تفسير سورة سورة الروم من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
.
لمؤلفه
ابن عجيبة
.
المتوفي سنة 1224 هـ
ﰡ
ﮫ
ﰀ
سورة الرّوم
مكية اتفاقا، وقيل: إلى قوله: فَسُبْحانَ اللَّهِ.. «١» إلخ. وهى تسع وخمسون، أو ستون، آية. ومناسبتها لما قبلها: أن نتيجة المعية التي ذكرها بقوله: وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ هى النصر والعز الذي بشر به المؤمنين فى صدر السورة بقوله: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ.. إلخ. قال تعالى:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ١ الى ٧]
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧)
يقول الحق جلّ جلاله: بعد التسمية: الم أي: أيها المصطفى، أو: المرسل، غُلِبَتِ الرُّومُ أي:
غلبت فارسُ الرومَ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ أي: في أقرب أرض العرب لأن الأرض المعهودة عند العرب أرضهم، أي: غلبوا في أدنى أرض العرب منهم، وهي أطراف الشام. أو: أراد أرضهم، على إنابة اللام مناب المضاف إليه، أي: في أدنى أرضهم إلى عدوّهم. قال ابن عطية: قرأ الجمهور: «غُلبت» بضم الغين. وقالوا: معنى الآية: أنه بلغ أهل مكة أن الملك كسرى هزَم جيشَ الروم بأذرعاتِ، وهي أدنى أرض الروم إلى مكة، فسُر لذلك كفارُ قريش، فبشر المؤمنين بأن الروم سيغلبون. هـ. وهذا معنى قوله: وَهُمْ أي: الروم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ، وقرئ: بسكون اللام كالحلَب والحلْب، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول، أي: وهم من بعد غلبة فارس إياهم سَيَغْلِبُونَ فارس، وتكون الدولة لهم.
مكية اتفاقا، وقيل: إلى قوله: فَسُبْحانَ اللَّهِ.. «١» إلخ. وهى تسع وخمسون، أو ستون، آية. ومناسبتها لما قبلها: أن نتيجة المعية التي ذكرها بقوله: وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ هى النصر والعز الذي بشر به المؤمنين فى صدر السورة بقوله: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ.. إلخ. قال تعالى:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ١ الى ٧]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤)بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧)
يقول الحق جلّ جلاله: بعد التسمية: الم أي: أيها المصطفى، أو: المرسل، غُلِبَتِ الرُّومُ أي:
غلبت فارسُ الرومَ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ أي: في أقرب أرض العرب لأن الأرض المعهودة عند العرب أرضهم، أي: غلبوا في أدنى أرض العرب منهم، وهي أطراف الشام. أو: أراد أرضهم، على إنابة اللام مناب المضاف إليه، أي: في أدنى أرضهم إلى عدوّهم. قال ابن عطية: قرأ الجمهور: «غُلبت» بضم الغين. وقالوا: معنى الآية: أنه بلغ أهل مكة أن الملك كسرى هزَم جيشَ الروم بأذرعاتِ، وهي أدنى أرض الروم إلى مكة، فسُر لذلك كفارُ قريش، فبشر المؤمنين بأن الروم سيغلبون. هـ. وهذا معنى قوله: وَهُمْ أي: الروم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ، وقرئ: بسكون اللام كالحلَب والحلْب، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول، أي: وهم من بعد غلبة فارس إياهم سَيَغْلِبُونَ فارس، وتكون الدولة لهم.
(١) الآية ١٧ من السورة.
323
وذلك فِي بِضْعِ سِنِينَ، وهو ما بين الثلاث إلى العشر. قال النسفي: قيل: احتربت الروم [وفارس] «١»، بين أذرعاتِ وبُصرى، فغلبت فارسُ الروم، والمَلِكُ بفارس، يومئذٍ، كسرى «أبرويز»، فبلغ الخبر مكة، فشقَّ ذلك على رسول الله ﷺ والمؤمنين لأنَّ فارسَ مجوسٌ لا كتاب لهم، والروم أهل كتاب، وفرح المشركون [وشمتوا] «٢»، وقالوا: أنتم والنصارى أهل الكتاب، ونحن وفارس أُمِّيُّون، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم، ولنظهرنَّ نحن عليكم، فنزلت الآية. فقال أبو بكر: والله ليَظْهَرَنَّ الروم على فارس بعد بضع سنين، فقال له أُبَيُّ بنُ خلف:
كذبت، فناحبه- أي: قامره- على عشر قلائص من كل واحد منهما، وجعل ثلاث سنين، فأخبر أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال- عليه الصلاة والسلام-: «زِدْ في الخطر وأبعد في الأجل»، فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين، ومات أبيّ من جرح رسول الله ﷺ يوم أحد، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية، أو: يوم بدر، فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبىّ، فقال عليه الصلاة والسلام-: «تصدَّقْ به» «٣».
وهذه آية بينة على صحة نبوته، وأن القرآن من عند الله لأنها إنباء عن علم الغيب. وكان ذلك قبل تحريم القمار، [عن] «٤» قتادة. ومذهب ابي حنيفة ومحمد- رضى الله عنهما-: أن العقود الفاسدة كعقد الربا وغيره، جائز في دار الحرب بين المسلمين والكفار، واحتجا بهذه القصة. هـ. زاد البيضاوي: وأجيب بأنه كان قبل تحريم القمار. هـ. وقرئ: «غلبت» بالفتح، و «سيغلبون» بالضم، ومعناه: أن الروم غَلَبُوا على ريف الشام، وسيغلبهم المسلمون، وقد غزاهم المسلمون في السنة التاسعة من نزولها، وفتحوا بعض بلادهم، وعلى هذا يكون إضافة الغلَب إلى الفاعل.
لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ أي: من قبل كل شيء، ومن بعد كل شيء. أو: من قبل الغلبة وبعدها، كأنه قيل: من قبل كونهم غالبين- وقبله: هو وقت كونهم مغلوبين- ومن بعد كونهم مغلوبين- وهو وقت كونهم غالبين، يعني: أن كونهم مغلوبين أولاًُ، وغالبين آخراً، ليس إلا بأمر الله وقضائه. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ «٥». وَيَوْمَئِذٍ أي: ويوم تغلب الرومُ فارسَ، ويحل ما وعده الله من غلبتهم، يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ، وتغلب من له كتاب على مَن لا كتاب له، وغيظ من شمت بهم من أهل مكة.
كذبت، فناحبه- أي: قامره- على عشر قلائص من كل واحد منهما، وجعل ثلاث سنين، فأخبر أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال- عليه الصلاة والسلام-: «زِدْ في الخطر وأبعد في الأجل»، فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين، ومات أبيّ من جرح رسول الله ﷺ يوم أحد، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية، أو: يوم بدر، فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبىّ، فقال عليه الصلاة والسلام-: «تصدَّقْ به» «٣».
وهذه آية بينة على صحة نبوته، وأن القرآن من عند الله لأنها إنباء عن علم الغيب. وكان ذلك قبل تحريم القمار، [عن] «٤» قتادة. ومذهب ابي حنيفة ومحمد- رضى الله عنهما-: أن العقود الفاسدة كعقد الربا وغيره، جائز في دار الحرب بين المسلمين والكفار، واحتجا بهذه القصة. هـ. زاد البيضاوي: وأجيب بأنه كان قبل تحريم القمار. هـ. وقرئ: «غلبت» بالفتح، و «سيغلبون» بالضم، ومعناه: أن الروم غَلَبُوا على ريف الشام، وسيغلبهم المسلمون، وقد غزاهم المسلمون في السنة التاسعة من نزولها، وفتحوا بعض بلادهم، وعلى هذا يكون إضافة الغلَب إلى الفاعل.
لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ أي: من قبل كل شيء، ومن بعد كل شيء. أو: من قبل الغلبة وبعدها، كأنه قيل: من قبل كونهم غالبين- وقبله: هو وقت كونهم مغلوبين- ومن بعد كونهم مغلوبين- وهو وقت كونهم غالبين، يعني: أن كونهم مغلوبين أولاًُ، وغالبين آخراً، ليس إلا بأمر الله وقضائه. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ «٥». وَيَوْمَئِذٍ أي: ويوم تغلب الرومُ فارسَ، ويحل ما وعده الله من غلبتهم، يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ، وتغلب من له كتاب على مَن لا كتاب له، وغيظ من شمت بهم من أهل مكة.
(١) ما بين المعقوفتين ليس فى الأصول، وأثبته من تفسير النسفي.
(٢) فى الأصول: [شتموا].
(٣) أخرجه بنحوه ابن جرير (٢١/ ١٧- ١٨) عن عكرمة، وجاءت القصة بسياقات وروايات متعددة. أخرجها أحمد (١/ ٢٧٦- ٣٠٤)، والترمذي فى (تفسير سورة الروم، ٥/ ٣٢١ ح ٣١٩٣- ٣١٩٤)، وابن جرير (٢١/ ١٦- ١٨)، والطبراني فى الكبير (١٢/ ٢٩ ح ١٢٣٧٧) والحاكم (٢/ ٤١٠)، وانظر الدر المنثور (٥/ ٢٨٩- ٢٩٢).
(٤) فى الأصول [قال]، والمثبت من تفسير النسفي.
(٥) من الآية ١٤٠ من سورة آل عمران. [.....]
(٢) فى الأصول: [شتموا].
(٣) أخرجه بنحوه ابن جرير (٢١/ ١٧- ١٨) عن عكرمة، وجاءت القصة بسياقات وروايات متعددة. أخرجها أحمد (١/ ٢٧٦- ٣٠٤)، والترمذي فى (تفسير سورة الروم، ٥/ ٣٢١ ح ٣١٩٣- ٣١٩٤)، وابن جرير (٢١/ ١٦- ١٨)، والطبراني فى الكبير (١٢/ ٢٩ ح ١٢٣٧٧) والحاكم (٢/ ٤١٠)، وانظر الدر المنثور (٥/ ٢٨٩- ٢٩٢).
(٤) فى الأصول [قال]، والمثبت من تفسير النسفي.
(٥) من الآية ١٤٠ من سورة آل عمران. [.....]
324
وقيل: نصر الله: هو إظهار صدق المؤمنين، بما أخبروا به المشركين من غلبة الروم. يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ فينصر هؤلاء تارة وهؤلاء أخرى، وَهُوَ الْعَزِيزُ: الغالب على أعدائه الرَّحِيمُ: العاطف على أوليائه.
وَعْدَ اللَّهِ أي: وعد ذلك وعداً، فسينجزه لا محالة، فهو مصدر مؤكد لِمَا قبله لأن قوله: سَيَغْلِبُونَ وعد، لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ لامتناع الكذب عليه تعالى، فلا بد من نصر الروم على فارس. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ صحة وعده، وأنه لا يُخلف، أو: لا يعلمون أنَّ الأمور كلها بيد الله لجهلهم وعدم تفكرهم. وإنما يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا ما يشاهدونه منها ومن التمتع بزخارفها. وفيه دليل أن للدنيا ظاهراً وباطناً، فظاهرها: ما يعرفه الجهّال من التمتع بزخارفها. قال بعض الحكماء: إن كنت من أهل الاستبصار فألق ناظرك عن زخارف هذه الدار، فإنها مجمع الأكدار، ومنبع المضار، وسجن الإبرار، ومجلس الأشرار، الدنيا كالحية، تجمع سموم نوائبها، وتفرغه في صميم قلوب أبنائها. هـ. وباطنها: أنها مجازٌ إلى الآخرة، يتزودون منها إليها بالأعمال الصالحة وتحقيق المعرفة. وتنكير (ظاهِراً) : مُفيدٌ أنهم لا يعلمون إلا ظاهراً واحداً من جملة ظواهرها. وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ لا تخطر ببالهم، ولا يتفكرون في أهوالها وتوائبها. فهم، الثانية: مبتدأ، و (غافلون) : خبره، والجملة: خبر الأولى، وفيه تنبيه أنهم معدن الغفلة ومقرّها. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كما تقع الدولة بين الأشباح، تقع بين النفوس والأرواح. فتارة تغلب النفوس بظلماتها على الأرواح، فتحجبها عن الله، وتارة تغلب الأرواح بأنوارها على النفوس، فتستر ظلمة حظوظها، ويرتفع الحجاب بين الله وعبده. آلم، غُلبت أنوار الأرواح بظلمة كثائف النفوس، في أدنى أرض العبودية، وهم من بعد غلبهم سيغلبون، فتغلب أنوار الأرواح المطهرة، على ظلمة النفوس الظلمانية، وذلك في بضع سنين، مدة المجاهدة، والبُضع: من ثلاث إلى عشر، على قدر الجد والاجتهاد، وعلى قدر تفاوت النفوس والطبع، فمنهم من يظفر بنفسه في مدة يسيره، ومنهم من يظفر بعد مدة طويلة. لله الأمرُ من قبل ومن بعد، ويومئذٍ يفرح المؤمنون السائرون بنصر الله، حيث نصرهم على نفوسهم، فظفروا بها. ينصر من شاء حيث يشاء، وهو العزيز الرحيم. قال بعضهم: انتهى سير السائرين إلى الظفر بنفوسهم، فإن ظفروا بها وصلوا. هـ.
وقال الورتجبي: قوله: غُلِبَتِ الرُّومُ.. الآية، إشارة إلى أن الأرواح، وإن كانت مغلوبة من النفوس الأمارة، والشياطين الكافرة امتحاناً من الله، وتربيةً لها بمباشرة القهريات، فإنها تغلب على النفوس، من حين تخرج من مقام الاختيار. انظر تمامه. وقال القشيري: قوله تعالى: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا: استغراقُهم في الاشتغال بالدنيا، وانهماكهم بما مَنَعهم عن العلم بالآخرة. وقيمة كل امرئ عِلمُه كما في الأثر عن علىّ رضي الله عنه. قال:
وَعْدَ اللَّهِ أي: وعد ذلك وعداً، فسينجزه لا محالة، فهو مصدر مؤكد لِمَا قبله لأن قوله: سَيَغْلِبُونَ وعد، لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ لامتناع الكذب عليه تعالى، فلا بد من نصر الروم على فارس. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ صحة وعده، وأنه لا يُخلف، أو: لا يعلمون أنَّ الأمور كلها بيد الله لجهلهم وعدم تفكرهم. وإنما يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا ما يشاهدونه منها ومن التمتع بزخارفها. وفيه دليل أن للدنيا ظاهراً وباطناً، فظاهرها: ما يعرفه الجهّال من التمتع بزخارفها. قال بعض الحكماء: إن كنت من أهل الاستبصار فألق ناظرك عن زخارف هذه الدار، فإنها مجمع الأكدار، ومنبع المضار، وسجن الإبرار، ومجلس الأشرار، الدنيا كالحية، تجمع سموم نوائبها، وتفرغه في صميم قلوب أبنائها. هـ. وباطنها: أنها مجازٌ إلى الآخرة، يتزودون منها إليها بالأعمال الصالحة وتحقيق المعرفة. وتنكير (ظاهِراً) : مُفيدٌ أنهم لا يعلمون إلا ظاهراً واحداً من جملة ظواهرها. وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ لا تخطر ببالهم، ولا يتفكرون في أهوالها وتوائبها. فهم، الثانية: مبتدأ، و (غافلون) : خبره، والجملة: خبر الأولى، وفيه تنبيه أنهم معدن الغفلة ومقرّها. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كما تقع الدولة بين الأشباح، تقع بين النفوس والأرواح. فتارة تغلب النفوس بظلماتها على الأرواح، فتحجبها عن الله، وتارة تغلب الأرواح بأنوارها على النفوس، فتستر ظلمة حظوظها، ويرتفع الحجاب بين الله وعبده. آلم، غُلبت أنوار الأرواح بظلمة كثائف النفوس، في أدنى أرض العبودية، وهم من بعد غلبهم سيغلبون، فتغلب أنوار الأرواح المطهرة، على ظلمة النفوس الظلمانية، وذلك في بضع سنين، مدة المجاهدة، والبُضع: من ثلاث إلى عشر، على قدر الجد والاجتهاد، وعلى قدر تفاوت النفوس والطبع، فمنهم من يظفر بنفسه في مدة يسيره، ومنهم من يظفر بعد مدة طويلة. لله الأمرُ من قبل ومن بعد، ويومئذٍ يفرح المؤمنون السائرون بنصر الله، حيث نصرهم على نفوسهم، فظفروا بها. ينصر من شاء حيث يشاء، وهو العزيز الرحيم. قال بعضهم: انتهى سير السائرين إلى الظفر بنفوسهم، فإن ظفروا بها وصلوا. هـ.
وقال الورتجبي: قوله: غُلِبَتِ الرُّومُ.. الآية، إشارة إلى أن الأرواح، وإن كانت مغلوبة من النفوس الأمارة، والشياطين الكافرة امتحاناً من الله، وتربيةً لها بمباشرة القهريات، فإنها تغلب على النفوس، من حين تخرج من مقام الاختيار. انظر تمامه. وقال القشيري: قوله تعالى: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا: استغراقُهم في الاشتغال بالدنيا، وانهماكهم بما مَنَعهم عن العلم بالآخرة. وقيمة كل امرئ عِلمُه كما في الأثر عن علىّ رضي الله عنه. قال: