مكية وآياتها ١٠٩
بعضها نزل بمكة وبعضها بالمدينة.
بسم الله الرحمان الرحيم
ﰡ
بعضها نزل بمكة، وبعضها بالمدينة
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢)قوله عز وجل: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ المراد ب الْكِتابِ: القرآن، والْحَكِيمِ: بمعنى مُحْكَم، ويمكن أنْ يكون: «حكيم» بمعنى ذي حكمة، فهو على النّسب.
وقوله عز وجل: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً... الآية: قال ابن عباس وغيره: سبب هذه الآية استبعاد قُرَيْش أَنْ يبعث اللَّه بشراً رسولاً «١»، والقَدَمُ هنا مَا قُدِّم، واختلف في المراد بها هاهنا، فقال ابنُ عبَّاس ومجاهد والضحاك وغيرهم: هي الأعمال الصَّالحات من العبادات «٢». وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة: هي شفاعة محمّد صلّى الله عليه وسلّم «٣»، وقال ابن عباس أيضاً وغيره: هي السعادةُ السَّابقة لهم في اللَّوْح المحفوظ «٤»، وهذا أليق الأقوال
(٢) أخرجه الطبري (٦/ ٥٢٧- ٥٢٨) برقم: (١٧٥٤٤، ١٧٥٤٧)، وذكره ابن عطية (٣/ ١٠٣)، والبغوي (٢/ ٣٤٣)، وابن كثير في «تفسيره» (٢/ ٤٠٦) كلهم بنحوه.
(٣) أخرجه الطبري (٦/ ٥٢٨) برقم: (١٧٥٥٥)، وذكره ابن عطية (٣/ ١٠٣)، وابن كثير في «تفسيره» (٢/ ٤٠٦) بنحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٥٣٦)، وزاد نسبته إلى أبي الشيخ.
(٤) أخرجه الطبري (٦/ ٥٢٨) برقم: (١٧٥٥٤)، وذكره ابن عطية (٣/ ١٠٣)، والبغوي في «تفسيره» (٢/ ٣٤٣)، وابن كثير في «تفسيره» (٢/ ٤٠٦) بنحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٥٣٥)، وزاد نسبته إل ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.
لَنَا القَدَمُ العُلْيَا إِلَيْكَ وَخَلْفَنَا | لأَوَّلِنَا في طَاعَةِ اللَّهِ تَابعُ «٢» |
وقولهم: إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ: إِنما هو بسبب أَنَّه فَرَّق بذلك كلمتهم، وحَالَ بين القريب وقريبه فأشبه ذلك ما يفعله السّاحر في ظنّهم القاصر فسمّوه ساحرا.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٣ الى ٤]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤)
وقوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ...
الآية: هذا ابتداء دعاءٍ إِلَى عبادة اللَّه عزَّ وجلَّ وتوحيدِهِ، وذَكَرَ بعضُ الناس أَنَّ الحكمة في خَلْقِ اللَّه تعالَى هذه الأشياءَ في مُدَّة محدودةٍ ممتدَّة، وفي القُدْرة أنْ يقول لها: كُنْ فَتَكُون، إِنما هي لِيُعَلِّمَ عباده التُّؤَدة والتماهُلَ في الأمور، قال ع «٥» : وهذا مما لا يُوصَلُ إِلى تعليله، وعلى هذا هي الأجْنَةُ في البُطُون، وخَلْقُ الثمار، وغير ذلك، واللَّه عزَّ وجلَّ قد جَعَلَ لكلِّ شيء قَدْراً، وهو أعلم بوجه الحكمة في ذلك.
(٢) البيت في «ديوانه» (٢٤١)، والطبري (١٣/ ٢٠٩)، و «البحر» (٥/ ١٢٤)، و «الدر المصون» (٣/ ٣٦٦)، و «المحرر الوجيز» (٣/ ١٠٣).
(٣) أخرجه البخاري (٨/ ٤٦٠) كتاب «التفسير» باب: وتقول: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، حديث (٤٨٤٨)، ومسلم (٤/ ٢١٨٧) كتاب «الجنة» باب: النار يدخلها الجبارون، حديث (٣٧/ ٢٨٤٨)، والترمذي (٥/ ٣٩٠) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة ق، حديث (٣٢٧٢)، وأحمد (٣/ ١٣٤، ١٤١، ٢٣٤)، وأبو يعلى (٥/ ٤٣٨- ٤٣٩)، رقم: (٣١٤٠)، وابن حبان (٢٦٨)، والبيهقي في «الأسماء والصفات» ص:
(٣٤٩) من حديث أنس.
(٤) أخرجه البخاري (٨/ ١٩٦) كتاب «التفسير» باب: «سورة يونس»، وذكر معلقا بصيغة الجزم، ووصله ابن جرير من طريق ابن عيينة، عنه بهذا الحديث. كما قال ابن حجر، والطبري (٦/ ٥٢٩) برقم:
(١٧٥٥٧)، وذكره ابن عطية (٣/ ١٠٣) بنحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٥٣٦).
(٥) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ١٠٤).
وقوله سبحانه: مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ردٌّ على العرب في اعتقادها أن الأصنام تشفع لها عند اللَّه.
ذلِكُمُ اللَّهُ أي: الذي هذه صفاتُهُ فاعبدوه، ثم قَرَّرهم على هذه الآيات والعبر، فقال: أَفَلا تَذَكَّرُونَ.
وقوله:
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً | الاية إِنباءٌ بالبعث. |
لِيَجْزِيَ: هي لام كَيْ، والمعنى: أنَّ الإِعادة إِنما هي ليقع الجزاءُ على الأعمال.
وقوله: بِالْقِسْطِ: أي: بالعدل.
وقوله: الَّذِينَ كَفَرُوا: ابتداء، والحَمِيمُ الحارُّ المسخَّن، وحميمُ النار فيما ذكر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إِذَا أَدْنَاهُ الكَافِرُ مِنْ فِيهِ، تَسَاقَطَتْ فَرْوَةُ رَأْسِهِ» «٢» وهو كما وصفه سبحانه:
يَشْوِي الْوُجُوهَ [الكهف: ٢٩].
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٥ الى ٩]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩)
(٢) أخرجه الترمذي (٤/ ٧٠٦) كتاب «صفة جهنم» باب: ما جاء في صفة شراب أهل النار، حديث (٢٥٨٤)، وفي (٥/ ٤٢٦) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة سأل سائل، حديث (٣٣٢٢)، وأحمد (٣/ ٧٠- ٧١)، وأبو يعلى (٢/ ٥٢٠) رقم: (١٣٧٥)، والحاكم (٤/ ٦٠٢) من حديث أبي سعيد الخدري.
وقال الترمذي: هذا حديث غريب.
وقوله: قَدَّرَهُ مَنازِلَ: يحتمل أنْ يعود الضمير على «القمر» وحده لأنه المراعَى في معرفة عَدَدِ السِّنينَ والحِسَابِ عنْد العرب، ويحتمل أنْ يريدَ الشَّمْسَ والقَمَرَ معاً، لكنه اجتزأ بذكْر أَحدهما كما قال: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: ٦٢].
وقوله: لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ أيْ: رفقاً بكم، ورَفعاً للالتباس في معايشِكُم وغير ذلك مما يُضْطَرُّ فيه إلى معرفة التواريخ.
وقوله: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ: إِنما خصهم، لأن نَفْعَ هذا فيهم ظَهَرَ.
وقوله سبحانه: إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ... الآية: آية اعتبار وتنبيهٍ، والآياتُ: العلامات، وخصَّص القوم المتَّقين تشريفاً لهم إِذ الاعتبار فيهم يقع، ونسبتهم إِلَى هذه الأشياء المَنْظُور فيها أَفْضَلُ مِنْ نسبة مَنْ لم يَهْتَدِ ولا اتقى.
وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقاءَنا... الآية: قال أبو عُبَيْدة «١» وغيره:
يَرْجُونَ، في هذه الآية: بمعنى يخافُون «٢» واحتجوا ببَيْتِ أَبي ذُؤَيْبٍ: [الطويل]
إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا | وَحَالَفَهَا فِي بَيْتِ نُوبٍ عَوَامِلِ «٣» |
قال ع «٤» : والذي أقُولُ به: إنَّ الرجاء في كلِّ موضع هو علَى بابه، وأنَّ بيت
(٢) ذكره ابن عطية (٣/ ١٠٦).
(٣) البيت لأبي ذؤيب كما ذكر المصنف، ينظر: «ديوان الهذليين» (١/ ١٤٣)، «الكشاف» (٤/ ٤٩٩)، و «الدر المصون» (١/ ٥٣٤) و «جمهرة الشعراء» (٩).
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ١٠٧).
وقوله سبحانه: وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا: يريد: كَانَتْ مُنتَهى غرضهم، وقال قتادة في تفسير هذه الآية: إِذا شئْتَ رأَيْت هذا الموصُوفَ صاحِبَ دنيا، لها يغضبُ، ولها يرضَى، ولها يفرح، ولها يهتَمُّ ويحزن، فكأَنَّ قتادةَ صَوَّرها في العصاةِ «٢»، ولا يترتب ذلك إِلا مع تأوُّل الرَّجَاءِ على بابه لأن المؤمِنَ العاصِيَ مستَوْحِشٌ من آخرته، فأما على التأويلِ الأول، فمن لا يخافُ اللَّه، فهو كَافِرٌ.
وقوله: وَاطْمَأَنُّوا بِها: تكميلٌ في معنى القناعةِ بها، والرفْضِ لغيرها.
وقوله: وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ: يحتمل أنْ يكون ابتداء إِشارةٍ إِلى فرقةٍ أُخرَى، ثم عقَّب سبحانه بذكْر الفرقة الناجيَةِ، فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ... الآية، الهدايةُ في هذه الآية تحتملُ وجْهين:
أحدهما: أن يريد أنَّه يديمهم ويثبِّتهم.
الثَّانِي: أنْ يريد أنه يرشدُهم إِلى طريق الجِنانِ في الآخرة.
وقوله: بِإِيمانِهِمْ يحتملُ أَنْ يريد: بسبب إِيمانهم، ويحتمل أن يكونَ الإِيمانُ هو نَفْس الهُدَى، أيْ، يهديهم إِلى طريق الجنة بنور إِيمانهم. قال مجاهد: يكون لهم إِيمانُهم نوراً يمشُونَ به، ويتركَّب هذا التأويل، على ما رُوِيَ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «أَنَّ العَبْدَ المُؤْمِنَ، إِذَا قَامَ مِنْ قَبْرِهِ لِلْحَشْرِ تَمَثَّلَ لَهُ رَجُلٌ جَمِيلُ الوَجْهِ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ فَيَقُودُهُ إِلَى الجَنَّةِ، وبعَكْسِ هذا في الكَافِرِ، ونحو هذا مما أسنده الطبري «٣» وغيره.
[سورة يونس (١٠) : آية ١٠]
دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠)
وقوله سبحانه: دَعْواهُمْ: أي: دعاؤهم فيها وسُبْحانَكَ اللَّهُمَّ: تَقْدِيسٌ وتسبيحٌ وتنزيهٌ لجلاله سبحانه عن كلِّ ما لا يليق به، وقال علي بن أبي طالب في ذلك: هي كلماتٌ رَضِيَهَا اللَّه تعالى لنفْسه «٤»، وقال طلحة بن عبيد اللَّه/: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه مَا
(٢) ذكره ابن عطية (٣/ ١٠٧).
(٣) تقدم تخريجه.
(٤) أخرجه الطبري (٦/ ٥٣٦) برقم: (١٧٥٨٣)، وذكره ابن عطية (٣/ ١٠٧). [.....]
وقوله سبحانه: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ: يريدُ تسليمَ بعضهم على بعض، والتحيَّة:
مأخوذة مِنْ تَمَنِّي الحياةِ للإِنسان والدُّعاءِ بها، يقالُ: حَيَّاهُ ويُحيِّيه ومنه قَوْلُ زُهَيْرِ بن جنَابٍ: [الكامل]
مِنْ كُلِّ مَا نَالَ الفَتَى | قَدْ نِلْتُهُ إِلاَّ التَّحِيَّهْ «١» |
الأول: أَنَّ المَلَكَ يأتيهم بما يشتهون، فيقول: سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ، أي: سَلِمْتُم، فَيَرُدُّون عليه، فإِذا أكلوا، قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ.
الثاني: أنَّ معنى «تَحِيَّتُهُمْ» : أي: تحيَّة بعضهم بعضاً، فقد ثبت في الخبر: «أن اللَّه تعالى خلق آدَمَ، ثم قَالَ لَهُ: اذْهَبْ إِلى أُولَئِكَ النَّفَر مِنَ المَلاَئِكَةِ فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ: سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا لَهُ: وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ: هَذِهِ تَحِيَّتُكَ، وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتَكَ مِنْ بَعْدِكَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ» «٣»، وبَيَّنَ في القرآن هاهنا أنها تحيتهم في الجنّة،
(١٣٠)، وبلا نسبة في «خزانة الأدب» (٥/ ٢٩٩)، و «شرح التصريح» (١/ ٣٢٦)، و «شرح ديوان الحماسة» للمرزوقي: ص (١٠٠)، و «لسان العرب» (١٤/ ٢١٧) (حيا).
(٢) ينظر: «أحكام القرآن» (٣/ ١٠٥٠).
(٣) تقدم تخريجه.
وقرأ الجمهور «١» :«أَنِ الحَمْدُ لِلَّهِ»، وهي عند سَيْبَوَيْهِ «٢» «أن» المخفَّفَةُ من الثقيلة قال أبو الفتح: فهي بمنزلة قول الأعْشَى: [البسيط] :
فِي فِتْيَةٍ كَسُيُوفِ الهِنْدِ قَدْ عَلِمُوا | أَنْ هَالِكٌ كُلُّ مَنْ يحفى وينتعل «٣» |
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤)
وقوله سبحانه: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ... الآية: هذه الآيةُ نزلَت، في دعاء الرَّجُل على نَفْسه أو ولده، أو ماله، فأخبر سبحانه أنَّه لو فعل مع النَّاس في إِجابته إِلى المَكْروه مثْلَ ما يريدُ فعله معهم في إِجابته إِلى الخَيْر، لأهلكهم، وحُذِفَ بعد ذلك جملة يتضمَّنها الظاهرُ، تقديرها: فلا يفعلْ ذلك، ولكنْ يَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقاءَنا... الآية، وقيل: إِن هذه الآية نزلَتْ في قولهم:
إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال: ٣٢]، وقيل:
نزلت في قولهم: ائْتِنا بِما تَعِدُنا [هود: ٣٢]، وما جرى مجراه، والعَمَهُ: الخبط في ضلال.
وقوله سبحانه: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ... الآية: هذه الآية أيضا
(٢) ينظر: «الكتاب» (١/ ٤٨٠).
(٣) ينظر: «ديوانه» ص: (١٠٩)، و «الأزهية» ص: (٦٤)، و «الإنصاف» ص: (١٩٩)، و «تلخيص الشواهد» ص: (٣٨٢)، و «خزانة الأدب» (٥/ ٤٢٦)، (٨/ ٣٩٠)، (١٠/ ٣٩٣)، (١١/ ٣٥٣- ٣٥٤)، و «الدرر» (٢/ ١٩٤)، و «شرح أبيات سيبويه» (٢/ ٧٦)، و «الكتاب» (٢/ ١٣٧)، (٣/ ٧٤، ١٦٤، ٤٥٤)، و «المحتسب» (١/ ٣٠٨)، و «مغني اللبيب» (١/ ٣١٤)، و «المقاصد النحويّة» (٢/ ٢٨٧)، و «المنصف» (٣/ ١٢٩)، وبلا نسبة في «خزانة الأدب» (١٠/ ٣٩١) و «رصف المباني» ص: (١١٥)، و «شرح المفصل» (٨/ ٧١)، و «المقتضب» (٣/ ٩)، و «همع الهوامع» (١/ ١٤٢).
لِجَنْبِهِ، في موضع الحال كأنه قال: مُضْطَجِعاً، والضُّرُّ عامٌ لجميع الأمراض والرزايا.
وقوله: مَرَّ يقتضي أن نزولها في الكفَّار، ثم هي بعد تتناوَلُ كلَّ من دَخَلَ تحْتَ معناها مِنْ كافرٍ وعاصٍ.
وقوله سبحانه: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ/ قَبْلِكُمْ... الآية: آيةُ وعيد للكفّار، وضرب أمثال لهم، وخَلائِفَ: جمع خليفة.
وقوله: لِنَنْظُرَ: معناه: لنبيِّن في الوجود ما عَلِمْناه أزلاً، لكنْ جرى القول على طريق الإِيجاز والفصاحةِ والمجازِ، وقال عمر رضي اللَّه عنه: إِنَّ اللَّه تعالَى إِنما جَعَلَنَا خلفاءَ لينظر كَيْفَ عَمَلُنَا فَأَرُوا اللَّه حسن أعمالكم في السر والعلانية «١».
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١٥ الى ١٨]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨)
وقوله سبحانه: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقاءَنَا يعني:
بعْضَ كفار قريش: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ، ثم أمر سبحانه نبيه أَنْ يردَّ عليهم بالحق الواضح، فقال: قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ ولا أعلمكم به، وأَدْراكُمْ بمعنى:
أعلمكم، تقول: دَرَيْتُ بالأَمْرِ، وأَدْرَيْتُ بِهِ غيري، ثم قال: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ يعني: الأربعين سنةً قبل بعثته عليه السلام، أي: فلم تجرِّبوني في كَذِبٍ، ولا تكلَّمتُ في شيءٍ مِنْ هذا أَفَلا تَعْقِلُونَ أنَّ من كان على هذه الصفة لا يصحُّ منه كذب بعد أَنْ ولَّى عمره، وتقاصَرَ أملُهُ، واشتدَّت حِنْكَته وخوفُه لربِّه.
هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ: هذا قول النبلاء منهم، ثم أمر سبحانه نبيَّه أن يقرِّرهم ويوبِّخهم بقوله: أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ، وذكر السموات لأن من العرب من يعبد الملائكَةَ والشِّعْرَى، وبحسب هذا حَسُنَ أن يقول:
هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا، وقيل: ذلك على تجوُّز في الأصنام التي لا تَعْقِلُ.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١٩ الى ٢١]
وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١)
وقوله سبحانه: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا قالت فرقة: المراد آدم كان أُمة وحده، ثم اختلف الناس بعده، وقالت فرقة: المراد آدم وبنوه مِنْ لدن نزوله إلى قتل أحد ابنيه الآخَرَ، ويحتمل أن يريد: كان الناس صِنْفاً واحداً بالفِطْرة معدًّا للاهتداء، وقد تقدَّم الكلام علَى هذا في قوله سبحانه: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً [البقرة: ٢١٣].
وقوله سبحانه: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ يريد: قضاءه وتقديره لبني آدم بالآجال المؤقَّتة، ويحتمل أنْ يريد: الكَلِمَةَ في أمر القيامة، وأنَّ العقابَ والثوابَ إِنما يكونُ حينئذٍ.
وقوله: فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ أي: إِنْ شاء فَعَلَ، وإِن شاء لَمْ يَفْعَلْ.
وقوله: فَانْتَظِرُوا: وعيدٌ.
وقوله سبحانه: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ... الآية: هذه الآية في الكفَّار، وهي بعْدُ تتناول من العُصَاةِ مَنْ لا يؤدي شكر اللَّه عند زوال المَكْروه عنه، ولا يرتدعُ بذلك عن معاصيه، وذلك في الناس كثيرٌ، والرحمة هنا بعد الضرَّاء كالمطر بعد القَحْط، والأمن بعد الخَوْف ونحو هذا ممَّا لا ينحصر، والمَكْر: الاستهزاء والطَّعْن عليها مِن الكُفَّار واطراح الشكر والخوف من العصاة.
وقال أبو عليٍّ: أَسْرَعُ من «سَرُعَ» لا من «أَسْرَعَ يُسْرِعُ»، إِذ لو كان من «أَسْرَعَ»، لكان شاذًّا.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٢٢ الى ٢٥]
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣) إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥)
وقوله سبحانه: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ... الآية: تعديدُ نِعَمٍ منه سبحانه على عباده.
وقوله سبحانه: دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ: أي: نسوا الأصنام والشركاء، وأفردوا الدعاء للَّه سبحانه، وذكَر الطبريُّ في ذلك، عَنْ بعض العلماء حكايةَ قَوْلِ العَجَمِ:
«هيا شرا هيا»، ومعناه: يا حيّ يا قيّوم، ويَبْغُونَ: معناه: يُفسدون.
وقوله: مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا متاع: خبر مبتدأ محذوفٍ، تقديره هو متاع، أو ذلك مَتَاعٌ، ومعنى الآية: إِنما بغيكم وإِفسادكم/ مُضِرٌّ لكم، وهو في حالة الدنيا، ثم تَلْقَوْنَ عقابه في الآخرة، قال سفيان بن عُيَيْنة: إِنما بغيكم علَى أنفسِكُمْ متاع الحياة الدنيا: أي تُعَجَّلُ لكم عقوبته وعلى هذا قالوا: البَغْيُ يَصْرَعُ أهله.
قال ع «٣» : وقالوا: البَاغِي مصروعٌ: قال تعالى: ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ [الحج: ٦٠]، وقال النبيُّ عليه السلام: «ما ذَنْبٌ أَسْرَعُ عُقُوبَةً مِنْ بَغْيٍ».
وقوله سبحانه: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي: تفاخُرُ الحياة الدنيا وزينتها بالمال
(٢) أخرجه مالك في «الموطأ» (٢/ ٩٩٤) برقم: (٢) عن أبي هريرة موقوفا.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ١١٤).
وقوله: وَظَنَّ أَهْلُها: على بابها، وهذا الكلامُ فيه تشبيهُ جملة أمْرِ الحياة الدنيا بهذه الجملة الموصوفة أحوالها، وحَتَّى غايةٌ، وهي حرفُ ابتداء لدخولها على «إِذا»، ومعناهما متَّصِلٌ إِلى قوله: قادِرُونَ عَلَيْها، ومن بعد ذلك بدأ الجوابُ، والأمْرُ الآتي:
واحدُ الأمور كالرِّيحِ، والصِّرِّ، والسَّمُومِ، ونحوِ ذلك، وتقسيمُهُ لَيْلًا أَوْ نَهاراً، تنبيهٌ على الخَوْف وارتفاع الأمن في كلّ وقت، وحَصِيداً، بمعنى محصود، أي: تالفاً مستهلكاً، كَأَنْ لَمْ تَغْنَ: أي: لم تنضر، ولم تنعم، ولم تعمر بغَضَارتها، ومعنى الآية:
التحذير من الاغترار بالدنيا إِذ هي معرَّضة للتلف كنبات هذه الأرض وخَصَّ المتفكِّرين بالذكْر تشريفاً للمنزلة وليقَعَ التسابُقُ إِلى هذه الرتبة.
وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ... الآية: نصٌّ أن الدعاء إِلى الشرْع عامٌّ في كل بَشَرٍ، والهداية التي هي الإِرشادُ مختصّة بمن قدّر إيمانه، والسَّلامِ هنا: قيل: هو اسم من أسماء اللَّه تعالى، والمعنَى: يدعو إِلى داره التي هي الجنّة، وقيل: السَّلامِ بمعنى السّلامة.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٢٦ الى ٣١]
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ مَّا كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١)
(٢) ينظر: «الكشاف» (٢/ ٣٤١)، و «المحرر الوجيز» (٣/ ١١٤)، وزاد نسبتها إلى الأعمش وأبي بن كعب، وينظر: «البحر المحيط» (٥/ ١٤٥)، وزاد نسبتها إلى زيد بن علي، وهي في «الدر المصون» (٤/ ٢١).
الجنةُ، وال زِيادَةٌ: النَّظَر إِلَى وجهِ اللَّه عزَّ وجلَّ وفي «صحيح مسلمٍ» من حديثِ صُهَيْبٍ: «فَيَكْشِفُ الحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئاً أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ»، وفي رواية: ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآيَةِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وأخرج هذه الزيادةَ النَّسَائِيُّ عن صُهَيْبٍ، وأَخْرَجَهَا عن صُهَيْبٍ أَيضاً أَبو دَاوُدَ الطَّيَالِسي «١» انتهى من «التذكرة» «٢».
وقوله سبحانه: وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ... الآية. ويَرْهَقُ معناه:
يَغْشَى مع غلبةٍ وتضييقٍ، وال قَتَرٌ: الغُبَار المُسْوَدُّ.
وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها قالت فِرْقَةٌ: التقديرُ لهم جزاءُ سيئةٍ بمثلها، وقالت فرقة: التقديرِ جزاءُ سيِّئة مثلها، والباء زائدةٌ، وتعم السيئاتُ هاهنا الكفر والمعاصي، وال عاصِمٍ: المنجّي والمجير، وأُغْشِيَتْ: كسبت، و «القَطْع» :
جمع قِطْعة، وقرأ ابن كثيرٍ والكِسَائِيُّ: «قَطْعاً مِنَ اللَّيْلِ» - بسكون الطاء- «٣»، وهو الجُزْء من الليل، والمراد: الجُزْء من سواده، وباقي الآية بيّن.
ومَكانَكُمْ: اسم فعلِ الأَمْرِ، ومعناه: قِفُوا واسكنوا، ت: قال ص:
وقدِّر ب «اثبتوا» وأما من قدَّره ب «الزموا مكانَكُمْ»، فمردودٌ، لأن «الزموا» متعدّ، ومَكانَكُمْ: لا يتعدَّى، فلا يقدَّر به، وإلا لكان متعدياً، واسم الفعل عَلَى حَسَب الفعلِ إِنْ متعدياً فمتعدٍّ، وإِنْ لازماً فلازِمٌ، ثم اعتذر بأنه يمكن أن يكون تقديره ب «الزموا» تقديرَ معنًى، لا تقديرَ إِعرابٍ، فلا اعتراض، انتهى.
قال ع «٤» : فأخبر سبحانَهُ عن حالةٍ تكون لعبدة الأوثان يوم القيامة يؤمرون
(٢) ينظر: «التذكرة» للقرطبي (٢/ ٦٥٣). [.....]
(٣) وتحتمل هذه القراءة أن تكون مفردا من الجمع، أو تخفيفا من قطع مثل نطع، ونطع.
ينظر: «الدر المصون» (٤/ ٢٥).
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ١١٧).
وقوله: فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ: معناه: فرَّقنا في الحُجَّةِ، والمذهب/ روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أَنَّ الكُفَّار، إِذَا رَأَوا العَذَابَ، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ، قِيلَ لَهُمُ: اتَّبِعُوا مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، فَيَقُولُونَ: كُنَّا نَعْبُدُ هَؤُلاَءِ، فَتَقُولُ الأَصْنَامُ: وَاللَّهِ، مَا كُنَّا نَسْمَعُ، وَلاَ نَعْقِلُ، وَمَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تعْبُدُونَ، فَيَقُولُونَ: واللَّهِ، لإِيَّاكُمْ كُنَّا نَعْبُد، فَتَقُولُ الآلِهَةُ: فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ... «١» الآية، وظاهر الآية أنَّ محاورتهم إِنما هي مَعَ الأصنام دون المَلاَئِكَةِ وَعِيسَى بدليل القوْلِ لهم: مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ، ودون فِرْعَونَ ومَنْ عُبِدَ من الجنِّ بدليل قولهم: إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ، و «إنْ» هذه عند سيبَوَيْه «٢» المخَفَّفَةُ من الثقيلة موجبَةٌ، ولزمتها اللام، فرقاً بينها وبين «إِنِ» النافيةِ، وعندَ الفَرَّاء: «إِنْ» نافيةٌ بمعنَى «مَا»، واللامُ بمعنى «إِلاَّ»، وقرأ نافعٌ «٣» وغيره: «تَبْلُوا» - بالباء الموحَّدة- بمعنى:
تختبر، وقرأ حمزة والكسائي: «تَتْلُوا» - بتاءين- بمعنى تَتْبَعُ وتطلب ما أَسْلَفَتْ من أعمالها ت: قال ص: كقوله: [الرجز]
إِنَّ المُرِيبَ يَتْبَعُ المُرِيبَا | كَمَا رَأَيْتَ الذِّيَبِ يَتْلُو الذِّيَبَا «٤» |
وقوله: وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ... الآية: تدبيرُ الأمْرِ عامٌّ في جميع الأشياءِ، وذلك استقامة الأمور كلِّها على إِرادته عزَّ وجلَّ، وليس تدبيره سبحانه بفكْرٍ ورويَّةٍ وتغييراتٍ- تعالَى عن ذلك- بل علمه سبحانه محيطٌ كاملٌ دائمٌ.
فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ: أي: لا مَنْدُوحَةَ لهم عن ذلك، ولا تُمْكِنهم المباهَتَةُ بسواه، فإِذا أقرُّوا بذلك، فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ في افترائكم، وجعلكم الأصنام آلهة.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٣٢ الى ٣٣]
فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣)
(٢) ينظر: «الكتاب» (١/ ٤٨٠).
(٣) ينظر: «السبعة» ص: (٣٢٥)، و «الحجة» (٤/ ٢٧١)، «حجة القراءات» ص: (٣٣١)، «إعراب القراءات» (١/ ٢٦٧)، و «إتحاف فضلاء البشر» (٢/ ١٠٨- ١٠٩)، و «معاني القراءات» (٢/ ٤٣)، و «العنوان» (١٠٥)، و «شرح الطيبة» (٤/ ٣٥٠)، و «شرح شعلة» (٤٢١).
(٤) البيت من شواهد «البحر» (٥/ ١٥٥)، والقرطبي (٨/ ٣٣٤)، و «الدر المصون» (٤/ ٢٨).
قال ع «١» : وعبارة القُرآن في سوق هذه المَعاني تفُوتُ كلَّ تفسيرٍ براعةً وإِيجازاً ووضوحاً، وحَكَمَتْ هذه الآيةُ بأنه ليس بَيْنَ الحَقِّ والضلال منزلةٌ ثالثةٌ في هذه المسألة التي هي توحيدُ اللَّه تعالَى، وكذلك هو الأمر في نظائرها مِنْ مسائل الأصول التي الحَقُّ فيها في طَرَفٍ واحدٍ لأن الكلام فيها إِنما في تقرير وجودِ ذاتٍ كَيْفَ هِيَ، وذلك بخلافِ مسائِلِ الفُرُوع التي قال اللَّه تعالَى فيها: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة: ٤٨].
وقوله: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ: تقرير كما قال: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ [التكوير: ٢٦] ثم قال: كَذلِكَ حَقَّتْ أي: كما كانَتْ صفاتُ اللَّه كما وَصَفَ، وعبادته واجبة كما تقرَّر، وانصراف هؤلاء كما قَدَّرَ عليهم، كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ... الآية، وقرأ أبو عَمْرٍو «٢» وغيره: «كَلِمَةُ» على الإِفراد الذي يُرَادُ به الجَمْع كما يقال للقصيدة «كَلِمَةٌ» فَعَبَّر عن وعيدِ اللَّه تعالى ب «كلمة».
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٣٤ الى ٣٦]
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦)
وقوله سبحانه: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ... الآية توقيفٌ على قصور الأصنامِ وعَجْزِها، وتنبيهٌ على قدرة اللَّه عزَّ وجلّ، وتُؤْفَكُونَ: معناه:
تُصْرَفُونَ وتُحْرَمُونَ، وأرضٌ مَأْفُوكَةٌ إِذا لم يصبها مطر، فهي بمعنى الخيبة.
(٢) وحجة من جمع أنها والتي بعدها كتبتا في المصاحف بالتاء. وحجة الباقين: إجماع الكل على التوحيد في قوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا [الأنعام: ١١٥]، فردوا ما اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه.
ينظر: «السبعة» ص: (٣٢٦)، «الحجة» (٤/ ٢٧٢- ٢٧٣)، «حجة القراءات» ص: (٣٣١)، «إعراب القراءات» (١/ ٢٦٧)، «إتحاف» (٢/ ١٠٩)، «العنوان» (١٠٥).
وينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ١١٨)، و «البحر المحيط» (٥/ ١٥٦)، و «الدر المصون» (٤/ ٣٠).
وقوله: إِلَّا أَنْ يُهْدى: فيه تَجوُّز، لأنا نجدها لا تُهْدَى وإِنْ هُدِيَتْ، وقال بعضهم: هي عبارة عن أنها لا تنتقلُ إِلا أنْ تُنْقَلَ، ويحتمل أنْ يكون ما ذَكَرَ اللَّه مِنْ تسبيح الجمادَاتِ هو اهتداؤها، وقرأ نافع وأبو عمرو: «يَهْدِّي» «١» - بسكون الهاء، وتشديد الدَّال-، وقرأ ابن كثير وابنُ عامر: يَهَدِّي- بفتح الياء/ والهاء، وتشديد الدَّال «٢» - وهذه رواية وَرْشٍ عن نافعٍ، وقرأ حمزة والكسائي: «يَهْدِي» - بفتح الياءِ، وسكون الهاء «٣» - ومعنى هذه القراءة: أَمَّنْ لا يَهْدِي أَحداً إِلا أَن يُهْدى ذلك الأَحْدُ، ووقف القُرَّاء: فَما لَكُمْ، ثم يبدأ: كَيْفَ تَحْكُمُونَ.
وقوله سبحانه: وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا... الآية: أخبر اللَّه سبحانه عن فساد طريقتهم، وضَعْفِ نَظَرِهم، وأنه ظَنٌّ، ثم بيَّن منزلة الظنِّ من المعارف، وبعده عن الحقّ.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٣٧ الى ٤٠]
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠)
وقوله سبحانه: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ: هذا ردٌّ لقول من يقول: إنّ محمدا يفتري القرآن، والَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ: التوراةُ والإِنجيل، وهم يقطعون أنَّه لم يطالِعْ تلك الكُتُب، ولا هي في بلده، ولا في قومه، وتَفْصِيلَ الْكِتابِ هو تبيينه.
وقوله: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ... الاية: «أم» هذه ليست بالمعادلة لهمزة الاستفهام،
وذكره ابن عطية (٣/ ١١٩)، وذكر أنها قراءة شيبة والأعرج، وأبي جعفر.
(٢) ذكره ابن عطية (٣/ ١١٩).
(٣) ذكره ابن عطية (٣/ ١١٩).
قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ... الآية: والتحدِّي في هذه الآية عند الجُمْهُور وقَعَ بجهتَي الإِعجاز اللَّتَيْنِ في القرآنِ:
إِحْداهما: النَّظْم والرَّصْف والإِيجازُ وَالجَزَالَة، كلُّ ذلك في التعريف.
والأُخرَى: المعاني مِنَ الغَيْبِ لِمَا مَضَى، ولما يُسْتَقْبَلُ.
وحين تحدَّاهم ب «عَشْرٍ مفترياتٍ» إِنما تحدَّاهم بالنَّظْم وحْده، ثم قال ع «١» :
هذا قول جماعة المتكلِّمين، ثم اختار أنَّ الإِعجاز في الآيتين إِنما وقع في النَّظْمِ لا في الإِخبارِ بالغُيُوبِ.
ت: والصوابُ ما تَقَدَّم للجمهور، وإليه رَجَعَ في «سورة هود» وأوجُهُ إِعجاز القرآن أَكْثَرُ من هذا وانظر «الشِّفَا».
وقوله: مَنِ اسْتَطَعْتُمْ: إِحالةٌ على شركائهم.
وقوله سبحانه: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ... الآية: المعنى: ليس الأمر كما قالوا مِنْ أنه مفترًى، بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ، أي:
تفسيره، وبيانُهُ، ويحتمل أنْ يريد بما لم يأتهم تأويله، أي: ما يؤول إليه أمره كما هو في قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ [الأعراف: ٥٣] وعَلَى هذا، فالآيةُ تتضمَّن وعيداً، والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ: مَنْ سلف من أمم الأنبياء.
وقوله سبحانه: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ... الآية: أيْ: ومِنْ قريشٍ مَنْ يؤمن بهذا الرسُولِ، ولهذا الكلام معنيان:
قالتْ فرقة: معناه: مِنْ هؤلاء القومِ مَنْ سيؤمن في المستقبل، ومِنْهُم من حَتَمَ اللَّه عَلَيْهِ أنَّه لا يؤمن به أبداً.
وقالتْ فرقة: معناه: ومنهم مَنْ يؤمن بهذا الرسُولِ إِلاَّ أنَّه يَكْتُم إِيمانه حفظا لرياسته، أو خوفاً مِنْ قومه، كالفِتْية الذين قُتِلُوا مع الكُفَّار بِبَدْرٍ.
قال ع «٢» : وفائدة الآية على هذا التأويل: التفريقُ لكلمة الكُفَّار، وإِضعافُ
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ١٢٢).
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٤١ الى ٤٥]
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥)
وقوله سبحانه: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ الآية فيها منابذةٌ ومتارَكَةٌ، قال كثير من المفسِّرين، منهم ابن زيد: هذه الآية منسوخةٌ بالقتال، وباقي الآية بيِّن.
وقوله سبحانه: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ... الآية: وعيدٌ بالحشر وخِزْيِهِم فيه، وتعارُفُهُمْ على جهة التلاؤمِ والخزْيِ من بَعْضِهِم لبعضٍ، حيث لا ينفع ذلك.
وقوله سبحانه: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ... إلى آخرها: حُكْمٌ من اللَّه عزَّ وجلَّ على المكذِّبين بالخُسْران، وفي اللفظ إِغلاظٌ، وقيل: إِن هذا الكلام من كلام المحشُورِينَ، عَلى جهة التوبيخ لأنفسهم.
ت: والأول أبين.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٤٦ الى ٤٧]
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧)
وقوله: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ... الآية: «إما» شرطٌ، وجوابه: فَإِلَيْنا، والرؤية في نُرِيَنَّكَ بصريةٌ، ومعنى هذه الآية: الوعيدُ بالرجوعِ إلى اللَّه تعالى، أي: إِنْ أَرَيْنَاكَ عقوبتهم، أو لم نُرِكَهَا، فهم عَلى كلِّ حال راجعُونَ إِلينا إلى الحسَابِ والعذابِ، ثم مع ذلك، فاللَّهُ شَهيدٌ من أوَّل تكليفهم عَلى جميعِ أَعمالهم، وَ «ثُمَّ» لترتيب الأَخبار/ لا لترتيب القصص في أنفسها، و «إِما» هي «إِنْ»، زيدَتْ عليها «ما»، ولأجلها جازَ دخُولُ النون الثقيلة، ولو كانت «إِنْ» وحدها، لم يجز.
ص: واعترض بأنَّ مذهب سيبَوَيْهِ «١» جوازُ دخولها، وإِن لم تَكُنْ «ما» انتهى.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٤٨ الى ٥٣]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢)
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣)
وقوله سبحانه: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ... الآية:
الضميرُ في يَقُولُونَ لكفَّار قريش، وسؤالهم عن الوعدِ تحريرٌ منهم- بزعمهم- للحجَّة أي: هذا العذابُ الذي تُوُعِّدْنا به، حَدِّدْ لنا وقته لِنَعْلَمَ الصِّدْق في ذلك من الكَذِب، ثم أمر اللَّه تعالى نَبِيَّهُ أَنْ يقول على جهة الردِّ عليهم: قُلْ لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ، ولكن لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ انفرد اللَّه بعلْمِ حدِّه ووقتِهِ، وباقي الآية بَيِّن.
وقوله: مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ: أي: فمَا تستعجلون منه، وأنتم لا قِبَلَ لكم بِهِ، والضمير في «مِنْهُ» يحتمل أنْ يعود على اللَّه عزَّ وجلَّ، ويحتمل أن يعود على العَذَابِ.
وقوله: أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ المعنى: إِذا وقع العذابُ وعاينتموه، آمنتم حينئذٍ، وذلك غَيْر نافعكم، بل جوابُكُمْ: الآن وقَدْ كُنْتُمْ تستعجلونَهُ مكذِّبين به، وَيَسْتَنْبِئُونَكَ:
معناه: يستخبرُونَك، وهي عَلَى هذا تتعدَّى إِلى مفعولَيْنِ أَحدُهما: الكافُ، والآخرُ:
الجملة، وقيل: هي بمعنى يَسْتَعلِمُونَكَ فعلى هذا تحتاجُ إِلَى ثَلاَثةِ مَفَاعِيلَ.
ص: ورُدَّ بأن الاستنباء لا يُحْفَظُ تعديه إِلى ثلاثةٍ، ولاَ اسْتَعْلَمَ الذي هو بِمَعْنَاه.
انتهى.
وأَ حَقٌّ هُوَ قيل: الإِشارة إِلى الشرعِ والقُرآن، وقيل: إِلى الوعيدِ وهو أَظْهر.
وقوله: إِي وَرَبِّي: أي: بمعنى «نَعَمْ»، وهي لفظة تتقدَّم القَسَم، ويجيء بعدها
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٥٤ الى ٥٦]
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦)
وقوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ... الآية، وأَسَرُّوا: لفظة تجيءُ بمعنى «أَخْفَوا»، وهي حينئذٍ من السِّرِّ، وتجيء بمعنى «أظْهَرُوا»، وهي حينئذٍ من أسارِيرِ الوَجْهِ.
ص: قال أبو البقاء: وهو مستأنَفٌ، وهو حكاية ما يكون في الآخرة.
وقوله تعالى:
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ | الآية، «أَلاَ» استفتاح وتنبيهٌ، وباقي الآية بيّن. |
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (٥٩)
وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ... الآية: هذه آية خُوطِبَ بها جميعُ العَالَم، وال مَوْعِظَةٌ: القرآن لأن الوعظ إِنما هو بقولٍ يأْمُرُ بالمعروف ويزجُرُ، ويرقِّق القلوب، ويَعِدُ ويُوعِدُ، وهذه صفة «الكتاب العزيز»، وقوله:
مِنْ رَبِّكُمْ يريد: لم يختلقها محمّد ولا غيره، ولِما فِي الصُّدُورِ: يريد به الجَهْلَ ونحوَهُ، وجَعْلُهُ موعظةً بحَسَب النَّاسِ أَجْمَعَ، وجعْلُه هدىً ورحمةً بحسب المؤمنين فَقَطْ، وهذا تفسيرٌ صحيحُ المعنَى، إِذا تُؤُمِّلَ، بان وجْهُه.
وقوله سبحانه: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا، قال ابن عباس «١» وغيره: الفضل: الإِسلام، والرحمة: القرآن، وقال أبو سعيد الخُدْرِيُّ: الفَضْل: القرآن، والرحمة: أن جعلهم مِنْ أهله.
وقال زيْدُ بن أسلم والضّحّاك: الفضل: القرآن، والرحمة: الإسلام.
قيل: إِن الفرح إِذا ورد مقيَّداً في خيرٍ، فليس بمذمومٍ، وكذلك هو في هذه الآية، وإِذا ورد مقيَّداً في شرٍّ، أو مطلقاً لَحِقَهُ ذمٌّ، إِذ ليس من أفعال الآخرة، بل ينبغي أنْ يغلب على الإِنسان حُزْنُهُ على دينه، وخوفُه لربِّه.
وقوله: مِمَّا يَجْمَعُونَ: يريد: مالَ الدنيا وحُطَامَها الفانِيَ المردي في الآخرة.
وقوله سبحانه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا... الآية.
قال ص: أَرَأَيْتُمْ: مضمَّن معنى: أَخْبِروني، و «ما» موصولة.
قال ع «٢» : هذه المخاطبة لكفَّار العرب الذين جعلوا البحائِرَ والسَّوائب وغَيْرَ ذلك، وقوله: أَنْزَلَ: لفظةً فيها تجوّز.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٦٠ الى ٦١]
وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠) وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١)
وقوله: وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ آية وعيدٍ- لمَّا تحقَّقَ عليهم بتقسيمِ الآية التي قبلها أنهم مفترون على اللَّه- عَظَّمَ في هذه الآية جُرْمَ الافتراء، أي: ظَنُّهم في غايَةِ الرداءة بحسب سُوء أفعالهم، ثم ثَنَّى بذكْرِ الفَضْل على النَّاس في الإِمهال لهم مع الافتراء والعصيان إِذ الإِمهال لهم داعيَةٌ إِلى التوبةِ والإِنابةِ، ثم الآية تعمّ
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ١٢٧).
وقوله سبحانه: وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ... الآية: مَقْصِدُ هذه الآية وصْفُ إِحاطة اللَّه عزَّ وجلَّ بكلِّ شيء، لا ربَّ غيره، ومعنى اللفْظِ: وما تكُونُ يا محمَّد، والمرادُ هو وَغَيْرُهُ في شأن من جميع الشؤون، وَما تَتْلُوا مِنْهُ: الضمير عائدٌ على شَأْن أي: فيه وبسببه «مِن قُرْآنٍ»، ويحتمل أنْ يعود الضميرُ على جميع القرآن.
وقال ص: ضمير «منه» عائد على «شأن» ومِنْ قُرْآنٍ: تفسيرٌ للضمير.
انتهى. وهو حَسَن، ثم عمَّ سبحانه بقوله: وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ، وفي قوله سبحانه:
إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً تحذيرٌ وتنبيهٌ.
ت وهذه الآية عظيمةُ المَوْقِعِ لأَهْل المراقبة تثيرُ من قلوبهم أسراراً، ويغترفون من بحر فيضها أنوارا، وتُفِيضُونَ معناه: تأخذون وتَنْهَضُون بِجِدٍّ، وَما يَعْزُبُ:
معناه: وما يَغِيبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ والكتابُ المُبينُ هو اللوحُ المحفوظُ، ويحتملُ ما كتبته الحفظة.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٦٢ الى ٦٤]
أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤)
وقوله سبحانه: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ... الآيةُ: «ألا» استفتاح وتنبيه، وأَوْلِياءَ اللَّهِ: هم المؤمنون الذينَ وَالوهُ بالطاعةِ والعبادةِ، وهذه الآية يُعْطِي ظاهرُها أَنَّ مَنْ آمَنَ واتقَى اللَّه، فَهُوَ داخلٌ في أولياء اللَّه، وهذا هو الذي تقتضيه الشريعةُ في الوَلِيِّ، وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ سُئِلَ، مَنْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «الَّذِينَ إذا رأيتهم ذكرت الله» «١».
قال: ع «٢» : وهذا وصفٌ لازِمٌ للمتَّقِين لأنهم يَخْشَعُونَ ويُخْشِّعُونَ، وروي عنه صلّى الله عليه وسلّم أيضاً أَنَّهُ قَالَ: «أَوْلِيَاءُ اللَّه قَوْمٌ تَحَابُّوا فِي اللَّهِ، وَاجْتَمَعُوا في ذَاتِهِ، لَمْ تَجْمَعْهُمْ قَرَابَةٌ وَلاَ مَالٌ يَتَعَاطَوْنَهُ». وروى الدارقطنيُّ في «سننه» عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «خيار عباد
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ١٢٨).
وقوله: لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يعني: في الآخرةِ، ويحتملُ في الدنيا لا يخافُونَ أَحداً من أَهل الدنيا، ولا من أعراضها، ولا يحزنون على ما فاتهم منها، والأولُ أظهر، والعمومُ في ذلك صحيحٌ: لاَ يَخَافُونَ في الآخرة جملةً، ولا في الدنيا الخَوْفَ الدُّنْيَوِيَّ.
وذكر الطبريُّ عن جماعة/ من العلماء مثْلَ ما في الحديثِ في الأولياء أنهم هُمُ الَّذِينَ إِذَا رَآهُمُ أَحَدٌ، ذَكَرَ اللَّهَ، وروي فيهم حديث «أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ هُمْ قَوْمٌ يَتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ وَيُجْعَلُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ، وَتُنِيرُ وُجُوهُهُمْ، فَهُمْ في عَرَصَاتِ القِيَامَةِ لاَ يَخَافُونَ وَلاَ يَحْزَنُون» «٢» وروى عمر بن الخطاب أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ عِبَاداً مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلاَ شُهَدَاءَ يَغبُطُهُمُ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ لَمَكَانَتِهِمْ مِنَ اللَّهِ، قَالُوا: وَمَنْ هُمُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهَ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ، وَلا أَمْوَالٍ... »
الحديثَ، ثم قرأَ: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ «٣».
ت وقد خرَّج هذا الحديثَ أبو داود والنسائيُّ، قال أبو داود في هذا الحديث:
فو الله، إِنَّ وجوههم لَنُورٌ، وإِنهم لَعَلَى نُورٍ، ذكره بإِسنادٍ آخر. انتهى.
ورواه أيضاً ابن المبارك في «رقائقه» بسنده، عن أبي مالك الأشعريِّ أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أقبل على النّاس، فقال: «يا أيّها النَّاسُ اسمعوا واعقلوا، واعلموا أَنَّ لِلَّهِ عِبَاداً لَيْسُوا بَأَنْبِيَاءَ وَلاَ شُهَدَاءَ، يَغْبُطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ عَلَى مَجَالِسِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: انْعَتْهُمْ لَنَا، يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَقَالَ: هُمْ نَاسٌ مِنْ أَبْنَاءِ النَّاسِ، لَمْ تَصِلْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ مُتَقَارِبَةٌ، تَحَابُّوا فِي اللَّهِ، وتَصَافَوْا فيهِ، يَضَعُ اللَّهُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ فَيُجْلِسُهُمْ عَلَيْهَا فَيَجْعَلُ وُجُوهَهُمْ نُوراً وَثِيَابَهُمْ نُوراً، يَفْزَعُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وهم لا يفزعون، وهم
(٢) تقدم تخريجه.
(٣) أخرجه أبو داود (٢/ ٣١٠- ٣١١) كتاب «البيوع» باب: في الرهن، حديث (٣٥٢٧)، وهنّاد بن السري في «الزهد» رقم: (٤٧٥)، والطبري في «تفسيره» (١١/ ٩٢)، وأبو نعيم في «الحلية» (١/ ٥)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٨٩٩٨- ٨٩٩٩)، من حديث عمر بن الخطاب، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٥٥٧)، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وابن مردويه.
وقوله تعالى: هُمُ الْبُشْرى...
الآية: أَمَّا بشرَى الآخرة، فهي بالجنَّةِ بلا خلاف قولاً واحداً، وذلك هو الفَضْل الكبير، وأَمَّا بُشْرَى الدنيا، فَتَظاهَرَت الأَحاديث من طرق، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهَا «الرُّؤْيا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُؤْمِنُ أَوْ تُرَى لَهُ» «٢»، وقال قتادة والضَّحَّاك: البُشْرَى في الدنيا: هِيَ ما يُبَشَّرُ به المؤمنُ عِنْد موته، وهو حَيٌّ عند المعاينة، ويصح أنْ تكون بُشْرَى الدنيا ما في القرآن من الآيات المبشّرات ويقوّى ذلك بقوله: تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
، ويؤوّل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «هِيَ الرُّؤْيَا» أنه أعطَى مثالاً يعمُّ جميع الناس.
وقوله سبحانه: تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
: يريد: لا خُلْفَ لمواعيده، ولا رَدَّ في أمره، وقد أخذ ذلك ابنُ عُمَرَ علَى نحو غَيْرِ هذا، وجَعَلَ التبديلَ المنفيَّ في الألفاظ، وذلك أنَّه روي أَنَّ الحجاج خَطَبَ، فَقَالَ: أَلاَ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْر قَدْ بَدَّلَ كِتَابَ اللَّهِ، فقال له
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٥٥٨)، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وابن مردويه.
(٢) أخرجه الترمذي (٤/ ٥٣٤- ٥٣٥) كتاب «الرؤيا» باب: قوله: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، حديث (٢٢٧٥)، وابن ماجه (٢/ ١٢٨٣) كتاب «تعبير الرؤيا» باب: الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، حديث (٣٨٩٨)، والدارمي (٢/ ١٢٣) كتاب «الرؤيا» باب: في قوله تعالى: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
، وأحمد (٥/ ٣١٥) والطبري في «تفسيره» (٦/ ٥٧٧) رقم: (١٧٧٣٣- ١٧٧٣٤)، والحاكم (٢/ ٣٤٠)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٤/ ١٨٥- ١٨٦) رقم: (٤٧٥٣)، والطيالسي (٢/ ١٩- منحة) رقم: (١٩٥٥)، والخطيب في «شرف أصحاب الحديث» رقم: (٢٣٨) كلهم من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة، عن عبادة بن الصامت به، وقال الترمذي: حديث حسن.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٥٥٩)، وزاد نسبته إلى الهيثم بن كليب، والحكيم الترمذي، وابن المنذر، والطبراني، وأبي الشيخ، وابن مردويه.
وأخرجه الترمذي (٤/ ٥٣٤) كتاب «الرؤيا» باب: قوله: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، حديث (٢٢٧٣)، وأحمد (٦/ ٤٥٢)، وابن أبي شيبة (١١/ ٥١)، والطبري في «تفسيره» (٦/ ٥٧٧- ٥٧٨) رقم: (١٧٧٣٧)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٤/ ١٨٥) رقم (٤٧٥٢) كلهم من طريق عطاء بن يسار، عن رجل من أهل مصر، عن أبي الدرداء به.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٥٥٩)، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والحكيم الترمذي في «نوادر الأصول»، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦)
وقوله تعالى: وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ: أي: قولُ قريش، فهذه الآية تسلية للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولفظة القول تعمّ جحودهم واستهزاءهم وخِدَاعهم وغَيْرَ ذلك، ثم ابتدأ تعالى، فقال إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً أي: لا يقدرون لَكَ عَلَى شيء، ولا يؤذُونَكَ، إِلاَّ بما شاء اللَّه، ففي الآية وعيدٌ لهم، ثم استفتح بقوله: أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ أي:
بالمُلْك والإِحاطة.
وقوله تعالى: وَما يَتَّبِعُ: يصح أنْ تكونَ «ما» استفهاما، ويصحُّ أَنْ تكون نافيةً.
ت: ورجح هذا الثاني.
وقوله: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ «إن» : نافية، ويَخْرُصُونَ:
معناه: يحدسون ويخمّنون.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٦٧ الى ٦٩]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧) قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩)
وقوله عز وجل: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ... الآية: في هذه الألفاظ إِيجازٌ وإِحالةٌ على ذِهْنِ السَّامع لأن العبرة في أنَّ الليل مُظْلِمٌ يُسكن فيه، والنَّهار مُبْصِر يُتصرَّف فيه، فذكر طرفاً من هذا وطرفاً من الجهة الثانية، ودلَّ المذكوران على المتروكين.
وقوله: يَسْمَعُونَ/ يريد: يوعون، والضمير في قالُوا لكفّار العرب، ثم الآية
وقوله: إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا «إِنْ» نافيةٌ، والسلطانُ: الحُجَّة، وكذلك معناه حيث تكرَّر في القرآن، ثم وبَّخهم تعالى بقوله: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ.
وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ... الآية: توعُّد لهم بأنهم لا يظفرون ببُغْيَة، ولا يَبْقَوْن في نعمة، إِذ هذه حالُ مَنْ يصير إِلى العذاب، وإن نعّم في دنياه يسيرا.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٧٠ الى ٧٢]
مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢)
وقوله تعالى: مَتاعٌ مرفوعٌ على خبر ابتداء أي: ذلك متاعٌ.
قال ص: مَتاعٌ جوابُ سؤالٍ مقدَّر، كأنه قيل: كيف لا يُفْلِحون، وهُمْ في الدنيا مفلحون بأنواعِ التلذُّذات؟! فقيل: ذَلِكَ مَتَاعٌ، فهو خبر مبتدإٍ محذوف. انتهى، وهذا الذي قدَّره ص: يُفْهَمُ من كلام ع «١».
وقول نوح عليه السلام: يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي... الآية: المَقَامُ:
وقوف الرجل لكلامٍ أو خُطْبَةٍ أَو نحوه، والمُقَام- بضم الميم-: إِقامته ساكناً في موضعٍ أو بلدٍ، ولم يقرأ هنا بضَمِّ الميم فيما علمتُ، وتذكيره: وعظُه وزَجْره، وقوله: فَأَجْمِعُوا:
من أَجْمَعَ الرَّجُلُ عَلَى الشَّيْءِ، إِذا عزم عليه ومنه الحديثُ: ما لم يجمعْ مكثاً، وأَمْرَكُمْ: يريد به: قُدْرَتكُم وحِيَلكُمْ، ونصب «الشركاء» بفعل مضمر كأنه قال: وادعوا شَركَاءَكُمْ فهو مِنْ باب: [الرجز]
عَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارِدَا | حَتَّى شتت همّالة عيناها «٢» |
(٢) ينظر: البيت بلا نسبة في «الأشباه والنظائر» (٢/ ١٠٨)، (٧/ ٢٣٣) و «أمالي المرتضى» (٢/ ٢٥٩)، و «الإنصاف» (٢/ ٦١٢)، و «أوضح المسالك» (٢/ ٢٤٥)، و «الخصائص» (٢/ ٤٣١)، و «الدرر» (٦/ ٧٩)، و «شرح الأشموني» (١/ ٢٢٦)، و «شرح التصريح» (١/ ٣٤٦)، و «شرح ديوان الحماسة للمرزوقي» ص: (١١٤٧)، و «شرح شذور الذهب» ص: (٣١٢)، و «شرح شواهد المغني» (١/ ٥٨)، (٢/ ٩٢٩)، [.....]
وقوله: ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً: أيْ: ملتبساً مشكلاً ومنه قوله عليه السلام في الهلال: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُم».
وقوله: ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ: أي: أنفذوا قضاءكُمْ نَحْوِي، ولا تؤخّروني، والنّظرة: التأخير.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٧٣ الى ٧٥]
فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥)
وقوله سبحانه: فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ: مضَى شرح هذه المعاني.
وقوله سبحانه: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ: مخاطبة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم يشاركُه في معناها جميعُ الخَلْق.
وقوله سبحانه: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ: الضمير في مِنْ بَعْدِهِ عائدٌ عَلى نوحٍ عليه السلام.
وقوله تعالى: فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ: معنى هذه الآية ضرب المثل لحاظري نبِيِّنا محمَّد عليه السلام ليعتبروا بمَنْ سلف، والبينات المعجزات، والضمائر في فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا وفي كَذَّبُوا تعود الثلاثةُ على قوم الرسل، وقيل: الضمير في كذَّبوا يعود على «قوم نوح» وقد تقدَّم تفسير نظيرها «في الأعراف».
(١) «الحجة للقراء السبعة» (٤/ ٢٨٩).
(٢) الطّيلسان: ضرب من الأكسية.
ينظر: «لسان العرب» (٢٦٨٩) (طلس).
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٧٦ الى ٨٢]
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠)فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢)
وقوله سبحانه: فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ الآية: يريد ب الْحَقُّ آيَتَيِ العَصَا واليد.
وقوله: أَسِحْرٌ هذا: قالت فرقة: هو حكايةٌ عن موسَى عنهم، ثم أخبرهم موسَى عن اللَّه أَنَّ الساحِرِينَ لا يُفلحون، ثم اختلفوا في معنى قول قَوْمِ فرعونَ، فقال بعضهم:
قالها منهم كلُّ مستفهِمٍ جاهلٍ بالأمر، فهو يسأل عنه، وهذا ضعيفٌ، وقال بعضهم: بل قالوا ذلك عَلَى معنى التعظيم للسحْرِ الذي رأَوْهُ، وقالت فرقة: ليس ذلك حكايةً عن موسَى عنهم، وإِنما هو من كلام موسَى، وتقدير الكلامِ: أَتقولون للحَقِّ لما جاءكم سِحْرٌ، ثم ابتدأ يوقِّفهم بقوله: أَسِحْرٌ/ هذا على جهة التوبيخ.
وقولهم: لِتَلْفِتَنا: أي: لتصرفنا وتلوينا وتَرُدَّنا عن دين آبائنا، يقال: لفتَ الرَّجُلُ عُنُقَ الآخَرِ إِذا أَلواه، ومنه قولهم: التفت فَإِنَّهُ افتعل من لفت عنقه إذا ألواه، والْكِبْرِياءُ: مصْدَر من الكِبْرِ، والمراد به في هذا الموضع المُلْك قاله أكثر المتأوِّلين لأنه أعظم تَكَبُّرِ الدنيا، وقرأ أبو عَمْرٍو وحده: «به السّحر» - بهمزة استفهام ممدودةٍ-، وفي قراءة «١» أُبيٍّ: «مَا أَتَيْتُمْ بِهِ سِحْرٌ»، والتعريف هنا في السِّحْرِ أَرْتَبُ لأنه تقدَّم منكَّراً في قولهم: إِنَّ هذا لَسِحْرٌ، فجاء هنا بلامِ العَهْدِ.
قال ص: قال الفَّرَّاء: إِنما قال: «السِّحْر» ب «أَلْ»، لأن النكرة إِذا أُعيدَتْ، أُعيدَتْ ب «أَلْ»، وتبعه ابن عطية «٢»، ورُدَّ بأن شرط ما ذكراه اتحاد مدلول النكرةِ المُعَادة كقوله تعالى: كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [المزمل: ١٥، ١٦] وهنا السِّحْر المنكَّر هو ما أتَى به موسَى، والمعروفُ ما أتَوْا به هُمْ، فاختلف
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ١٣٥).
وقوله: إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ: إِيجاب عن عِدَّةٍ من اللَّه تعالى.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ: يحتمل أنْ يكون ابتداءَ خَبَرٍ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، ويحتملُ أَنْ يكون من كلام موسَى عليه السلام، وكذلك قوله: وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ... الآية، محتملٌ للوجهين، وكون ذلك كلُّه من كلام موسَى أقربُ، وهو الذي ذكر «١» الطبريُّ، وأما قوله: بِكَلِماتِهِ: فمعناه بكلماته السابقةِ الأزليَّة في الوعد بذلك.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٨٣ الى ٨٦]
فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦)
وقوله عز وجل: فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ اختلف المتأوِّلون في عود الضمير الذي في قَوْمِهِ، فقالتْ فرقة: هو عائدٌ على موسَى، وذلك في أول مبعثه، وَمَلأُ الذُّرِّيَّةِ، هم أشرافُ بني إِسرائيل.
قال ص: وهذا هو الظاهر، وقالت فرقةٌ: الضميرُ في قَوْمِهِ عائدٌ على فِرْعَوْنَ، وضمير مَلَائِهِمْ عائدٌ على الذريَّة.
قال ع: ومما يضعِّف عوْدَ الضميرِ علَى موسَى: أَنَّ المعروفَ مِنْ أخبار بني إِسرائيل أنهم كانوا قوماً تقدَّمت فيهم النبوَّاتِ، ولم يُحفَظْ قطُّ أَنَّ طائفة من بَني إِسرائيل كَفَرَتْ به، فدَلَّ على أن الذريَّة مِنْ قوم فِرعون.
وقوله سبحانه: وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا... الآية:
هذا ابتداءُ حكايةِ قوْلِ موسَى لجماعةِ بني إِسرائيل مُؤَنِّساً لهم، ونادباً إِلى التوكُّل على اللَّه عزَّ وجلَّ الذي بيده النصْرُ قال المُحَاسِبيُّ: قُلْتُ لأبي جعفرٍ محمَّدِ بنِ موسَى: إِنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ يقول: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة: ٢٣] فما السَّبِيلُ إِلى هذا التوكُّل الذي نَدَبَ اللَّه إِلَيْهِ، وكيف دُخُولُ الناس فيه؟ قال: إِن الناس متفاوِتُون في التوكُّل، وتوكُّلُهم علَى قَدْرِ إِيمانهم وقوَّةِ عُلُومهم، قُلْتُ: فما معنى إِيمانهم؟ قال: تصديقُهُم بمواعيدِ اللَّه عزَّ وجلَّ، وثِقَتُهُم بضَمَانِ اللَّه تبارَكَ وتعالَى، قلْتُ: مِنْ أَيْنَ فَضَلَتِ الخاصّة
دَوَامُ لُزُومِ المعرفة، والاعتماد على اللَّه عزَّ وجلَّ، وتَرْكُ الحِيل.
والثانية: الممارسَةُ حتى يَأْلَفَهَا إِلْفاً، ويختارها اختيارا، فيصير التوكُّل والهُدُوُّ والسكونُ والرضا والصبْرُ له شعاراً ودثاراً. انتهى من «كتاب القَصْدِ إِلى اللَّه سبحانه».
وقولهم: رَبَّنا لاَ تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ: المعنى: لا تُنْزِلْ بنا بلاءً بأيديهم أو بغير ذلك/ مدَّةَ محاربتنا لهم فَيُفْتَنُونَ لذلك، ويعتقدون صلاَحَ دينهم، وفَسَاد ديننا قاله مجاهد وغيره، فهذا الدعاءُ على هذا التأويل يتضمَّن دفْعَ فصلين:
أحدُهما: القَتْل والبلاء الذي توقَّعه المؤمنون.
والآخر: ظُهُورُ الشَّرك باعتقاد أهله أنَّهم أَهْلُ الحَقِّ.
ونحو هذا قوله صلّى الله عليه وسلّم: «بئس الميّت أبو أمامة ليهود وَالمُشْرِكِينَ يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ نَبِيًّا لَمْ يَمُتْ صَاحِبُهُ» «١».
ورَجَّحَ ع «٢» في «سورة الممتحنة: ٥» قولَ ابْنِ عباس: إِن معنى: لاَ تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا: لا تسلِّطهم علينا فيفتنونا انظره هناك.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٨٧ الى ٩١]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١)
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٥/ ٢٩٦).
وقوله سبحانه: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً: قيل: معناه: مساجدُ، قاله ابنُ عباس وجماعة «٤»، قالوا: خافوا، فأُمِرُوا بالصَّلاة في بيوتهم، وقيل: معناه مُوجَّهة إِلى القبلة قاله ابن عباس «٥»، ومن هذا حديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنه قَالَ: «خَيْرُ بُيُوتِكُمْ مَا استقبل بِهِ القِبْلة» «٦».
وقوله: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ: خطابٌ لبني إِسرائيل، وهذا قبل نزول التوراة لأَنها لم تَنْزِلْ إِلا بعد إِجازة البَحْر.
وقوله: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ: أَمرٌ لموسَى عليه السلام، وقال الطبريُّ ومكيٌّ: هو أَمرٌ لنبينا محمَّد عليه السلام، وهذا غير متمكِّن.
وقوله سبحانه: وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً... الآية: هذا
(٢) بالضم، ثم السكون، وواو وألف ونون. ويقال: بغير همزة: مدينة كبيرة، وكورة في آخر الصعيد. وأول بلاد النّوبة، على النيل في شرقيّة، في جبالها مقطع العمد التي بالإسكندرية، ينظر: «مراصد الاطلاع» (١/ ٧٨).
(٣) بنى الإسكندر ثلاث عشرة مدينة وسمّاها كلّها باسمه، ثم تغيرت أساميها بعده، والمشهور بهذا الاسم الاسكندرية العظمى في بلاد مصر.
ينظر: «مراصد الاطلاع» (١/ ٧٦).
(٤) أخرجه الطبري (٦/ ٥٩٦) برقم: (١٧٨٠٨- ١٧٨٠٩- ١٧٨١٠)، وذكره ابن عطية (٦/ ١٣٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٥٦٦)، وزاد نسبته إلى الفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه.
(٥) أخرجه الطبري (٦/ ٥٩٧) برقم: (١٧٨٢٤) نحوه، وذكره ابن عطية (٣/ ١٣٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٥٦٦) بنحوه، وزاد نسبته إلى ابن مردويه.
(٦) تقدم تخريجه بلفظ: خير مجالسكم ما استقبل به القبلة. [.....]
وقوله: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ: هو من طُمُوسِ الأَثْر والعين وَطَمْسُ الوجوه منه، وتكْرير قوله: رَبَّنا استغاثة كما يقول الداعي: يا اللَّه، يا اللَّه، روي أنهم حين دعا موسَى بهذه الدعوة، رَجَعَ سُكَّرُهُمْ حجارةً، ودراهِمُهم ودنانيرهم وحُبُوبُ أطعمتهم، رَجَعَتْ حجارةً قاله قتادة وغيره «١»، وقال مجاهد وغيره: معناه: أهْلِكْها ودَمِّرها «٢».
وقوله: وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ: بمعنى: اطبع واختم عليهم بالكفر قاله مجاهدٌ والضَّحَّاك «٣».
وقوله: فَلا يُؤْمِنُوا: مذهب الأخفش وغيره: أنَّ الفعل منصوب عطفاً على قوله: لِيُضِلُّوا، وقيل: منصوبٌ في جواب الأمر، وقال الفراء والكسائي: هو مجزومٌ على الدعاء، وجعل رؤية العذاب نهايةً وغايةً وذلك لِعِلْمه من اللَّه أنَّ المؤمن عند رؤية العَذَاب لا ينفعه إِيمانه في ذلك الوَقْت، ولا يُخْرِجُهُ من كُفْره، ثم أجاب اللَّه دعوتهما، قال ابن عباس: العَذَاب هنا: الغَرَقُ «٤»، وروي أن هارون كان يُؤْمِّنُ على دعاء موسَى فلذلك نَسَب الدعوة إليهما قاله محمد بن كَعْب القُرَظِيُّ «٥»، قال البخاري: وَعَدْواً: من العدوان. انتهى.
(١٧٨٤١)، عن أبي صالح، نحوه، وذكره ابن عطية (٣/ ١٣٩)، والبغوي في «تفسيره» (٢/ ٣٦٥- ٣٦٦)، عن قتادة، ومحمد بن كعب، وابن عباس نحوه، وابن كثير (٢/ ٤٢٩) نحوه، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٥٦٧).
(٢) أخرجه الطبري (٦/ ٦٠٠- ٦٠١) برقم: (١٧٨٤٥- ١٧٨٤٦، ١٧٨٤٧، ١٧٨٤٨)، عن ابن عباس نحوه، وذكره ابن عطية (٣/ ١٣٩)، والبغوي في «تفسيره» (٢/ ٣٦٥)، عن مجاهد نحوه، وابن كثير (٢/ ٤٢٩)، عن ابن عباس، ومجاهد، نحوه، والسيوطي في (٣/ ٥٦٧).
(٣) أخرجه الطبري (٦/ ٦٠١) برقم: (١٧٨٥١، ١٧٨٥٤)، وذكره ابن عطية (٣/ ١٣٩).
(٤) أخرجه الطبري (٦/ ٦٠١) برقم: (١٧٨٤٩، ١٧٨٥٠) نحوه، وذكره ابن عطية (٣/ ١٣٩).
(٥) أخرجه الطبري (٦/ ٦٠٣) برقم: (١٧٨٦٣- ١٧٨٦٤) نحوه، وذكره ابن عطية (٣/ ١٤٠)، وابن كثير (٢/ ٤٢٩) نحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٥٦٧) نحوه.
قال ع «٢» : فانظر إِلى كلام فرعون، ففيه مَجْهَلَةٌ وَتَلَعْثُمٌ، ولاَ عُذْرَ لأحد فِي جَهْلِ هذا، وإِنما العذر فيما لا سبيلَ/ إِلى علمه، كقول عليٍّ رضي الله عنه: أهللت بإهلال كإهلال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والحَالُ: الطِّينُ، والآثار بهذا كثيرةٌ مختلفة الألفاظِ، والمعنَى واحدٌ.
وقوله سبحانه: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ، وهذا عَلى جهة التوبيخ له، والإِعلان بالنقمةِ منه، وهذا الكلامُ يحتملُ أن يكونَ مِنْ مَلَكٍ مُوَصِّلٍ عن اللَّه، أَو كيف شاء اللَّه، ويحتملُ أَنْ يكون هذا الكلامُ معنَى حاله وصورةَ خِزْيه، وهذه الآيةُ نصٌّ في ردّ توبة المعاين.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٩٢ الى ٩٣]
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢) وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣)
وقوله سبحانه: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ... الآية: يقوِّي أنه صورةُ حاله لأن هذه الألفاظ إِنما يظهر أنها قِيلَتْ بعد غَرَقِهِ، وسببُ هذه المقالة على ما روي: أن بني إِسرائيل بَعُدَ عِنْدَهم غَرَقُ فِرْعَوْنَ وهلاكُه، لِعِظَمِهِ في نفوسهم، وكذّب بعضهم أن يكون فرعون
وقال الترمذي: حديث حسن. ومن طريق علي أخرجه الطبري (٦/ ٦٠٥) رقم: (١٧٨٧٥).
وأخرجه الترمذي (٥/ ٢٨٧- ٢٨٨) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة يونس، حديث (٣١٠٨)، والحاكم (٢/ ٣٤٠)، والطبري (٦/ ٦٠٥) رقم: (١٧٨٧٢- ١٧٨٧٣)، من طريق شعبة، عن عدي بن ثابت وعطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس به.
وقال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه إلا أن أكثر أصحاب شعبة أوقفوه على ابن عباس ووافقه الذهبي.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ١٤١).
والجمهور «١» على تشديدِ نُنَجِّيكَ فقالت فرقة: معناه: من النَّجَاةِ، أي: من غمراتِ البَحْرِ والماءِ، وقال جماعة: معناه: نُلْقِيكَ على نَجْوة من الأرض، وهي: ما ارتفع منها، وقرأ يعقوب «٢» بسكون النونِ وتخفيف الجيم، وقوله: بِبَدَنِكَ قالت فرقة: معناه:
بشَخْصِكَ، وقالتْ فرقة: معناه: بِدِرْعِكَ، وقرأ الجمهورُ «٣» :«خَلْفَكَ»، أي: من أَتَى بعدك، وقرىء شاذًّا: «لِمَنْ خَلَفَكَ» «٤» - بفتح اللام-، والمعنى: ليجعلك اللَّه آيَةً له في عبادِهِ، وباقي الآية بيِّن.
وقوله سبحانه: وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ: المعنى: ولقد اخترنا لبني إِسرائيل أَحْسَنَ اختيار، وأحللناهم مِنَ الأماكن أحْسَنَ محلّ، ومُبَوَّأَ صِدْقٍ: أي: يصدُقُ فيه ظنُّ قاصده وساكنه، ويعني بهذه الآية إِحلاَلُهُمْ بلادَ الشَّامِ وبَيْتَ المَقْدِسِ قاله قتادة وابن زَيْد، وقيل: بلاد الشام ومصر، والأول أصحُّ، وقوله سبحانه: فَمَا اخْتَلَفُوا أيْ: في نبوَّة نبينا محمَّد عليه السلام، وهذا التخصيصُ هو الذي وقع في كُتُب المتأوِّلين كلِّهم، وهو تأويلٌ يحتاج إِلى سند، والتأويل الثاني الذي يحتمله اللفظُ: أنَّ بني إِسرائيل لم يكن لهم اختلاف على موسَى في أول حاله، فلما جاءَهُم العلْمُ والأوامرُ، وغَرَقُ فرعَوْنَ، اختلفوا، فالآية ذامَّة لهم.
ت: فَرَّ رحمه اللَّه من التخصيص، فوقع فيه، فلو عمَّم اختلافهم على أنبيائهم موسَى وغيرِهِ، وعلَى نبيِّنا، لكان أَحْسَنَ، وما ذهب إِليه المتأوِّلون من التخصيص أَحْسَنُ لقرينةِ قوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ، فالربطُ بين الآيتين واضح، والله أعلم.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٩٤ الى ٩٧]
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧)
(٢) ينظر: «إتحاف فضلاء البشر» (٢/ ١٢٠)، و «المحرر الوجيز» (٣/ ١٤٢)، و «البحر المحيط» (٥/ ١٨٩)، و «الدر المصون» (٤/ ٦٧).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ١٤٢).
(٤) وقرأ بها إسماعيل المكي، كما في «الشواذ» ص: (٦٣) وينظر: «البحر المحيط» (٥/ ١٨٩).
ت: ورُوينَا عن أبي داود سُلَيْمَانَ بْنِ الأَشْعَثِ، قال: حدَّثنا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، قال: حدَّثنا يزيدُ بن هَارُونَ، قال: حدَّثنا محمَّد بنِ عَمْرٍو، عن أَبي سَلَمَةَ، عن أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّه عنه، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: «المِرَاءُ في القُرْآنِ كُفْرٌ» «١»، قال عِيَاض في «الشفا» :
تأول بمعنى «الشك»، وبمعنى «الجِدَال». انتهى.
والَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ: من أسلم من أهْلِ الكتاب، كابن سَلاَمٍ وغيره، وروي عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال لَمَّا نزَلَتْ هذه الآية: «أَنَا لاَ أَشُكُّ وَلاَ أَسْأَلُ» «٢»، ثم جزم سبحانه الخَبَر بقوله: لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، واللام في «لَقَدْ» لامُ قَسَم.
وقوله: مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يريد به: من أَن بني إِسرائيل لم يختلفوا في أمْره إِلا مِنْ بعد مجيئهِ عَلَيْه السلام هذا قول أهل التأويل قاطبة.
قال ع «٣» : وهذا هو الذي يشبه أنْ تُرْجَى إِزالةُ الشَّكِّ فيه مِنْ قبل أهل الكتاب،
وأخرجه الطبراني في «الصغير» (١/ ٥٧٤) من طريق شعيب بن أبي حمزة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة به.
قال ابن أبي حاتم في «العلل» (٢/ ٧٤) رقم: (١٧١٤)، عن أبيه: هذا حديث مضطرب، ليس هو صحيح الإسناد اه.
وفي الباب عن عمرو بن العاص: أخرجه أحمد (٤/ ٢٠٤- ٢٠٥)، وعن عبد الله بن عمرو: أخرجه الطيالسي (٢/ ٦- منحة) رقم: (١٩٠٢).
وعن زيد بن ثابت: أخرجه الطبراني في «الكبير» (٥/ ١٥٢) رقم: (٤٩١٦).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٦/ ٦١٠) برقم: (١٧٩٠٧) عن قتادة مرسلا. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٥٧١)، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ١٤٣). [.....]
ت: وهذا التأويلُ عندي أُبَيْنُ إِذَا لُخِّص، وإِن كان قد استبعده ع «١» :
ويكون المراد ب مِمَّا أَنْزَلْنا: مَا ذكره سبحانه من قصصهم، وذِكْرِ صفته عليه السلام، وذكْرِ أنبيائهم وصِفَتِهم وسيرهم وسائِرِ أخبارهم الموافِقَةِ لِمَا في كتبهم المنزَّلة على أنبيائهم كالتوراة والإِنجيل والزَّبُور والصُّحُف، وتكون هذه الآية تَنْظُر إِلى قوله سبحانه: مَا كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ... [يوسف: ١١١]، فتأمَّله، واللَّه أعلم.
وأما قوله: هذا قولُ أهْل التأويل قاطبةً، فليس كذلكَ، وقد تكلَّم صاحب «الشفا» على الآية، فأحْسَنَ، ولفظهُ: واختلف في معنى الآية، فقيلَ: المرادُ: قل يا محمّد للشاكّ:
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ... الآية، قالوا: وفي السورة نَفْسِهَا ما دلَّ على هذا التأويل، وهو قوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي... الآية [يونس: ١٠٤]، ثم قال عياضٌ: وقيل: إِن هذا الشكّ: الذي أمر غير النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بسؤالِ الذين يقرؤون الكتاب عنه، إِنما هو في ما قصَّهُ اللَّه تعالى من أخبار الأمم، لا فيما دعا إِلَيْه من التوحيد والشريعة. انتهى.
وقوله سبحانه: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ... الآية: مما خوطب به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمراد سواه.
قال ع «٢» : ولهذا فائِدةٌ ليست في مخاطبة الناس به، وذلك شدَّة التخويفِ لأنه إذا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يُحَذَّرُ مِنْ مثل هذا، فغيره من النَّاسِ أَوْلَى أَن يحذَّر ويتقى على نفسه.
وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ: أي: حقَّ عليهم في الأزل وخلقهم لعذابه لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ إِلا في الوقت الذي لا يَنْفَعهم فيه الإِيمان كما صنع فرعون وأشباهه، وذلك وقتُ المُعَايَنَةِ.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٩٨ الى ١٠٠]
فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠)
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ١٤٣).
علَى ثُلُثَيْ مِيلٍ منهم «٢»، وروي: على مِيلٍ «٣»، وقال ابن جبير «٤» : غشيهمُ العذابُ كما يَغْشَى الثوبُ القَبْرَ، فرفَع اللَّه عنهم العذابَ، فلمَا مضَتِ الثالثة، وعَلِمَ يونُسُ أن العذاب لم يَنْزِلْ بهم، قال: كَيْفَ أنصَرِفُ، وقد وجَدُوني في كَذِبٍ، فذهب مغاضباً كما ذكر اللَّه سبحانه في غير هذه الآية، وذهب «٥» الطبريُّ إِلى أَنَّ قوم يونُسَ خُصُّوا من بين الأُمَمِ بِأَنْ تِيبَ عليهم مِنْ بَعْد معاينة العذاب، وذكر ذلك عن جماعة من المفسِّرين، وليس كذلك، والمعاينةُ التي لا تَنْفَعُ التوبةُ معها هي تلبُّس العذاب أو الموتِ بشَخْصِ الإِنسانِ، كقصَّة فرعون، وأمَّا قوم يونس فلم يَصِلُوا هذا الحَدِّ.
ت: وما قاله الطبريُّ عندي أبْيَنُ، وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ: يريد: إِلى آجالهم المقدَّرة في الأزل، وروي أن قوم يونس/ كانوا ب «نِينَوَى» من أرض المَوْصِلِ.
وقوله سبحانه: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ: المعنى: أفأنت تكره
(٢) أخرجه الطبري (٦/ ٦١٣) برقم: (١٧٩١٥)، وذكره ابن عطية (٣/ ١٤٤)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٥٧٣)، وعزاه لأحمد، وابن جرير.
(٣) ذكره ابن عطية (٣/ ١٤٤).
(٤) أخرجه الطبري (٦/ ٦١٣) برقم: (١٧٩١٤)، وذكره ابن عطية (٣/ ١٤٤) والسيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٥٧٣)، وعزاه لأحمد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.
(٥) ينظر: «تفسير الطبري» (٦/ ٦١٤) بنحوه.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١٠١ الى ١٠٣]
قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣)
وقوله سبحانه: قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ... الآية: هذه الآية أمْر للكفَّار بالاعتبار والنَّظَرِ في المصْنُوعات الدالَّة على الصَّانع من آيات السموات وأفلاكِها وكواكِبِها وسحابِها ونَحْوِ ذلك، والأرْضِ ونباتِهَا ومعادِنِها وغيرِ ذلك، المعنى: انظروا في ذلك بالواجب، فهو يُنْهِيكُمْ إِلى المعرفة باللَّه وبوَحْدَانيته، ثم أخبر سبحانه أنَّ الآيات والنُّذُرَ- وهم الأنبياء- لا تُغْنِي إِلا بمشيئته ف «مَا» على هذا: نافيةٌ، ويجوز أن تكون استفهاما في ضمنه نَفْيُ وقوعِ الغِنَى، وفي الآية على هذا: توبيخٌ لحاضِرِي النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم.
قال ص: والنُّذُرُ: جمع نذيرٍ، إِما مصدرٌ بمعنى الإِنذارات، وإِما بمعنى مُنْذِرٍ. انتهى.
وقوله سبحانه: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ... الآية:
وعيدٌ إِذَا لَجُّوا في الكُفْرِ، حل بهم العذاب.
وقوله سبحانه: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا: أي: عادةُ اللَّه سَلَفَتْ بإِنجاء رسله ومتَّبعيهم عند نزولِ العذاب بالكَفَرَةِ كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ.
قال ص: أي: مثلَ ذلك الإِنجاء الذي نجينا الرسُلَ ومؤمنيهم نُنْجِي من آمن بك. انتهى، وخط المُصْحف في هذه اللفظة «نُنْجٍ» بجيم مطلقة دون ياء، وكلهم قرأ «نُنجِّ» - مشددة الجيم- إِلا الكسائيَّ وحفصاً عن عاصم فإِنهما قرآ بسكون النون وتخفيف الجيم «١».
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٧]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧)
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي | الآية، مخاطبةٌ عامَّة للناس أجمعين إِلى يوم القيامة. |
وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ | الآية، قد تقدَّم أن ما كان من هذا النوع، فالخطاب فيه للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمرادُ غيره. |
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١٠٨ الى ١٠٩]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩)
وقوله سبحانه: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ: هذه مخاطبةٌ لجميع الكفّار ومستمرّة مدى الدهر، والْحَقُّ: هو القرآن والشرْعُ الذي جاء به النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم.
وقوله: وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ: منسوخَةٌ بالقتَالِ.
وقوله سبحانه: وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ.
قوله: حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ: وعد للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأنْ يغلبهم، كما وقع، وهذا الصبرُ منْسُوخٌ أيضاً بالقتالِ، وصلَّى اللَّه على سيدنا ومولاَنَا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما.