تفسير سورة الرّوم

أيسر التفاسير للجزائري
تفسير سورة سورة الروم من كتاب أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير المعروف بـأيسر التفاسير للجزائري .
لمؤلفه أبو بكر الجزائري . المتوفي سنة 1439 هـ

سورة الروم
مكية
وآياتها ستون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (٧)
شرح الكلمات:
الم: هذه أحد الحروف المقطعة تكتب الم، وتقرأ ألف، لام، ميم.
غلبت الروم: أي غلبت فارس الروم.
الروم: اسم رجل هو روم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم سميّت به قبيلة لأنه جدها.
في أدنى الأرض: أي أقرب أرض الروم إلى فارس وهي أرضٌ يقال لها الجزيرة "بين دجلة والفرات".
وهم من بعد غلبهم سيغلبون: أي وهم أي الروم من بعد غلب فارس لهم سيغلبونها.
في بضع سنين: أي في فترة ما بين الثلاث سنوات إلى تسع سنين.
لله الأمر من قبل ومن بعد: أي الأمر في ذلك أي في غلب فارس أولا ثم في غلب الروم أخيراً لله وحده إذ ما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن.
157
ويومئذ يفرح المؤمنون: أي ويوم تغلب الروم فارساً يفرح المؤمنون بنصر أهل الكتاب على المشركين عبدة النار، وبنصرهم هم على المشركين في بدر.
وعد الله: أي وعدهم الله تعالى وعدا وأنجزه لهم.
لا يخلف الله وعده: أي ليس من شأن الله خلف الوعد وذلك لكمال قدرته وعلمه.
ولكن أكثر الناس لا يعلمون: كمال الله في قدرته وعلمه المستلزم لإنجاز وعده.
يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا: أي لا يعلمون حقائق الإيمان وأسرار الشرع وإنما يعلمون ما ظهر من الحياة الدنيا كطلب المعاش من تجارة وزراعة وصناعة.
وهم عن الآخرة هم غافلون: أي عن الحياة الآخرة، وما فيها من نعيم وجحيم وما يؤدي إلى ذلك من عقائد وأفعال وتروك.
معنى الآيات:
قوله تعالى: ﴿الم﴾ : أحسن أوجه التفسير لمثل هذه الحروف القول بأن الله أعلم بمراده به، مع الإشارة إلى أنه أفاد فائدتين الأولى أن هذا القرآن المؤلف من مثل هذه الحروف المقطعة قد أعجز العرب على تأليف مثله فدل على أنه وحي من الله وتنزيله، وأن من نزل عليه نبي الله ورسوله وأن ما يحمل من تشريع هو حاجة البشرية ولا تصلح ولا تكمل ولا تسعد إلا به وعليه، والثانية أنها لما كان المشركون يمنعون من سماع القرآن مخافة تأثيره على المستمع له جاء تعالى بمثل هذه الفواتح للعديد من سور كتابه فكانت تضطرهم إلى الاستماع إليه لأن هذه الحروف لم تكن معهودة في مخاطبتهم.
وقوله تعالى: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ (١) : أي غَلَبت فارس الروم في ﴿فِي أَدْنَى الْأَرْضِ﴾ أي (٢) أرض الشام الأقرب إلى بلاد فارس وذلك في أرض الجزيرة الواقعة بين نهري دجلة والفرات
١ - هذا الخبر المقصود منه لازم الفائدة، إذ يعلم الله ذلك، وإنما المراد نحن نعلم ذلك فلا يهنئكم أيها المشركون ذلك ولا تتطاولوا به على رسولنا وأوليائنا فإنا نعلم أنهم سيغلبون من غلبهم في بضع سينين لا يعد الغلب في مثله غلبا.
٢ - اختلف في أدنى الأرض هل هذا الإدناء إلى أرض الروم أو إلى أرض الفرس كما في التفسير أو أدنى الأرض إلى أرض الروم أو إلى أرض العرب، وهذا الخلاف سببه الخلاف في تحديد موقع المعركة فإن كانت بالجزيرة فأدنى الأرض هو بالنسبة إلى أرض فارس وإن كانت الوقعة بالأردن فهي أقرب إلى أرض الروم وإن كانت الوقعة بأذرعات جنوب الشام فهي أقرب إلى ديار العرب الحجاز وما حوله والراجح الأول كما في التفسير.
158
وقوله: ﴿وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ أي وهم من بعد غلب فارس الروم ستغلب الروم فارسا وقوله: ﴿فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾ أي في فترة زمانية ما بين الثلاث سنوات إلى تسع سنوات وقوله ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ (١) بَعْدُ﴾ أي الأمر في ذلك لله تعالى من قبل الغلب ومن بعده إذ هو المتصرف في خلقه. وقوله ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ﴾ أي (٢) يوم يغلب الروم فارساً يفرح المؤمنون بانتصار الروم على فارس لأن الروم أهل كتاب وفارساً مشركون يعبدون النار، كما يفرح المؤمنون أيضاً بانتصارهم على المشركين في بدر إذ كان الوقت الذي انتصرت فيه الروم هو وقت انتصر فيه المؤمنون على المشركين في بدر. وهذا من الغيب الذي أخبر به القرآن قبل وقوعه فكان كما أخبر فأكد بذلك أن الإسلام وكتابه ورسوله حق. وقوله تعالى: ﴿يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ أي ينصر تعالى من يشاء نصره من عباده وقد شاء نصر المؤمنين والروم فنصرهم في وقت واحد منجزاً بذلك وعده الذي واعد به منذ بضع سنين (٣)، وهو العزيز أي الغالب على أمره القادر على إنجاز وعده الرحيم بأوليائه وصالحي عباده. وقوله ولكن ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (٤) ﴾ كتدبير الله وقدرته وعزته وفوائد شرعه وأسرار دينه. ولكن يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا كتدبير معايشهم من زراعة وصناعة وتجارة، وفي نفس الوقت هم عن الحياة الآخرة غافلون عما يجب عليهم فعله وتركه ليسعدوا فيها بالنجاة من النار وسكنان الجنان في جوار الرحمن سبحانه وتعالى.
١ - قبل، وبعد: مبنيان على الضم لحذف المضاف إليه ونية معناه أي: من قبل الغلب وبعده.
٢ - قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله الله عز وجل: (الم غلبت الروم في أدنى الأرض) قال: كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب، وذكر أن أبا بكر راهن قريشاً في كلام طويل، وقال الترمذي فيه حديث حسن صحيح غريب نقله القرطبي.
٣ - وقيل كان النصر يوم صلح الحديبية لأن صلح الحديبية كان في واقع الأمر نصراً للمؤمنين، وما في التفسير أصح لحديث الترمذي وقد حسنه وصححه وقال فيه غريب.
٤ - قال الحسن بلغ – والله- من علم أحدهم بالدنيا أنه ينقد الدرهم فيخبرك بوزنه ولا يحسن أن يصلي وفي هذا قال بعضهم شعراً:
ومن البلية أن ترى لك صاحبا
في صورة الرجل السميع البصير
فطنٍ بكل مصيبة في ماله
وإذا يصاب بدينه لم يشعر
159
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير صحة الإسلام وأنه الدين الحق بصدق ما يخبر به كتابه من الغيوب.
٢- بيان أن أهل الكتاب من يهود ونصارى أقرب إلى المسلمين من المشركين والملاحدة من بلاشفة شيوعيين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر.
٣- بيان أن أكثر الناس لا يعلمون ما يسعدهم في الآخرة ويكملهم من العقائد الصحيحة والشرائع الحكيمة الرحيمة التي لا يكمل الإنسان ولا يسعد إلا عليها، ويعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا كتدبير المعاش من زراعة وصناعة وتجارة، أما عن سر الحياة الدنيا ولماذا كانت فهم لا يعلمون شيئا كما هم عن الحياة الآخرة غافلون بالمرة فلا يبحثون عما يسعد فيها ولا عما يشقي. والعياذ بالله تعالى من الغفلة عن دار البقاء في السعادة أو الشقاء.
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون (٩) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (١٠)
160
شرح الكلمات:
في أنفسهم: أي كيف خُلقوا ولم يكونوا شيئا، ثم كيف أصبحوا رجالا.
إلا بالحق: أي لم يخلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق الذي هو العدل.
وأجل مسمى: وهو نهاية هذه الحياة لتكون الحياة الثانية حياة الجزاء العادل.
بلقاء ربهم لكافرون: أي بالبعث والوقوف بين يدي الله ليسألهم ويحاسبهم ويجزيهم.
وأثاروا الأرض: قلبوها للحرث والغرس والإنشاء والتعمير.
وعمروها: أي عمروا الأرض عمارة أكثر مما عمرها هؤلاء المشركون.
وجاءت رسلهم بالبينات: أي بالدلائل والحجج والبراهين من المعجزات وغيرها.
ولكن كانوا أنفسهم يظلمون: أي بتكذيبهم وشركهم ومعاصيهم فعرضوا أنفسهم للهلاك.
أساءوا السوأى: أي بالتكذيب والشرك والمعاصي والسوءى هي الحالة الأسوأ.
أن كذبوا بآيات الله: أي بتكذيبهم آيات الله القرآنية واستهزائهم بها.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في دعوة المنكرين للبعث الآخر إلى الإيمان به من طريق ذكر الأدلة العقلية التي تحملها الآيات القرآنية فقوله تعالى ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ (١) ﴾ أي أينكرون البعث ولم يتفكروا في أنفسهم كيف كانوا عدماً ثم وجدوا أطفالاً ثم شبابا ثم رجالاً كهولاً وشيوخاً ثم يموتون أليس القادر على خلقهم وتربيتهم ثم إماتتهم قادر على بعثهم وحسابهم ومجازاتهم على كسبهم في هذه الحياة الدنيا وقوله تعالى {مَا خَلَقَ اللهُ
١ - (في أنفسهم) ظرف للتفكر، وليس مفعولا لفعل يتفكروا لأنهم لم يؤمروا أن يتفكروا في خلق أنفسهم بل في خلق السموات والأرض وما بينهما.
161
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ (١) وَأَجَلٍ مُسَمّىً} أي لم يخلقهما عبثا بل خلقهما ليذكر ويُشكر، ثم إذا تم الأجل المحدد لهما أفناهما ثم بعث عباده ليحاسبهم هل ذكروا وشكروا أو تركوا ونسوا وكفروا ثم يجزيهم بحسب إيمانهم وطاعتهم أو كفرهم وعصيانهم.
وقوله تعالى ﴿وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾ يخبر تعالى أنه مع ظهور الأدلة وقوة الحجج على صحة عقيدة البعث والجزاء فإن كثيرا من الناس كافرون بالبعث والجزاء وقوله تعالى في الآية (٩) ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ أي أيكذّب أولئك المشركون بالبعث والجزاء ولم يسيروا في الأرض شمالاً وجنوباً (٢) فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم هلاكا ودماراً، ﴿كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ﴾ بالإنشاء والتعمير والزراعة والفلاحة ﴿وَعَمَرُوهَا﴾ عمارة أكثر مما عَمَرَها هؤلاء، ﴿وَجَاءَتْهُمْ (٣) رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾، ولما أهلكهم لم يكن ظالما لهم بل كانوا هم الظالمين لأنفسهم. أليس في هذا دليلا على حكمة الله وعلمه وقدرته فكيف ينكر عليه بعثه لعباده يوم القيامة لحسابهم ومجازاتهم؟
وقوله تعالى ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا﴾ أي الأعمال فلم يصلحوها حيث كذّبوا برسل الله وشرائعه. وقوله: ﴿السُّوأَى (٤) ﴾ أي عاقبة الذين أساءوا السوأى أي العاقبة السوأى وهو خسرانهم وهلاكهم، وقوله ﴿أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ﴾ أي من أجل أنهم كذبوا بآيات الله ﴿وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ﴾ وأصروا على ذلك ولم يتوبوا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الأدلة العقلية المثبتة لها.
٢- كفر أكثر الناس (٥) بالبعث مع كثرة الأدلة وقوتها.
١ - جائز أن يكون (إلا بالحق) معناه: إلا للحق أو لإقامة الحق أو بالحكمة وما في التفسير أولى وكل ما ذكر يشمله ويدل عليه. والأجل المسمى: المراد به أن كل المخلوقات حدد لها أجل فنائها، وهذا التقرير للفناء مستلزم للحياة الآخرة.
٢ - فينظروا بأبصارهم وبصائرهم فلمّا كذبوا أهلكهم الله وما كان ظالما لهم بل هم الظالمون لأنفسهم بالشرك والمعاصي.
٣ - أي: بالمعجزات والأحكام الشرعية.
٤ - السوءى: تأنيث الأسوأ، كالحسنى تأنيث الأحسن، والأسوأ: الأقبح من الأفعال والأقوال والمعتقدات، وجائز أن يكون المراد بالسوءى هنا جهنم كما أن المراد بالحسنى الجنة في قوله تعالى (للذين أحسنوا الحسنى) أي الجنة.
٥ - العلة أنهم لا يفكرون أي: لا يعملون خواطرهم في النظر والتأمل هذا هو سر عدم إيمانهم إذ لو نسب المفكرون إلى غيرهم لما كانت النسبة واحداً إلى مليون:
ولم أر كالرجال تفاوتا لدى الفكر حتى عدّ ألف بواحد
162
١- مشروعية السير في الأرض للاعتبار مع اشتراط عدم حصول إثم في ذلك بترك واجب أو بفعل محرم.
٢- بيان جزاء الله العادل في أن عاقبة الإساءة السوأى (١).
٣- كفر الاستهزاء بالشرع وأحكامه والقرآن وآياته.
اللهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (١٦)
شرح الكلمات:
ثم إليه ترجعون: أي بعد إعادة الخلق وبعث الناس.
يبلس المجرمون: أي ييأسون من النجاة وتنقطع حجتهم فلا يتكلمون.
وكانوا بشركائهم كافرين: أي يتبرءون منهم ولا يعترفون بهم.
يتفرقون: أي ينقسمون إلى سعداء أصحاب الجنة وأشقياء أصحاب النار.
في روضة يحبرون: أي في روضة من رياض الجنة يسرون ويفرحون.
في العذاب محضرون: أي مدخلون فيه لا يخرجون منه.
١ - أي: عاقبة الشرك والمعاصي وهما السوء والإساءة عاقبتهما السوءى أي: أشد العقوبات وأنكاها في الدنيا والآخرة.
163
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الأدلة وعرض صور حية صادقة لما يتم بعد البعث من جزاء، فقوله تعالى ﴿اللهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ إعلان واضح صريح قاطع للشك مزيل للّبس بأن الله رب السموات والأرض وما بينهما هو الذي بدأ الخلق فخلق ما شاء ثم يميته ثم يعيده، وإليه لا إلى غيره ترجع الخليقة كلها راضية أو ساخطة محبّة أو كارهة، هكذا قرر تعالى عقيدة البعث والجزاء مدلّلاً عليها بأقوى دليل وهو وجوده تعالى وقدرته التي لا تحد وعلمه الذي أحاط بكل شيء وحكمته التي لا يخلوا منها عمل، فقال ﴿اللهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.
وقوله عز وجل في الآية الثانية عشر (١٢) ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ (١) الْمُجْرِمُونَ﴾ هذا عرض لما بعد البعث فذكر أنه لماّ تقوم الساعة ويبعث الناس يبلس المجرمون أي ييأسون من الرحمة وينقطعون عن الكلام لعدم وجود حجة يحتجون بها. وقوله ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ﴾ أي ولم يكن لهم من يشفع لهم من شركائهم الذين عبدوهم بحجة أنهم يشفعون لهم عند الله، فأيسوا من شفاعتهم وكفروا بهم أيضا أي أنكروا أنهم كانوا يعبدونهم خوفاً من زيادة العذاب. هذه حال المجرمين الذين أجرموا على أنفسهم بالشرك والمعاصي، الحامل عليها تكذيبهم بآيات الله ولقائه. وقوله تعالى ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ﴾ هذا عرض آخر يخبر تعالى أنه إذا قامت الساعة تفرق الناس على أنفسهم فريقين فريق في الجنة وفريق في السعير، وبين ذلك مقرونا بعلله فقال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا (٢) وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ أي صدّقوا بالله ربّاً وإلهاً وبمحمد رسولاً وبالإسلام ديناً لا دين يقبل غيره وبالبعث والجزاء حقا. ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ أي عبدوا الله تعالى بما شرع لهم من العبادات إذ الصالحات هي المشروع من الطاعات القولية والفعلية فهؤلاء المؤمنون
١ - يقال أبلس يبلس إبلاسا: إذا سكت متحيراً وانقطعت حجته وأيس أن تكون له حجّة، قال الشاعر:
يا صاح هل تعرف رسما مكرسا
قال نعم أعرفه وأبلسا
والمكرس: الذي بعرت فيه الإبل وبولت فركب بعضها بعضا.
٢ - قيل في: (فأما) أن معناها: دع ما كنا فيه وخذ في غيره، وقيل معناها: مهما كنا في شيء فخذ في غير ما كنا فيه، والمعنى متقارب، والحقيقة أنها أداة شرط وتفصيل، تفصيل لما أجمل في الكلام السابق عليها وشرط ولذا قرن جوابها بالفاء.
164
العاملون للصالحات ﴿فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ (١) ﴾ من رياض الجنة ﴿يُحْبَرُونَ (٢) ﴾ أي يسرون ويفرحون بما لاقوه من الرضوان والنعيم المقيم، وذلك بفضل الله تعالى عليهم وبما هداهم إليه من الإيمان، وما وفقهم إليه من عمل الصالحات. وقوله: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ﴾ فقد أخبر عن جزائهم مقروناً بعلة ذلك الجزاء وهو كفرهم بتوحيد الله تعالى، والتكذيب بالآيات القرآنية وما تحمله من حجج وشرائع وأحكام، وبلقاء الآخرة وهو لقاء الله تعالى بعد البعث للحساب والجزاء، فجزاؤهم أن يحضروا في العذاب دائماً وأبداً لا يغيبون عنه، ولا يفتر عنهم، وهم فيه خالدون.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الأدلة وعرض مشاهد القيامة.
٢- تقرير عقيدة أن لا شفاعة لمشرك ولا كافر يوم القيامة، وبطلان ما يعتقده المبطلون من وجود من يشفع
لأهل الشرك والكفر.
٣- تقرير مبدأ السعادة والشقاء يوم القيامة فأهل الإيمان والتقوى في روضة يحبرون، وأهل الشرك والمعاصي في العذاب محضرون.
فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ
١ - الروضة: كل أرض ذات أشجار وماء وأزهار قال الأعشى:
وما روضة من رياض الحزن معشبة
خضراء جاد عليها مسبل هطل
يضاحك الشمس منها كوكب شرق
مؤزر بعميم النبت مكتهل
٢ - (يحبرون) : ينعمون ويكرمون ويسرون بالحبور والسرور وأثر النعيم يقال: فلان حسن السبر والحبر، وفي الحديث " يخرج رجل من النار ذهب حبره وسبره".
165
تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١)
شرح الكلمات:
فسبحان الله: أي سبحوا الله أي صلوا.
حين تمسون: أي تدخلون في المساء وفي هذا الوقت صلاة المغرب وصلاة العشاء.
وحين تصبحون: أي تدخلون في الصباح وفيه صلاة الصبح.
وله الحمد في السموات والأرض: أي وهو المحمود دون سواه في السموات والأرض.
وعشياً: أي حين تدخلون في العشي وفيه صلاة الظهر.
يخرج الحي من الميت: أي يخرج الإنسان الحي من النطفة وهي ميتة.
ويخرج الميت من الحي: أي يخرج النطفة من الإنسان الحي والبيضة الميتة من الدجاجة الحيّة.
ويحيى الأرض بعد موتها: أي يحييها بالمطر فتحيا بالنبات بعدما كانت يابسة ميتة.
وكذلك تخرجون: أي من قبوركم أحياء بعدما كنتم ميتين.
ومن آياته: أي ومن أدلة قدرته وعلمه وحكمته المقتضية لبعثكم بعد موتكم.
أن خلقكم من تراب: أي خلقه إياكم من تراب، وذلك بخلق آدم الأب الأول.
تنتشرون: أي في الأرض بشراً تعمرونها.
لتسكنوا إليها: أي لتسكن نفوسكم إلى بعضكم بعضاً بحكم التجانس في البشرية.
وجعل بينكم مودة: أي محبة ورحمة أي شفقة إذ كل من الزوجين يحب الآخر ويرحمه.
166
معنى الآيات:
قوله سبحانه وتعالى في هذا السياق: ﴿فَسُبْحَانَ (١) اللهِ..........﴾ الآية. لما بين تعالى بدء الخلق ونهايته باستقرار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار وهذا عمل يستوجب تنزيهه تعالى عما لا يليق بجلاله وكماله كما يستلزم حمده، ولما كانت الصلوات الخمس تشتمل على ذلك أمر بإقامتها في المساء والصباح والظهيرة والعشيّ فقال تعالى: ﴿فَسُبْحَانَ (٢) اللهِ﴾ أي سبحوا الله ﴿حِينَ تُمْسُونَ﴾ أي تدخلون في المساء وهي صلاة المغرب والعشاء ﴿وَحِينَ تُصْبِحُونَ﴾ أي تدخلون في الصباح وهي صلاة الصبح. وقوله تعالى ﴿وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ يخبر تعالى أن له الحمد مستحقا لها دون سائر خلقه في السموات والأرض. وقوله ﴿وَعَشِيّاًً (٣) ﴾ معطوف على قوله ﴿حِينَ تُصْبِحُونَ﴾ أي وسبحوه في العشي. وهي صلاة العصر ﴿وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾ أي وسبحوه حين تدخلون في الظهيرة وهي صلاة الظهر.
وقوله تعالى ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ (٤) ﴾ أي ومن مظاهر الجلال والكمال الموجبة لحمده وطاعته والمقتضية لقدرته على بعث عباده ومحاسبتهم ومجازاتهم أنه يخرج الحي كالإنسان من النطفة والطير من البيضة والمؤمن من الكافر ﴿وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ كالنطفة من الإنسان والبيضة من الدجاجة وسائر الطيور التي تبيض. وقوله ﴿وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ أي ومن مظاهر وجوده وقدرته وعلمه ورحمته أيضاً أنه يحيى الأرض بالمطر بعد موتها بالجدب والقحط فإذا هي رابية تهتز بأنواع النباتات والزروع وقوله ﴿وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (٥) ﴾ أي وكإخراج الحي من الميت والميت من الحي وكإحيائه الأرض
١ - في هذه الآية الكريمة: (فسبحان الله) يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بعبادته في الأوقات المذكورة في الآية، وأعظم العبادات الصلاة لأنها مشتملة على ذكره وشكره.
٢ - هذه الفاء للتفريع إذ هذا الأمر متفرع عما قبله إذ بيّن تعالى أن الإيمان والعمل الصالح منج لصاحبه فبناء على ذلك فأقيموا الصلاة.
٣ - العشي والعشية من صلاة العصر إلى غروب الشمس حسب دلالة الآية لتدخل صلاة العصر والإمساء: تدخل فيه صلاة المغرب والعشاء والصبح في الإصباح والظهر في الظهيرة.
٤ - كون النطفة تحمل حيوانات منوية لا يتنافى مع إطلاق الموت عليها إذ المراد من الموت الذي يوصف به الشيء كما وصفت الأرض بالموت إذا يبست ولم يكن بها بنات، وحبة البر والشعير بالموت إذ الحياة تحدث للأرض بعد نزول المطر عليها والحبة بعد تفاعلها مع التربة الثرية وكذا النطفة تحمل مادة الحياة كالأرض والحبة ولا تظهر فيها إلا بعد تفاعلها الخاص في الرحم.
٥ - في هذا دليل على مشروعية القياس وصحته، وجه القياس في الآية هو قياس المعاد على الخلق الأول والإيجاد.
167
بعد موتها: يحييكم ويخرجكم من قبوركم للحساب والجزاء إذ القادر على الأول قادر على الثاني. ولا فرق.
وقوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ﴾ أي ومن آياته الدالة على وجوده وعلمه وقدرته المستوجبة لعبادته وحده والمقررة لقدرته على البعث والجزاء خَلْقُه للبشرية من تراب (١) إذ خلق أباها الأول آدم عليه السلام من تراب، وخلق حواء زوجه من ضلعه ثم خلق باقي البشرية بطريقة التناسل. فإذا هي كما قال سبحانه وتعالى: بشر ينتشرون (٢) في الأرض متفرقين في أقطارها يعمرونها بإذنه تعالى. وقوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا (٣) إِلَيْهَا﴾ أي ومن آياته أي حججه وأدلته الدالة على وجوده وعلمه ورحمته المستوجبة لعبادته وتوحيده فيها والدالة أيضا على قدرته على البعث والجزاء خلقه لكم أيها الناس من أنفسكم أي من جنسكم الآدمي أزواجاً أي زوجات لتسكنوا إليها بعامل التجانس، إذ كل جنس من المخلوقات يطمئن إلى جنسه ويسكن إليه، وقوله ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ أي جعل بين الزوجين مودة أي محبة ورحمة أي شفقة إلا إذا ظلم أحدهما الآخر فإن تلك المودة وتلك الرحمة قد ترتفع حتى يرتفع الظلم ويسود العدل والحق. وقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ﴾ أي دلائل وحجج واضحة ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ باستعمال عقولهم في النظر والفكر فإنهم يجدون تلك الأدلة على قدرة الله وعلمه ورحمته وكلها مقتضية لتوحيد الله ومحبته وطاعته بفعل محابه وترك مساخطه، مع تقرير عقيدة البعث والجزء التي أنكرها المجرمون المكذبون.
١ - ووجه آخر للخلق من تراب وهو أن النطف التي هي أصل خلق الإنسان بعد الأبوين آدم وحواء قد تكونت من الغذاء، وأن الغذاء قد تكون من نبات الأرض، وأن نبات الأرض مشتمل على الأجزاء الترابية التي أنبتته فبهذا كان تكوين الإنسان من تراب فكان آية وأمر آخر هو أن التراب بارد يابس، وهو طبع الموت وطبع الحياة الحرارة والرطوبة، فمن ذلك البارد اليابس ينشأ المخلوق الحي الرطب فسبحان الخلاق العليم.
٢ - الانتشار الظهور والتفرق هنا وهناك في البلاد والأقطار تعملون سامعين مبصرين منكم الصالح ومنكم خلافه وهو الفاسد.
٣ - ضمن لتسكنوا لتميلوا لذا عدي باللام وفي الآية دليل على عدم تزوج الآدمي بغير الآدمية كالجنية إذ لا يحصل الأنس إلا بالجنس والآية تومئ إلى أن أول ارتفاق الرجل بالمرأة سكونه إليها مما فيه من غليان القوة وذلك أن الختانين إذا التقيا هيجا ماء الصلب فإذا نزل حصل السكون ووقف الهيجان كما هو معروف.
168
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب تنزيه الله عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله.
٢- وجوب حمد الله على آلائه وإنعامه.
٣- وجوب إقام الصلاة.
٤- بيان أوقات الصلوات الخمس (١).
٥- بيان مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه ورحمته المقتضية لتوحيده والمقررة لعقيدة البعث والجزاء.
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥)
١ - روي عن ابن عباس أنه سئل هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال نعم: وقرأ هذه الآية ومنها أخذ الإمام الشافعي أوقات الصلوات الخمس وأخذها مالك من آية الإسراء (أقم الصلاة لدلوك الشمس) الآية.
169
شرح الكلمات:
ومن آياته: أي حججه وبراهينه الدالة على قدرته على البعث والجزاء.
واختلاف ألسنتكم: أي لغاتكم من عربية وعجمية والعجمية بينها اختلاف كثير.
وألوانكم: أي من أبيض وأصفر وأحمر وأسود والكل أبناء رجل واحد وامرأة واحدة.
للعالمين: أي للعقلاء على قراءة للعالمين (١) بفتح اللام، ولأولي العلم على قراءة كسر اللام.
وابتغاؤكم من فضله: أي طلبكم الرزق بإحضار أسبابه من زراعة وتجارة وصناعة وعمل.
لقوم يسمعون: أي سماع تدبر وفهم وإدراك لا مجرد سماع الأصوات.
يريكم البرق خوفاً وطمعا: أي إراءته إياكم البرق خوفاً من الصواعق والطوفان وطمعاً في المطر.
أن تقوم السماء والأرض بأمره: أي قيام السماء والأرض على ما هما عليه منذ نشأتهما بقدرته وتدبيره.
دعوة من الأرض: أي دعوة واحدة لا تتكرر وهي نفخة إسرافيل.
إذا أنتم تخرجون: أي من قبوركم أحياء للحساب والجزاء.
معنى الآيات:
ما زال السياق في تقرير عقيدة التوحيد والبعث والجزاء بذكر الأدلة والبراهين العقلية فقوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾ أي حججه الدالة على قدرته على البعث والجزاء وعلى وجوب توحيده ﴿خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ فخلقُ بمعنى إيجاد السموات والأرض وما فيهما وما بينهما من أكبر الأدلة وأقواها على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته وكلها موجبة لتوحيده ومثبتة لقدرته على البعث والجزاء، مقررة له، وقوله: ﴿وَاخْتِلافُ (٢) أَلْسِنَتِكُمْ﴾ أي
١ - بالفتح قرأ نافع وبالكسر قرأ حفص ولكل منهما متابع على ما قرأ والمعنى واحد إذ لا يكون العالم عالماً بدون عقل فكل عالم عاقل والعاقل يهديه عقله إلى أن يعلم فيعلم أيضا.
٢ - قال القرطبي اللسان في الفم وفيه اختلاف اللغات من العربية والعجمية والتركية والرومية واختلاف الألوان في الصورة من البياض والسواد والحمرة فلا تكاد ترى أحداً إلا وأنت تفرق بينه وبين الآخر وليس هذه الأشياء من فعل النطفة ولا من فعل الأبوين، فلا بد من فاعل فعلم أن الفاعل هو الله تعالى فهذا من أدل دليل على البارئ سبحانه وتعالى.
170
لغاتكم من عربية وعجمية ولهجاتكم بحيث لكل ناطق لهجة تخصه يتميز بها إذا سمع صوته عرف بها من بين بلايين البشر، ﴿وَأَلْوَانِكُمْ﴾ واختلاف ألوانكم أيها البشر من أبيض إلى أسود ومن أحمر إلى أصفر مع اختلاف الملامح والسمات بحيث لا يوجد اثنان من ملايين البشر لا يختلف بعضهما عن بعض حتى لا يتميز أحدهما عن الآخر إن في هذا وذاك ﴿لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ أي لحججا ظاهرة وبراهين قاطعة بعضها للعالمين (١) وذلك البياض والسواد وبعضها للعلماء كاختلاف اللهجات وملامح الوجوه والسمات المميزة الدقيقة والكل أدلة على قدرة الله وعلمه ووجوب عبادته وتوحيده في ذلك مع تقرير عقيدة البعث والجزاء.
وقوله ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ أي ومن آياته الدالة على قدرته على البعث والجزاء منامكم بالليل فالنوم (٢) كالموت والانتشار في النهار لطلب الرزق كالبعث بعد الموت فهذه عملية للبعث بعد الموت تتكرر كل يوم وليلة في هذه الحياة الدنيا، وقوله ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ أي في ذلك المذكور من النوم والانتشار لطلب الرزق لدلائل وحجج على قدرة الله على البعث لقوم يسمعون (٣) نداء الحق والعقل يدعوهم إلى الإيمان بالبعث والجزاء فيؤمنون فيصبحون يعملون للقاء ربهم ويستجيبون لكل من يدعوهم إلى ربهم ليعبدوه ويتقربوا إليه.
وقوله تعالى في الآية الثالثة (٢٤) ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً (٤) وَطَمَعاً﴾ أي ومن حججه تعالى الدالة على قدرته وعلمه وحكمته ورحمته وهي مقتضيات توحيده والإيمان بلقائه إراءته (٥) إياكم أيها الناس البرق خوفاً للمسافرين من الأمطار الغزيرة ومن الصواعق
١ - ذكر العالمين والعلماء في التفسير إشارة إلى القراءتين إذ قرأ نافع والجمهور للعالمين بفتح اللام وقرأ حفص بكسر العين للعالمين وهم العلماء.
٢ - المنام مصدر ميمي وهو من الأعراض لا من الذوات وأمره عجيب إذ لو قيل لإنسان نم ولك مكافأة أعظم مكافأة لا يقدر على أن ينام إلا على سنة النوم وهو الاسترخاء والاضطجاع وإغماض العينين فترة حتى ينام، ولو شاء الله ما نام كما لو شاء ما هب من نومه.
٣ - اختيار لفظ السماع مع آية النوم فيه إشارة إلى أن النائم يفقد السماع حال نومه بدون إرادته ولا اختياره.
٤ - جائز أن يكون الخوف للمسافر والطمع للمقيم.
٥ - التعبير بالمصدر "إراءته" إشارة إلى أن من أهل التفسير من يقول إن "أن" المصدرية محذوفة نحو قول الشاعر:
ألا أيها اللائمي احضر الوغى
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
إذ التقدير أن احضر فحذف أن، ويصح أن يكون المعنى ومن آياته أنه يريكم فحذف أن واسمها وبقي الخبر وهو جملة يريكم والكل واسع وجائز.
171
الشديدة أن تصيبهم، وطمعاً في المطر الذي تحيا به مزارعكم وتنبت به أرضكم فيتوفر لكم أسباب رزقكم، وقوله: ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ أي ومن آياته تنزيله تعالى من السماء ماءً هو المطر فيحيى به الأرض بالنباتات والزروع بعد أن كانت ميتة لا حياة فيها لا زرع ولا نبت إن في ذلك المذكور من إنزال الماء وإحياء الأرض بعد إراءته عباده البرق خوفاً وطمعاً لآيات دلائل وحجج على قدرته على البعث والجزاء ولكن يرى تلك الدلائل ويعقل ويفهم تلك الحجج قوم يعقلون أي لهم عقول سليمة يستعملونها في النظر والاستدلال فيفهمون ويؤمنون.
وقوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ﴾ أي ومن آياته تعالى الدالة على قدرته وعلمه وحكمته والموجبة لتوحيده والمقررة لنبوة نبيه ولقائه للحساب والجزاء قيام السماء والأرض منذ خلقهما فلا السماء تسقط، ولا أرض تغور فهما قائمتان منذ خلقهما بأمره تعالى أليس في ذلك أكبر دليل على قدرة الله تعالى على بعث الناس بعد موتهم أحياء لحسابهم على كسبهم ومجازاتهم.
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ (١) تَخْرُجُونَ﴾ أي أقام السماء والأرض للحياة الدنيا يحيى فيهما ويميت حتى تنتهي المدة المحددة للحياة فيهلك الكل ويفنيه ﴿ثم إذا دعاكم دعوة﴾ بنفخ إسرافيل في الصور ﴿إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ﴾ من الأرض استجابة لتلك الدعوة، وذلك للحساب والجزاء العادل على العمل في هذه الحياة الدنيا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ورحمته الموجبة لعبادته وحده وترك عبادة من سواه.
٢- مشروعية طلب الرزق بالمشي في الأرض واستعمال الوسائل المشروعة لذلك.
٣- تقرير أن الذين ينتفعون بأسماعهم وعقولهم هم أهل حياة الإيمان إذ الإيمان روح متى دخلت جسماً حيي
وأصبح صاحبه يسمع ويبصر ويفكر ويعقل.
٤- تقرير عقيدة البعث والجزاء التي عليها مدار الإصلاح البشري بعد عقيدة الإيمان بالله رباًّ وإلهاً.
١ - إذ الأولى شرطية والثانية فجائية سادة مسد فاء الجواب وصيغة الدعاء كما ذكرها القرطبي: يا أهل القبور قوموا فلا تبقى نسمة من الأوليين والآخرين إلا قامت تنظر كقوله تعالى ﴿فإذا هم قيام ينظرون﴾.
172
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٢٩)
شرح الكلمات:
وله من في السموات والأرض: أي خلقا وملكا وتصرفاً وعبيداً.
كل له قانتون (١) : أي كل من في السموات والأرض من الملائكة والإنس والجن منقادون له تجري عليهم أحكامه كما أرادها فلا يتعطل منها حكم.
وهو أهون عليه: أي أيسر وأسهل نظراً إلى أن الإعادة أسهل من البداية.
وله المثل الأعلى: أي الوصف الأعلى في كل كمال فصفاته كلها عليا ومنها الوحدانية.
وهو العزيز الحكيم: أي الغالب على أمره الحكيم في قضائه وتصرفه.
ضرب لكم مثلا: أي جعل لكم مثلا.
من أنفسكم: أي منتزعا من أموالكم وما تعرفونه من أنفسكم.
١ - القنوت الطاعة وهي الانقياد والخلائق كلها منقادة مطيعة لما أراد الله منها فلا يتخلف قضاؤه تعالى وحكمه فيها بحال من الأحوال.
173
كخيفتكم أنفسكم: أي تخوفكم من بعضكم بعضا أيها الأحرار.
نفصل الآيات: أي نبينها بتنويع الأسلوب وإيراد الحجج وضرب الأمثال.
بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم: أي ليس الأمر قصوراً في البيان حتى لم يؤمن المشركون وإنما العلة اتباع المشركين لأهوائهم وتجاهل عقولهم.
فمن يهدي من أضل الله؟ : أي لا أحد فالاستفهام للنفي.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير قدرة الله تعالى على البعث الذي أنكره المشركون بذكر الأدلة العقلية وتصريف الآيات فقال تعالى ﴿وَلَهُ﴾ أي لله المحيي المميت الوارث الباعث سبحانه وتعالى ﴿مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي من ملائكة وجان وإنسان فهو خلقهم وهو يملكهم ويتصرف فيهم. وقوله: ﴿كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (١) ﴾ أي مطيعون منقادون فالملائكة لا يعصونه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، والجن والإنس منقادون لما أراده منهم من حياة وموت ونشور وأما عصيانهم في العبادات فهو غير مقصود لأنه التكليف الذي هو علة الحياة كلها ومع هذا فهم منفذون باختيارهم وإرادتهم الحرة ما كتبه عليهم أزلا والله أكبر ولله الحمد وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي (٢) يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ أي هو الله الذي يبدأ خلق ما أراد خلقه في كل يوم وساعة من غير شيء ويهبه الحياة ثم يسلبها منه في آجال سماها ثم يعيده يوم القيامة أحب الناس أم كرهوا. وقوله ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ (٣) عَلَيْهِ﴾ أي الإعادة أيسر وأسهل عليه فليس على الله شيء صعب ولا شاق ولا عزيز ممتنع، وإنما خرج الخطاب على أسلوب المتعجبين من إعادة الخلق بعد فنائه فأعلمهم أن المتعارف عليه عندهم أن الإعادة أسهل من البداءة ليفهموا ويقتنعوا، وإلا فلا شيء صعب على الله تعالى ولا شاق ولا عسير، إذ هو يقول للشيء متى أراده كن فيكون. وقوله تعالى {وَلَهُ الْمَثَلُ (٤) الْأَعْلَى فِي
١ - ذكر القرطبي لتفسير كلمة (قانتون) تفاسير عدة عن السلف منها مطيعون طاعة انقياد، مقرون بالعبودية إما قالة وإما دلالة مصلون قائمون يوم القيامة مخلصون.
٢ - قال القرطبي: أما بدء خلقه فبعلوقه في الرحم قبل ولادته وأما إعادته فإحياؤه بعد الموت في النفخة الثانية للبعث فجعل ما علم من ابتداء خلقه دليلا على ما يخفى من إعادته استدلالا بالشاهد على الغائب.
٣ - أهون بمعنى هين، لقوله تعالى وكان ذلك على الله يسيرا، والعرب تطلق أفعل على فاعل قال الشاعر:
إن الذي شمل السماء بنى لنا
بيتا دعائمه أعز وأطول
٤ - أي ثبت له واستحق الشأن الأتم الذي لا يقاس بشؤون الناس المتعارفة وإنما بقصد التقريب لأفهامكم والأعلى الأعظم البالغ نهاية العظمة والقوة.
174
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وله أي لله سبحانه وتعالى الوصف الأكمل في السموات والأرض وهو الألوهية والوحدانية فهو الرب الذي لا إله إلا هو المعبود في السماء والأرض لا إله إلا هو فيهما ولا رب غيره لهما وهو العزيز الغالب المنتقم ممن كفر به وعصاه الحكيم في تدبيره وتصريفه لشؤون خلقه. وقوله تعالى ﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً (١) مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ أي جعل لكم مثلا مأخوذا منتزعاً من أنفسكم (٢) وهو: ﴿هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ﴾ أي أنه ليس لكم من مماليككم وعبيدكم شريك منهم يشارككم في أموالكم إذ لا ترضون بذلك ولا تقرونه أبداً، إذاً فكذلك الله تعالى لا يرضى أن يكون من عبيده من هو شريك له في عبادته التي خلق كل شيء من أجلها.. وقوله ﴿تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي تخافون عبيدكم كما تخافون بعضكم بعضا أيها الأحرار، أي لا يكون هذا منكم ولا ترضون به إذاً فالله – وله المثل الأعلى- كذلك لا يرضى أبداً أن يكون مخلوق من مخلوقاته ملكا كان أو نبياً أو وثنا أو صنماً شريكا له في عباداته. وقوله: ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ﴾ أي نبيّنها بتنويع الأساليب وضرب الأمثال ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ إذ هم الذين يفهمون معاني الكلام وما يراد من أخباره وقصصه وأمثاله وأوامره ونواهيه. وقوله تعالى ﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ أي ليس الأمر قصوراً في الأدلة ولا عدم وضوح في الحجج وإنما الظالمون اتبعوا أهواءهم أي ما يهوونه ويشتهونه بغير علمٍ من نفعه وجدواه لهم فضلوا لذلك. فمن يهديهم، وقد أضلهم الله حسب سنته في الإضلال. وهو معنى قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ﴾ ؟ أي لا أحد وقوله ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ أي يهدونهم بعد أن أضلهم الله، والعياذ بالله تعالى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير عقيدة البعث والتوحيد بذكر الأدلة وضرب الأمثال وتفصيل الآيات.
٢- تفرّد الرب تعالى بالمثل الأعلى في كل جلال وكمال.
١ - ضرب المثل إيقاعه ووضعه، واللام في لكم للتعليل أي لأجلكم.
٢ - من في قوله مثلاً من أنفسكم للابتداء وفي قوله من أنفسكم للتبعيض وفي قوله من شركاء زائدة. قال قتادة هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين والمعنى هل يرضى أحدكم أن يكون مملوكه في ماله ونفسه مثله فإن لم ترضوا بهذا لأنفسكم فكيف جعلتم لله شركاء.
175
١- استحسان ضرب الأمثال لتقريب المعاني إلى الأفهام.
٢- عظم فائدة المثل "ضرب لكم مثلا من أنفسكم الآية" حتى قال بعضهم (١) فَهْمُ هذا المثل أفضل من حفظ كذا مسألة فقهية.
٣- علة ضلال الناس (٢) اتباعهم لأهوائهم بغير علم وبانصرافهم عن الهدى بالاسترسال في اتباع الهوى.
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢)
شرح الكلمات:
فأقم وجهك للدين حنيفا: أي سدد وجهك يا رسولنا للدين الإسلامي بحيث لا تنظر إلا إليه.
حنيفا: أي مائلا عن سائر الأديان إليه، وهو بمعنى مقبلا عليه.
فطرة الله: أي صنعة الله التي صنع عليها الإنسان وهي قابليته للإيمان بالله تعالى.
لا تبديل لخلق الله: أي لا تعملوا على تغيير تلك القابلية للإيمان والتوحيد فالجملة خبرية لفظاً إنشائية معنى.
الدين القيم: أي المستقيم الذي لا يضل الآخذ به.
منيبين إليه: أي راجعين إليه تعالى بفعل محابه وترك مكارهه.
١ - المراد به القرطبي إذ قال عند تفسير هذه الآية: "وهذه المسألة أفضل للطالب من حفظ ديوان كامل في الفقه لأن جميع العبادات البدنية لا تصح إلا بتصحيح هذه المسألة في القلب، فافهم ذلك".
٢ - لما أقام عليهم الحجة ذكر تعالى أنهم يعبدون الأصنام باتباع أهوائهم وتقليد آبائهم وأسلافهم.
176
وكانوا شيعا: أي طوائف وأحزاباً كل فرقة فرحة بما هي عليه من حق وباطل.
معنى الآيات:
لما قرر تعالى عقيدة التوحيد والبعث والجزاء بالأدلة وضمن ذلك عقيدة النبوة وإثباتها للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر رسوله والمؤمنون تبع له فقال ﴿فَأَقِمْ (١) وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً﴾ (٢) أي أنصبوا وجوهكم أيها الرسول والمؤمنون للدين الحق دين الإسلام القائم على مبدأ التوحيد والعمل الصالح، فلا تلتفتوا إلى غيره من الأديان المنحرفة الباطلة. وقوله ﴿فِطْرَتَ (٣) اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ أي أقيموا وجوهكم للدين الحق الذي فطر الله الإنسان عليه تلك الفطرة التي هي خلق الإنسان قابلاً للإيمان والتوحيد. وقوله: ﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ﴾ أي لا تبدلوا تلك الخلقة ولا تغيروها بل نموها وأبرزوها بالتربية حتى ينشأ الطفل على الإيمان والتوحيد. فالجملة خبرية لفظا وإنشائية معنى نحو فهل أنتم منتهون فهي بمعنى انتهوا وهي أبلغ من انتهوا فكذا: لا تبديل أبلغ من لا تبدلوا. وقوله: ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ (٤) أي لزوم ما فطر عليه المرء من الإيمان بالله وتوحيده.. وإبراز ذلك في الواقع بالإيمان بالله وبما أمر بالإيمان به من أركان الإيمان وبعبادة الله تعالى وهي طاعته بفعل ما يأمر به وينهى عنه مخلصا له ذلك لا يشاركه فيه غيره من سائر مخلوقاته هو الدين القيم الذي يجب أن يكون عليه الإنسان وقوله: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥) ﴾ يخبر تعالى بأن ما قرره من الدين القيم كما بيّنه في الآيات أكثر الناس لا يعلمونه ولا يعرفونه وهو كما أخبر سبحانه
١ - فأقم وجهك: هذا الفاء هي الفاء الفصيحة إذ هي مفصحة عن جواب سؤال مقدر تقديره هنا إذا علمت أحوال المعرضين عن الحق بعد ظهور دلائله فأقم وجهك والمراد من الأمر دوام إقامة الوجه والاستمرار عليه.
٢ - حنيفا منصوب على الحال أي حال كونك معتدلاً مائلاً عن جميع الأديان المنحرفة الباطلة إلى دين الله الحق الذي لم يبدل ولم يغيّر وهو الإسلام.
٣ - فطرة: جائز أن يكون منصوبا على المفعولية المطلقة أي فطر الله تعالى الإنسان على ذلك فطرة، وجائز أن يكون منصوبا على أنه مفعول به أي وابتع فطرة الله والتقدير: فأقم وجهك للدين حنيفا واتبع فطرة الله.
٤ - قيّم كهيّن ولين مفيد قوة الاتصاف بمصدره أي الدين البالغ قوة القيام أي الاستقامة والبعد عن الاعوجاج. يقال عود مستقيم وقيّم من تشبيه المعقول بالمحسوس.
٥ - في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقررا حقيقة أن الإسلام هو دين الفطرة يقول: "ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم.. "الجمعاء أي جامعة لأعضائها لا نقص فيها والجدعاء التي يجدع أي يقطع منها عضو كالذيل أو الأذن.
177
وتعالى. وقوله ﴿مُنِيبِينَ (١) إِلَيْهِ﴾ أي أقيموا وجوهكم للدين القيم حال كونكم راجعين إليه تعالى تائبين إليه من كل دين غير هذا الدين، ومن كل طاعة غير طاعته تعالى بفعل الأوامر واجتناب النواهي. وقوله: ﴿وَاتَّقُوهُ﴾ أي خافوه تعالى إذ عذابه شديد فلا تتركوا دينه لأي دين ولا طاعته لأي مطاع غير الله تعالى ورسوله وقوله: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ أي حافظوا عليها في أوقاتها وأدوها كما شرعها كمّية وكيفيّة فإنها سقيا الإيمان ومُنمية الخشية والمحبة لله تعالى. وقوله تعالى: ﴿وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا (٢) دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً﴾ ينهى تعالى المؤمنين من أهل الدين القيم الذي هو الإسلام أن يكونوا من المشركين في شيء من ضروب الشرك عقيدة وقولا وعملا. فكل ملة غير ملة الإسلام أهلها مشركون كافرون سواء كانوا مجوسا أو يهوداً أو نصارى أو بوذة أو هندوكاً أو بلاشفة شيوعيين إذ جميعهم فرقوا دينهم الذي يجب أن يكونوا عليه وهو دين الفطرة وهو الإسلام وكانوا شيعا أي فرقا وأحزاباً كل فرقة تنتصر لما هي عليه وتنحزب له. فأصبح كل حزب منهم بما لديهم من دين فرحين به ظنا منهم أنه الدين الحق وهو الباطل قطعا، لأنه ليس دين الفطرة التي فطر الله عليها الإنسان وهو الإسلام القائم على توحيد الله تعالى وعبادته بما شرع لعباده أن يعبدوه به ليكملوا على ذلك ويسعدوا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب الإقبال على الله تعالى بعبادته والإخلاص له فيها.
٢- الإسلام هو دين الله الذي خلق الإنسان متأهلا له ولا يقبل منه دين غيره.
٣- وجوب الإنابة إلى الله تعالى والرجوع إليه في كل حال.
٤- وجوب تقوى الله عز وجل وإقام الصلاة.
٥- البراءة من الشرك والمشركين.
٦- حرمة الافتراق في الدين الإسلامي ووجوب الاتحاد فيه عقيدة وعبادة وقضاء.
١ - شاهد الإنابة بمعنى التوبة في قول الشاعر:
فإن تابوا فإن بني سليم
وقومهم هوازن قد أنابوا
ومنيبين حال من أقم وجهك وجمع لأن الأمة مخاطبة معه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٢ - قرأ الجمهور فرقوا وقرأ حمزة والكسائي فارقوا، والشيع جمع شيعة وهي الجماعة التي تتشايع أي توافق وتجمع عليه والحزب الجماعة الذين رأيهم ونزعتهم واحدة.
178
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧)
شرح الكلمات:
وإذا مس الناس ضر: أي إذا مس المشركين ضرّ أي شدة من مرض أو فقر أو قحط.
منيبين إليه: أي راجعين إليه بالضراعة والدعاء إليه تعالى دون غيره.
رحمة: بكشفِ ضر أو إنزال غيث وإصابة رخاء وسعة رزق.
يشركون: أي بربهم فيعبدون معه غيره بالذبح للآلهة والنذر وغيره.
ليكفروا بما آتيناهم: أي ليكون شكرهم لله كفراً بنعمه والعياذ بالله.
أم أنزلنا عليهم سلطاناً: أي حجة من كتاب وغيره ينطق بشركهم ويقرره لهم ويأمرهم به.
بما قدمت أيديهم: أي بذنوبهم وخروجهم عن سنن الله تعالى في نظام الحياة.
إذا هم يقنطون: أي ييأسون من الفرج بزوال الشدة.
يبسط الرزق لمن يشاء: أي يوسعه امتحانا له.
ويقدر: أي يضيق الرزق على من يشاء ابتلاء.
179
معنى الآيات:
لما أمر تعالى رسوله والمؤمنين بإقامة الدين ونهاهم أن يكونوا من المشركين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا أخبر تعالى عن المشركين أنهم إذا مسهم الضر وهو المرض والشدة كالقحط والغلاء ونحوها دعوا ربهم تعالى منيبين إليه أي راجعين إليه بالدعاء والضراعة لا يدعون غيره. وهو قوله تعالى ﴿وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا (١) رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ﴾ وقوله: ﴿ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً﴾ أصابهم برحمة من عنده وهي الصحة والرخاء والخصب ونحوه ﴿إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ﴾ أي كثير ﴿بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ﴾ فيعبدون الأصنام والأوثان بأنواع العبادات، وقوله ﴿لِيَكْفُرُوا (٢) بِمَا آتَيْنَاهُمْ﴾ أي أشركوا بالله بعد إنعامه عليهم ليكفروا بما آتاهم من نعمة كشف الضر عنهم إذاً ﴿فَتَمَتَّعُوا (٣) ﴾ أيها الكافرون بما خولكم الله من نعمة فسوف تعلمون عاقبة كفركم لنعم الله وشرككم به يوم تردون عليه حفاة عراة لا وليّ لكم من دونه تعالى ولا نصير.
وقوله تعالى: ﴿أَمْ أَنْزَلْنَا (٤) عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ﴾ أي ما الذي شجعهم على الشرك وجعلهم يصرون عليه حتى إذا تركوه ساعة الشدة عادوا إليه ساعة الرخاء أأنزلنا عليهم سلطانا أي حجة من كتاب ونحوه فهو ينطق بشركهم ويقرره لهم ويأمرهم به اللهم لا، لا، وإنما هو الجهل والتقليد والعناد وقوله ﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا﴾ هذه حال أهل الشرك والكفر والجهل من الناس إذا أذاقهم الله رحمة من خصب ورخاء وصحة فرحوا بها فرح البطر والأشر ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ﴾ من جدب وقحط ومرض وفقر، ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ من الذنوب والمعاصي ومنها مخالفة سنن الله في الكون ﴿إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (٥) ﴾ أي ييأسون من الفرج وذلك لكفرهم بالله وجهلهم بأسمائه
١ - الضر بالضم الضاد سوء الحال في البدن أو العيش أو المال وهذه الجملة الخبرية تحمل السامع على التعجب من حال المشركين كيف يخلصون لله تعالى الدعاء في الشدة ويشركون به في الرخاء يا للعجب!!
٢ - هذه لام التعليل في ظاهرها ولكنها آلت لمعنى العاقبة في واقعها.
٣ - الأمر للتهديد والتوعد على كفران النعم واستبدال شكرها بالكفر بالمنعم عز وجل الشرك به.
٤ - أم أنزلنا: أم للإضراب الانتقالي فهي بمعنى بل، وحرف الاستفهام مقدر أي أنزلنا عليهم الخ. وهو إنكاري أن الله تعالى لم ينزل عليهم حجة تبيح لهم الشرك وتقرره.
٥ - هذه الصفة وإن كان المراد بها المشركون فإنها قد يتصف بها بعض المؤمنين فتجد أحدهم يصاب بالبطر عند حلول النعم ويترك الشكر ويقنط عند حلول النقم والشدة وينسى الدعاء والتضرع إلى الله تعالى فهو كما قال الشاعر:
كحمار السوء إن أعلفته
رمح الناس وإن جاع نهق
180
وصفاته.
وقوله تعالى ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾ أي ألم يروا بأعينهم أن الله يبسط الرزق أي يوسعه لمن يشاء امتحانا له أيشكر أم يكفر، ﴿وَيَقْدِرُ﴾ أي يضيق الرزق على من يشاء ابتلاء أيصبر أم يضجر ويسخط. إذ لو كانت لهم عيون يبصرون بها وقلوب يفقهون بها لما أيسوا من رحمة الله وفرجه ولا ما قنطوا. وقوله تعالى ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ أي المذكور من تدبير الله في خلقه بالإعطاء والمنع ﴿لَآياتٍ﴾ أي حججاً ودلائل تدل المؤمنين على قدرة الله ولطفه ورحمته وحكمته في تدبير ملكه وملكوته فسبحانه من إله عظيم ورب غفور رحيم.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان جهل المشركين وضلال عقولهم بما ذكر تعالى من صفاتهم وأحوالهم.
٢-- بيان تهديد الله تعالى للمصرين على الشرك والكفر بعذاب يوم القيامة.
٣- بيان حال أهل الشرك والجهل في فرحهم بالنعمة فرح البطر والأشر ويأسهم وقنوطهم عند نزول البلاء بهم والشدة.
٤- مظهر حكمة الله وتدبيره في الرزق توسعة وتقديراً وإدراك ذلك خاص بالمؤمنين لأنهم أحياء يبصرون ويفهمون بخلاف الكافرين فهم أموات لا إبصار ولا إدراك لهم.
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ
181
شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠)
شرح الكلمات:
فآت ذا القربى: أي أعط ذا القرابة حقه من البر والصلة.
والمسكين: أي المعدوم الذي لا مال له أعطه حقه في الطعام والشراب والكساء.
وابن السبيل: أي أعط ابن السبيل أي المسافر حقه في الإيواء والطعام.
ذلك خير: أي ذلك الإنفاق خير من عدمه للذين يريدون وجه الله تعالى إذ يثيبهم ربهم أحسن ثواب.
وما آتيتم من ربا: أي من هدية أو هبة وسميت رباً لأنهم يقصدون بها زيادة أموالهم.
ليربو في أموال الناس: أي ليكثر بسبب ما يرده عليكم مَن أهديتموه القليل ليرد عليك الكثير.
فلا يربوا عند الله: أي لا يباركه الله ولا يضاعف أجره.
فأولئك هم المضعفون: أي الذين يؤتون أموالهم صدقة يريدون بها وجه الله فهؤلاء الذين يضاعف لهم الأجر أضعافاً مضاعفة.
هل من شركائكم: أي من أصنامكم التي تعبدونها.
من يفعل من ذلكم من شيء: والجواب لا أحد، إذاً بطلت ألوهيتها وحرمت عبادتها.
سبحانه وتعالى عما يشركون: أي تنزه الرب عن الشرك وتعالى عن المشركين.
معنى الآيات:
لما بيّن تعالى في الآية السابقة لهذه أنه يبسط الرزق لمن يشاء امتحاناً ويقدر على من يشاء ابتلاء أمر رسوله وأمته التابعة له بإيتاء ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل، إذ منع
182
الحقوق الواجبة لا يزيد في سعة الرزق ولا في تضييقه، إذ توسعة الرزق وتضييقه مرده إلى تدبير الله تعالى الحكيم العليم هذا ما دل عليه قوله تعالى ﴿فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ (١) ﴾ أي من البر والصلة ﴿وَالْمِسْكِينَ﴾ وهو من لا يملك قوته ﴿وَابْنَ السَّبِيلِ﴾ وهو المسافر ينزل البلد لا يعرف فيها أحداً، وحقهما: إيواؤهما وإطعامهما وكسوتهما وقوله تعالى ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ﴾ أي ذلك الإيتاء من الحقوق خير حالاً ومآلاً للذين يريدون وجه الله تعالى وما عنده من ثواب. وقوله: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ أي الفائزون بالنجاة من العذاب في الدنيا والآخرة، وبدخول الجنة يوم القيامة وقوله تعالى: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ﴾ أي وما أعطيتم من هبات وهدايا تريدون بها أن يُردّ عليكم بأكثر مما أعطيتم فهذا العطاء لا يربو عند الله ولا يضاعف أجره بل ولا يؤجر عليه وقوله: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ﴾ أي صدقات تريدون بها وجه الله ليرضى عنكم ويغفر لكم ويرحمكم، ﴿فَأُولَئِكَ﴾ هؤلاء الذين ينفقون ابتغاء وجه الله ﴿هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ أي الذين يضاعف لهم الأجر والثواب.
وقوله تعالى: ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ (٢) ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ يخبر تعالى المشركين من عباده موبخا لهم على شركهم مقرعاً: الله لا غيره هو الذي خلقكم ولم تكونوا شيئا ثم رزقكم بما تنموا به أجسادكم وتحفظ به حياتكم من أنواع الأغذية ثم يميتكم عند نهاية آجالكم، ثم يحييكم يوم القيامة للحساب والجزاء على الكسب في هذه الدنيا ثم يقول لهم ﴿هَلْ (٣) مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ﴾ المذكور من الخلق والرزق الإماتة والإحياء ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ ؟ والجواب: لا وإذاً فلم تعبدونهم من دون الله، فأين يذهب بعقولكم أيها المشركون. ثم نزه تعالى نفسه عن الشرك، وتعالى عن المشركين فقال ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤) ﴾
١ - الخطاب وإن كان موجهاً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمته تابعة له في هذا كله وابن السبيل إن استضاف مؤمنا وجب عليه ضيافته لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" في الصحيح.
٢ - استئناف لتقرير عقيدة التوحيد وإبطال التنديد والتوبيخ والتقريع على الشرك الذي هو أعظم أنواع الظلم وصاحبه أحط الناس قدراً وأفسدهم ذوقا وعقلا.
٣ - الاستفهام إنكاري مشوب بالنفي لقرينة من المؤكدة لنفي الجنس والإشارة في قوله من ذلكم إلى ما ذلك من الخلق والرزق والإماتة والإحياء.
٤ - قرأ الجمهور بالياء وقرأ غيرهم بتاء الخطاب بدون التفات من الغيبة إلى الخطاب.
183
من هداية الآيات
هداية الآيات
١- وجوب إعطاء ذوي القربى حقوقهم من البر والصلة.
٢- وجوب كفاية الفقراء وأبناء السبيل في المجتمع الإسلامي.
٣- جواز هدية الثواب (١) الدنيوي كأن يهدي رجل شيئا يريد أن يرد عليه أكثر منه ولكن لا ثواب فيه في الآخرة، وتسمى هذه الهدية: هدية الثواب وهي للرسول محرمة لقوله تعالى له: ﴿وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ﴾.
٤- بيان مضاعفة الصدقات التي يراد بها وجه الله تعالى.
٥- إبطال الشرك والتنديد بالمشركين وبيان جهلهم وضلال عقولهم.
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (٤٥)
١ - الهبة ثلاثة أنواع الأول هبة يريد بها صاحبها وجه الله تعالى كأن يهب عبداً صالحاً هبة إكراماً له وإسعاداً فهذه جائزة ويثيب عليها الله تعالى والثانية هبة يريد بها صاحبها رد أكثر منها كأن يهدي فقير لغني أو مأمور لأمير فهذه ثوابها ما يعطيه له من أهداه ولا أجر له عند الله. وله أن يطالب من أهداه للثواب ولم يثيبه والثالثة الصدقات تعطى للفقراء فهي هبة لله والله يثيب عليها إن خلت من الرياء فإذا شابها رياء فلا ثواب فيها.
184
شرح الكلمات:
ظهر الفساد في البر والبحر: أي ظهرت المعاصي في البر والبحر وتبعها الشر والفساد.
بما كسبت أيدي الناس: أي بسبب ما كسبته أيدي الناس من ظلم واعتداء.
ليذيقهم بعض الذي عملوا: أي تم ذلك وحصل ليذيقهم الله العذاب ببعض ذنوبهم.
لعلهم يرجعون: كي يرجعوا عن المعاصي إلى الطاعة والاستقامة.
قل سيروا في الأرض: أي قل يا رسولنا لأهل مكة المكذبين بك والمشركين بالله سيروا.
عاقبة الذين من قبل: أي كيف كانت نهاية تكذيبهم لرسلهم وشركهم بربهم إنّها هلاكهم.
فأقم وجهك للدين القيم: أي استقم على طاعة ربك عابداً له مبلغاً عنه منفذاً لأحكامه.
لا مرد له من الله: أي لا يرده الله تعالى لأنه قضى بإتيانه وهو يوم القيامة.
يصدعون: أي يتفرقون فرقتين.
يمهدون: أي يوطئون ويفرشون لأنفسهم في منازل الجنة بإيمانهم وصالح أعمالهم.
معنى الآيات:
تقدم في السياق الكريم إبطال الشرك بالدليل العقلي إلا أن المشركين مصرون على الشرك وبذلك سيحصل فساد في الأرض لا محالة فأخبر تعالى عنه بقوله في هذه الآية الكريمة (٤١) فقال ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ أي انتشرت المعاصي في البر (١) والبحر وفي الجو اليوم فعُبد غير الله واستبيحت محارمه وأوذي الناس في أموالهم وأبدانهم وأعراضهم وذلك نتيجة الإعراض عن دين الله وإهمال شرائعه وعدم تنفيذ أحكامه. وقوله ﴿بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ أي بظلمهم وكفرهم وفسقهم وفجورهم. وقوله: ليذيقهم بعض الذي عملوا أي فما يصيبهم من جدب وقحط وغلاء وحروب وفتن إنما أصابهم الله به ﴿لِيُذِيقَهُمْ (٢) بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا﴾ من الشرك والمعاصي لا بكل ما فعلوا إذ لو أصابهم
١ - ذكر للفساد في البر والبحر تأويلات وما في التفسير أصحها وأولاها بفهم الآية الكريمة وأنفعها لأهل القرآن المتدبرين به العاملين بما فيه.
٢ - قرأ الجمهور ليذيقهم بالياء وقرأ البعض بالنون.
185
بكل ذنوبهم لأنهى حياتهم على وجودهم (١)، ولكنه الرحمن الرحيم بعباده اللطيف بهم. وقوله تعالى ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ﴾ قل يا رسولنا لكفار قريش المكذبين لك المشركين بربهم: سيروا في الأرض شمالاً أو جنوباً أو غرباً فانظروا بأعينكم كيف كان عاقبة الذين كذبوا رسلهم وكفروا بربهم من قبلكم إنها كانت دماراً وهلاكاً فهل ترضون أن تكونوا مثلهم. وقوله ﴿كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ﴾ أي كان أكثر أولئك الأقوام الهالكين مشركين فالشرك والتكذيب الذي أنتم عليه هو سبب هلاكهم وخسرانهم وقوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ﴾ أي استقم يا رسولنا أنت والمؤمنون معك على الدين الإسلامي إذ لا دين يقبل سواه فاعتقدوا عقائده وامتثلوا أوامره واجتنبوا نواهيه وتأدبوا بآدابه وتخلقوا بأخلاقه وأقيموا حدوده وأحلوا حلاله وحرموا حرامه وادعوا إليه وعلموه الناس أجمعين، واصبروا على ذلك فإن العاقبة للمتقين وقوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ﴾ أي افعلوا ذاك الذي أمرتكم به قبل مجيء يوم القيامة حيث لم يكن عمل وإنما جزاء، وقوله ﴿لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ﴾ أي إنه لا يرده الله إذا جاء ميعاده لأنه قضى بإتيانه لا محالة من أجل الجزاء على العمل في الدنيا. وقوله ﴿يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ﴾ أي يوم يأتي اليوم الذي لا مرد له يصدعون أي يتفرقون فرقتين (٢) كما يتصدع الجدار فرقتين فريق في الجنة وفريق في النار. وقوله: ﴿مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ﴾ أي من كفر اليوم فعائد كفره عليه يوم القيامة، ﴿وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً﴾ أي اليوم ﴿فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ﴾ أي يوطئون فرشهم في الجنة (٣) إذ عائدة عملهم الصالح تعود عليهم لا على غيرهم، وقوله ﴿لِيَجْزِيَ (٤) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ﴾ أي يصدعون فرقتين من أجل أن يجزي الله تعالى أولياءه المؤمنين العاملين للصالحات من فضله إذ أعمالهم حسبها أنها زكَّت نفوسهم فتأهلوا لدخول الجنة أما النعيم المقيم فيها فهو من فضل الله فقط. وقوله ﴿إِنَّهُ (٥) لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ هذه جملة علة لجملة محذوفة إذ التقدير: ويجزي الكافرين بعدله وهو سوء العذاب لأنه لا يحب الكافرين.
١ - شاهد قوله تعالى: ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيراً (فاطر).
٢ - شاهده قول الشاعر:
وكنا كندماني جذيمة حقبة
من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
جذيمة الأبرشي كان ملكا ونديماه هما مالك وعقيل نادماه أربعين سنة ثم ماتوا وندماني في البيت تثنية ندمان.
٣ - شاهده قوله تعالى من سورة الشورى (وتُنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير).
٤ - اللام لام التعليل وهو واضح في التفسير.
٥ - علة الحذف طلب الإيجاز مع ظهور المعنى بدلالة السياق عليه.
186
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- ظهور الفساد بالجدب والغلاء أو بالحرب والأمراض يسبقه حسب سنة الله تعالى في ظهور الفساد في العقائد بالشرك، وفي الأعمال بالفسق والمعاصي.
٢- وجوب الاستقامة على الدين الإسلامي عقيدة وعبادة وقضاءًَ وحكماً.
٣- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحداثه ووقائعه.
٤- بيان أن الله تعالى يحب المتقين ويكره الكافرين.
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧)
شرح الكلمات:
ومن آياته أن يرسل الرياح: أي ومن حججه الدالة على قدرته على البعث والجزاء والموجبة لعبادته وحده.
مبشرات: أي تبشر العباد بالمطر وقربه.
وليذيقكم من رحمته: أي بالغيث والخصب والرخاء وسعة الرزق.
ولتبتغوا من فضله: أي لتطلبوا الرزق من فضله الواسع بواسطة التجارة في البحر.
ولعلكم تشكرون: أي كي تشكروا هذه النعم فتؤمنوا وتوحِّدوا ربكم.
رسلاً إلى قومهم: أي كنوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم السلام.
فجاءوهم بالبينات: أي بالحجج والمعجزات.
الذين أجرموا: أي أفسدوا نفوسهم فخبثوها بآثار الشرك والمعاصي.
187
حقا علينا نصر المؤمنين: أي ونصر المؤمنين أحققناه حقاً وأوجبناه علينا فهو كائن لا محالة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير ألوهية الله تعالى وعدله ورحمته، فقال تعالى ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾ أي ومن آياتنا الدالة على ألوهيتنا وعدلنا في خلقنا ورحمتنا بعبادنا إرسالنا الرياح مبشرات (١) عبادنا بقرب المطر الذي به حياة البلاد والعباد فإرسال الرياح أمر لا يقدر عليه إلا الله، وتدبير يقصر دونه كل تدبير ورحمة تعلوا كل رحمة. وقوله: ﴿وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ أي بإنزال المطر المترتب عليه الخصب والرخاء، وقوله: ﴿وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ﴾ أي السفن في البحر إذ الرياح كانت قبل اكتشاف البخار هي المسيرة للسفن في البحر صغيرها وكبيرها. وقوله ﴿بِأَمْرِهِ﴾ (٢) أي بإذنه وإرادته وتدبيره الحكيم، وقوله: ﴿وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾ أي لتطلبوا الرزق بالتجارة في البحر من إقليم إلى آخر تحملون البضائع لبيعها وشرائها وقوله: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي فعل الله تعالى بكم ذلك فسخره لكم وأقدركم عليه رجاء أن تشكروا ربكم بالإيمان به وبطاعته وتوحيده في عبادته. فهل أنتم يا عباد الله شاكرون؟، وقوله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ﴾ يا رسولنا ﴿رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ﴾ كنوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم السلام فجاءوا أقوامهم بالبينات والحجج النيرات كما جئت أنت قومك فكذبت تلك الأقوام رسلهم ﴿فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا﴾ فأهلكناهم، ونجينا الذين آمنوا ﴿وَكَانَ حَقّاً (٣) عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ألا فليعتبر قريش بهذا وإلا فستحل بها نقمة الله فيهلك الله المجرمين وينجي رسوله والمؤمنين كما هي سنته في الأولين والحمد لله رب العالمين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير الربوبية لله المستلزمة لألوهيته بذكر مظاهر القدرة والعلم والرحمة والعدل.
١ - قيل في الرياح مبشرات لأنها تتقدم المطر فهي كالمبشرة بمجيئه.
٢ - قال بأمره لأن الرياح قد تهب ولا تكون مواتية فيتعين إرساء السفن والاحتيال على حبسها إذ ربما عصفت بها الرياح فأغرقتها فمن هنا قال بأمره وإلا فالرياح وحدها لن تغرق السفن وتعوقها عند السير.
٣ - حقاً هذه الكلمة من صيغ الالتزام يقال فلان محفوف بكذا أي لازم له شاهده في قول الأعشى:
لمحفوفة أن تستجيبي لصوته
حقا خبر كان مقدم على اسمها وهو نصر المؤمنين ولا التفات إلى من رأى الوقف على (حقاً).
188
٢- بيان أن الله تعالى ينعم عباده من أجل أن يشكروه بعبادته وتوحيده فيها فإذا كفروا تلك النعم ولم يشكروا الله تعالى عليها عذبهم بما يشاء وكيف يشاء ومتى يشاء.
٣- بيان أن الله منتقم من المجرمين وإن طال الزمن، وناصر المؤمنين كذلك.
اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فََإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣)
شرح الكلمات:
فتثير سحاباً: أي تحركه وتهيجه فيسير وينتشر.
ويجعله كسفا: أي قطعاً متفرقة في السماء هنا وهناك.
فترى الودق: أي المطر يخرج من خلال السحاب.
إذا هم يستبشرون: أي فرحون بالمطر النازل لسقياهم.
لمبلسين: أي قنطين آيسين من إنزاله عليهم.
إن ذلك لمحيى الموتى: أي القادر على إنزال المطر وإحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء الموتى وهو الله تعالى.
189
فرأوه مصفراً: أي رأوا النبات والزرع مصفراً للجائحة التي أصابته وهي ريح الدبور المحرقة.
لظلوا من بعده يكفرون: أي أقاموا بعد هلاك زرعهم ونباتهم يكفرون نعم الله عليهم السابقة.
إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا: أي ما تسمع إلا المؤمنين بآيات الله.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر مظاهر قدرة الله تعالى في الكون قال تعالى: ﴿اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ (١) ﴾ أي ينشئها ويبعث بها من أماكن وجودها فتثير تلك الرياح سحاباً أي تزعجه وتحركه فيبسطه تعالى في السماء كيف يشاء من كثافة وخفة وكثرة وقلة، ﴿وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً (٢) ﴾ أي قطعا فترى أيها الرائي الودق أي المطر يخرج من خلاله أي من بين أجزاء السحاب. وقوله ﴿فَإِذَا أَصَابَ بِهِ﴾ أي بالمطر ﴿مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ أي المصابون بالمطر في أرضهم. ﴿إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ أي يفرحون. ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ﴾ أي المطر ﴿مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٣) ﴾ أي مكتئبين حزينين قانطين وقوله تعالى ﴿فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ﴾ أي فانظر يا رسولنا إلى آثار رحمة الله أي إلى آثار المطر كيف ترى الأرض قد اخضرت بعد يبس وحييت بعد موت. فإذا رأيت ذلك علمت أن الذي أحيا الأرض بعد موتها قادر على أن يحيي الموتى من قبورهم وذلك يوم القيامة وقوله ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ تعليل لعظم قدرته وأنه قادر على إحياء الموتى وعلى فعل كل شيء أراده. وقوله ﴿وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً﴾ أي وعزتنا وجلالنا لئن أرسلنا ريحاً فيه إعصارٌ فيه نار فأحرقت تلك النباتات وأيبسها فرآها أولئك الذين هم بالأمس فرحون فرح بطر بالغيث ﴿يَكْفُرُونَ﴾ بربهم أي يقولون: ما هو كفر من ألفاظ السخط وعدم الرضا وذلك لجهلهم
١ - استئناف مبدوء باسم الله الأعظم الدال على قدرته وواسع علمه فهو الذي يرسل الرياح وينزل من السماء ماء ويحيى به الأرض هو الله الرب القادر على إحياء الناس بعد موتهم والمستحق لعبادتهم دون سواه والرياح قرأ بها الجمهور وقرأ بعض الريح بالإفراد ومما عرف بالعادة أن الرياح للإمطار والريح للدمار.
٢ - الكِسَف: جمع كسفة أي قطعة والمراد أن الله تعالى يرسل الرياح فتثير السحاب ويكون عاما مجللا للسماء كافة ويكون منه قطعاً قطعاً لحكمة تتطلب ذلك والكسف بكسر الكاف وسكون السين كالكسف بكسر الكاف وفتح السين كلاهما جمع كسفه كسدره وسدر وقرئ من خَلله وجائز أن يكون جمع خلال أيضا.
٣ - وفسر بآيسيين أي قانطين أزلين كما في الحديث أي في ضيق وشدّه وفُسر بئسين والكل صحيح.
190
وكفرهم. وقوله تعالى: ﴿فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ (١) إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ﴾ أي إنك يا رسولنا لا تقدر على هداية هؤلاء الكافرين لأنهم صم لا يسمعون وعمي لا يبصرون لما ران على قلوبهم من الذنوب فعطل حواسهم وأنت بحكم بشريتك وقدرتك المحدودة لا تستطيع إسماع الموتى كلامك فيفقهوه ويعملوا به كما لا تستطيع إسماع الصم نداءك إذا هم ولّوا مدبرين إذ لو كانوا مقبلين عليك قد تفهمهم ولو بالإشارة أما إذا ولّوا مدبرين عنك فلا يمكن إسماعهم. إذاً فهون على نفسك ولا تحزن عليهم. وقوله: ﴿إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ﴾ أي إنك ما تسمع سماع قبول وانقياد وإدراك إلاّ من يؤمن بآياتنا أي إلا المؤمنين الذين آمنوا بآيات الله وعرفوا حججه فآمنوا به ووحدوه فهم مسلمون أي منقادون خاضعون مطيعون فهؤلاء في إمكانك إسماعهم وهدايتهم بإذن الله إلى ما يكملهم ويسعدهم في الدارين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الأدلة والحجج العقلية.
٢- بيان كيفية إنشاء السحاب ونزول المطر وهو مظهر من مظاهر القدرة والعلم الإلهي.
٣- بيان حال الكافر في أيام الرخاء وأيام الشدة فهو في الشدة يقنط وفي الرخاء يكفر، وذلك لفساد قلبه بالجهل بالله تعالى وآياته.
٤- الاستدلال بالمحسوس الحاضر على المحسوس الغيبي.
٥- بيان أن الكفار أموات، ولذا هم لا يسمعون ولا يبصرون وأن المؤمنين أحياء لأنهم يسمعون ويبصرون، إذ الحياة لها آثارها في الجسم الحي والموت كذلك.
اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤)
١ - قال القرطبي: أي وضحت الحجج يا محمد لكنهم لإلفهم تقليد الأسلاف في الكفر ماتت قلوبهم وعميت بصائرهم فلا يتهيأ لك إسماعهم وهدايتهم وقرأ الجمهور تسمع بالتاء وقرأ ابن كثير يسمع ورفع الصم على أنه فاعل وقرأ الجمهور هادي وقرأ ابن كثير تهدي.
191
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧)
شرح الكلمات:
الله الذي خلقكم من ضعف: أي من نطفة وهي ماء مهين.
ثم جعل من بعد ضعف قوة: أي من بعد ضعف الطفولة قوة الشباب.
ثم جعل من بعد قوة ضعفا: أي من بعد قوة الشباب والكهولة ضعف الكبر والشيب
وشيبة: أي والهرم.
كذلك كانوا يؤفكون: أي كما صرفوا عن معرفة الصدق في اللبث كانوا يصرفون في الدنيا عن الإيمان بالبعث والجزاء في الآخرة فانصرافهم عن الحق في الدنيا سبب لهم عدم معرفتهم لمدة لبثهم في قبورهم.
لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم: أي في إنكارهم للبعث والجزاء.
ولا هم يستعتبون: أي لا يطلب منهم العتبى أي الرجوع إلى ما يرضي الله تعالى بالإيمان والعمل الصالح.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء فقال تعالى ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ (١) ﴾ وحده ﴿مِنْ ضَعْفٍ (٢) ﴾ أي من ماء مهين وهي النطفة ثم جعل من بعد ضعف أي ضعف الطفولة
١ - هذا الاستئناف كسابقه الاستدلال به على قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته وعظيم تدبيره في خلقه وهي موجبة التوحيد له والنبوة لرسوله والبعث لعباده ليحاسبهم ويجزيهم برحمته وعدله.
٢ - قرأ نافع والجمهور من ضعف بضم الضاد في الألفاظ الثلاثة في هذه الآية وهي لغة الحجاز، وقرأ حفص بالفتح وهي لغة تميم ومن ابتدائية أي ابتدأ خلقكم من ضعف وهي النطفة ولا أضعف منها.
192
﴿قُوَّةً﴾ وهي قوة الشباب ﴿ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ﴾ أي قوة الشباب والكهولة ﴿ضَعْفاً﴾ أي ضعف الكبر ﴿وَشَيْبَةً (١) ﴾ أي الهرم وقوله تعالى ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ﴾ بخلقه ﴿الْقَدِيرُ﴾ على ما يشاء ويريده فهو تعالى قادر على إحياء الأموات وبعثهم، إذ القادر على إيجادهم من العدم قادر على بعثهم من الرّمم. وقوله تعالى ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ﴾ أي القيامة ﴿يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾ أي يحلف المجرمون من أهل الشرك والمعاصي ﴿مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ (٢) ﴾ أي لم يلبثوا في قبورهم إلا ساعة من زمن. وقوله تعالى ﴿كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (٣) ﴾ أي كما صرفوا عن معرفة الصدق في اللبث في القبر كانوا يصرفون في الدنيا عن الإيمان بالله تعالى ولقائه، والصارف لهم ظلمة نفوسهم بسبب الشرك والمعاصي. وقوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْأِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ﴾ أي في كتاب المقادير ﴿إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ﴾ وهو يوم القيامة ﴿فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ لعدم إيمانكم بالله وبآياته والكتاب الذي أنزله.
وقوله ﴿فَيَوْمَئِذٍ﴾ أي يوم إذ يأتي يوم البعث ﴿لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ﴾ أي عن شركهم وكفرهم بلقاء ربهم، ﴿وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ أي لا يطلب منهم العتبى أي الرجوع إلى ما يرضي الله تعالى من الإيمان والعمل الصالح وترك الشرك والمعاصي.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر الأدلة العقلية التي لا ترد بحال.
٢- بيان أطوار خلق الإنسان من نطفة إلى شيخوخة وهرم.
٣- فضل العلم والإيمان وأهلهما.
٤- بيان أن معذرة الظالمين لا تقبل منهم، ولا يستعتبون فيرضون الله تعالى فيرضى عنهم.
١ - الشيبة اسم مصدر الشيب وعطف الشيبة على الضعف إشارة إلى عدم وجود قوة بعدها وإنما يأتي الفناء كما قيل الشيب نذير الموت وهو كذلك.
٢ - روي أن أم حبيبة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت اللهم أمتعني بزوجي رسول الله وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية فقال لها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقد سألت الله تعالى لآجال مضروبة وأرزاق مقسومة ولكن سليه أن يعيذك من عذاب جهنم وعذاب القبر في الصحيح.
٣ - يقال أفك الرجل إذا صرف عن الصدق والخير. وأرض مأفوكة ممنوعة من المطر.
193
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠)
شرح الكلمات:
ولقد ضربنا للناس: أي جعلنا للناس.
من كل مثل: أي من كل صفة مستغربة تلفت الانتباه وتحرك الضمير كالأمثال لعلهم يذكرون فيؤمنوا ويوحدوا.
ولئن جئتهم بآية: أي ولئن أتيت هؤلاء المشركين بكل حجة خارقة.
إن أنتم إلا مبطلون: أي ما أنتم أيها الرسول والمؤمنون إلا مبطلون فيما تقولون وتدعون إليه من الإيمان بآيات الله ولقائه.
الذين لا يعلمون: أي ما أنزل الله على رسوله وما أوحاه إليه من الآيات البينات.
فاصبر إن وعد الله حق: أي اصبر يا رسولنا على أذاهم فإن العاقبة لك إذ وعدك ربك بها ووعد الله حق.
ولا يستخفنك الذين لا يوقنون: أي لا يحملنك هؤلاء المشركون المكذبون بلقاء الله على الخفة والطيش فتترك دعوتك إلى ربك.
معنى الآيات:
بعد إيراد العديد من الأدلة وسوق الكثير من الحجج وعرض مشاهد القيامة في الآيات السابقة تقريراً لعقيدة البعث والجزاء التي أنكرها المشركون من قريش قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ (١) ﴾ أي جعلنا للناس في هذا القرآن من أساليب
١ - قال القرطبي: أي من كل مثل يدلهم على ما يحتاجون إليه وينبههم على التوحيد وصدق الرسل.
194
الكلام وضروب التشبيه، وعرض الأحداث بصورة مثيرة للدهشة موقظة للحس، ومنبهة للضمير، كل ذلك لعلهم يذكرون فيؤمنوا فيهتدوا للحق فينجوا ويسعدوا، ولكن أكثرهم لم ينتفعوا بذلك، ﴿وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ (١) ﴾ أي بحجة من معجزة وغيرها تدل على صدقك وصحة دعوتك وما جئت به ﴿لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي منهم (٢). ﴿إِنْ أَنْتُمْ﴾ أي ما أنتم أيها الرسول والمؤمنون ﴿إِلَّا مُبْطِلُونَ﴾ أي من أهل الباطل فيما تقولون وتدعون إليه من الدين الحق والبعث الآخر. وقوله ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ أي كذلك الطبع على قلوب الكافرين الذين لو جئتهم بكل آية لم يؤمنوا عليها لما ران على قلوبهم وما ختم به عليها، يطبع الله على قلوب الذين يعلمون (٣)، إذ ظلمة الجهل كظلمة الشرك والكفر تحجب القلوب عن الفهم والإدراك فلا يحصل إيمان ولا استجابة لدعوة الحق وقوله ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ﴾ يأمر تعالى رسوله أن يلتزم بالصبر على دعوته والثبات عليها في وجه هذا الكفر العنيد، حتى ينصره الله تعالى إذ واعده بالنصر في غير ما آية ووعد الله حق فهو ناجز لا يتخلف. وقوله: ﴿وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ (٤) الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٥) ﴾ أي اصبر ولا يحملنك عناد المشركين وإصرارهم على الكفر والتكذيب على الخفة والطيش والاستجهال بترك الحلم والصبر. والمراد بالذين لا يوقنون كل من لا يؤمن بالله ولقائه إيماًنا يقينيا إذ هذا الصنف من الناس هو الذي يستفز الإنسان ويحمله على أن يخرج عن اللياقة والأدب والعياذ بالله.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- اعذار الله تعالى إلى الناس بما ساقه تعالى في كتابه من أدلة الإيمان وحجج الهدى.
١ - أي كآيات موسى من فلق البحر والعصا أو آيات عيسى كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص.
٢ - أي من الناس لقوله ولقد ضربنا للناس وهو لفظ عام يشمل الكافر والمؤمن.
٣ - في هذه الآية إنذار خطير للجهال وتنديد بالجهل، إذ أهله لا يفهمون عن الله ولا يهتدون إلى سبل الخير وطريق السعادة والكمال ولذا أوجب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طلب العلم على كل مسلم في قوله "طلب العلم فريضة على كل مسلم" وما أصاب المسلمين ما أصابهم من خوف وهون ودون إلا نتيجة لجهلهم بربهم ومحابه ومكارهه وضروب عباداته وكيفيات أدائها لتزكوا بها نفوسهم وتطهر أرواحهم وقلوبهم.
٤ - وفسر بيستفزنك الذين في محل رفع فاعل وبعض العرب يعربونه إعراب جمع المذكر السالم فيقولون اللذون رفعاً والذين نصباً وجراً قال الشاعر:
نحن اللذون صبحوا الصباح
يوم النخيل غارة ملحاحاً
٥ - الاستخفاف: طلب خفة الشيء بفقد ثقله ورصانته فيغضب ويترك العمل. والذين لا يؤمنون هم المشركون كالنضر بن الحارث وأبي جهل والمراد بنفي اليقين عنهم: اليقين بالأمور البديهيات اليقينية للناس لكون الله تعالى خلق كل شيء ورب كل شيء، وقدرته على كل شيء إذ هذه يقينيات لدى عامة الناس.
195
٢- أسوأ أحوال الإنسان عندما يطبع على قلبه لكثرة ذنوبه فيصبح لا يفهم ولا يعقل شيئا وفي الخبر حبك الشيء يعمي ويصم.
٣- وجوب الصبر والتزام الحلم والأناة مهما جهل الجاهلون.
196
Icon