بسم الله الرحمن الرحيم
سورة يونس عليه السلام مكية١ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة يونس عليه السلام مكيةقال ابن عباس: ﴿الر﴾: أنا الله أرى. وروي عنه أنه أنا الله الرحمن.
وعنه أيضاً: " ألر " و " حم " و " ن " حروف الرحمن مقطعة.
وهو قول سالم بن عبد الله، وابن جبير، وهو اختيار الزجاج.
وقال عكرمة والحسن: هو قسم.
وروي عن قتادة أنه قال: اسم للسورة.
وقال مجاهد: هو فواتح السور.
وقال بعض المتأخرين من أهل النظر: هذه الفواتح لا نعلم لها تأويلاً، ولا صح عن النبي عليه السلام، ولا اتفقت الأُمة على تفسيرها. والذي نعتقده في ذلك أنّا إنما كلفنا تلاوة تنزيلها، ولم نكلف معرفة تأويلها. (ولا يعرف تأويلها) من جهة العقل.
قال أبو محمد رضي الله عنهـ: وهذا القول يلزم قائله أن يكون مثله في كل آية مشكلة لم يصح عن النبي ﷺ فيها تأويل، ولا اتفقت الأُمة على تأويلها، فيعطل معرفة أكثر القرآن، ويقول: إنما كلفنا التلاوة لا غير. وأكثر ذلك في الأحكام يقع، فيعطل أحكاماً كثيرة على مذهبه (وكيف) يكون ذلك؟ وهل أنزله الله إلا لنعلم تأويله،
قوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الكتاب﴾ " أي: تلك التي جرى ذكرها آيات الكتاب ".
(وقيل: المعنى: هذه آيات الكتاب).
وقال مجاهد: معنى ﴿تِلْكَ آيَاتُ الكتاب﴾ يعني: آيات التوراة والإنجيل، وكذلك قال قتادة.
وعن مجاهد: ﴿آيَاتُ الكتاب الحكيم﴾ يعني آيات القرآن.
وهو اختيار الطبري: قال: لأنه لم يجر للتوراة، والإنجيل ذكر قبل هذا. و (الآيات): العلامات. و (الكتاب): " اسم من أسماء القرآن.
و (الحكيم) معناه: المحكم عند أبي عبيدة وغيره.
والمعنى: ليس بعجب قد علمتم أن الرسل من قبلكم كانت من بني آدم، ولم تكن ملائكة. إنما تأتي الملائكة إلى الرسل بأمر الله ونهيه (سبحانه) وتأتيهم في صورة بني آدم. إذ لا يحتمل بنو آدم معاينة الملائكة.
وقرأ ابن مسعود: (أكان للناس عجب) بالرفع جعل " أن أوحينا " في
ورفع " عجباً " على اسم " كان " جائز على (ما) بعده. (و) اللام في " الناس " متعلقة بـ " عجب "، لا تتعلق بـ " كان ".
ومعنى الآية: أن الله، جلّ ذكره، لما بعث محمداً رسولاً أنكر جماعة من العرب ذلك، وقالوا: (الله) أعظم من أن يبعث بشراً رسولاً. فأنزل الله ( تعالى) :﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس﴾، ونزل / ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ﴾ [يوسف: ١٠٩] هذا قول ابن عباس.
وقال ابن جريج: عجبت قريش أن بعث رجلاً منهم، فنزل
فالناس هنا: أهل مكة. وهذه الآية فيها ضروب من أخبار:
ابتدأ تعالى بعجب، ثم أخبر بالشيء الذي يوجب العجب عندهم، وهو الوحي، ثم أخبر عمن أنزل عليه ذلك الوحي، ثم أخبر بالشيء الموحى ما هو. وهو الإنذار، ثم أخبر بالبشارة للمؤمنين وأخبر بالمبَشر به ما هو؟ وهو: كون القدم الصدق للمؤمنين عند ربهم، ثم أخبر بجواب الكافرين عن ذلك: (كل ذلك) في آية واحدة. ومعنى ﴿قَدَمَ صِدْقٍ﴾: قال الضحاك: " ثواب صدق ". وقال
وقال قتادة، والحسن، وزيد بن أسلم: ﴿قَدَمَ صِدْقٍ﴾ وهو محمد، ﷺ، شفيع لهم.
وعن الحسن أنه قال: ﴿قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ هو: مصيبتهم في نبيهم ﷺ.
والقدم في اللغة على أربعة أوجه: قدم الإنسان مؤنثة، والقدم السابقة: العمل الصالح مؤنثة أيضاً، والقدم: الشجاع مذكر، والقدم المتقدم: مذكر أيضاً.
وفي (رواية) أخرى: " حَتّى يَضَع الله فِيها قَدَمَهُ ".
قال الحسن: معناه يجعل (الله) فيها الذين قدَّمهم لها. فهم قدم الله تعالى إلى النار، والمؤمنون قدمه إلى الجنة.
ومن رواه: (حَتَّى يَضَع الجبار فيها قدمه) فمعناه (مثل) ما ذكرنا، أن جعلت الجبار اسماً لله ( تعالى).
وقيل " الجبار اسم لجنس يدل على جميع الجبارين على الله (سبحانه). فالمعنى: حتى يضع الجبارون على الله (سبحانه) فيها أقدامهم. أي: حتى يدخلوها. (فعند ذلك تقول جهنم: قط قط) أي: كفى كفى.
﴿عِندَ رَبِّهِمْ﴾: وقف حسن عند أبي حاتم والأخفش. وقال: تفسيرهما ليس بتمام حسن؛ لأن ﴿قَالَ الكافرون﴾ جواب لما قبله.
ومن قرأ " لساحر " فمعناه: هذا النذير لساحر. يعنون النبي ﷺ.
ومن قرأ " لسحر " فمعناه: هذا الذي
انذرنا به سحر، يعنون القرآن.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض﴾. والمعنى: إن الذي تجب له العبادة الله الذي خلق السماوات السبع والأرضين السبع في ستة أيام /.
﴿ثُمَّ استوى عَلَى العرش﴾ " مدبراً للأمور، قاضياً في خلقه ما أحب ".
﴿مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ﴾: أي: لا يشفع شافع يوم القيامة في أحد إلا من بعد أن يأذن له في الشفاعة كما قال: ﴿مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: ٢٥٥] وكما قال: ﴿وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ [سبأ: ٢٣]. وكذلك ﴿وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى﴾ [الأنبياء: ٢٨]
﴿أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾: أي: " تتعظون جميعاً، وتعتبرون بهذه الآيات والحجج.
قوله: ﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ الله حَقّاً﴾ إلى قوله ﴿يَعْلَمُونَ﴾ ﴿وَعْدَ الله﴾: مصدر، والمعنى: وعدكم (الله) أن يحييكم بعد مماتكم (وعداً حقاً) عند سيبويه بمعنى: وعد الله في حق، فلما حذف حرف الجر نصب، والمعنى: إليه معادكم جميعاً.
وقرأ أبو جعفر يزيد " أنه " بفتح الهمزة: وهي في موضع نصب بمعنى لأنه يبدأ، (مثل) لبيك إن الحمد والنعمة لك (لا شريك لك).
﴿إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق﴾ أي: انشأناه قبل أن لم يكن شيئاً ثم يميته، ثم يعيده في الآخرة كهيئته.
﴿لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط﴾ أي: ليثبت المؤمنين على أعمالهم بالعدل والإنصاف.
وأصل الحميم محموم: فهو " فعيل " في موضع " مفعول ".
﴿وَعَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي: ولهم عذاب مؤلم بكفرهم. (ثم) قال تعالى: ﴿هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً﴾ من قرأ " ضياءً " (بهمزة) متطرفة فهو الأصل، لأنه من الضوء. فالهمزة لام الفعل، والياء في " ضياء " بدل من واو
ومن همز موضع الياء فإنما يجوز على القلب، وذلكأن تقلب الهمزة التي هي لام (الفعل) في موضع الياء التي هي عين. فتصير الياء بعد ألف متطرفة. فتنقلب همزة فيصير وزنه " فلاعاً ".
وقوله: " منازل " منصوب على حذف المضاف. والمعنى: وقدره منازل.
(و) قيل: المعنى وقدر له منازل، ثم حذف اللام، وعدى الفعل كما قال: ﴿كَالُوهُمْ﴾ [المطففين: ٣]. والمعنى: إن ربكم الله ﴿الذي خَلَقَ السماوات والأرض﴾ [يونس: ٣]، ثم فعل كذا ﴿هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ﴾ أي: قدر القمر منازل. لا يقصر دونها، ولا يجاوزها يكون كل ليلة بمنزلة من المجوم، وذلك في ثمانية وعشرون منزلاً في كل شهر، وهو قوله: ﴿والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ﴾ [يس: ٣٩].
﴿مَا خَلَقَ الله ذلك﴾ أي: ما خلق الله الشمس والقمر والسماوات والأرضين ﴿بالحق﴾.
ومن قرأ " يفصل " بالياء رده على ذكر الله لقربه منه، فأسندالفعل إليه بلفظة التوحيد.
ومن قرأ بالنون أجراه مجرى ما أتى في القرآن بلفظ الجميع، من/ " فصلنا، ونفصل " وذلك كثير.
ومعنى (نفصل الآيات): نبين الحجج، والأدلة لقوم يعلمون. ﴿ذلك إِلاَّ بالحق﴾: وقف لمن قرأ بالنون.
قوله: ﴿إِنَّ فِي اختلاف اليل والنهار وَمَا خَلَقَ الله فِي السماوات والأرض﴾ إلى قوله: ﴿يَكْسِبُونَ﴾
والمعنى: إن في ذهاب الليل، ومجيء النهار، وذهاب النهار، ومجيء الليل، وإحداث كل واحد منهما بعد ذهابه، واضمحلاله لعلامات ﴿لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾: على الوحدانية والقدرة. ويشير إليها، ويخبر عنها: فالصامت لا يقدر على النطق، لأن مسكتاً أسكته، وهو الله (سبحانه)، والناطق لا يعجز عن النطق، لأن منطقاً أنطقه، وهو الله ( تعالى)، والمتحرك لا يعجز عن الحركة، لأن محركاً حركه، وهو الله ( تعالى) : فكلٌ فيه دليل على الوحدانية والقدرة والملك.
﴿وَمَا خَلَقَ الله فِي السماوات والأرض﴾ معناه: من النجوم والشمس والقمر والجبال والشجر وغير ذلك. (لآيات) أي: لحجج وعلامات على توحيد الله (جلت عظمته).
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا﴾ أي: لا يخافون الحساب والبعث. تقول العرب: " فلان لا يرجو فلاناً " أي: لا يخافه، ومنه قوله: ﴿مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً﴾ [نوح: ١٣]: أي تخافون.
وقال بعض العلماء: لا يقع الرجاء بمعنى الخوف إلا مع الجحد.
وقال غيره: بل يقع بمعنى الخوف في كل موضع دل عليه المعنى.
قوله: ﴿وَرَضُواْ بالحياوة الدنيا﴾ أي: جعلوها عوضاً من الآخرة ﴿واطمأنوا بِهَا﴾ أي: سكنوا إليها.
﴿والذين هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ﴾ أي: عن أدلتنا وحجتنا معرضون، لاهون.
﴿أولئك مَأْوَاهُمُ النار﴾ أي: من هذه صفتكم مصيرهم إلى النار.
﴿بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ (في) الدنيا من الآثام.
قوله ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ﴾ إلى قوله ﴿العالمين﴾.
المعنى: إن الذين صدقوا الله ورسوله، وعلموا بطاعة الله ﴿يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ﴾ أي: يرشدهم بإيمانهم إلى الجنة.
وقال قتادة: بلغنا أن النبي عليه السلام، قال: " إن المؤمن إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة حسنة يقول له: من أنت؟ فوالله إني لأراك امرأ صدق. فيقول (له): أنا عملك، فيكون له نوراً وقائداً إلى الجنة. والكافر بضد ذلك في الصورة
وقيل: المعنى يهديهم ربهم لدينه بإيمانهم به. أي: من أجل تصديقهم هَدَاهم.
قوله: ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار فِي جَنَّاتِ النعيم﴾.
أي: في بساتين قد نعّم الله فيها أهل / طاعته.
ومعنى ﴿مِن تَحْتِهِمُ﴾: من دونهم وبين أيديهم، وليس هو أنها تجري (من) تحت ما هم عليه جلوس من أرض ونحوها. وهذا كما تقول: بلد كذا تحت بلد كذا. أي: بجوارها وبين أيديها. لا أنها تحتها: إحداهما فوق الأخرى. ومثل هذا قوله تعالى: ﴿قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً﴾ [مريم: ٢٤]. ومعلوم أن السري ليس تحتها، إذ كان السري: الجدول، وإنما معناه: أنه جعله دونها، أي: بين يديها. ومن هذا ما حكى
ثم قال تعالى إخباراً عن أهل الجنة ﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهم﴾.
حكى سيبويه: الدعوى بمعنى الدعاء. فالمعنى دعاؤهم في الجنة: سبحانك اللهم.
قال ابن جريج: وإذا مر بهم الطير يشتهونه قالوا: سبحانك اللهم فيأتيهم الملك بما يشتهون فيسلم عليهم، فيردون عليه (السلام) فذلك قوله: ﴿وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ﴾. فإذا أكلوا حمدوا الله ربهم، فذلك قوله تعالى:
والتحية: البقاء. ومنه قوله: " التحيات لله "، والتحية أيضاً: الملك، والتحية هي استقبال الرجل بالمُحَيَّا: وهو الوجه بما يسره من الكلام. وقيل: التحية في هذا بمعنى الحياة، أي: يُحيي بعضهم بعضاً.
إنهم يحيون ولا يموتون، ويسلمون من كل شيء يحذرون. والسلام بمعنى السلامة.
وقيل: ﴿وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ﴾ أي: تحيه بعضهم لبعض فها سلام. أي: " سلمت وأمنت مما ابتلي به أهل النار ".
وقيل: المعنى إن الله ( تعالى) يحييهم بالسلام إكراماً منه (لهم).
وقال سفيان: إذا أرادوا الشيء قالوا: سبحانك اللهم، فيأتيهم ما
(وسئل النبي ﷺ، عن: سبحان الله، فقال: مفسراً تنزيهاً (لله) عن السوء).
وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: هي كلمة رضيها الله ( تعالى) لنفسه. فسبحان الله: كلمة ينزه بها (الله عن كل) فعْل مذموم أو متهم.
(أللهم): وقف و (سلام): وقف. ومذهب سيبويه في ﴿أَنِ الحمد للَّهِ﴾ أنها مخففة من الثقيلة، والمعنى: أنه الحمد لله رب العالمين).
قوله: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير﴾
قوله: ﴿استعجالهم بالخير﴾ تقديره عند سيبويه: " تعجيلاً مثل استعجالهم بالخير ثم حذف تعجيلاً، وأقام صفته (مقامه)، ثم حذف صفته وأقام المضاف إليه مقامه، وحكى " زيد: شرب الإبل " أي: يشرب شرباً مثل شرب الإبل.
ومعنى الآية: ولو يعجل الله للناس إجابة دعائهم في الشر - أي: فيما عليهم فيه مضرة في نفس، أو مال، أو ولد، وذلك عند الغضب - كما يستعجلون بالخير إذا دعوا في سؤالهم الرحمة، والرزق.
﴿لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ﴾ أي: لماتوا. قال مجاهد: هو قول الإنسان لولده، ولماله إذا غضب: اللهم لا تُبَارِكْ فِيهِ والْعَنْهُ ونحو ذلك، ولو عجل الله الإجابة فيه كما يريدون أن تستعجل لهم الإجابة في الخير إذا دَعَوا لأهلكهم.
وقد قيل: إن هذا إنما هو قولهم:
ثم قال تعالى: ﴿فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا﴾ (معناه): ندع الذين لا يخافون البعث، لا نُهْلِكُهُم إلى مدتهم، ولكن نذرهم ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ أي: في ضلالهم يَتَحَيَّرُونْ. وهو مثل قوله: ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً﴾ [آل عمران: ١٧٨].
قوله: ﴿وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً﴾. قوله: ﴿دَعَانَا لِجَنبِهِ﴾ أي مضطجِعاً، ف " لجنبه " في موضع الحال.
قوله: ﴿أَوْ قَاعِداً﴾ عطف عليه على المعنى، وقيل: المعنى وإذا مس الإنسان الضر على إحدى هذه الأحوال دعانا. فالحال في القول الأول: من الضمير في ﴿دَعَانَا﴾ وفي القول الآخر: من (الإنسان). والعامل في الحال " مسّ "، وفي القول الاخر: " دعا ".
قوله: ﴿كذلك زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾: أي: كما زين له استمراره على ما كان عليه قبل نزول الضُّر به، بعد كشف الله ( تعالى) عنه، ﴿كذلك زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ﴾: أي: للذين أسرفوا في العصيان، والكذب على الله تعالى ورسوله، ﴿مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ من معاصي الله تعالى.
﴿أَوْ قَآئِماً﴾: وقف، ﴿مَّسَّهُ﴾: وقف.
قوله: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ﴾ إلى قوله ﴿كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾
﴿وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات﴾: أي: من عند الله تعالى بالحجج والبراهين.
وقوله: ﴿وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ﴾ أي: لم يكونوا ليوفِّقوا إلى الإيمان لِمَا تقدم في علم الله تعالى منهم.
وقيل: المعنى ما كانوا ليؤمنوا جزاءً منه (لهم) على كفرهم طبع على قلوبهم، ودل على ذلك قوله: ﴿كذلك نَجْزِي القوم المجرمين﴾ أي: نطبع على قلوبهم، فلا يؤمنون جزاء بكفرهم.
وقيل: المعنى: كما أهلكنا هذه القرون من قبلكم بشركهم، كذلك أفعل بكم بشرككم، وتكذيبكم رسلكم إن أنتم لم / تتوبوا وتؤمنوا.
وقيل المعنى: ما كانوا ليؤمنوا جزاء بما كذبوا به أَوَّلاً بعد أن تبين لهم الحق، فكان ما ختم لهم به من ترك الإيمان عقوبة لهم على التكذيب أوَّلاً.
ثم قال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض مِن بَعْدِهِم﴾ أي: جعلناكم أيها المخاطبون تخلفون من مضى من القرون الهالكة بشركهم ﴿لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾:
والعامل في " كيف (تعملون) ": لام " لننظر ".
وروى عبد الحميد بإسناده عن ابن عامر ﴿لِنَنظُرَ﴾ بإدغام النون في الظاء وهو بعيدٌ جدّاً.
قوله: ﴿وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ﴾ إلى قوله ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾
والمعنى: وإذا قرئ على هؤلاء المشركين القرآن، وهو الآيات البينات: أي: الواضحات ﴿قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا﴾: أي: لا يخافون العقاب، ولا يصدقون بالبعث.
﴿ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ أَوْ بَدِّلْهُ﴾: أي غيِّره، أي: اجعل مكان الحلال حراماً،
ثم قال تعالى ذكره لنبيه أن يقول لهم: ﴿مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي﴾: أي: ليس ذلك إليَّ، إنما الأمر إلى الله تعالى.
﴿ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾. قال قتادة: هذا قول مشركي أهل مكة.
وقوله: ﴿ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ﴾ يريدون ليس فيه ذكر البعث (والنشور وسبُّ) آلهتنا.
ثم قال الله (تعالى ذكره): قل يا محمد لهم ﴿لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ﴾: أي: لو شاء الله ما أنزل علي، فيأمرني بتلاوته عليكم، ولو شاء الله ما أنزله علي، فيأمرني بتلاوته عليكم، ولو شاء لم يعلمكم به.
﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ﴾: أي قد كنت فيكم أربعين سنة قبل أن ينزل علي القرآن فلم نتل عليكم شيئاً ولو كنت منتحلاً ما ليس لي بحق من القول
قال ابن عباس: ﴿وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ﴾: أي: ولا أعلمكم به.
وقال ابن جريج: ولا حذرتكم به.
وقال الضحاك: ولا أشعركم به.
وقرأ الحسن: " ولا أدرأتُكم به بالألف والتاء: وهي غلط عند النحويين، غير أن أبا حاتم، قال: يريد الحسن: ولا أدْرَيْتُكُمْ به، ثم أبدل من
وقد حُكِيَ أن بعض العرب يهمز الحرف إذا ضَارَعَ المهموز، فيهمزون غير المهموز. حكى الفراء عن امرأة قالت: رثَأْتُ زوجي بأبيات. ويقولون: لبَّأتُ بالحج، وحَلأَّتُ السَّويق، فيهمزون، لأَن حَلأْت يقع في دفع العطاش من الإبل
﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ﴾: أي: أربعين سنة، " تعرفونني بالصدق والأَمانة، لا أقرأ، ولا أكتب، ثم جئتكم بالمعجزات. ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ إن هذا لا يكون إلا من عند الله ".
قوله: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً﴾ إلى قوله ﴿يُشْرِكُونَ﴾
والمعنى فمن أشد ظلماً يا محمد ﴿مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً﴾: أي: اختلق على الله الكذب ﴿أَوْ كَذَّبَ بآياته﴾: أي: بحُجَجِهِ، وَرُسله.
﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ المجرمون﴾ " الهاء " كناية عن الأمر، و " المجرمون ": الذين اجترموا من الكفر، أي: اكتسبوه.
ثم وصفهم الله تعالى، فقال: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ﴾:
وقال الطبري: المعنى: " ولا تنفعهم عبادتها في الدنيا، ولا في الآخرة.
ثم قال عنهم: ﴿وَيَقُولُونَ هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله﴾: كانوا يعبدون الأصنام، رجاء أن تشفع لهم عند الله سبحانه.
ثم قال: (قل) - يا محمد - ﴿أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض﴾: أي: أتخبرون الله بما لا يكون في السماوات، ولا في الأرض أن تشفع الآلهة لأحد.
﴿سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾: أي تنزيهاً له وعلوّاً عن شركهم.
قوله: ﴿وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا﴾ إلى قوله: ﴿مِّنَ المنتظرين﴾
المعنى: ما كان الناس إلا أهل دين واحد، فافترقت بهم السبل.
﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ أي: لولا أنه سبق في علمه ألا
قال مجاهد: كان الناس وقت آدم على دين واحدٍ، ثم اختلفوا إذ قتل أحدهم ابْنَيْ آدم أخاه.
وقيل: يراد بالناس هنا: العرب.
وقيل المعنى: إن كل مولود يولد على الفطرة، ثم يختلفون بعد ذلك.
والأُمة: على خمسة أوجه:
- الأُمة: " العُصْبة، والجماعة نحو ﴿أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ﴾ [المائدة: ٦٦]
ونحو: ﴿وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ﴾ [الأعراف: ١٥٩].
- والثاني: أن تكون بمعنى " الملة "، نحو: ﴿وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾. ومثله الحرف الذي في هذه السورة.
- والثالث: أن تكون بمعنى " السنين والحين " نحو: ﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ﴾ [هود: ٨] ونحوه ﴿وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ [يوسف: ٤٥].
والرابع: أن تكون الأُمة بمعنى " قوم " نحو قوله: ﴿أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أربى مِنْ أُمَّةٍ﴾ [النحل: ٩٢] أي: قوم أكرم من قوم ومنه ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً﴾ [الحج: ٣٤] أي قوم.
- والخامس: أن تكون الأُمة بمعنى " الإمام ". نحو قوله:
﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ﴾ [النحل: ١٢٠] أي: إماماً، يقتدى به في الخير.
ثم أخبر عنهم تعالى فقال: ﴿وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ﴾ أي: يقول
﴿فانتظروا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين﴾: أي: انتظروا قضاء الله سبحانه بيننا وبينكم، بتعجيل العقوبة للمبطل /، وإظهار الحق للمحق.
وقيل: المعنى: فانتظروا نصر الله المحق، وخذلانه المبطل. ﴿إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين﴾: أي: إني معكم منتظر من المنتظرين. لذلك. قوله: ﴿وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً﴾ إلى قوله ﴿بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ جواب إذا محذوف عند سيبويه. والتقدير: من بعد ضراء مستهم مكروا. والعرب تجتزئ بإذا في جواب الشرط عن " فعلتُ وفعلوا ".
والناس هنا: المشركون كما قال: ﴿إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ [العاديات: ٦].
وقيل: يحتالون حتى يجعلوا سبب الرحمة في غير موضعه. قل لهم يا محمد: ﴿الله أَسْرَعُ مَكْراً﴾ أي: أسرع استدراجاًَ لكم وعقوبة.
﴿إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ﴾ أي: إن الحفظة يكتبون عليكم ما تمكرون في آياتنا.
ثم عدد تعالى نعمه فقال: ﴿هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر﴾ وقرأ ابن عباس: " يَنْثُرُكم " من النثر: أيْ: يبسطكم براً وبحراً.
﴿حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك﴾: وهي السفن ﴿وَجَرَيْنَ بِهِم﴾ يعني: السفن
وقيل: جاءت الريح الطيبة ريحٌ عاصف، والعاصف: الشديدة.
﴿وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ﴾ أي: من كل جانب.
﴿وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ﴾ أي: أيقنوا بالهلاك.
﴿دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين﴾ أي: أخلصوا الدعاء له تعالى، دون أوثانهم، وآلهتهم.
(و) قيل: (لأنهم) يقولون: " آهيا شَرَاهِيّاًً ": تفسيره: يا حيُّ يا قيومُ ﴿لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين﴾ على نعمك (وتخليصك) (إيانا مما نحن فيه).
﴿فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض﴾، والفلك تذكر، وتؤنث، وتكون واحداً
وقوله: ﴿إِذَا كُنتُمْ﴾، ثم قال: ﴿وَجَرَيْنَ﴾ فهذا من الرجوع من المخاطبة إلى الإخبار، ثم قال إخباراً عن فعلهم:
﴿فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق﴾ أي: يكفرون، ويعملون بالمعاصي على ظهر الأرض.
وأصل النجاء: البعد من المكروه ومنه الاستنجاء، لأن الإنسان يبعد به عن نفسه الأذى.
ثم قال تعالى: ﴿يا أيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ﴾:
أي: عليها يرجع. وإياها تظلمون. وهذا الذي أنتم فيه متاع الحياة الدنيا.
والبغي في اللغة: التطارُحُ في الفساد.
ومن قرأ ﴿مَّتَاعَ﴾ بالرفع احتمل أن يكون خبر بغيكم، ويجوز أن يكون
وإذا رفعتَ " المتاع " على إضمار مبتدأ، وجعلت " على أنفسكم " خبر بغيكم كان المعنى: إنما فسادكم راجعٌ عليكم مثل: ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ [الإسراء: ٧] وهو معنى قراءة / من قرأ بالنصب. ويكون النصب على المصدر أي: تمتعون متاع الحياة الدنيا.
﴿ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾: أي: إلينا ترجعون في الآخرة، فنخبركم بعلمكم، ونجازيكم عليه.
قوله: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السمآء﴾ إلى قوله ﴿مُّسْتَقِيمٍ﴾.
قرأ الحسن، والأعرج، وأبو العالية: " وأَزْيَنَتْ " على وزن " أَفْعَلت ": أي جاءت بالزينة. وجاء على أصله غير مُعْتَل " كاستحوذَ ".
وقرئ: " وازْيَّانَّت " مثل اسْوَادَّت.
﴿كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس﴾ أي كأن لم يكن ذلك الزرع، والنبات على
والمغاني: المنازل التي يعمرها الناس. وغنينا بمكان كذا أي: نزلناه. والمعنى: وكذلك يأتي الفناء على ما تتباهون به من دنياكم فينفيها.
قال ابن عباس: فاختلط به نبات الأرض: فنبت بالماء من كل لون.
ثم قال: ﴿كذلك نُفَصِّلُ الآيات﴾: (أي): كما بينا لكم أيها الناس مثال الدنيا، كذلك نبين حججنا، وأدلتنا لمن تفكر، ونظر، واعتبر. والهاء في ﴿أَتَاهَآ أَمْرُنَا﴾ تعود على الأرض. وقيل: على الزخرف. أي: أتى زخرفها أمرنا.
وقيل (على) الزينة: أي: أتى زينَتها أمرُنا ليلاً.
وقرأ مَرْوَ (ا) ن على المنبر: {حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ
وذكر أن كذلك قرأها ابن عباس.
وقال ابن عباس: كذلك أقرأني أبي بن كعب.
وقال قتادة (كأن لم نغن بالأمس): " كأن لم تعش، كأن لم تنعم ".
وكان أبو سلمة بن عند الرحمن يقرأ في قراءة أبي: كأن لم تغن بالأمس، وما أهلكناها إلا بذنوب أهلها، كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون. ولا يحسن
وقوله: ﴿يَتَفَكَّرُونَ﴾: وقف، ووقَفُ أصحاب نافع ﴿أَنزَلْنَاهُ مِنَ السمآء فاختلط بِهِ﴾، وكذلك ﴿فاختلط﴾ [الكهف: ٤٥] في الكهف.
وتأويل ذلك " كماء أنزلناه من السماء فاختلط بالأرض " ثم استأنف فقال: ﴿بِهِ نَبَاتُ الأرض﴾: أي بالماء نبات الأرض.
ومن / جعل الوقف (والأنعام) رفع النبات.
﴿فاختلط﴾: أي: فاختلط (نبات الأرض) بالماء.
ثم قال تعالى: ﴿والله يدعوا إلى دَارِ السلام﴾ أي: يدعو إلى الجنة التي يسلم من دخلها من الآفات.
﴿وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ أي يوفِّقُ من يشاء إلى الإسلام وهو طريقهُ المستقيم الذي لا عوج فيه: وهو سبب رضاه، ورضاه سبَبُ دخول الجنة.
قوله: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ﴾ إلى قوله ﴿خَالِدُونَ﴾ والمعنى: للذين أحسنوا عبادة الله تعالى في الدنيا الحسنى وهي الجنة، (وزيادة)، يعني: النظر إلى وجهه جل ذكره، روي ذلك (عن) عامر بن سعد عن أبي بكر الصديق رضي الله عنهـ.
وروى صهيب أن رسول الله قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار
وهذا القول قول أبي موسى الأشعري، وحذيفة، قاله ابن أبي ليلى، وغيرهم: (إن الزيادة): النظر إلى وجه الله تعالى، وذكر كل واحد حديثاً (مثل) معنى الحديث المذكور عن النبي عليه السلام.
وقال ابن عباس: الحسنى واحدة من الحسنات بواحدة، والزيادة: التضعيف إلى تمام العشرة على الواحدة. وهو مثل قوله: ﴿وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ [ق: ٣٥]: أي: يزيده من فضله.
وقال الحسن: الزيادة هو المجازاة بالحسنة عشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف.
وقال مجاهد: الحسنة بحسنة، وزيادة مغفرة من الله ورضوان.
وقيل: الزيادة: ما أعطاهم الله تعالى في الدنيا ولا يحاسبهم به يوم القيامة.
وعن ابن عباس أيضاً: ﴿أَحْسَنُواْ﴾ قالوا: لا إله إلا الله، ﴿الحسنى﴾: الجنة.
(وروى أبو موسى الأشعري أن النبي عليه السلام قال: إن الله تعالى يبعث يوم القيامة منادياً ينادي أهل الجنة بصوت يسمع به أولهم وآخرهم: إن الله وعدكم الحسنى وزيادة. فالحسنى الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله.
وقوله: ﴿وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ﴾: أي لا تغشى وجوههم كآبة والقتر: الغبار وهو جمع قترة.
وقال ابن أبي ليلى: ولا يغشاهم ذلك بعد نظرهم إلى الله سبحانه: فهؤلاء الذين هذه صفتهم هم أصحاب الجنة، ماكثون فيها أبداً.
وقيل: الهاء في " فيها " للحسنة، وقيل: للزيادة، وقيل: للحسنى، والزيادة، والجنة.
ثم قال: ﴿والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا﴾: (أي والذين عملوا السيئات في الدنيا جزاؤهم في الآخرة سيئة بمثلها) أي: عقاب من الله تعالى على ذلك.
وقيل: المعنى: فله جزاء سيئة بمثلها كما قال: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى﴾: أي: جزاء حسنة / بحسنة.
ثم قال: ﴿وَزِيَادَةٌ﴾ يريد تمام العشر (ة) على الواحدة.
﴿وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾: أي: تغشاهم، ﴿ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ﴾ أي: من مانع من عقابه.
ومن قرأ " قِطْعاً " بإسكان الطاء فهو يجوز أن تكون جمع قطعة أيضاً، إلا أنه بقي السكون على حاله كما يقول: سِدْرَةٌ، وسِدْرٌ، وبُسْرَةٌ وَبُسْرٌ. فيكون " مظلماً " أيضاً على هذا حالاً من الليل.
وقيل معناه: بقية من الليل كما قال: ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الليل﴾ [هود: ٨١، والحجر: ٦٥]: أي: ببقية منه، وهو اسم ما قطع من الليل وفي قراءة أُبَيْ: " كأنما يغشى وجوههم قِطْعٌ من الليل مظلمٌ ".
ومعنى ذلك: كأنما ألبست وجوه هؤلاء الذين كسبوا السيئات ذلك.
وقوله: ﴿جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا﴾: الباء زائدة، و ﴿جَزَآءُ﴾ مبتدأ، و ﴿بِمِثْلِهَا﴾: الخبر.
وقيل: " الباء " غير زائدة. وفي الكلام معنى الشرط، والمعنى: فله جزاء السيئة بمثلها. فالباء صلة للجزاء.
قوله: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿لَغَافِلِينَ﴾ ﴿مَكَانَكُمْ﴾:
نصب بإضمار فعل، والمعنى: امكثوا مكانكم، وقفوا موضعكم. (جميعاً): حال
والمعنى: نحشرهم لموقف الحساب، ثم نقول للذين أشركوا بالله سبحانه غيره، ﴿مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ﴾: أي: انتظروا حتى يفصل بينكم. و " مكانك وانتظر ": فتوعد بهما العرب.
﴿فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ﴾: أي فرقنا بين المشركين وما كانوا يعبدون من دون الله، من قولهم: زلتُ الشيء عن الشيء فأنا أزيله: إذا أنْجَيْتُهُ، وَزَيَّلْنَا على التكثير.
وحكى الفراء أنه قرأ " فَزَايَلْنَا ". يقال: لا أزايل فلاناً: أي: لا أفارقه، لا أخاتله. فمعنى زايلنا: معنى: زيلنا. والعرب تفعل ذلك في فَعَّلت " يلحقون أحياناً الألف مكان التشديد فتقول: فاعلت، والفعل واحد.
﴿وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ﴾: أي: تقول آلهتهم التي عبدوها في الدنيا
قال مجاهد: تكون يوم القيامة ساعة فيها شدة تنصب لهم آلهتهم التي كانوا يعبدون. فتقول الآلهة: والله ما كنا نسمع، ولا نبصر، ولا نعقل، ولا نعلم أنكم كنتم تعبدوننا. فيقولون: والله لإياكم كنا نعبد، فتقول لهم الآلهة: ﴿فكفى بالله شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ﴾.
وكان مجاهد يتأول الحشر هنا الموت.
قوله: ﴿هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ﴾ إلى قوله ﴿لاَ يُؤْمِنُونَ﴾.
﴿هُنَالِكَ﴾: نصب على الظرف، واللام زائدة، وكسرت لالتقاء الساكنين، والكاف للخطاب. والمعنى: في ذلك الوقت.
ومن / قرأ " تتلو " بتاءين فمعناه: في ذلك الوقت تتبع كل نفس ما قدمت من عمل.
والعرب تقول: فلان " يتلو طريقة أبيه ": أي: يتبع، ومنه قوله: ﴿وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ﴾ [هود: ١٧].
وقيل: معنى ﴿تَبْلُواْ﴾ تقرأ. أي: في ذلك الوقت يقرأ كل إنسان ما أسلفه في الدنيا من عمل، أي: يقرأ كتاب حسابه كما قال: ﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً﴾ [الإسراء: ١٣].
وقال ابن زيد: تتلو: تعاين ما عملت.
قوله: ﴿مَوْلاَهُمُ الحق﴾ يجوز نصب الحق على المصدر المؤكد لردوا، أو لمولاهم. ويجوز نصبه على المدح بمعنى " أغنى " ويجوز الرفع على " هو مولاهم الحق "، والخفض على النهت لله تعالى.
﴿ وَضَلَّ عَنْهُمْ﴾: أي: بطل ما كانوا يفترون، أي: يتخرصون من الأنداد والآلهة. و " ما " والفعل مصدر في موضع رفع بـ (ضَلَّ).
﴿أَمَّن يَمْلِكُ السمع والأبصار﴾: أي: يملكها، ويزيد في قواها، أو يسلبكموها ومن يملك الأبصار أن تضيء لكم، أو يذهب بنورها. ومن يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي. قد تقدم ذكرها في آل عمران.
قوله: ﴿وَمَن يُدَبِّرُ الأمر﴾: أي: " أمر السماء والأرض ومن فيهن " ﴿فَسَيَقُولُونَ الله﴾: أي: الذي فعل ذلك الله تعالى فقل له يا محمد: ﴿أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾: أي: " أفلا تخافون عقاب الله سبحانه على شرككم ".
﴿فَسَيَقُولُونَ الله﴾: وقف.
ثم قال تعالى: ﴿فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ﴾: أي: ذلكم الله الذي فعل هذه
﴿فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال﴾ (المعنى: أي: منزلة بعد الحق إلا الضلال. أي: من ترك الحق حل في الضلال).
﴿فأنى تُصْرَفُونَ﴾ أي: من أين تصرفون عن الحق، وأنتم مقرون بالله سبحانه مخترع جميع هذه الأشياء.
ثم تعبدون من لا يخلق شيئاً، ولا يملك ضراً ولا نفعاً.
﴿كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ الكاف من كذلك في موضع نصب والتقدير: كما صرف هؤلاء عن الحق إلى الضلال ﴿كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الذين فسقوا﴾: أي: خرجوا من دين الله سبحانه. ﴿أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾: أن في موضع نصب على معنى بأنهم، أو لأنهم.
وقال الزجاج: يجوز أن تكون في موضع رفع على البدل من الكلمات، وأجاز الأخفش، والفراء في الكسر في أن على الإلزام لترك الإيمان.
ومعنى: (حقت عليهم كلمات ربك): أي: وجب عليهم في علمه، وفي السابق في اللوح المحفوظ ﴿أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾.
قوله: ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ إلى قوله ﴿تَحْكُمُونَ﴾:
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: / ﴿هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ﴾ أي: آلهتكم. ﴿مَّن يَبْدَأُ الخلق﴾ أي: ينشؤه من غير أصل، ولا مثال، ﴿ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾: أي: ثم يَفْنِيهِ، إذا شاء، ثم يعيده كهيئته قبل أن يفنيه، فإنهم لا يدعون ذلك لآلهتهم. وينقطعون، فقل لهم: ﴿الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ بعد إفنائه ﴿فأنى تُؤْفَكُونَ﴾: أي: من أي وجه تصرفون وتقلبون عن الحق. ﴿ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾: وقف.
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي إِلَى الحق﴾ وسيبويه يمنع الكسر في (يهدي) في الياء، ويجيزه في التاء، والنون، والهمزة لأن الكسر ثقيل في الياء،
وأما قراءة من قرأ يهدي بالتخفيف والإسكان. فقال الكسائي والفراء: (يهدي) بمعنى (" يهتدي ").
وقال المبرد: لا يُعرف " هدى " بمعنى " اهتدى " قال: ولكن التقدير: أَمَّنْ لا يهدي غيره. ثم قال: ﴿إِلاَّ أَن يهدى﴾ على الاستثناء المنقطع، كأنه تم الكلام عند قوله ﴿أَمَّن لاَّ يهدي﴾ ثم استأنف فقال: " لكنه يحتاج أن يهدي ".
وروي عن ابن عامر: " إلا أن يَهَدِّي " بالتشديد.
وقوله: ﴿فَمَا لَكُمْ﴾ هذا تمام الكلام عند الزجاج، والمعنى: فأي شيء لكم في عبادة الأصنام.
ومعنى الآية هل من شركائكم من يهدي إلى الحق، أي: يرشد إليه ضالاً. فإنهم لا يدعون ذلك، إذ عجزهم يمنعهم من ذلك. فقل لهم يا محمد: ﴿الله يَهْدِي لِلْحَقِّ﴾: أي: يرشد الضُّلال إلى الهدى.
﴿أَفَمَن يهدي إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ﴾ إلى ما يدعو إليه ﴿أَمَّن لاَّ يهدي إِلاَّ أَن يهدى﴾: أمَّن لا ينتقل من مكانه إلا أن (ينقل): وقف، ﴿إِلاَّ أَن يهدى﴾ وقف. ﴿فَمَا لَكُمْ﴾ وقف عند أبي حاتم، والزجاج، وابن الأنباري.
قوله: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إِنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً﴾ إلى قوله ﴿مِن رَّبِّ العالمين﴾
والمعنى: ما يتبع أكثر هؤلاء إلا ظناً، أي: يتبعون ما لا علم لهم بحقيقته، وإنما هم في اتباعهم ما يتبعون على شك.
﴿إِنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً﴾: أي: " إن الشك لا يغني من اليقين شيئاً، ولا يقوم في شيء مقامه ".
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ هذا القرآن أَن يفترى مِن دُونِ الله﴾ أي: ما كان افتراءً، ولكنه من عند الله سبحانه. وقيل: المعنى: ما كان لأحد أن يأتي به من عند غير الله، وينسبه إلى الله تعالى لإعجازه.
﴿ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾: أي: ولكن كان تصديق التوراة، والإنجيل، وغيرهما من الكتب.
﴿وَتَفْصِيلَ الكتاب﴾: أي: وبيان الكتاب الذي كتبه الله على أمة محمد في
وقيل: المعنى: ولكنه تصديق الشي الذي القرآن بين يديه، وهو: الكتب المقتدمة، مثل القول الأول في المعنى.
وقيل: إن هذا إنما هو جواب لقولهم ﴿ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ﴾ [يونس: ١٥]، أو جواب / لقولهم ﴿افتراه﴾ [يونس: ٣٨].
قوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ﴾ إلى قوله ﴿عَاقِبَةُ الظالمين﴾
أم: هنا بمنزلة الألف، لأنها قد اتصلت بكلام قبلها، ولا تكون كالألف مبتدأ بها: وقيل: هي هنا بمعنى: بل. وقيل: إنها تغني عن الألف وبل.
ومعنى الكلام: " هذا تقرير لهم لإقامة الحجة عليهم ". ومعناه: أيقول:
فأمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم: ما نبين لهم أنه لا يمكن أن يكون من عند بشر، فإن أمكن فقل لهم يا محمد: ﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ﴾ أي: مثل هذا القرآن. فإذا لم تقدروا وأنتم جماعة فصحاء، دل عجزكم على أن محمداً لم يختلقه من عند نفسه، إذ لا يمكن أن يكون من عند بشر، بدلالة عجزكم عن الإتيان بسورة مثله.
وقيل: المعنى: ايتوا بسورة مثل سورته، ثم حذفت السورة مثل: ﴿وَسْئَلِ القرية﴾ [يوسف: ٨٢].
ثم قال تعالى: ﴿وادعوا مَنِ استطعتم (مِّن دُونِ الله)﴾: أي: استعينوا بمن قدرتم عليه في الإتيان بالسورة، واجتهدوا، وأجمعوا أولياءكم، وشركاءكم من دون الله سبحانه للمعونة على ذلك فأتوا بذلك ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ في قولكم: إن محمداً اختلقه.
﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾: أي: كذا كانت سبيلهم وقيل: المعنى: كما كذب هؤلاء يا محمد كذبت الأمم التي من قبلهم ﴿فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظالمين﴾: أي: اعتبر كيف أهلك بعضهم بالرجفة، وبعضهم بالغرق، وبعضهم بالريح، وبعضهم بالخسف، فإن عاقبة هؤلاء الذين كذبوك كعاقبة من تقدم من الأمم.
﴿وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾: وقف حسن.
قوله: ﴿وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ﴾ إلى قوله ﴿يَظْلِمُونَ﴾
أخبر الله تعالى نبيه في هذه الآية: أن من قريش من يؤمن بالقرآن فيما
وقيل: المعنى: ومنهم من يصدق بالقرآن، ويظهر الكفر عناداً، واتقاء على رياسته، ﴿وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ﴾ سراً ولا علانية.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ﴾ أي: لي ديني وجزاؤه، ولكم دينكم وجزاؤه.
﴿أَنتُمْ بريائون مِمَّآ أَعْمَلُ﴾ لا تؤاخذون به ﴿وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ لا أؤاخذ به: هذا مثل قوله: ﴿قُلْ يا أيها الكافرون * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ [الكافرون: ١ - ٢]. وهذا كله أمر بالمواءمة نسخ ذلك بالأمر نسخ ذلك بالأمر بالمحاربة، والقتل في " براءة " وغيرها.
وقيل: معناه، وفائدته: فقل لي علم عملي: أي: ذلك عندي، وعلم عملكم عندكم، أي: عندي علم ثواب عملي، وهذا مثل قول النبي، عليه السلام، " كل عمل ابن
وقال ابن زيد: هذه الآية منسوخة، نسخها الأمر بالقتال.
ثم قال: ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾: أي: / يستمعون القرآن.
قوله: ﴿أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم﴾ أي: تخلق لهم سمعاً، ولو كانوا لا سمع لهم يعقلون به، فكأنهم من شدة عداواتهم، وانحرافهم عن قول النبي بمنزلة الصم.
وقيل: إن هذا إعلام من الله تعالى لعباده أن التوفيق إلى الإيمان بيد الله، ومثله الكلام على قوله: ﴿وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ﴾: وهو نظر الاعتبار إلى حجج النبي وإعلامه على نبوءاته ولكن الله تعالى سلبه التوفيق فلا يقدر أحد على هدايته، كما
هذه الآية تسلية من الله، جلَّ ذكره، لنبيه عن جماعة من كفر به من قومه.
وقيل: المعنى: ومنهم من يقبل عليك بالاستماع، والنظر، وهو كالأصم، والأعمى من بغضه لك يا محمد، وكراهيته لما يراه من آياتك، فهو كالأصم، والأعمى، إذ لا ينتفع بما يرى، ولا بما يسمع كما قال: ﴿يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كالذي يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت﴾ [الأحزاب: ١٩].
ثم قال تعالى ذكره: ﴿إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً﴾: أيك لا يبخسهم حقهم، فيعاقبهم بغير كفر ﴿ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾.
وقال الفراء: إذا كانت " لكن " لا وَاوَ معها أشبهت " بل ".
والمعنى: أن الله جلَّ ذكره، لم يهمل الناس، بل أرسلهم إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، واتخذ عليهم الحجة بالعقل، والسمع، والبصر. ثم جازاهم بأعمالهم بعد أن أمرهم، ونهاهم، فأكرم الطَّائِعَ، وأهان العَاصِيَ، وهذا هو العدل الظاهر البيّن.
قوله: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النهار﴾ إلى قوله ﴿وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾
المعنى: ويوم نحشر هؤلاء المشركين، كأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار يتعارفون بينهم، ثم انقطعت المعرفة. الآن وقد خسروا أنفسهم بتكذيبهم بآيات الله تعالى ولقائه سبحانه.
وقيل: معنى ﴿يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ﴾ أي: يعرف بعضهم بعضاً بالإضلال والفساد، والجحود. وذلك أشد لتوبيخهم.
وقيل: المعنى ﴿يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ﴾ يقولون: قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله.
ومعنى: ﴿لَّمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النهار﴾ أي: قرب عندهم موتهم، وبعثهم كما قالوا: ﴿لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ [الكهف: ١٩ والمؤمنون: ١١٣].
ثم قال تعالى: ﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ)﴾: أي: " نرينك يا محمد في حياتك بعض الذي تعد هؤلاء المشركين من العذاب، ﴿أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾ قبل أن نريك ذلك فيهم "، ﴿فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ﴾ بكل حال ﴿ثُمَّ الله شَهِيدٌثُمَّ الله شَهِيدٌ على مَا يَفْعَلُونَ﴾ على أفعالهم.
قال مجاهد: الذي أراه وقعة بدر.
وقيل: المعنى: أن الله أعلم نبيه (" إن لم ينتقم منهم في العاجل انتقم
﴿ثُمَّ الله شَهِيدٌ على مَا يَفْعَلُونَ﴾ وذكر معنى، ثم قال: ﴿وَلِكُلِّ / أُمَّةٍ رَّسُولٌ﴾: أي: وأرسل إلى كل أمة خلت رسولاً كما أرسل محمداً إليكم أيها الناس لينذركم.
﴿فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ﴾ يعني: في الآخرة ﴿قُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط﴾ أي: بالعدل.
قال مجاهد: إذا جاء رسولهم يعني: يوم القيامة.
وقيل: المعنى: ولكل أمة رسول يشهد عليهم، فإذا جاء رسولهم يوم القيامة للشهادة عليهم ﴿قُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾، وهو مثل قوله: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً﴾ [النساء: ٤١] والمعنى الأول مثل قوله: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء: ١٥].
ثم قال تعالى ذكره حكاية عن قول المشركين:
﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ﴾ أي: لكل قوم ميقات لانقضاء مدتهم، لا يستأخرون عنه ساعة، ولا يتقدمونه بساعة. وذكرت الساعة لأنها أقل أسماء الأوقات، والوقت المقدر في انقضاء مدتهم: أقل من الساعة وأقرب.
قوله: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً﴾ إلى قوله ﴿تَكْسِبُونَ﴾.
قوله: ﴿مِنْهُ المجرمون﴾ الهاء: تعود على العذاب، وقيل: على اسم الله تعالى.
فمعنى الكلام: الإنكار عليهم لاستعجالهم بأمر، لا يقدرون على دفعه إذا حل بهم. ثم قال تعالى: ﴿أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ﴾.
قال الطبري: " أثم " بمعنى " هنالك " إذا وقع العذاب بكم آمنتم بالله تعالى. وليست عنده، ثم التي للعطف وهو غلط منه. وإنما التي تكون بمعنى " هنالك " هي المفتوحة / الثاء بمنزلة قوله: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً﴾ [الإنسان: ٢٠]. والتقدير عند غيره أنها " ثم " التي للعطف. وفي الكلام حذف. والتقدير: أتأمنون إذا نزل بكم العذاب، فتؤمنون ثم يقال لكم: الآن آمنتم، وقد كنتم تريدون استعجاله، وحلوله بكم، فلما عاينتم حلوله آمنتم حين لا ينفعكم الإيمان، وهو مثل قوله: ﴿فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ﴾ [غافر: ٨٤] إلى قوله ﴿بَأْسَنَا﴾ [غافر: ٨٥]: أي: لم ينفعهم الإيمان
و" آلآنَ " عند الفراء أصلها: أوان، ثم حذغت الهمزة الثانية منها، وقُلِبَتْ الواو ألفاً، ثم دخلت الألف واللام وبنيت على الفتح.
وقيل: أصلها " آن " مثل " حان " ثم دخلتها الأف واللام، وبقيت على فتحها مثل: " قيل، وقال ".
وقال الزجاج: لا يحسن هذا القول: لأنه لو كان كذلك لم تدخل عليه الألف واللام، كما لا تدخل على " قيل ".
وقال سيبويه: سبيل الألف واللام أن يدخلا لمَعْهُود، و " الآن ": ليس بمعهود، وإنما معناه: " نحن في هذا الوقت نفعل كذا، فلما تضمنت هذا بنيت على الفتح ".
﴿ذُوقُواْ عَذَابَ الخلد﴾: أي: العذاب الدائم. هل تجزون إلا ما علمتم في حياتكم من المعاصي، وما اكتسبتم في دنياكم.
قوله: ﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ﴾ إلى قوله ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾.
﴿أَحَقٌّ هُوَ﴾ هو: ابتداء، وخبره " أحق ".
وقال سيبويه: (أحق): ابتداء، وهو فاعل يسد مسد الخبر.
ومعنى الآية: ويستخبرك يا محمد هؤلاء المشركون: أحق ما تعدنا به من الآخرة، ومن المجازاة على أعمالنا. قل لهم يا محمد: ﴿إِي وربي﴾: نعم وربي: ﴿إِنَّهُ لَحَقٌّ﴾ أي: إن الذي يعدكم من ذلك، لحق آت لا شك فيه.
﴿أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾: أي: لستم تعجزون الله إذا أراد بكم أمراً بهرب، ولا
﴿إِي وربي﴾: وقف، كما تقول: " نعم والله ". والتمام: إنه لحق. ثم قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرض﴾: " أَنَّ ": في موضع رفع فعل مضمر، لأن حق لو (أ) لا يليها إلا الفعل مضمراً، أو مظهراً. فسبيل ما بعدها أن يكون مرفوعاً بالفعل المقدر. والمعنى: ولو أن لكل نفس كفرت بالله سبحانه، وآياته، (جلت عظمته) ما في الأرض، من قليل، أو كثير لافتدت به من عذاب الله إذا عاينته. وذلك لا يكون لها أبداً، ولو كان لها لافتدت به، ولو افتدت به لم يقبل منها.
قوله: ﴿وَأَسَرُّواْ الندامة﴾: أي: أسَرَّ كثيراً. وهي الندم من ضعفائهم حين عاينوا العذاب، وعلموا أنه واقع بهم.
وقيل: المعنى: (وأسروا): أظهروا الندامة عند ذلك.
قال المبرد: معناه: بدت الندامة في أسرة وجوههم، وهي الخطوط التي في الجبهة، واحِدها سِرارٌ.
ثم قال تعالى منبهاً: (أَنَّهُ غَنِيٌ عما في الأرض (و) لو افتدوا به) وأنه لا يملك هذا الكافر شيئاً: ﴿ألا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض﴾: فليس للكافر شيء يفتدي به.
ثم قال: ﴿أَلاَ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ﴾: أي: عذابه الذي استعجله / هؤلاء المشركون حق واقع لا شك فيه.
﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾: حقيقة ذلك، فهم من أجل جهلهم يكذبون.
قوله: ﴿هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ إلى قوله: ﴿خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾.
والمعنى: والله تعالى يحيي ويميت، فلا يتعذر عليه إحياؤهم بعد مماتهم. ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.
و" ألا " في جميع هذا تنبيه.
ثم قال تعالى: ﴿يا أيها الناس قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور﴾: وهو القرآن، يذكركم عقاب الله تعالى، وثوابه، جلت عظمته.
﴿وَهُدًى﴾: أي: " وبيان لحلاله وحرامه ".
﴿وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: يرحم به من يشاء من خلقه، فينقذه به من الضلالة إلى الهدى، فهو رحمة للمؤمنين، وعمى للكافرين، كما قال: ﴿وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ [فصلت: ٤٤].
ثم قال تعالى: قل - يا محمد - ﴿بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ﴾ أي: بفضل الله تعالى، وهو الإسلام الذي تفضل على العباد المؤمنين بالهداية إليه وبرحمته سبحانه التي رحمكم، فاستنقذكم من الضلالة. ﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ﴾:
وعن ابن عباس أنه قال: فضل الله تعالى القرآن، ورحمته سبحانه أن جعلهم
والعرب تأتي " بذلك " للواحد والاثنين والجمع، وهو هنا للاثنين. وقرأ يزيد ابن القعقاع: " فلتفْرَحُوا " بالتاء، ورواها عن النبي ﷺ، وقرأ أُبَيّ بالتاء في الحرفين. وفي حرف أبَي: " فبذلك فافرحوا ".
وقيل: الفضل هنا الإسلام، والرحمة: القرآن، قاله ابن عباس، وقتادة. وقال أبو سعيد الخدري الفضل: القرآن، والرحمة: أن جعلكم من أهله.
وروي عن ابن عباس أيضاً: الفضل: القرآن، والرحمة: الإسلام. وهو قول زيد ابن أسلم، والضحاك.
ومن قرأهما بالتاء، فعلى المخاطبة للمؤمنين.
ومن قرأهما بالياء، فعلى الأمر للكفار: أي: فبالقرآن، والإسلام فليفرح هؤلاء المشركون. ﴿هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾: من الأموال. ﴿مَا فِي السماوات والأرض﴾ [يونس: ٥٥]: وقف. ﴿يَوْمَ القيامة﴾ [يونس: ٦٠]: وقف عند أحمد بن جعفر.
والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: أرأيتم الذي أنزل الله إليكم من رزق، وحوَّلكموه فَحَلَّلْتمْ بعضه، وحرمتم بعضه: وذلك أنهم كانوا يحرمون بعض أنعامهم، وبعض زروعهم، وقد ذكر ذلك في المائدة، والأنعام.
ومعنى الآية: أنها نهي عن تحليل ما حرم الله. وعن تحريم ما أحل الله سبحانه، وعن تحليل ما لم يأذن الله بتحليله، وتحريم ما لم يأذن بتحريمه.
﴿ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ﴾: أي: تختلقون ما لم يأمر به.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذبإن الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس﴾ أي: ما ظن هؤلاء الذين
إن الله يفعل بهم يوم القيامة، أيحسبون أنه يصف عنهم؟ كلا، بل يصليهم سعيراً.
﴿إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس﴾: أي: ذو تفضل على خلقه، بتركه معاجلة من افترى على الله الكذب بالعقوبة في الدنيا.
﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ﴾ على تفضل الله تعالى عليهم.
قوله: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ﴾
قوله: ﴿تَتْلُواْ مِنْهُ﴾: " التاء " تعود على الشأن. والمعنى " وما تتلو من الشأن. أي: من أجل الشأن، أي: يحدث شأن، فيتلى القرآن من أجله ليعلم كيف حكمه ".
وقال الطبري: ﴿وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ﴾: أي: من كتاب الله تعالى.
﴿ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ﴾: أي: عملاً. " ومن " زائدة للتأكيد.
﴿إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً﴾: أي: " إلا ونحن شهود لأعمالكم " إذا عملتموها. ومعنى: ﴿إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾: أي: إذ تفعلون.
وقيل: إذ " تأخذون فيه ": أعلم الله تعالى المؤمنين أنهم لا يعملون عملاً إلا كان شاهده وقت عملهم له.
ثم قال: ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ﴾ أي: وما يغيب عن ربك مثقال ذرة.
" وَلاَ أَكْبَرَ وَلاَ أَصْغَرَ ". عن نصب عطفه على لفظ " مثقال "، وعلى لفظ " ذرة ". وهو لا ينصرف، وموضعه خفض. ومن رفع، رفعه على موقع مثقال، لأن " من " زائدة للتوكيد.
والمعنى: ليس يغيب عن ربك يا محمد من أعمال العباد زنة ذرة، وهي النملة
قوله: ﴿ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ إلى قوله ﴿الفوز العظيم﴾.
" ألا ": تنبيه، وأولياؤه ": قوم يُذكَر الله تعالى عند رؤيتهم، لما عليهم من سمات الخير، والإخبات: قاله ابن عباس.
وروي ذلك عن النبي، عليه السلام.
وروى أبو هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال: " إن من عباد الله عباداً يغبطهم الأنبياء والشهداء. قيل: من هم يا رسول الله؟ لعلنا نحبهم. قال: هم قوم متحابون في
ثم قال تعالى: ﴿الذين آمَنُواْ (وَكَانُواْ) يَتَّقُونَ﴾: أي: هم الذين آمنوا بالله تعالى ورسوله، وبما جاء من عند الله سبحانه ﴿وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾: محارمه. ﴿لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة﴾ قال عروة بن الزبير، ومجاهد: " هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح، أو ترى له ".
قال أبو الدرداء: " سألت النبي ﷺ، عن هذه الآية فقال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل، وتُرى له، وهي / جزء من سبعة وأربعين جزءاً من النبوءة ".
وقال الضحاك: يعلم أين هو قبل الموت، ويدل على هذا القول قوله: ﴿يُبَشِّرُهُمْ (رَبُّهُم) بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ﴾ [التوبة: ٢١] الآية.
وقوله: ﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ﴾ الآية. [فصلت: ٣٠].
﴿لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله﴾: أي: لا خُلف لوعده. لا بد أن يكون ما قاله تعالى.
﴿ذلك هُوَ الفوز﴾: أي: البشرى في الحياة الدنيا، وفي الآخرة: ﴿هُوَ الفوز العظيم﴾. والفوز: الظَّفر.
قوله: ﴿لِكَلِمَاتِ الله﴾ وقف.
قوله: ﴿وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً﴾ إلى قوله ﴿بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ﴾
والمعنى: ولا يحزنك يا محمد تكذيبهم لك، واستطالتهم عليك.
﴿إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً﴾: أي: له عزة الدنيا والآخرة، فهو ينتقم من هؤلاء.
﴿هُوَ السميع العليم﴾: أي: ذو سمع لما يقولون، وما يقول غيرهم، وذو علم
ثم قال تعالى: ﴿ألا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السماوات وَمَنْ فِي الأرض﴾: أي: له كل شيء. فكيف يعبد هؤلاء غيره؟ فليس يدعون في عبادتهم الأصنام شُرَكاءَ له لأن كل شيء له. ما يتبعون في عبادتهم لها إلا الشك، وما هم إلا يتخرصون والعامل الناصب للشركاء: " يدعون "، ولا يعمل فيه " يتبع " لأنه نفي عنهم. وقد أخبرنا الله أنهم يعبدون الشركاء. ومفعول " يتبع " قام مقامه.
﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن﴾ لأنه هو، فكأنه قال: وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إلا الظن. فالظن مفعول " يتبع "، و " شركاء " مفعول يدعون.
قوله: ﴿هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ﴾: أي: تستريحون فيه من
﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾: أي: يسمعون هذه الأدلة فيفهمونها، ويتَّعِظون بها.
ثم قال تعالى حكاية عن قوم الكفار: ﴿قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً﴾ يعني: قولهم: إن الملائكة بنات الله.
سبحانه: أي تنزيهاً له من ذلك، ومن كل السوء. ﴿هُوَ الغني﴾ أي: الغني عن خلقه، فلا حاجة له إلى ولد.
﴿لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ أي: يملك جميع ذلك، فأي حاجة له إلى ولد، وكيف يكون عبده ولداً له. وأيضاً: فقد أقررتم أيها الجاهلون أنه لا شبه له، ولا مثل، وعلمتم أن الولد يشبه الوالد، وأنه من جنس والده يكون. فواجب أن يكون الولد الذي ادعيتم مثل الوالد. فقد أوحيتم بذلك أن له مثلاً، وشبيهاً، لأن ولده / مثله. وإذا وجب ذلك زالت عنه صفة ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١]. وإذا زالت هذه الصفة عنه، فقد
قوله: ﴿إِنْ (عِندَكُمْ) مِّن سُلْطَانٍ بهاذآ﴾: أي: ما عندكم أيها القوم من حجة بقولكم. ﴿أَتقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾: أي: لا تعلمون حقيقته، وصحته، فتضيفون ذلك إلا من يجوز إَافته إليه بغير حجة.
ولا برهان.
ثم قال تعالى لنبيه: قل يا محمد: ﴿قُلْ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب﴾: أي: يتخرصون، ويختلقون الكذب على الله. ﴿لاَ يُفْلِحُونَ﴾: أي: " لا يَبْقَوْنَ في الدنيا "، والفَلاَح: البقاء.
﴿مَتَاعٌ فِي الدنيا﴾: أي: لكن لهم متاع في الدنيا.
وقيل: التقدير إنما ذلك متاع، أو إنما هذا متاع، أي: يمتعون به إلى الأجل الذي كتب لهم.
﴿ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ﴾ أي: يرجعون إلينا عند انقضاء أجلهم الذي كتب لهم.
﴿ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد﴾ وهو عذاب النار بكفرهم بالله سبحانه، وبرسله صلوات الله عليهم، وكتبه.
قوله: ﴿واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ﴾ إلى قوله ﴿مِنَ المسلمين﴾.
قوله: وشركاؤهم: قال الكسائي، والفراء: هو بمعنى: وادعوا شركاءكم.
وقال المبرد: نصبه على المعنى، كما قال متقلداً سيفاً ورمحاً، وقال الزجاج هو مفعول معه.
وروى الأصمعي عن نافع: " فاجْمَعُوا " موصولة الألف من: جمَع، وهي قراءة
وقرأ الحسن، وابن أبي إسحاق، وعيسى ويعقوب: " فأجْمِعُوا أمركم وشركاؤُكم بالرفع، عطفا على المضمر في " أجمِعوا ": وحسن ذلك لما حال بينهما بالمفعول، فقام مقام التوكيد.
وقيل: إن " الشركاء " رفع بالابتداء، والخبر محذوف. أي: وشركاؤكم ليجمعوا أمرهم، والشركاء هنا: الأصنام، وهي لا تصنع شيئاً. إلا أن يكون المعنى
ومن نصب " الشركاء " حمله على المعنى، أي: وادعوا شركاءكم، ولا يُعطف على الأمر بتغير المعنى. يقال: أجمعتُ الأمر وعلى الأمر: عزمتُ عليه. فلا معنى لعطف الشركاء على هذا المعنى، فلا بد من إضمار فعل.
ومعنى الآية: إن الله تعالى ذكره، يقول لنبيه: واتل عليهم يا محمد خبر نوح إذ قال لقومه: يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي، وشق عليكم تذكيري بآيات الله، ووعظي إياكم، فعزمتم على قتلي، أو طردي من بين أظهركم فعلى الله اتكالي، وبه ثقتي.
﴿فأجمعوا أَمْرَكُمْ﴾: أي: أعدوا ما تريدون، واعزِموا على ما تشاؤون.
وقوله: ﴿لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً﴾: أي: لا يكن ملتبساً مشكلاً، من قولهم: غم على الناس الهلال: وذلك إذا أِكل عليهم أمره. وقيل معناه: " ليكن أمركم ظاهراً منكشفاً ".
﴿ثُمَّ اقضوا إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ﴾: أي: ثم افعلوا ما بدا لكم ولا تؤخروه.
﴿فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ﴾: أي: إن توليتم عين بعد دعائي إياكم إلى الله تعالى. فإني لم أسألكم عما دعوتكم إليه أجراً، ولا عوضاً أعتاضه منكم على دعائي. ما أجري إلا على الله، وأمرني ربي أن أكون من المسلمين. فمن أجل ذلك
قوله: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ﴾ إلى قوله ﴿وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ﴾:
والمعنى " فكذب نوحاً قومه فيما أخبركم به على الله تعالى من الرسالة ".
﴿فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ﴾: أي: ممن آمن في الفلك، وهي السفينة.
﴿وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ﴾: أي: جعلنا من معه ممن حمل في النفس خلائف: أي: يخلفون من أهلك من قومه، وهو جمع خليفة.
﴿وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾: أي: بحُجَجِنا وأدلتنا.
فانظر يا محمد ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين﴾: الذين أنذرهم نوح. فكذبوه. فليحذر هؤلاء الذين كذبوا بك مثل ما نزل بقوم نوح.
قوله: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ﴾: أي: بعثنا بعد نوح كل رسول إلى قومه، ﴿فَجَآءُوهُمْ بالبينات﴾: وهي العلامات الواضحات الدالة على صدقه فيما
﴿فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ - بذلك - كذلك نَطْبَعُ على قُلوبِ المعتدين﴾: أي: كما طبعنا على قلوب قوم نوح، كذلك نطبع على قلوب من اعتدى فتجاوز أمر ربه، وكفر به.
﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ موسى﴾: أي: من بعد الرسل التي بعثت من بعد نوح ﴿إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ﴾: أي: وأشراف قومه، فاستكبروا عن الإقرار بآياتنا ﴿وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ﴾: أي: آثمين بكفرهم.
﴿فَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا﴾: أي: جاءهم ما لا يشكون في أنه حق قالوا: إن الله الذي جئت به ﴿لَسِحْرٌ مُّبِينٌ﴾: ظاهر، قال لهم موسى: ﴿أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا﴾.
قال الأخفش: أسحر هذا: حكاية لقولهم.
وقيل: إن الألف دخلت، لأنهم تعجبوا، واستعظموا ما أتاهم به موسى،
وقيل: إن السحر من قوم موسى مُنْكر على فرعون وملته إذ قالوا: هذا سحرٌ. وفي الكلام حذف. والتقدير: قال موسى: ﴿أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا﴾: فقولهم محذوف دلَّ عليه قول موسى على طريق الإنكار لما قالوا: ﴿وَلاَ يُفْلِحُ / الساحرون﴾: أي: لا ينجحون.
﴿اأَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا﴾: أي: لتصرفنا، وقيل: لتلوينا.
وقيل: لتعدلنا. والمعنى متقارب.
﴿عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾: من عبادة الأصنام.
﴿وَتَكُونَ لَكُمَا الكبريآء﴾: أي: الملك وقيل: السلطان.
وقال الضحاك: الطاعة، وقيل: العظمة. والمعاني متقاربة. ﴿وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ﴾: أي: بمصدقين أنكما رسولان لله تعالى.
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم أول الرابع والعشرين بحول الله.قوله تعالى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائتوني بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ﴾ إلى قوله: ﴿وَلَوْ كَرِهَ المجرمون﴾.
والمعنى: إنه الملعون، قال لقومه، جئوني بكل ساحر عليم بالسحر.
ومن قرأ " سحَّار " فعلى المبالغة.
قوله: ﴿فَلَمَّا جَآءَ السحرة قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ﴾ يعني: من حبالهم، وعصيهم، وفي الكلام اختصار، والمعنى: فأَتَوْه بالسحرة ﴿فَلَمَّا جَآءَ السحرة﴾ فرعون بفعلهم ﴿قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ﴾ ﴿فَلَمَّآ أَلْقُواْ﴾ أي: ألقَوْا حبالهم وعصيهم. قال موسى: ﴿مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر﴾ من استفهم جعل " ما " في موضع
ومن قرأ بغير استفهام " فما " بمعنى: " الذي " في موضع رفع بالابتداء.
والسحر: الخبر. وهو خبر عن قول موسى لهم، وهو الاختيار. لأن موسى قد عَلِمَ أنهم لا شيء عندهم إلا السحر، وأن فرعون بعث وراء السحرة في سائر البلدان. فاستفهام موسى عما أتوا به، هل هو من سحر لا معنى له: وقد احتج اليزيدي بقراءة أبي عمرو بالمد بقوله: " آسِحْرٌ " هذا وهذا منه غلط عند
واستفهم بقوله: أٍحر هذا عما جاء هو به من عند الله تعالى، على معنى التوبيخ، والتقرير لهم. وفيه معنى الدعاء لهمز ليقلبوه، فبينما بعد في المعنى، ودخلت الألف واللام لتقدم ذكر السحر في قوله: ﴿أَسِحْرٌ هذا﴾ [يونس: ٧٧] وعلى هذا يقال في أول الكتب: سلام عليك، وفي الآخر: والسلام عليك، وكذلك لو قال قائل: " وجدت درهماً " فسألته عن موضع الدرهم لقلب: " وأين الدرهم، ويُفْتَح " وأين درهم.
وأجاز الفراء نصب السحر على أن تجعل " ما " شرطاً، وتحذف الفاء من " أن ". وذلك لا يجوز إلا في الشعر.
ومعنى ﴿سَيُبْطِلُهُ﴾: أي: سيذهب به الله. فذهب به تعالى بأن سلط عليه عصا موسى، فحولها ثعباناً، فلقفته كله.
ثم قال تعالى: ﴿وَيُحِقُّ الله الحق بِكَلِمَاتِهِ﴾: هذا إخبار من الله تعالى عن قول موسى للسحرة. والمعنى: ويثبت الحق الذي جئتم به.
﴿بِكَلِمَاتِهِ﴾: أي: بأمره، ﴿وَلَوْ كَرِهَ المجرمون﴾: أي: ولو كره الذين اكتسبوا الإثم بمعصيتهم ربهم.
قوله / ﴿فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ﴾ إلى قوله ﴿مِنَ القوم الكافرين﴾. والمعنى: أنه لم يؤمن لموسى، صلوات الله عليه، من قومه مع ما جاءهم به من الحجج إلا ذرية من قومه، وهم خائفون من فرعون وملإهم.
قال ابن عباس: الذرية في هذا الموضع القليل، وكذلك قال الضحاك.
ورُوي عن ابن عباس أيضاً (من قوم فرعون) قال: وهم قوم من قوم فرعون، غير بني إسرائيل، منهم ارمأة فرعون، ومومن آل فرعون، وخازن فرعون، وامرأته خازنه.
وقال بعض أهل اللغة: إنما قيل لهم " ذُرِيَّةَ "، لأن آباءهم قِبْطٌ، وأمهاتهم من بني إسرائيل. كما قال لأبناء الفرس الذين أمهاتهم من العرب، وآباؤهم من الفرس أبناء.
وقوله تعالى: ﴿وَمَلَئِهِمْ﴾: بالجمع: الضمير راجع إلى فرعون، لأن الجبار يخبر عنه بلفظ الجمع.
وقيل: إنه إنما فعل ذلك، لأن فِرْعَون لما ذكر، علم أن معه غيره فعاد الضمير
وقيل: المعنى على خوفٍ من فرعون وملتهم. ثم حذف مثل: ﴿وَسْئَلِ القرية﴾ [يوسف: ٨٢].
وقال الأخفش: الضمير يعود على الذرية، وهو اختيار الطبري، ومعنى: ﴿يَفْتِنَهُمْ﴾: أي: يفتنهم بالعذاب فيصدهم عن دينهم. ووَحَّدَ على الخبر عن فرعون، لأن الخَبَر عنه يدل، على أن قومه يفعلون مثل فعله.
﴿وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض﴾: أي: لجبار متكبر.
﴿وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين﴾ أي: من " المتجاوزين الحق إلى الباطل ".
ثم قال تعالى: ﴿وَقَالَ موسى ياقوم إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله فَعَلَيْهِ توكلوا﴾ أي: فوضوا الأمر إليه إن كنتم آمنتم (ولا تخافون من آل فرعون) ﴿إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ * فَقَالُواْ على الله تَوَكَّلْنَا﴾ " أي: به وثقنا "، وهذا يدل على أن التوكل على الله تعالى في جميع الأمور
قال ابن عباس: الذرية القليل.
قال مجاهد: الذرية، يعني: أولاد الذين أرسل إليهم موسى من طول الزمان، وقد مات آباؤهم.
قال ابن عباس: كانوا ست مائة ألف. " وذلك أن يعقوب ركب إلى مصر من كنعان في اثنين وسبعين إنساناً فتوالدوا بمصر حتى بلغوا ست مائة ألف ".
قال الفراء: بلغنا أن الذرية الذين آمنوا كانوا سبعين، أهل بيت.
ثم قالوا: ﴿رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين﴾: أي: لا تظهرهم علينا، فيفتتنوا بذلك، ويظنوا أنهم خير منا، فيزدادوا طغياناً. وقيل: المعنى: لا تسلطهم علينا
وقال مجاهد: المعنى: لا تعذبنا بأيدي قوم فرعون، ولا بعذاب من عندك. فيقول قوم فرعون: لو كانوا على حق ما عذبوا، ولا سلطنا عليهم. وكذلك قال ابن جريج.
وقال ابن زيد: المعنى " لا تَبْتَلِنا " ربنا فتجهدنا، وتجعله فتنة لهم "
﴿وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين﴾: يعنون قوم فرعون.
قوله: ﴿وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا إلى قوله - الذين لاَ يَعْلَمُونَ﴾:
المعنى: / " اتخذا لقومكما بمصر بيوتاً ": ﴿واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً﴾ أي: " مساجد تصلون فيها "، لأنهم كانوا يَفْرَقون من فرهون، وقومه أن يصلوا. فقال
قال النخعي: خافوا، فأُمروا أن يصلوا في بيوتهم.
(وعن ابن عباس، قال مجاهد: كانوا لا يصلون إلا في البيع خائفين، فأُمروا أن يصلوا في بيوتهم).
وعن ابن عباس: (واجعلوا بيوتكم قبلة): يعني: قِبَل الكعبة.
وقيل: كان فرعون أمر بهدم الكنائس، فأمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد، يصلون فيها سِرّاً.
قال مجاهد: مِصْرُ هنا الإسكندرية.
وقال ابن جبير: المعنى: واجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضاً.
﴿وَأَقِيمُواْ الصلاة﴾، أي: بحدودها. ﴿وَبَشِّرِ المؤمنين﴾: هذا (خطاب) للنبي ﷺ، أي: وبشر مُقيمي الصلاة بالثواب الجزيل.
وقيل: هي لام الفاء، أي: فكان لهم ذلك، لأنه قد تقدم في علمه تعالى ذلك.
وقيل: المعنى: لئلا يضِلُّوا وحذفت " لا " كما قال: ﴿يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ﴾ [النساء: ١٧٦]. وهذا القول لا يحسن، لأن العرب لا تحذف لا إلا مع " أن ". ومعنى الآية:
﴿رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ﴾، أي: أعطيتهم ذلك ليضلوا، ثم دعا عليهم موسى، فقال: ﴿رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ﴾، أي: اذهبها، وغيرها، واجعلها حجارة.
قال قتادة: جعل زرعهم حجارة.
قال مقاتل " جُعلت دنانيرهم، ودراهيمهم حجارة منقوشة، كهيئتها على ألوانها، لتذوب، ولا تلين، فجعل الله سكرهم حجارة.
وقال ابن عباس: (اطمس عليها: أي: دمِّرها، وأهلِكْهَا. وكذلك قال مجاهد.
واشدد على قلوبهم): أي: حتى لا تنشرح للإيمان، فلا تؤمن.
وقال مجاهد: اشدد عليها بالضلالة.
قال ابن عباس: استجاب الله تعالى من موسى، فحال بين فرعون وملئه، وبين الإيمان حتى أدركه الغَرق، فلم ينفعه الإيمان.
والعذاب الأليم في هذه الآية: الغرق.
قوله: ﴿فَلاَ يُؤْمِنُواْ﴾ قال المبرد: موضعه موضع نصب، وليس بدعاء. وهو معطوف على " ليضلوا " وهو قول الزجاج.
وقال الكسائي، وأبو عبيدة: هو دعاء في موضع جزم.
فقال تعالى لهما: ﴿قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فاستقيما﴾: هذا خطاب لموسى، وهارون، لأن موسى كان يدعو، / وهارون يؤمن.
وقيل: إنَّه خِطَابُ موسى، خطاب الاثنين لغة العرب.
وقوله: ﴿دَّعْوَتُكُمَا فاستقيما﴾: يدل على أن ذلك لموسى وهارون عليهما السلام: فالداعي موسى، والمؤمن هارون، والمؤمن داع أيضاً، لأنه يقول: اللهمَّ استجب فهو داع بإجابة الذي دعا موسى. وكان بين الإجابة ودعاء موسى
وقوله: ﴿وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ﴾ من خفف " النون " فهو على النفي، لا على النهي. والرواية عن ابن ذكوان بالتخفيف: يزيد عند القرَّاء تخفيف التاء، وهو وجه الرواية. غير أنا لم نقرأ إلا بتخفيف النون دون التاء.
ومعنى: ﴿فاستقيما﴾ أي: اثبتا على دعاء فرعون، وقومه إلى الإيمان. قال ابن جريج: مكث فرعون بعد هذه الآية أربعين سنة.
قوله: ﴿وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَائِيلَ البحر فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ﴾ إلى قوله: ﴿لَغَافِلُونَ﴾.
ومن قرأ " إنه " بكسر الهمزة، فعلى الابتداء. وتقدير الكلام: آمنت بالذي كنت به مكذباً. ثم ابتدأ: إنه لا إله إلا الله.
وقيل: المعنى: صرتُ مؤمناً. ثم قال: " إنه مستأنفاً.
وقال أبو حاتم: القول محذوف، والتقدير، قال: آمنتُ فقلت: إنه ومن فتح فمعناه: آمنت بأنه، " فأن " في موضع نصب بحذف الخافض. وعلى مذهب الكسائي في موضع خفض بتقدير الخافض. والمعنى: وقطعنا ببني إسرائيل البحر،
وقرأ قتادة " وعدواً " بالضم والتشديد حتى إذا أدركه الغرق أي: أحاط به. وفي الكلام حذف. والتقدير: " فَغَرَقْناهُ ": " حتى إذا أدرك الغرَق ". " قال عليه السلام: " جعل جبريل يدس، أي: يحشو في فم فرعون الطين مخافة أن تدركه الرحمة ".
(وروى ابن وهب أن فرعون بن عبد الله قال: بلغني أن جبريل عليه السلام،
(وروي أن جبريل قال للنبي عليهما السلام: لقد كببتُ في فيه الماء، مخافةَ أن تدركه الرحمة).
وروي أنه قالهما حين أَلْجَمَهُ الماء، وأدركه الغرق.
ثم قال تعالى حكاية عن تعريفه لفرعون قبح ما فعل:
﴿آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ﴾: يعني: أيام حياته إلى الساعة تؤمن، وقد عصيت أيام حياتك ﴿وَكُنتَ مِنَ المفسدين﴾: أي: من الصادين عن سبيل الله سبحانه.
ثم قال تعالى: ﴿فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ﴾: أي: نُلْقيك على نَجْوةٍ من الأرض، أي: على ربوة، ليعتبر من رآك.
وقيل: نخرجك ببدنك الذي نعرفك به / وذلك أنه كان له بدنٌ مذهبٌ، وهو ذرع كانت له.
قال قتادة: لم يصدق طائفة من الناس أنه غرق، فأخرجه الله تعالى، ليكون عظة، وآية، ينظر إليها من كذب بهلاكه.
وقوله: ﴿لِمَنْ خَلْفَكَ (آيَةً)﴾، أي: لمن بعدك.
قال ابن عباس: لما أغرق الله تعالى، فرعون، ومن معه. قال: أصحابُ موسى لموسى: إنا نخاف ألا يكون فرعون غرق، ولا نؤمن بهلاكه. فدعا ربه فأخرجه، فنبذه البحر حتى استيقنوا بهلاكه.
قوله: ﴿وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس عَنْ آيَاتِنَا﴾: أي: عن أدلتنا على أن العبادة لا تكون إلا لله ﴿لَغَافِلُونَ﴾: أي: لساهون.
قوله: ﴿وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بني إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ﴾ إلى قوله: ﴿الخاسرين﴾.
المعنى: ولقد أنزلناهم منازل صدق.
قال الضحاك: يعني، مصر، والشام.
وقال قتادة: الشام، وبيت المقدس.
﴿وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات﴾ يعني: من حلال الرزق.
﴿فَمَا اختلفوا حتى جَآءَهُمُ العلم﴾ الذي يعلمونه، وذلك أنهم كانوا قبل أن يبعث
والعلم هنا: النبي ﷺ، فهو بمعنى العلوم الذي كانوا يعلمونه.
وقيل: العلم كتاب الله تعالى، قاله ابن زيد. فعلوا ذلك بغياً: أي: منافسة في الدنيا.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ - يا محمد - يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾: أي: من أمري في الدنيا. فيدخل المكذبين النار، والمؤمنين الجنة.
﴿حتى جَآءَهُمُ العلم﴾: وقف، ﴿مِّنَ الطيبات﴾: وقف.
ثم قال تعالى: ﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ﴾: أي: إن كنت يا محمد في شك من أن بني إسرائيل لم يختلفوا في نبوءتك، قبل أن نبعثك رسولاً، لأنهم (كانوا)
وقيل: " إن " بمعنى " ما "، والمعنى: فما كنت يا محمد في شك.
ثم قال ﴿فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ﴾ سؤال ازدياد، كما قال إبراهيم: ﴿بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: ٢٦٠].
وقال المبرد: المعنى: قل يا محمد للشاك في ذلك إن كنت في شك، فاسأل وقيل: إن هذا خطاب العرب: يقول الرجل لابنه: إن كنت ابني، فَبُرَّني. وهو يعلم أنه ابنه، وهو نحو قوله لعيسى: ﴿أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله﴾ [المائدة: ١١٦]. وقد علم أنه لم
قال ابن جبير: ما شك محمد ﷺ، ولا سأل، وقال قتادة: بلغنا أن النبي عليه السلام، قال: لا أشك، ولا أسأل.
وروي أن رجلاً سأل ابن عباس عما يَحِيك في الصدر من الشك. فقال: ما نجا من ذلك أحد، ولا النبي حتى أنزل عليه: ﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ﴾.
وعنه أيضاً أنه قال: لم يكن / رسول الله في شك ولم يسأل. وهذا هو الصحيح الظاهر، والمراد بقوله: ﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ﴾ أمته. وقوله: ﴿لَقَدْ جَآءَكَ الحق مِن رَّبِّكَ﴾: اللام لام التوكيد وفي الكلام معنى القسم.
﴿مِنَ الممترين﴾: أي: من الشاكين.
ثم قال تعالى: ﴿وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله﴾: أي: جحدوا كتبه، ورسله، ﴿فَتَكُونَ مِنَ الخاسرين﴾، أي: من الذين غُبِنَ حظه، وباع الرحمة بالسخط.
قوله: ﴿إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ إلى قوله ﴿يَعْقِلُونَ﴾
والمعنى: إن الذين وجبت عليهم كلمات ربك وهي قوله: ﴿أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين﴾ [هود: ١٨].
وقال مجاهد: حق عليهم سخطه.
﴿لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب﴾.
أي: يعاينوا ذلك كما لم يؤمن فرعون حتى عاين العذاب. وذلك وقت لا ينفع فيه الإيمان.
ثم قال تعالى: ﴿فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ﴾، أي: فهلا كانت قرية آمنت، فنفعها إيمانها. وتقديره: فما كانت قرية آمنت عند معاينتها العذاب، فنفعها إيمانها، في ذلك الوقت ﴿إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ﴾: فإنهم نفعهم إيمانهم عند نزول عذاب الله تعالى، بهم، فكشف الله سبحانه عنهم العذاب. وقوم يونس انتصبوا لأنه استثناء ليس
وقال أبو إسحاق: المعنى: فهلا كانت قرية آمنت في وقت ينفعهم إيمانهم، وجرى هذا بعقب إيمان فرعون عندما أدركه الغرق. فأعلم الله تعالى، أن الإيمان لا ينفع عند وقوع العذاب، ولا عند حضور الموت.
قال تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ﴾ الآية [النساء: ١٨].
قال قتادة: لما فقدوا نبيهم، وأيقنوا أن العذاب قد دنا منهم، قذف الله تعالى، في قلوهم التوبة. فلبسوا المسوح، وألهوا بن كل بهيمة وولدها. ثم عجَّلوا إلى الله سبحانه، أربعين ليلة، فلما علم الله تعالى، الصدق منهم، والتوبة والندامة على ما مضى (كشف الله) عنهم العذاب بعد أن تدلى عليهم. وكان قوم يونس بأرض الموصل.
قال ابن جبير: غشَّى قوم يونس العذاب، كما يغشى الثوب القبر ".
قال ابن جبير: لما أبوا أن يؤمنوا بيونس، قيل له: أخبرهم أن العذاب مصبحهم، فقالولا: إنا لم نجرب عليه كذباً، فانظروا فإن بات فيكم فليس بشيء، وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصحبكم. فلما كان في جوف الليل تزوَّد شيئاً ثم خرج. فلما أصبحوا يغشاهم العذاب كما يغشى الثوب القبر، ففرقوا بين الإنسان وولده، والبهيمة وولدها. ثم عجوا إلى الله تعالى، فقالوا: آمنّا بما جاء به يونس وصدقنا. فكشف الله تعالى، عنهم العذاب، فخرج يونس ينظر العذاب، فلم ير شيئاً فقال /: جربوا عليَّ كذباً فذهب مغاضباً لربه حتى أتى البحر.
وعن ابن مسعود قال: أوعد يونس قومه أن العذاب يأتيهم إلى ثلاثة أيام. ففرقوا بين كل والدة وولدها، ثم خرجوا، فجأروا إلى الله سبحانه، واستغفروه، فكف الله تعالى، عنهم العذاب.
قوله: ﴿إلى حِينٍ﴾ قال الضحاك: إلى الموت.
وقيل: إلى آجاله التي كتبها الله لهم قبل خلقهم.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً﴾: أي: لوفقهم إلى الإيمان بك يا محمد - وبما جئت به. ولكن قد سبق في قضائه من يؤمن، ومن لم يؤمن: وهذا كله رد على المعتزلة الذين يقولون: إن الإيمان والكفر مفوضان إلى العبد، بل كل عامل قد علم الله تعالى، ما هو عامل قبل خلقه له. ولا تقع المجازاة إلا على ذلك بعد ظهورهم منهم، وإقامة الحجج عليهم.
وقوله ﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً﴾ يدل على ذلك ويبينه.
﴿أَفَأَنتَ﴾ يا محمد ﴿تُكْرِهُ الناس﴾ حتى يؤمنوا بك؟
وفي الإتيان " بجميع " بعد " كلهم " قولان: أحدهما زيادة تأكيد، ونصبه على الحال. وقيل: لما كان كل يقع تأكيداً، ويقع اسماً غير تأكيد أتى معه بما لا يكون تأكيداً، وهو " جميعاً "، فجمع بينهما، ليعلم أن معناهما واحد، وأنه للتأكيد.
روي عن أبي الدرداء أنه قال: بعث الله تعالى، إلى نبي من الأنبياء فقال لهم: لو أنك عملت مثل ما عمل جميع ولد آدم كلهم، ما أديت نعمة واحدة أنعمت بها عليك: إني أذنت لك أن تؤمن بي، ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾، وهذا نص ظاهر في إثبات القدر من القرآن والحديث.
قوله: ﴿وَيَجْعَلُ الرجس عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ﴾، أي: يجعل العذاب على من لا يعقل عن الله، سبحانه، حججه، وآياته جلت عظمته. والرجس: العذاب. وقال ابن عباس: السخط.
قوله: ﴿قُلِ انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض﴾ إلى قوله ﴿نُنجِ المؤمنين﴾
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا تُغْنِي الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ﴾: أي: أي شيء تغني الحجج، والعِبَرُ عن قوم سبق لهم من الله تعالى، الشقاء، وقضى لهم أنهم من أهل النار.
﴿مَاذَا فِي السماوات والأرض﴾: وقف، إن جعلت " ما " نفياً " وإن جعلتها استفهاماً، لم تقف على الأرض، لأن " ما " معطوفة على ما قبلها.
ثم قال تعالى: ﴿فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ﴾. والمعنى: هل ينتظر هؤلاء، يعني: مشركي قريش أهل مكة - يا محمد - إلا نزول العقوبة بهم،
﴿ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ﴾: أي: ننجيهم من بين أظهركم إذا نزل بكم العذاب.
﴿كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ المؤمنين﴾ فيمن تقدم من الأمم الماضية إذا نزل بهم العذاب نجينا المؤمنين منهم. " الكاف " في موضع رفع إن جعلت ﴿والذين آمَنُواْ﴾ تماماً والتقدير: مثل ذلك يحق علينا حقاً.
وإن لم تجعل ﴿آمَنُواْ﴾ تماماً جعلت " الكاف " في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف، أي: " نجاء مثل ذلك " يحق حقاً، وأنجى، ونجى لغتان بمعنى و " ننج " بغير ياء في الخط، والأصل الياء. ولا يتعمد الوقف عليه، وقد وقف عليها سلام ويعقوب بالياء على الأصل وهو خلاف الخط.
والمعنى: قل يا محمد: يا أيها المشركون إن كنتم في شك من ديني الذي أدعوكم إليه، فلم تعلموا أنه حق من عند الله، فإني لا أعبد الذين تعبدون من دوني الله: يعني الآلهة، والأوثان التي لا تنفع، ولا تضر.
وفي الكلام تعريض: والمعنى: إن كنتم في شك من دوني، فلا بنبغي لكم أن تشكّوا فيه، وإنما ينبغي أن تشكوا في عبادة من لا ينفع، ولا يضر، ولا يسمع، ولا يُبصر. ﴿ولكن أَعْبُدُ الله الذي يَتَوَفَّاكُمْ﴾: أي: يقبض أرواحكم عند مجيء آجالكم.
﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين﴾: أي: المصدّقين بما جاء من عنده. ومعنى ﴿مِن دُونِ الله﴾ من عند الله.
ثم قال تعالى: ﴿وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً﴾ أي: وأمرت: ﴿وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ﴾: أي: أقم نفسك على دين الإسلام.
قوله: ﴿وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ﴾ إلى آخر السورة.
والمعنى: إن يُصبْكَ الله يا محمد بضر، فلا كاشف له عنك إلا هو دون ما يعبد هؤلاء من دون الله.
﴿وَإِن يُرِدْكَ﴾ الله يا محمد بخير أي: برخاء ونعمة، فلا رادَّ لفضله عنك. يصيب ربك يا محمد بالرخاء. من يشاء من عباده.
﴿وَهُوَ الغفور﴾ لذنوب من تاب.
﴿الرحيم﴾: لمن آمن واستقام.
ثم قال تعالى: قل - يا محمد - ﴿قُلْ يا أيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الحق مِن رَّبِّكُمْ﴾: والحق هنا: القرآن. ﴿فَمَنِ اهتدى﴾ أي: استقام ﴿فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ﴾ أي: اعوج عن الحق.
ثم قال تعالى آمراً لنبيه: ﴿واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ﴾: أي: اعمل به، واصبر على ما يقول المشركون، وما يتولون عن أذاك.
﴿حتى يَحْكُمَ الله﴾، أي: يقضي.
﴿وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين﴾، أي: خير القاضين بحكم الله تعالى بينهم، يوم بدر بالسيف، فقتلهم، وأمر نبيه أن يسلك بمن بقي سبيل من هلك منهم حتى / يؤمنوا.
قال ابن زيد: هذا منسوخ بجهادهم، وأمره بالغلظة عليهم.
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلمسورة هود. مكية.
روى مسروق عن أبي بكر الصديق رضى الله عنه، انة قال: قلت يا رسول الله! لقد أسرع إليك الشيب فقال: شيبتني هود وأخواتها: الواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، واذا الشمس كورت.
وروى عكرمة عن ابن عباس نحوه.