي عن ابن عباس من أنه صلّى الله عليه وسلم ضل وهو صغير عن جده في شعاب مكة فرآه أبو جهل منصرفا من أغنامه فردّه لجده وهو متعلق بأستار الكعبة يتضرع إلى الله تعالى في أن يرد إليه محمدا، وذكر له أنه لما رآه أناخ الناقة وأركبه من خلفه فأبت أن تقوم فأركبه أمامه فقامت فكانت الناقة تقول: يا أحمق هو الإمام فكيف يقوم خلف المقتدي. وفي إرجاعه عليه الصلاة والسلام إلى أهله على يد أبي جهل وقد علم سبحانه منه أنه فرعونه يشبه إرجاع موسى عليه السلام إلى أمه على يد فرعون. وقيل: ضل عليه الصلاة والسلام مرة أخرى وطلبوه فلم يجدوه فطاف عبد المطلب بالكعبة سبعا وتضرع إلى الله تعالى فسمعوا مناديا ينادي من السماء: يا معشر الناس لا تضجوا فإن لمحمد ربا لا يخذله ولا يضيعه وإن محمدا بوادي تهامة عند شجرة السمر، فسار عبد المطلب وورقة بن نوفل فإذا النبي صلّى الله عليه وسلم قائم تحت شجرة يلعب بالأغصان والأوراق. وقيل: أضلته مرضعته حليمة عند باب مكة حين فطمته وجاءت به لترده على عبد المطلب فضالا على هذه الروايات من ضل في طريقه إذا سلك طريقا غير موصولة لمقصده وضعف حمل الآية على ذلك بأن مثله بالنسبة إلى ما تقدم لا يعد من نعم الله تعالى على مثل نبيه صلّى الله عليه وسلم التي يمتن سبحانه بها عليه. وقيل: الضال الشجرة المنفردة في البيداء ليس حولها شجر والمراد
381
أما وجدك وحدك ليس معك أحد فهدى الناس إليك ولم يتركك منفردا. وقال الجنيد قدس سره: أي وجدك متحيرا في بيان الكتاب المنزل عليك فهداك لبيانه وفيه قرب ما من الأول. وقال بعضهم: وجدك غافلا عن قدر نفسك فأطلعك على عظيم محلك. وقيل: وجدك ضالا عن معنى محض المودة فسقاك كأسا من شراب القربة والمودة فهداك به إلى معرفته عز وجل.
وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: كنت ضالا عن محبتي لك في الأزل فمننت عليك بمعرفتي وهو قريب من سابقه
. وقال الحريري: أي وجدك مترددا في غوامض معاني المحبة فهداك لها وهو أيضا كذلك وكل ذلك منزع صوفي. ورأى أبو حيان في منامه أن الكلام على حذف مضاف والمعنى ووجد رهطك ضالا فهدى بك وهو كما ترى في يقظتك.
وقوله تعالى وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى على نمط سابق والعائل المفتقر من عال يعيل عيلا وعيلة وعيولا ومعيلا افتقر أي وجدك عديم المقتنيات فأغناك بما حصل لك من ربح التجارة وذلك في سفره صلّى الله عليه وسلم مع ميسرة إلى الشام وبما وهبته لك خديجة رضي الله تعالى عنها من المال وكانت ذا مال كثير فلما تزوجها عليه الصلاة والسلام وهبته جميعه له صلّى الله عليه وسلم لئلا يقول قائل ما يثقل على سمعه الشريف عليه الصلاة والسلام وبمال أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وكان أيضا ذا مال فأتى به كله رسول الله
فقال عليه الصلاة والسلام: «ما تركت لعيالك» ؟ فقال: تركت الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم.
وقيل بما أفاء عليك من الغنائم وفيه أن السورة مكية والغنائم إنما كانت بعد الهجرة وقيل المراد قنعك وأغنى قبلك فإن غنى القلب هو الغنى، وقد قيل من عدم القناعة لم يفده المال غنى، وقيل أغناك به عز وجل عما سواه وهذا الغنى بالافتقار إليه تعالى.
وفي الحديث «اللهم أغنني بالافتقار إليك ولا تفقرني بالاستغناء عنك»
وبهذا ألمّ بعض الشعراء فقال:
ويعجبني فقري إليك ولم يكن ليعجبني لولا محبتك الفقر
وشاع
حديث «الفقر فخري»
وحمل الفقر فيه على هذا المعنى وهو على ما قال ابن حجر باطل موضوع وأشد منه وضعا وبطلانا ما يذكره بعض المتصوفة إذا تمّ الفقر فهو الله سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا وقد خاضوا في بيان المراد به بما لا يدفع بشاعته بل لا يقتضي استقامته. وقيل عائِلًا أي ذا عيال من عال يعول عولا وعيالة كثير عياله، ويحتمل المعنيين قول جرير:
الله نزل في الكتاب فريضة لابن السبيل وللفقير العائل
ولعل الثاني فيه أظهر ورجح الأول في الآية بقراءة ابن مسعود «عديما» وأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن ذا عيال في أول أمره صلّى الله عليه وسلم. وقرأ اليماني «عيلا» كسيدا بشدا الياء المكسورة هذا وذكر عصام الدين في هذه الآيات أنه يحتمل أن يراد باليتيم فاقد المعلم فإن الآباء ثلاثة من علمك ومن زوجك ومن ولدك، ويناسبه حمل الضلال على الضلال عن العلم، وحمل العيال أي على تفسير عائِلًا بذا عيال على عيال الأمة الطالبة منه معرفة مصالح الدين مع احتياجه إلى المعرفة فأغناه الله تعالى بالوحي إليه عليه الصلاة والسلام ولا يخفى ما فيه. وحذف المفعول في الأفعال الثلاثة لظهور المراد مع رعاية الفواصل. وقيل: ليدل على سعة الكرم والمراد آواك وآوى لك وبك وهداك ولك وبك وأغناك ولك وبك وظاهر الفاء مع تلك الأفعال تأبى ذلك. وأطال الإمام الكلام في الآيات وأتى فيها بغث وسمين ولولا خشية الملل لذكرنا ما فيه.
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ فلا تستذله كما قال ابن سلام وقريب منه قول مجاهد لا تحتقر. وقال سفيان:
لا تظلمه بتضييع ماله وفي معناه ما قيل لا تغلبه على ماله، ولعل التقييد لمراعاة الغالب والأولى حمل القهر
382
على الغلبة والتذليل معابان يراد التسلط بما يؤذي أو باستعمال المشترك في معنييه على القول بجوازه وفي مفردات الراغب القهر الغلبة والتذليل معا ويستعمل في كل واحد منهما، وقرأ ابن مسعود والشعبي وإبراهيم التيمي «فلا تكهر» بالكاف بدل القاف ومعناه على ما في البحر فلا تقهر. وفي تهذيب الأزهري الكهر القهر والكهر عبوس الوجه والكهر الشتم واختار بعضهم هنا أوسطها فالمعنى فلا تعبس في وجهه وهو نهي عن الشتم والقهر على ما سمعت من معناه من باب الأولى وأيّا ما كان ففي الآية دلالة على الاعتناء بشأن اليتيم.
وعن ابن مسعود مرفوعا «من مسح على رأس يتيم كان له بكل شعرة تمر عليها يده نور يوم القيامة»
وعن عمر رضي الله تعالى عنه مرفوعا أيضا «إن اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن فيقول الله تعالى لملائكته: يا ملائكتي من أبكى هذا اليتيم الذي غيب أبوه في التراب؟ فيقول الملائكة: أنت أعلم. فيقول الله تعالى: يا ملائكتي إني أشهدكم أن عليّ لمن أسكته وأرضاه أن أرضيه يوم القيامة»
فكان عمر رضي الله تعالى عنه إذا رأى يتيما مسح رأسه وأعطاه شيئا ولم يصح في كيفية مسحه شيء والرواية عن ابن عباس في ذلك قد قيل فيها ما قيل.
وروي عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا وكافل اليتيم كهاتين إذا اتقى الله عز وجل» وأشار بالسبابة والوسطى
إلى غير ذلك من الأخبار.
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ أي فلا تزجره ولكن تفضل عليه بشيء أورده بقول جميل وأريد به عند جمع السائل المستجدي الطالب لشيء من الدنيا، وتدل الآية على الاعتناء بشأنه أيضا وعن إبراهيم بن أدهم نعم القوم السؤّال يحملون زادنا إلى الآخرة. وعن إبراهيم النخعي: السائل يريد الآخرة يجيء إلى باب أحدكم فيقول: أتبعثون إلى أهليكم بشيء وشاع
حديث «للسائل حق وإن جاء على فرس»
وقد قال فيه الإمام أحمد كما في تمييز الطيب من الخبيث لا أصل له وأخرجه أبو داود عن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما موقوفا وسكت عنه، وقال العراقي سنده جيد وتبعه غيره، وقال ابن عبد البر إنه ليس بالقوي وعوّل كثير على ما قال الإمام أحمد وفي معناه احتمالان كل منهما يؤذن بالاهتمام بأمر السائل. وروي من طرق عن عائشة وغيرها: لو صدق السائل ما أفلح من رده. وهو أيضا على ما قال ابن المديني لا أصل له، وقال ابن عبد البر جميع أسانيده ليست بالقوية. نعم
أخرج الطبراني في الكبير عن أبي أمامة مرفوعا ما يقرب منه وهو «لولا أن المساكين يكذبون ما أفلح من ردهم»
ولم أقف على من تعقبه. ثم النهي على النهر على ما قالوا إذا لم يلح في السؤال فإن ألح ولم ينفع الرد اللين فلا بأس بالزجر. وقال أبو الدرداء والحسن وسفيان وغيرهم: المراد بالسائل هنا السائل عن العلم والدين لا سائل المال ولعل النهي عن زجره على القول الأول يعلم بالأولى ويشهد للأولوية أنه لا وعيد على ترك إعطاء المستجدي لمن يجد ما يستجديه بخلاف ترك جواب سائل العلم لمن يعلم ففي الحديث «من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار» وسيأتي إن شاء الله تعالى ما قيل من أن الظاهر الثاني من القولين.
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ فإن التحدث بها شكر لها كما قال عمر بن عبد العزيز والحسن وقتادة والفضيل بن عياض.
وأخرج البخاري في الأدب وأبو داود والترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن حبان والبيهقي والضياء عن جابر بن عبد الله مرفوعا: «من أعطي عطاء فوجد فليجز به فإن لم يجد فليثن به فمن أثنى به فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره، ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور»
ولذا استحب بعض السلف التحدث بما عمله من الخير إذ لم يرد به الرياء والافتخار وعلم الاقتداء به بل بعض أهل البيت رضي الله تعالى
383
عنهم حمل الآية على ذلك.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقسم قال: لقيت الحسن بن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما وأرضاهما فقلت أخبرني عن قول الله تعالى وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ فقال: الرجل المؤمن يعمل عملا صالحا فيخبر به أهل بيته.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال فيها إذا أصبت خيرا فحدث إخوانك والظاهر أن المراد بالنعمة ما أفاضه الله تعالى على نبيه صلّى الله عليه وسلم من فنون النعم التي من جملتها ما تقدم. وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد تفسيرها بالنبوة ورووا عنه أيضا تفسيرها بالقرآن ووافقه في الأول محمد بن إسحاق وفي الثاني الكلبي، وعليهما المراد بالتحديث التبليغ ولا يخفى أن كلا التفسيرين غير مناسب لما قبل وهذه الجمل الثلاث مرتبة على ما قبلها فقيل على اللف والنشر المشوش وحاصل المعنى أنك كنت يتيما وضالا وعائلا فآواك وهداك وأغناك فمهما يكن من شيء فلا تنس نعمة الله تعالى عليك في هذه الثلاث واقتد بالله تعالى فتعطف على اليتيم وترحم على السائل فقد ذقت اليتم والفقر. وقوله تعالى وَأَمَّا بِنِعْمَةِ إلخ في مقابلة قوله سبحانه وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى لعمومه وشموله لهدايته عليه الصلاة والسلام من الضلال بتعليم الشرائع وغير ذلك من النعم، ولم يراع الترتيب لتقديم حقوق العباد على حقه عز وجل فإنه سبحانه وتعالى غني عن العالمين، وقيل لتقديم التخلية على التحلية أو للترقي أو لمراعاة الفواصل ونظر في كل ذلك. وقال الطيبي: الظاهر أن المراد بالسائل طالب العلم لا المستجدي وعليه لا مانع من كون التفصيل على الترتيب فيقال إنه تعالى ذكر أحواله صلّى الله عليه وسلم على وفق الترتيب الخارجي بأن يراد بهدايته عليه الصلاة والسلام ما يعم توفيقه للنظر الصحيح في صباه فقد كان صلّى الله عليه وسلم موفقا لذلك ولذا لم يعبد عليه الصلاة والسلام صنما أو يراد بإغنائه ما كان بعد البعثة ثم فصّل سبحانه على ذلك الترتيب فجعل عدم قهر اليتيم في مقابلة إيوائه تعالى له عليه الصلاة والسلام في يتمه، وعدم زجر السائل طالب العلم والمتعلم منه في مقابلة هدايته له، والتحدث بالنعمة في مقابلة الغنى وإن كانت النعمة شاملة له ولغيره. وآثر سبحانه فَحَدِّثْ على «فخبر» قيل ليكون ذكر النعمة عليه الصلاة والسلام حديثا لا ينساه ويوجده ساعة غب ساعة والله تعالى أعلم. وندب التكبير عند خاتمة هذه السورة الكريمة وكذا ما بعدها إلى آخر القرآن العظيم فقد أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب من طريق أبي الحسن البزي المقري قال: سمعت عكرمة بن سليمان يقول: قرأت على إسماعيل بن قسطنطين فلما بلغت وَالضُّحى قال: كبّر عند خاتمة كل سورة حتى تختم فإني قرأت على عبد الله بن كثير فلما بلغت وَالضُّحى قال: كبّر حتى تختم، وأخبره عبد الله بن كثير أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك وأخبره أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أمره بذلك وأخبره أن أبيّ بن كعب رضي الله تعالى عنه أمره بذلك، وأخبره أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمره بذلك وكان ذلك منه عليه الصلاة والسلام فرحا بنزول الوحي بعد تأخره وبطئه حتى قيل ما قيل هذا وعلى ذلك عمل الناس اليوم والحمد لله رب العالمين.
384
Icon