ﰡ
معنى نزول القرآن في ليلة القدر، مع العلم بأنه نزل منجّما مقسّطا على مدى ثلاث وعشرين سنة: أنه ابتدأ إنزاله ليلة القدر لأن بعثة النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم كانت في رمضان.
وذلك لأن اللَّه تعالى قال في هذه السورة: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وقال في سورة الدخان: حم، وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ، إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ، فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، أَمْراً مِنْ عِنْدِنا، إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [١- ٦].
وأما قوله تعالى في سورة البقرة: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ، وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ [١٨٥] فمعناه أنه ابتدأ نزول القرآن في شهر رمضان المبارك.
وأما آية الأنفال:.. وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ [٤١] فلا تعني تحديد موعد نزول القرآن، وإنما تذكّر المؤمنين بما أنزل على محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم بدر في السابع عشر من رمضان من الآيات المتعلقة بأحكام القتال، والملائكة، والنصر. وسمي يوم بدر يوم الفرقان لأنه فرق فيه بين الحق والباطل.
بدء نزول القرآن وفضائل ليلة القدر
[سورة القدر (٩٧) : الآيات ١ الى ٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤)سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥)
إِنَّا أَنْزَلْناهُ يراد بالهاء القرآن، وأضمره وإن لم يجر له ذكر، للعلم به.
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ فيه صفة محذوفة، تقديره: خير من ألف شهر، لا ليلة قدر فيه، فحذف الصفة.
سَلامٌ هِيَ.. هِيَ: مبتدأ، وسَلامٌ: خبره المقدم.
حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ أي إلى مطلع الفجر. ويقرأ أيضا مَطْلَعِ بكسر اللام، والقياس هو الفتح لأنه من طلع يطلع، بضم عين المضارع، والكسر على خلاف القياس.
البلاغة:
لَيْلَةِ الْقَدْرِ إطناب لذكرها ثلاث مرات، للتفخيم وزيادة العناية بها.
وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ استفهام بقصد التفخيم والتعظيم.
تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ ذكر الخاص بعد العام، ذكر جبريل بعد الملائكة، للتنويه بقدره.
الْقَدْرِ، شَهْرٍ، أَمْرٍ، الْفَجْرِ سجع مرصع: وهو توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات.
المفردات اللغوية:
أَنْزَلْناهُ القرآن، أضمره من غير سابقة ذكر له، للعلم به، والشهادة بأنه غني عن التصريح والتعريف، وقد عظّمه بإسناد إنزاله إليه، وعظّم الوقت الذي نزل فيه بقوله:
وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ.
أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أي ابتدأ إنزاله فيها، أو أنزله جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا على السفرة الكرام البررة، ثم كان جبريل ينزل به على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم منجّما مقسطا على التدريج في ثلاث وعشرين سنة. قال ابن العربي: وهذا باطل ليس بين جبريل وبين اللَّه واسطة، ولا بين جبريل ومحمد عليهما السلام واسطة. وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ أي ما أعلمك يا محمد ما هذه الليلة، والاستفهام لتعظيم شأنها، وسميت بذلك لشرفها، أو لتقدير الأمور فيها، كما قال تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان ٤٤/ ٤].
خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ليس فيها ليلة قدر، فالعمل الصالح فيها خير منه في ألف شهر ليست فيها. تَنَزَّلُ أي تتنزل إلى الأرض أو السماء الدنيا، أو تقربهم إلى المؤمنين.
سَلامٌ هِيَ أي ما هي إلا سلامة، والمعنى: لا يقدر اللَّه فيها إلا السلامة، وأما في غيرها فيقضي بالسلامة والبلاء، أو لكثرة سلام الملائكة فيها على كل مؤمن ومؤمنة. حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ أي إلى وقت مطلعه أو طلوعه.
سبب النزول:
نزول الآية (١) :
أخرج الترمذي والحاكم وابن جرير عن الحسن بن علي أن ليلة القدر خير من ألف شهر، ونزول السورة هي بسبب ما ساءه من حكم بني أمية الذي دام ألف شهر، ولكنه حديث غريب ومنكر جدا.
وأخرج ابن أبي حاتم والواحدي عن مجاهد: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل اللَّه ألف شهر، فعجب المسلمون من ذلك، فأنزل اللَّه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ
التي لبس ذلك الرجل السلاح فيها في سبيل اللَّه.
نزول الآية (٣) :
أخرج ابن جرير عن مجاهد قال: كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح، ثم يجاهد العدو بالنهار حتى يمسي، فعمل ذلك ألف شهر، فأنزل اللَّه:
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ عملها ذلك الرجل.
التفسير والبيان:
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أي إننا نحن اللَّه بدأنا إنزال القرآن في ليلة القدر، وهي الليلة المباركة، كما قال اللَّه عز وجل: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ
[الدخان ٤٤/ ٣] وهي في شهر رمضان لقول اللَّه تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة ٢/ ١٨٥]. ثم أتممنا إنزاله بعد ذلك منجما في ثلاث وعشرين سنة بحسب الحاجة وما تقتضيه الوقائع والحوادث، تبيانا للحكم الإلهي فيها. قال الزمخشري رحمه اللَّه: عظّم اللَّه القرآن من ثلاثة أوجه:
أحدها- أن أسند إنزاله إليه، وجعله مختصا به دون غيره، والثاني- أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التنبيه عليه، والثالث- الرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه «١».
ثم ذكر اللَّه تعالى فضائل تلك الليلة، فقال:
١- وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ أي وما أعلمك ما ليلة القدر؟ وهذا لتفخيم شأنها وتعظيم قدرها، وبيان مدى شرفها، وسميت بذلك لأن اللَّه تعالى يقدر فيها ما شاء من أمره إلى السنة القابلة، أو لعظيم قدرها وشرفها. قال الزمخشري: معنى ليلة القدر: ليلة تقدير الأمور وقضائها، من قوله تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان ٤٤/ ٤].
وقدرها أيضا: أن العمل فيها، وهي ليلة واحدة، خير من العمل في ألف شهر.
أخرج الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: لما حضر رمضان قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، افترض اللَّه عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، في ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم».
٢- تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ أي تهبط الملائكة وجبريل من السموات إلى الأرض بكل أمر ومن أجل كل أمر قدّر في تلك الليلة إلى قابل،
قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن اللَّه يقدّر المقدّر في ليلة البراءة، فإذا كان ليلة القدر يسلّمها إلى أربابها».
ولا يفعلون شيئا إلا بإذن اللَّه لقوله تعالى:
وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مريم ١٩/ ٦٤]. والروح: هو جبريل عليه السلام خص بالذكر لزيادة شرفه، فيكون من باب عطف الخاص على العام.
ومن فوائد نزول الملائكة: أنهم يرون في الأرض من أنواع الطاعات ما لم يروه في سكان السموات، ويسمعون أنين العصاة الذي هو أحب إلى اللَّه من زجل المسبّحين، فيقولون: تعالوا نسمع صوتا هو أحب إلى ربنا من تسبيحنا.
ولعل للطاعة في الأرض خاصية في هذه الليلة، فالملائكة أيضا يطلبونها طمعا في مزيد الثواب، كما أن الرجل يذهب إلى مكة لتصير طاعاته هناك أكثر ثوابا.
٣- سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ أي هذه الليلة المحفوفة بالخير بنزول القرآن وشهود الملائكة، ما هي إلا سلامة وأمن وخير وبركة كلها، لا شرّ فيها، من غروب الشمس حتى وقت طلوع الفجر، يستمر فيها نزول الخير والبركة، ونزول الملائكة بالرحمة فوجا بعد فوج إلى طلوع الفجر.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستدل بالآيات على ما يأتي:
١- بدأ نزول القرآن العظيم في ليلة القدر من ليالي رمضان المبارك.
٣- العمل في ليلة القدر خير من العمل في ألف أشهر ليس فيها ليلة القدر، وفي تلك الليلة يقسم الخير الكثير الذي لا يوجد مثله في ألف شهر.
٤- تهبط الملائكة من كل سماء، ومن سدرة المنتهى، وجبريل حيث مسكنه على وسطها إلى الأرض، ويؤمّنون على دعاء الناس، إلى وقت طلوع الفجر. وهم ينزلون في ليلة القدر بأمر ربهم من أجل كل أمر قدّره اللَّه وقضاه في تلك السنة إلى قابل، كما قال ابن عباس: وهذه الآية دالة على عصمة الملائكة، كما قال تعالى: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مريم ١٩/ ٦٤] وقال سبحانه:
لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء ٢١/ ٢٧].
٥- تلك الليلة ليلة أمن وسلام، وخير وبركة من اللَّه تعالى، فلا يقدّر اللَّه في تلك الليلة إلا السلامة، وفي سائر الليالي يقضي بالبلايا والسلامة، وهي ليلة ذات سلامة من أن يؤثر فيها شيطان في مؤمن ومؤمنة. وليلة سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا ولا أذى. وهي خير كلها ليس فيها شر إلى مطلع الفجر. والخلاصة: اشتملت هذه الليلة على الخيرات والبركات وتقدير الأرزاق، والمنافع الدينية والدنيوية.
يؤيد هذا
ما أخرجه الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «ليلة القدر في العشر البواقي، من قامهن ابتغاء حسبتهن، فإن اللَّه يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهي ليلة وتر: تسع أو سبع أو خامسة أو ثالثة أو آخر ليلة».
الذي عليه أكثر العلماء أنها ليلة سبع وعشرين من رمضان، كل عام لحديث زرّ بن حبيش الذي أخرجه مسلم والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، قال: قلت لأبيّ بن كعب: إن أخاك عبد اللَّه بن مسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر، فقال: يغفر اللَّه لأبي عبد الرحمن! لقد علم أنها في العشر الأواخر من رمضان، وأنها ليلة سبع وعشرين ولكنه أراد ألا يتّكل الناس، ثم حلف لا يستثني «١» : أنها ليلة سبع وعشرين. قال: قلت: بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر؟ قال: بالآية التي أخبرنا بها رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، أو بالعلامة: أن الشمس تطلع يومئذ لا شعاع لها.
والجمهور على أن هذه الليلة باقية في كل عام، ومختصة برمضان.
أماراتها أو علاماتها:
من علاماتها أن الشمس تطلع في صبيحتها بيضاء لا شعاع لها.
روى أبو داود الطيالسي عن ابن عباس أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال في ليلة القدر: «ليلة سمحة طلقة، لا حارّة ولا باردة، وتصبح شمس صبيحتها ضعيفة حمراء».
وروى ابن أبي عاصم النبيل بإسناده عن جابر بن عبد اللَّه: أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «إني رأيت ليلة القدر، فأنسيتها، وهي في العشر الأواخر من لياليها، وهي طلقة بلجة، لا حارّة ولا باردة، كأن فيها قمرا، لا يخرج شيطانها حتى يضيء فجرها».
وروي أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم خرج ليخبر عن ليلة القدر، فوجد رجلين يتنازعان، فنسي الخبر.
الحكمة في إخفاء ليلة القدر كالحكمة في إخفاء وقت الوفاة، ويوم القيامة، حتى يرغب المكلف في الطاعات، ويزيد في الاجتهاد، ولا يتغافل، ولا يتكاسل، ولا يتكل. ومن الإشفاق أيضا ألا يعرفها المكلف بعينها لئلا يكون بالمعصية فيها خاطئا متعمدا. وإذا اجتهد العبد في طلب ليلة القدر بإحياء الليالي المظنونة، باهى اللَّه تعالى ملائكته، ويقول: كنتم تقولون فيهم: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها، وَيَسْفِكُ الدِّماءَ فهذا جدّهم في الأمر المظنون، فكيف لو جعلتها معلومة لهم؟ فهنالك يظهر سر قوله: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ.
فضائلها:
أوجز اللَّه تعالى كما تقدم بيان فضائلها بقوله سبحانه: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ وقوله تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها. والآية الأولى فيها بشارة عظيمة وفيها تهديد عظيم، أما البشارة: فهي أنه تعالى ذكر أن هذه الليلة خير، ولم يبين قدر الخيرية. وأما التهديد: فهو أنه تعالى توعد صاحب الكبيرة بالدخول في النار، وأن إحياء مائة ليلة من القدر، لا يخلصه عن ذلك العذاب المستحق، بتطفيف حبة واحدة، فدل ذلك على تعظيم حال الذنب والمعصية «١».
وفي الصحيحين عن أبي هريرة كما تقدم: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدّم من ذنبه».
وقال الشعبي: وليلها كيومها، ويومها كليلها. وقال الفرّاء: لا يقدر اللَّه في ليلة القدر إلا السعادة والنعم، ويقدّر في غيرها البلايا والنقم. وقال سعيد بن المسيب في الموطأ: من شهد العشاء من ليلة القدر، فقد أخذ بحظه منها. ومثله ومثل ما تقدمه لا يدرك بالرأي.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة البيّنةمدنيّة، وهي ثماني آيات.
تسميتها:
سميت سورة البيّنة لافتتاحها بقوله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ، حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ أي مفارقين ما هم عليه من الكفر، منتهين زائلين عن الشرك، حتى تأتيهم الحجة الواضحة، وهي ذلك المنزل الذي يتلوه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتسمى أيضا سورة البرية، أو: لَمْ يَكُنِ.
مناسبتها لما قبلها:
هذه السورة كالعلة لما قبلها، فكأنه لما قال سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ قيل: لم أنزل القرآن؟ فقيل: لأنه لم يكن الذين كفروا منفكّين عن كفرهم، حتى تأتيهم البينة، فهي كالعلة لإنزال القرآن، المشار إليه في سورة القدر المتقدمة.
ما اشتملت عليه السورة:
هذه السورة المدنية تحدثت عن الأمور الثلاثة التالية:
١- بيان علاقة أهل الكتاب (اليهود والنصارى) والمشركين برسالة
٢- تحديد الهدف الجوهري من الدين والإيمان وهو إخلاص العبادة للَّه عز وجل: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.. [٥].
٣- توضيح مصير كل من الكفار المجرمين الأشقياء شر البرية، والمؤمنين الأتقياء السعداء خير البرية: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ..
[٦- ٨].
فضلها:
أخرج الإمام أحمد عن مالك بن عمرو بن ثابت الأنصاري قال: «لما نزلت: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إلى آخرها، قال جبريل:
يا رسول اللَّه، إن ربك يأمرك أن تقرئها أبيّا، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم لأبيّ: إن جبريل أمرني أن أقرئك هذه السورة، قال أبيّ: وقد ذكرت ثمّ يا رسول اللَّه؟
قال: نعم، قال: فبكى أبيّ».
وأخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أنس بن مالك قال:
قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم لأبي بن كعب: «إن اللَّه أمرني أن أقرأ عليك لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ قال: وسماني لك؟ قال: نعم، فبكى».
وأخرج أحمد والترمذي عن أبي بن كعب قال: إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لي: «إن اللَّه أمرني أن أقرأ عليك القرآن، فقرأ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ.. فقرأ فيها: ولو أن ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه لسأل ثانيا، ولو سأل ثانيا فأعطيه لسأل ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب اللَّه على من تاب، وإن ذات الدين عند اللَّه الحنيفية غير المشركة