وقيل: الجوابُ محذوف، أي: فافعلوا ما شئتم.
وقرأ العامة:
«فَأَجْمعوا» أمراً مِنْ
«أَجْمع» بهمزة القطع يقال: أَجْمع في المعاني، وجَمَع في الأعيان، فيقال: أجمعت أمري وجمعت الجيش، هذا هو الأكثر. قال الحارث بن حلزة:
٢٦٠٧ - أَجْمَعُوا أمرهم بليلٍ فلمَّا | أصبحوا أصبحت لهم ضَوْضَاءُ |
وقال آخر:٢٦٠٨ - يا ليت شعري والمُنَى لا تَنْفَعُ | هل أَغْدُوَنْ يوماً وأَمْري مُجْمَعُ |
وهل أَجْمَعَ متعدٍّ بنفسه أو بحرف جر ثم حُذِف اتِّساعاً؟ فقال أبو البقاء:
«مِنْ قولك» أجمعتُ على الأمر: إذا عَزَمْتَ عليه، إلا أنه حُذِفَ حرفُ الجر فوصل الفعل إليه. وقيل: هو متعدٍّ بنفسه في الأصل
«وأنشد قولَ الحارث. وقال أبو فيد السدوسي:» أَجْمعت الأمر
«أفصحُ مِنْ أَجْمعت عليه» وقال أبو الهثيم:
«أجمعَ أمرَه جَعَله مجموعاً بعدما كان متفرقاً» قال:
«وَتفْرِقَتُه أن يقولُ مرةً افعل كذا، ومرة افعل كذا، وإذا عَزَم على أمرٍ واحد فقد جَمَعه أي: جعله جميعاً، فهذا هو الأصلُ في الإِجماع، ثم صار بمعنى العَزْم حتى وصل ب» على
«فقيل: أَجْمَعْتُ على الأمر أي: عَزَمْتُ عليه، والأصل: أجمعت الأمر.
وقرأ العامَّةُ:» وشركاءَكم
«نصباً وفيه أوجه، أحدها: أنه معطوفٌ على» أَمْرَكم «بتقدير حذف مضاف، أي: وأمر شركاءكم كقوله:
﴿وَسْئَلِ القرية﴾ [يوسف: ٨٢]، ودلَّ على ذلك ما قدَّمْتُه من أن
«أَجْمع» للمعاني. والثاني: أنه
240
عطف عليه من غير تقدير حذف مضاف، قيل: لأنه يقال أيضاً: أجمعت شركائي. الثالث: أنه منصوب بإضمار فعلٍ لائق، أي: وأجمعوا شركاءكم بوصل الهمزة. وقيل: تقديره: وادعوا، وكذلك هي في مصحف أُبَيّ
«وادعوا» فأضمرَ فعلاً لائقاً كقوله تعالى:
﴿والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان﴾ [الحشر: ٩]، أي: واعتقدوا الإِيمانَ، ومثلُه قولُ الآخر:
٢٦٠٩ - فَعَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً | حتى شَتَتْ هَمَّالةً عيناها |
وكقوله:٢٦١٠ - يا ليت زوجَك قد غدا | مُتَقَلِّداً سَيْفاً ورُمْحاً |
وقول الآخر:٢٦١١ - إذا ما الغانياتُ بَرَزْنَ يوماً | وزَجَّجْنَ الحواجبَ والعيونا |
يريد: ومُعْتَقِلاً رُمْحاً، وكحَّلْنَ العيونا. وقد تقدم أن في هذه الأماكن غيرَ هذا التخريج. الرابع: أنه مفعولٌ معه، أي: مع
«شركائكم» قال الفارسي:
«وقد يُنْصب الشركاء بواو مع، كما قالوا: جاء البردُ والطَّيالسةَ»، ولم يذكر الزمخشري غيرَ قولِ أبي علي. قال الشيخ:
«وينبغي أَنْ يكونَ هذا التخريجُ على أنه مفعول معه من الفاعل، وهو الضمير في» فَأَجْمعوا
«لا من المفعول الذي هو» أَمْرَكُمْ «وذلك على أشهرِ الاستعمالين،
241
لأنه يقال:» أجمع الشركاءُ أمرَهم، ولا يقال:
«جَمَع الشركاء أمرهم» إلا قليلاً، قلت: يعني أنه إذا جعلناه مفعولاً معه من الفاعل كان جائزاً بلا خلافٍ، لأنَّ مِن النحويين مَنْ اشترط في صحةِ نصبِ المفعول معه أن يصلح عَطْفُه على ما قبله، فإن لم يَصْلُحْ عطفُه لم يَصِحَّ نصبُه مفعولاً معه، فلو جعلناه من المفعول لم يَجُزْ على المشهور، إذ لا يَصْلُح عَطْفُه على ما قبله، إذ لا يقال: أجمعت شركائي، بل جَمَعْت.
وقرأ الزهري والأعمش والأعرج والجحدري وأبو رجاء ويعقوب والأصمعي عن نافع
«فأجْمَعُوا» بوصل الألف وفتح الميم من جَمَع يَجْمَع، و
«شركاءَكم» على هذه القراءةِ يتضح نصبه نسقاً على ما قبله، ويجوز فيه ما تقدم في القراءة الأولى من الأوجه. قال صاحب
«اللوامح» :
«أَجْمَعْتُ الأمر: أي: جَعَلْتُه جميعاً، وجَمَعْتُ الأموال جمعاً، فكان الإِجماعُ في الأحداث والجمع في الأعيان، وقد يُسْتعمل كلُّ واحد مكان الآخر، وفي التنزيل: ﴿فَجَمَعَ كَيْدَهُ﴾ [طه: ٦٠]. قلت: وقد اختلف القراء في قوله تعالى: ﴿فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ﴾ [طه: ٦٤]، فقرأ الستة بقطع الهمزة، جعلوه مِنْ أجمع وهو موافقٌ لِما قيل:» إنَّ
«أجمع» في المعاني. وقرأ أبو عمرو وحدَه
«فاجمعوا» بوصل الألفِ، وقد اتفقوا على قولِه
«فَجَمع كيدَه ثم أتى» فإنه مِن الثلاثي، مع أنه متسلِّطٌ على معنى لا عَيْنٍ. ومنهم مَنْ جَعَل للثلاثي معنىً غيرَ معنى الرباعي فقال في قراءة أبي عمرو مِنْ جَمَع يَجْمع ضد فرَّق يُفَرِّق، وجَعَلَ قراءةَ الباقين مِنْ
«أجمع أمرَه» إذا أحكمه وعزم عليه، ومنه قول الشاعر:
242
٢٦١٢ - يا ليت شعري والمنى لا تَنْفَعُ | هل أَغْدُوَنْ يوماً وأَمْري مُجْمَعُ |
وقيل: المعنى: فاجْمَعوا على كيدكم، فحذف حرف الجر.
وقرأ الحسن والسلمي وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق وسلام ويعقوب
«وشركاؤكم» رفعاً. وفيه تخريجان، أحدهما: أنه نسقٌ على الضمير المرفوع بأَجْمِعُوا قبله، وجاز ذلك إذ الفصلُ بالمفعولِ سَوَّغ العطف، والثاني: أنه مبتدأ محذوف الخبر، تقديرُه: وشركاؤكم فَلْيُجْمِعوا أمرهم.
وشَذَّتْ فرقةٌ فقرأت:
«وشركائكم» بالخفض ووُجِّهَتْ على حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه مجروراً على حاله كقوله:
٢٦١٣ - أكلَّ امرِىءٍ تحسبين أمرَأً | ونارٍ تَوَقَّدُ بالليل نارا |
أي: وكل نار، فتقدير الآية: وأمر شركائكم، فحذف الأمر وأبقى ما بعدَه على حاله، ومَنْ رأى برأي الكوفيين جوَّز عطفه على الضمير في
«أمركم» من غيرِ تأويل، وقد تقدَّم ما فيه من المذاهب أعني العطفَ على الضميرِ المجرور مِنْ غير إعادة الجارِّ في سورة البقرة.
قوله:
﴿غُمَّةً﴾ يقال: غَمٌّ وغُمَّة نحو كَرْبٌ وكُرْبَةٌ. قال أبو الهيثم:
«هو مِنْ قولهم:» غَمَّ علينا الهلالُ فهو مغموم إذا التُمِس فلم يُر. قال طرفة ابن العبد.
٢٦١٤ - لعَمْرك ما أمري عليَّ بغُمَّةٍ | نهاري ولا ليلي عليَّ بسَرْمَدِ |
وقال الليث: «يُقال: هو في غُمَّة مِنْ أمره إذا لم يتبيَّنْ له.
243
قوله تعالى:
﴿مِن بَعْدِهِ﴾ : أي: بعد نوح.
«بالبينات»
244
متعلقٌ ب
«جاؤُوهم»، أو بمحذوفٍ على أنه حال، أي: ملتبسين بالبينات. وقوله:
«ليؤمِنوا» أتى بلام الجحود توكيداً. والضمير في
«كَذَّبوا» عائدٌ على مَنْ عاد عليه الضمير في
«كانوا» وهم قومُ الرسل. والمعنى: أنَّ حالَهم بعد بعثِ الرسل كحالِهم قبلها في كونهم أهلَ جاهلية، وقال أبو البقاء ومكي:
«إن الضميرَ في» كانوا
«يعود على قوم الرسل، وفي» كَذَّبوا
«يعودُ على قوم نوح، والمعنى: فما كان قومُ الرسلِ ليؤمنوا بما كَذَّب به قومُ نوح، أي: بمثلِه. ويجوز أن تكونَ الهاءُ عائدةً على نوح نفسه من غير حَذْفِ مضافٍ، والتقدير: فما كان قومُ الرسلِ بعد نوح ليؤمنوا بنوحٍ، إذ لو آمنوا به لآمنوا بأنبيائهم. و» من قبل
«متعلقٌ ب» كَذَّبوا
«أي من قبل بعثة الرسل. وقيل: الضمائرُ كلُّها تعودُ على قوم الرسل بمعنى آخر: وهو أنهم بادروا رسلَهم بالتكذيب، كلما جاءَ رسولٌ لَجُّوا في الكفرِ وتمادَوْا عليه فلم يكونوا لِيؤمنوا بما سَبَقَ به تكذيبُهم من قبلِ لَجِّهم في الكفر وتمادِيهم.
وقال ابن عطية:» ويحتمل اللفظُ عندي معنى آخر، وهو أن تكونَ
«ما» مصدرية، والمعنى: فكذَّبوا رسلَهم فكان عقابهم من الله أَنْ لم يكونوا ليؤمنوا بتكذيبهم مِنْ قبل، أي: من سببه ومن جزائه، ويؤيِّد هذا التأويلَ
«كذلك نطبع»، وهو كلامٌ يحتاج لتأمُّل
«. قال الشيخ:» والظاهرُ أنَّ
«ما» موصولةٌ، ولذلك عاد الضمير عليها في قوله:
﴿بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ﴾ ولو كانت مصدريةً بقي الضميرُ غيرَ عائدٍ على مذكور، فتحتاج أن يتُكلَّفَ ما يعود عليه الضمير
«. قلت: الشيخ بناه على قولِ جمهورِ النحاة في عدمِ كونِ» ما «
245
المصدرية اسماً فيعود عليها ضميرٌ، وقد نبَّهْتُك غيرَ مرةٍ أن مذهبَ الأخفش وابن السراج أنها اسمٌ فيعود عليها الضمير.
وقرأ العامَّةُ» نَطْبع «بالنون الدالة على تعظيم المتكلم. وقرأ العباس بن الفضل بياء الغيبة وهو الله تعالى، ولذلك صرَّح به في موضعٍ آخرَ
﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله﴾ [الأعراف: ١٠١]. والكافُ نعتٌ لمصدر محذوف، أو حالٌ من ضمير ذلك المصدرِ على حسبِ ما عرفته من الخلاف، أي: مثلَ ذلك الطَّبْع المُحْكمِ الممتنعِ زوالُه نطبع على قلوب المُعْتدين على خَلْق الله.
246
قوله تعالى:
﴿أَتقُولُونَ﴾ : في معمولِ هذا القولِ وجهان/، أحدهما: أنه مذكورٌ، وهو الجملةُ من قوله:
«أسحرٌ هذا» إلى آخره، كأنهم قالوا: أجئتما بالسحر تطلبانِ به الفلاحَ ولا يفلح الساحرون، كقولِ موسى على نبيِّنا وعليه وعلى سائر الأنبياء أفضلُ الصلاة والسلام للسحرة:
﴿مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ﴾. والثاني: أن معموله محذوفٌ، وهو مدلولٌ عليه بما تقدَّم ذكرُه، وهو: إن هذا لسحرٌ مبين. ومعمولُ القول يُحذف للدلالةِ عليه كثيراً، كما يُحذف نفسُ القولِ كثيراً،
246
ومثلُ الآية في حَذْفِ المقول قولُ الشاعر:
٢٦١٦ - لَنحن الأُلى قُلْتُمْ فأنَّى مُلِئْتُمُ | برؤيتنا قبلَ اهتمامٍ بكمْ رُعْبا |
وفي كتاب سيبويه:
«متى رأيت أو قلت زيداً منطلقاً» على إعمال الأول، وحَذْفِ معمولِ القول، ويجوز إعمالُ القولِ بمعنى الحكاية به فيقال:
«متى رأيت أو قلت زيد منطلق»، وقيل: القول في الآية بمعنى العَيْب والطعن، والمعنى: أتعيبون الحق وتَطْعنون فيه، وكان مِنْ حَقِّكم تعظيمُه والإِذعانُ له مِنْ قولهم:
«فلان يخاف القالة»، و
«بين الناس تقاوُلٌ»، إذا قال بعضهم لبعض ما يسْوءُه، ونَحْوُ القولِ الذكرُ في قوله:
﴿سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ﴾ [الأنبياء: ٦٠] وكلُّ هذا ملخَّصٌّ من كلام الزمخشري.
247
قوله تعالى:
﴿أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا﴾ : اللامُ متعلقةٌ بالمجيء أي: أجئت لهذا الغرض، أنكروا عليه مجيئَه لهذه العلة. واللَّفْتُ: الَّليُّ والصَرْفُ، لَفَتَه عن كذا أي: صَرَفَه ولواه عنه. وقال الأزهري:
«لَفَتَ الشيءَ وفَتَلَه: لواه، وهذا من المقلوب» قلت: ولا يدعى فيه قَلْبٌ حتى يَرْجَعَ أحدُ اللفظين في الاستعمال على الآخر، ولذلك لم يَجْعلوا جَذَبَ وجَبَذَ وحَمِدَ ومَدَح من هذا القبيل لتساويهما. ومطاوعُ لَفَتَ: التَفَتَ. وقيل: انفتل، وكأنهم استَغْنَوا بمطاوع
«فَتَل» عن مطاوع لَفَتَ، وامرأة لَفُوت: أي: تَلْتَفِتُ لولدها عن زوجها إذا كان الولد لغيره، واللَّفِيْتَةُ: ما يَغْلُظُ من العَصِيدة.
247
قوله:
﴿وَتَكُونَ لَكُمَا الكبريآء﴾ الكِبْرياء: اسم كان، و
«لكم» الخبر، و
«في الأرض» : جَوَّز فيها أبو البقاء خمسةَ أوجه أحدها: أن تكونَ متعلقةً بنفس الكبرياء. الثاني: أن يُعَلَّق بنفس
«تكون». الثالث: أن يتعلَّقَ بالاستقرار في
«لكم» لوقوعه خبراً. الرابع: أن يكونَ حالاً من
«الكبرياء». الخامس: أن يكون حالاً من الضمير في
«لكما» لتحمُّلِه إياه.
والكِبْرياء مصدرٌ على وزنِ فِعْلِياء، ومعناها العظمة. قال عديّ ابن الرِّقاع:
٢٦١٧ - سُؤْدُدٌ غيرُ فاحِشٍ لا يُدا | نِيه تَجْبارَةٌ ولا كِبْرِيا |
وقال ابن الرقيات:٢٦١٨ - مُلْكُه مُلْكُ رأفةٍ ليس فيه | جَبَروتٌ منهُ ولا كِبْرِياءُ |
يعني: ليس هو ما عليه الملوكُ من التجبُّر والتعظيم.
والجمهورُ على
«تكون» بالتأنيث مراعاةً لتأنيث اللفظ. وقرأ ابن مسعود والحسن وإسماعيل وأبو عمرو وعاصم في روايةٍ:
«ويكون» بالياء من تحتُ، لأنه تأنيثٌ مجازي.
248
قوله تعالى:
﴿مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر﴾ : قرأ أبو عمرو وحده دون باقي السبعة
«آلسحرُ» بهمزة الاستفهام، وبعدها ألف محضةٌ، وهي بدل عن همزة الوصلِ الداخلةِ على لام التعريف، ويجوز أن تُسَهَّل بينَ بينَ، وقد تقدَّم تحقيق هذين الوجهين في قوله:
﴿ءَآلذَّكَرَيْنِ﴾ [الأنعام: ١٤٣] وهي قراءةُ مجاهدٍ وأصحابه وأبي جعفر. وقرأ باقي السبعة بهمزةِ وصلٍ تَسْقط في الدَّرْج. فأمَّا قراءة أبي عمرو ففيها أوجهٌ، أحدها: أنَّ
«ما» استفهاميةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و
«جِئْتُمْ به» الخبرُ، والتقديرُ: أيُّ شيءٍ جئتم، كأنه استفهامُ إنكارٍ وتقليلٌ للشيءِ المُجَاء به. و
«السحر» بدلٌ من اسم الاستفهام، ولذلك أُعِيد معه أداتُه لما قرَّرْتُه في كتب النحو. الثاني: أن يكون
«السحر» مبتدأً خبرُه محذوف، تقديره: أهو السحر. الثالث: أن يكونَ مبتدأً محذوفَ الخبر تقديره: السحر هو. ذكر هذين الوجهين أبو البقاء، وذكر الثاني مكي، وفيهما بُعد. الرابع: أن تكونَ
«ما» موصولةً بمعنى الذي، وجئتم به صلتُها، والموصولُ في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و
«السحر» على وجهيه من كونِه خبرَ مبتدأ محذوف، أو مبتدأً محذوفَ الخبر، تقديره: الذي جئتم به/ أهو السحر، أو الذي جئتم به السحر هو، وهذا الضميرُ هو الرابط كقولك: الذي جاءك أزيدٌ هو، قاله الشيخ.
249
قلت: قد منع مكي أن تكونَ
«ما» موصولةً على قراءة أبي عمرو فقال:
«وقد قرأ أبو عمرو» آلسحرُ
«بالمد، فعلى هذه القراءةِ تكون» ما
«استفهاماً مبتدأ، و» جئتم به
«الخبر، و» السحر
«خبرُ ابتداء محذوف، أي: أهو السحر، ولا يجوزُ أن تكونَ» ما
«بمعنى الذي على هذه القراءةِ إذا لا خبر لها». قلت: ليس كما ذكر، بل خبرُها الجملةُ المقدَّرُ أحدُ جُزْأيها، وكذلك الزمخشري وأبو البقاء لم يُجيزا كونَها موصولةً إلا في قراءة غيرِ أبي عمرو، لكنهما لم يتعرَّضا لعدمِ جوازه.
الخامس: أن تكونَ
«ما» استفهاميةً في محلِّ نصب بفعل مقدرٍ بعدها لأنَّ لها صدرَ الكلام، و
«جئتم به» مفسِّر لذلك الفعل المقدر، وتكون المسألةُ حينئذٍ من باب الاشتغال، والتقدير: أيُّ شيءٍ أَتَيْتُمْ جئتم به، و
«السحر» على ما تقدم، ولو قرىء بنصب
«السحر» على أنه بدلٌ مِنْ
«ما» بهذا التقديرِ لكان له وجه، لكنه لم يُقرأ به فيما عَلِمْت، وسيأتي ما حكاه مكي عن الفراء مِنْ جواز نصبِه لمَدْرَكٍ آخرَ على أنها قراءةٌ منقولة [عن الفرَّاء].
وأمَّا قراءةُ الباقين ففيها أوجهٌ أيضاً، أحدها: أن تكون
«ما» بمعنى الذي في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و
«جئتم به» صلةٌ وعائدُه، و
«السحرُ» خبرهُ، والتقدير: الذي جئتم به السحرُ، ويؤيِّد هذا التقديرَ قراءةُ أُبَيّ وما في مصحفه:
﴿ما أتيتم به سحرٌ﴾ وقراءةُ عبد الله والأعمش
﴿مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر﴾.
الثاني: أن تكونَ
«ما» استفهاميةً في محلِّ نصبٍ بإضمارِ فعل على ما تقرَّر، و
«السحر» خبر ابتداء مضمر أو مبتدأٌ مضمرُ الخبر. الثالث: أن تكونَ
«ما»
250
في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و
«السحر» على ما تقدَّم مِنْ كونِه مبتدأً أو خبراً، والجملةُ خبر
«ما» الاستفهامية. قال الشيخ بعدما ذكر الوجه الأول:
«ويجوز عندي أن تكونَ في هذا الوجهِ استفهاميةً في موضع رفع بالابتداء، أو في موضع نصبٍ على الاشتغال، وهو استفهامٌ على سبيل التحقيرِ والتقليلِ لِما جاؤوا به، و» السحر
«خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: هو السحر».
قلت: ظاهرُ عبارتِه أنه لم يَرَه غيرُه، حيث قال
«عندي»، وهذا قد جوَّزه أبو البقاء ومكي. قال أبو البقاء: لمَّا ذكر قراءة غير أبي عمرو
«ويُقرأ بلفظِ الخبر، وفيه وجهان»، ثم قال:
«ويجوزُ أن تكونَ» ما
«استفهاماً، و» السحر
«خبر مبتدأ محذوف». وقال مكي في قراءةِ غيرِ أبي عمرو بعد ذِكره كونَ
«ما» بمعنى الذي:
«ويجوز أن تكونَ» ما
«رفعاً بالابتداء وهي استفهامُ، و» جئتم به
«الخبر، و» السحر
«خبرُ مبتدأ محذوف، أي: هو السحر، ويجوز أن تكونَ» ما
«في موضعِ نصبٍ على إضمارِ فعلٍ بعد» ما
«تقديرُه: أيُّ شيء جئتم [به]، و» السحرُ
«خبر ابتداء محذوف».
الرابع: أن تكونَ هذه القراءةُ كقراءة أبي عمرو في المعنى، أي: إنها على نيةِ الاستفهام، ولكن حُذِفَتْ أداتُه للعلم بها، قال أبو البقاء:
«ويُقرأ بلفظِ الخبر، وفيه وجهان، أحدُهما: أنه استفهامٌ في المعنى أيضاً: وحُذِفَتْ الهمزةُ للعِلْم بها»، وعلى هذا الذي ذكره يكونُ الإِعرابُ على ما تقدم. واعلم أنَّك إذا جَعَلْتَ
«ما» موصولةً بمعنى الذي امتنع نصبُها بفعلٍ مقدرٍ على الاشتغال. قال مكي:
«ولا يجوز أن تكونَ» ما «بمعنى الذي في
251
موضعِ نصبٍ لأن ما بعدها صلتُها، والصلةُ لا تعملُ في الموصول، ولا يكون تفسيراً للعامل في الموصول»، وهو كلامٌ صحيح، فتلخَّص من هذا أنها إذا كانَتْ استفهاميةً جاز أن تكونَ في محل رفع أو نصب، وإذا كانت موصولةً تعيَّن أن يكون مَحَلُّها الرفع بالابتداء.
وقال مكي:
«وأجاز الفراءُ نصبَ» السحر
«، تجعل» ما
«شرطاً، وتنصِبُ» السحرَ
«على المصدر، وتضمرُ الفاء مع» إن الله سيُبْطِله
«، وتجعلُ الألفَ واللامَ في» السحر
«زائدتين، وذلك كلُّه بعيدٌ، وقد أجاز علي ابن سليمان حَذْفَ الفاءِ من جواب الشرط في الكلام، واستدلَّ على جوازه بقوله تعالى: / ﴿وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [الشورى: ٣٠]، ولم يُجِزْه غيره إلا في ضرورة شعر». قلت: وإذا مَشَيْنا مع الفراء فتكون
«ما» شرطاً يُراد بها المصدرُ، تقديره: أيَّ سحر جئتم به فإن الله سيبطله، ويُبَيِّن أن
«ما» يراد بها السحر قولُه:
«السحر»، ولكن يَقْلَقُ قولُه:
«إن نصب» السحر
«على المصدرية»، فيكون تأويله أنه منصوبٌ على المصدرِ الواقعِ موقعَ الحال، ولذلك قدَّره بالنكرة، وجَعَلَ أل مزيدةً منه.
وقد نُقِلَ عن الفراء أن هذه الألف واللام للتعريف، وهو تعريف العهد، قال الفراء:
«وإنما قال» السحر
«بالألف واللام لأنَّ النكرةَ إذا أُعيدت أعيدَتْ بالألِفِ واللام»، يعني أن النكرةَ قد تَقَدَّمَتْ في قوله:
﴿إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ﴾، وبهذا شَرَحَه ابنُ عطية. قال ابن عطية:
«والتعريفُ هنا في»
252
السحر
«أَرْتَبُ لأنه قد تقدَّم منكَّراً في قولهم:» إنَّ هذا لسِحْر
«، فجاء هنا بلام العهد، كما يقال أول الرسالة» سلامٌ عليك
«. قال الشيخ:» وما ذكراه هنا في
«السحر» ليس مِنْ تقدُّم النكرة، ثم أخبر عنها بعد ذلك، لأنَّ شَرْطَ هذا أن يكون المعرَّفُ بأل هو المنكَّرَ المتقدَّمَ، ولا يكون غيره، كقوله تعالى:
﴿كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول﴾ [المزمل: ١٥-١٦]، وتقول:
«زارني رجلٌ فأكرمت الرجل» لَمَّا كان إياه جاز أن يُؤْتى بضميره بَدَلَه، فتقول: فأكرمتُه، والسحرُ هنا ليس هو السحرَ الذي في قولهم:
«إنَّ هذا لسحر» لأن الذي أخبروا عنه بأنه سحرٌ هو ما ظهر على يَدَي موسى من معجزة العصا والسحر الذي في قولِ موسى، إنما هو سحرهم الذي جاؤوا به، فقد اختلف المدلولان، إذ قالوا هم عن معجزة موسى، وقال موسى عَمَّا جاؤوا به، ولذلك لا يجوز أن يُؤْتى هنا بالضمير بدلَ السحر، فيكونَ عائداً على قولهم:
«لسِحْر».
قلت: والجوابُ أن الفراء وابن عطية إنما أراد السحر المتقدمَ الذِّكر في اللفظ، وإن كان الثاني هو غيرَ عينِ الأول في المعنى، ولكن لمَّا أُطْلِق عليهما لفظ
«السحر» جاز أن يُقال ذلك، ويدلُّ على هذا أنهم قالوا في قوله تعالى:
﴿والسلام عَلَيَّ﴾ [مريم: ٣٣] : إن الألفَ واللام للعهد لتقدُّم ذكر السلام في قوله تعالى:
﴿وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ﴾ [مريم: ١٥]، وإن كان السلامُ الواقعُ على عيسى هو غيرَ السلام الواقع على يحيى، لاختصاص كلِّ سلام بصاحبه من حيث اختصاصُه به، وهذا النقل المذكورُ عن الفراء في الألف واللام ينافي ما نَقَله عنه مكيٌّ فيهما،
253
اللهم إلا أن يُقال: يُحتمل أن يكونَ له مقالتان، وليس ببعيدٍ فإنه كلما كَثُر العلمُ اتسعت المقالاتُ.
وقوله:
﴿المفسدين﴾ مِنْ وقوع الظاهرِ موقعَ ضمير المخاطب إذ الأصلُ: لا يُصلح عملَكم، فأبرزهم في هذه الصفةِ الذَّميمةِ شهادةً عليهم بها.
254
قوله تعالى:
﴿فَمَآ آمَنَ﴾ : الفاءُ للتعقيب، وفيها إشعارٌ بأن إيمانَهم لم يتأخر عن الإِلقاء، بل وقع عقيبه، لأنَّ الفاءَ تفيد ذلك، وقد تقدَّم توجيهُ تَعْدِيةِ
«آمن» باللام. والضمير في
«قومه» فيه وجهان، أحدهما: وهو الظاهرُ عودُه على موسى لأنه هو المحدَّث عنه، ولأنه أقربُ مذكورٍ، ولو عاد على فرعون لم يكرِّر لفظَه ظاهراً، بل كان التركيب
«على خوفٍ منه»، وإلى هذا ذهب ابنُ عباس وغيرُه.
والثاني: أنه يعود على فرعون، ويُروى عن ابن عباس أيضاً، ورَجَّح ابنُ عطية هذا، وضَعَّف الأول فقال:
«ومما يُضَعِّف عودَ الضمير على موسى أن المعروفَ من أخبارِ بني إسرائيل أنهم كانوا قد فَشَتْ فيهم النبواتُ، وكانوا قد نالهم ذلٌّ مُفْرِط، وكانوا يَرْجُوْن كَشْفَه بظهورِ مولود، فلمَّا جاءهم موسى أَصْفقوا عليه وتابعوه، ولم يُحْفَظ أن طائفةً من بني إسرائيل كفرت بموسى، فكيف تعطي هذه الآيةُ أنَّ الأقلَ منهم كان الذي آمن؟، فالذين يَتَرَجَّح عَوْدُه على فرعون، ويؤيِّده أيضاً ما تقدَّم مِنْ محاورة/ موسى ورَدِّه عليهم وتوبيخهم».
254
قوله:
﴿على خَوْفٍ﴾ حال، أي: آمنوا كائنين على خوف، والضمير في
«وملئهم» فيه أوجه، أحدُها: أنه عائدٌ على الذرِّيَّة، وهذا قولُ أبي الحسن واختيارُ ابن جرير، أي: خوفٍ من مَلأَ الذرية، وهم أشرافُ بني إسرائيل.
الثاني: أنه يعودُ على قومِه بوجهيه، أي: سواءٌ جَعَلْنا الضمير في
«قومه» لموسى أو لفرعون، أي: وملأ قوم موسى أو ملأ قوم فرعون.
الثالث: أن يعودَ على فرعون، واعتُرِضَ على هذا بأنه كيف يعودُ ضميرُ جمعٍ على مفرد؟ وقد اعتذر أبو البقاء عن ذلك بوجهين، أحدُهما: أنَّ فرعونَ لمَّا كان عظيماً عندهم عاد الضمير عليه جميعاً، كما يقول العظيم، نحن نأمرُ، وهذا فيه نظرٌ، لأنه لو وَرَدَ ذلك مِنْ كلامهم مَحْكيَّاً عنهم لاحتمل ذلك. والثاني: أنَّ فرعونَ صار اسماً لأتباعه، كما أن ثمودَ اسمٌ للقبيلة كلها
«. وقال مكي وجهين آخرين قريبين من هذين، ولكنهما أخلصُ منهما، قال:» إنما جُمع الضميرُ في
«مَلَئهم» لأنه إبخار عن جبّار، والجبَّار يُخْبَر عنه بلفظِ الجمع، وقيل: لَمَّا ذُكِرَ فرعونُ عُلِمَ أنَّ معه غيرَه، فَرَجَع الضميرُ عليه وعلى مَنْ معه «. قلت: وقد تقدَّم نحوٌ مِنْ هذا عند قوله:
﴿الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس﴾ [آل عمران: ١٧٣]، والمرادُ بالقائل نعيم بن مسعود، لأنه لا يَخْلو من مُساعدٍ له على ذلك القول.
الرابع: أنْ يعودَ على مضافٍ محذوف وهو آل، تقديره: على خوفٍ مِنْ آل فرعون ومَلَئهم، قاله الفراء، كما حُذِف في قوله
﴿وَسْئَلِ القرية﴾ [يوسف: ٨٢].
255
قال أبو البقاء بعد أن حكى هذا ولم يَعْزُه لأحد:
«وهذا عندنا غَلَط، لأنَّ المحذوفَ لا يعود إليه ضمير، إذ لو جاز ذلك لجاز أن يقول:» زيد قاموا
«وأنت تريد» غلمان زيد قاموا
«. قلت: قوله» لأن المحذوف لا يعودُ إليه ضمير
«ممنوعٌ، بل إذا حُذِف مضافٌ فللعرب فيه مذهبان: الالتفاتٌ إليه وعَدَمُه وهو الأكثر، ويدل على ذلك أنه قد جَمَع بين الأمرين في قوله ﴿وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا﴾ [الأعراف: ٤] أي: أهل قريةٍ، ثم قال:» أو هم قائلون
«وقد حَقَّقْتُ ذلك في موضعِه المشارِ إليه. وقوله:» لجاز زيد قاموا
«ليس نظيرَه، فإنَّ فيه حَذْفاً من غيرِ دليلٍ بخلاف الآية.
وقال الشيخ بعد أن حكى كلامَ الفراء» ورُدَّ عليه بأن الخوفَ يُمكن مِنْ فرعون، ولا يمكن سؤالُ القرية، فلا يُحْذَفُ إلا ما دلَّ عليه الدليل، وقد يقال: ويَدُلُّ على هذا المحذوفِ جَمْعُ الضمير في
«ومَلَئهم». قلت: يعني أنهم رَدُّوا على الفراء بالفرق بين
﴿وَسْئَلِ القرية﴾ وبين هذه الآيةِ بأنَّ سؤالَ القرية غيرُ ممكنٍ فاضْطُرِرْنا إلى تقدير المضاف بخلاف الآية، فإن الخوف تَمَكَّن مِنْ فرعونَ فلا اضطرارَ بنا يَدُلُّنا على مضاف محذوف. وجوابُ هذا أنَّ الحَذْفَ قد يكون لدليلٍ عقلي أو لفظي، على أنه قيل في
«واسأل القرية» إنه حقيقةٌ، إذ يمكنُ النبيُّ أن يسألَ القريةَ فتجيبَه.
الخامس: أن ثمَّ معطوفاً محذوفاً حُذِف للدلالة عليه، والدليلُ كونُ المَلِك لا يكونُ وحدَه، بل له حاشية وعساكر وجندٌ، فكان التقدير: على خَوْفٍ مِنْ فرعون وقومه ومَلَئهم، أي: ملأ فرعون وقومه، وهو منقولٌ عن الفراء أيضاً. قلت: حَذْفُ المعطوفِ قليلٌ في كلامهم، ومنه عند بعضهم
256
قولُه تعالى
﴿تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: ٨١] أي: والبرد، وقول الآخر:
٢٦١٩ - كأن الحصى مِنْ خلفها وأمامِها | إذا حَذَفَتْه رِجْلُها حَذْفُ أَعْسَرا |
أي: ويدُها.
قوله:
﴿أَن يَفْتِنَهُمْ﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه في محلِّ جرٍ على البدل مِنْ
«فرعون»، وهو بدلُ اشتمالٍ تقديره: على خوفٍ من فرعون فِتْنَتِه كقولك:
«أعجبني زيد علْمُه». الثاني: أنه في موضعِ نصبٍ على المفعول به بالمصدر أي: خوفٍ فتنتَه، وإعمالُ المصدرِ المنوَّنِ كثيرٌ كقوله:
﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً﴾ [البلد: ١٤-١٥]. وقولِ الآخر:
٢٦٢٠ - فلولا رجاءُ النصرِ منك ورَهْبَةٌ | عقابَك قد كانوا لنا بالمَوارد |
الثالث: أنه منصوبٌ على المفعول من أجله بعد حَذْفِ اللام، ويَجْري فيها الخلافُ المشهورُ.
وقرأ الحسن ونبيح
«يُفْتِنَهم» بضمِّ الياء وقد تقدَّم ذلك.
و
«في الأرض» متعلقٌ ب
«عالٍ» أي: قاهر فيها أو ظالم كقوله:
٢٦٢١ - فاعمِدْ لِما تَعْلُوا فمالك بالذي | لا تَسْتطيع من الأمور يَدانِ |
أي: لِما تَقْهر. ويجوز أن يكون
«في الأرض» متعلقاً بمحذوف لكونه صفة ل
«عالٍ» فيكون مرفوع المحل، ويُرَجِّح الأولَ قولُه:
﴿وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض﴾.
257
قوله تعالى:
﴿أَن تَبَوَّءَا﴾ : يجوز في
«أَنْ» أن تكون المفسِّرة؛ لأنه قد تقدَّمها ما هو بمعنى القول وهو الإِيحاء، ويجوز أن تكونَ المصدريةَ فتكونَ في موضع نصب بأوحينا مفعولاً به أي: أَوْحَيْنا إليهما التبوُّءَ.
والجمهورُ على الهمزة في
«تبوَّآ». وقرأ حفص
«تَبَوَّيا» بياءٍ خالصة، وهي بدلٌ عن الهمزة، وهو تخفيفٌ غيرُ قياسي، إذ قياسُ تخفيفِ مثلِ هذه الهمزة أن تكونَ بين الهمزة والألف، وقد أنكر هذه الروايةَ عن حفص جماعةٌ من القراء، وقد خَصَّها بعضُهم بحالةِ الوقف، وهو الذي لم يَحْكِ أبو عمرو الداني والشاطبي غيرَه. وبعضُهم يُطْلق إبدالَها عنه ياءً وصلاً ووقفاً، وعلى الجملةِ فهي قراءةٌ ضعيفة في العربية وفي الرواية، وتركتُ نصوصَ أهل القراءة خوفَ السآمة، واستغناءً بما وضَعْتُه في
«شرح القصيد».
والتبوُّءُ: النزولُ والرجوعُ، وقد تقدَّم تحقيق المادة في قوله
﴿تُبَوِّىءُ المؤمنين﴾ [آل عمران: ١٢١].
قوله:
﴿لِقَوْمِكُمَا﴾ يجوزُ أن تكونَ اللامُ زائدةً في المفعول الأول، و
«بيوتاً» مفعولٌ ثان بمعنى بَوِّآ قومكما بيوتاً، أي: أنْزِلوهم، وفَعَّل وتفعَّل بمعنىً مثل
«عَلَّقَها» و
«تَعَلَّقها» قاله أبو البقاء. وفيه ضعفٌ من حيث إنه
258
زِيدت اللام، والعاملُ غير فرع، ولم يتقدَّم المعمول. الثاني: أنها غير زائدة، وفيها حينئذ وجهان، أحدهما: أنها حالٌ من
«البيوت». والثاني: أنها وما بعدها مفعول
«تَبَوَّآ».
قوله:
﴿بِمِصْرَ﴾ جَوَّز فيه أبو البقاء أوجهاً، أحدها: أنه متعلِّق ب
«تَبَوَّآ»، وهو الظاهرُ. الثاني: أنه حالٌ من ضمير
«تبوَّآء»، واستضعفه، ولم يبيِّن وجهَ ضعفهِ لوضوحه. الثالث: أنه حالٌ من
«البيوت». الرابع: أنه حالٌ من
«لِقومكما»، وقد ثنى الضميرَ في
«تبوَّآ» وجمع في قوله
«واجعلوا» و
«أقيموا»، وأفرد في قوله:
«وبشِّر» ؛ لأن الأولَ أمرٌ لهما، والثاني لهما ولقومهما، والثالث لموسى فقط؛ لأن أخاه تَبَعٌ له، ولمَّا كان فِعْلُ البِشارة شريفاً خَصَّ به موسى لأنه هو الأصل.
259