تفسير سورة يونس

أوضح التفاسير
تفسير سورة سورة يونس من كتاب أوضح التفاسير المعروف بـأوضح التفاسير .
لمؤلفه محمد عبد اللطيف الخطيب . المتوفي سنة 1402 هـ

﴿الر﴾ (انظر آية ١ من سورة البقرة) ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ المحكم؛ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه
﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً﴾ استفهام للتقرير والتوبيخ؛ أي هل يجوز أن يعجب الناس ﴿أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ﴾ وإنما العجب كل العجب: إذا لم نوحِ أصلاً، أو إذا أوحينا إلى رجل ليس منهم، أو إلى مخلوق ليس من جنسهم؛ فلا يسكنون إليه، أو يرتاحون لمخاطبته: كملك، أو جن، أو غيرهما ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ﴾ أي سابقة فضل؛ تستتبع الأجر الحسن، أو هي شفاعة الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام ﴿قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ﴾ أي ما هذا النبي إلا ساحر ﴿مُّبِينٌ﴾ بيّن السحر واضحه
﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ استواء يليق به؛ وليس كاستواء المخلوقين؛ لأن الديان، يتقدس عن المكان، وتعالى المعبود عن الحدود ﴿يُدَبِّرُ الأَمْرَ﴾ بين الخلائق ﴿ذلِكُمُ﴾ الموصوف بهذه الصفات، المتسم بهذه السمات ﴿اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ﴾ وحده، ولا تشركوا به شيئاً
﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً﴾ فيجازي كل واحد بما عمل ﴿وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً﴾ إنه لا يخلف الميعاد ﴿إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ﴾ بالإنشاء ﴿ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ بالإحياء يوم القيامة ﴿بِالْقِسْطِ﴾ بالعدل ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ﴾ الحميم: الماء المغلي الشديد الحرارة
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً﴾ تضيء للكائنات ﴿وَالْقَمَرَ نُوراً﴾ ينير للموجودات ﴿وَقَدَّرَهُ﴾ أي قدر القمر من حيث سيره ﴿مَنَازِلَ﴾ ثمانية وعشرين منزلاً، لثمان وعشرين ليلة؛ ويستتر ليلة - إذا كان الشهر تسعة وعشرين يوماً - أو ليلتين - إذا كان ثلاثين يوماً
﴿لِتَعْلَمُواْ﴾ بواسطة الشمس والقمر، واختلاف الليل والنهار؛ أو بواسطة تلك المنازل ﴿عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ حساب الشهور والأيام والأعوام ﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ﴾ الكون، وما فيه من آيات بينات ﴿إِلاَّ بِالْحَقِّ﴾ إلا بالحكمة والصواب، وإظهار بدائع الصنع، ودلائل القدرة والعلم ﴿يُفَصِّلُ الآيَاتِ﴾ يبينها ويوضحها ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ يتدبرون، ويتوصلون بعلمهم إلى ما في الكون من أسرار
﴿إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ بالذهاب والمجيء، والإظلام والإنارة، والنقصان والزيادة ﴿وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ من بدائع صنعه، وعجائب مخلوقاته؛ إن في كل ذلك ﴿لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾ الله؛ فيؤمنون به، ويتدبرون في مصنوعاته
﴿إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا﴾ أي لا يؤمنون بالبعث (أنظر مبحث «التعطيل» بآخر الكتاب) ﴿وَرَضُواْ﴾ سكنوا إليها، ولم يعملوا للآخرة
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ﴾ أي يهديهم مولاهم بسبب إيمانهم. لأنهم ليسوا كالذين انصرفوا فصرف قلوبهم، أو زاغوا فأزاغها
﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا﴾ دعاؤهم في الجنة
-[٢٤٧]- ﴿سُبْحَانَكَ﴾ تقدست وتعاليت. (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء) ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ﴾ نهاية مطلبهم، أو خاتمة دعائهم، أو آخر قولهم؛ حينما تتحقق سعادتهم ﴿أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ «الذين هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله» ﴿أَيُّ﴾ لو يعجل الله للناس الشر - الذي استحقوه بارتكاب المعاصي والآثام - بقدر استعجالهم للخير - الذي يظنون أنهم استوجبوه بأعمالهم - لأهلكهم جميعاً
﴿فَنَذَرُ﴾ نترك ﴿الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا﴾ أي لا يؤمنون بالبعث؛ ولا يرجون ثواباً ولا عقاباً وإنكار الآخرة وما فيها من بعث وحساب، وثواب وعقاب: يكون بلسان الحال، كما يكون بلسان المقال: فرب مؤمن بالآخرة بلسانه، وأعماله تبالغ في تكذيبه إذ أن الذي لا يقوم بما فرضه الله تعالى عليه من عبادات: غير مؤمن بالآخرة؛ ولو أقسم على إيمانه بها؛ فإن يمينه غموس، والذي يرتكب الموبقات، ولا يخشى رب الأرض والسموات: غير مؤمن بالآخرة؛ وإلا فكيف يكون مؤمناً بالآخرة من يخشى المخلوقين، ولا يخشى أحسن الخالقين؟ كيف يكون مؤمناً بلقاءالله: من يخشى الناس كخشية الله أو أشد خشية
إن من شرائط الإيمان بالآخرة أيها المؤمن: أن تخشى عقابها وتطمع في ثوابها، وأن تعلم أن ربك قد أحصى عليك عملك، وأنه محاسبك؛ فمجازيك عليه: إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ يترددون متحيرين
﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ﴾ المرض، أو الفاقة ﴿دَعَانَا لِجَنبِهِ﴾ مريضاً: لا يمكنه الحركة ﴿أَوْ قَاعِداً﴾ متعباً: لا يمكنه القيام ﴿أَوْ قَآئِماً﴾ دائباً في طلب الرزق فلا يجد ما يسد الرمق. أو المراد أنه يدعو ربه على كل حالة هو عليها. ومن المعلوم أن حالة الإنسان وهيئته لا يعدوان ثلاث حالات: نائماً، أو قاعداً، أو قائماً ﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ﴾ الذي دعانا من أجله: شفينا مرضه، ومحونا بؤسه، وأزلنا فقره ﴿مَرَّ﴾ انصرف عنا، أو استمر على كفره ﴿كَأَن لَّمْ﴾ يحتج إلينا، ويفتقر إلى معونتنا، ولم ﴿يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ﴾ فكشفناه عنه ﴿كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ﴾ الكافرين
﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ﴾ الأمم ﴿لَمَّا ظَلَمُواْ﴾ كفروا ﴿وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ﴾ الآيات الدالات على صدق رسالاتهم ﴿وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ﴾ لأن الله تعالى طبع على قلوبهم؛ جزاء على كفرهم
﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ
-[٢٤٨]- خَلاَئِفَ﴾
خلفاء؛ تخلفونهم في سكنى الأرض وعمارتها ﴿لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ أتكفرون ككفرهم، وتنصرفون عن الإيمان كانصرافهم أم تؤمنون شأن سائر العقلاء
﴿قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا﴾ أي قال الذين لا يؤمنون بالبعث، ولا بالجزاء.
﴿قُل لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ﴾ أي لو شاء الله تعالى ما أرسلني به إليكم، و ﴿مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ﴾ ﴿وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ﴾ أي ولا أعلمكم به الله تعالى على لساني ﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً﴾ أي مكثت بينكم سنين طوالاً؛ فلم أحدثكم بشيء من ذلك، حتى أوحى الله تعالى إلي به، وكلفني بإبلاغه
﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً﴾ اختلق قرآناً؛ كما تنسبون إلي ﴿أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ﴾ التي أنزلها؛ كما تفعلون أنتم الآن
﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ غيره ﴿مَا لاَ يَضُرُّهُمْ﴾ أي لا يستطيع إيصال الضرر إليهم ﴿وَلاَ يَنفَعُهُمْ﴾ لا يجلب لهم النفع؛ وذلك لأنه جماد لا يعقل ﴿وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ﴾ نتقرب بهم إليه ﴿سُبْحَانَهُ﴾ تنزه وتقدس عن أن يكون له شريك، أو أن يشفع عنده أحد إلا بإذنه. (انظر آية صلى الله عليه وسلّم من سورة الإسراء)
﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ على دين واحد؛ هو الإسلام من لدن آدم إلى نوح عليهما السلام، أو المراد بالناس: نوح ومن نجا معه في سفينته ﴿فَاخْتَلَفُواْ﴾ فأرسل الله تعالى إليهم رسله وأنبياءه. وقيل: كانوا أمة واحدة على الكفر، فبعث الله النبيين لهدايتهم. أو المراد أنه يولد من يولد على الفطرة، ثم أبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه «فاختلفوا» عند بلوغهم ﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ﴾ هي تأخير الجزاء إلى يوم القيامة ﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ لعجل عقابهم في الدنيا
﴿وَيَقُولُونَ لَوْلاَ﴾ هلا ﴿أُنزِلَ عَلَيْهِ﴾ أي على محمد ﴿آيَةٍ﴾ معجزة ﴿مِّن رَّبِّهِ﴾ كعصا موسى، وناقة صالح، وأمثالهما ﴿فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للَّهِ﴾ لا يعلمه سواه ﴿وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ﴾ ﴿فَانْتَظِرُواْ﴾ ما يفعله الله بي وبكم لذلك
﴿وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً﴾ رزقاً وخيراً
-[٢٤٩]- ﴿مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ﴾ بؤس وجدب ﴿إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا﴾ بأن دفعوها وأنكروها بالاستهزاء والتكذيب ﴿قُلْ﴾ لهم ﴿اللَّهُ أَسْرَعُ﴾ منكم ﴿مَكْراً﴾ أي أسرع عقوبة لكم على مكركم ﴿إِنَّ رُسُلَنَا﴾ أي الحفظة ﴿يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ﴾ أي يحصون في صحف أعمالكم ما تقومون به من سوء وشر؛ فنجزيكم به، ونؤاخذكم عليه
﴿حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ﴾ السفن ﴿جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ﴾ شديدة الهبوب ﴿وَظَنُّواْ﴾ تأكدوا ﴿أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ﴾ أي أهلكوا. وهو من إحاطة العدو المؤدية إلى الهلاك ﴿دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ أي مخلصين في دعوته، صادقين في محبته
﴿فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ﴾ يفسدون فيها ﴿يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ﴾ أي إنما إثم بغيكم واقع على أنفسكم ﴿مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أي تمتعوا متاع الحياة الدنيا؛ وليس لكم في الآخرة من نصيب ﴿ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ﴾ يوم القيامة ﴿فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فنجازيكم عليه
﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ صفتها في زوالها وفنائها ﴿كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَآءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ﴾ أي اختلط بالماء ﴿نَبَاتُ الأَرْضِ﴾ جميعاً؛ فأنبت ﴿مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ﴾ من الحبوب والثمار وغيرهما ﴿وَالأَنْعَامُ﴾ أي ومما تأكل الأنعام؛ من الكلإ والتبن والشعير وغيره ﴿حَتَّى إِذَآ أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ﴾ استكملت زينتها وبهجتها؛ بالثمار والأزهار، والنبات والأقوات ﴿وَظَنَّ﴾ تيقن ﴿أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ﴾ أي متمكنون منها، مالكون لها
-[٢٥٠]- ﴿أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً﴾ وذلك لأن الأمر - إذا أتى - يكون نهاراً في بقعة من الأرض، وليلاً في بقعة أخرى. والمقصود بأمر الله الذي يأتي ليلاً أو نهاراً: الأمر بزوال الأرض والسموات، وانقضاء الدنيا ﴿فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً﴾ خراباً يباباً؛ كالأرض المحصودة ﴿كَأَن لَّمْ تَغْنَ﴾ كأن لم تسكن إطلاقاً
﴿وَاللَّهُ يَدْعُو﴾ إلى الإيمان به، والعمل الصالح؛ وكلاهما موصل ﴿إِلَى دَارِ السَّلاَمِ﴾ إلى الجنة؛ لأنها ممتلئة أمناً وخيراً، وسعادة وسلاماً؛ ولأنها هي «دار السلام» ﴿وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ﴾ ويقال لهم: ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ﴾ والمنعم بها تعالى اسمه «السلام»
﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ﴾ في هذه الدنيا ﴿الْحُسْنَى﴾ الجنة؛ جزاء لإحسانهم ﴿وَزِيَادَةٌ﴾ هي مضاعفة حسناتهم إلى ما لا نهاية له وقد ورد في الحديث الشريف: أن الزيادة؛ هي النظر إلى وجه الله تعالى ﴿وَلاَ يَرْهَقُ﴾ لا يغشى ﴿وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ﴾ غبرة وسواد؛ كشأن أهل النار ﴿وَلاَ ذِلَّةٌ﴾ هوان وخزي؛ كالذلة والمهانة التي تعتري أهل الجحيم
﴿وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ﴾ عملوها ﴿جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا﴾ أي بعقوبة تماثلها في الجرم ﴿وَتَرْهَقُهُمْ﴾ تغشاهم ﴿ذِلَّةٌ﴾ خزي وهوان وفضيحة ﴿مَّا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ﴾ مانع، وواق؛ يمنع عنهم عذابه، ويقيهم ناره ﴿كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ﴾ غطيت ﴿وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ الْلَّيْلِ مُظْلِماً﴾ أي صارت وجوههم سوداء كقطع الليل المظلم
﴿ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ﴾ أي ألزموا مكانكم لا تبرحوه؛ حتى تروا ما يحل بكم ﴿أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ﴾ الذين كنتم تعبدونهم ﴿فَزَيَّلْنَا﴾ فرقنا وميزنا ﴿بَيْنَهُمْ﴾ وبين المؤمنين. وهو كقوله تعالى ﴿وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾
﴿هُنَالِكَ﴾ أي في ذلك اليوم ﴿تَبْلُواْ﴾ من الابتلاء، وقرىء «تتلو» من التلاوة ﴿كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ﴾ ما قدمت من عمل
-[٢٥١]- ﴿وَرُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ﴾ إلههم وسيدهم ﴿الْحَقِّ﴾ الذي لا إله غيره، ولا سيد سواه، ولا شريك له ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ أي غابت عنهم آلهتهم التي كانوا يزعمونها؛ فلم تشفع لهم عندالله، ولم تمنع عنهم عذابه
﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ﴾
بإنزال المطر؛ المنبت للحب والثمر؛ وإن شاء تعالى منعه ﴿وَالأَرْضِ﴾ بإخراج النبات والأقوات؛ وإن شاء تعالى أجدبها؛ فمتم عند ذاك جوعاً وعطشاً ﴿أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ﴾ يملك خلقها، وإن شاء أصمها ﴿والأَبْصَارَ﴾ أنارها، وإن شاء أعماها ﴿وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ المسلم من الكافر، والكافر من المسلم، والإنسان من النطفة، والنطفة من الإنسان ﴿وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ﴾ في السماء والأرض؛ فينزل الماء، ويخرج النبات، وينشر الأقوات؛ ويهب لمن شاء البنين ولمن شاء البنات؛ بتدبير منظم حكيم ﴿ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾
﴿فَأَنَّى﴾ فكيف ﴿تُصْرَفُونَ﴾ عن الإيمان؛ وهذه دلائله وبراهينه
﴿كَذَلِكَ حَقَّتْ﴾ وجبت ﴿كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾ عذابه ﴿عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ﴾ كفروا وتمردوا، وتجاوزوا الحد. وهي قوله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾
﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ﴾ الذين تعبدونهم ﴿فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ فكيف تصرفون عن عبادته؛ مع قيام هذه الأدلة؟
﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ﴾ أي الأصنام التي تعبدونها ﴿أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ﴾ وهو الله جل شأنه ﴿أَحَقُّ﴾ وأجدر ﴿أَن يُتَّبَعَ﴾ ويعبد ويطاع ﴿أَمَّن لاَّ يَهِدِّي﴾ يهتدي ﴿إِلاَّ أَن يُهْدَى﴾ أي لا يهتدي إلى مكانه إلا إن هداه غيره إليه. والمعنى: أفمن يهدي الناس إلى الحق ويهديهم إلى ما يصلحهم، ويهديهم إلى ما فيه خيرهم - وهو الله تعالى - أحق بالعبادة والاتباع أمن لا يستطيع هداية نفسه إلى مكانه - وهم الأصنام - إلا أن يحمله حامل؛ فيضعه حيث شاء؛ لا حيث تريد الأصنام؛ التي لا إرادة لها
﴿فَمَا لَكُمْ﴾ ما الذي أصابكم، وماذا دهاكم وأتلف عقولكم؟ ﴿كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ هذا الحكم الفاسد؛ الذي لا يسنده عقل ولا منطق
﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ﴾ أي أكثر الكفار ﴿إِلاَّ ظَنّاً﴾ حيث قلدوا آباءهم في عبادة الأصنام؛ ولم يحكموا عقولهم
﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى﴾ أي لا يجوز عقلاً، ولا يصح دراية أن يكون هذا القرآن مفترى. لأنه فوق طاقة البشر ﴿وَلَكِنْ﴾ أنزل ﴿تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ ما تقدمه من الكتب كالتوراة والإنجيل وغيرهما ﴿وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ﴾ تبيين ما كتبه الله تعالى، وأنزله على رسله ﴿لاَ رَيْبَ﴾ لا شك {فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ *
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} (انظر آية ٢٣ من سورة البقرة) ﴿وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ﴾ استعينوا بمن شئتم ﴿مِّن دُونِ اللَّهِ﴾ غيره: هل يمكنكم أن تأتوا بسورة من مثله ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾
﴿بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ﴾ وهو القرآن الكريم؛ والناس دائماً أعداء لما جهلوا ﴿وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ لم يأتهم حتى الآن عاقبة ما في القرآن من الوعد والوعيد ﴿وَمِنهُمْ﴾ أي من أهل مكة ﴿مَّن يُؤْمِنُ بِهِ﴾ أي من سيؤمن بهذا القرآن. علم الله تعالى ذلك عنهم
﴿وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ﴾ أبد الدهر ﴿وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ﴾ وسيقتص منهم في الدنيا والآخرة
﴿وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي﴾ ثواب عملي ﴿وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ﴾ إثمه وعقابه
﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ إذا قرأت القرآن، وإذا نصحت لهم بالإيمان؛ لكنهم لا يستمعون لك سماع تدبر أو تبصر
﴿أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾ شبههم بالعمي: لتعاميهم عن الحق ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾
﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً﴾ عندما يعاقبهم ﴿وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ بارتكابهم المعاصي، وتعريض أنفسهم للعقاب
﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ﴾ يجمعهم يوم القيامة ﴿كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ﴾ كأن لم يمكثوا في الدنيا، أو في القبور ﴿إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ﴾ يعرف بعضهم بعضاً عند البعث: تعارف بغض وافتضاح؛ يقول هذا لذاك: أنت أضللتني، أنت أغويتني، أنت حملتني على الكفر. ويتبرأ بعضهم من بعض، ويسب بعضهم بعضاً وليس التعارف تعارف حب ومودة، وتراحم وشفقة؛ كتعارف المحبين في الدنيا ﴿قَدْ خَسِرَ﴾ يومئذ ﴿الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ﴾ وأنكروا البعث والحساب، والجزاء (انظر مبحث التعطيل بآخر الكتاب)
﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ﴾ من العذاب في الدنيا ﴿أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾ قبل تعذيبهم ﴿فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ﴾ فننتقم منهم ﴿ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ﴾ مشاهد ومطلع
﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ﴾ من الأمم ﴿رَّسُولٌ﴾ يهديهم إلى طريق السداد والرشاد ﴿فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ﴾ إليهم فكذبوه ﴿قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾ بالعدل فأهلكنا المكذبين، وأنجينا المؤمنين
﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ﴾ أي متى هذا العذاب الذي تهددنا به
﴿قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً﴾ وبالتالي لا أعلم ما يريده الله تعالى بي ولا بكم ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ﴾ أن يطلعني عليه لحكمة خاصة ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ﴾
موعد لتعذيبهم
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً﴾ ليلاً
﴿أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ﴾ العذاب ﴿آمَنْتُمْ بِهِ﴾ أي بالعذاب الواقع وقيل لكم تؤمنون ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً﴾
-[٢٥٤]- ﴿وَقَدْ كُنتُم بِهِ﴾ أي بهذا العذاب ﴿تَسْتَعْجِلُونَ﴾ لتشككم في وقوعه، وتكذيبكم لمن أنذر به
﴿ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾ كفروا ﴿ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ﴾ العذاب الدائم؛ نعوذ ب الله تعالى من غضبه وعذابه (انظر آية ٩٣ من سورة النساء)
﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ﴾ يستخبرونك ﴿أَحَقٌّ هُوَ﴾ أي ما وعدتنا به من البعث والحساب والجزاء ﴿قُلْ إِي وَرَبِّي﴾ نعم والله ﴿إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ﴾ ﴿وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ بغالبين، أو بفائتين العذاب الذي أعده الله تعالى لكم
﴿وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ﴾ نفسها بالكفر والمعاصي، أو ﴿ظَلَمَتْ﴾ غيرها بالبغي والعدوان. لو أن لها ﴿مَا فِي الأَرْضِ﴾ جميعاً من مال ومتاع ﴿لاَفْتَدَتْ بِهِ﴾ نفسها من عذاب يومئذٍ ﴿وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ﴾ أظهروها ﴿لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ﴾ وبدت الندامة على أسارير وجوههم؛ ومنه قولهم: أسر إليه المودة وبها. أي أظهرها له ﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾ بالعدل
﴿يأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ القرآن الكريم ﴿وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ﴾ وأمراض الصدور: أخطر من أمراض الجسوم؛ لأن أمراض الصدور تؤدي إلى الجحيم، وأمراض الجسوم تؤدي إلى النعيم ولا شفاء للصدر إلا بالقرآن، ولا نجاة من النيران إلا به وشفاء الصدور: هو تخليصها من الشرور، وإرشادها إلى ما فيه الحياة الأبدية، والسعادة السرمدية
﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ﴾ عليهم ﴿وَبِرَحْمَتِهِ﴾ لهم ﴿فَبِذَلِكَ﴾ الفضل والرحمة ﴿فَلْيَفْرَحُواْ﴾ لا بالمال والنسب، والجاه والحسب. وقد ورد أن المراد بفضل الله في هذه الآية: الإسلام. والمراد برحمته: القرآن. هذا وكل خير يصيب الإنسان: فمرده إلى فضل الله تعالى وحده، وكل بر وسعادة ونجاة: فمرده إلى رحمته جل شأنه ففضله تعالى ورحمته هما الموصلان إلى خيري الدنيا والآخرة منحنا الله تعالى فضله، ووهبنا رحمته؛ بفضله ورحمته ﴿هُوَ﴾ أي فضل الله ورحمته ﴿خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ في الدنيا من الأموال
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ﴾ طيب حلال ﴿فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً﴾ كالبحيرة والسائبة (انظر آية ١٠٣ من سورة المائدة) في تحريم ما حرمتم، وتحليل ما أحللتم
-[٢٥٥]- ﴿أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ تكذبون عليه بنسبة ذلك إليه.
﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ﴾ من الشؤون، أو أمر من الأمور ﴿وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ﴾ أي ﴿مَا تَتْلُواْ﴾ من أجل ذلك الشأن ﴿مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ﴾ قل أو جل ﴿إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً﴾ مشاهدين ومراقبين لأعمالكم؛ نعلم ظواهركم وبواطنكم ﴿إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ تأخذون في عمله ﴿وَمَا يَعْزُبُ﴾ وما يبعد، ولا يغيب ﴿عَن رَّبِّكَ﴾ عن بصره وإرادته ومشيئته ﴿مِن مِّثْقَالِ﴾ وزن ﴿ذَرَّةٍ﴾ نملة صغيرة؛ تذروها الريح إذا هبت ﴿وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ هو اللوح المحفوظ؛ كتب فيه ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة
﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ﴾ خاصته وأحباءه ﴿لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ في الدنيا ﴿وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ في الآخرة
﴿الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ بالله تعالى وأحسنوا أعمالهم ﴿وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾ الله، ويخشون غضبه وعذابه؛ فصدرت أعمالهم في حدود ما رسمه الله تعالى لعباده وأراده لهم فأولئك
﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا﴾ يبشرون وقت النزع؛ بأن يرى المحتضر مكانه من الجنة رأى العين؛ فيتهلل ويستبشر. وهذا مشاهد متواتر في كل مؤمن معهود فيه التقوى، مشهود له بالصلاح ﴿وَفِي الآخِرَةِ﴾ ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ﴾ ﴿لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ﴾ فأمره نافذ، ووعده محقق؛ جعلنا الله تعالى من المستبشرين في الحياة الدنيا وفي الآخرة بمنه وفضله ﴿ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ أي قول المشركين لك: ﴿لَسْتَ مُرْسَلاً﴾ ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ وأمثال ذلك ﴿إِنَّ الْعِزَّةَ﴾ القوة والغلبة ﴿للَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ﴾ لأقوالهم ﴿الْعَلِيمُ﴾ بأفعالهم؛ وسيجازيهم عليها؛ بعد أن ينصرك نصراً عزيزاً مؤزراً
﴿وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ يعبدون
-[٢٥٦]- ﴿مِّن دُونِ اللَّهِ﴾ غيره ﴿شُرَكَآءَ﴾ لله في ملكه كما يزعمون ﴿إِن يَتَّبِعُونَ﴾ ما يتبعون ﴿إِلاَّ الظَّنَّ﴾ الوهم والتخمين ﴿وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾ يختلقون ويفترون
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْلَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ﴾ لتستريحوا ﴿فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً﴾ مضيئاً؛ تبصرون فيه
﴿قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً﴾ وهو أحد صمد؛ لم يلد ولم يولد ومن عجب أن هؤلاء الحمقى الجهال، ينسبون للعلي المتعال؛ ما ينزهون عنه رهبانهم؛ إذ أنهم لا يتزوجون ولا يلدون
﴿سُبْحَانَهُ﴾ تنزه وتقدس أن يكون له ولد وكيف يكون له ولد؛ و ﴿هُوَ الْغَنِيُّ﴾ عن الولد، والوالد، والصاحبة؛ لأن الإنسان يحتاج للصاحبة: لتؤنسه وتخدمه. وللوالد: ليكلأه ويرعاه. وللولد: ليعينه ويستكثر به. والله تعالى ليس في حاجة إلى مؤنس، أو كالىء، أو مدبر، أو راع، أو معين. إذ هو وحده مؤنس الكائنات، وكالؤهم، ومدبر مصالحهم، وراعيهم، ومعينهم ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ ملكاً وخلقاً وعبيداً ﴿إِنْ عِندَكُمْ﴾ ما عندكم ﴿مِّن سُلْطَانٍ﴾ حجة ﴿بِهَذَآ﴾ الذي تقولونه
﴿قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ﴾ يختلقون ﴿عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ بنسبة الولد إليه
﴿مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا﴾ أي ليس لهم إلا تمتع قليل في الدنيا ﴿ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ﴾ فنحاسبهم حساباً عسيراً على ما عملوا في دنياهم
﴿يقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ﴾ عظم وثقل ﴿عَلَيْكُمْ مَّقَامِي﴾ إقامتي بينكم شق عليكم وعظي لكم
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ﴾ وحده ﴿تَوَكَّلْتُ﴾ أي اعتمدت عليه، واستعنت به. وليس أدل على صدق الإيمان، ومزيد الإيقان؛ من التوكل على الله تعالى. وقد قال نوح لقومه ما في نفسه ليشعرهم أنه - وقد استعان ب الله تعالى - لا يعبأ بكيدهم ولا بجمعهم، ولا يخشى من قوتهم وكثرة عددهم لذلك جابههم بقوله ﴿فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ﴾ اعزموا على أمر تفعلونه بي، وكيد تكيدونه لي ﴿وَشُرَكَآءَكُمْ﴾ أي وادعوا شركاءكم لنصرتكم ﴿ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ﴾ الذي تعزمون عليه ﴿عَلَيْكُمْ غُمَّةً﴾ أي لا يكن مستوراً عليكم، بل واضحاً، تتمكنون منه، وتقدرون عليه؛ من غم الهلال: إذا استتر واحتجب. أو ﴿لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً﴾ أي لا تكن نتيجة أمركم غماً عليكم ﴿ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ﴾
امضوا فيما أردتموه من النيل مني ﴿وَلاَ تُنظِرُونَ﴾ لا تمهلوني فانظر - يا هداك الله - إلى هذه القوة التي وهبها الله تعالى لنبيه نوح، والشجاعة التي بثها في روحه وما كان ذلك إلا وليد اعتماده على ربه سبحانه وتعالى وتوكله عليه (انظر آية ٨١ من سورة النساء)
﴿فَإِن تَوَلَّيْتُمْ﴾ أعرضتم عن الإيمان الذي دعوتكم إليه، والتذكير الذي وعظتكم به ﴿فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ﴾ على ذلك
﴿فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ﴾ في السفينة؛ ويطلق على الواحد والجمع ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ﴾ خلفاء؛ جمع خليفة
﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ﴾ أي بعد نوح عليه السلام ﴿رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ﴾ أي هوداً وصالحاً، وإبراهيم ولوطاً، وشعيباً ﴿فَجَآءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ الحجج الواضحة الدالة على صدق رسالتهم ﴿فَمَا كَانُواْ﴾ أي فما كان هؤلاء الأقوام ﴿لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ﴾ أي بما كذب به آباؤهم ﴿كَذَلِكَ نَطْبَعُ﴾ نختم ﴿عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ﴾ الذين اعتدوا على رسلهم وأنبيائهم، وكذبوا بما أرسلوا به؛ ولم تنفعهم العظات، ولم يؤمنوا بالآيات البينات
﴿فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا﴾ التوراة ﴿قَالُواْ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ واضح ظاهر
﴿قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ﴾ هذا القول ﴿لِلْحَقِّ﴾ الواضح ﴿لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا﴾ أي أيعقل أن يكون هذا سحراً، وهو واضح مبين؟
﴿قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا﴾ لتصرفنا ﴿وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ﴾ أي الملك؛ لأن الملوك موصوفون بالكبر والتجبر
﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ﴾ لقومه ﴿ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ﴾ فائق في فن السحر؛ لنحارب موسى بسحر مثله
﴿فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُّوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ﴾ وذلك بعد أن قالوا له: «إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين» ﴿حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ﴾ حبالهم وعصيهم
﴿قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ﴾ أي إن الذي جئتم به الآن هو السحر؛ لا ما اتهمتموني به؛ و ﴿إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ﴾ لأن سنته تعالى في خلقه: أنه ﴿لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ يظهره ويعليه ﴿بِكَلِمَاتِهِ﴾ بأمره وقدرته
﴿فَمَآ آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ﴾ أي طائفة من أبناء قومه؛ أما كبارهم فاستكبروا وعتوا وهذه الطائفة التي آمنت؛ إنما آمنت ﴿عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ﴾ أي رغم خوفهم من فرعون، وخوفهم من ملئهم؛ الذين هم أهلوهم وآباؤهم. أو على خوف من فرعون وشيعته ﴿أَن يَفْتِنَهُمْ﴾ أن يعذبهم ﴿وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ﴾ متكبر جبار ﴿وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾ المتجاوزين للحد: بكفره وادعائه الربوبية
﴿فَقَالُواْ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا﴾ وهو لا شك معيننا وناصرنا (انظر آية ٨١ من سورة النساء) ﴿رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً﴾ أي موضع فتنة ﴿لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ بحيث يفتنوننا عن ديننا، ويضلوننا. والفاتن: المضل عن الحق. أو «فتنة» بمعنى عذاباً. أي لا تجعلنا موضع عذابهم وانتقامهم
﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا﴾ أي اتخذا. يقال: تبوأ المنزل: إذا نزله واتخذه سكناً ﴿وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً﴾ أي مساجد تصلون فيها سراً؛ خوفاً من أذى فرعون وملئه
﴿وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً﴾ فرشا وثيراً، وملبساً حسناً، ومسكناً فخماً، ومركباً فارهاً، وحلياً نفيسة ﴿وَأَمْوَالاً﴾ وفيرة
-[٢٥٩]- ﴿لِيُضِلُّواْ﴾ الناس ﴿عَن سَبِيلِكَ﴾ عن دينك الحق القويم ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ﴾ أي أهلكها وأذهب آثارها ﴿وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ اطبع عليها؛ جزاء تمسكهم بكفرهم، واستهزائهم بنبيهم، وإيذائهم للمؤمنين ﴿فَلاَ يُؤْمِنُواْ﴾ لك ﴿حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ﴾ الذي تنزله بالمستهزئين، وتلحقه بالكافرين
﴿قَالَ﴾ الله تعالى ﴿قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا﴾ فلم يؤمن فرعون وقومه حتى أدركهم الغرق؛ فلم ينفعهم إيمانهم ﴿فَاسْتَقِيمَا﴾ اثبتا على ما أنتما عليه من نشر الدعوة ﴿وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ صدق الإجابة، وحكمة الإمهال
﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ﴾ جعلناهم يسلكونه ويتجاوزونه؛ بأن فرق الله تعالى الماء: فمر بنو إسرائيل على اليابسة. قال تعالى: ﴿فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ ﴿فَأَتْبَعَهُمْ﴾ لحقهم ﴿فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً﴾ منهم على المؤمنين ﴿وَعَدْواً﴾ اعتداء وتطاولاً وظلماً ﴿حَتَّى إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ ذهب بعضهم إلى أن فرعون قد آمن بقوله هذا؛ وأنه لا ينافي إيمانه ما جاء بعد ذلك في القرآن الكريم
﴿آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ لأن ذلك القول من قول الملك الموكل بالعذاب لا من قول الحكيم الخبير وهذ القول يرده قول العزيز العليم ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ﴾ وحضور الموت - المعنى في هذه الآية - هو اليأس من الحياة؛ وقد قال فرعون ما قال وقت إطباق البحر عليه، ويأسه من النجاة، وسبب إهلاك فرعون بالإغراق: هو أنه ألجأ بني إسرائيل إلى البحر ليغرقهم أو يقتلهم؛ فكان جزاؤه من جنس عمله. وتأمل - يا رعاك الله - إلى قدرة الله؛ فقد جعل في لحظة واحدة العزيز ذليلاً، والذليل عزيزاً؛ إذ لم يكن أعز من فرعون وملئه، ولا أذل من موسى وقومه (انظر آية ١٨ من سورة النساء)
﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ﴾ بجسمك؛ بعد إزهاق روحك ﴿لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ﴾ أي لمن بعدك من الأمم ﴿آيَةٍ﴾ عبرة لهم؛ وها هي ذي جثته الآن تعرض في دار الآثار المصرية. ﴿وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ﴾ الكافرين ﴿عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾ لا يتعظون بها «وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها»
﴿وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ﴾ أي أنزلناهم منزل تكريم في مصر والشام، أو الشام وبيت المقدس ﴿وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ الثمار وغيرها ﴿فَمَا اخْتَلَفُواْ﴾ في أمر محمد الذي بشر به كتابهم ﴿حَتَّى جَآءَهُمُ الْعِلْمُ﴾ القرآن.
﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ﴾ من أن ذكرك قد ورد في التوراة والإنجيل ﴿فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ﴾ المقصود بالكتاب: التوراة والإنجيل. قال حين نزلت: «لا أشك ولا أسأل» ﴿لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقُّ﴾ القرآن ﴿مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ الشاكين
﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ﴾ وجبت ﴿عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾ بالعذاب
﴿فَلَوْلاَ﴾ فهلا؛ وقرأ بها أُبي وابن مسعود ﴿كَانَتْ قَرْيَةٌ﴾ واحدة؛ من القرى التي أهلكناها ﴿آمَنتُ﴾ أي تاب أهلها عن الكفر، وآمنوا بمحض إرادتهم؛ قبل أن ينزل بواديهم العذاب ويحل بساحتهم، كما حل بساحة فرعون وملئه ﴿فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا﴾ لأنها آمنت قبل اليأس من الحياة ﴿إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ﴾ بعد نزول العذاب بهم ﴿كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ﴾ الذي كان سيحل بهم ﴿فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ وهو انقضاء آجالهم
﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً﴾ ولكنه تعالى تركهم لمحض إرادتهم واختيارهم؛ ليثيب الطائع، ويعاقب العاصي فإذا كان ربك يا محمد لم يشأ أن يؤمن الناس قسراً وجبراً ﴿أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ ليس عليك هداهم، وما عليك إلا البلاغ المبين
﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ بأمره وإرادته وتوفيقه ﴿وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ﴾ العذاب ﴿عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ لا يتدبرون آيات الله تعالى؛ فلا يؤمنون بها
﴿قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ من الدلالات القاطعة بوجود صانعها وبارئها ومدبرها ﴿وَمَا تُغْنِي﴾ ما تنفع.
-[٢٦١]- ﴿الآيَاتِ﴾ المبينة الواضحة ﴿وَالنُّذُرُ﴾ الرسل ﴿عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ﴾ لا يفتحون أعينهم للآيات، ولا أسماعهم للعظات
﴿فَهَلْ يَنتَظِرُونَ﴾ بتكذيبك ومخالفتك ﴿إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ﴾ أي الذين مضوا من الأمم الذين كذبوا؛ فنزل بهم العذاب ﴿فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ غيره ﴿وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ﴾ يميتكم باستيفاء آجالكم في الدنيا
﴿وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ﴾ أي استقم واتجه بكليتك ﴿لِلدِّينِ﴾ الذي أمرت باتباعه؛ ولا تلتفت إلى ما عداه ﴿حَنِيفاً﴾ مائلاً إلى الإسلام
﴿وَلاَ تَدْعُ﴾ لا تعبد ﴿مِّن دُونِ اللَّهِ﴾ غيره ﴿مَا لاَ يَنفَعُكَ﴾ إن دعوته وعبدته ﴿وَلاَ يَضُرُّكَ﴾ إن كفرته وتركته ﴿فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ﴾ الخطاب للرسول الكريم صلوات الله تعالى وسلامه عليه؛ والمراد به أمته؛ لأنه هو صاحب الدين الحنيف، الداعي إليه، الهادي له، وهو الآمر بالتوحيد، الحاث عليه، الناهي عن الشرك، المحطم له وفقنا الله تعالى إلى حسن اتباعه، وحشرنا في زمرته؛ بفضله ورحمته
﴿وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ﴾ مرض، وشدة ﴿فَلاَ كَاشِفَ لَهُ﴾ أي لا كاشف لهذا الضر ﴿إِلاَّ هُوَ﴾ وحده ﴿وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ﴾ عافية ويسر ﴿فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ﴾ أي بالخير، أو بكل ما أراد من خير وشر ﴿مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ جزاء، أو ابتلاء
﴿قُلْ يأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الْحَقُّ﴾ القرآن - الذي هو حق كله - ﴿مِن رَّبِّكُمْ فَمَنُ اهْتَدَى﴾ به
-[٢٦٢]- ﴿فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ﴾ لأن ثواب هدايته عائد إليها ﴿وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ لأن إثم ضلاله واقع عليها ﴿وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾ فألزمكم بالإيمان، وأجبركم على الهدى.
261
سورة هود

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

262
Icon