تفسير سورة يونس

الدر المصون
تفسير سورة سورة يونس من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

قد تقدَّم الكلامُ على الحروف المقطعة في أوائل هذا الموضوع، واختلافُ القُرَّاء في إمالة هذه الحروف إذا كان في آخرها ألفٌ وهي: را، وطا، وها، ويا، وحا. فأمال «را» من جميع سورها إمالةً محضة الكوفيون إلا حفصاً، وأبو عمر وأبن عامر. وأمال الأخَوَان وأبو بكر «طا» من جميع سُوَرِها نحو: طس، طسم، طه، و «يا» من يس. وافقهم ابنُ عامر والسوسي على «يا» من كهيعص، بخلاف عن السوسي. وأمال الأخَوان وأبو عمرو وورش وأبو بكر «ها» من طه، وكذلك أمالها من كهيعص أبو عمرو والكسائي وأبو بكر دون حمزةَ وورش. وأمال أبو عمرو وورش
143
والأخَوَان وأبو بكر وابن ذكوان حا من جميع سورها السبع. إلا أن أبا عمروٍ ووَرْشاً يُميلان بين بين، [وللقراء في هذا عمل كثير] بيَّنْتُه في «شرح القصيد».
و «الحكيم» : يجوز أن يكونَ بمعنى فاعِل، أي: الحاكم، وأن يكونَ بمعنى مفعول، أي: مُحْكَم، قال الأعشى:
144
قوله تعالى: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ﴾ : الهمزة للإِنكار و «أن أوحينا» اسمُها. و «عجباً» خبرها. و «للناس» متعلق بمحذوف على أنه حالٌ مِنْ «عَجَباً» لأنه في الأصل صفة له، أو متعلِّقٌ ب «عَجَباً»، ولا يَضُرُّ كونُه مصدراً لأنه يُتَّسع في الظرف وعديلهِ ما لا يُتَّسع في غيرهما. وقيل: لأن «عجباً» مصدرٌ واقعٌ موقعَ اسمِ الفاعل أو اسم المفعول، ومتى كان كذلك جاز تقديمُ معمولِه. وقيل: هو متعلق ب «كان» الناقصة، وهذا على رأيِ مَن يُجيز فيها ذلك. وهذا مرتَّبٌ على الخلاف في دلالة «كان» الناقصة على الحدث، فإن قلنا: إنها تدلُّ على ذلك فيجوز وإلا فلا وقيل: هو متعلقٌ بمحذوفٍ على التبين، والتقدير في الآية: أكان إيحاؤنا إلى رجلٍ منهم عجباً لهم. و «منهم» صفة ل «رجل».
وقرأ رؤبة «رَجْل» بسكون الجيم، وهي لغة تميم، يُسَكِّنون فَعُلاً
144
نحو: سَبُع وعَضُد. وقرأ عبد الله بن مسعود «عَجَبٌ». وفيها تخريجان، أظهرهما: أنها التامة، أي: أَحَدَثَ للناس عجب، و «أنْ أَوْحَيْنا» متعلق ب «عَجَب» على حَذْف لامِ العلة، أي: عَجَبٌ لأَِنْ أوحينا، أو يكون على حَذْف «مِنْ»، أي: مِنْ أَنْ أوحينا. والثاني: أن تكون الناقصة، ويكون قد جعل اسمَها النكرةَ وخبرَها المعرفةَ، على حَدِّ قوله:
٢٥٥٨ - وغريبةٍ تأتي الملوكَ حكيمةً قد قلتُها لِيُقالَ مَنْ ذا قالها
٢٥٥٩ -..................... يكونُ مزاجَها عَسَلٌ وماءُ
وقال الزمخشري: «والأجودُ أن تكونَ التامةَ، و» أنْ أَوْحَيْنا «بدلٌ من» عجب «. يعني به بدلَ اشتمال أو كل من كل؛ لأنه جُعِل هذا نفسَ العَجَب مبالغةً. والتخريج الثاني لابن عطية.
قوله: ﴿أَنْ أَنذِرِ﴾ يجوز أن تكونَ المصدرية، وأن تكونَ التفسيريةَ. ثم لك في المصدرية اعتباران، أحدهما: أن تجعلَها المخففةَ مِن الثقيلة، واسمها ضمير الأمر والشأن محذوف. كذا قال الشيخ، وفيه نظر من حيث إن أخبارَ هذه الأحرف لا تكون جملةً طلبية، حتى لو ورد ما يُوهم ذلك يُؤوَّل على إضمار القول كقوله:
٢٥٦٠ - ولو أصابَتْ لقالَتْ وَهْي صادقةٌ إنَّ الرياضةَ لا تُنْصِبْكَ للشِّيبِ
وقول الآخر:
145
٢٥٦١ - إنَّ الذين قتلتُمْ أمسِ سَيِّدَهُمْ لا تحسَبوا ليلَهم عن ليلِكم ناما
وأيضاً فإن الخبرَ في هذا البابِ إذا وقع جملةً فعلية فلا بد من الفصلِ بأشياءَ ذكرتُها في المائدة، ولكن ذلك الفاصلَ هنا متعذَّرٌ. والثاني: أنها التي بصدد أن/ تنصِبَ الفعلَ المضارعَ، وهي تُوصل بالفعل المتصرِّف مطلقاً نحو:» كتبت إليه بأَنْ قم «. وقد تقدَّم لنا في ذلك بحث أيضاً ولم يُذْكر المُنْذَرُ به، وقد ذكر المُبَشَّرَ به كما سيأتي لأنَّ المقامَ يقتضي ذلك.
قوله: ﴿أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ﴾ «أنَّ»
وما في حَيِّزها هي المبشَّرُ بها، أي: بَشِّرهم باستقرارِ قَدَمِ صِدْق، فَحُذفت الباء، فجرى في محلِّها المذهبان. والمرادُ بقدَمِ صِدْقٍ السابقةُ والفضلُ والمنزلةُ الرفيعة. وإليه ذهب الزجاج والزمخشري ومنه قولُ ذي الرمة:
٢٥٦٢ - لهمْ قَدَمٌ لا يُنْكِرُ الناسُ أنها... مع الحَسَبِ العاديِّ طَمَّتْ على البحر... لمَّا كان السعي والسَّبْقُ بالقدم سُمِّي السَّعْيُ المحمود قَدَماً، كما سُمِّيت اليدُ نِعْمة لمَّا كانت صادرةً عنها، وأُضيف إلى الصدق دلالةً على فضلِه، وهو من باب رجلُ صدقٍ ورجلُ سوءٍ. وقيل: هو سابقةُ الخير التي قَدَّموها، ومنه قول وضَّاح اليمني:
146
وقيل: هو التقدُّمُ في الشرف، ومنه قول العجاج:
٢٥٦٣ - مالك وضَّاحُ دائمَ الغَزَلِ أَلَسْتَ تخشى تقارُبَ الأَجَلِ
صَلِّ لذي العرشِ واتَّخِذْ قَدَماً تُنْجيك يوم العِثارِ والزَّلَلِ
٢٥٦٤ - ذَلَّ بنو العَوَّامِ مِنْ آل الحَكَمْ وتركوا المُلْكَ لمَلْكٍ ذي قَدَمْ
أي: ذي تقدُّمٍ وشرفٍ. و «لهم» خبر مقدم، و «قَدَمَ» اسمُها، و «عند ربهم» صفةٌ ل «قَدَم». ومن جَوَّز أن يتقدَّمَ معمولُ خبرِ «أنَّ» على اسمها إذا كان حرف جر كقوله:
٢٥٦٥ - فلا تَلْحَني فيها فإنَّ بحبِّها أخاك مصابُ القلب جَمٌّ بَلابلُهْ
قال: ف «بحبها» متعلقٌ ب «مُصاب»، وقد تقدَّم على الاسم فكذلك «لهم» يجوز أن يكونَ متعلقاً ب «عند ربهم» لِما تَضَمَّنَ من الاستقرار، ويكونُ «عند ربهم» هو الخبر.
وقرأ نافعٌ وأبو عمرو وابن عامر «لَسِحْرٌ» والباقون «لَساحر»، ف «هذا» يجوزُ أن يكونَ إشارةً للقرآن، وأن يكونَ إشارة للرسول على القراءة الأولى، ولكن لا بد من تأويل على قولنا: إن المشار إليه هو النبي عليه السلام، أي: ذو سحر أو جعلوه إياه مبالغةً. وأمَّا على القراءةِ الثانيةِ فالإِشارةُ للرسولِ عليه السلام فقط.
147
قوله تعالى: ﴿يُدَبِّرُ الأمر﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً ل «إنَّ». الثاني: أنه حالٌ. الثالث: أنه مستأنفٌ لا محلَّ له من الإِعراب.
قوله تعالى: ﴿وَعْدَ الله﴾ : منصوبٌ على المصدر المؤكِّدِ، لأنَّ معنى «إليه مَرْجِعُكُمْ» : وَعَدَكم بذلك.
وقوله: ﴿حَقّاً﴾ مصدرٌ آخرُ مؤكِّدٌ لمعنى هذا الوعد، وناصبُه مضمر، أي: أَحُقُّ ذلك حقاً. وقيل: انتصب «حقاً» ب «وَعْدَ» على تقدير «في»، أي: وَعْدَ الله في حق، يعني على التشبيه بالظرف. وقال الأخفش الصغير: «التقدير: وقتَ حق» وأنشد:
٢٥٦٦ - أحقاً عبادَ الله أنْ لَسْتُ ذاهباً ولا والِجاً إلا عليَّ رقيبُ
قوله: ﴿إِنَّهُ يَبْدَأُ﴾ الجمهورُ على كسر الهمزة للاستئناف. وقرأ عبد الله وابن القعقاع والأعمش وسهل بن شعيب بفتحها. وفيها تأويلاتٌ، أحدها: أن تكونَ فاعلاً بما نصب «حقاً»، أي: حَقَّ حَقَّاً بَدْءُ الخلق، ثم إعادتُه، كقوله:
٢٥٦٧ - أحقاً عبادَ الله أَنْ لستُ جائِياً ............................
البيت. وهو مذهبُ الفراء فإنه قال: «والتقدير: يحقُّ أنه يبدأ الخلق. الثاني: أنه منصوبٌ بالفعل الذي نَصَبَ» وعد الله «أي: وَعَدَ الله تعالى بَدْء الخلق ثم إعادتَه، والمعنى إعادة الخلق بعد بَدْئه. الثالث: أنه
148
على حَذْف لام الجر أي: لأنه، ذكر هذا الأوجهَ الثلاثة الزمخشري وغيره. الرابع: أنه بدلٌ من» وَعْدَ الله «قاله ابن عطية. الخامس: أنه مرفوعٌ بنفس» حقاً «أي: بالمصدر المنون، وهذا إنما يتأتى على جَعْل» حقاً «غيرَ مؤكدٍ؛ لأنَّ المصدر المؤكدَ لا عملَ له إلا إذا ناب عن فعلِه، وفيه بحثٌ. السادس: أن يكونَ» حقاً «مشبهاً بالظرف خبراً مقدماً و» أنَّه «في محلِّ رفعٍ مبتدأً مؤخراً كقولهم: أحقاً أنك ذاهب قالوا: تقديره: أفي حقٍ ذهابك.
وقرأ ابن أبي عبلة:»
حَقٌّ أنه «برفع [حق] وفتح» أنَّ «على الابتداء والخبر. قال الشيخ:» وكونُ «حق» خبرَ مبتدأ، و «أنه» هو المبتدأ هو الوجه في الإِعراب، كما تقول: «صحيحٌ أنك تخرج» لأن [اسم] «أنَّ» / معرفة، والذي تقدَّمها في هذا المثال نكرة «. قلت: فظاهرُ هذه العبارةِ يُشعر بجواز العكس، وهذا قد ورد في باب» إنَّ «كقوله:
٢٥٦٨ - وإن حراماً أن أَسُبَّ مُجاشعاً بآبائيَ الشُّمِّ الكرامِ الخَضَارمِ
وقوله:
٢٥٦٩ - وإن شفاءً عَبْرَةٌ أَنْ سَفَحْتُها وهل عند رسمٍ دارسٍ مِنْ مُعَوَّل...
149
على جَعْل» أنْ سفحتُها «بدلاً من» عبرة «. وقد أخبر في» كان «عن نكرةٍ بمعرفةٍ كقوله:
٢٥٧٠ -................... ولا يكُ موقفٌ منكِ الوَدَاعا
وقوله:
٢٥٧١ -.................... يكون مزاجَها عَسَلٌ وماءُ
وقال مكي:»
وأجاز الفراء رفع «وعد»، يجعله خبراً ل «مرجعكم».
وأجاز رفعَ «وعد» و «حق» على الابتداء والخبر، وهو حسنٌ، ولم يقرأ به أحد «. قلت: نعم لم يرفع وعد وحق معاً أحد، وأمَّا رفعُ» حق «وحده فقد تقدم أن ابن أبي عبلة قرأه، وتقدَّم توجيهُه. ولا يجوز أن يكون» وعدَ الله «عاملاً في» أنه «لأنه قد وُصِف بقوله» حقاً «قاله أبو الفتح.
وقرىء»
وَعَدَ اللَّهُ «بلفظ الفعل الماضي ورفعِ الجلالة فاعلةً، وعلى هذه يكون» أنه يَبْدَأ «معمولاً له إنْ كان هذا القارىءُ يفتح» أنه «.
والجمهور على»
يَبْدأُ «بفتح الياء مِنْ بدأ، وابن أبي طلحة» يُبْدِىء «مِنْ أَبْدأ، وبَدَأ وأبدأ بمعنى.
150
قوله: ﴿لِيَجْزِيَ﴾ متعلق بقوله» ثم يُعيده «، و» بالقسطِ «متعلقٌ ب» يَجْزي «. ويجوز أن يكونَ حالاً: إمَّا من الفاعلِ أو المفعول أي: يَجْزيهم ملتبساً بالقسط أو ملتبسين به. والقِسْط: العدل.
قوله: ﴿والذين كَفَرُواْ﴾ يحتمل وجهين، أحدهما: أن يكون مرفوعاً بالابتداء، والجملةُ بعده [خبره]. الثاني: أن يكون منصوباً عطفاً على الموصول قبلَه، وتكونُ الجملةُ بعده مبيِّنَةً لجزائهم. و»
شراب « [يجوز أَنْ] يكونَ فاعلاً، وأن يكون مبتدأ، [والأولُ أولى].
قوله: ﴿بِمَا كَانُواْ﴾ الظاهرُ تعلُّقُه بالاستقرار المضمر في الجارِّ الواقع خبراً، والتقدير: استقر لهم شراب من جهنم وعذاب أليم بما كانوا. وجَوَّز أبو البقاء فيه وجهين ولم يذكر غيرهما الأول: أن يكونَ صفةً أخرى ل»
عذاب «. والثاني: أن يكونَ خبر مبتدأ محذوف، وهذا لا معنى له ولا حاجةَ إلى العُدول عن الأول.
151
قوله تعالى: ﴿ضِيَآءً﴾ : إمَّا مفعولٌ ثانٍ على أَنَّ الجَعْلَ للتصيير، وإمَّا حالٌ على أنه بمعنى الإِنشاء. والجمهور على «ضياء» بصريح الياء قبل الألف، وأصلُها واو لأنه من الضوء. وقرأ قنبل عن ابن كثير هنا وفي الأنبياء والقصص «ضِئاءً» بقلب الياء همزة، فتصير ألف بين همزتين. وأُوِّلت على أنه مقلوبٌ قُدِّمت لامُه وأُخِّرت عينه فوقعت الياء طرفاً بعد ألف
151
زائدة فقلبت همزة على حَدِّ «رداء». وإن شئت قلتَ: لمَّا قُلِبت الكلمة صار «ضياواً» بالواو، عادت العين إلى أصلها مِن الواو لعدم موجِبِ قَلْبِها ياءً وهو الكسرُ السابقُها، ثم أُبْدلت الواوُ همزةً على حَدِّ كساء. وقال أبو البقاء: «إنها قُلبت ألفاً ثم قُلِبت الألفُ همزةً لئلا تجتمعَ ألفان».
واستُبْعِدت هذه القراءة من حيث إن اللغةَ مبنيَّة على تسهيلِ الهمزِ فكيف يَتَخَيَّلون في قَلْب الحرفِ الخفيف إلى أثقلَ منه؟ قلت: لا غَرْو في ذلك، فقد قلبوا حرف العلةِ الألف والواو والياء همزة في مواضع لا تُحصرُ إلا بعُسْرٍ، إلا أنه هنا ثقيلٌ لاجتماع همزتين. قال أبو شامة: «وهذه قراءة ضعيفةٌ، فإن قياسَ اللغة الفِرارُ من اجتماع همزتين إلى تخفيف إحداهما، فكيف يُتَخَيَّل بتقديم وتأخيرٍ يؤدي إلى اجتماع همزتين لم يكونا في الأصل؟ هذا خلافُ حكم اللغة.».
وقال أبو بكر ابن مجاهد وهو ممَّن على قنبل: «ابنُ كثير وحدَه» ضِئاء «بهمزتين في كل القرآن: الهمزة الأولى قبل الألف، والثانية بعدها، كذلك قَرَأْتُ على قنبل وهو غلط، وكان أصحاب البزي وابن فليح يُنْكرون هذا ويَقْرؤون» ضياء «مثلَ الناس». قلت: كثيراً ما يتجرأ أبو بكر على شيخه ويُغَلِّطه، وسيمُّر بك مواضعُ من ذلك، وهذا لا ينبغي أن يكون، فإنَّ قُنْبُلاً بالمكان الذي يَمنع أن يتكلَّمَ فيه أحد.
وقوله في جانب الشمس «ضياء» لأن الضوء أقوى من النور، وقد تقدَّم
152
ذلك في أول البقرة. و «ضياء ونوراً» يُحْتمل أن يكونا مصدرين، وجُعِلا نفسَ الكوكبين مبالغةً، أو على حَذْف مضاف أي: ذات ضياء وذا نور. وضياء يحتمل أن يكونَ جمع «ضوء» كسَوْط وسِياط، وحَوْض حياض.
و «منازل» نُصِب على ظرف المكان، وجعله الزمخشري على حذف مضاف: إمَّا من الأول أي: قَدَّره مَسيره، وإمَّا من الثاني أي: قدَّره ذا منازل، فعلى التقدير الأول يكون «منازل» ظرفاً كما مر، وعلى الثانى يكون مفعولاً ثانياً على تضمين «قَدَّر» معنى: صَيَّره ذا منازل بالتقدير. وقال الشيخ بعد أن ذكرَ التقديرين، ولم يَعْزُهما للزمخشري: «أو قدَّر له منازل، فحذفَ، وأوصل الفعل إليه فانتصب بحسب هذه التقاديرِ عل الظرف أو الحال أو المفعول كقوله: ﴿والقمر / قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ﴾ [يس: ٣٩] وقد سبقَه إلى ذلك أبو البقاء أيضاً.
والضمير في»
قَدَّرناه «يعود على القمر وحده؛ لأنه هو عمدةُ العربِ في تواريخهم. وقال ابن عطية:» ويُحتمل أن يريدهما معاً بحسب أنهما يتصرَّفان في معرفة عدد السنين والحساب، لكنه اجتُزِىءَ بذِكْر أحدهما كقوله تعالى: ﴿والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: ٦٢] وكما قال الشاعر:
153
قوله تعالى: ﴿لِتَعْلَمُواْ﴾ : متعلق ب «قَدَّره». وسُئل أبو عمرو
153
عن الحساب: «أتنصِبُه أم تجرُّه؟ فقال:» ومَنْ يدري ما عدد الحساب؟ يعني أنه سُئل: هل تعطفه على «عَددَ» فتنصبَه أم على «السنين» فتجرَّه؟ فكأنه قال: لا يمكنُ جَرُّه؛ إذ يقتضي ذلك أن يُعلم عدد الحساب، ولا يقدر أحد أَنْ يعلمَ عددَه. و «ذلك» إشارةٌ إلى ما تقدم أي: ما خلق الله ذلك المذكور إلا ملتبساً بالحق فيكون حالاً: إمَّا من الفاعل وإما من المفعول. وقيل: الباء بمعنى اللام أي: للحق، ولا حاجة إليه.
وقرأ ابنُ كثير وأبو عمرو «يُفَصِّل» بياء الغيبة جَرْياً على اسم الله تعالى، والباقون بنون العظمة التفاتاً من الغَيْبة إلى التكلُّم للتعظيم.
154
قوله تعالى: ﴿واطمأنوا﴾ : يجوز أن يكون عطفاً على الصلة، وهو الظاهرُ، وأن تكونَ الواوُ للحال، والتقدير: وقد اطمأنُّوا. وقوله: «والذين هم» يحتمل أن يكون من باب عطف الصفات، بمعنى أنَّهم جامعون بين عدم رجال لقاءِ الله وبين الغَفْلة عن الآيات، وأن يكون هذا الموصولُ غيرَ الأول، فيكونَ عطفاً على اسم «إن» أي: إن الذين لا يَرْجُون، وإن الذين هم.
و: ﴿أولئك﴾ : مبتدأ و «مَأْواهم» مبتدأ ثانٍ، و «النار» خبرُ هذا الثاني، والثاني وخبره خبر «أولئك» و «أولئك» وخبره خبر «إن الذين». و «بما كانوا» متعلقٌ بما تضمَّنته الجملة من قوله: «مَأْواهم النار» والباءُ سببيةٌ، و «ما» مصدريةٌ، وجيء بالفعل بعدها مضارعاً دلالةً على استمرارِ ذلك في كل زمان. وقال أبو البقاء: «إن الباء تتعلَّق بمحذوف أي: جُوزوا بما كانوا».
قوله تعالى: ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار﴾ : يجوز أن يكونَ
154
حالاً من مفعول «يَهْديهم»، وأن يكونَ مستأنفاً، وأن يكونَ معطوفاً على ما قبله، حُذِف منه حرفُ العطف. قوله «في جنات» يجوز أن يتعلَّق ب «تَجْري» وأن يكون حالاً من «الأنهار»، وأن يكونَ خبراً بعد خبر ل «إنَّ»، وأن يكون متعلِّقاً ب «يَهْدي».
155
قوله تعالى: ﴿دَعْوَاهُمْ﴾ : مبتدأٌ و «سبحانَك» معمول لفعلٍ مقدر لا يجوز إظهارُه هو الخبر، والخبرُ هنا هو نفس المبتدأ، والمعنى: أن دعاءَهم هذا اللفظُ، ف «دعوى» يجوز أن يكون بمعنى الدعاء، ويدلُّ عليه «اللهم» لأنه نداء في معنى يا الله، ويجوز أن يكون هذا الدعاءً هنا بمعنى العبادة، ف «دَعْوى» مصدرٌ مضاف للفاعل، ثم إنْ شِئْتَ أن تجعلَ هذا من باب الإِسناد اللفظي أي: دعاؤهم في الجنة هذا اللفظُ، فيكون نفسُ «سبحانك» هو الخبرَ، وجاء به مَحْكياً على نصبه بذلك الفعل، وإن شِئْتَ جَعَلْتَه من باب الإِسناد المعنوي فلا يلزمُ أن يقولوا هذا اللفظَ فقط، بل يقولونه وما يؤدِّي معناه من جميع صفات التنزيهِ والتقديس، وقد تقدم لك نظيرُ هذا عند قولِه تعالى: ﴿وَقُولُواْ حِطَّةٌ﴾ [البقرة: ٥٨]، فعليك بالالتفات إليه.
و «تحيَّتُهم» مبتدأٌ، و «سَلامٌ» خبرُها، وهو كالذي قبله، والمصدرُ هنا يحتمل أن يكونَ مضافاً لفاعله أي: تحيتهم التي يُحَيُّون بها بعضَهم سلامٌ، ويُحتمل أن يكونَ مضافاً لمفعوله أي: تحيتهم التي تُحَيِّيهم بها الملائكةُ سلام، ويدلُّ له ﴿وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم﴾ [الرعد: ٢٣]. و «فيها» في الموضعين متعلقٌ بالمصدرِ قبله، و «قبل» يجوز أن يكون حالاً ممَّا بعده فيتعلَّقَ بمحذوف، وليس بذاك. وقال بعضُهم: «يجوز أن يكون» تحيتهم «مِمَّا أضيف فيه المصدرُ لفاعله ومفعوله معاً؛ لأنَّ المعنى: يُحَيِّي
155
بعضُهم بعضاً، ويكون كقوله تعالى: ﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٨] حيث أضافَه لداود وسليمان وهما الحاكمان، وإلى المحكوم عليه، وهذا مبنيٌّ على مسألةٍ أخرى وهو أنه: هل يجوز الجمعُ بين الحقيقةِ والمجازِ أم لا؟ فإن قلنا: نعم، جاز ذلك لأن إضافةَ المصدرِ لفاعله حقيقةٌ ولمفعوله مجاز، ومَنْ منع ذلك أجاب بأن أَقَلَّ الجمعِ اثنان فلذلك قال: /» لحكمهم «.
قوله: ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ﴾ مبتدأ، و»
أَنْ «هي المخففة من الثقيلة، واسمُها ضميرُ الأمر والشأن حُذِف، والجملةُ الاسميةُ بعدَها في محلِّ الرفع خبراً لها كقول الشاعر:
٢٥٧٢ - رماني بأمرٍ كنتُ منه ووالدي بريئاً ومِنْ أجل الطَّوِيِّ رماني
٢٥٧٣ - في فتية كسيوفِ الهند قد علموا أَنْ هالِكٌ كلُّ مَنْ يحفى ويَنْتَعِلُ
و» أنْ «واسمُها وخبرها في محلَّ رفعٍ خبراً للمبتدأ الأول. وزعم الجرجانيُّ أن» أَنْ «هنا زائدة والتقدير: وآخر دعواهم الحمد لله، وهي دعوى لا دليلَ عليها مخالفةٌ لنص سيبويه والنحويين. وزعم المبرد أيضاً أن» أَنْ «المخففة يجوز إعمالُها مخففةً كهي مشددةً، وقد تقدم ذلك.
وتخفيفُ»
أَنْ «ورفعُ» الحمد «هو قراءةُ العامة. وقرأ عكرمة وأبو مجلز وأبو حيوة وقتادة ومجاهد وابنُ يعمر وبلال بن أبي بردة وابن محيصن
156
ويعقوب بتشديدها ونصبِ دال» الحمد «على أنه اسمُها. وهذه تؤيدُ أنها المخففةُ في قراءة العامةِ، وتردُّ على الجرجاني.
157
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ﴾ : هذا الامتناعُ نفي في المعنى تقديره: لا يُعَجِّلُ لهم الشرَّ. قال الزمخشري: «فإن قلت: كيفَ اتَّصل به قولُه:» فَنَذَرُ الذين لا يَرْجُون لقاءَنا وما معناه؟ قلت: قولُه: «ولو يُعَجِّل» متضمِّنٌ معنى نفي التعجيل كأنه قيل: ولا نُعَجِّل لهم بالشرِّ ولا نَقْضي إليهم أجلَهم «.
قوله: ﴿استعجالهم﴾ فيه أوجهٌ، أحدها: أنه منصوبٌ على المصدرِ التشبيهيِّ تقديرُه: استعجالاً مثلَ استعجالِهم، ثم حَذَفَ الموصوفَ وهو»
استعجال «وأقامَ صفتَه مُقامه وهي» مثل «فبقي: ولو يعجل اللَّهُ مثل استعجالِهم، ثم حَذَفَ المضافَ وأقام المُضاف إليه مُقامه. قال مكي:» وهذا مذهبُ سيبويه «قلت: وقد تقدَّم غيرَ مرةٍ أن مذهبَ سيبويه في مثل هذا أنه منصوبٌ على الحالِ من ذلك المصدرِ المقدَّرِ، وإن كان مشهورُ أقوالِ المُعْرِبين غيرَه، ففي نسبةِ ما ذكرته أولاً لسيبويه نظرٌ.
الثاني: أن تقديرَه: تعجيلاً مثلَ استعجالهم، ثم فُعِل به ما تقدَّم قبلَه. وهذا تقديرُ أبي البقاء، فقدَّر المحذوف مطابقاً للفعل الذي قبلَه، فإنَّ»
تعجيلاً «مصدر ل» عَجَّل «وما ذكره مكي موافقٌ للمصدر الذي بعده، والذي يظهر ما قدَّره أو البقاء لأن موافقةَ الفعلِ أولى، ويكون قد شبَّه تعجيلَه
157
تعالى باستعجالهم، بخلاف ما قدَّره مكي فإنه لا يظهر، إذ ليس» استعجال «مصدراً ل» عجَّل «.
وقال الزمخشري: أصلُه: ولو يُعَجِّل الله للناسِ الشرَّ تعجيلَه لهم الخير، فوضع»
استعجالهم بالخير «موضعَ» تعجيله لهم الخيرَ «إشعاراً بسرعة إجابته لهم وإسعافِه بطلبهم، كأنَّ استعجالَهم بالخير تعجيلٌ لهم». قال الشيخ: «ومدلولُ» عَجَّل «غيرُ مدلولِ» استعجل «لأنَّ» عَجَّل «يدلُّ على الوقوع، و» استعجل «يدلُّ على طلب التعجيل، وذلك واقعٌ من الله، وهذا مضافٌ إليهم، فلا يكون التقدير على ما قاله الزمخشري، فيحتمل وجهين، أحدهما: أن يكون التقدير: تعجيلاً مثل استعجالهم بالخير، فشبَّه التعجيلَ بالاستعجال؛ لأن طلبَهم [للخير] ووقوعَ تعجيله مقدَّمٌ عندهم على كل شيء. والثاني: أن يكون ثَمَّ محذوفٌ يدلُّ عليه المصدرُ تقديرُه: ولو يعجِّل اللَّهُ للناسِ الشرَّ إذا استعجلوا به استعجالَهم بالخير، لأنهم كانوا يستعجلون بالشرِّ ووقوعِه على سبيل التهكم كما كانوا يستعجلون بالخير». الثالث: أنه منصوبٌ على إسقاط كافِ التشبيهِ، والتقدير: كاستعجالهم. قال أبو البقاء. «وهو بعيدٌ، إذ لو جاز ذلك لجاز» زيد غلامَ عمرو «أي: كغلام عمرو» وبهذا ضَعَّفه جماعةٌ وليس بتضعيفٍ صحيحٍ، إذ ليس في المثال الذي ذكر فعلٌ يتعدى بنفسه عند حذف الجار، وفي الآيةِ فعلٌ يَصِحُّ فيه ذلك وهو قوله «يُعَجِّل».
وقال مكي: «وَيَلْزَمُ مَنْ يُجَوِّز حَذْفَ حرفِ الجر منه أن يجيز» زيدُ الأسدُ «أي: كالأسدِ» قلت: قوله «ويلزم إلى آخره» لا ردَّ فيه على هذا القائل
158
إذ يلتزمه، وهو التزام صحيح سائغ، إذ لا ينكر أحد «زيد الأسدُ» على معنى «كالأسد»، وعلى تقدير التسليمِ فالفرقُ ما ذكره أبو البقاء أي: إن الفعل يطلب مصدراً مشبَّهاً فصار مدلولاً عليه. وقال بعضهم: تقديره: في استعجالهم، نقله مكي، فلمَّا حُذِفت «في» انتصبَ، وهذا لا معنى له.
قوله: ﴿لَقُضِي﴾ / قرأ ابن عامر «لقضى» بفتح الفاء والعين مبنياً للفاعل وهو الله تعالى، «أجلهم» نصباً. والباقون «لقُضِيَ» بالضم والكسر مبنياً للمفعول، «أَجَلُهم» رفعاً لقيامِه مقامَ الفاعل. وقرأ الأعمش «لقَضَيْنا» مسنداً لضمير المعظِّم نفسَه، وهي مؤيدةٌ لقراءةِ ابن عامر.
قوله: ﴿فَنَذَرُ﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه معطوفٌ على قوله ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ الله﴾ على معنى أنه في قوة النفي، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في سؤال الزمخشري وجوابِه فيه. إلا أن أبا البقاء ردَّ عطفه على «يُعَجِّل» فقال: «ولا يجوزُ أن يكونَ معطوفاً على» يُعَجِّل «إذ لو كان كذلك لدَخَلَ في الامتناع الذي تقتضيه» لو «وليس كذلك، لأنَّ التعجيلَ لم يقع، وتَرْكَهم في طغيانهم وقع». قلت: إنما يَتمُّ هذا الردُّ لو كان معطوفاً على «يُعَجِّل» فقط باقياً على معناه، وقد تقدَّم أن الكلامَ صار في قوةِ ﴿لا نعجِّل لهم الشرَّ فَنَذَرُهم﴾ فيكون «فَنَذَرُهم» معطوفاً على جملة النفي لا على الفعلِ الممتنع وحدَه حتى يلزمَ ما قال. والثاني: أنه معطوفٌ على جملةٍ مقدرة: «ولكن نُمْهِلُهم فَنَذَرُ» قاله أبو البقاء. والثالث: أن تكون جملةً مستأنفةً، أي: فنحن نَذَرُ الذين. قاله الحوفي.
159
قوله تعالى: ﴿لِجَنبِهِ﴾ : في محلِّ نصبٍ على الحال، ولذلك عَطَفَ الحالَ الصريحة، والتقدير: دعانا مضطجعاً لجنبه، أو مُلْقِياً لجَنْبه. واللامُ على بابها عند البصريين، وزعم بعضهم أنها بمعنى «على»، ولا حاجةَ إليه. واختُلف في ذي الحال، فقيل: الإِنسان، والعامل فيها «مَسَّ» قاله ابن عطية. ونَقَله أبو البقاء عن غيره، واستضعفه من جهين، أحدهما: أن الحالَ على هذا واقعةٌ بعد جواب «إذا» وليس بالوجهِ. قلت: كأنه يعني أنه ينبغي ألاَّ يجابَ الشرطُ إلا إذا استوفى معمولاتِه، وهذه الحالُ معمولة للشرط وهو «مَسَّ»، وقد أُجيب قبل أن يَسْتوفي معموله. ثم قال: «والثاني: أن المعنى: كثرةُ دعائِه في كل أحواله لا على أن الضرَّ يصيبه في كل أحوالِه، وعليه جاءَتْ آياتٌ كثيرةٌ في القرآن».
قال الشيخ: «وهذا الثاني يلزم فيه مِنْ مَسِّه الضرُّ في هذه الأحوالِ دعاؤه في هذه الأحوال، لأنه جوابُ ما ذُكِرت فيه هذه الأحوال [فالقيد في الشرط قيدٌ في الجواب كما تقول:» إذا جاءنا زيدٌ فقيراً فقد أَحْسَنَّا إليه «فالمعنى:] أَحْسَنَّا إليه في حال فقرِه».
وقيل: صاحبُ الحال هو الضمير الفاعل في «دعانا» وهو واضحٌ، أي: دعانا في جميع أحواله لأن هذه الأحوال الثلاثة لا يخلو الإِنسان عن واحدة منها. ثم قيل: المراد بالإِنسان الجنسُ، وهذه الأحوالُ بالنسبة إلى المجموع،
160
أي: منهم مَنْ يدعو مُسْتلقياً، ومنهم مَنْ يدعو قائماً، أو يُراد به شخصٌ واحد جَمَع بين هذه الأحوال الثلاثة بحسبِ الأوقاتِ، فيدعو في وقتٍ على هذه الحال، وفي وقت على أخرى.
قوله: ﴿كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ﴾ قد تقدَّم الكلامُ على مثل هذا عند قوله: ﴿كَأَنْ لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ﴾ قال الزمخشري: «فَحَذفَ ضميرَ الشأن كقوله:
٢٥٧٤ -.................. كأنْ ثَدْياه حُقَّانِ»
يعني على روايةِ مَنْ رواه «ثَدْيان» بالألف، ويُروى «كأنْ ثَدْيَيْه» بالياءِ على أنها أُعملت في الظاهر وهو شاذٌّ، وصدر هذا البيت:
وصَدْرٍ مُشْرقِ النَّحْرِ ..........................
وهذه الجملةُ التشبيهيةُ في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فاعل «مرَّ»، أي: مضى على طريقته مشبهاً مَنْ لم يَدْعُ إلى كشف ضر. و «مَسَّه» صفةٌ ل «ضُرّ»، قال صاحب النظم: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإنسان﴾ وَصْفُه للمستقبل، و «فلمَّا كشفنا» للماضي، فهذا النَّظْم يدلُّ على معنى الآية أنه كان هكذا فيما مضى، وهكذا يكون مما يُستقبل، فدل ما في الآية من الفعل المستقبل على ما فيه من المعنى المستقبل «.
والكافُ مِنْ»
كذلك زُيِّن «في موضع نصب على المصدر، أي: مثلَ ذلك التزيين والإِعراض عن الابتهال. وفاعل» زُيِّن «المحذوف: إمَّا الله تعالى وإمَّا الشيطان. و ﴿مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ في محل رفع لقيامه مقام الفاعل. و» ما «يجوزُ أن تكون مصدريةً، وأن تكونَ بمعنى الذي.
161
قوله تعالى: ﴿مِن قَبْلِكُمْ﴾ : متعلقٌ ب «أَهْلكنا»، ولا يجوز أن يكونَ حالاً من «القرون» لأنه ظرف زمان فلا يقع حالاً عن الجثة كما لا يقع خبراً عنها. وقد تقدَّم تحقيق هذا في أول البقرة، وقد تقدَّم الكلامُ على «لمَّا» أيضاً.
قوله: ﴿وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم﴾ يجوز أن يكون معطوفاً على «ظلموا» فلا محلَّ له عند سيبويه، ومحله الجر عند غيره، لأنه عطف على ما هو في محلِّ جرٍ بإضافة الظرف إليه، ويجوز أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال، أي: ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلُهم بالحُجَجِ والشواهد على صدقهم و «بالبينات» يجوزُ أن يتعلَّق ب «جاءتهم»، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «رسلهم» [أي:] جاؤوا ملتبسين بالبينات مصاحبين لها.
قوله: ﴿وَمَا كَانُواْ﴾ الظاهرُ عَطْفه على «ظلموا». وجَوَّز الزمخشري أن يكونَ/ اعتراضاً قال: «واللامُ لتأكيد فني إيمانهم، ويعني بالاعتراض كونَه وقع بين الفعل ومصدرهِ التشبيهي في قوله» كذلك نَجزي «. والضميرُ في» كانوا «عائد على» القرون «. وجَوَّز مقاتل أن يكونَ ضميرَ أهل مكة، وعلى هذا يكونُ التفاتاً إذ فيه خروجٌ من ضمير الخطاب في قوله» قبلكم «إلى الغَيْبة، والمعنى: وما كنتم لتؤمنوا، و» كذلك «نعتٌ لمصدرٍ محذوف، أي مثلَ ذلك الجزاء نجزي. وقُرِىء» يَجْزي «بياء الغيبة، وهو التفاتٌ من التكلم في قوله» أَهْلكنا «إلى الغَيْبة.
قوله تعالى: ﴿لِنَنظُرَ﴾ : متعلق بالجَعْل. وقرأ يحيى الذماري بنون واحدة وتشديد الظاء. وقال يحيى: «هكذا رأيته في مصحف عثمان» يعني أنه رآها بنون واحدة، ولا يعني أنه رآها مشددة؛ لأنَّ هذا الشكل الخاص إنما حَدَث بعد عثمان. وخرَّجوها على إدغامِ النون الثانية في الظاء وهو رديءٌ جداً، وأحسنُ ما يقال فيه: إنه بالغ في إخفاءِ غُنَّة النون الساكنة فظنَّه السامع إدغاماً، ورؤيتُه له بنونٍ واحدة لا يدلُّ على قراءته إياه مشددَ الظاء ولا مخفَّفَها. قال الشيخ: «ولا يدلُّ» على حَذْفَ النون من اللفظ «. وفيه نظرٌ لأنه كيف يقرأ ما لم يكن مكتوباً في المصحف الذي رآه؟
وقوله: ﴿كَيْفَ﴾ منصوبٌ ب»
تعملون «على المصدر، أي: أيَّ عملٍ تعملون، وهي معلِّقة للنظر.
قوله تعالى: ﴿أَوْ بَدِّلْهُ﴾ : يحتمل التبديلُ في الذات والتبديلُ في الصفات، يعني اجعلْ آيةَ عذاب مكانَ آية رحمة. فإن قيل: يلزمُ على الأولِ التكرار في قوله: ﴿ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ﴾، فالجوابُ أن معنى الأول: ائت بقرآن غيره مع بقائه، أو بَدِّله بأنْ تُزيل ذاتَه بالكلية، فيتغاير المطلوبان.
و «تِلْقاء» مصدرٌ على تِفْعال، ولم يجيء مصدر بكسر التاء إلا هذا والتِّبْيان. وقرىء شاذاً بفتح التاء، وهو قياسُ المصادر الدالة على التكرار
163
كالتَّطْواف والتَّجوال. وقد يُسْتعمل التِّلقاء بمعنى قبالتك، فينتصبُ انتصابَ الظروف المكانية.
164
قوله تعالى: ﴿وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ﴾ : أي: ولا أَعْلمكم الله به، مِنْ دَرَيْتُ، أي: علمتُ. ويقال: دَرَيْتُ بكذا وأَدْرَيْتك بكذا، أي: أحطت به بطريق الدِّراية، وكذلك في «علمت به» فَتَضَمَّن العلمُ معنى الإِحاطة فتعَدَّى تَعْدِيَتَها.
وقرأ ابنُ كثير بخلاف عن البزي «ولأَدْراكم» بلام داخلة على «أَدْراكم» مثبتاً. والمعنى: ولأُعْلِمَكم به من غير وساطتي: إمَّا بوساطة مَلَكٍ أو رسولٍ غيري من البشر، ولكنه خَصَّني بهذه الفضيلة. وقراءةُ الجمهور «لا» فيها مؤكدةٌ؛ لأنَّ المعطوفَ على المنفيّ منفيّ، وليست «لا» هذه هي التي يُنْفَى بها الفعل، لأنه لا يَصِحُّ نفيُ الفعل بها إذا وقع جواباً، والمعطوفُ على الجواب جواب، ولو قلت: «لو كان كذا لا كان كذا» لم يَجُزْ، بل تقول: «ما كان كذا». وقرأ ابن عباس والحسن وابن سيرين وأبو رجاء: ﴿ولا أَدْرَأْتُكم به﴾ بهمزةٍ ساكنةٍ بعد الراء. وفي هذه القراءةِ تخريجان، أحدهما: أنها مُبْدَلةٌ من ألف، والألف منقلبةٌ عن ياءٍ لانفتاحِ ما قبلها وهي لغةٌ لعُقَيْلٍ حكاها قطرب، يقولون في أعطيتك: أعطأتك. وقال أبو حاتم: «قَلَبَ الحسنُ الياءَ ألفاً، كما في لغة بني الحرث يقولون: عَلاَك وإلاك، ثم هَمَزَ على لغة من قال في العالم: العَأْلَم، وقيل: بل أُبْدلت الهمزة من نفس الياء نحو:» لَبَأْتُ بالحج «و» رثَأْت فلاناً «، أي: لبَّيْتُ ورَثَيْتُ. والثاني: أن الهمزة أصلية وأن اشتقاقه مِنَ الدَّرْء وهو الدّفْع كقوله: ﴿وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب﴾ [النور: ٨]، ويقال: أَدْرأته،
164
أي: جَعَلْته دارِئاً، والمعنى: ولأَجْعَلَنَّكم بتلاوته خُصَماء تَدْرَؤُونني بالجدال. قال أبو البقاء:» وقيل: هو غلط «، لأنَّ قارِئَها ظَنَّ أنها من الدَّرْءِ وهو الدَّفْعُ. وقيل: ليس بغلطٍ والمعنى: لو شاء اللَّه لدَفَعَكم عن الإِيمان به».
وقرأ شهر بن حوشب والأعمش: «ولا أَنْذَرْتُكم» من الإِنذار، وكذلك/ هي في حرف عبد الله.
والضمير في «قبله» عائد على القرآن. وقيل: على النزول. وقيل: على وقت النزول. و «عُمُراً» مشبهٌ بظرف الزمان فانتصبَ انتصابَه، أي: مدة متطاولة. وقيل: هو على حَذْف مضاف، أي: مقدار عُمُر. وقرأ الأعمش «عُمْراً» بسكون الميم كقولهم: «عَضْد» في «عَضُد».
165
قوله تعالى: ﴿مَا لاَ يَضُرُّهُمْ﴾ :«ما» موصولة، أو نكرةٌ موصوفةٌ وهي واقعةٌ على الأصنام، ولذلك راعى لفظها، فأفرد في قوله: ﴿مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ﴾ ومعناها فجمع في قوله «هؤلاء شفعاؤنا».
قوله: ﴿أَتُنَبِّئُونَ﴾ قرأ بعضهم: «أتُنْبِئون» مخففاً مِنْ أنبأ، يقال: أنبأ ونبَّأ كأخبرَ وخبَّر. وقوله: ﴿بِمَا لاَ يَعْلَمُ﴾ «ما» موصولةٌ بمعنى الذي أو نكرة موصوفة كالتي تقدمت. وعلى كلا التقديرين فالعائد محذوف، أي: يعلمه. والفاعل هو ضمير الباري تعالى، والمعنى: أتنبِّئوون الله بالذي لا يعلمه الله، وإذا لم يعلم الله شيئاً استحال وجودُ ذلك الشيء، لأنه تعالى لا يَعْزُب عن علمه شيء، وذلك الشيء هو الشفاعة، ف «ما» عبارة عن الشفاعة.
165
والمعنى: أن الشفاعةَ لو كانَتْ لَعَلِمَهَا الباري تعالى. وقوله: ﴿فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض﴾ تأكيدٌ لنفيه، لأنَّ كل موجود لا يَخْرج عنهما. ويجوزُ أن تكونَ «ما» عبارةً عن الأصنام. وفاعل «يعلمُ» ضميرٌ عائد عليها. والمعنى: أَتُعَلِّمون اللَّهَ بالأصنامِ التي لا تَعْلَم شيئاً في السموات ولا في الأرض، وإذا ثَبَتَ أنها لا تعلم فكيف تشفع؟ والشافع لا بد وأن يعرفَ المشفوعَ عنده، والمشفوعَ له، هكذا أعربه الشيخ، فجعل «ما» عبارة عن الأصنام لا عن الشفاعة، والأول أظهر. و «ما» في «عَمَّا يشركون» يُحتمل أن تكونَ بمعنى الذي، أي: عن شركائهم الذي يُشْركونهم به في العبادة. أو مصدريةٌ، أي: عن إشراكهم به غيره.
وقرأ الأخَوان هنا «عَمَّا يُشْركون»، وفي النحل موضعين، الأول: ﴿سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الملائكة﴾ [الآية: ١]، والثاني: ﴿بالحق تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الآية: ٣]. وفي الروم: ﴿هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الآية: ٤٠] بالخطاب. والباقون بالغَيْبة في الجميع. والخطاب والغيبة واضحتان.
وأتى هنا ب «يُشْركون» مضارعاً دون الماضي تنبيهاً على استمرار حالِهم كما جاؤوا يعبدون، وتنبيهاً أيضاً على أنَّهم على الشرك في المستقبل، كما كانوا عليه في الماضي.
166
قوله تعالى: ﴿وَإِذَآ أَذَقْنَا﴾ : شرطيةٌ جوابُها «إذا الفجائيةُ في قوله: ﴿إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ﴾، والعاملُ في» إذا «الفجائيةِ الاستقرارُ الذي في» لهم «.
166
وقد تقدَّم لك خلافٌ في» إذا «هذه: هل هي حرفٌ أو ظرفُ زمان على بابها أو ظرفُ مكان؟ وقال أبو البقاء:» وقيل: «إذا» الثانية زمانيةٌ أيضاً، والثانية وما بعدها جواب الأولى «. وهذا الذي حكاه قولٌ ساقط لا يُفهم معناه.
وقوله: ﴿في آيَاتِنَا﴾ متعلقٌ ب»
مَكْر «جعل الآيات مَحَلاًّ للمكر والمبالغة، ويَضْعف أن يكون الجارُّ صفةً ل» مكر «. وقوله:» مكراً «نصبٌ على التمييز. وهو واجبُ النصبِ، لأنك لو صُغْتَ مِنْ» أَفْعل «فعلاً وأَسْنَدْتَه إلى تمييزِه فاعلاً لصَحَّ أن يُقال:» سَرُع مَكْرُه «وأيضاً فإنَّ شرطَ جوازِ الخفضِ صِدْقُ التمييز على موصوفِ أفعل التفضيل نحو:» زيدٌ أحسنُ فقيه «. و» أَسْرَعُ «مأخوذٌ مِنْ سَرُع ثلاثياً، حكاه الفارسي. وقيل: بل مِنْ أسرع، وفي بناء أفعل وفعلي التعجب مِنْ أفعل ثلاثةُ مذاهب: الجوازُ مطلقاً، المنعُ مطلقاً، التفضيلُ: بين أن تكونَ الهمزةُ للتعدية فيمتنعَ، أو لا فيجوزَ، وتحريرُها في كتب النحاة. وقال بعضُهم:» أَسْرع هنا ليست للتفضيل «وهذا ليس بشيءٍ إذ السياق يردُّه. وجعله ابن عطية: أعني كونَ أسرع للتفضيل نظيرَ قوله:» لهي أسودُ مِنَ القار «. قال الشيخ:» وأما تنظيره «أسود من القار» ب «أسرع» ففاسد/ لأن «أسود» ليس فعلُه على وزِن أَفْعَل، وإنما هو على وزن فَعِل
167
نحو: سَوِدَ فهو أسود، ولم يمتنع التعجب ولا بناء أفعل التفضيل عند البصريين مِنْ نحو سَوِدَ وحَمِرَ وأَدِمَ إلا لكونه لوناً. وقد أجاز ذلك بعض الكوفيين في الألوان مطلقاً، وبعضهم في السواد، والبياض فقط «، قلت: تنظيره به ليس بفاسد، لأنَّ مرادَه بناءُ أفعل مما زاد على ثلاثة أحرف وإن لم يكن على وزن أَفْعَل، وسَوِد وإن كان على ثلاثةٍ لكنه في معنى الزائد على ثلاثة، إذ هو في معنى أسود، وحَمِرَ في معنى أحمر، نصَّ على ذلك النحويون، وجعلوه هو العلةَ المانعةَ من التعجب في الألوان.
وقرأ الحسنُ وقتادة ومجاهد والأعرج ونافعٌ في روايةٍ:»
يَمْكرون «بياء الغيبة جَرْياً على ما سَبَق. والباقون بالخطابِ مبالغةً في الإِعلام بمكرهم والتفاتاً لقوله:» قل الله «، إذ التقديرُ: قل لهم، فناسَبَ الخطابَ. وفي قوله:» إنْ رسلَنا «التفاتٌ أيضاً، إذ لو جرى على قوله:» قل الله «، لقيل: إنَّ رسله.
168
قوله تعالى: ﴿يُسَيِّرُكُمْ﴾ : قراءةُ ابنِ عامر مِن النَّشْر ضد الطيّ، والمعنى: يُفَرِّقكم ويَبُثُّكم. وقرأ الحسن: «يُنْشِركم» مِنْ أَنْشَر، أي: أَحْيا وهي قراءةُ ابنِ مسعود أيضاً. وقرأ بعض الشاميين «يُنْشِّركم» بالتشديد للتكثير مِن النَّشْر الذي هو مطاوع الانتشار. وقرأ الباقون «يُسَيِّركم» من التَّسْيير، والتضعيفُ فيه للتعديةِ تقول: سار الرجل وسَيَّرْتُه أنا. وقال الفارسي: «هو تضعيفُ مبالغةٍ لا تضعيفُ تعديةٍ، لأنَّ العربَ تقول:» سِرْتُ الرجلَ وسيَّرته «، ومنه قول الهذلي:
168
٢٥٧٥ - فلا تجزعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أنت سِرْتها فأولُ راضٍ سنةٍ مَنْ يَسِيْرُها
وهذا الذي قاله أبو علي غير ظاهر؛ لأن الأكثر في لسان العرب أنَّ» سار «قاصرٌ، فَجَعْلُ المضعفِ مأخوذاً من الكثير أَوْلَى. وقال ابنُ عطية:» وعلى هذا البيتِ اعتراضٌ حتى لا يكونَ شاهداً في هذا، وهو أن يكون الضميرُ كالظرفُ، كما تقول: «سِرْتُ الطريق». قال الشيخ: «وأمَّا جَعْلُ ابن عطية الضميرَ كالظرفِ كما تقول:» سِرْتَ الطريقَ «فهذا لا يجوزُ عند الجمهور، لأنَّ» الطريقَ «عندهم ظرفٌ مختصٌّ كالدار فلا يَصِلُ إليها الفعلُ غيرَ» دخلت «عند سيبويه، و» انطلقت «و» ذهبت «عند الفراء إلا بوساطة» في «إلا في ضرورة، وإذا كان كذلك فضميرُه أَحْرى أَنْ لا يتعدى إليه الفعل». وزعم ابن الطراوة أنَّ «الطريق» ظرفٌ غيرُ مختصٍ فيصلُ إليه الفعلُ بنفسه، وأباه النحاة.
قوله: ﴿حتى إِذَا﴾ «حتى» متعلقةٌ ب «يُسَيِّركم». وقد تقدَّم الكلامُ على «حتى» هذه الداخلةِ على «إذا» وما قيل فيها. قال الزمخشري: «كيف جَعَلَ الكونَ في الفلك غايةَ التسييرِ في البحر، والتسيُير في البحر إنما هو بالكون في الفُلْك؟ قلت: لم يجعلِ الكونَ في الفلك غايةَ التسيير، ولكنَّ مضمونَ
169
الجملةِ الشرطيةِ الواقعةِ بعد» حتى «بما في حيِّزها كأنه قال: يُسَيِّركم حتى إذا وقعت هذه الحادثةُ فكان كيت وكيتَ مِنْ مجيء الريحِ العاصفةِ وتراكُمِ الأمواج والظن للهلاك والدعاء بالإِنجاء».
وقرأ أبو الدَّرْدَاء وأمُّ الدرداء «في الفُلْكيّ» بياء النسب. وتخريجُها يَحْتمل وجهين، أحدهما: أن يُراد به الماءُ الغَمْرُ الكثيرُ الذي لا يَجْْري الفُلْكُ إلا فيه، كأنه قيل: كنتم في اللُّلجِّ الفُلْكِيِّ، ويكونُ الضمير في «جَرَيْنَ» عائداً على الفلك لدلالةِ «الفلكي» عليه لفظاً ولزوماً. والثاني: أن يكونَ من باب النسبةِ إلى الصفة لقولهم: «أَحْمَريّ» كقوله:
٢٥٧٦ - أَطَرَباً وأنت قِنَّسْرِيُّ والدهرُ بالإِنسان دوَّارِيُّ
وكنِسْبَتهم إلى العَلَم في قولهم: «الصَّلَتَانيّ» كقوله:
٢٥٧٧ - أَنَا الصَّلَتَانِيُّ الذي قد عَلِمْتُمُ .....................
فزاد ياءَي النسبِ في اسمه.
قوله: ﴿وَجَرَيْنَ﴾ يجوز أن يكونَ نسقاً على «كنتم»، وأن يكونَ حالاً على إضمار «قد». والضميرُ عائدٌ على «الفلك»، والمرادُ به هنا الجُمع، وقد تقدَّم
170
أنه مكسرَّ، وأن تغييره تقديريٌّ، فضمَّتُه كضمةِ «بُدْن»، وأنه ليس باسم جمع، كما زعم الأخفش.
وقوله: ﴿بِهِم﴾ فيه التفاتٌ من الخطابِ إلى الغَيْبة. قال الزمخشري: / «فإن قلت: ما فائدةُ صَرْفِ الكلامِ عن الخطابِ إلى الغَيْبة؟ قلت: المبالغةُ كأنه يَذْكُرُ لغيرهم حالَه ليُعْجِبَهم منها ويَسْتدعي منهم الإِنكارَ والتقبيح». وقال ابن عطية: «بهم» خروجٌ من الخطاب إلى الغَيْبة وحَسُنَ ذلك لأن قوله: ﴿كُنتُمْ فِي الفلك﴾ هو بالمعنى المعقول، حتى إذا حَصَلَ بعضُكم في السفن «انتهى. فقدَّر اسماً غائباً وهو ذلك المضافُ المحذوف، فالضميرُ الغائب يعود عليه. ومثلُه ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ﴾ [النور: ٤٠] تقديره: أو كذي ظلمات» وعلى هذا فليس من الالتفات في شيءٍ. وقال الشيخ: «والذي يَظْهر أنَّ حكمةَ الالتفاتِ هنا هي أن قولَه ﴿هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ﴾ خطابٌ فيه امتنانٌ وإظهارُ نعمةٍ للمخاطبين، والمسيَّرون في البر والبحر مؤمنون وكفَّار، والخطابُ شاملٌ، فَحَسُن خطابُهم بذلك ليستديمَ الصالحُ الشكرَ، ولعلَّ الطالحَ يتذكر هذه النعمةَ، ولمَّا كان في آخر الآية ما يقتضي أنهم إذا نَجَوا بَغَوا في الأرضِ عَدَلَ عن خطابهم بذلك إلى الغَيْبة لئلا يخاطب المؤمنين بما لا يليق صُدورُه منهم وهو البغيُ بغير الحق»
171
قوله: ﴿بِرِيحٍ﴾ متعلقٌ ب «جَرَيْنَ»، فيقال: كيف يتعدى فعلٌ واحدٌ إلى معمولَيْن بحرفِ جرٍ متحدٍ لفظاً ومعنى؟. فالجوابُ أن الباءَ الأولى للتعدية كهي في «مررت بزيد» والثانية للسبب فاختلف المعنيان، فلذلك تعلَّقا بعاملِ واحدٍ. يجوز أن تكونَ الباءُ الثانيةُ للحالِ فتتعلقَ بمحذوف، والتقدير: جَرَيْنَ بهم ملتبسةً بريح، فتكونُ الحالُ من ضمير الفلك.
قوله: ﴿وَفَرِحُواْ بِهَا﴾، يجوز أن تكون هذه الجملةُ نَسَقاً على «جَرَيْنَ»، وأن تكونَ حالاً، و «قد» معها مضمرةٌ عند بعضهم، أي: وقد فَرِحوا، وصاحبُ الحال الضمير في «بهم».
قوله: ﴿جَآءَتْهَا﴾ الظاهرُ أن هذه الجملةَ الفعلية جواب «إذا»، وأن الضميرَ في «جاءَتْها» ضميرُ الريح الطيبة، أي: جاءَتِ الريحَ الطيبةَ ريحٌ عاصفٌ، أي: خَلَفَتْها. وبهذا بدأ الزمخشري، وسبقه إليه الفراء وجَوَّز أن يكونَ الضميرُ للفلك، ورجَّح هذا بأن الفُلْكَ هو المُحَدَّث عنه.
قوله: ﴿وظنوا﴾ يجوز أن يكونَ معطوفاً على «جاءتها» الذي هو جوابُ «إذا»، ويجوز أن يكونَ معطوفاً على «كنتم» وهو قولُ الطبريّ ولذلك قال: «وظنُّوا» جوابُه «دَعَوا الله».
قال الشيخ: «ظاهره العطف على جواب» إذا «لا أنَّه معطوفٌ على» كنتم «لكنه محتمل كما تقول:» إذا زارك فلانٌ فأكرمه، وجاءك خالد فأحسِنْ إليه «وأنَّ أداةَ الشرط مذكورة». وقرأ زيد ابن عليّ «حِيط» ثلاثياً.
172
قوله: ﴿دَعَوُاْ الله﴾، قال أبو البقاء: «هو جواب ما اشتمل عليه المعنى مِنْ معنى الشرط، تقديره: لما ظَنُّوا أنهم أُحيط بهم دَعَوُا الله»، وهذا كلامٌ فارغ. وقال الزمخشري: «هي بدلٌ مِنْ» ظنُّوا «لأنَّ دعاءهم مِنْ لوازم ظنِّهم الهلاكَ فهو متلبسٌ به». ونقل الشيخ عن شيخه أبي جعفر أنه جوابٌ لسؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا كان حالُهم إذ ذاك؟ فقيل: دَعَوُا الله «. و» مخلصين «حال. و» له «متعلقٌ به. و» الدين «مفعوله.
قوله: ﴿لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا﴾ اللامُ موطِّئةٌ للقسم المحذوف، و»
لنكونَنَّ «جوابه، والقسمُ وجوابهُ في محل نصب بقول مقدر، وذلك القولُ المقدرُ في محلِّ نصبٍ على الحال، والتقدير: دَعَوا قائلين: لئن أَنْجَيْتنا من هذه لنكوننَّ. ويجوزُ أن يجرى» دَعَوا «مجرى» قالوا «، لأن الدعاء بمعنى القول، إذ هو نوعٌ مِنْ أنواعه، وهو مذهب كوفي.
173
قوله تعالى: ﴿إِذَا هُمْ يَبْغُونَ﴾ : جوابُ «لمَّا»، وهي «إذا» الفجائية. وقوله: «بغير الحق» حالٌ، أي: ملتبسين بغير الحق. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: ما معنى قوله:» بغير الحق «والبغيُ لا يكونُ بحق؟ قلت: بلى وهو استيلاء المسلمين على أرضِ الكفار وهَدْمُ دورِهم وإحراقُ زروعِهم وقَطْعُ أشجارهم، كما فعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببني قريظة»، وكان قد فَسَّر البغيَ
173
بالفسادِ والإِمعان فيه، مِنْ «بغى الجرحُ: إذا ترامى للفساد». ولذلك قال الزجاج: «إنه الترقّي في الفساد»، وقال الأصمعيُّ أيضاً: «بغى الجرحُ: ترقى إلى الفساد، وبَغَت المرأة: فَجَرَت»، قال الشيخ/ «ولا يَصِحُّ أن يُقال في المسلمين إنهم باغُون على الكفرة، إلا إنْ ذُكر أنَّ صلَ البغيِ هو الطلبُ مطلقاً، ولا يتضمَّن الفسادَ، فحينئذ ينقسم إلى طلبٍ بحق وطلب بغير حق»، قلت: وقد تقدَّم أنَّ هذه الآيةَ تَرُدُّ على الفارسي أنَّ «لمَّا» ظرف بمعنى حين؛ لأن ما بعد «إذا» الفجائية لا يَعْمل فيما قبلها، وإذ قد فَرَضَ كونَ «لمَّا» ظرفاً لزمَ أن يكونَ لها عاملٌ.
قوله: ﴿مَّتَاعَ الحياة﴾ قرأ حفص «متاعَ» نصباً، ونصبُه على خمسة أوجه، أحدُها: أنه منصوب على الظرف الزماني نحو «مَقْدَم الحاج»، أي: زَمَن متاع الحياة. والثاني: أنه منصوبٌ على المصدر الواقع موقع الحال، أي: مُتَمتعين. والعاملُ في هذا الظرف وهذه الحالِ الاستقرار الذي في الخبر، وهو «عليكم». ولا يجوزُ أن يكونا منصوبين بالمصدر لأنه يلزم منه الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِه بالخبر، وقد تقدَّم أنه لا يُخْبَرُ عن الموصول إلا بعد تمامِ صلته. والثالث: نصبُه على المصدرِ المؤكِّد بفعلٍ مقدر، أي: يتمتعون متاع الحياة. الرابع: أنه منصوبٌ على المفعول به بفعلٍ مقدر يدلُّ عليه المصدر، أي: يبغون متاعَ الحياة. ولا جائزٌ أن ينتصِبَ بالمصدر لِما تقدم. الخامس: أن ينتصب على المفعولِ مِنْ أجله، أي: لأجلِ متاع والعامل فيه: إمَّا الاستقرارُ المقدَّرُ في «عليكم»، وإمَّا فعلٌ مقدر. ويجوز أن يكونَ الناصبُ له حالَ جعله ظرفاً أو حالاً او مفعولاً من أجله نفسَ البغي
174
لا على جَعْل «على أنفسكم» خبراً بل على جَعْله متعلقاً بنفس البغي، والخبرُ محذوفٌ لطول الكلام، والتقدير: إنما بَغْيُكم على أنفسكم متاعَ الحياة مذومٌ أو مكروهٌ أو منهيٌّ عنه.
وقرأ باقي السبعة «متاعُ» بالرفع. وفيه أوجه، أحدُها: وهو الأظهر أنه خبرُ «بَغْيكم» و «على أنفسِكم» متعلقٌ بالبغي.
ويجوز أن [يكونَ] «عليكم» خبراً، و «متاع» خبراً ثانياً، ويجوزُ أن يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ، أي: هو متاع. ومعنى «على أنفسكم»، أي: على بعضِكم وجنسِكم كقوله ﴿وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: ٢٩] ﴿وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ﴾ [الحجرات: ١١]، أو يكونُ المعنى: إنَّ وبالَ البغي راجعٌ عليكم لا يتعدَّاكم كقولِه: ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ [الإسراء: ٧] ﴿وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا﴾ [فصلت: ٤٦].
وقرأ ابنُ أبي إسحاق «متاعاً الحياة» بنصب «متاعاً» و «الحياةَ». ف «متاعاً» على ما تقدَّم. وأما «الحياة» فيجوز أن تكونَ مفعولاً بها، والناصب لها المصدر، ولا يجوز والحالةُ هذه أن يكونَ «متاعاً» مصدراً مؤكداً لأنَّ المؤكِّد لا يعمل. ويجوزُ أَنْ تنتصبَ «الحياة» على البدل من «متاعاً» لأنها مشتملةٌ عليه.
وقُرىء أيضاً «متاعِ الحياة» بجرِّ «متاع»، وخُرِّجت على النعت لأنفسكم، ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ حينئذ تقديرُه: على أنفسكم ذواتِ متاع الحياة، كذا خرَّجه بعضهم. ويجوز أن يكونَ ممَّا حُذِف منه حرفُ الجر
175
وبقي عملُه، أي: إنما بَغْيُكم على أنفسِكم لأجِل متاع، ويدلُّ على ذلك قراءةُ النصب في وجه مَنْ يجعله مفعولاً من أجله، وحَذْفُ حرفِ الجر وإبقاءُ عملِه قليلٌ، وهذه القراءةُ لا تتباعَدُ عنه. وقال أبو البقاء: «ويجوزُ أن يكونَ المصدرُ بمعنى اسم الفاعل، أي: متمتعات» يعني أنه يَجْعل المصدرَ نعتاً ل «أنفسكم» من غيرِ حَذْفِ مضافٍ بل على المبالغة أو على جَعْلِ المصدر بمعنى اسم الفاعل. ثم قال: «ويَضْعُفُ أن يكونَ بدلاً إذ أمكن أن يُجْعَلَ صفةً»، قلت: وإذا جُعِل بدلاً على ضعفه فمِنْ أيِّ قبيل البدلِ يُجعل؟ والظاهر أنه مِنْ بدل الاشتمال، ولا بد من ضميرٍ محذوفٍ حنيئذ، أي: متاع الحياة الدنيا لها.
وقرىء «فيُنَبِّئَكُم» بياءِ الغَيْبة، والفاعلُ ضميرُ الباري تعالى.
176
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ﴾ : هذه الجملةُ سِيْقَتْ لتشبيهِ الدنيا بنباتِ الأرض، وقد شَرَحَ الله تعالى وجهَ التشبيه بما ذكر. قال الزمخشري: «وهذا مِنْ/ التشبيهِ المركب، شُبِّهَتْ حالُ الدنيا في سرعةِ تَقَضِّيها وانقراضِ نعيمِها بعد الإِقبال بحالِ نبات الأرض في جَفَافه وذهابه حُطاماً بعدما التفَّ وتكاتَف وزيَّن الأرض بخضرتِه ورفيفه»، قلت: التشبيهُ المركب في اصطلاح البيانيين: إمَّا أن يكون طرفاه مركبين، أي: تشبيه مركب بمركب كقول بشار بن برد:
٢٥٧٨ - كان مُثَارَ النَّقْعِ فوقَ رؤوسنا وأسيافَنا ليلٌ تهاوى كواكبُهْ
وذلك أنه يُشَبِّه الهيئةَ الحاصلةَ من هُوِيِّ أجرامٍ مشرقة مستطيلةٍ متناسبةِ
176
المقدارِ متفرقةٍ في جوانبِ شيءٍ مظلم بليلٍ سقطت كواكبُه، وإمَّا أن يكونَ طرفاه مختلفَيْن بالإِفراد والتركيب. وتقسيماتُه في غير هذا الموضوع.
وقوله: ﴿كَمَآءٍ﴾ هو خبرُ المبتدأ، و «أنزلناه» صفةٌ ل «ماء»، و «من السماء» متعلقٌ ب «أَنْزلناه» ويَضْعُفُ جَعْلُه حالاً من الضمير المنصوب. وقوله: «فاختلطَ به» في هذه الباءِ وجهان، أحدهما: أنها سببيَّةٌ. قال الزمخشري: «فاشتبك بسببه حتى خالط بعضُه بعضاً»، وقال ابن عطية: «وَصَلَتْ فِرْقَةٌ» النباتَ «بقوله:» فاختلط «، أي: اختلط النباتُ بعضُه ببعض بسبب الماء». والثاني: أنها للمصاحبة بمعنى أنَّ الماءَ يجري مجرى الغذاء له فهو مصاحبه. وزعم بعضُهم أن الوقفَ على قولِه: «فاختلط» على أن الفعلَ ضميرٌ عائد على الماء، وتَبْتَدىء ﴿بِهِ نَبَاتُ الأرض﴾ على الابتداء والخبر. والضمير في «به» على هذا يجوز عَوْدُه على الماء، وأن يعود على الاختلاط الذي تضمنَّه الفعل، قاله ابن عطية. قال الشيخ: «الوقف على قوله:» فاختلط «لا يجوزُ، وخاصةً في القرآن لأنه تفكيكٌ للكلام المتصلِ الصحيح والمعنى الفصيحِ، وذهابٌ إلى اللُّغْز والتعقيد».
قوله: ﴿مِمَّا يَأْكُلُ﴾ فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلقٌ ب «اختلط» وبه قال الحوفي. والثاني: أنه حالٌ من «النبات» وبه قال أبو البقاء، وهو الظاهرُ، والعاملُ فيه محذوفٌ على القاعدة المستقرة، أي: كائناً أو مستقراً ممَّا يأكل. ولو قيل «مِنْ» لبيان الجنس لجاز. وقوله: «حتى» غايةٌ فلا بد لها من شيءٍ مُغَيَّا، والفعلُ الذي قبلها وهو «اختلط» لا يصلح أن يكون مُغَيَّا لقصرِ زمنهِ.
177
فقيل: ثَمَّ فعل محذوف، أي: لم يزلِ النباتُ ينمو حتى كان كيت وكيت. وقيل: يُتَجَوَّزُ في «فاختلط» بمعنى: فدامَ اختلاطُه حتى كان كيت وكيت. و «إذا» بعد «حتى» هذه تقدَّم التنبيهُ عليها.
قوله: ﴿وازينت﴾ قرأ الجمهور «ازَّيَّنَتْ» بوصل الهمزة وتشديد الزاي والياء، والأصلُ «وتَزَيَّنت» فلمَّا أريد إدغامُ التاء في الزاي بعدها قُلبت زاياً وسَكَنَتْ فاجتلبت همزة الوصل لتعذُّر الابتداء بالساكن فصار «ازَّيَّنت» كما ترى، وقد تقدَّم تحريرُ هذا عند قولِه تعالى: ﴿فادارأتم فِيهَا﴾ [البقرة: ٧٢]. وقرأ أُبَيّ بن كعب وعبد الله وزيدٌ بن علي والأعمش «وتَزَيَّنَتْ» على تَفَعَّلَتْ، وهو الأصلُ المشار إليه. وقرأ سعد ابن أبي وقاص والسلمي وابن يعمر والحسن والشعبي وأبو العالية ونصر بن عاصم وابن هرمز وعيسى الثقفي: «وأَزْيَنَتْ على وزن أَفْعلَتْ وأفْعَل هنا بمعنى صار ذا كذا كأَحُصَدَ الزرعُ وأَغَدَّ البعيرُ، والمعنى: صارت ذا زينة، أي: حَضَرت زينتها وحانَتْ وكان مِنْ حَقِّ الياءِ على هذه القراءة أن تُقْلَبَ ألفاً فيقال: أَزَانَتْ، كأَنَابت فَتُعَلُّ بنقلِ حركتِها إلى الساكن قبلها فتتحرك حينئذ، وينفتح ما قبلَها فتقلب ألفاً كما تقدَّم ذلك في نحو: أقام وأناب، إلا أنها صَحَّتْ شذوذاً كقولِه:» أَغْيَمت السماء، وأَغْيَلَت المرأة «، وقد وَرَدَ ذلك في القرآن نحو: ﴿استحوذ﴾ [المجادلة: ١٩] وقياسُه استحاذَ كاستقام.
وقرأ أبو عثمان النهدي وعزاه ابن عطية لفرقةٍ غيرِ معينة»
178
وازْيَأَنَّتْ «بهمزة وصل بعدها زايٌ ساكنة، / بعدها ياءٌ مفتوحة خفيفة، بعدها همزةٌ مفتوحة، بعدها نون مشددة. قالوا: وأصلها: وازيانَّتْ بوزن احَمَارَّت بألف صريحة، ولكنهم كَرِهُوا الجمعَ بين الساكنين فقلبت الألفُ همزةً كقراءة» الضألّين «و» جَأَنْ «. وعليه قولهم:» احمأرَّت «بالهمز وأنشد:
٢٥٧٩ -..................... إذا ما الهَواديْ بالعَبيطِ احمأرَّتِ
وقد تقدم لك هذا مشبعاً في أواخر الفاتحة. وقرأ أشياخ عوف ابن أبي جميلة:»
وازْيأنَّتْ «بالأصل المشار إليه، وعزاها ابن عطية لأبي عثمان النهدي. وقرىء» وازَّايَنَتْ «والأصلُ: تزاينت فأدغم.
وقوله: ﴿أَهْلُهَآ﴾، أي: أهل نباتها. و»
أتاها «هو جوابُ» إذا «فهو العاملُ فيها. وقيل: الضميرُ عائد على الزينة. وقيل: على الغَلَّة، أي: القُوت فلا حَذْفَ حينئذ.
و»
ليلاً ونهاراً «ظرفان للإِتيان أو للأمر. والجَعْل هنا تصيير. وحصيد: فعيل بمعنى مفعول؛ ولذلك لم يؤنَّثْ بالتاء وإن كان عبارة عن مؤنث كقولهم: امرأة جريح.
179
قوله: ﴿كَأَن لَّمْ تَغْنَ﴾ هذه الجملةُ يجوز أن تكون حالاً مِنْ مفعول» جَعَلْناها «الأول، وأن تكون مستأنفةً جواباً لسؤال مقدر. وقرأ مروان ابن الحكم» تتغَنَّ «بتاءين بزنة تنفَعَّل، ومثله قول الأعشى:
٢٥٨٠ -..................... طويلَ الثَّواءِ طويلَ التَّغَنّ
وهو بمعنى الإِقامة، وقد تقدَّم تحقيقُه في الأعراف. وقرأ الحسن وقتادة ﴿كأن لم يَغْنَ﴾ بياء الغيبة، وفي هذا الضميرِ ثلاثةُ أوجهٍ، أجودُها: أن يعودَ على الحصيد لأنه أقرب مذكور. وقيل: يعودُ على الزخرف، أي: كأن لم يَقُم الزخرف. وقيل: يعود على النبات أو الزرع الذي قدَّرته مضافاً، أي: كأن لم يَغْنَ زَرْعُها ونباتها.
و»
بالأمس «المرادُ به الزمن الماضي لا اليوم الذي قبل يومك، فهو كقول زهير:
٢٥٨١ - وأعلمُ علمَ اليومِ والأمسِ قبلَه ولكنني عن عِلْمِ ما في غدٍ عَمِ
لم يَقْصد بها حقائقَها، والفرقُ بين الأَمْسَيْن أن الذي يراد به قبل يومِك مبنيٌّ لتضمُّنه معنى الألف واللام، وهذا مُعْرب تدخل عليه أل ويضاف.
وقوله: ﴿كذلك نُفَصِّلُ﴾ نعت مصدر محذوف، أي: مثل هذا التفصيل الذي فَصَّلْناه في الماضي نُفَصِّل في المستقبل.
180
قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَرْهَقُ﴾ : فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنها مستأنفةٌ. والثاني: أنها في محل نصب على الحال، والعامل في هذه الحال الاستقرار الذي تضمَّنه الجارُّ، وهو «للذين» لوقوعه خبراً عن «الحسنى» قاله أبو البقاء، وقدَّره بقوله: «استقرَّ لهم الحسنى مضموماً لهم السَّلامة»، وهذا ليس بجائز لأن المضارعَ متى وقع حالاً منفيَّاً ب «لا» امتنع دخولُ واو الحال عليه كالمثبت، وإن وَرَدَ ما يُوهم ذلك يُؤَوَّل بإضمار مبتدأ، وقد تقدم تحقيقُه غيرَ مرة. والثالث: أنه في محلِّ رفع نسقاً على «الحسنى»، ولا بدَّ حينئذٍ من إضمار حرفٍ مصدري يَصِحُّ جَعْلُه معه مخبراً عنه بالجارّ، والتقدير: للذين أحسنوا الحسنى، وأنْ لا يرهق، أي: وعدم رَهَقِهم، فلمَّا حُذِفت «أن» رُفع الفعلُ المضارع لأنه ليس من مواضع إضمار «أنْ» ناصبة وهذا كقوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ﴾ [الروم: ٢٤]، أي: أن يُرِيَكم، وقوله: «تَسْمع بالمُعَيْدِيّ خيرٌ من أن تراه»، وقوله:
٢٥٨٢ - ألا أيُّهذا الزاجري أحضرُ الوَغَى ..................................
أي: أن أحضر. رُوي برفع «أحضر» ونصبه. ومنع أبو البقاء هذا الوجه، فقال: «ولا يجوز أن يكون معطوفاً على» الحسنى «لأن الفعل إذا عُطِفَ على المصدر احتاج إلى» أَنْ «ذِكْراً أو تقديراً، و» أنْ «غيرُ مقدرة لأن الفعلَ مرفوع»، فقوله: «وأَنْ غيرُ مقدرةٍ، لأن الفعل مرفوع» ليس بجيد لأن قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ﴾ [الروم: ٢٤] معه «أنْ» مقدرة مع أنه مرفوع، ولا يَلْزم من
181
إضمار «أنْ» نصب المضارع، بل المشهورُ أنه إذا أُضْمرت «أن» في غير المواضع التي نصَّ النحويون على إضمارها ناصبة ارتفعَ الفعلُ، والنصبُ قليلٌ جدا.
والرَّهَق: الغِشْيان. يقال: رَهِقَه يَرْهَقُه رَهَقا، أي: غَشِيَهُ بسرعة، ومنه ﴿وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي﴾ [الكهف: ٣٧] ﴿فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً﴾ [الجن: ١٣] / يقال: رَهِقْتُه وأَرْهَقْتُه نحو: رَدِفْتُه وأَرْدَفْتُه، فَفَعَل وأَفْعل بمعنىً، ومنه: «أَرْهَقْت الصلاةَ» إذا أخَّرْتَها حتى غَشِي وقتُ الأخرى، ورجلٌ مُرْهَق، أي: يغشاه الأضياف. وقال الأزهري: «الرَّهَق» اسمٌ من الإِرهاق، وهو أن يَحْمِلَ الإِنسانُ على نفسه ما لا يُطيق، ويقال: «أَرْهَقْتُه عن الصلاة»، أي: أَعْجَلْتُه عنها. وقال بعضهم. أصلُ الرَّهَق: المقاربة، ومنه غلامٌ مراهِق، أي: قارب الحُلُم، وفي الحديث: «ارهَقُوا القِبلة»، أي: اقرُبوا منها، ومنه «رَهِقَتِ الكلابُ الصيدَ»، أي: لحقته.
والقَتَر والقَتَرة: الغبار معه سوادٌ وأنشدوا للفرزدق:
٢٥٨٣ - مُتَوَّجٌ برِداء المُلك يَتْبَعُه موجٌ ترى فوقه الراياتِ والقترا
أي: غبار العسكر. وقيل: القَتَرُ: الدخان، ومنه «قُتار القِدْر». وقيل:
182
القَتْر: التقليل ومنه ﴿لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ﴾ [الفرقان: ٦٧]، ويقال: قَتَرْتُ الشيء وأَقْتَرْتُه وقتَّرته، أي: قَلَّلْته، ومنه ﴿وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ﴾ [البقرة: ٢٣٦]، وقد تقدم. والقُتْرَةُ: ناموس الصائد. وقيل: الحفرة، ومنه قول امرىء القيس:
٢٥٨٤ - رُبَّ رامٍ من بني ثُعَلٍ مُتْلِجٍ كَفَّيْهِ في قُتَرِهْ
أي: في حفرته التي يَحْفرها. وقرأ الحسن وعيسى بن عمر وأبو رجاء والأعمش «قَتْرٌ» بسكونِ التاء وهما لغتان قَتْر وقَتَرَ كقَدْر وقَدَر.
183
قوله تعالى: ﴿والذين كَسَبُواْ﴾ : فيه سبعةُ أوجه: أحدُها: «أن يكونَ» والذين «نسقاً على» للذين أحسنوا «أي: للذين أحسنوا الحسنى، واللذين كسبوا السيئاتِ جزاءُ سيئةٍ بمثلها، فيتعادل التقسيم كقولك:» في الدار زيدٌ والحجرةِ عمروٌ «، وهذا يسميه النحويون عطفاً على معمولي عاملين. وفيه ثلاثة مذاهب، أحدها: الجواز مطلقاً، وهو قول الفراء. والثاني: المنعُ مطلقاً وهو مذهب سيبويه. والثالث: التفصيل بين أن يتقدَّم الجارُّ نحو:» في الدار زيد والحجرةِ عمرو «، فيجوز، أو لا، فيمتنع نحو:» إن زيداً في الدار وعمراً القصر «، أي: وإن عمراً في القصر. وسيبويه وأتباعه يُخَرِّجون ما ورد منه على إضمار الجارِّ كقوله تعالى: {واختلاف الليل والنهار...
183
لآيَاتٍ} [الجاثية: ٥] بنصب» آيات «في قراءة الأخوين على ما سيأتي، وكقوله:
٢٥٨٥ - أكلَّ امرىءٍ تحسبين امرأً ونارٍ توقَّدُ بالليل نارا
وقول الآخر:
٢٥٨٦ - أَوْصَيْتَ مَنْ تَوَّه قلباً حُرَّاً بالكلبِ خيراً والحماةِ شَرَّا
وسيأتي لهذا مزيدُ بيان في غضون هذا التصنيف. وممَّن ذهب إلى أن هذا الموصولَ مجرور عطفاً على الموصول قبله ابن عطية وأبو القاسم الزمخشري. الثاني: أن»
الذين «مبتدأ، وجزاء سيئة مبتدأ ثانٍ، وخبره» بمثلها «، والباء فيه زائدة، أي: وجزاءُ سيئةٍ مثلها كقوله تعالى: ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠]، كما زِيْدَتْ في الخبر كقوله:
٢٥٨٧ - فلا تطمعْ أبيت اللعنَ - فيها ومَنْعُكها بشيءٍ يُسْتطاع
أي: شيء يستطاع، كقول امرىء القيس:
184
أي: المجرِّب، وهذا قولُ ابن كيسان في الآية. الثالث: أن الباءَ ليست بزائدةٍ والتقدير: مُقَدَّر بمثلها أو مستقر بمثلها، والمبتدأ الثاني وخبرُه خبرٌ عن الاول. الرابع: أن خبرَ» جزاء سيئة «محذوفٌ، فقدَّره الحوفي بقوله:» لهم جزاء سيئة «قال: ودَلَّ على تقدير» لهم «قوله: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى﴾ حتى تتشاكلَ هذه بهذه. وقدَّره أبو البقاء: جزاء سيئة بمثلها واقع، وهو وخبره أيضاً خبر عن الأول. وعلى هذين التقديرين فالباءُ متعلقةٌ بنفس جزاء، لأن هذه المادةَ تتعدَّى بالباء، قال تعالى: ﴿جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ﴾ [سبأ: ١٧] ﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ﴾ [الإنسان: ١٢] إلى غير ذلك. فإن قلت: أين الرابطُ ين هذه الجملةِ والموصولِ الذي هو المبتدأ؟، قلت: على تقديرِ الحوفي هو الضميرُ المجرور باللام المقدر خبراً، وعلى تقديرِ أبي البقاء هو الضميرُ المجرور باللام المقدر خبراً، وعلى تقدير أبي البقاء هو محذوف/ تقديرُه: جزاءُ سيئة بمثلها منهم واقعٌ، نحو:» السَّمْن مَنَوان بدرهم «وهو حَذْفٌ مُطَّرد لِما عرفْتَه غيرَ مرة.
الخامس: أن يكونَ الخبرُ الجملةَ المنفية من قوله: ﴿مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ﴾، ويكون»
مِنْ عاصم «إمَّا فاعلاً بالجارِّ قبله لاعتماده على النفي، وإمَّا مبتدأً، وخبرُه الجارُّ مقدماً عليه، و» مِنْ «مزيدة فيه على كلا القولين.
و «من الله»
متعلقٌ ب «عاصم». وعلى كون هذه الجملة خبر الموصول يكون قد فَصَلَ بين المبتدأ وخبره بجملتي اعتراضٍ. وفي ذلك خلافٌ عن الفارسي تقدَّم التنبيهُ عليه وما استدلَّ به عليه.
السادس: أن الخبرَ هو الجملةُ التشبيهية من قوله: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ
185
وُجُوهُهُمْ}، و «كأنما» حرف مكفوف، و «ما» هذه زائدة تسمَّى كافَّةً ومهيِّئة، وتقدَّم ذلك. وعلى هذا الوجه فيكون قد فَصَلَ بين المبتدأ وخبره بثلاثِ جملِ اعتراض.
السابع: أن الخبر هو الجملة من قوله: ﴿أولئك أَصْحَابُ النار﴾، وعلى هذا القولِ فيكونُ قد فصل بأربعِ جمل معترضة وهي: ﴿جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا﴾، والثانية: «وتَرْهَقُهم ذلة»، والثالث: ﴿مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ﴾، الرابع: «كأنما أُغْشيت». وينبغي أن لا يجوز الفصل بثلاثِ جملٍ فضلاً عن أربع.
وقوله: ﴿وَتَرْهَقُهُمْ﴾ فيها وجهان أحدهما: أنها في محل نصب على الحال. ولم يُبَيِّنْ أبو البقاء صاحبَها، وصاحبُها هو الموصولُ أو ضميرُه. وفيه ضعفٌ لمباشرته الواو، إلا أن يُجْعَلَ خبرَ مبتدأ محذوف. الثاني: أنها معطوفة على «كسبوا». قال أبو البقاء: «وهو ضعيف لأن المستقبلَ لا يُعْطَفُ على الماضي. فإن قيل: هو بمعنى الماضي فضعيفٌ جداً». وقرىء: «ويَرْهقهم» بالياء من تحت، لأنَّ تأنيثَها مجازي.
قوله: ﴿قِطَعاً﴾ قرأ ابن كثير والكسائي «قِطْعاً» بسكون الطاء، والباقون بفتحها. فأما القراءة الأولى فاختلفت عبارات الناس فيها، فقال أهل اللغة: «القِطْع» ظلمة آخر الليل. وقال الأخفش في قوله: «بقِطْع من الليل» بسواد من الليل. وقال بعضهم: «طائف من الليل»، وأنشد الأخفش:
186
٢٥٨٨ - فإن تَنْأَ عنها حقبةً لا تلاقِها فإنَّك ممَّا أَحْدَثْتَ بالمجرِّب
٢٥٨٩ - افتحي الباب فانظري في النجومِ كم علينا من قِطْعِ ليلٍ بَهيم
وأمَّا قراءةُ الباقين فجمعُ «قِطْعة» نحو: دِمْنة وَدِمَن، وكِسْرة وكِسَر وعلى القراءتين يختلف إعراب «مظلماً»، فإنه على قراءةِ الكسائي وابن كثير يجوز أن يكونَ نعتاً ل «قِطْعاً»، ووُصِف بذلك مبالغةً في وَصْف وجوهِهم بالسواد، ويجوز أن يكونَ حالاً فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنه حالٌ من «قِطْعاً»، وجاز ذلك لتخصُّصه بالوصف بالجارِّ بعده وهو «من الليل»، والثاني: أنه حالٌ من «الليل»، والثالث: أنه حالٌ من الضميرِ المستتر في الجارِّ لوقوعه صفة.
قال الزمخشري: «فإن قلت: إذا جعلت» مظلماً «حالاً من» الليل «فما العاملُ فيه؟ قلت: لا يخلو: إما أن يكونَ» أُغْشِيَتْ «من قِبل أنَّ» من الليل «صفةٌ لقوله:» قِطْعاً «، وكان إفضاؤه إلى الموصوفِ كإفضائه إلى الصفة، وإما أن يكونَ معنى الفعل في» من الليل «.
قال الشيخ: «أمَّا الوجه الأول فهو بعيدٌ لأنَّ الأصلَ أن يكون العاملُ في الحال هو العاملَ في ذي الحال، والعاملُ في»
من الليل «هو الاستقرار، و» أُغْشِيَتْ «عاملٌ في قوله:» قطعاً «الموصوف بقوله:» من الليل «فاختلفا، فلذلك كان الوجهُ الأخير أَوْلى، أي: قطعاً مستقرةً من الليل، أو كائنةً من الليل في حال إظلامه». قلت: ولا يَعْني الزمخشري بقوله: «إنَّ العامل أُغْشِيَتْ» إلا أنَّ الموصوفَ وهو «قِطْعاً» معمول لأُِغْشِيَتْ والعامل في الموصوف هو عاملٌ في الصفة، والصفة هي «من الليل» فهي معمولةٌ ل «أُغْشِيَتْ»، وهي صاحبةُ الحال، والعاملُ في الحال هو العاملُ في ذي الحال، فجاء من ذلك أنَّ العاملَ في الحال هو العاملُ في صاحبها بهذه الطريقةِ. ويجوز أن يكونَ «قِطْعاً» جمع قطعة، أي: اسم جنس، فيجوز حينئذٍ وصفُه بالتذكير نحو: «نَخْلٌ مُنْقَعِر» والتأنيث نحو: «نخل خاوية».
187
وأمَّا قراءة الباقين فقال مكي وغيره: «إنَّ» مظلماً «حال من» الليل «فقط. ولا يجوز أن يكون صفةً ل» قِطَعاً «، ولا حالاً منه، ولا من الضمير في» من الليل «، لأنه كان يجب أن يقال فيه: مظلمة». قلت: يَعْنُون أنَّ الموصوف حينئذ جمعٌ، وكذا صاحب الحال فتجب المطابقةُ. وأجاز بعضهم ما منعه هؤلاء وقالوا: جاز ذلك لأنَّه في معنى الكثير، وهذا فيه تعسُّفٌ.
وقرأ أُبَي/ ﴿تغشى وجوهَهم قِطْعٌ﴾ بالرفع، «مظلمٌ». وقرأ ابن أبي عبلة كذلك، إلا أنه فتح الطاء. وإذا جَعَلْتَ «مُظْلماً نعتاً ل» قطعاً «، فتكون قد قَدَّمْتَ النعتَ غير الصريح على الصريح. قال ابن عطية:» فإذا كان نعتاً يعني مظلماً نعتاً لقطع فكان حقه أن يكون قبلَ الجملة، ولكن قد يجيءُ بعد هذا، وتقدير الجملة: قطعاً استقرَّ من الليل مظلماً على نحو قوله: ﴿وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ﴾ [الأنعام: ١٥٥]. قال الشيخ: «ولا يتعيَّنُ تقديرُ العاملِ في المجرور بالفعل فيكونُ جملة، بل الظاهرُ تقديره باسم الفاعل فيكون من قبيل الوصف بالمفرد، والتقدير: قطعاً كائناً من الليل مظلماً». قلت: المحذورُ تقديمُ غيرِ الصريحِ على الصريح ولو كان مقدَّراً بمفرد.
و «قطعاً» منصوبٌ ب «أُغْشِيَتْ» مفعولاً ثانياً.
188
قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ﴾ :«يوم» منصوب بفعلٍ مقدر، أي: خَوِّفْهم، أو ذكِّرْهم يوم. والضميرُ عائد على الفريقين، أي:
188
الذين أحسنوا والذين كسبوا. و «جميعاً» حال. ويجوز أن تكون تأكيداً عند مَنْ عَدَّها مِنْ ألفاظ التأكيد.
قوله: ﴿مَكَانَكُمْ﴾، «مكانكم» اسمُ فعل، ففسَّره النحويون ب «اثبتوا» فيحمل ضميراً، ولذلك أُكِّد بقوله: «أنتم» وعُطِف عليه «شركاؤكم»، ومثله قول الشاعر:
٢٥٩٠ - وقَوْلِي كلما جَشَأَتْ وجاشَتْ مكانَكِ تُحْمَدي أو تَسْتريحي
أي: اثبتي، ويدلُّ على جزمُ جوابِه وهو «تُحْمَدي». وفسَّره الزمخشري ب «الزموا» قال: «مكانكم» أي: الزموا مكانكم، ولا تَبْرحوا حتى تنظروا ما يُفْعل بكم «. قال الشيخ:» وتقديره له ب «الزموا» ليس بجيد، إذ لو كان كذلك لتعدَّى كما يتعدَّى ما ناب هذا عنه، فإنَّ اسمَ الفعلِ يُعامل معاملةَ مسمَّاه، ولذلك لمَّا قدَّروا «عليك» بمعنى «الزم» عدَّوْه تعديتَه نحو: عليك زيداً. و [عند] الحوفي «مكانكم» نُصب بإضمار فعل، أي: الزموا مكانكم أو اثبتوا «. قلت: فالزمخشري قد سُبِق بهذا التفسير. والعذرُ لمَنْ فسَّره بذلك أنه قصد تفسير المعنى، وكذلك فَسَّره أبو البقاء فقال:» مكانكم «ظرفٌ مبنيٌّ لوقوعِه موقعَ الأمر، أي: الزموا».
وهذا الذي ذكره مِنْ كونه مبنياً فيه خلاف للنحويين: منهم مَنْ ذهب إلى ما ذَكَر، ومنهم مَنْ ذهب إلى أنها حركةُ إعراب، وهذان الوجهان مبنيَّان على خلافٍ في أسماء الأفعال: هل لها محلٌّ من الإِعراب أو لا؟، فإن قلنا
189
لها محلٌّ كانت حركاتُ الظرفِ حركاتِ إعراب، وإن قلنا: لا موضع لها كانت حركاتِ بناء. وأمَّا تقديرُه ب «الزموا» فقد تقدَّم جوابه.
وقوله: ﴿أَنتُمْ﴾ فيه وجهان أحدهما: أنه تأكيدٌ للضمير المستتر في الظرفِ لقيامِه مقامَ الفاعلِ كما تقدَّم التنبيه عليه. والثاني: أجازه ابن عطية، وهو أن يكونَ مبتدأً، و «شركاؤكم» معطوف عليه، وخبرُه محذوفٌ قال: «تقديرُه: أنتم وشركاؤكم مُهاون أو مُعَذَّبون»، وعلى هذا فيُوقَفُ على قوله: «مكانكم» ثم يُبتدأ بقوله: «أنتم»، وهذا لا يَنْبغي أن يقال، لأن فيه تفكيكاً لأفصحِ كلام وتبتيراً لنظمه من غير داعيةٍ إلى ذلك، ولأن قراءةَ مَنْ قرأ «وشركاءَكم» نصباً تدل على ضعفه، إذ لا تكونُ إلا من الوجه الأول، ولقولِه: «فزيَّلْنا بينهم»، فهذا يدلُّ على أنهم أُمِروا هم وشركاؤهم بالثبات في مكانٍ واحدٍ حتى يحصلَ التَّزْيِِيْلُ بينهم.
وقال ابن عطية أيضاً: «ويجوزُ أن يكون» أنتم «تأكيداً للضمير الذي في الفعل المقدر الذي هو» قفوا «ونحوه».
قال الشيخ «وهذا ليس بجيدٍ، إذ لو كان تأكيداً لذلك الضمير المتصل بالفعل لجاز تقديمُه على الظرف، إذ الظرفُ لم يتحمَّلْ ضميراً على هذا القول فيلزمُ تأخيرُه [عنه] وهو غير جائز، لا تقول:» أنت مكانَك «ولا يُحْفظ من كلامهم. والأصحُّ أنه لا يجوز حَذْفُ المؤكَّد في التأكيد المعنوي، فكذلك هذا لأن التأكيدَ ينافي الحذف، وليس من كلامهم:» أنت زيداً «لمَنْ رأيته قد شَهَرَ سَيْفاً، وأنت تريد:» اضرب
190
أنت زيداً «إنما كلامُ العرب:» زيداً «تريد: اضرب زيداً». قلت: لم يَعْنِ ابنُ عطية أن «أنت» تأكيد لذلك الضمير في «قفوا» من/ حيث إنَّ الفعلَ مرادٌ غير منوبٍ عنه، بل لأنه نابَ عنه هذا الظرفُ، فهو تأكيدٌ له في الأصلِ قبل النيابة عنه بالظرف، وإنما قال: الذي هو «قفوا» تفسيراً للمعنى المقدر.
وقرأ فرقةُ «وشكركاءَكم» نصباً على المعية. والناصبُ له اسم الفعل.
قوله: ﴿فَزَيَّلْنَا﴾، أي: فرَّقْنا وميَّزْنا كقوله تعالى: ﴿لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا﴾ [الفتح: ٢٥]. واختلفوا في «زيَّل» هل وزنُه فَعَّل أو فَيْعَل؟ والظاهرُ الأول، والتضعيفُ فيه للتكثيرِ لا للتعديةِ لأنَّ ثلاثيَّه متعدٍّ بنفسِه. حكى الفراء «زِلْتُ الضَّأن من المَعِز فلم تَزِل»، ويقال: زِلْت الشيء مِنْ مكانه أَزيله، وهو على هذا من ذواتِ الياء. والثاني: أنه فَيْعَل كبَيْطَر وبَيْقَر وهو مِنْ زال يَزُول، والأصل: زَيْوَلْنا فاجتمعت الياء والواو وسَبَقَت إحداهما بالسكون فأُعِلَّت الإِعلالَ المشهورَ وهو قَلْبُ الواوِ ياءً وإدغامُ الياء فيها كميِّت وسَيّد في مَيْوِت وسَيْودِ، وعلى هذا فهو من مادة الواو. وإلى هذا ذهبَ ابن قتيبة، وتبعه أبو البقاء.
وقال مكي: «ولا يجوز أن يكون فَعَّلْنا مِنْ زال يزول لأنه [يلزم] فيه الواوُ فيكون زَوَّلنا»، قلت: هذا صحيحٌ، وقد تقدم تحريرُ ذلك في قوله: ﴿أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ﴾ [الأنفال: ١٦]. وقد ردَّ الشيخ كونَه فيْعَل بأنَّ فعَّل أكثر من فَيْعَل،
191
ولأن مصدره التزييل، ولو كان فَيْعَل لكان مصدرُه فَيْعَلة كبَيْطَرة؛ لأن فَيْعَل ملحقٌ بفَعْلَل، ولقولهم في معناه زايَل، ولم يقولوا: زاول بمعنى فارق، إنما قالوه بمعنى حاول وخالط «. وحكى الفراء» «فزايَلْنا» وبها قرأت فرقة. قال الزمخشري: «مثل صاعَرَ خَدَّه وصَعَّره، وكالمتُه وكلَّمْته»، قلت: يعني أن فاعَل بمعنى فَعَّل. وزايَلَ بمعنى فارَقَ. قال:
٢٥٩١ - وقال العذارى إنَّما أنت عَمُّنا وكان الشبابُ كالخليطِ نُزايِلُهْ
وقال آخر:
٢٥٩٢ - لعَمْري لَمَوْتٌ لا عقوبةَ بعده لِذي البَثِّ أَشْفَى مِنْ هوىً لا يُزايلُهْ
وقوله: ﴿فَزَيَّلْنَا﴾ و «قال» هذان الفعلان ماضيان لفظاً مستقبلان معنىً لعطفِهما على مستقبل وهو «ويوم نحشرهم» وهما نظيرُ قولِه تعالى: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ﴾ [هود: ٩٨]. و «إيَّانا» مفعولٌ مقدمٌ قُدِّم للاهتمام به والاختصاص، وهو واجبُ التقديمِ على ناصبِه لأنه ضميرٌ منفصل لو تأخر عنه لَزِمَ اتصالُه.
192
وقد تقدَّم الكلامُ على ما بعد هذا مِنْ ﴿وكفى﴾ [النساء: ٦] و «إنْ» المخففة، واللام التي بعدها بما يُغْني عن إعادته.
قوله تعالى: ﴿هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ﴾ : في «هنالك» وجهان، الظاهرُ بقاؤه على أصلِه مِنْ دلالته على ظرف المكان، أي: في ذلك
192
الموقفِ الدَّحْض والمكان الدَّهِش. وقيل: هو هنا ظرف زمان على سبيل الاستعارة، ومثله ﴿هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون﴾ [الأحزاب: ١١]، أي: في ذلك الوقت وكقوله:
٢٥٩٣ - وإذا الأمورُ تعاظَمَتْ وتشاكَلَتْ فهناك يَعْترفون أينَ المَفْزَعُ
وإذا أمكنَ بقاءُ الشيءِ على موضوعِه فهو أولى.
وقرأ الأخَوان «تَتْلو» بتاءَيْن منقوطتين من فوق، أي: تطلُب وتتبَع ما أسلفَتْه مِنْ أعمالها، ومن هذا قوله:
٢٥٩٤ - إنَّ المُريبَ يَتْبَع المُريبا كما رأيت الذِّيبَ يتلو الذِّيبا
أي: يَتْبَعه ويَتَطَلَّبه. ويجوز أن يكونَ من التلاوة المتعارفة، أي: تقرأ كلُّ نفسٍ ما عَمِلَتْه مُسَطَّراً في صحف الحفظة لقوله تعالى: ﴿ياويلتنا مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا﴾ [الكهف: ٤٩]، وقوله: ﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقرأ كتابك﴾ [الإسراء: ١٣].
وقرأ الباقون: «تَبْلو» مِن البَلاء وهو الاختبار، أي: يَعْرف عملَها: أخيرٌ هو أم شر. وقرأ عاصم في روايةٍ «نبلو» بالنون والباءِ الموحدة، أي: نختبر نحن. و «كل» منصوب على المفعول به. وقوله: «وما أَسْلَفَتْ» على هذه القراءةِ
193
يحتمل أن يكونَ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافض، أي: بما أسْلَفَتْ، فلمَّا سقط الخافض انتصبَ مجرورُه كقوله:
٢٥٩٥ - تمرُّون الديار ولم تعوجوا كلامُكمُ عليَّ إذنْ حَرامُ
ويحتمل أن يكونَ منصوباً على البدل من «كل نفس» ويكون من بدلِ الاشتمال. ويجوز أن يكون «نَبْلو» من البلاء وهو العذاب، أي: نُعَذِّبها بسبب ما أَسْلَفَتْ.
و «ما» يجوز أن تكونَ موصولةً اسميةً أو حرفيةً أو نكرةً موصوفة، والعائدُ محذوفٌ على التقدير/ الأول والآخِر دون الثاني على المشهور.
وقرأ ابن وثاب «ورِدُّوا» بكسر الراء تشبيهاً للعين المضعفة بالمعتلَّة، نحو: «قيل» و «بيع»، ومثله:
٢٥٩٦ - وما حِلَّ مِنْ جَهْلٍ حُبا حُلَمائِنا ........................
بكسر الحاء، وقد تقدَّم بيانُ ذلك بأوضحَ من هذا.
وقوله: ﴿إِلَى الله﴾ لا بدَّ من مضاف، أي: إلى جزاء الله، أو موقفِ جزائه. والجمهور على «الحق» جَرَّاً. وقرىء منصوباً على أحد وجهين: إمَّا القطعِ، وأصلُه أنه تابعٌ فقُطع بإضمارِ «أمدح» كقولهم: الحمدُ للَّهِ أهلِ الحمد «، وإمَّا أنه مصدر مؤكد لمضمونِ الجملةِ المتقدمةِ وهو ﴿وردوا إِلَى الله﴾ وإليه نحا الزمخشري، قال:» كقولك: «هذا عبد الله الحق لا الباطل» على
194
التأكيد لقوله ﴿وردوا إِلَى الله﴾. وقال مكي: «ويجوز نصبه على المصدر ولم يُقْرأ به»، قلت: كأنه لم يَطَّلِعْ على هذه القراءة.
وقوله: ﴿مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ «ما» تحتمل الأوجه الثلاثة.
195
قوله تعالى: ﴿مِّنَ السمآء﴾ :«مِنْ» يجوز أَنْ تكونَ لابتداء الغاية، وأن تكونَ للتبعيضِ، وأن تكونَ لبيان الجنس، ولا بد على هذين الوجهين من تقديرِ مضافٍ محذوف، أي: من أهل السماء.
قوله: ﴿أَمْ﴾ هذه «أم» المنقطعة لأنه لم تتقدَّمْها همزةُ استفهام ولا تسوية، ولكن إنما تُقَدَّر هنا ب «بل» وحدها دونَ الهمزة. وقد تقرَّر أن المنقطعةَ عند الجمهور تُقَدَّر بهما، وإنما لم تتقدَّرْ هنا ب «بل» والهمزةِ، لأنَّها وقع بعدها اسم استفهام صريح وهو «مَنْ»، فهو كقوله تعالى: ﴿أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النمل: ٨٤]. والإِضرابُ هنا على القاعدةِ المقررة في القرآن أنه إضرابُ انتقالٍ لا إضرابُ إبطالٍ
قوله تعالى: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ﴾ : يجوز أن يكونَ «ماذا» كلُّه اسماً واحداً لتركُّبهما، وغُلِّب الاستفهامُ على اسم الإِشارة، وصار معنى الاستفهامِ هنا النفيَ ولذلك أوجب بعده ب «إلا»، ويجوز أن يكون «ذا» موصولاً بمعنى الذي، والاستفهام أيضاً بمعنى النفي، والتقدير: ما الذي بعد الحق إلا الضلال؟
قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ حَقَّتْ﴾ : الكافُ في محلِّ نصب نعتاً لمصدر محذوف، والإِشارةُ ب «ذلك» إلى المصدرِ المفهوم مِنْ «تُصْرفون»،
195
أي: مثلَ صَرْفِهم عن الحق بعد الإِقرار به في قوله تعالى: ﴿فَسَيَقُولُونَ الله﴾ [يونس: ٣١]. وقيل إشارةٌ إلى الحق. قال الزمخشري: «كذلك: مثلَ ذلك الحقِّ حَقَّتْ كلمةُ ربك».
قوله: ﴿أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾، فيه أربعةُ أوجه، أحدها: أنَّها في محلِّ رفعِ بدلاً من «كلمةُ»، أي: حَقَّ عليهم انتفاء الإِيمان. الثاني: أنها في محلِّ رفعٍ خبراً لمبتدأ محذوف، أي: الأمر عدمُ إيمانِهم. الثالث: أنها في محلِّ نصبٍ بعد إسقاط الحرف الجارّ. الرابع: أنها في محلِّ جرٍّ على إعمالِه محذوفاً إذا الأصل: لأنهم لا يُؤْمنون. قال الزمخشري: «أو أراد بالكلمة العِدَة بالعذاب، و ﴿أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ تعليل، أي: لأنهم».
وقرأ أبو عمرو وابنُ كثير والكوفيون «كلمة» بالإِفراد، وكذا في آخر السورة. وقد تقدَّم ذلك في الأنعام. وقرأ ابن أبي عبلة ﴿أَنهم لا يُؤْمنون﴾ بكسر «إنَّ» على الاستئناف وفيها معنى التعليل، وهذه مقويِّةُ للوجه الصائر إلى التعليل.
196
قوله تعالى: ﴿قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق﴾ : هذه الجملةُ جواب لقوله: ﴿هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ﴾ وإنما أتى بالجواب جملةً اسميةً مُصَرَّحاً
196
بجزأيها مُعَاداً فيها الخبر مطابقاً لخبر اسم الاستفهام للتأكيدِ والتثيبتِ، ولمَّا كان الاستفهام قبل هذا لا مَنْدوحةَ لهم عن الاعتراف به جاءَت الجملةُ محذوفاً منها أحدُ جُزْأَيْها في قوله ﴿فَسَيَقُولُونَ الله﴾ [يونس: ٣١]، ولم يَحْتَجْ إلى التأكيد بتصريح جزأيها.
197
قوله تعالى: ﴿يهدي إِلَى الحق﴾ : قد تقدم في أول هذا الموضوع أنَّ «هدى» يتعدى إلى اثنين ثانيهما: إمَّا باللام أو بإلى، وقد يُحْذَفُ الحرفُ تخفيفاً. وقد جُمع بين التعديتين هنا بحرف الجر فَعَدَّى الأول والثالث ب «إلى» والثاني باللام، وحُذِف المفعولُ الأول من الأفعال الثلاثة، والتقدير: هل مِنْ شركائكم مَنْ يَهْدي غيره إلى الحق قل اللَّهُ يَهْدي مَنْ يشاء للحق، أفَمَنْ يهدي غيرَه إلى الحق. وزعم الكسائي والفراء وتبعهما الزمخشري أنَّ «يهدي» الأولَ قاصرٌ، وأنه بمعنى اهتدى. وفيه نظر، لأن مُقابلَه وهو ﴿قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ﴾ متعدٍّ. وقد أنكر المبرد أيضاً مقالة الكسائي والفراء وقال: «لا نَعْرِفُ هَدَى بمعنى اهتدى» قلت: الكسائي والفراء أَثْبتاه بما نقلاه، ولكن إنما ضَعُف ذلك هنا لِما ذَكَرْت لك من مقابلته بالمتعدي، وقد تقدَّم أن التعديةَ ب «إلى» أو اللام من باب التفنُّن في البلاغة، ولذلك قال الزمخشري: «يقال: هَدَاه للحق وإلى الحق،
197
فجمع بين اللغتين». وقال غيره: «إنما عدى المسندَ إلى الله باللام/ لأنها أَدَلُّ في بابها على المعنى المرادِ من» إلى «؛ إذ أصلُها لإِفادةِ المُلْك، فكأن الهداية مملوكة لله تعالى» وفيه نظر، لأن المراد بقوله: ﴿أَفَمَن يهدي إِلَى الحق﴾ هو الله تعالى مع تَعدِّي الفعلِ المسند إليه ب «إلى».
قوله: ﴿أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ﴾ خبرٌ لقوله: «أَفَمَنْ يَهْدي» و «أَنْ» في موضعِ نصبٍ أو جرٍّ بعد حذف الخافض، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ، وتقديرُ هذا كله: «أَفَمَنْ يهْدي إلى الحقّ أَحَقُّ بأن يُتَّبَع ممَّن لا يَهْدي». ذكر ذلك مكي ابن أبي طالب، فجعل «أحقّ» هنا على بابها من كونها للتفضيل. وقد منع الشيخ كونَها هنا للتفضيل فقال: «وأحق» ليست للتفضيل، بل المعنى: حقيقٌ بأن يُتَّبع «. وجوَّز مكي أيضاً في المسألة وجهين آخرين أحدهما: أن تكون» مَنْ «مبتدأ أيضاً، و» أنْ «في محلِّ رفع بدلاً منها بدلَ اشتمال، و» أحقُّ «خبرٌ على ما كان. والثاني: أن يكون» أن يُتَّبع «في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و» أحقُّ «خبرُه مقدَّم عليه. وهذه الجملةُ خبر ل» مَنْ يَهْدي «، فَتَحَصَّل في المسألة ثلاثة أوجه.
قوله: ﴿أَمَّن لاَّ يهدي﴾ نسقٌ على»
أفمن «، وجاء هنا على الأفصحِ مِنْ حيث إنَّه قد فُصِل بين» أم «وما عُطِفَتْ عليه بالخبر كقولك:» زيدٌ قائم أم عمرو «ومثله:
﴿أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد﴾ [الفرقان: ١٥]. وهذا بخلاف قوله تعالى: ﴿أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٩] وسيأتي هذا في موضعه.
198
وقرأ أبو بكر عن عاصم بكسر ياء «يهدي» وهائه. وحفص بكسر الهاء دون الياء. فأمَّا كسر الهاء فلالتقاء الساكنين، وذلك أن أصلَه يَهْتدي، فلما قُصِد إدغامُه سكنَتْ التاء، والهاءُ قبلَها ساكنة فكُسِرَتْ الهاءُ لالتقاء الساكنين. وأبو بكر أتبع الياء للهاء في الكسر. وقال أبو حاتم في قراءة حفص «هي لغة سُفْلَى مُضَر»، ونَقَل عن سيبويه أنه لا يُجيز «يِهْدي» ويجيز «تِهْدي ونِهْدي وإهدي»، قال: «لأن الكسرةَ تَثْقُل في الياء»، قلت: يعني أنه يُجيز كَسْرَ حرفِ المضارعة من هذا النحو نحو: تِهْدي ونِهدي وإهدي إذ لا ثِقَلَ في ذلك، ولم يُجِزْهُ في الياء لثقل الحركةِ المجانسةِ لها عليها. وهذا فيه غَضٌّ من قراءة أبي بكر، ولكنه قد تواتَرَ قراءةً فهو مقبول.
وقرأ أبو عمرو وقالون عن نافع بفتح الياء واختلاس فتحة الهاء وتَشْديد الدال، وذلك أنهما لَمَّا ثقَّلا الفتحة لإِدغام اختلسا الفتحة تنبيهاً على أن الهاءَ ليس أصلُها الحركةَ بل السكون. وقرأ ابن كثير وابن عامر وورش بإكمال فتحة الهاء على أصل النقل. وقد رُوي عن أبي عمرو وقالون اختلاسُ كسرةِ الهاءِ على أصل التقاء الساكين، والاختلاس للتنبيه على أنَّ أصلَ الهاءِ السكون كما تقدم.
وقرأ أهلُ المدينة خلاورشاً بفتح الياء وسكون الهاء وتشديدِ الدال. وهذه القراءةُ استشكلها جماعةٌ من حيث الجمعُ بين الساكنين. قال المبرد: «مَنْ رام هذا لا بد أن يُحَرِّكَ حركةً خفيَّة». وقال أبو جعفر النحاس: «
199
لا يقدر أحدٌ أن يَنْطِقَ به»، قلت: وقد قال في «التيسير» :«والنصُّ عن قالون بالإِسكان»، قلت: ولا بُعْدَ في ذلك فقد تقدَّم أن بعضَ القُرَّاء يَقْرأ ﴿نِعِمَّا﴾ [النساء: ٥٨] و ﴿لاَ تَعْدُواْ﴾ [النساء: ١٥٤] بالجمع بين الساكنين، وتقدَّمت لك قراءاتٌ كثيرة في قوله: ﴿يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ﴾ [البقرة: ٢٠]، وسيأتي لك مثلُ هذا في ﴿يَخِصِّمُونَ﴾ [يس: ٤٩].
وقرأ الأخَوان «يَهْدي» بفتح الياء وسكون الهاء وتخفيفِ الدال مِنْ هدى يَهْدي وفيه قولان، أحدهما: أنَّ «هدى» بمعنى اهتدى. والثاني: أنه متعدٍّ، ومفعولُه محذوف كما تقدَّم تحريره. وقد تقدم قول الكسائي والفراء في ذلك ورَدَّ المبرد عليهما. وقال ابن عطية: «والذي أقوال: قراءةُ حمزة والكسائي تحتمل أن يكون المعنى: أَمْ مَنْ لا يهدي أحداً إلا أن يهدى ذلك الأحدُ بهداية الله، وأمَّا على غيرِها مِنَ القراءات التي مقتضاها» أم لا يَهْتدي إلا أن يهدى «فيتجه المعنى على ما تقدَّم» ثم قال: «وقيل: تمَّ الكلامُ عند قوله:» أم مَنْ لا يَهِدِّي، أي: لا يَهِدِّي غيره «.
ثم قال: ﴿إِلاَّ أَن يهدى﴾ استثناءٌ منقطع، أي: لكنه يحتاج إلى أن يهدى كما تقول: فلان لا يسمع غيره إلا أَنْ يُسْمع، أي: لكنه يحتاج إلى أن يَسمع «. انتهى. ويجوز
200
أن يكونَ استثناءً متصلاً، لأنه إذ ذاك يكون فيهم قابليةُ الهدايةِ بخلافِ الأصنام. ويجوز أن يكونَ استثناء من تمامِ المفعول له، أي: لا يهدي لشيءٍ من الأشياءِ إلا لأَجْل أن يهدى بغيره.
وقوله: ﴿فَمَا لَكُمْ﴾ مبتدأ وخبر. ومعنى الاستفهام هنا الإِنكارُ والتعجبُ، أي: أيُّ شيءٍ لكم في اتخاذ هؤلاء إذ كانوا عاجزين عن هدايةِ أنفسهم فكيف يمكن أن يَهْدُوا غيرَهم؟ وقد تقدَّم أن بعضَ النحويين نصَّ على أن مثل هذا التركيبِ لا يتمُّ إلا بحالٍ بعده، نحو: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ﴾ [المدثر: ٤٩] ﴿وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ﴾ [المائدة: ٨٤] إلى غير ذلك، وهنا لا يمكن أن تُقَدَّر الجملةُ بعد هذا التركيب حالاً لأنها استفهامية، والاستفهامية لا تقع حالاً. وقوله:» كيف تحكمون «استفهامٌ آخرُ، أي: كيف تحكمون بالباطل وتجعلون لله أنداداً وشركاء؟.
201
قوله تعالى: ﴿لاَ يُغْنِي﴾ : خبرُ «إن»، و «شيئاً» / منصوبٌ على المصدر، أي: شيئاً من الإِغناء. و «من الحق» نصبٌ على الحال من «شيئاً» لأنه في الأصلِ صفةٌ له. ويجوز أن تكونَ «مِنْ» بمعنى «بدل»، أي: لا يُغنْي بدلَ الحق. وقرأ الجمهور «يَفْعلون» على الغيبة. وقرأ عبد الله «تَفْعلون» خطاباً وهو التفاتٌ بليغ.
قوله تعالى: ﴿أَن يفترى﴾ : فيه وجهان أحدهما: أنه خبرٌ «كان» تقديرُه: وما كان هذا القرآن افتراء، أي: ذا افتراء، إذ جُعِل نفسُ المصدر مبالغةً، أو يكونُ بمعنى مفترى. والثاني: زعم بعضهم أنَّ «أنْ» هذه هي المضمرة بعد لامِ الجحود، والأصل: وما كان هذا القرآنُ ليفترى،
201
فلمَّا حُذِفَتْ لامُ الجحود ظهرت «أن». وزعم أن اللامَ و «أنْ» يتعاقبان، فتُحْذف هذه تارة، وتَثْبُت الأخرى. وهذا قولٌ مرغوبٌ عنه، وعلى هذا القولِ يكون خبر «كان» محذوفاً، وأنْ وما في حَيِّزها متعلقةٌ بذلك الخبر، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك محرراً. و «مِنْ دون» متعلقٌ ب «يفترى» والقائمُ مقامَ الفاعل ضميرٌ عائد على القرآن.
قوله ﴿ولكن تَصْدِيقَ﴾ «تَصْديق» عطف على خبر كان، ووقعت «لكن» أحسنَ موقع إذ هي بين نقيضين: وهما التكذيبُ والتصديقُ المتضمِّن للصدق. وقرأ الجمهور «تصديق» و «تفصيلَ» بالنصب وفيه أوجهٌ، أحدُها: العطف على خبر «كان» وقد تقدَّم ذلك، ومثله: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله﴾ [الأحزاب: ٤٠]. والثاني: أنه خبر «كان» مضمرة تقديره: ولكن كان تصديقَ، وإليه ذهب الكسائي والفراء وابن سعدان والزجاج. وهذا كالذي قبله في المعنى. والثالث: أنه منصوبٌ على المفعول من أجله لفعل مقدر، أي: وما كان هذا القرآنُ أن يفترى، ولكن أُنزل للتصديق. والرابع: أنه منصوبٌ على المصدر بفعل مقدر أيضاً. والتقدير: ولكن يُصَدِّق تصديقَ الذي بين يديه من الكتب.
وقرأ عيسى بن عمر: «تَصْديقُ» بالرفع، وكذلك التي في يوسف. ووجهُه الرفعُ على خبر مبتدأ محذوف، أي: ولكن هو تصديق، ومثله قوله الشاعر:
202
٢٥٩٧ - ولستُ الشاعرَ السَّفْسَافَ فيهمْ ولكن مِدْرَهُ الحربِ العَوانِ
برفع «مِدْرَه» على تقدير: أنا مِدْره. وقال مكي: «ويجوز عندهما أي عند الكسائي والفراء الرفع على تقدير: ولكن هو تصديق»، قلت: كأنه لم يَطَّلِعْ على أنها قراءة.
وزعم الفراء وجماعةٌ أن العرب إذا قالت: «ولكن» بالواو آثَرَتْ تشديد النون، وإذا لم تكن الواو آثرت التخفيفَ. وقد وَرَدَ في قراءات السبعة التخفيفُ. وقد وَرَدَ في قراءات السبعة التخفيف والتشديد نحو ﴿ولكن الشياطين﴾ [البقرة: ١٠٢] ﴿ولكن الله رمى﴾ [الأنفال: ١٧].
قوله: ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ فيه أوجه أحدها: أن يكون حالاً من «الكتاب» وجاز مجيءُ الحال من المضاف إليه لأنه مفعولٌ في المعنى. والمعنى: وتفصيل الكتاب منتفياً عنه الرَّيْب. والثاني: أنه مستأنفٌ فلا محلَّ له من الإِعراب. والثالث: أنه معترضٌ بين «تصديق» وبين ﴿مِن رَّبِّ العالمين﴾ إذ التقديرُ: ولكن تصديق الذين بين يديه مِنْ رب العالمين.
قال الزمخشري: فإن قلت: بم اتَّصَلَ قولُه ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين﴾ ؟ قلت: هو داخلٌ في حَيِّز الاستدراك كأنه قيل: ولكن كان تصديقاً وتفصيلاً منتفياً عنه الريبُ كائناً من رب العالمين. ويجوز أن يراد به «ولكن كان تصديقاً من رب العالمين [وتفصيلاً منه لا ريب في ذلك، فيكون من رب العالمين] متعلقاً
203
ب» تصديق «و» تفصيل «ويكون ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ اعتراضاً كما تقول: زيدٌ لا شكَّ فيه كريم» انتهى.
قوله: ﴿مِن رَّبِّ﴾ يجوز فيه أوجهٌ أحدُها: أن يكونَ متعلقاً ب «تصديق» أو ب «تفصيل»، وتكون المسألة من باب التنازع؛ إذ يَصِحُّ أَنْ يتعلَّقَ بكلٍ من العاملين من جهة المعنى. وهذا هو الذي أراد الزمخشري بقوله: «فيكون» مِنْ رب «متعلِّقاً ب» تصديق «و» تفصيل «يعني أنه متعلقٌ بكلٍ منهما من حيث المعنى. وأمَّا من حيث الإِعرابُ فلا يتعلَّق إلا بأحدهما، وأمَّا الآخرُ فيعمل في ضميره كما تقدَّم تحريره غيرَ مرة، والإِعمالُ هنا حينئذ إنما هو للثاني بدليلِ الحَذْفِ من الأول. والوجه الثاني: أنَّ» مِنْ رب «حال ثانية. والثالث: إنه متعلقٌ بذلك الفعلِ المقدرِ، أي: أُنْزِل للتصديق من ربَّ العالمين.
204
قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ﴾ : في «أم» وجهان أحدهما: أنها منقطعةٌ فتتقدر ب «بل» والهمزة عند الجمهور: سيبويه وأتباعهِ، والتقديرُ: بل أتقولون، انتقل عن الكلام الأول وأَخَذَ في إنكارِ قولٍ آخر. والثاني: أنها متصلةٌ ولا بدَّ حينئذٍ مِنْ حَذْفِ جملةٍ ليصِحَّ التعادلُ والتقدير: أيقرُّون به أم يقولون افتراه. وقال بعضُهم: / هذه بمنزلة الهمزةِ فقط. وعَبَّر بعضهم عن ذلك فقال: «الميمُ زائدة على الهمزة» وهذا قولٌ ساقط، إذ زيادة الميم قليلة جداً لا سيما هنا. وزعم أبو عبيدة أنها بمعنى الواو والتقدير: ويقولون افتراه.
قوله: ﴿قُلْ فَأْتُواْ﴾ جوابُ شرطٍ مقدر قال الزمخشري: «قل: إن كان الأمرُ كما تَزْعمون فَأْتوا أنتم على وجه الافتراءِ بسورةِ مثلِه في العربية
204
والفصاحة والأَبْلغيَّة». وقرأ عمرو بن فائد «بسورة مثلِه» بإضافة «سورة» إلى «مثله» على حَذْف الموصول وإقامة الصفة مُقامَه، والتقدير: بسورةِ كتابٍ مثلِه أبو بسورةِ كلام مثله. ويجوز أن يكون التقديرُ: فَأْتوا بسورةِ بشرٍ مثلِه فالضمير يجوز أن يعودَ في هذه القراءةِ على القرآن، وأن يعودَ على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأمَّا في قراءة العامة فالضمير للقرآن فقط.
205
قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا يَأْتِهِمْ﴾ : جملةٌ حالية من الموصول أي: سارعوا إلى تكذيبهِ حالَ عدم إتيان التأويل. قال الزمخشري: «فإن قلت: ما معنى التوقُّع في قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ ؟ قلت: معناه أنهم كذَّبوا به على البديهة قبل التدبُّر ومعرفةِ التأويل»، ثم قال أيضاً: «ويجوز أن يكونَ المعنى: ولم تأتِهم بعدُ تأويلُ ما فيه من الإِخبار بالغيوب، أي: عاقبته حتى يتبيَّنَ لهم أَكَذِبٌ هو أم صدقٌ» انتهى. وفي وَضْعه «لم» موضعَ «لَمَّا» نظرٌ لِمَا عَرَفْت ما بينهما من الفرق. ونُفِيَتْ جملةُ الإِحاطة ب «لم» وجملةُ إتيانِ التأويل ب «لمَّا» لأن «لم» للنفي المطلق على الصحيح، و «لَمَّا» لنفي الفعل المتصل بزمن الحال، فالمعنى: أنَّ عَدَمَ التأويل متصل بزمن الإِخبار.
و «كذلك» نعتٌ لمصدرٍ محذوف، أي: مثل ذلك التكذيب كَذَّب الذين من قبلهم، أي: قبل النظر والتدبُّر.
وقوله: ﴿فانظر كَيْفَ كَانَ﴾ «كيف» خبر ل «كان»، والاستفهامُ معلِّقٌ للنظر. قال ابن عطية: «قال الزجاج:» كيف «في موضع نصب على خبر كان، ولا يجوز أن يعمل فيها» انظر «لأنَّ ما قبل الاستفهام لا يَعْمل فيه، هذا
205
قانونُ النحويين لأنهم عاملوا» كيف «في كل مكان معاملةَ الاستفهامِ المَحْض في قولك» كيف زيد «ول» كيف «تصرُّفاتٌ غيرُ هذا فتحلُّ محلَّ المصدرِ الذي هو» كيفية «وتخلعُ معنى الاستفهام، ويحتمل هذا الموضعُ أن يكونَ منها. ومن تصرُّفاتها قولُهم:» كن كيف شئت «وانظر قول البخاري:» كيف كان بدء الوحي «فإنه لم يستفهم». انتهى. فقول الزجاج «لا يجوز أن تعمل» انظر «في» كيف «يعني لا تتسلَّط عليها ولكن هو متسلِّطٌ على الجملة المنسحبِ عليها حكمُ الاستفهام وهكذا سبيلُ كلِّ تعليقٍ.
قال [الشيخ] :»
وقولُ ابن عطية: هذا قانون النحويين إلى آخره ليس كما ذكر بل ل «كيف» معنيان، أحدُهما: الاستفهامُ المحض، وهو سؤال عن الهيئة إلا أن يُعَلَّق عنها العامل، فمعناها معنى الأسماء التي يُستفهم بها إذا عُلِّق عنها العاملُ. والثاني: الشرط كقول العرب: «كيف تكونُ أكونُ». وقوله: «ول» كيف «تصرفات إلى آخره ليس» كيف «تحلُّ محلَّ المصدر، ولا لفظ» كيفية «هو مصدرٌ، إنما ذلك نسبةٌ إلى» كيف «، وقوله:» ويحتمل أن يكونَ هذا الموضعُ منها، ومِنْ تصرفاتها قولهم: «كن كيف شئت» لا يَحْتمل أن يكون منها؛ لأنه لم يثبتْ لها المعنى الذي ذكر مِنْ كونِ «كيف» بمعنى كيفية وادِّعاءُ مصدرية «كيفية».
وأمَّا «كن كيف شئت» ف «كيف» ليست بمعنى كيفية، وإنما هي شرطيةٌ وهو المعنى الثاني الذي لها، وجوابها محذوف، التقدير: كيف شئت فكن، كما تقول: «قم متى شئت» ف «متى» اسمُ شرطٍ ظرفٌ لا يعمل فيه «قم» والجواب محذوف تقديره: متى شئت فقم، وحُذِفَ الجوابُ لدلالة ما قبله عليه كقولِهم: «اضربْ زيداً إن أساء إليك»، التقدير: إن أساءَ إليك فاضرِبْه، وحُذِف «فاضربه» لدلالة «اضرِبْ» المتقدِّم عليه. وأمَّا قولُ
206
البخاري: «كيف كان بدء الوحي» فهو استفهامٌ مَحْضٌ: إمَّا على سبيل الحكاية كأن سائلاً سأله فقال: كيف كان بَدْءُ الوحي، [وإما أن يكونَ من قوله هو، كأنه سأل نفسه: كيف كان بدء الوحي؟] فأجاب بالحديثِ الذي فيه كيفيةُ ذلك «.
وقوله: ﴿الظالمين﴾ مِنْ وَضْعِ الظاهر موضعَ المضمر، ويجوز أن يرادَ به ضميرُ مَنْ عاد عليه ضمير»
بل كَذَّبوا «، وأن يُرادَ به ﴿الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾.
207
قوله تعالى: ﴿مَّن يَسْتَمِعُونَ﴾ : مبتدأ وخبرهُ الجار قبله وأعاد الضميرَ جمعاً مراعاة لمعنى «مَنْ»، والأكثرُ مراعاةُ لفظه كقوله:
﴿وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ﴾
﴿وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ﴾ : قال ابن عطية: «جاء» ينظر «على لفظ» مَنْ «، وإذا جاء على لفظها فجائز أن يعطف عليه آخرُ على المعنى، وإذا جاء أولاً على معناها فلا يجوز أن/ يُعْطَفَ آخرُ على اللفظ لأنَّ الكلامَ يُلْبَسُ حينئذ». قال الشيخ: وليس كما قال، بل يجوز أن تراعيَ المعنى أولاً فتعيدَ الضميرَ على حسبِ ما تريد من المعنى مِنْ تأنيثٍ وتثنية وجمعٍ، ثم تراعي اللفظَ فتعيدُ الضميرَ مفرداً مذكراً، وفي ذلك تفصيلٌ ذُكر في النحو «، قلت: قد تقدَّم تحريره أولَ البقرة.
قوله تعالى: ﴿لاَ يَظْلِمُ الناس شيئاً﴾ : يجوز أن ينتصب «شيئاً» على المصدر، أي: شيئاً من الظلم قليلاً ولا كثيراً، وأن ينتصبَ مفعولاً ثانياً ل «يَظْلم» بمعنى: لا يُنْقِص الناسَ شيئاً من أعمالهم.
207
قوله: ﴿ولكن الناس﴾ قرأ الأخَوان بتخفيف «لكن»، ومن ضرورة ذلك كسرُ النونِ لالتقاء الساكنين وَصْلاً ورفع «الناس»، والباقون بالتشديد ونصب «الناس» وتقدم توجيه ذلك في البقرة.
208
قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ﴾ : منصوب على الظرف. وفي ناصبه أوجه، أحدُها: أنه منصوبٌ بالفعل الذي تضمَّنه قوله: ﴿كَأَن لَّمْ يلبثوا﴾ الثاني: أنه منصوبٌ ب «يتعارفون». والثالث: أنه منصوبٌ بمقدر، أي: اذكر يومَ. وقرأ الأعمش «يَحْشُرهم» بياء الغيبة، والضمير لله تعالى لتقدُّم اسمه في قوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ﴾.
قوله: ﴿كَأَن لَّمْ يلبثوا﴾ قد تقدَّم الكلامُ على «كأنْ» هذه. ولكن اختلفوا في محلِّ هذه الجملة على أوجهٍ، أحدها: أنها في محلِّ نصبٍ صفةً للظرف وهو «يوم» قاله ابن عطية. قال الشيخ: «لا يَصِحُّ لأنَّ» يومَ يحشرُهم «معرفةٌ والجملَ نكرات، ولا تُنْعَتُ المعرفةُ بالنكرة، لا يقال: إن الجملَ التي يُضاف إليها أسماءُ الزمانِ نكرةٌ على الإِطلاق لأنها إن كانَتْ في التقدير تَنْحَلُّ إلى معرفة فإن ما أُضيف إليها يتعرَّفُ، وإن كانت تَنْحَلُّ إلى نكرة كان ما أُضيف إليها نكرةً، تقول» مررت في يوم قَدِم زيدٌ الماضي «فتصِفُ» يوم «بالمعرفة، و» جئت ليلةَ قَدِم زيدٌ المباركة علينا «وأيضاً فكأنَّ لم يلبثوا لا يمكن أن يكون صفة لليوم من جهةِ المعنى؛ لأنَّ ذلك من وصف المحشورين لا مِنْ وصف يوم حشرهم. وقد تكلَّفَ بعضُهم تقديرَ رابطٍ يَرْبطه
208
فقدَّره» كأن لم يَلْبثوا قبله «فحذف» قبله «، أي: قبل اليوم، وحَذْفُ مثلِ هذا الرباطِ لا يجوز»، قلت: قوله: «بعضهم»، هو مكي ابن أبي طالب فإنه قال: «الكافُ وما بعدها مِنْ» كأنْ «صفةٌ لليوم، وفي الكلامِ حَذْفُ ضميرٍ يعودُ على الموصوفِ تقديرُه: كأنْ لم يَلْبثوا قبلَه، فحذف» قبل «فصارت الهاءُ متصلةً ب» يَلْبثوا «فحُذِفَتْ لطولِ الاسم كما تُحْذَفُ من الصِّلات» ونَقَل هذا التقدير أيضاً أبو البقاء ولم يُسَمِّ قائلَه فقال: «وقيل» فذكره.
والوجه الثاني: أن تكونَ الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال من مفعول «يَحْشُرهم»، أي: يَحْشُرهم مُشْبهين بمَنْ لم يلبث إلا ساعةً، هذا تقديرُ الزمخشري. وممَّنْ جَوَّز الحالية أيضاً ابنُ عطية ومكي وأبو البقاء، وجعله بعضُهم هو الظاهر.
الوجه الثالث: أن تكونَ الجملةُ نعتاً لمصدر محذوف، والتقدير: يَحْشُرهم حَشْراتً كأنْ لم يَلْبَثُوا «ذكر ذلك ابن عطية وأبو البقاء ومكي. وقدّر مكي وأبو البقاء العائد محذوفاً كما قَدَّراه حالَ جَعْلِهما الجملةَ صفةً لليوم، وقد تقدَّم ما في ذلك.
الرابع: قال ابن عطية:»
ويَصِحُّ أن يكونَ قوله ﴿كَأَن لَّمْ يلبثوا﴾ كلاماً
209
مجملاً «ولم يُبَيِّنْ الفعلَ الذي يتضمَّنه ﴿كَأَن لَّمْ يلبثوا﴾.
قال الشيخ: «ولعلَّه أرادَ ما قاله الحوفي مِنْ أنَّ الكاف في موضعِ نصبٍ بما تضمَّنَتْه من معنى الكلام وهو السرعة»
انتهى. قال: «فيكونُ التقدير: ويوم يحشرهم يُسْرعون كأنْ لم يَلْبثوا» قلت: فيكونُ «يسرعون» حالاً من مفعول «يَحْشرهم» ويكون ﴿كَأَن لَّمْ يلبثوا﴾ حالاً من فاعل «يُسْرعون»، ويجوز أن تكونَ «كأنْ لم» مفسرةً ل «يُسْرعون» المقدرة.
قوله: ﴿يَتَعَارَفُونَ﴾ فيه أوجهٌ، أحدُها: أن الجملةَ في محل نصبٍ على الحال من فاعل «يَلْبثوا». قال الحوفي: «يتعارفون» فعل مستقبلٌ في موضع الحال من الضمير في «يلبثوا» وهو العامل، كأنه قال: متعارفين، والمعنى اجتمعوا متعارفين «. والثاني: أنها حالٌ من مفعول» يَحْشُرهم «أي: يَحْشُرهم متعارفين والعاملُ فعلُ الحشر، وعلى هذا فَمَنْ جوَّز تعدُّدَ الحال جوَّز أن تكونَ» كأَنْ لم «حالاً أولى، وهذه حالٌ ثانية، ومَنْ مَنَعَ ذلك جَعَلَ» كأَنْ لم «على ما تقدم من غيرِ الحالية. قال أبو البقاء:» وهي حالٌ مقدرة لأنَّ التعارفَ لا يكونُ حالَ الحشر «. والثالث: مستأنفةٌ، أخبر تعالى عنهم بذلك قال الزمخشري:» فإن قلت: كأن لم يَلْبثوا ويتعارفون كيف موقعهما؟ قلت: أمَّا الأولى فحالٌ منهم أي: يَحْشُرهم مُشْبهين بمَنْ لم يَلْبث إلا ساعةً، وأمَّا الثانية: فإمَّا أن تتعلق بالظرف يعني فتكون حالاً وإما أن تكونَ مبينةً لقوله: كأن لم يَلْبثوا إلا ساعةً؛ لأن التعارف لا يبقى مع طول العهد وينقلب تناكراً «.
210
قوله: ﴿قَدْ خَسِرَ﴾ فيها وجهان، أحدهما: أنها مستأنفة أخبر تعالى بأن المكذِّبينَ بلقائِه خاسرون لا محالة، ولذلك أتى بحرفِ التحقيق. والثاني: أن يكونَ في محل نصبٍ بإضمارِ قولٍ أي: قائلين قد خسر الذين. ثم لك في هذا القول المقدر/ وجهان، أحدهما: أنه حال مِنْ مفعول» يحشرهم «أي: يحشرهم قائلين ذلك. والثاني: أنه حالٌ من فاعل» يتعارفون «. وقد ذهب إلى الاستئناف والحالية مِنْ فاعل» يتعارفون «الزمخشري فإنه قال:» هو استئنافٌ فيه معنى التعجب كأنه قيل: ما أحشرهم «ثم قال:» قد خَسِر «على إرادة القولِ أي: يتعارفون بينهم قائلين ذلك»، وذهبَ إلى أنها حالٌ من مفعول «يحشرهم» ابن عطية.
قوله: ﴿وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ﴾ يجوزُ فيها وجهان، أحدهما: أن تكونَ معطوفةً على قولِه «قد خَسِر» فيكونُ حكمُه حكمَه. والثاني: أن تكونَ معطوفةً على صلةِ الذين، وهي كالتوكيد للجملة التي وقعتْ صلةً؛ لأنَّ مَنْ كذَّب بلقاء الله غيرُ مهتدٍ.
211
قوله تعالى: ﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ﴾ :«إمَّا» هذه قد تقدَّم الكلامُ عليها مستوفىً. وقال ابن عطية: «ولأجلها أي: لأجل زيادةِ» ما «جاز دخولُ النونِ الثقيلة ولو كانَتْ» إنْ «وحدَها لم يَجُزْ» يعني أن توكيد الفعل بالنونِ مشروطٌ بزيادة «ما» بعد «إنْ»، وهو مخَالفٌ لظاهرِ كلامِ سيبويه، وقد جاء التوكيد في الشرط بغير «إنْ» كقوله:
211
٢٥٩٨ - مَنْ نثقفَنْ منهم فليس بآيبٍ أبداً وقَتْل بني قتيبةَ شافي
قال ابن خروف: «أجاز سيبويهِ الإِتيانَ ب» ما «وأن لا يؤتى بها، والإِتيانُ بالنون مع» ما «وأن لا يؤتى بها» والإِراءَةُ هنا من البصر؛ ولذلك تعدَّى الفعلُ إلى اثنين بالهمزة أي: نجعلك رائياً بعضَ الموعودين «.
قوله: ﴿فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ﴾ مبتدأ وخبر، وفيه وجهان أظهرهما: أنه جوابٌ للشرط وما عُطف عليه، إذ معناه صالحٌ لذلك. وإلى هذا ذهب الحوفي وابن عطية. والثاني: أنه جوابٌ لقوله»
أو نتوفَيَنَّك «، وجواب الأول محذوف قال الزمخشري:» كأنه قيل: وإمَّا نُرِيَنَّك بعضَ الذي نَعِدُهم فذاك، أو نتوفينَّك قبل أن نريك فنحن نُريك في الآخرة «. قال الشيخ:» فجعل الزمخشري في الكلام شرطين لهما جوابان، ولا حاجةَ إلى [تقدير] جواب محذوف لأنَّ قولهَ «فإلينا مَرْجعهم» صالحٌ لأن يكونَ جواباً للشرط والمعطوفِ عليه، وأيضاً فقولُ الزمخشري «فذاك» هو اسمٌ مفردٌ لا يَنْعقد منه جوابُ شرطٍ فكان ينبغي أن يأتي بجملةٍ يَصِحُّ منها جوابُ الشرط إذ لا يُفْهَمُ مِنْ قوله «فذاك» الجزء الذي حُذِف، المتحصَّل به فائدةُ الإِسناد «. قلت: قد تقررَّ أنَّ اسمَ الإِشارة قد يُشار به إلى شيئين فأكثر وهو بلفظِ الإِفراد، فكأنَّ ذاك واقعٌ موقعَ الجملة الواقعة جواباً، ويجوزُ أن يكونَ قد حُذِفَ الخبر لدلالة المعنى عليه إذ التقديرُ: فذاك المراد أو المتمنَّى أو نحوه. وقوله:» إذ لا يُفْهم الجزء الذي حُذِف «إلى آخره ممنوعٌ بل هو مفهومٌ كما رأيت، وهي شيءٌ يَتبارد إليه الذهن.
212
قوله: ﴿ثُمَّ الله شَهِيدٌ﴾ ليست هنا للترتيب الزماني بل هي لترتيبِ الأخبارِ لا لترتيبِ القصصِ في أنفسها. قال أبو البقاء:» كقولك زيدٌ عالم ثم هو كريم «. وقال الزمخشري:» فإن قلت: اللَّهُ شهيدٌ على ما يفعلون في الدارَيْن فما معنى ثم؟ قلت: ذُكِرَت الشهادة، والمراد مقتضاها ونتيجتها، وهو العقاب، كأنه قيل: ثم الله معاقِبٌ على ما يفعلونه «.
وقرأ إبرهيم ابن أبي عبلة»
ثَمَّ «بفتح الثاء جعله ظرفاً لشهادة الله، فيكون» ثَمَّ «منصوباً ب» شهيد «أي: اللَّهُ شهيدٌ عليهم في ذلك المكان، وهو مكانُ حَشْرِهم. ويجوز أن يكونَ ظرفاً لمَرْجِعهم أي: فإلينا مَرْجِعُهم يعني رجوعهم في ذلك المكانِ الذي يُثاب فيه المُحْسِن ويُعاقَبُ فيه المسيءُ.
213
قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ الله﴾ : فيه وجهان أحدهما: أنه استثناءٌ متصل تقديرُه: إلا ما شاء الله أن أَمْلكه وأٌقْدِر عليه. والثاني: أنه منقطعٌ. قال الزمخشري: «هو استثناءٌ منقطع أي: ولكنْ ما شاء الله من ذلك كائن، فكيف أَمْلك لكم الضررَ وجَلْبَ العذاب؟».
قوله تعالى: ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ : قد تقدَّم الكلام على/ «أَرَأَيْتَ» هذه، وأنها تتضمَّن معنى أخبرني فتتعدى إلى اثنين، ثانيهما غالباً جملة استفهامية فينعقد منها مع ما قبلها مبتدأٌ وخبرٌ كقولِهم: «أرأيتَك زيداً ما صنع» وتقدَّم مذاهبُ الناسِ فيها في سورة الأنعام فعليك باعتباره ثَمَّة. ومفعولُها الأول في هذه الآية الكريمة محذوفٌ، والمسألةُ من بابِ الإِعمال لأنه تنازع
213
أرأيت وأتاكم في «عذاب»، والمسألةُ من إعمال الثاني، إذ هو المختار عند البصريين، ولمَّا أعمله أضمر في الأول وحَذَفَه، لأنَّ إبقاءَه مخصوصٌ بالضرورة، أو جائزُ الذكرِ على قلةٍ عند آخرين، ولو أعمل الأول لأضمرَ في الثاني؛ إذ الحذف منه لا يكون إلا في ضرورة أو في قليلٍ من الكلام، ومعنى الكلام: قل لهم يا محمد أخبروني عن عذاب الله إن أتاكم، أيُّ شيءٍ تستعجلون منه، وليس شيءٌ من العذاب يُسْتعجل به لمرارته وشدة إصابته فهو مُقْتَضٍ لنفورِ الطَّبَع منه. قال الزمخشري «فإن قلت: بم يتعلَّق الاستفهامُ وأين جوابُ الشرط؟ قلت: تعلَّق ب» أرأيتم «لأن المعنى: أخبروني ماذا يَسْتعجل منه المجرمون، وجوابُ الشرط محذوف وهو» تَنْدموا على الاستعجال «أو» تعرفوا الخطأ فيه «. قال الشيخ:» وما قَدَّره غيرُ سائغ لأنه لا يُقَدَّر الجوابُ إلا ممَّا تقدَّمَه لفظاً أو تقديراً تقول: «أنت ظالمٌ إن فعلت» التقدير: إن فعلت فأنت ظالم، وكذلك: ﴿وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ٧٠] التقدير: إن شاءَ الله نَهْتَدِ، فالذي يُسَوِّغ أن يُقَدَّر: إن أتاكم عذابه فأخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون «.
وقال الزمخشري أيضاً:»
ويجوزُ أن يكونَ «ماذا يَسْتعجل منه المجرمون» جواباً للشرط كقولك: إنْ أَتَيْتك ما تُطْعمني؟ ثم تتعلَّق الجملةُ ب «أرأيتم»، وأن يكونَ «أثُمَّ إذا ما وقع آمنتم به». جواباً للشرط، و «ماذا يَسْتعجل منه المجرمون» اعتراضاً، والمعنى: إنْ أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعِه حينَ لا ينفعكم الإِيمان «. قال الشيخ:» أمَّا تجويزُه أن يكون «ماذا»
214
جواباً للشرط فلا يَصِح، لأن جوابَ الشرط إذا كان استفهاماً فلا بد فيه من الفاء تقول: إنْ زارنا فلان فأيُّ رجل هو، وإن زارَنا فلانٌ فأيُّ يدٍ له بذلك، ولا يجوز حذفها إلا إن كان في ضرورةٍ، والمثالُ الذي ذكره وهو «إن أتيتك ما تُطْعمني؟» هو مِنْ تمثيلهِ لا من كلام العرب. وأمَّا قوله: «ثمَّ تتعلَّق الجملةُ ب» أرأيتم «إن عنى بالجملة» ماذا يَسْتعجل «فلا يصحُّ ذلك، لأنه قد جعلها جواباً للشرط، وإن عَنَى بالجملة جملةَ الشرط فقد فسَّر هو» أرأيتم «بمعنى أخبروني، و» أخبرني «يطلب متعلقاً مفعولاً، ولا تقع جملةُ الشرط موقعَ مفعول أخبرني.
وأمَّا تجويزُه أن يكون «أثم إذا ما وقع آمنتم به»
جواباً للشرط و «ماذا يستعجل منه المجرمون» اعتراضاً فلا يَصِحُّ أيضاً لِما ذكرناه مِنْ أنَّ جملةَ الاستفهام لا تقع جواباً للشرط إلا ومعها فاءُ الجواب، وأيضاً ف «ثم» هنا هي حرف عطفٍ تَعْطِفُ الجملةَ التي بعدها على التي قبلها، فالجملةُ الاستفهامية معطوفةٌ، وإذا كانت معطوفة لم يَصِحَّ أن تقعَ جوابَ الشرط، وأيضاً ف «أرأيتم» بمعنى «أخبروني» تحتاج إلى مفعول، ولا تقعُ جملةُ شرط موقعَه «.
وكونُ»
أرأيتم «بمعنى» أخبروني «هو الظاهر المشهور. وقال الحوفي:» الرؤيةُ مِنْ رؤية القلب التي بمعنى العلم لأنها داخلةٌ على الجملة من الاستفهام التي معناها التقرير، وجوابُ الشرط محذوفٌ، وتقديرُ الكلام: أرأيتم ما يستعجل من العذاب المجرمون إنْ أتاكم عذابه «. انتهى، فهذا ظاهرٌ في أنَّ» أرأيتم «غيرُ مضمنةٍ معنى الإِخبار، وأن الجملةَ الاستفهامية سَدَّت مَسَدَّ المفعولين، ولكن المشهور الأول. /
قوله: ﴿مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ﴾ قد تقدَّم الكلام على هذه الكلمة ومذاهبِ الناس فيها. وجَوَّز بعضُهم هنا أن تكون»
ما «مبتدأً و» ذا «خبره، وهو موصولٌ
215
بعني الذي، و» يستعجل «صلتُه وعائدُه محذوفٌ تقديره: أيُّ شيء الذي يستعجله منه أي من العذاب، أو من الله تعالى. وجوَّز آخرون كمكي وأنظارِه أن يكونَ» ماذا «كلُّه مبتدأً أي: يُجعل الاسمان بمنزلةِ اسمٍ واحد، والجملةُ بعده خبره. وقال أبو علي:» وهو ضعيفٌ لخلوِّ الجملةِ من ضمير يعود على المبتدأ «. وقد أجاب أبو البقاء عن هذا فقال:» ورُدَّ هذا القول بأنَّ الهاء في «منه» تعودُ على المبتدأ كقولك: «زيدٌ أَخَذْتُ منه درهماً». قلت: ومِثْلُ أبي علي لا يخفى عليه مثل ذلك، إلا أنه لا يَرَى عَوْدَ الهاءِ على الموصولِ لأن الظاهرِ عَوْدُها على العذاب. قال الشيخ: «والظاهرُ عَوْدُ الضمير في» منه «على العذاب، وبه يَحْصُل الربطُ لجملةِ الاستفهامِ بمفعول» أرأيتم «المحذوف الذي هو مبتدأٌ في الأصل». وقال مكي: «وإن شئت جعلت» ما «و» ذا «بمنزلة اسمٍ واحدٍ في موضع رفع بالابتداء، والجملةُ التي بعده الخبر، والهاءُ في» منه «تعود أيضاً على العذاب». قلت: فقد تُرك المبتدأُ بلا رابطٍ لفظي حيث جَعَل الهاءَ عائدةً على غير المبتدأ فيكون العائدُ عند محذوفاً. لكنه قال بعد ذلك: «فإنْ جعلت الهاء في» منه «تعود على الله جلَّ ذكره و» ما «و» ذا «اسماً واحداً كانت» ما «في موضع نصب ب» يستعجل «والمعنى: أيَّ شيء يستعجل المجرمون من الله» فقوله هذا يؤذنَ بأن الضميرَ لمَّا عاد على غير المبتدأ جعله مفعولاً مقدماً، وهذا الوجهُ بعينه جائزٌ فيما إذا جُعل الضمير عائداً على العذاب. ووجهُ الرفعِ على الابتداء جائزٌ فيما إذا جُعِل الضمير عائداً على الله تعالى إذ العائدُ الرابطُ مقدرٌ كما تقدم التنبيهُ عليه.
216
قوله تعالى: ﴿أَثُمَّ﴾ : قد تقدَّم خلافُ الزمخشري للجمهور في ذلك، حيث يقدِّر جملةً بين همزة الاستفهام وحرف العطف. و «ثمَّ» حرفُ عطف، وقد قال الطبري ما لا يوافَق عليه فقال: «وأثُمَّ هذه بضمِّ الثاء ليست التي بمعنى العطف، وإنما هي بمعنى هنالك» فإن كان قَصَدَ تفسير المعنى وهو بعيدٌ فقد أبهم في قوله، لأن هذا المعنى لا يُعْرَفُ في «ثُمَّ» بضم الثاء، إلا أنه قد قرأ طلحة بن مصرف «أثَمَّ» بفتح الثاء، وحينئذ يَصِحُّ تفسيرها بمعنى هنالك.
قوله: ﴿الآنَ﴾ قد تقدَّم الكلام في «الآن». وقرأ الجمهور «ألآن» بهمزة استفهام داخلة على «الآن» وقد تقدم مذاهب القراء في ذلك. و «الآن» نصبٌ بمضمر تقديره: الآن آمنتم. ودلَّ على هذا الفعلِ المقدرِ الفعلُ الذي تقدَّمه وهو قولُه: ﴿أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ﴾. ولا يجوز أن يعملَ فيه «آمنتم» الظاهرُ؛ لأنَّ ما قبلَ الاستفهام لا يَعْمل فيما بعده، كما أنَّ ما بعدَه لا يعملُ فيما قبله لأنَّ له صدرَ الكلام، وهذا الفعلُ المقدرُ ومعمولُه على إضمار قول أي: قِيل لهم إذ آمنوا بعد وقوعِ العذابِ: آمنتم الآن به.
والقراءةُ بالاستفهامِ هي قراءةُ العامة، وقد عَرَفْتَ تخريجَها. وقرأ عيسى وطلحة «آمنتم به الآن» بوصل الهمزة من غيرِ استفهامٍ، وعلى هذه القراءةِ ف «الآن» منصوبٌ ب «آمنتم» هذا الظاهر.
قولُه: ﴿وَقَدْ كُنتُم﴾ جملةٌ حاليةٌ. قال الزمخشري: {وَقَدْ كُنتُم بِهِ
217
تَسْتَعْجِلُونَ} يعني تُكَذِّبون، لأنَّ استعجالَهم كان على جهةِ التكذيبِ والإِنكارِ «. قلت: فَجَعَله من باب الكناية لأنه دلالةٌ على الشيءِ بلازِمِه نحو» هو طويلُ النِّجاد «كَنَيْتَ به عن طولِ قامتِه؛ لأنَّ طولَ نِجادِه لازمٌ لطول قامتِه وهو باب بليغ.
218
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾ : هذه الجملةُ على قراءةِ العامة عطفٌ على ذلك الفعلِ المقدَّرِ الناصبِ ل «الآن»، وعلى قراءةِ طلحة هو استئنافُ إخبارٍ عَمَّا يُقال لهم يومَ القيامة، و «ذوقوا»، و «هل تُجْزَوْن» كلُّه في محلِّ نصبٍ بالقول، وقوله «إلا بما» هو المفعولُ الثاني ل «تُجْزَون»، والأولُ قائمٌ مقامَ الفاعلِ، وهو استثناءٌ/ مفرغ.
قوله تعالى: ﴿أَحَقٌّ هُوَ﴾ : يجوز أن يكونَ «حَقٌّ» مبتدأ و «هو» مرفوعاً بالفاعلية سدَّ مَسَدَّ الخبر، و «حق» وإن كان في الأصلِ مصدراً ليس بمعنى اسم فاعل ولا مفعول، لكنه في قوةِ «ثابت» فلذلك رَفَعَ الظاهرَ. ويجوز أن يكون «حَقٌّ» خبراً مقدماً و «هو» مبتدأً مؤخراً.
واختلف في «يَسْتَنْبِئُونك» هذه هل هي متعديةٌ إلى واحد أو إلى اثنين أو إلى ثلاثة؟ فقال الزمخشري: «ويَسْتَنْبِئونك فيقول: أحقٌّ هو» فظاهرُ هذه العبارةِ أنها متعديةٌ لواحد، وأن الجملةَ الاستفهاميةَ في محلِّ نصبٍ بذلك القولِ المضمرِ المعطوفِ على «يَسْتَنْبِئُونك» وكذا فَهِم عنه الشيخ أعني تعدِّيَها لواحدٍ. وقال مكي: «أحقٌّ هو ابتداءٌ وخبرٌ في موضعِ المفعولِ الثاني إذا جَعَلْتَ» يستنبؤنك «بمعنى يَسْتَخْبِرونك، فإذا جَعَلْتَ» يستنبئونك «
218
بمعنى يَسْتَعْلِمونك كان» أحقٌّ هو «ابتداءً وخبراً في موضع المفعولَيْن لأنَّ» أَنْبأ «إذا كان بمعنى أَعْلَم كان متعدياً إلى ثلاثةِ مفعولِيْن يجوزُ الاكتفاءُ بواحدٍ، ولا يجوزُ الاكتفاء باثنين دون الثالث، وإذا كانت» أنبأ «بمعنى أَخْبر تَعَدَّتْ إلى مفعولَيْن، لا يجوز الاكتفاءُ بواحد دون الثاني: وأنبأ ونبَّأ في التعدِّي سواءٌ». وقال ابنُ عطية: «معناه يَسْتَخْبرونك، وهو على هذا يتعدَّى إلى مفعولين أحدهما الكافُ، والآخرُ في الابتداء والخبر» فعلى ما قال تكون «يَسْتنبئونك» معلقة بالاستفهام، وأصل استنبأ أن يتعدَّى إلى مفعولين أحدهما ب «عن»، تقول: اسْتَنْبأت زيداً عن عمرو أي: طلبت منه أن يُنْبِئَني عن عمرو. ثم قال: «والظاهر أنها تحتاج إلى مفعولِين ثلاثةٍ أحدُهما الكافُ، والابتداءُ والخبرُ سَدَّ مَسَدَّ المفعولَيْن». قال الشيخ: «وليس كما ذكر لأن» استعلم «لا يُحْفظ كونُها متعديةً إلى مفاعيلَ ثلاثةٍ، لا يُحْفظ» استعملت زيداً عمراً قائماً «فتكونُ جملةُ الاستفهامِ سَدَّتْ مَسدَّ المفعولين، ولا يَلْزَمُ مِنْ كونها بمعنى» يَسْتعلمونك «أن تتعدَّى إلى ثلاثة؛ لأنَّ» استعلم «لا يتعدَّى إلى ثلاثةٍ كما ذكرنا».
قلت: قد سَبَقَ أبا محمد إلى هذا مكي بن أبي طالب كما قدَّمْتُ حكايته عنه، والظاهرُ جوازُ ذلك، ويكون التعدي إلى ثالث قد حَصَلَ بالسين، لأنهم نَصُّوا على أن السين تُعَدّي، فيكونُ الأصلُ: «علم زيدٌ عمراً قائماً» ثم تقول: «استعلمْتُ زيداً عمراً قائماً»، إلا أنَّ النحويين نَصُّوا على أنه لا يتعدَّى إلى ثلاثةٍ إلا «عَلِم» و «رأى» المنقولَيْن بخصوصيةِ همزةِ التعدِّي إلى ثالثٍ، وأنبأ ونَبَّأ وأخبر وخبَّر وحدَّث.
219
وقرأ الأعمش «آلحقُّ» بلامِ التعريف. قال الزمخشري: «وهو أَدْخَلُ في الاستهزاء لتضمُّنه معنى التعريض بأنه باطلٌ، ذلك أن اللامُ للجنس وكأنه قيل: أهو الحقُّ لا الباطلُ، أو: أهو الذي سَمَّيْتموه الحق».
قوله: ﴿إي﴾ حرفُ جوابٍ بمعنى نعم ولكنها تختصُّ بالقسم أي: لا تُسْتعمل إلا في القسم بخلافِ نعم. قال الزمخشري: «وإي بمعنى نعم في القسم خاصةً كما كان» هل «بمعنى» قد «في الاستفهامِ خاصةً، وسَمِعْتهم يقولون في التصديق» إيْوَ «فَيَصِلُونه بواو القسم ولا يَنْطِقون به وحده». قال الشيخ: «لا حجَّةَ فيما سمعه لعدمِ الحُجة في كلامِ مَنْ سمعه لفسادِ كلامه وكلامِ مَنْ قبله بأزمانٍ كثيرة». وقال ابن عطية: «وهي لفظةٌ تتقدَّم القسمَ بمعنى نعم، ويجيءُ بعدها حرفُ القسم وقد لا يجيءُ تقول: إي وربي، إي ربي».
قوله: ﴿وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ يجوزُ أن تكونَ الحجازيةَ، وأن تكونَ التميميةَ، لخفاءِ النصبِ أو الرفع في الخبر. وهذا عند غيرِ الفارسي وأتباعِه، عني جوازَ زيادةِ الباء في خبر التميمية. وهذه الجملةُ تحتملُ وجهين، أحدهما: أن تكون معطوفةً على جوابِ القسم، فيكونَ قد أجاب القسم بجملتين إحداهما مثبتةٌ مؤكَّدةٌ ب «إنَّ» واللام، والأخرى منفيةٌ مؤكَّدةٌ بزيادة الباء. والثاني: أنها مستأنفةٌ سِيْقَتْ للإِخبار بعَجْزهم عن التعجيز. و «مُعْجز» مِنْ أعجز فهو متعدٍّ لواحدٍ كقوله تعالى: ﴿وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً﴾ [الجن: ١٢] فالمفعول هنا محذوفٌ أي:
220
بمعجزين الله. وقال الزجاج: «أي: ما أنتم مِمَّن يُعْجِزُ مَنْ يُعَذِّبكم». ويجوز أن يكونَ استُعْمل استعمَال اللازم؛ لأنه قد كثُر فيه حَذْفُ المفعولِ حتى قالت العرب: «أعْجزَ فلانٌ» : إذا ذهب في الأرض فلم يُقْدَرْ عليه.
221
قوله تعالى: ﴿لاَفْتَدَتْ بِهِ﴾ :«افتدى» يجوز أن يكون متعدياً وأن يكونَ قاصراً، فإذا كان مطاوعاً ل «فَدَى» كان قاصراً تقول: فَدَيْتُه فافتدى، ويكونُ بمعنى فَدَى فيتعدى لواحد. والفعلُ هنا يحتملُ الوجهين: فإنْ جعلناه متعدياً فمفعولُه محذوفٌ تقديرُه: لافتدَتْ به نفسَها، وهو في المجاز كقولِه: ﴿كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا﴾ [النحل: ١١١].
وقوله: ﴿وَأَسَرُّواْ﴾ / قيل: «أسرَّ» مِنَ الأضداد، يُسْتعمل بمعنى أظهر، كقوله الفرزدق:
٢٥٩٩ - ولمَّا رأى الحجَّاجَ جرَّد سيفَه أسَرَّ الحَرُوريُّ الذي كانوا أضمرا
وقول الآخر:
٢٦٠٠ - فأسرَرْتُ الندامةَ يوم نادى بِرَدِّ جِمالِ غاضِرةَ المُنادي
ويُسْتعمل بمعنى: «أخفى» وهو المشهورُ في اللغةِ كقوله: ﴿يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ [النحل: ١٩] وهو في الآيةِ يحتمل الوجهين. وقيل: إنه ماض على بابه قد وقع. وقيل: بل هو بمعنى المستقبل. وقد أبعدَ بعضُهم فقال: «أسرُّوا الندامةَ» أي: بَدَتْ بالندامة أسِرَّةُ وجوهِهم أي: تكاسيرُ جباهِهم.
و ﴿لَمَّا رَأَوُاْ﴾ يجوز أن تكونَ حرفاً، وجوابُها محذوف لدلالة ما تقدَّم
221
عليه، وهو المتقدمُ عند مَنْ يَرى تقديمَ جواب الشرط جائزاً. ويجوز أن تكونَ بمعنى حين والناصبُ لها «أسَرُّوا». وقوله: «ظلَمْت» في محل جرِّ صفةٍ ل «نفس» أي: لكل نفس ظالمة. و ﴿مَّا فِي الأرض﴾ اسمُ أن، و «لكلٍ» هو الخبر.
وقوله: ﴿وَقُضِيَ﴾ يجوزُ أن يكونَ مستأنفاً، وهوالظاهر، ويجوز أن يكونَ معطوفاً على «رأوا» فيكونَ داخلاً في حَيِّز «لَمَّا» والضميرُ في «بينهم» يعودُ على «كل نفس» في المعنى. وقال الزمخشري: «بين الظالمين والمظلومين، دلَّ على ذلك ذِكْرُ الظلم» وقال بعضُهم: إنه يعود على الرؤساء والأتباع. و «بالقسط» يجوز أن تكونَ الباءُ للمصاحبةِ، وأن تكونَ للآلة.
222
وقوله تعالى: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ : قدَّمَ الجارَّ للاختصاص أي: إليه لا إلى غيرِه تُرْجَعون ولأجل الفواصل. وقرأ العامَّةُ: «تُرْجَعون» بالخطاب. وقرأ الحسن وعيسى بن عمر «يُرْجَعُون» بياء الغَيْبة.
قوله تعالى: ﴿مِّن رَّبِّكُمْ﴾ : يجوز أن تكونَ «مِنْ» لابتداء الغاية فتتعلَّقَ حينئذ ب «جاءَتْكم»، وابتداءُ الغايةِ مجازٌ، ويجوز أن تكونَ للتبعيضِ فتتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها صفة لموعظة أي: موعظةٌ كائنةٌ مِنْ مواعظِ ربكم. وقوله: ﴿مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور وَهُدًى وَرَحْمَةٌ﴾ من باب ما عُطِف فيه الصفات بعضُها على بعض أي: قد جاءتكم موعظةٌ جامعةٌ لهذه الأشياءِ كلِّها.
و «شِفاء» في الأصلِ مصدرٌ جُعِل وَصْفاً مبالغة، أو هو اسمٌ لما يُشْفَى به أي: يداوى، فهو كالدواءِ لما يداوى. و ﴿لِّمَا فِي الصدور﴾ يجوزُ أن يكونَ
222
صفةً ل «شفاء» فيتعلَّقَ بمحذوف، وأن تكونَ اللامُ زائدةً في المفعول؛ لأن العاملَ فرعٌ إذا قلنا بأنه مصدرٌ. وقوله: «للمؤمنين» محتملٌ لهذين الوجهين وهو من التنازع؛ لأنَّ كلاً من الهدى والرحمة يَطْلبه.
223
قوله تعالى: ﴿بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ﴾ : في تعلُّق هذا الجارِّ أوجهٌ، أحدُها: أنَّ «بفضل» و «برحمته» متعلقٌ بمحذوفٍ تقديرُه: بفضل الله وبرحمته ليَفْرحوا بذلك فَلْيفرحوا، فحذفَ الفعلَ الأولَ لدلالة الثاني عليه، فهما جملتان، ويدلُّ على ذلك قولُ الزمخشري: «أصلُ الكلام: بفضل الله وبرحمته فَلْيفرحوا فبذلك والتكرير للتأكيد والتقريرِ وإيجابِ اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دونَ ما عَداهما من فوائدِ الدنيا، فحُذِفَ أحدُ الفعَلْين لدلالةِ المذكورِ عليه، والفاء داخلةٌ لمعنى الشرط كأنه قيل: إنْ فَرِحوا بشيءٍ فَلْيَخُصُّوهما بالفرح فإنه لا مفروحَ به أحقُّ منهما.
الثاني: أن الجارَّ الأولَ متعلقٌ أيضاً بمحذوفٍ دلَّ عليه السياقُ والمعنى، لا نفس الفعلِ الملفوظِ به والتقديرُ: بفضل الله وبرحمتِه فَلْيَعْتَنوا فبذلك فليفرحوا قاله الزمخشري.
الثالث: أن يتعلق الجارُّ الأول ب»
جاءتكم «قال الزمخشري:» ويجوز أن يُراد «قد جاءَتْكم موعظةٌ بفضلِ الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا، أي فبمجيئِها فَلْيفرحوا». قال الشيخ: «أما إضمار» فليعتنوا «فلا دليلَ عليه» قلت: الدلالةُ عليه من السياق واضحةٌ، وليس شرطُ الدلالةِ أن تكونَ لفظية.
وقال الشيخ: «وأمَّا تعلُّقه بقوله:» قد جاءتكم «فينبغي أن يقدَّرَ
223
محذوفاً بعد» قل «، ولا يكونُ متعلِّقاً ب» جاءتكم «الأولى للفصل بينهما ب» قل «. قلت: هذا إيرادٌ واضحٌ، ويجوزُ أن تكونَ» بفضل الله «صفةً ل» موعظة «أي: موعظةٌ مصاحبةٌ أو ملتبسَةٌ بفضل الله.
الرابع: قال الحوفي:»
الباءُ متعلقةٌ بما دَلَّ عليه المعنى أي: قد جاءتكم الموعظةُ بفضل الله «.
الخامس: أنَّ الفاءَ الأولى زائدةٌ، وأن قولَه»
بذلك «بدلٌ مِمَّا قبله وهو ﴿بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ﴾ وأُشير بذلك إلى اثنين وهما الفضلُ والرحمةُ كقوله: / ﴿لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك﴾ [البقرة: ٦٨]، وكقوله:
٢٦٠١ - إنَّ للخيرِ وللشرِ مَدَى وكِلا ذلك وَجْهٌ وقَبَلْ
وفي هاتين الفاءَيْن أوجهٌ، أحدُهما: أنَّ الأولى زائدةٌ، وقد تقدَّم تحريرُه في الوجه الخامس. الثاني: أن الفاءَ الثانية مكررةٌ للتوكيد، فعلى هذا لا تكونُ الأولى زائدةً، ويكونُ أصلُ التركيبِ: فبذلك ليفرحوا، وعلى القولِ الأول قبله يكون أصلُ التركيب: بذلك فَلْيفرحوا. الثالث: قال أبو البقاء:»
الفاءُ الأولى مرتبطةٌ بما قبلها، والثانيةُ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: فليَعْجبوا بذلك فَلْيفرحوا كقولهم: «زيداً فاضربه أي: تَعمَّدْ زيداً فاضْرِبه».
والجمهورُ على «فَلْيفرحوا» بياء الغيبة. وقرأ عثمان بن عفان وأبيّ وأنس والحسن وأبو رَجاء وابن هرمز وابن سيرين بتاء الخطاب، وهي قراءةُ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال الزمخشري: «وهو الأصلُ والقياسُ».
224
وقال الشيخ: «إنها لغةٌ قليلة» يعني أن القياسَ أن يُؤْمَرَ المخاطب بصيغة افعل، وبهذا الأصلِ قرأ أُبَيُّ «فافرحوا» وهي في مصحفِه كذلك، وهذه قاعدةٌ كليةٌ: وهي أن الأمر باللام يَكْثُر في الغائب والمخاطبِ المبني للمفعول مثال الأول: «ليقم زيداً» وكالآية الكريمة في قراءة الجمهور، ومثال الثاني: ليُعْنَ بحاجتي، ولتُضْرَبْ يا زيد. فإن كان مبنياً للفاعل كان قليلاً كقراءة عثمان ومن معه. وفي الحديث «لتأخذوا مصافَّكم» بل الكثيرُ في هذا النوع الأمرُ بصيغة افْعَلْ نحو: قم يا زيد وقوموا، وكذلك يَضْعُف الأمر باللام للمتكلم وحده أو ومعه غيره، فالأول نحو «لأقُمْ» تأمر نفسك بالقيام، ومنه قوله عليه السلام: «قوموا فلأصلّ لكم».
ومثالُ الثاني: لنقمْ أي: نحن وكذلك النهي، ومنه قول الشاعر:
٢٦٠٢ - إذا ما خَرَجْنا مِنْ دمشقَ فلا نَعُدْ بها أبداً ما دام فيها الجُراضِمُ
ونَقَل ابن عطية عن ابنِ عامر أنه قرأ «فَلْتَفْرحوا» خطاباً، وهذه ليست مشهورةً عنه. وقرأ الحسن وأبو التيَّاح «فَلِيفرحوا» بكسرِ اللام، وهو الأصل.
قوله: ﴿هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ «هو» عائدٌ على الفضل والرحمة، وإن
225
كانا شيئين؛ لأنهما بمعنى شيء واحد، عُبِّر عنه بلفظتين على سبيل التأكيد، ولذلك أُشير إليهما بإشارة الواحد. وقرأ ابن عامر «تَجْمعون» بالتاء خطاباً وهو يحتمل وجهين أحدُهما: أن يكونَ من باب الالتفات فيكونَ في المعنى كقراءة الجماعة، فإن الضمير يُراد به مَنْ يراد بالضمير في قولِه: «فَلْيفرحوا». والثاني: أنه خطابٌ لقوله: ﴿ياأيها الناس قَدْ جَآءَتْكُمْ﴾ [يونس: ٥٧]، وهذه القراءةُ تناسبُ قراءةَ الخطاب في قوله: «فَلْيفرحوا»، وقد تقدَّم أن ابنَ عطية نقلها عنه أيضاً.
226
قوله تعالى: ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ : هذه بمعنى أخبروني. وقوله «ما أنزل» يجوزُ أن تكونَ «ما» موصولةً بمعنى الذي، والعائدُ محذوفُ أي: ما أنزله، وهي في محل نصبٍ مفعولاً أول، والثاني هو الجملةُ من قوله: ﴿ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ﴾ والعائدُ من هذه الجملةِ على المفعولِ الأول محذوفٌ تقديرُه: اللَّهُ أَذِن لكم فيه. واعتُرِضَ على هذه بأنَّ قولَه «قُلْ» يمنع من وقوع الجملةِ بعده مفعولاً ثانياً. وأُجيب عنه بأنه كُرِّر توكيداً. ويجوز أن تكونَ «ما» استفهامية منصوبةً المحلِّ ب «أَنْزَلَ» وهي حينئذ مُعَلِّقَةٌ ل «أَرَأَيْتم»، وإلى هذا ذهب الحوفي والزمخشري. ويجوز أن تكونَ «ما» الاستفهاميةُ في محلِّ رفعٍ بالابتداء، والجملةُ من قوله: ﴿ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ﴾ خبره، والعائدُ محذوفٌ كما تقدَّم أي: أَذِن لكم فيه، وهذه الجملةُ الاستفهاميةُ معلِّقَةٌ ل «أَرَأَيتم»، والظاهرُ من هذه الوجهِ هو الوجهُ الأولُ، لأنَّ فيه إبقاءَ «أرأيت» على بابها مِنْ تَعَدِّيها إلى اثنين، وأنها مؤثرةٌ في أولِهما بخلافِ جَعْلِ «ما» استفهاميةً فإنها معلقةٌ ل «أرأيت» وسادَّةٌ مَسَدَّ المفعولين.
226
وقوله: ﴿مِّن رِّزْقٍ﴾ يجوزُ أن يكونَ حالاً من الموصول، وأن تكونَ «مِنْ» لبيان الجنس و «أنزل» على بابها وهو على حَذْف مضاف أي: أنزله من سببِ رزقٍ وهو المطر. وقيل: تُجُوِّز بالإِنزال عن الخلقِ كقولِه ﴿وَأَنزْلْنَا الحديد﴾ [الحديد: ٢٥] ﴿وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام﴾ [الزمر: ٦].
قوله: ﴿أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ﴾ في «أم» هذه وجهان أحدهما: أنها متصلةٌ عاطفةٌ/ تقديرُه: أخبروني: آللَّهُ أَذِنَ لكم في التحليلِ والتحريم، فإنهم يفعلون ذلك بإذنه أم يَكْذِبون على الله في نسبة ذلك إليه. والثاني: أن تكونَ منقطعةً. قال الزمخشري: «ويجوز أن تكونَ الهمزةُ للإِنكار و» أم «منقطعةٌ بمعنى: بل أَتَفْترون على الله، تقريراً للافتراء». والظاهر هو الأول إذ المعادلةُ بين هاتين الجملتين اللتين بمعنى المفردين واضحةٌ، إذ التقدير: أيُّ الأمرينِ وَقَعَ: إذْنُ اللَّهِ لكم في ذلك أم افتراؤكم عليه؟
227
قوله تعالى: ﴿وَمَا ظَنُّ﴾ :«ما» مبتدأةٌ استفهامية، و «ظنُّ» خبرُها، و «يومَ» منصوبٌ بنفس الظن، والمصدرُ مضافٌ لفاعلِه، ومفعولا الظن محذوفان، والمعنى: وأيُّ شيءٍ يَظُنُّ الذين يَفْترون يومَ القيامة أني فاعلٌ بهم أَأُنجيهم من العذاب أم أنتقمُ منهم؟
وقرأ عيسى بن عمر: «وما ظَنَّ الذين» جَعَلَه فعلاً ماضياً والموصولُ فاعلُه، و «ما» على هذه القراءة استفهاميةٌ أيضاً في محلِّ نصبٍ على المصدرِ، وقُدّمَتْ لأنَّ الاستفهامَ له صدرُ الكلام والتقدير: أيَّ ظنٍ ظنَّ المفترون، و «ما» الاستفهاميةُ قد تَنُوب عن المصدر، ومنه قول الشاعر:
٢٦٠٣ -
227
ماذا يَغيرُ ابنَتْي رَبْعٍ عويلُهما لا تَرْقُدان ولا بؤسى لمَنْ رَقَدا
وتقول: «ما تَضْرب زيداً»، تريد: أيَّ ضربٍ تَضْربه. قال الزمخشري: أتى به فعلاً ماضياً، لأنه واقعٌ لا محالةَ، فكأنه قد وقع وانقضى «وهذا لا يستقيمُ هنا لأنه صار نصاً في الاستقبال لعملهِ في الظرف المستقبل وهو يومُ القيامة، وإن كان بلفظ الماضي.
228
قوله تعالى: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ﴾ :«ما» نافية في الموضعين، ولذلك عَطَفَ بإعادة «لا» النافية، وأَوْجب ب «إلا» بعد الأفعال لكونها منفيةً. و «في شأن» خبر «تكون» والضميرُ في «منه» عائدٌ على «شأن» و «مِنْ قرآن» تفسير للضمير، وخُصَّ من العمومِ، لأنَّ القرآنَ هو أعظمُ شؤونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقيل: يعودُ على التنزيل، وفُسِّر بالقرآن لأنَّ كلَّ جزء منه قرآن، وإنما أَضْمَرَ قبل الذكرِ تعظيماً له. وقيل: يعود على الله، أي: وما تتلو مِنْ عند الله من قرآنٍ. وقال أبو البقاء: «من الشأن»، أي: مِنْ أجله، و «من قرآن» مفعول «تتلو» و «مِنْ» زائدةٌ «. يعني أنها زِيْدت في المفعول به، و» من «الأولى جارةٌ للمفعولِ مِنْ أجله، تقديره: وما تتْلو من أجل الشأن قرآناً، وزِيْدَت لأنَّ الكلامَ غيرُ موجَبٍ والمجرور نكرةٌ. وقال مكي:» منه «الهاء عند الفراء تعود على الشأن على تقديرِ حَذْفِ مضافٍِ تقديرُه: وما تتلو من أجل الشأن، أي: يحدث لك شأنٌ فتتلو القرآنَ من أجله».
والشَّأْنُ مصدرُ شَأنَ يَشْأَنُ شَأَنَه، أي: قَصَد يَقْصِدُ قَصْدَه، وأصلُه الهمز، ويجوز تخفيفه. والشأن أيضاً الأمرُ، ويُجْمع على شُؤُون.
228
وقوله: ﴿إِلاَّ كُنَّا﴾ هذه الجملةُ حاليةٌ وهو استثناء مفرغ، وولي «إلا» هنا الفعلُ الماضي دون قد لأنه قد تقدَّمها فعلٌ وهو مُجَوِّز لذلك.
وقوله: «إذ» هذا الظرفُ معمولٌ ل «شُهودا» ولمَّا كانت الأفعالُ السابقةُ المرادُ بها الحالةُ الدائمةُ وتنسحب على الأفعالِ الماضيةِ كان الظرفُ ماضياً، وكان المعنى: وما كنت، وما تكون، ولا عَمِلْتم، إلا كنا عليكم شهوداً، إلا أفضتم فيه. و «إذ» تُخَلِّصُ المضارعَ لمعنى الماضي.
قوله: ﴿وَمَا يَعْزُبُ﴾ قرأ الكسائي هنا وفي سبأ «يَعْزِب» بكسرِ العين، والباقون بضمها، وهما لغتان في مضارع عَزَبَ، يقال: عَزَب يَعْزِب العين، ويَعْزُب، أي: غابَ حتى خفي، ومنه الروضُ العازِبُ. قال أبو تمام:
٢٦٠٤ - وقَلْقَلَ نَأْيٌ مِنْ خراسانَ جَأْشَها فقلتُ اطمئنِّي أَنْضَرُ الروضِ عزِبُه
وقيل للغائب عن أهله: عازِب، حتى قالوا لمن لا زوجَ له: عازب. وقال الراغب: «العازِبُ: المتباعِدُ في طلب الكلأ. ويقال: رجل عَزَبٌ وامرأة عَزَبة، وعَزَب عنه حِلْمُه، أي: غاب، وقوم مُعَزَّبون، أي: عَزَبَتْ عنهم إبلُهم، وفي الحديث:» من قرأ القرآن في أربعين يوماً فقد عَزَب «، أي: فقد بَعُد عهدُه بالخَتْمة. وقال قريباً منه الهروي فإنه قال: /» أي: بَعُدَ عهدُه بما ابتدأ منه وأبطأ في تلاوتِه «، وفي حديث أم مَعْبد:» والشاءُ عازِبٌ حِيال «، قال:» والعازِب: البعيدُ الذهابِ في المَرْعَى.
والحائلُ: التي ضَرَبَها
229
الفحلُ فلم تَحْمل لجُدُوبة السَّنة. وفي الحديث أيضاً:
«أصبحنا بأرضٍ عَزيبةٍ صحراءَ»، أي: بعيدةِ المرعى. ويقال للمال الغائب: عازِب، وللحاضرِ عاهِن. والمعنى في الآية: وما يَبْعُد أو ما يخفى أو ما يَغيب عن ربك.
و «مِنْ مِثْقال» فاعل، و «مِنْ» مزيدةٌ فيه، أي: ما يبعد عنه مثقالُ. والمثْقال هنا: اسمٌ لا صفةٌ، والمعنيُّ به الوزنُ، أي: وزن ذرة.
قوله: ﴿وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ﴾ قرأ حمزة برفع راء «أَصْغر» و «أكبر»، والباقون بفتحها. فأما الفتحُ ففيه وجهان، أحدهما: وعليه أكثر المُعْربين أنه جَرٌّ، وإنما كان بالفتحةِ لأنه لا يَنْصَرف للوزن والوصف، والجرُّ لأجلِ عطفِه على المجرور وهو: إمَّا «مثقال»، وإمَّا «ذرة». وأمَّا الوجهُ الثاني فهو أنَّ «لا» نافيةٌ للجنس، و «أصغر» و «أكبر» اسمُها، فهما مَبْنيان على الفتح. وأمَّا الرفعُ فمن وجهين أيضاً، أشهرهُما عند المُعْربين: العطفُ على محل «مثقال» إذ هو مرفوعٌ بالفاعلية و «مِنْ» مزيدة فيه كقولك: «ما قام مِنْ رجل ولا امرأة» بجرِّ «امرأة» ورَفِعْها. والثاني: أنه مبتدأ، قال الزمخشري: «والوجهُ النصبُ على نفي الجنس، والرفع على الابتداء ليكون كلاماً برأسِه، وفي العطفِ على محل» مثقال ذرة «، أو على لفظ» مثقال ذرة «فتحاً في موضع الجرِّ لامتناع الصرف إشكالٌ؛ لأنَّ قولَك:» لا يَعْزُب عنه شيءٌ إلا في كتاب مشكل «انتهى. وهذان الوجهان اختيار الزجاج، وإنما كان هذا مُشْكلاً عنده لأنه يصير التقدير: إلا في كتاب مبين فيعزبُ، وهو كلامٌ لا يصحُّ. وقد يزول هذا الإِشكالُ بما ذكره أبو البقاء: وهو أن يكون ﴿إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ استثناءٌ منقطعاً، قال: ﴿إِلاَّ فِي كِتَابٍ﴾، أي: إلا هو في كتاب، والاستثناءُ منقطع».
230
وقال الإِمام فخر الدين بعد حكايته الإِشكالَ المتقدم: «أجاب بعضُ المحققين مِنْ وجهين، أحدهما: أن الاستثناءَ منقطع، والآخر: أن العُزوبَ عبارةٌ عن مُطْلق البعد، والمخلوقاتِ قسمان، قسمٌ أوجده اللهُ ابتداءً مِنْ غير واسطةٍ كالملائكة والسمواتِ والأرض، وقسمٌ أوجده بواسطةِ القسم الأول مثلِ الحوادث الحادثة في عالم الكون والفساد، وهذا قد يتباعدُ في سلسلةِ العِلِّيَّة والمعلولِيَّة عن مرتبة وجود واجبِ الوجود، فالمعنى: لا يَبْعد عن مرتبة وجوده مثقالُ ذرة في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين، كتبه الله وأثبت فيه صورَ تلك المعلومات».
قلت: فقد آل الأمرُ إلى أنه جَعَله استثناءً مفرغاً، وهو حال من «أصغر» و «أكبر»، وهو في قوة الاستثناءِ المتصل، ولا يُقال في هذا: إنه متصل ولا منقطع، إذ المفرَّغُ لا يُقال فيه ذلك.
وقال الجرجاني: «إلا» بمعنى الواو، أي: وهو في كتاب مبين، والعربُ تضعُ «إلا» موضعَ واو النسق كقوله: ﴿إِلاَّ مَن ظُلِمَ﴾ [النساء: ١٤٨] ﴿إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ﴾ [البقرة: ١٥٠]. وهذا الذي قاله الجرجانيُّ ضعيفٌ جداً، وقد تقدَّم الكلامُ في هذه المسألة في البقرة، وأنه شيءٌ قال به الأخفش، ولم يَثْبُت ذلك بدليل صحيح. وقال الشيخ أبو شامةَ: «ويُزيل الإِشكالَ أن تُقَدِّر قبلَ قوله: ﴿إِلاَّ فِي كِتَابٍ﴾ » ليس شيء من ذلك إلا في كتاب «وكذا تقدِّر في آية الأنعام.
ولم يُقرأ في سبأ إلا بالرفع، وهو يُقَوِّي قولَ مَنْ يقول إنه معطوف
231
على» مثقال «ويُبَيِّنه أن» مثقال «فيها بالرفع، إذ ليس قبله حرفُ جر. وقد تقدَّمَ الكلامُ على نظير هذه المسألة والإِشكالُ فيها في سورة الأنعام في قوله: ﴿وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ﴾ [يونس: ٥٩]، إلى قوله: ﴿إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [يونس: ٥٩]، وأنَّ صاحبَ» النظم «الجرجانيَّ هذا أحال الكلامَ فيها على الكلامِ في هذه السورة، وأن أبا البقاء قال:» لو جَعَلْناه كذا لفَسَدَ المعنى «، وقد بيَّنْتُ تقريرَ فسادِه والجوابَ عنه في كلام طويل هناك فعليك باعتبارِه ونَقْلِ ما يمكن نَقْلُه إلى هنا.
232
قوله تعالى: ﴿الذين آمَنُواْ﴾ : في محلِّه أوجهٌ، أحدُها: أنه مرفوعٌ على خبرِ ابتداءٍ مضمر، أي: هم الذين آمنوا، أو على أنه خيرٌ ثانٍ ل «إنَّ»، أو على الابتداءِ، والخبرُ الجملةُ من قوله: «لهم البشرى»، أو على النعت على موضع «أولياء» لأنَّ موضعَه رفعٌ بالابتداء قبل دخول «إنَّ» أو على البدل من الموضع أيضاً، ذكرهما مكي. وهذان الوجهان على مذهب الكوفيين لأنهم يُجْرون التوابعَ كلَّها مُجرى عطفِ النسق في اعتبار المحل/ محلِّ الجر بدلاً من الهاء والميم في «عليهم». وقيل: منصوبُ المحلِّ نعتاً ل «أولياء»، أو بدلاً منهم على اللفظ أو على إضمارِ فعلٍ لائقٍ وهو «أمدحُ»، فقذ تَحَصَّل فيه تسعةُ أوجهٍ: الرفعُ من خمسة، والجرُّ من وجه واحد، والنصبُ من ثلاثة. وإذا لم تجعلِ الجملةَ من قوله: «لهم البشرى»، خبراً للذين جاز فيها الاستئنافُ، وأن تكونَ خبراً ثانياً ل «إنَّ» أو ثالثاً.
قوله تعالى: ﴿فِي الحياة الدنيا﴾ : يجوز فيه وجهان، أظهرهما: أنه متعلقٌ بالبشرى، أي: البشرى تقع في الدنيا، وفُسِّرت بالرؤيا
232
الصالحةِ. والثاني: أنها حالٌ من «البشرى» فتتعلق بمحذوف، والعاملُ في الحال الاستقرارُ في «لهم» لوقوعه خبراً. وقوله: «لا تبديلَ» جملةٌ مستأنفة. وقوله: «ذلك» إشارةُ للبشرى وإن كانت مؤنثةً لأنها في معنى التبشير. وقيل: هو إشارةٌ إلى النعيم، قاله ابن عطية. وقال الزمخشري: «ذلك» إشارةٌ إلى كونهم مبشَّرين في الدارين «.
233
قوله تعالى: ﴿إِنَّ العزة﴾ : العامَّةُ على كسرِ «إنَّ» استئنافاً وهو مُشْعِرٌ بالعِلِّيَّة. وقيل: هو جوابُ سؤالٍ مقدرٍ كأنَّ قائلاً قال: لِمَ لا يُحْزِنُه قولُهم، وهو ممَّا يُحْزِن؟ فأجيب بقوله: ﴿إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً﴾، ليس لهم منها شيءٌ فكيف تبالي بهم وبقولهم؟.
والوقفُ على قولِه: ﴿قَوْلُهُمْ﴾ ينبغي أن يُعْتمد ويُقْصَدَ ثم يُبتدأ بقوله: «إن العزَّة» وإن كان من المستحيلِ أن يتوهَّم أحد أن هذا مِنْ مقولهم، إلا مَنْ لا يُعْتَبَرُ بفهمه.
وقرأ أبو حيوة: «أنَّ العزة» بفتح «أنَّ». وفيها تخريجان، أحدهما: أنها على حَذْفِ لام العلة، أي: لا يَحْزنك قولهم لأجل أن العزة لله جميعاً. والثاني: أنَّ «أنَّ» وما في حيِّزها بدل من «قولهم» كأنه قيل: ولا يَحْزُنك أن العَّزة لله، وكيف يَظْهَرُ هذا التوجيهُ أو يجوز القول به، وكيف ينهى رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك في المعنى وهو لم يَتَعاطَ شيئاً من تلك الأسباب، وأيضاً فمِنْ أيِّ قبيلٍ الإِبدالُ هذا؟ قال الزمخشري: «ومَنْ جعله بدلاً من» قولهم «ثم أنكره فالمُنْكَر هو تخريجُه لا ما أنكره من القراءة به»،
233
يعني أن إنكارَه للقراءة مُنْكَرٌ؛ لأنَّ معناها صحيحٌ على ما ذَكَرْتُ لك مِنَ التعليلِ، وإنما المُنْكَر هذا التخريجُ.
وقد أنكر جماعةٌ هذه القراءةَ ونَسَبُوها للغلَط ولأكثر منه. قال القاضي: «فَتْحُها شاذٌّ يُقارِبُ الكفر، وإذا كُسِرت كان استئنافاً وهذا يدلُّ على فضيلة علم الإِعراب». وقال ابن قتيبة: «لا يجوز فتحُ» إنَّ «في هذا الموضعِ وهو كفرٌ وغلوٌّ»، وقال الشيخ: «وإنما قالا ذلك بناءً منهما على أن» أنَّ «معمولةٌ ل» قولهم «. قلت: كيف تكون معمولةً ل» قولهم «وهي واجبةُ الكسرِ بعد القول إذا حُكِيَتْ به، كيف يُتَوَهَّم ذلك؟ وكما لا يُتَوَهَّم هذا المعنى مع كسرِها لا يُتَوَهَّم أيضاً مع فتحها ما دام له وجهٌ صحيح.
و»
جميعاً «حال من» العِزَّة «ويجوز أن يكون توكيداً ولم يؤنَّثْ بالتاءِ، لأنَّ فعيلاً يستوي فيه المذكر والمؤنث لشبهه بالمصادرِ، وقد تقدَّم تحريرُه في قوله: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ﴾ [الأعراف: ٥٦].
وقوله: ﴿قَوْلُهُمْ﴾، قيل: حُذِفَتْ صفتُه لِفَهْم المعنى، إذ التقديرُ: ولا يَحْزنك قولُهم الدالُّ على تكذيبك، وحَذْفُ الصفةِ وإبقاءُ الموصوفِ قليلٌ بخلافِ عكسِه. وقيل: بل هو عامٌّ أُريد به الخاص.
234
وقوله تعالى: ﴿مَن فِي السماوات وَمَنْ فِي الأرض﴾ : يجوزُ أن يُرادَ [به] العقلاءُ خاصةً، ويكون من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى، وذلك أنه تعالى إذا كان يملك أشرفَ المخلوقات وهما الثَّقَلان العقلاءُ من الملائكة والإِنس والجن فَلأَنْ يملكَ ما سواهم بطريق الأَْوْلى والأَْحْرى. ويجوز أن يُرادَ العمومُ، وغَلَّبَ العاقلَ على غيرِه.
234
قوله: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ﴾ يجوز في «ما» هذه أن تكون نافيةً وهو الظاهرُ. و «شركاء» مفعولُ «يَتَّبع»، ومفعولُ «يَدْعون» محذوفٌ لفَهْمِ المعنى، والتقدير: وما يتبع الذين يَدْعُون مِنْ دون الله آلهةً شركاءَ، فآلهةً مفعول «يَدْعون» و «شركاءَ» مفعول «يتبع»، وهو قولُ الزمخشري، قال: «ومعنى وما يَتَّبعون شركاءَ: وما يتَّبعون حقيقة الشركاء وإن كانوا يُسَمُّونها شركاءَ؛ لأن شركةَ الله في الربوبيةِ مُحال، إن يتبعونَ إلا ظنَّهم أنها شركاءُ». ثم قال: «ويجوز أن تكون» ما «استفهاماً، يعني: وأيَّ شيءٍ يَتَّبعون، و» شركاء «على هذا نُصِب ب» يدعون «، وعلى الأول ب» يَتَّبع «وكان حقُّه» وما يتبع الذين يَدْعُون من دون الله شركاءَ شركاءَ «فاقتصر على أحدهما للدلالة».
وهذا الذي/ ذكره الزمخشري قد رَدَّه مكي ابن أبي طالب وأبو البقاء. أمَّا مكيٌّن فقال: «انتصَبَ شركاء ب» يَدْعون «ومفعول» يَتَّبع «قام مقامَه» إنْ يتبعون إلا الظنَّ لأنه هو، ولا ينتصِبُ الشركاء ب «يَتَّبع» لأنك تَنْفي عنهم ذلك، والله قد أَخْبر به عنهم «. وقال أبو البقاء:» وشركاء مفعولٌ «يَدْعون» ولا يجوزُ أن يكونَ مفعول «يتبعون» ؛ لأنَّ المعنى يَصير إلى أنَّهم لم يَتَّبعوا شركاء، وليس كذلك.
قلت: معنى كلامِهما أنه يَؤُول المعنى إلى نفي اتِّباعهم الشركاءَ، والواقعُ أنهم قد اتَّبعوا الشركاء. وجوابه ما تقدَّم من أنَّ المعنى أنهم وإن اتَّبعوا شركاءَ فليسوا بشركاءَ في الحقيقة؛ بل في تسميتهم هم لهم بذلك، فكأنهم لم يَتَّخذوا شركاءَ ولا اتَّبعوهم لسلب الصفة الحقيقية عنهم، ومثلُه قولُك: «ما رأيتُ رجلاً»، أي: مَنْ يستحقُّ أن يُسَمَّى رجلاً، وإن كنت قد
235
رأيت الذَّكر من بني آدم. ويجوز أن تكونَ «ما» استفهامية، وتكون حينئذٍ منصوبةً بما بعدها، وقد تقدَّم قولُ الزمخشري في ذلك. وقال مكي: «لو جعلتَ» ما «استفهاماً بمعنى الإِنكار والتوبيخ كانت اسماً في موضعِ نصبٍ ب» يتَّبع «. وقال أبو البقاء نحوه.
ويجوزُ أنَ تكونَ»
ما «موصولةً بمعنى الذي نسقاً على» مَنْ «في قوله: ﴿ألا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السماوات﴾، قال الزمخشري:» ويجوز أن تكونَ «ما» موصولةً معطوفةً على «مَنْ»، كأنه قيل: وللَّهِ ما يتَّبعه الذين يَدْعون من دونَ الله شركاء، أي: وله شركاؤكم «.
ويجوز أن تكون «ما» هذه الموصولةَ في محل رفع بالابتداء، والخبرُ محذوفٌ تقديرُه: والذي يَتَّبعه المشركون باطلٌ. فهذه أربعةُ أوجهٍ.
وقرأ السلمي «تَدْعُون» بالخطاب، وعزاها الزمخشري لعليّ ابن أبي طالب. قال ابن عطية: «وهي قراءةٌ غيرُ متَّجهة» قلت: قد ذكرِ توجيهَها أبو القاسم، فقال: «ووجهُه أن يُحْمل» وما يتَّبع «على الاستفهام، أي: وأيُّ شيء يتَّبع الذين تَدْعونهم شركاءَ من الملائكة والنبيين، يعني أنهم يتَّبعون الله تعالى ويطيعونه، فما لكم لا تَفْعلون مثلَ فعلِهم كقوله تعالى: ﴿أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ﴾ [الإسراء: ٥٧].
قوله: ﴿إِن يَتَّبِعُونَ﴾ »
إنْ «نافية، و» الظن «مفعولٌ به، فهو استثناءٌ مفرَّغ،
236
ومفعولُ الظن محذوفٌ تقديرُه: إن يتبعون إلا الظنَّ أنهم شركاءُ، وعند الكوفيين تكون أل عوضاً من الضمير تقديره:» إن يَتَّبعون إلا ظنَّهم أنهم شركاءُ. والأحسنُ أن لا يُقَدَّر للظن معمولٌ؛ إذ المعنى: إن يتبعون إلا الظن لا اليقين.
وقوله: ﴿إِن يَتَّبِعُونَ﴾ مَنْ قرأ «يَدْعُون» بياء الغيبة فقد جاء ب «يَتَّبعون» مطابقاً له، ومَنْ قرأ «تدعون» بالخطاب فيكون «يتبعون» التفاتاً، إذ هو خروج من خطاب إلى غَيْبة.
237
قوله تعالى: ﴿جَعَلَ لَكُمُ الليل﴾ :... الآية. انظر إلى فصاحة هذه الآية، حيث حَذَفَ من كل جملةٍ ما ثبت في الأخرى، وذلك أنه ذكر علة جَعْل الليل لنا، وهي قوله «لتسكنوا» وحَذَفها مِنْ جَعْل النهار، وذَكَر صفةَ النهار وهي قوله «مُبْصِراً» وحَذَفَها من الليل لدلالة المقابل عليه، والتقدير: هو الذي جَعَل لكم الليل مُظْلماً لتَسْكُنوا فيه والنهارَ مُبْصِراً للتحرَّكوا فيه لمعاشِكم، فحذف «مُظْلماً» لدلالة «مبصراً» عليه، وحذف «لتتحَرَّكوا» لدلالة «لتسكنوا» وهذا أفصحُ كلامٍ.
وقوله: ﴿مُبْصِراً﴾ أسند الإِبصارَ إلى الظرف مجازاً كقولِهم «نهارُه صائم وليله قائم ونائم» قال:
٢٦٠٥ -.................. ونِمْتِ وما ليلُ المَطِيِّ بنائمِ
وقال قطرب: «يقال: أَظْلَمَ الليلُ: صار ذا ظلمة، وأضاء النهار: صار ذا ضياء، فيكون هذا من باب النسبِ كقولهم لابن وتامر، وقوله تعالى: ﴿عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٢٠]، إلا أن ذلك إنما جاء في الثلاثي، وفي فعَّل بالتضعيف عند
237
بعضِهم في قوله تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: ٤٦]، في أحد الأوجه.
238
قوله تعالى: ﴿إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ﴾ :«إنْ» نافية و «عندكم» يجوز أن يكونَ خبراً مقدماً، و «مِنْ سلطان» مبتدأ مؤخراً، ويجوز أن يكونَ «مِنْ سلطان» مرفوعاً بالفاعلية بالظرف قبلَه لاعتمادِه على النفي، و «مِنْ» مزيدةٌ على كلا التقديرين، وبهذا يجوز أن يتعلَّقَ بسلطان لأنه بمعنى الحجة والبرهان، وأن يتعلَّقَ بمحذوف صفةً له، فيُحكمَ على موضعه بالجرِّ على اللفظ، وبالرفعِ على المحل؛ لأنَّ موصوفَه مجرور بحرفِ جرٍّ زائدٍ، وأن يتعلق بالاستقرار. قال الزمخشري: «الباءُ حقُّها أن تتعلَّقَ بقوله:» إنْ عندكم «على أن يُجْعَلَ القولُ مكاناً للسلطان كقولك:» ما عندكم بأرضِكم مَوْزٌ «كأنه قيل: إنْ عندكم/ بما تقولون سُلْطان». وقال الحوفي: «وبهذا» متعلقٌ بمعنى الاستقرار «، يعني الذي تَعَلَّق به الظرف.
قوله تعالى: ﴿مَتَاعٌ فِي الدنيا﴾ : يجوز رفع «متاع» مِنْ وجهين، أحدهما: أنه خبرُ مبتدأ محذوف، والجملة جوابٌ لسؤالٍ مقدر فهي استئنافيةٌ كأن قائلاً قال: كيف لا يَعْلمون وهم في الدنيا مُفْلحون بأنواعٍ ممَّا يتلذذون به؟ فقيل: ذلك متاع. والثاني: أنه مبتدأ والخبر محذوفٌ تقديرُه، لهم متاعٌ، و «في الدنيا» يجوز أن يتعلقَ بنفس «متاع»، أي: تَمَتُّعٌ في الدنيا، ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه نعتٌ ل «متاع» فهو في محلِّ رفعٍ. ولم يُقرأ بنصبه هنا بخلاف قوله: «متاع الحياة» في أول السورة.
وقوله: ﴿بِمَا كَانُواْ﴾ الباءُ للسببية، و «ما» مصدريةٌ، أي: بسببِ كونهم كافرين.
قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ﴾ : يجوز أن تكونَ «إذ» معمولةً ل «نَبأ»، ويجوز أن تكونَ بدلاً مِنْ «نبأ» بدلَ اشتمال. وجوَّز أبو البقاء أن تكونَ حالاً من «نبأ» وليس بظاهرٍ، ولا يجوزُ أن يكونَ منصوباً ب «اتلُ» لفساده، إذ «اتلُ» مستقبلٌ، و «إذا» ماض، و «لقومه» اللام: إمَّا للتبليغ وهو الظاهرُ، وإمَّا للعلة وليس بظاهرٍ.
وقوله: ﴿كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي﴾ من باب الإِسناد المجازي كقولهم: «ثَقُل عليَّ ظلُّه».
وقرأ أبو رجاء وأبو مجلز وأبو الجوزاء «مُقامي» بضم الميم، و «المقام» بالفتح مكان القيام، وبالضم مكان الإِقامة أو الإِقامة نفسها. وقال ابن عطية: «ولم يُقرأ هنا بضم الميم» كأنه لم يَطَّلع على قراءةِ هؤلاء الآباء.
قوله: ﴿فَعَلَى الله﴾ جواب الشرط.
وقوله: ﴿فأجمعوا﴾ عطف على الجواب، ولم يذكر أبو البقاء غيرَه. واستُشْكِل عليه أنه متوكلٌ على الله دائماً كَبُر عليهم مقامُه أو لم يكبر. وقيل: جوابُ الشرط قوله «فأجمعوا» وقوله ﴿فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ﴾ جملةٌ اعتراضية بين الشرط وجوابه، وهو كقول الشاعر:
239
وقيل: الجوابُ محذوف، أي: فافعلوا ما شئتم.
وقرأ العامة: «فَأَجْمعوا» أمراً مِنْ «أَجْمع» بهمزة القطع يقال: أَجْمع في المعاني، وجَمَع في الأعيان، فيقال: أجمعت أمري وجمعت الجيش، هذا هو الأكثر. قال الحارث بن حلزة:
٢٦٠٦ - إمَّا تَرَيْني قد نَحَلْتُ ومَنْ يكنْ غَرَضاً لأطراف الأَسِنَّة يَنْحَلِ
فلرُبَّ أبْلَجَ مثلِ ثِقْلِكِ بادِنٍ ضخمٍ على ظهر الجَوادِ مُهَبَّلِ
٢٦٠٧ - أَجْمَعُوا أمرهم بليلٍ فلمَّا أصبحوا أصبحت لهم ضَوْضَاءُ
وقال آخر:
٢٦٠٨ - يا ليت شعري والمُنَى لا تَنْفَعُ هل أَغْدُوَنْ يوماً وأَمْري مُجْمَعُ
وهل أَجْمَعَ متعدٍّ بنفسه أو بحرف جر ثم حُذِف اتِّساعاً؟ فقال أبو البقاء: «مِنْ قولك» أجمعتُ على الأمر: إذا عَزَمْتَ عليه، إلا أنه حُذِفَ حرفُ الجر فوصل الفعل إليه. وقيل: هو متعدٍّ بنفسه في الأصل «وأنشد قولَ الحارث. وقال أبو فيد السدوسي:» أَجْمعت الأمر «أفصحُ مِنْ أَجْمعت عليه» وقال أبو الهثيم: «أجمعَ أمرَه جَعَله مجموعاً بعدما كان متفرقاً» قال: «وَتفْرِقَتُه أن يقولُ مرةً افعل كذا، ومرة افعل كذا، وإذا عَزَم على أمرٍ واحد فقد جَمَعه أي: جعله جميعاً، فهذا هو الأصلُ في الإِجماع، ثم صار بمعنى العَزْم حتى وصل ب» على «فقيل: أَجْمَعْتُ على الأمر أي: عَزَمْتُ عليه، والأصل: أجمعت الأمر.
وقرأ العامَّةُ:»
وشركاءَكم «نصباً وفيه أوجه، أحدها: أنه معطوفٌ على» أَمْرَكم «بتقدير حذف مضاف، أي: وأمر شركاءكم كقوله:
﴿وَسْئَلِ القرية﴾ [يوسف: ٨٢]، ودلَّ على ذلك ما قدَّمْتُه من أن «أَجْمع» للمعاني. والثاني: أنه
240
عطف عليه من غير تقدير حذف مضاف، قيل: لأنه يقال أيضاً: أجمعت شركائي. الثالث: أنه منصوب بإضمار فعلٍ لائق، أي: وأجمعوا شركاءكم بوصل الهمزة. وقيل: تقديره: وادعوا، وكذلك هي في مصحف أُبَيّ «وادعوا» فأضمرَ فعلاً لائقاً كقوله تعالى: ﴿والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان﴾ [الحشر: ٩]، أي: واعتقدوا الإِيمانَ، ومثلُه قولُ الآخر:
٢٦٠٩ - فَعَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً حتى شَتَتْ هَمَّالةً عيناها
وكقوله:
٢٦١٠ - يا ليت زوجَك قد غدا مُتَقَلِّداً سَيْفاً ورُمْحاً
وقول الآخر:
٢٦١١ - إذا ما الغانياتُ بَرَزْنَ يوماً وزَجَّجْنَ الحواجبَ والعيونا
يريد: ومُعْتَقِلاً رُمْحاً، وكحَّلْنَ العيونا. وقد تقدم أن في هذه الأماكن غيرَ هذا التخريج. الرابع: أنه مفعولٌ معه، أي: مع «شركائكم» قال الفارسي: «وقد يُنْصب الشركاء بواو مع، كما قالوا: جاء البردُ والطَّيالسةَ»، ولم يذكر الزمخشري غيرَ قولِ أبي علي. قال الشيخ: «وينبغي أَنْ يكونَ هذا التخريجُ على أنه مفعول معه من الفاعل، وهو الضمير في» فَأَجْمعوا «لا من المفعول الذي هو» أَمْرَكُمْ «وذلك على أشهرِ الاستعمالين،
241
لأنه يقال:» أجمع الشركاءُ أمرَهم، ولا يقال: «جَمَع الشركاء أمرهم» إلا قليلاً، قلت: يعني أنه إذا جعلناه مفعولاً معه من الفاعل كان جائزاً بلا خلافٍ، لأنَّ مِن النحويين مَنْ اشترط في صحةِ نصبِ المفعول معه أن يصلح عَطْفُه على ما قبله، فإن لم يَصْلُحْ عطفُه لم يَصِحَّ نصبُه مفعولاً معه، فلو جعلناه من المفعول لم يَجُزْ على المشهور، إذ لا يَصْلُح عَطْفُه على ما قبله، إذ لا يقال: أجمعت شركائي، بل جَمَعْت.
وقرأ الزهري والأعمش والأعرج والجحدري وأبو رجاء ويعقوب والأصمعي عن نافع «فأجْمَعُوا» بوصل الألف وفتح الميم من جَمَع يَجْمَع، و «شركاءَكم» على هذه القراءةِ يتضح نصبه نسقاً على ما قبله، ويجوز فيه ما تقدم في القراءة الأولى من الأوجه. قال صاحب «اللوامح» :«أَجْمَعْتُ الأمر: أي: جَعَلْتُه جميعاً، وجَمَعْتُ الأموال جمعاً، فكان الإِجماعُ في الأحداث والجمع في الأعيان، وقد يُسْتعمل كلُّ واحد مكان الآخر، وفي التنزيل: ﴿فَجَمَعَ كَيْدَهُ﴾ [طه: ٦٠]. قلت: وقد اختلف القراء في قوله تعالى: ﴿فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ﴾ [طه: ٦٤]، فقرأ الستة بقطع الهمزة، جعلوه مِنْ أجمع وهو موافقٌ لِما قيل:» إنَّ «أجمع» في المعاني. وقرأ أبو عمرو وحدَه «فاجمعوا» بوصل الألفِ، وقد اتفقوا على قولِه «فَجَمع كيدَه ثم أتى» فإنه مِن الثلاثي، مع أنه متسلِّطٌ على معنى لا عَيْنٍ. ومنهم مَنْ جَعَل للثلاثي معنىً غيرَ معنى الرباعي فقال في قراءة أبي عمرو مِنْ جَمَع يَجْمع ضد فرَّق يُفَرِّق، وجَعَلَ قراءةَ الباقين مِنْ «أجمع أمرَه» إذا أحكمه وعزم عليه، ومنه قول الشاعر:
242
٢٦١٢ - يا ليت شعري والمنى لا تَنْفَعُ هل أَغْدُوَنْ يوماً وأَمْري مُجْمَعُ
وقيل: المعنى: فاجْمَعوا على كيدكم، فحذف حرف الجر.
وقرأ الحسن والسلمي وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق وسلام ويعقوب «وشركاؤكم» رفعاً. وفيه تخريجان، أحدهما: أنه نسقٌ على الضمير المرفوع بأَجْمِعُوا قبله، وجاز ذلك إذ الفصلُ بالمفعولِ سَوَّغ العطف، والثاني: أنه مبتدأ محذوف الخبر، تقديرُه: وشركاؤكم فَلْيُجْمِعوا أمرهم.
وشَذَّتْ فرقةٌ فقرأت: «وشركائكم» بالخفض ووُجِّهَتْ على حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه مجروراً على حاله كقوله:
٢٦١٣ - أكلَّ امرِىءٍ تحسبين أمرَأً ونارٍ تَوَقَّدُ بالليل نارا
أي: وكل نار، فتقدير الآية: وأمر شركائكم، فحذف الأمر وأبقى ما بعدَه على حاله، ومَنْ رأى برأي الكوفيين جوَّز عطفه على الضمير في «أمركم» من غيرِ تأويل، وقد تقدَّم ما فيه من المذاهب أعني العطفَ على الضميرِ المجرور مِنْ غير إعادة الجارِّ في سورة البقرة.
قوله: ﴿غُمَّةً﴾ يقال: غَمٌّ وغُمَّة نحو كَرْبٌ وكُرْبَةٌ. قال أبو الهيثم: «هو مِنْ قولهم:» غَمَّ علينا الهلالُ فهو مغموم إذا التُمِس فلم يُر. قال طرفة ابن العبد.
٢٦١٤ - لعَمْرك ما أمري عليَّ بغُمَّةٍ نهاري ولا ليلي عليَّ بسَرْمَدِ
وقال الليث: «يُقال: هو في غُمَّة مِنْ أمره إذا لم يتبيَّنْ له.
243
قوله: ﴿ثُمَّ اقضوا﴾ مفعول» اقضوا «محذوف، أي: اقضُوا إليَّ ذلك الأمر/ الذي تريدون إيقاعه كقوله: ﴿وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر﴾ [الحجر: ٦٦] فعدَّاه لمفعولٍ صريح. وقرأ السَّرِيُّ» ثم أفْضُوا «بقطع الهمزة والفاء، مِنْ أفضى يُفْضي إذا انتهى، يقال: أَفْضَيْتُ إليك، قال تعالى: ﴿وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ﴾ [النساء: ٢١] فالمعنى: ثم افضُوا إلى سِرِّكم، أي: انتهوا به إليَّ. وقيل: معناه: أَسْرِعوا به إليَّ. وقيل: هو مِنْ أفضى، أي: خَرَج إلى الفضاء، أي: فأصحِروا به إليَّ، وأَبْرِزوه لي كقوله:
٢٦١٥ - أبى الضيمَ والنعمانُ يَحْرِقُ نابَه عليه فأفضى والسيوفُ مَعاقِلُهْ
ولامُ الفضاءِ واوٌ؛ لأنه مِنْ فَضَا يَفْضُو، أي: اتَّسَع. وقوله:»
لا تُنْظِرون «، أي: لا تُؤَخِّرون من النَّظِرة وهي التأخير.
244
وقوله تعالى: ﴿فِي الفلك﴾ : يجوز فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلق بأَنْجَيْناه، أي: وقع الإِنْجاء في هذا المكان. والثاني: أن يتعلَّقَ بالاستقرار الذي تعلَّق به الظرفُ، وهو «معه» لوقوعه صلةً، أي: والذين استقروا معه في الفلك.
وقوله: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ﴾، أي: صَيَّرناهم، وجُمع الضميرُ في «جَعَلْناهم» حَمْلا على معنى «مِنْ»، و «خلائف» جمع خَلِيفة، أي: يَخْلُفون الغارقين.
قوله تعالى: ﴿مِن بَعْدِهِ﴾ : أي: بعد نوح. «بالبينات»
244
متعلقٌ ب «جاؤُوهم»، أو بمحذوفٍ على أنه حال، أي: ملتبسين بالبينات. وقوله: «ليؤمِنوا» أتى بلام الجحود توكيداً. والضمير في «كَذَّبوا» عائدٌ على مَنْ عاد عليه الضمير في «كانوا» وهم قومُ الرسل. والمعنى: أنَّ حالَهم بعد بعثِ الرسل كحالِهم قبلها في كونهم أهلَ جاهلية، وقال أبو البقاء ومكي: «إن الضميرَ في» كانوا «يعود على قوم الرسل، وفي» كَذَّبوا «يعودُ على قوم نوح، والمعنى: فما كان قومُ الرسلِ ليؤمنوا بما كَذَّب به قومُ نوح، أي: بمثلِه. ويجوز أن تكونَ الهاءُ عائدةً على نوح نفسه من غير حَذْفِ مضافٍ، والتقدير: فما كان قومُ الرسلِ بعد نوح ليؤمنوا بنوحٍ، إذ لو آمنوا به لآمنوا بأنبيائهم. و» من قبل «متعلقٌ ب» كَذَّبوا «أي من قبل بعثة الرسل. وقيل: الضمائرُ كلُّها تعودُ على قوم الرسل بمعنى آخر: وهو أنهم بادروا رسلَهم بالتكذيب، كلما جاءَ رسولٌ لَجُّوا في الكفرِ وتمادَوْا عليه فلم يكونوا لِيؤمنوا بما سَبَقَ به تكذيبُهم من قبلِ لَجِّهم في الكفر وتمادِيهم.
وقال ابن عطية:»
ويحتمل اللفظُ عندي معنى آخر، وهو أن تكونَ «ما» مصدرية، والمعنى: فكذَّبوا رسلَهم فكان عقابهم من الله أَنْ لم يكونوا ليؤمنوا بتكذيبهم مِنْ قبل، أي: من سببه ومن جزائه، ويؤيِّد هذا التأويلَ «كذلك نطبع»، وهو كلامٌ يحتاج لتأمُّل «. قال الشيخ:» والظاهرُ أنَّ «ما» موصولةٌ، ولذلك عاد الضمير عليها في قوله: ﴿بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ﴾ ولو كانت مصدريةً بقي الضميرُ غيرَ عائدٍ على مذكور، فتحتاج أن يتُكلَّفَ ما يعود عليه الضمير «. قلت: الشيخ بناه على قولِ جمهورِ النحاة في عدمِ كونِ» ما «
245
المصدرية اسماً فيعود عليها ضميرٌ، وقد نبَّهْتُك غيرَ مرةٍ أن مذهبَ الأخفش وابن السراج أنها اسمٌ فيعود عليها الضمير.
وقرأ العامَّةُ» نَطْبع «بالنون الدالة على تعظيم المتكلم. وقرأ العباس بن الفضل بياء الغيبة وهو الله تعالى، ولذلك صرَّح به في موضعٍ آخرَ ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله﴾ [الأعراف: ١٠١]. والكافُ نعتٌ لمصدر محذوف، أو حالٌ من ضمير ذلك المصدرِ على حسبِ ما عرفته من الخلاف، أي: مثلَ ذلك الطَّبْع المُحْكمِ الممتنعِ زوالُه نطبع على قلوب المُعْتدين على خَلْق الله.
246
وقرأ مجاهد وابن جبير والأعمش «لساحر» اسم فاعل، والإِشارة ب «هذا» حينئذٍ إلى موسى، أُشير إليه لتقدُّم ذكره، وفي قراءةِ الجماعةِ المشارُ إليه الشيءُ الذي جاء به موسى من قَلْبِ العصا حَيَّةً وإخراج يده بيضاء كالشمس. ويجوز أن يُشارَ ب «هذا» في قراءةِ ابن جبير إلى المعنى الذي جاء به موسى مبالغةً، حيث وَصَفوا المعاني بصفاتِ الأعيانِ كقولهم: «شعرٌ شاعرٌ» و «جَدَّ جَدُّه».
قوله تعالى: ﴿أَتقُولُونَ﴾ : في معمولِ هذا القولِ وجهان/، أحدهما: أنه مذكورٌ، وهو الجملةُ من قوله: «أسحرٌ هذا» إلى آخره، كأنهم قالوا: أجئتما بالسحر تطلبانِ به الفلاحَ ولا يفلح الساحرون، كقولِ موسى على نبيِّنا وعليه وعلى سائر الأنبياء أفضلُ الصلاة والسلام للسحرة: ﴿مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ﴾. والثاني: أن معموله محذوفٌ، وهو مدلولٌ عليه بما تقدَّم ذكرُه، وهو: إن هذا لسحرٌ مبين. ومعمولُ القول يُحذف للدلالةِ عليه كثيراً، كما يُحذف نفسُ القولِ كثيراً،
246
ومثلُ الآية في حَذْفِ المقول قولُ الشاعر:
٢٦١٦ - لَنحن الأُلى قُلْتُمْ فأنَّى مُلِئْتُمُ برؤيتنا قبلَ اهتمامٍ بكمْ رُعْبا
وفي كتاب سيبويه: «متى رأيت أو قلت زيداً منطلقاً» على إعمال الأول، وحَذْفِ معمولِ القول، ويجوز إعمالُ القولِ بمعنى الحكاية به فيقال: «متى رأيت أو قلت زيد منطلق»، وقيل: القول في الآية بمعنى العَيْب والطعن، والمعنى: أتعيبون الحق وتَطْعنون فيه، وكان مِنْ حَقِّكم تعظيمُه والإِذعانُ له مِنْ قولهم: «فلان يخاف القالة»، و «بين الناس تقاوُلٌ»، إذا قال بعضهم لبعض ما يسْوءُه، ونَحْوُ القولِ الذكرُ في قوله: ﴿سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ﴾ [الأنبياء: ٦٠] وكلُّ هذا ملخَّصٌّ من كلام الزمخشري.
247
قوله تعالى: ﴿أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا﴾ : اللامُ متعلقةٌ بالمجيء أي: أجئت لهذا الغرض، أنكروا عليه مجيئَه لهذه العلة. واللَّفْتُ: الَّليُّ والصَرْفُ، لَفَتَه عن كذا أي: صَرَفَه ولواه عنه. وقال الأزهري: «لَفَتَ الشيءَ وفَتَلَه: لواه، وهذا من المقلوب» قلت: ولا يدعى فيه قَلْبٌ حتى يَرْجَعَ أحدُ اللفظين في الاستعمال على الآخر، ولذلك لم يَجْعلوا جَذَبَ وجَبَذَ وحَمِدَ ومَدَح من هذا القبيل لتساويهما. ومطاوعُ لَفَتَ: التَفَتَ. وقيل: انفتل، وكأنهم استَغْنَوا بمطاوع «فَتَل» عن مطاوع لَفَتَ، وامرأة لَفُوت: أي: تَلْتَفِتُ لولدها عن زوجها إذا كان الولد لغيره، واللَّفِيْتَةُ: ما يَغْلُظُ من العَصِيدة.
247
قوله: ﴿وَتَكُونَ لَكُمَا الكبريآء﴾ الكِبْرياء: اسم كان، و «لكم» الخبر، و «في الأرض» : جَوَّز فيها أبو البقاء خمسةَ أوجه أحدها: أن تكونَ متعلقةً بنفس الكبرياء. الثاني: أن يُعَلَّق بنفس «تكون». الثالث: أن يتعلَّقَ بالاستقرار في «لكم» لوقوعه خبراً. الرابع: أن يكونَ حالاً من «الكبرياء». الخامس: أن يكون حالاً من الضمير في «لكما» لتحمُّلِه إياه.
والكِبْرياء مصدرٌ على وزنِ فِعْلِياء، ومعناها العظمة. قال عديّ ابن الرِّقاع:
٢٦١٧ - سُؤْدُدٌ غيرُ فاحِشٍ لا يُدا نِيه تَجْبارَةٌ ولا كِبْرِيا
وقال ابن الرقيات:
٢٦١٨ - مُلْكُه مُلْكُ رأفةٍ ليس فيه جَبَروتٌ منهُ ولا كِبْرِياءُ
يعني: ليس هو ما عليه الملوكُ من التجبُّر والتعظيم.
والجمهورُ على «تكون» بالتأنيث مراعاةً لتأنيث اللفظ. وقرأ ابن مسعود والحسن وإسماعيل وأبو عمرو وعاصم في روايةٍ: «ويكون» بالياء من تحتُ، لأنه تأنيثٌ مجازي.
248
وقوله تعالى: ﴿بِكُلِّ سَاحِرٍ﴾ : قرأ الأخَوان «سَحَّار» وهي قراءةُ ابنِ مُصَرِّف وابن وثاب وعيسى بن عمر.
قوله تعالى: ﴿مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر﴾ : قرأ أبو عمرو وحده دون باقي السبعة «آلسحرُ» بهمزة الاستفهام، وبعدها ألف محضةٌ، وهي بدل عن همزة الوصلِ الداخلةِ على لام التعريف، ويجوز أن تُسَهَّل بينَ بينَ، وقد تقدَّم تحقيق هذين الوجهين في قوله: ﴿ءَآلذَّكَرَيْنِ﴾ [الأنعام: ١٤٣] وهي قراءةُ مجاهدٍ وأصحابه وأبي جعفر. وقرأ باقي السبعة بهمزةِ وصلٍ تَسْقط في الدَّرْج. فأمَّا قراءة أبي عمرو ففيها أوجهٌ، أحدها: أنَّ «ما» استفهاميةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و «جِئْتُمْ به» الخبرُ، والتقديرُ: أيُّ شيءٍ جئتم، كأنه استفهامُ إنكارٍ وتقليلٌ للشيءِ المُجَاء به. و «السحر» بدلٌ من اسم الاستفهام، ولذلك أُعِيد معه أداتُه لما قرَّرْتُه في كتب النحو. الثاني: أن يكون «السحر» مبتدأً خبرُه محذوف، تقديره: أهو السحر. الثالث: أن يكونَ مبتدأً محذوفَ الخبر تقديره: السحر هو. ذكر هذين الوجهين أبو البقاء، وذكر الثاني مكي، وفيهما بُعد. الرابع: أن تكونَ «ما» موصولةً بمعنى الذي، وجئتم به صلتُها، والموصولُ في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و «السحر» على وجهيه من كونِه خبرَ مبتدأ محذوف، أو مبتدأً محذوفَ الخبر، تقديره: الذي جئتم به/ أهو السحر، أو الذي جئتم به السحر هو، وهذا الضميرُ هو الرابط كقولك: الذي جاءك أزيدٌ هو، قاله الشيخ.
249
قلت: قد منع مكي أن تكونَ «ما» موصولةً على قراءة أبي عمرو فقال: «وقد قرأ أبو عمرو» آلسحرُ «بالمد، فعلى هذه القراءةِ تكون» ما «استفهاماً مبتدأ، و» جئتم به «الخبر، و» السحر «خبرُ ابتداء محذوف، أي: أهو السحر، ولا يجوزُ أن تكونَ» ما «بمعنى الذي على هذه القراءةِ إذا لا خبر لها». قلت: ليس كما ذكر، بل خبرُها الجملةُ المقدَّرُ أحدُ جُزْأيها، وكذلك الزمخشري وأبو البقاء لم يُجيزا كونَها موصولةً إلا في قراءة غيرِ أبي عمرو، لكنهما لم يتعرَّضا لعدمِ جوازه.
الخامس: أن تكونَ «ما» استفهاميةً في محلِّ نصب بفعل مقدرٍ بعدها لأنَّ لها صدرَ الكلام، و «جئتم به» مفسِّر لذلك الفعل المقدر، وتكون المسألةُ حينئذٍ من باب الاشتغال، والتقدير: أيُّ شيءٍ أَتَيْتُمْ جئتم به، و «السحر» على ما تقدم، ولو قرىء بنصب «السحر» على أنه بدلٌ مِنْ «ما» بهذا التقديرِ لكان له وجه، لكنه لم يُقرأ به فيما عَلِمْت، وسيأتي ما حكاه مكي عن الفراء مِنْ جواز نصبِه لمَدْرَكٍ آخرَ على أنها قراءةٌ منقولة [عن الفرَّاء].
وأمَّا قراءةُ الباقين ففيها أوجهٌ أيضاً، أحدها: أن تكون «ما» بمعنى الذي في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و «جئتم به» صلةٌ وعائدُه، و «السحرُ» خبرهُ، والتقدير: الذي جئتم به السحرُ، ويؤيِّد هذا التقديرَ قراءةُ أُبَيّ وما في مصحفه: ﴿ما أتيتم به سحرٌ﴾ وقراءةُ عبد الله والأعمش ﴿مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر﴾.
الثاني: أن تكونَ «ما» استفهاميةً في محلِّ نصبٍ بإضمارِ فعل على ما تقرَّر، و «السحر» خبر ابتداء مضمر أو مبتدأٌ مضمرُ الخبر. الثالث: أن تكونَ «ما»
250
في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و «السحر» على ما تقدَّم مِنْ كونِه مبتدأً أو خبراً، والجملةُ خبر «ما» الاستفهامية. قال الشيخ بعدما ذكر الوجه الأول: «ويجوز عندي أن تكونَ في هذا الوجهِ استفهاميةً في موضع رفع بالابتداء، أو في موضع نصبٍ على الاشتغال، وهو استفهامٌ على سبيل التحقيرِ والتقليلِ لِما جاؤوا به، و» السحر «خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: هو السحر».
قلت: ظاهرُ عبارتِه أنه لم يَرَه غيرُه، حيث قال «عندي»، وهذا قد جوَّزه أبو البقاء ومكي. قال أبو البقاء: لمَّا ذكر قراءة غير أبي عمرو «ويُقرأ بلفظِ الخبر، وفيه وجهان»، ثم قال: «ويجوزُ أن تكونَ» ما «استفهاماً، و» السحر «خبر مبتدأ محذوف». وقال مكي في قراءةِ غيرِ أبي عمرو بعد ذِكره كونَ «ما» بمعنى الذي: «ويجوز أن تكونَ» ما «رفعاً بالابتداء وهي استفهامُ، و» جئتم به «الخبر، و» السحر «خبرُ مبتدأ محذوف، أي: هو السحر، ويجوز أن تكونَ» ما «في موضعِ نصبٍ على إضمارِ فعلٍ بعد» ما «تقديرُه: أيُّ شيء جئتم [به]، و» السحرُ «خبر ابتداء محذوف».
الرابع: أن تكونَ هذه القراءةُ كقراءة أبي عمرو في المعنى، أي: إنها على نيةِ الاستفهام، ولكن حُذِفَتْ أداتُه للعلم بها، قال أبو البقاء: «ويُقرأ بلفظِ الخبر، وفيه وجهان، أحدُهما: أنه استفهامٌ في المعنى أيضاً: وحُذِفَتْ الهمزةُ للعِلْم بها»، وعلى هذا الذي ذكره يكونُ الإِعرابُ على ما تقدم. واعلم أنَّك إذا جَعَلْتَ «ما» موصولةً بمعنى الذي امتنع نصبُها بفعلٍ مقدرٍ على الاشتغال. قال مكي: «ولا يجوز أن تكونَ» ما «بمعنى الذي في
251
موضعِ نصبٍ لأن ما بعدها صلتُها، والصلةُ لا تعملُ في الموصول، ولا يكون تفسيراً للعامل في الموصول»، وهو كلامٌ صحيح، فتلخَّص من هذا أنها إذا كانَتْ استفهاميةً جاز أن تكونَ في محل رفع أو نصب، وإذا كانت موصولةً تعيَّن أن يكون مَحَلُّها الرفع بالابتداء.
وقال مكي: «وأجاز الفراءُ نصبَ» السحر «، تجعل» ما «شرطاً، وتنصِبُ» السحرَ «على المصدر، وتضمرُ الفاء مع» إن الله سيُبْطِله «، وتجعلُ الألفَ واللامَ في» السحر «زائدتين، وذلك كلُّه بعيدٌ، وقد أجاز علي ابن سليمان حَذْفَ الفاءِ من جواب الشرط في الكلام، واستدلَّ على جوازه بقوله تعالى: / ﴿وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ [الشورى: ٣٠]، ولم يُجِزْه غيره إلا في ضرورة شعر». قلت: وإذا مَشَيْنا مع الفراء فتكون «ما» شرطاً يُراد بها المصدرُ، تقديره: أيَّ سحر جئتم به فإن الله سيبطله، ويُبَيِّن أن «ما» يراد بها السحر قولُه: «السحر»، ولكن يَقْلَقُ قولُه: «إن نصب» السحر «على المصدرية»، فيكون تأويله أنه منصوبٌ على المصدرِ الواقعِ موقعَ الحال، ولذلك قدَّره بالنكرة، وجَعَلَ أل مزيدةً منه.
وقد نُقِلَ عن الفراء أن هذه الألف واللام للتعريف، وهو تعريف العهد، قال الفراء: «وإنما قال» السحر «بالألف واللام لأنَّ النكرةَ إذا أُعيدت أعيدَتْ بالألِفِ واللام»، يعني أن النكرةَ قد تَقَدَّمَتْ في قوله: ﴿إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ﴾، وبهذا شَرَحَه ابنُ عطية. قال ابن عطية: «والتعريفُ هنا في»
252
السحر «أَرْتَبُ لأنه قد تقدَّم منكَّراً في قولهم:» إنَّ هذا لسِحْر «، فجاء هنا بلام العهد، كما يقال أول الرسالة» سلامٌ عليك «. قال الشيخ:» وما ذكراه هنا في «السحر» ليس مِنْ تقدُّم النكرة، ثم أخبر عنها بعد ذلك، لأنَّ شَرْطَ هذا أن يكون المعرَّفُ بأل هو المنكَّرَ المتقدَّمَ، ولا يكون غيره، كقوله تعالى: ﴿كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول﴾ [المزمل: ١٥-١٦]، وتقول: «زارني رجلٌ فأكرمت الرجل» لَمَّا كان إياه جاز أن يُؤْتى بضميره بَدَلَه، فتقول: فأكرمتُه، والسحرُ هنا ليس هو السحرَ الذي في قولهم: «إنَّ هذا لسحر» لأن الذي أخبروا عنه بأنه سحرٌ هو ما ظهر على يَدَي موسى من معجزة العصا والسحر الذي في قولِ موسى، إنما هو سحرهم الذي جاؤوا به، فقد اختلف المدلولان، إذ قالوا هم عن معجزة موسى، وقال موسى عَمَّا جاؤوا به، ولذلك لا يجوز أن يُؤْتى هنا بالضمير بدلَ السحر، فيكونَ عائداً على قولهم: «لسِحْر».
قلت: والجوابُ أن الفراء وابن عطية إنما أراد السحر المتقدمَ الذِّكر في اللفظ، وإن كان الثاني هو غيرَ عينِ الأول في المعنى، ولكن لمَّا أُطْلِق عليهما لفظ «السحر» جاز أن يُقال ذلك، ويدلُّ على هذا أنهم قالوا في قوله تعالى: ﴿والسلام عَلَيَّ﴾ [مريم: ٣٣] : إن الألفَ واللام للعهد لتقدُّم ذكر السلام في قوله تعالى: ﴿وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ﴾ [مريم: ١٥]، وإن كان السلامُ الواقعُ على عيسى هو غيرَ السلام الواقع على يحيى، لاختصاص كلِّ سلام بصاحبه من حيث اختصاصُه به، وهذا النقل المذكورُ عن الفراء في الألف واللام ينافي ما نَقَله عنه مكيٌّ فيهما،
253
اللهم إلا أن يُقال: يُحتمل أن يكونَ له مقالتان، وليس ببعيدٍ فإنه كلما كَثُر العلمُ اتسعت المقالاتُ.
وقوله: ﴿المفسدين﴾ مِنْ وقوع الظاهرِ موقعَ ضمير المخاطب إذ الأصلُ: لا يُصلح عملَكم، فأبرزهم في هذه الصفةِ الذَّميمةِ شهادةً عليهم بها.
254
وقرىء «بكلمته» بالتوحيد، وقد تقدَّم نظيرُه.
قوله تعالى: ﴿فَمَآ آمَنَ﴾ : الفاءُ للتعقيب، وفيها إشعارٌ بأن إيمانَهم لم يتأخر عن الإِلقاء، بل وقع عقيبه، لأنَّ الفاءَ تفيد ذلك، وقد تقدَّم توجيهُ تَعْدِيةِ «آمن» باللام. والضمير في «قومه» فيه وجهان، أحدهما: وهو الظاهرُ عودُه على موسى لأنه هو المحدَّث عنه، ولأنه أقربُ مذكورٍ، ولو عاد على فرعون لم يكرِّر لفظَه ظاهراً، بل كان التركيب «على خوفٍ منه»، وإلى هذا ذهب ابنُ عباس وغيرُه.
والثاني: أنه يعود على فرعون، ويُروى عن ابن عباس أيضاً، ورَجَّح ابنُ عطية هذا، وضَعَّف الأول فقال: «ومما يُضَعِّف عودَ الضمير على موسى أن المعروفَ من أخبارِ بني إسرائيل أنهم كانوا قد فَشَتْ فيهم النبواتُ، وكانوا قد نالهم ذلٌّ مُفْرِط، وكانوا يَرْجُوْن كَشْفَه بظهورِ مولود، فلمَّا جاءهم موسى أَصْفقوا عليه وتابعوه، ولم يُحْفَظ أن طائفةً من بني إسرائيل كفرت بموسى، فكيف تعطي هذه الآيةُ أنَّ الأقلَ منهم كان الذي آمن؟، فالذين يَتَرَجَّح عَوْدُه على فرعون، ويؤيِّده أيضاً ما تقدَّم مِنْ محاورة/ موسى ورَدِّه عليهم وتوبيخهم».
254
قوله: ﴿على خَوْفٍ﴾ حال، أي: آمنوا كائنين على خوف، والضمير في «وملئهم» فيه أوجه، أحدُها: أنه عائدٌ على الذرِّيَّة، وهذا قولُ أبي الحسن واختيارُ ابن جرير، أي: خوفٍ من مَلأَ الذرية، وهم أشرافُ بني إسرائيل.
الثاني: أنه يعودُ على قومِه بوجهيه، أي: سواءٌ جَعَلْنا الضمير في «قومه» لموسى أو لفرعون، أي: وملأ قوم موسى أو ملأ قوم فرعون.
الثالث: أن يعودَ على فرعون، واعتُرِضَ على هذا بأنه كيف يعودُ ضميرُ جمعٍ على مفرد؟ وقد اعتذر أبو البقاء عن ذلك بوجهين، أحدُهما: أنَّ فرعونَ لمَّا كان عظيماً عندهم عاد الضمير عليه جميعاً، كما يقول العظيم، نحن نأمرُ، وهذا فيه نظرٌ، لأنه لو وَرَدَ ذلك مِنْ كلامهم مَحْكيَّاً عنهم لاحتمل ذلك. والثاني: أنَّ فرعونَ صار اسماً لأتباعه، كما أن ثمودَ اسمٌ للقبيلة كلها «. وقال مكي وجهين آخرين قريبين من هذين، ولكنهما أخلصُ منهما، قال:» إنما جُمع الضميرُ في «مَلَئهم» لأنه إبخار عن جبّار، والجبَّار يُخْبَر عنه بلفظِ الجمع، وقيل: لَمَّا ذُكِرَ فرعونُ عُلِمَ أنَّ معه غيرَه، فَرَجَع الضميرُ عليه وعلى مَنْ معه «. قلت: وقد تقدَّم نحوٌ مِنْ هذا عند قوله: ﴿الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس﴾ [آل عمران: ١٧٣]، والمرادُ بالقائل نعيم بن مسعود، لأنه لا يَخْلو من مُساعدٍ له على ذلك القول.
الرابع: أنْ يعودَ على مضافٍ محذوف وهو آل، تقديره: على خوفٍ مِنْ آل فرعون ومَلَئهم، قاله الفراء، كما حُذِف في قوله
﴿وَسْئَلِ القرية﴾ [يوسف: ٨٢].
255
قال أبو البقاء بعد أن حكى هذا ولم يَعْزُه لأحد: «وهذا عندنا غَلَط، لأنَّ المحذوفَ لا يعود إليه ضمير، إذ لو جاز ذلك لجاز أن يقول:» زيد قاموا «وأنت تريد» غلمان زيد قاموا «. قلت: قوله» لأن المحذوف لا يعودُ إليه ضمير «ممنوعٌ، بل إذا حُذِف مضافٌ فللعرب فيه مذهبان: الالتفاتٌ إليه وعَدَمُه وهو الأكثر، ويدل على ذلك أنه قد جَمَع بين الأمرين في قوله ﴿وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا﴾ [الأعراف: ٤] أي: أهل قريةٍ، ثم قال:» أو هم قائلون «وقد حَقَّقْتُ ذلك في موضعِه المشارِ إليه. وقوله:» لجاز زيد قاموا «ليس نظيرَه، فإنَّ فيه حَذْفاً من غيرِ دليلٍ بخلاف الآية.
وقال الشيخ بعد أن حكى كلامَ الفراء»
ورُدَّ عليه بأن الخوفَ يُمكن مِنْ فرعون، ولا يمكن سؤالُ القرية، فلا يُحْذَفُ إلا ما دلَّ عليه الدليل، وقد يقال: ويَدُلُّ على هذا المحذوفِ جَمْعُ الضمير في «ومَلَئهم». قلت: يعني أنهم رَدُّوا على الفراء بالفرق بين ﴿وَسْئَلِ القرية﴾ وبين هذه الآيةِ بأنَّ سؤالَ القرية غيرُ ممكنٍ فاضْطُرِرْنا إلى تقدير المضاف بخلاف الآية، فإن الخوف تَمَكَّن مِنْ فرعونَ فلا اضطرارَ بنا يَدُلُّنا على مضاف محذوف. وجوابُ هذا أنَّ الحَذْفَ قد يكون لدليلٍ عقلي أو لفظي، على أنه قيل في «واسأل القرية» إنه حقيقةٌ، إذ يمكنُ النبيُّ أن يسألَ القريةَ فتجيبَه.
الخامس: أن ثمَّ معطوفاً محذوفاً حُذِف للدلالة عليه، والدليلُ كونُ المَلِك لا يكونُ وحدَه، بل له حاشية وعساكر وجندٌ، فكان التقدير: على خَوْفٍ مِنْ فرعون وقومه ومَلَئهم، أي: ملأ فرعون وقومه، وهو منقولٌ عن الفراء أيضاً. قلت: حَذْفُ المعطوفِ قليلٌ في كلامهم، ومنه عند بعضهم
256
قولُه تعالى ﴿تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: ٨١] أي: والبرد، وقول الآخر:
٢٦١٩ - كأن الحصى مِنْ خلفها وأمامِها إذا حَذَفَتْه رِجْلُها حَذْفُ أَعْسَرا
أي: ويدُها.
قوله: ﴿أَن يَفْتِنَهُمْ﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه في محلِّ جرٍ على البدل مِنْ «فرعون»، وهو بدلُ اشتمالٍ تقديره: على خوفٍ من فرعون فِتْنَتِه كقولك: «أعجبني زيد علْمُه». الثاني: أنه في موضعِ نصبٍ على المفعول به بالمصدر أي: خوفٍ فتنتَه، وإعمالُ المصدرِ المنوَّنِ كثيرٌ كقوله: ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً﴾ [البلد: ١٤-١٥]. وقولِ الآخر:
٢٦٢٠ - فلولا رجاءُ النصرِ منك ورَهْبَةٌ عقابَك قد كانوا لنا بالمَوارد
الثالث: أنه منصوبٌ على المفعول من أجله بعد حَذْفِ اللام، ويَجْري فيها الخلافُ المشهورُ.
وقرأ الحسن ونبيح «يُفْتِنَهم» بضمِّ الياء وقد تقدَّم ذلك.
و «في الأرض» متعلقٌ ب «عالٍ» أي: قاهر فيها أو ظالم كقوله:
٢٦٢١ - فاعمِدْ لِما تَعْلُوا فمالك بالذي لا تَسْتطيع من الأمور يَدانِ
أي: لِما تَقْهر. ويجوز أن يكون «في الأرض» متعلقاً بمحذوف لكونه صفة ل «عالٍ» فيكون مرفوع المحل، ويُرَجِّح الأولَ قولُه: ﴿وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض﴾.
257
قوله تعالى: ﴿إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله فَعَلَيْهِ تَوَكَّلوا﴾ : جوابُ الشرط الأول، والشرطُ الثاني وهو إن كنتم مسلمين شرطٌ في الأول، وذلك أن الشرطين متى لم يترتبا في الوجود فالشرطُ الثاني شرطٌ في الأول، ولذلك يجب تقدُّمُه على الأول، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك.
قوله تعالى: ﴿أَن تَبَوَّءَا﴾ : يجوز في «أَنْ» أن تكون المفسِّرة؛ لأنه قد تقدَّمها ما هو بمعنى القول وهو الإِيحاء، ويجوز أن تكونَ المصدريةَ فتكونَ في موضع نصب بأوحينا مفعولاً به أي: أَوْحَيْنا إليهما التبوُّءَ.
والجمهورُ على الهمزة في «تبوَّآ». وقرأ حفص «تَبَوَّيا» بياءٍ خالصة، وهي بدلٌ عن الهمزة، وهو تخفيفٌ غيرُ قياسي، إذ قياسُ تخفيفِ مثلِ هذه الهمزة أن تكونَ بين الهمزة والألف، وقد أنكر هذه الروايةَ عن حفص جماعةٌ من القراء، وقد خَصَّها بعضُهم بحالةِ الوقف، وهو الذي لم يَحْكِ أبو عمرو الداني والشاطبي غيرَه. وبعضُهم يُطْلق إبدالَها عنه ياءً وصلاً ووقفاً، وعلى الجملةِ فهي قراءةٌ ضعيفة في العربية وفي الرواية، وتركتُ نصوصَ أهل القراءة خوفَ السآمة، واستغناءً بما وضَعْتُه في «شرح القصيد».
والتبوُّءُ: النزولُ والرجوعُ، وقد تقدَّم تحقيق المادة في قوله ﴿تُبَوِّىءُ المؤمنين﴾ [آل عمران: ١٢١].
قوله: ﴿لِقَوْمِكُمَا﴾ يجوزُ أن تكونَ اللامُ زائدةً في المفعول الأول، و «بيوتاً» مفعولٌ ثان بمعنى بَوِّآ قومكما بيوتاً، أي: أنْزِلوهم، وفَعَّل وتفعَّل بمعنىً مثل «عَلَّقَها» و «تَعَلَّقها» قاله أبو البقاء. وفيه ضعفٌ من حيث إنه
258
زِيدت اللام، والعاملُ غير فرع، ولم يتقدَّم المعمول. الثاني: أنها غير زائدة، وفيها حينئذ وجهان، أحدهما: أنها حالٌ من «البيوت». والثاني: أنها وما بعدها مفعول «تَبَوَّآ».
قوله: ﴿بِمِصْرَ﴾ جَوَّز فيه أبو البقاء أوجهاً، أحدها: أنه متعلِّق ب «تَبَوَّآ»، وهو الظاهرُ. الثاني: أنه حالٌ من ضمير «تبوَّآء»، واستضعفه، ولم يبيِّن وجهَ ضعفهِ لوضوحه. الثالث: أنه حالٌ من «البيوت». الرابع: أنه حالٌ من «لِقومكما»، وقد ثنى الضميرَ في «تبوَّآ» وجمع في قوله «واجعلوا» و «أقيموا»، وأفرد في قوله: «وبشِّر» ؛ لأن الأولَ أمرٌ لهما، والثاني لهما ولقومهما، والثالث لموسى فقط؛ لأن أخاه تَبَعٌ له، ولمَّا كان فِعْلُ البِشارة شريفاً خَصَّ به موسى لأنه هو الأصل.
259
قوله تعالى: ﴿لِيُضِلُّواْ﴾ : في هذه اللامِ ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنها لامُ العلة، والمعنى: أنك أتيتَهم ما أتيتهم على سبيل الاستدراج فكان الإِيتاءُ لهذه العلة. والثاني: أنها لام الصيرورة والعاقبة كقوله: ﴿فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً﴾ [القصص: ٨]. وقولِه:
٢٦٢٢ - لِدُوا للموت وابنُوا للخراب .................
وقولِه:
259
وقوله:
٢٦٢٣ - فللموتِ تَغْذو الوالداتُ سِخالَها كما لخرابِ الدُّوْرِ تُبْنَى المساكنُ
٢٦٢٤ - وللمنايا تُرَبِّى كلُّ مُرْضِعَةٍ وللخرابِ يَجِدُّ الناسُ عِمْرانا
والثالث: أنها للدعاء عليهم بذلك، كأنه قال: ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال وليكونوا ضُلاَّلاً، وإليه ذهب الحسن البصري وبدأ به الزمخشري. وقد استُبْعِد هذا التأويلُ بقراءة الكوفيين «ليُضِلُّوا» بضم الياء فإنه يَبْعُد أن يَدْعُوَ عليهم بأن يُضِلُّوا غيرهم، وقرأ الباقون بفتحها، وقرأ الشعبي بكسرها، فوالى بين ثلاث كسَرات إحداها في ياء. وقرأ [أبو] الفضل الرياشي «أإنك أَتَيْتَ» على الاستفهام. وقال الجبائي: إنَّ «لا» مقدرةٌ بين اللام والفعل تقديره: لئلا يَضِلوا «، ورأيُ البصريين في مثل هذا تقديرُ» كراهةَ «أي: كراهة أن يَضِلُّوا.
قوله: ﴿فَلاَ يُؤْمِنُواْ﴾ يحتمل النصبَ والجزم، فالنصب من وجهين، أحدُهما: عطفُه على»
ليضلُّوا «. والثاني: نصبه على جواب الدعاء في قوله» اطمِسْ «. والجزم على أنَّ» لا «للدعاء كقولك:» لا تعذِّبْني يا رب «وهو قريبٌ من معنى» ليُضلوا «في كونِه دعاءً، هذا في جانب شبه النهي، وذلك في جانب شبه الأمر، و» حتى يَرَوا «غايةٌ لنفي إيمانهم، والأول قول الأخفش،
260
والثاني بدأ به الزمخشري، والثالث قول الكسائي والفراء، وأنشد قولَ الشاعر:
٢٦٢٥ - فلا يَنْبَسِطْ من بين عينِك ما انزوى ولا تَلْقَني إلا وأنفُكَ راغِمُ
وعلى القول بأنه معطوفٌ على» ليَضِلُّوا «يكون ما بينهما اعتراضاً.
261
قوله تعالى: ﴿أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا﴾ : الضمير لموسى وهرون، وفي التفسير: كان موسى يدعو وهرون يُؤَمِّن، فنسب الدعاء إليهما. وقال بعضُهم: المرادُ موسى وحدَه، ولكن كنى عن الواحد بضمير الاثنين. وقرأ السلميُّ والضحاك «دَعَواتكما» على/ الجمع. وقرأ ابن السَّمَيْفَع «قد أَجَبْتُ دعوتكما» بتاء المتكلم وهو الباري تعالى، و «دعوتَكما» نصب على المفعول به. وقرأ الربيع «أَجَبْتُ دَعْوَتَيْكما» بتاء المتكلم أيضاً. ودَعْوَتَيْكما تثنيةٌ، وهي تدلُّ لمن قال: إن هرون شارك موسى في الدعاء.
قوله: ﴿وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ﴾ قرأ العامة بتشديد التاء والنون، وقرأ حفص بتخفيف النونِ مكسورةً مع تشديد التاء وتخفيفها، وللقُرَّاء في ذلك كلامٌ مضطربٌ بالنسبة للنقل عنه. فأمَّا قراءةُ العامَّة ف «لا» فيها للنهي ولذلك أَكَّد الفعلَ بعدها، ويَضْعُف أن تكونَ نافيةً لأنَّ تأكيدَ المنفيِّ ضعيفٌ، ولا ضرورة
261
بنا إلى ادِّعائه، وإن كان بعضُهم قد ادعى ذلك في قولِه: ﴿لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ﴾ [الأنفال: ٢٥] لضرورةٍ دَعَتْ إلى ذلك هناك، وقد تقدَّم تحريرُه ودليلُه في موضعه، وعلى الصحيح تكون هذه جملةَ نهيٍ معطوفةً على جملة أمر.
وأمَّا قراءة حفص ف «لا» تحتمل أن تكون للنفي وأن تكونَ للنهي. فإن كانت للنفي كانت النونُ نونَ رفعٍ، والجملةُ حينئذٍ فيها أوجه، أحدُها: أنها في موضع الحال أي: فاستقيما غيرَ مُتَّبِعَيْنِ، إلا أنَّ هذا معترَض بما قَدَّمْتُه غيرَ مرة مِنْ أنَّ المضارع المنفي ب «لا» كالمثبت في كونِه لا تباشره واوُ الحال، إلا أنْ يُقَدَّر قبلَه مبتدأ فتكونَ الجملةُ اسميةً أي: وأنتما لا تَتَّبعان. والثاني: أنه نفيٌ في معنى النهي كقولِه تعالى: ﴿لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله﴾ [البقرة: ٨٣]. الثالث: أنه خبرٌ محضٌ مستأنف لا تَعَلُّقَ له بما قبله، والمعنى: أنهما أُخْبِرا بأنهما لا يتَّبعانِ سبيل الذين لا يعلمون، وإن كانت للنهي كانت النونُ للتوكيد، وهي الخفيفة، وهذا لا يَراه سيبويه والكسائي، أعني وقوعَ النونِ الخفيفة بعد الألف، سواءً كانت الألفُ ألفَ تثنية أو ألفَ فصلٍ بين نونِ الإِناث ونونِ التوكيد نحو: «هل تَضْرِبْنان يا نسوة». وقد أجاز يونس والفراء وقوعَ الخفيفةِ بعد الألف وعلى قولِهما تتخرَّج القراءةُ. وقيل: أصلُها التشديد وإنما خُفِّفت للثقل فيها كقولهم: «رُبَ» في «رُبَّ». وأمَّا تشديدُ التاء وتخفيفُها فلغتان مِن اتَّبع يَتَّبع وتَبع يَتْبَع، وقد تقدم هل هما بمعنى واحد أو مختلفان في المعنى؟ وملخصُه أنَّ تَبِعه بشيءٍ: خَلَفه، واتَّبَعَه كذلك، إلا أنه حاذاه في المَشْي، وأَتْبعه: لحقه.
262
قوله تعالى: ﴿وَجَاوَزْنَا ببني﴾ : قد تقدَّم الكلام فيه. وقرأ الحسن «وجَوَّزْنا» بتشديدِ الواو، قال الزمخشري: «وجَوَّزْنا: مِنْ أجاز المكان وجاوَزَه وجَوَّزه، وليس مِنْ جَوَّز الذي في بيت الأعشى:
٢٦٢٦ - وإذا تُجَوِّزُها حبالُ قبيلة أَخَذْتَ من الأخرى إليك حبالَها
لأنه لو كان منه لكان حَقُّه أن يقال: وجَوَّزْنا بني إسرائيل في البحر كما قال:
٢٦٢٧ -................... كما جَوَّز السَّكَّيَّ في الباب فَيْتَقُ
يعني أن فَعَّل بمعنى فاعَلَ وأَفْعَل، وليس التضعيفُ للتعدية، إذ لو كان كذلك لتعدَّى بنفسه كما في البيت المشار إليه دون الباء.
وقرأ الحسن»
فاتَّبَعَهُم «بالتشديد، وقد تقدم الفرق.
قوله: ﴿بَغْياً وَعَدْواً﴾ يجوز أن يكونا مفعولين مِنْ أجلهما أي: لأجلِ البَغْي والعَدْوِ، وشروطُ النصب متوفرةٌ، ويجوزُ أن يكونا مصدرين في موضع الحال أي: باغين متعدِّين. وقرأ الحسن»
وعُدُوَّاً «بضم العين والدال المشددة، وقد تقدَّم ذلك في سورة الأنعام.
263
قوله: ﴿حتى إِذَآ﴾ غايةٌ لاتِّباعه.
قوله: ﴿آمَنتُ أَنَّهُ﴾ قرأ الأخَوان بكسر إنَّ وفيها أوجه، أحدها: أنها استئنافُ إخبار، فلذلك كُسِرت لوقوعِها ابتداءَ كلام. والثاني: أنه على إضمار القول أي: فقال إنه، ويكون هذا القولُ مفسراً لقوله آمنت. والثالث: أن تكون هذه الجملةُ بدلاً من قوله:» آمنت «، وإبدالُ الجملةِ الاسمية من الفعلية جائزٌ لأنها في معناها، وحينئذ تكون مكسورةً لأنها محكيَّة ب» قال «هذا الظاهر. والرابع: أن» آمنتُ «ضُمِّن معنى القول لأنه قولٌ. وقال الزمخشري:» كَرَّر المخذولُ المعنى الواحدَ ثلاثَ مرات في ثلاث عبارات حِرْصاً على القبول «يعني أنه قال:» آمنتُ «، فهذه مرة، وقال: ﴿أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ﴾ فهذه ثانيةٌ، وقال: ﴿وَأَنَاْ مِنَ المسلمين﴾ فهذه ثالثةٌ، والمعنى واحد» وهذا جنوحٌ منه إلى الاستئنافِ في «إنه».
وقرأ الباقون بفتحِها وفيها أوجهٌ أيضاً، أحدُها: أنها في محلِّ نصب على المفعولِ به أي: آمَنْتُ توحيدَ، لأنه بمعنى صدَّقْتُ. الثاني: أنها في موضع نصبٍ بعد إسقاط الجارِّ أي: لأنه. الثالث: أنها في محل جر بذلك الجارِّ وقد عَرَفْتَ ما فيه من الخلاف.
264
قوله تعالى: ﴿الآنَ﴾ : منصوبٌ بمحذوفٍ أي: آمنْتَ الآن، أو/ أتؤمن الآن. وقوله: «وقد عَصَيْتَ» جملةٌ حالية، وقد تقدَّم نظيرُ ذلك قريباً.
قوله: ﴿بِبَدَنِكَ﴾ فيه وجهان، أحدُهما: أنها باءُ المصاحبةِ بمعنى مصاحباً لبدنك وهي الدِّرْع، وفي التفسير: لم يُصَدِّقوا بغرقه، وكانت له دِرْعُ تُعْرَفُ
264
فأُلقي بنَجْوة من الأرض وعليه دِرْعُه ليعرفوه، والعربُ تطلِقُ البدنَ على الدرع، قال عمرو بن معد يكرب:
٢٦٢٨ - أعاذِلُ شِكَّتي بدني وسيفي وكلّ مُقَلَّصٍ سَلِس القِيادِ
وقال آخر:
٢٦٢٩ - ترى الأبْدانَ فيها مُسْبَغَاتٍ على الأبطالِ واليَلَبَ الحصينا
وقيل: ببدنك أي عُرْيانَ لا شيءَ عليه، وقيل: بدناً بلا روح.
والثاني: أن تكونَ سببيةً على سبيل المجاز؛ لأنَّ بدنه سبب في تنجيته، وذلك على قراءةِ ابن مسعود وابن السَّمَيْفَع «بندائك» من النداء وهو الدعاءِ أي: بما نادى به في قومه من كفرانه في قولِه ﴿ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ﴾ [الزخرف: ٥١] ﴿فَحَشَرَ فنادى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى﴾ [النازعات: ٢٣-٢٤] ﴿ياأيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي﴾ [القصص: ٣٨].
وقرأ يعقوب «نُنْجِيْك» مخففاً مِنْ أنجاه. وقرأ أبو حنيفة «بأبدانك» جمعاً: إمَّا على إرادة الأدْراع لأنه كان يلبس كثيراً منها خوفاً على نفسِه، أو جعل
265
كلَّ جزء مِنْ بدنه بدناً كقوله: «شابت مَفارِقُه» قال:
٢٦٣٠ -......................... شابَ المَفارِقُ واكتَسَيْنَ قَتِيرا
وقرأ ابن مسعود وابن السَّمَيْفَع ويزيد البربري «نُنَحِّيْكَ» بالحاء المهملةِ من التَّنْحِيَة أي: نُلْقيك بناحيةٍ فيما يلي البحر، وفي التفسير: أنَّه رماه إلى ساحل البحر كالثور. وهل ننجِّيك من النجاة بمعنى نُبْعدك ممَّا وقع فيه قومُك مِنْ قعر البحر وهو تهكُّم بهم، أو مِنْ ألقاه على نَجْوة أي: رَبْوة مرتفعة، أو مِن النجاة وهو التَّرْكُ أو من النجاء وهو العلامة، وكلُّ هذه معانٍ لائقة بالقصة. والظاهر أن قوله: «فاليوم نُنَجِّيك» خبرٌ محض. وزعم بعضهم أنه على نية همزةِ الاستفهام وفيه بُعْدٌ لحَذْفِها من غيرِ دليل، ولأنَّ التعليلَ بقوله «لتكونَ» لا يناسب الاستفهام.
و «لتكون» متعلِّقٌ ب «نُنَجِّيك» و «آية» أي: علامة، و «لمَنْ خلفك» في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ «آية» لأنه في الأصلِ صفةٌ لها.
266
وقوله تعالى: ﴿مُبَوَّأَ صِدْقٍ﴾ : يجوز أن يكونَ منصوباً على المصدر تقديرُه: بَوَّأناهم مُبَوَّأ صِدْقٍ، وأن يكونَ مكاناً أي: مكان تبوُّء صدق. وقرىء «لمَنْ خَلَفَك» بفتح اللام جعله فعلاً ماضياً، والمعنى: لمَنْ خَلَفَك
266
من الجبابرة ليتَّعِظوا بذلك. وقرىء «لمَنْ خَلَقَك» بالقاف فعلاً ماضياً وهو الله تعالى أي: ليجعلك الله آيةً في عباده. ويجوز أن ينتصب «مُبَّوَّأ» على أنه مفعولٌ ثانٍ كقولِه تعالى: ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً﴾ أي: لنُنْزِلَنَّهُمْ.
267
قوله تعالى: ﴿فَإِن كُنتَ﴾ : في «إنْ» هذه وجهان، الظاهر منهما: أنها شرطيةٌ، ثم استشكلوا على ذلك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكنْ في شك قط. قال الزمخشري: «فإن قلت كيف قال لرسوله: ﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ﴾ مع قوله للكفرة: ﴿وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ﴾ [هود: ١١٠] ؟ قلت: فرقٌ عظيم بين إثباته الشكَّ لهم على سبيل التوكيد والتحقيق، وبين قوله:» فإن كنت «بمعنى الفَرَض والتمثيل». وقال الشيخ: «وإذا كانت شرطيةً فقالوا: إنها تدخُل على الممكنِ وجودُه أو المحقَّقِ وجودُه المبهمِ زمنُ وقوعِه كقوله تعالى: ﴿أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون﴾ [الأنبياء: ٣٤]. قال» والذي أقولُه إنَّ «إنْ» الشرطية تقتضي تعليق شيءٍ على شيء، ولا تستلزمُ تحتُّمَ وقوعِه ولا إمكانَه، بل قد يكون ذلك في المستحيل عقلاً كقولِه تعالى: ﴿إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين﴾ [الزخرف: ٨١]، ومستحيلٌ أن يكونَ له ولدٌ فكذلك [هذا]، مستحيلٌ أن يكون في شك، وفي المستحيل عادةً كقوله تعالى: ﴿فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأرض﴾ [الأنعام: ٣٥] لكنَّ وقوعَها في تعليق المستحيل قليلٌ «. ثم قال:» ولمَّا خَفِي هذا
267
الوجه على أكثر الناس اختلفوا في تخريج هذه الآية، فقال ابن عطية: «الصواب أنها مخاطبةٌ، والمرادُ مَنْ سواه مِنْ أمته ممَّن يمكن أن يَشُكَّ أو يعارِض». وقيل: كنى بالشك عن الضيق. وقيل: كنى به عن العجب، ووجه المجازِ فيه أن كلاً منهما فيه تَرَدُّد، وقال الكسائي: إنْ كنت في شك أنَّ هذا عادتُهم مع الأنبياء فَسَلْهُمْ كيف كان صبر موسى عليه السلام؟
الوجه الثاني مِنْ وجهي «إنْ» أنها نافية. قال الزمخشري: «أي: فما كنت في شك فاسأل، يعني لا نأمرك بالسؤال لكونِك شاكَّاً ولكن لتزداد يقيناً كما ازدادَ إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتى. وهذا القولُ سبقه إليه الحسنُ البصري والحسين بن الفضل وكأنه فرارٌ من الإِشكال المتقدِّم في جَعْلها شرطيةً، وقد تقدَّم جوابُه مِنْ وجوهٍ.
وقرأ يحيى وإبراهيم:»
يَقْرؤون الكتب «بالجمع، وهي مبينة أن المرادَ بالكتاب الجنسُ لا كتابٌ واحد.
268
قوله تعالى: ﴿فَلَوْلاَ﴾ :«لولا» هنا تحضيضية وفيها معنى التوبيخ، كقول الفرزدق:
٢٦٣١ - تَعُدُّون عقر النيبِ أفضلَ مَجْدِكُمْ بني ضَوْطَرى لولا الكَمِيَّ المقنَّعا
وفي مصحف أُبَي وعبد الله وقرأ كذلك «فهلاَّ» وهي نصُّ في التحضيض. و «كانت» هنا تامة، و «آمنَتْ» صفة لقرية، و «فَنَفَعَها» نسقٌ على الصفة.
268
قوله: ﴿إِلاَّ قَوْمَ﴾ فيه وجهان، أحدهما: أنه استثناء منقطعٌ وإليه ذهبَ سيبويه والكسائي والأخفش/ والفراء، ولذلك أدخله سيبويه في باب ما لا يكون فيه إلا النصبُ لانقطاعِه، وإنما كان منقطعاً؛ لأن ما بعد «إلا» لا يندرجُ تحت لفظ «قرية». والثاني: أنه متصل. قال الزمخشري: «استثناءٌ من القرى لأن المرادَ أهاليها، ويجوز أن يكون متصلاً، والجملةُ في معنى النفي كأنه قيل: ما آمنت قريةٌ من القرى الهالكة إلا قوم يونس».
وقال ابن عطية: «هو بحسب اللفظ استثناءٌ منقطع، وكذلك رسمه النحويون، وهو بحسبِ المعنى متصلٌ لأن تقديره: ما آمنَ أهل قريةٍ إلا قومَ يونس». قلت: وتقديرُ هذا المضافِ هو الذي صَحَّح كونَه استثناء متصلاً، وكذلك قال أبو البقاء ومكي وابن عطية وغيرهُم. وأمَّا الزمخشري فإن ظاهرَ عبارتِه أنَّ المصحِّحَ لكونه متصلاً كونُ الكلام في معنى النفي، وليس كذلك بل المسوِّغ كونُ القرى يراد بها أهاليها من بابِ إطلاق المحلِّ على الحالِّ، وهو أحد الأوجهِ المذكورة في قوله: ﴿وَسْئَلِ القرية﴾ [يوسف: ٨٢].
وقرأت فرقة: «إلا قومُ» بالرفع. قال الزمخشري «وقُرىء بالرفعِ
269
على البدل، رُوي ذلك عن الجرميّ والكسائي. وقال المهدوي:» والرفعُ على البدل من «قرية». فظاهر هاتين العبارتين أنها قراءةٌ منقولةٌ، وظاهرُ قول مكي وأبي البقاء أنها ليسَتْ قراءة، وإنما ذلك من الجائز، وجعلا الرفعَ على وجهٍ آخرَ غيرِ البدل وهو كونُ «إلا» بمعنى: «غير» في وقوعها صفةً. قال مكي: «ويجوزُ الرفعُ على أن تُجْعل» إلا «بمعنى» غير «صفةً للأهل المحذوفين في المعنى ثم يُعْرَبَ ما بعد» إلا «بإعراب» غير «لو ظهَرَتْ في موضع» إلا «. وقال أبو البقاء: وأظنه أخذه منه» ولو كان قد قُرىء بالرفع لكانت «إلا» فيه بمنزلة «غير» فتكون صفة «. وقد تقدم أن في نون يونس ثلاث قراءات قُرىء بها.
270
قوله تعالى: ﴿أَفَأَنتَ تُكْرِهُ﴾ : يجوز في «أنت» وجهان أحدهما: أن يرتفعَ بفعلٍ مقدرٍ مفسَّرٍ بالظاهر بعده وهو الأرجح؛ لأن الاسمَ قد ولي أداةً هي بالفعل أولى. والثاني: أنه مبتدأ والجملة بعده خبرُه، وقد عُرِف ما في ذلك من ذلك من كون الهمزة مقدمةً على العاطف أو ثَمَّ جملةٌ محذوفة كما هو رأي الزمخشري. وفائدة إيلاءِ الاسمِ للاستفهام إعلامٌ بأن الإِكراه ممكنٌ مقدورٌ عليه، وإنما الشأنُ في المُكْرِه مَنْ هو؟ وما هو إلا هو وحده لا يشاركه فيه غيرُه. و «حتى» غايةٌ للإِكراه.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ﴾ : كقوله: «أن
270
تموتَ» وقد تقدَّم ذلك في آل عمران.
قوله: ﴿وَيَجْعَلُ﴾ قرأ أبو بكر عن عاصم بنون العظمة. والباقون بياء الغيبة وهو الله تعالى. وقرأ الأعمش فصرَّح به ﴿ويجعل اللَّهُ الرِّجْزَ﴾ بالزاي دون السين، وقد تقدَّم هل هما بمعنى أو بينهما فرقٌ؟
271
قوله تعالى: ﴿مَاذَا فِي السماوات﴾ : يجوز أن يكون «ماذا» كله استفهاماً مبتدأ، و «في السموات» خبرُه أي: أيُّ شيءٍ في السموات؟ ويجوزُ أن تكونَ «ما» مبتدأً و «ذا» بمعنى الذي، و «في السموات» صلتُه وهو خبرُ المبتدأ، وعلى التقديرين فالمبتدأُ وخبرُه في محلِّ نصبٍ بإسقاط الخافضِ؛ لأن الفعلَ قبله مُعَلَّقٌ بالاستفهام، ويجوزُ على ضَعْفٍ أن يكونَ «ماذا» كله موصولاً بمعنى الذي وهو في محل نصب ب «انظروا». ووجهُ ضعفِه أنه لا يخلو: إمَّا أن يكونَ النظر بمعنى البصر فيعدى ب «إلى»، وإمَّا أن يكونَ قلبيَّاً فيعدَّى ب «في» وقد تقدَّم الكلام في «ماذا».
قوله: ﴿وَمَا تُغْنِي﴾، يجوز في «ما» أن تكون استفهامية، وهي واقعةٌ موقعَ المصدر أي: أيَّ غَناءٍ تُغْني الآيات؟ ويجوز أن تكونَ نافيةً، وهذا هو الظاهر. وقال ابن عطية: ويحتمل أن تكونَ «ما» في قوله: «وما تغني» مفعولةً بقوله: «انظروا»، معطوفةً على قوله: «ماذا» أي: تأمَّلوا قَدْر غَناء الآيات والنُّذُر عن الكفار «. قال الشيخ:» وفيه ضعفٌ، وفي قوله: «معطوفة على» ماذا «تجُّوزٌ، يعني أن الجملةَ الاستفهامية التي هي ﴿مَاذَا فِي السماوات﴾ في موضع
271
المفعول، إلا أن» ماذا «وحده منصوب ب» انظروا «فتكون» ماذا «موصولةً، و» انظروا «بصرية لما تقدم» يعني لِما تقدم مِنْ أنه لو كانت بصرية لتعدَّتْ ب «إلى».
و «النُّذُرُ» يجوز أن يكونَ جمعَ نذير، والمراد به المصدر فيكونَ التقدير: وما تُغْني الآيات والإِنذارات، وأن يكونَ جمعَ «نذير» مراداً به اسمَ الفاعل بمعنى مُنْذِر فيكون التقدير: والمنذرون وهم الرسل.
272
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي﴾ : قال الزمخشري: «هو معطوفٌ على كلامٍ محذوف يدلُّ عليه» إلا مثلَ أيامِ الذين خَلَوا من قبلهم «كأنه قيل: نُهْلك الأمم ثم ننجِّي رسلَنا، معطوفٌ على حكايةِ الأحوال الماضية.
قوله: ﴿كَذَلِكَ﴾ في هذه الكاف وجهان، أظهرهُما: أنه في محلِّ نصب تقديرُه: مثلَ ذلك الإِنجاء الذي نَجَّينا الرسلَ ومؤمنيهم ننجي مَنْ آمن بك يا محمد. والثاني: أنها في/ محل رفع على خبر ابتداء مضمر، وقدَّره ابن عطية وأبو البقاء بقولك: الأمر كذلك.
قوله: ﴿حَقّاً﴾ فيه أوجه، أحدها: أن يكون منصوباً بفعل مقدر أي: حَقَّ ذلك حقاً. والثاني: أن يكون بدلاً من المحذوف النائب عنه الكافُ تقديره: إنجاءً مثل ذلك حقاً والثالث: أن يكونَ»
كذلك «و» حقاً «منصوبين ب» نُنْجِ «الذي بعدهما. والرابع: أن يكونَ» كذلك «منصوباً ب» نُنَجِّي «
272
الأولى، و» حقاً «ب» نُنْج «الثانية. وقال الزمخشري:» مثلَ ذلك الإِنجاء ننجي المؤمنين منكم ونهلك المشركين، و «حَقّاً علينا» اعتراض، يعني حَقَّ ذلك علينا حقاً «.
وقرأ الكسائي وحفص»
نُنْجي المؤمنين «مخففاً مِنْ أنجى يقال: أنجى ونجى كأَبْدَلَ وبَدَّل، وجمهورُ القراء لم ينقلوا الخلافَ إلا في هذا دون قوله: ﴿فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ﴾ [يونس: ٩٢] ودونَ قوله: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا﴾. وقد نقل أبو علي الأهوازي الخلافَ فيهما أيضاً، ورُسِم في المصاحف» نُنْجِ «بجيمٍ دون ياء.
273
قوله تعالى: ﴿فَلاَ أَعْبُدُ﴾ : جواب الشرط، والفعل خبر ابتداء مضمر تقديره: فأنا لا أعبد، ولو وقع المضارعُ منفياً ب «لا» دون فاء لَجُزِمَ، ولكنه مع الفاءِ يُرْفَع على ما ذكرت لك، وكذا لو لم يُنْفَ ب «لا» كقولِه تعالى: ﴿وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ﴾ [المائدة: ٩٥]. أي: فهو ينتقم.
قوله: ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ﴾، قال الزمخشري: «أصله بأن أكونَ»، فحُذِفَ الجارُّ، وهذا الحذفُ يحتمل أن يكونَ مِنَ الحذف المطَّرد الذي هو حَذْفُ الحروفِ الجارَّةِ مع أَنْ [وأنَّ]، وأن يكونَ مِن الحذفِ غيرِ المطرد وهو قوله:
273
﴿فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ﴾ [الحجر: ٩٤]. قلت: يعني بغيرِ المطَّرد أنَّ حذفَ حرف الجر مسموعٌ في أفعالٍ لا يجوز القياسُ عليها وهي: أمر واستغفر، وقد ذكرتُها فيما تقدَّم، وأشار بقوله: «أمرتك» إلى البيت المشهور:
٢٦٣٢ - أَمَرْتُكَ الخيرَ............. ..........................
أَمَرْتُك الخيرَ فافعلْ ما أُمِرْت به ........................
وقد قاس ذلك بعضُ النحويين، ولكن يُشترط أن يتعيَّن ذلك الحرف ويتعيَّن موضعُه أيضاً، وهو رأي علي بن سليمان فيُجيز «بريتُ القلمَ السكين» بخلاف «صَكَكْت الحجرَ بالخشبة».
274
قوله تعالى: ﴿وَأَنْ أَقِمْ﴾ : يجوزُ أن يكونَ على إضمار فعل أي: وأُوحي إليَّ أَنْ أقم. ثم لك في «أنْ» وجهان، أحدهما: أن تكونَ تفسيريةً لتلك الجملةِ المقدرة، كذا قاله الشيخ وفيه نظرٌ، إذ المفسَّرُ لا يجوز حَذْفُه، وقد رَدَّ هو بذلك في موضعٍ غير هذا. والثاني: أن تكونَ المصدرية فتكون هي وما في حَيِّزها في محل رفع بذلك الفعل المقدر. ويحتمل أن تكون «أن» مصدريةً فقط، وهي على هذا معمولةٌ لقوله: «أمرْتُ» مراعى فيها معنى الكلام، لأنَّ قوله: «أن أكون» كونٌ من أكوان المؤمنين، ووصْلُ «أَنْ» بصيغة الأمرِ جائزٌ، وقد تقدم تحرير بذلك.
وقال الزمخشري: «فإن قلت: عَطْفُ قولِه:» وأَنْ أقم «على» أن أكونَ «فيه إشكالٌ؛ لأن» أنْ «لا تخلو: إمَّا أَنْ تكونَ التي للعبارة، أو التي تكونُ مع الفعل في تأويل المصدر، فلا يَصِحُّ أن تكونَ التي للعبارة وإن كان الأمر ممَّا يتضمَّن معنى القول؛ لأن عطفَها على الموصولة يأبى ذلك، والقولُ بكونِها موصولةً مثلَ الأولى لا يساعدُ عليه لفظُ الأمر وهو» أَقِمْ «؛ لأنَ الصلة
274
حقُّها أن تكونَ جملةً تحتمل الصدق والكذب. قلت: قد سَوَّغ سيبويه أن توصلَ» أنْ «بالأمر والنهي، وشَبَّهَ ذلك بقولهم:» أنت الذي تفعل «على الخطابِ لأن الغرضَ وَصْلُها بما تكونُ معه في تأويل المصدر، والأمرُ والنهيُ دالاَّن على المصدر دلالةَ غيرهما من الأفعال». قلت: قد قدَّمْتُ الإِشكال في ذلك وهو أنه إذا قُدِّرَتْ بالمصدرِ فاتت الدلالةُ على الأمر والنهي.
ورجَّح الشيخُ كونَها مصدريةً على إضمار فعل كما تقدم تقريره قال: «ليزولَ قَلَقُ العطفِ لوجود الكاف، إذ لو كان» وأنْ أَقِمْ «عطفاً على» أن أكون «لكان التركيب» وجهي «بياء المتكلم، ومراعاةُ المعنى فيه ضَعْفٌ، وإضمارُ الفعل أكثر».
قوله: ﴿حَنِيفاً﴾ يجوز أن يكونَ حالاً من «الذين»، وأن يكون حالاً من فاعل «أَقِمْ» أو مفعوله.
275
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَدْعُ﴾ : يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ استئنافيةً، ويجوز أن تكونَ عطفاً على جملة الأمر وهي: «أَقِمْ» / فتكونَ داخلةً في صلة «أنْ» بوجهيها، أعني كونَها تفسيريةً أو مصدريةً وقد تقدَّم تحريره. وقوله: ﴿مَا لاَ يَنفَعُكَ﴾ يجوز أن تكون نكرةً موصوفةً، وأن تكونَ موصولةً.
قوله: ﴿فَإِنَّكَ﴾ هو جواب الشرط و «إذن» حرفُ جوابٍ توسَّطت بين الاسمِ والخبر، ورُتْبَتُها التأخيرُ عن الخبر، وإنما وُسِّطَتْ رَعْياً للفواصل. وقال الزمخشري: «إذن» جواب الشرط وجوابٌ لسؤال مقدر، كأن سائلاً سأل عن تَبِعة عبادة الأوثان «. وفي جَعْله» إذن «جزاءً للشرط نظرٌ، إذ جوابُ الشرط محصورٌ في أشياءَ ليس هذا منها.
قوله تعالى: ﴿وَإِن يَمْسَسْكَ﴾ : قد تقدَّم ما في ذلك من صناعة البديع في سورة الأنعام. وقال هنا في جواب الشرط الأول بنفي عام وإيجاب، وفي جواب الثاني بنفي عام دونَ إيجاب، لأنَّ ما أراده لا يَرُدُّه رادٌّ، لا هو ولا غيره؛ لأن إرادتَه قديمةٌ لا تتغيَّر، فلذلك لم يَجِيْء التركيب فلا رادَّ له إلا هو، هذه عبارةُ الشيخ، وفيها نظرٌ، وكأنه يقول بخلاف الكشف فإنه هو الفاعل لذلك وحدَه دون غيره بخلافِ إرادته تعالى، فإنها لا يُتَصَوَّر فيها الوقوعُ على خلافها، وهي مسألةٌ خلافية بين أهل السنة والاعتزال. قال الزمخشري: «فإن قلت: لِمَ ذُكِر المَسُّ في أحدهما والإِرادةُ في الثاني؟ قلت: كأنه أراد أن يذكر الأمرين جميعاً: الإِرادة والإِصابة في كلِّ واحد من الضُّر والخير، وأنه لا رادَّ لِما يريده منهما، ولا مُزيلَ لما يُصيب به منهما، فأوجزَ الكلام بأنْ ذكرَ المَسَّ وهو الإِصابةُ في أحدهما والإِرادة في الآخر ليدلَّ بما ذَكَرَ على ما تَرَك، على أنه قد ذَكَر الإِصابة في الخير في قوله: ﴿يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ﴾.
وقوله تعالى: ﴿مِن رَّبِّكُمْ﴾ : يجوز أن يتعلَّقَ ب «جاءكم» و «مِنْ» لابتداء الغاية مجازاً، ويجوز أن يكونَ حالاً من «الحق».
قوله: ﴿فَمَنُ اهتدى﴾ «ومَنْ ضَلَّ» يجوز أن تكون «مَنْ» شرطاً، فالفاءُ واجبةُ الدخول، وأن تكونَ موصولةً فالفاءُ جائزتُه.
قوله: ﴿وَمَآ أَنَاْ﴾، يجوزُ أن تكون الحجازية أو التميميةَّ؛ لخفاء النصب في الخبر. وباقيها واضح.
Icon