ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الرُّومِقَوْلُهُ تَعَالَى: وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعْدَ اللَّهِ، مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِنَفْسِهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ قَبْلَهُ: وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ إِلَى قَوْلِهِ: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ [٣٠ ٣ - ٥]، هُوَ نَفْسُ الْوَعْدِ كَمَا لَا يَخْفَى، أَيْ: وَعَدَ اللَّهُ ذَلِكَ وَعْدًا.
وَقَدْ ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَرْبَعَةَ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ وَهُمُ الْكُفَّارُ لَا يَعْلَمُونَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمْ غَافِلُونَ عَنِ الْآخِرَةِ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ الْأَرْبَعَةُ جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهَا: وَهُوَ كَوْنُهُ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ، فَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ. [١٣ ٣١] وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ وَعِيدَهُ لِلْكُفَّارِ لَا يُخْلَفُ أَيْضًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ الْآيَةَ [٥٠ ٢٨ - ٢٩].
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي لَا يُبَدَّلُ لَدَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ وَعِيدُهُ لِلْكُفَّارِ.
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ [٥٠ ١٤]، وَقَوْلِهِ: إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ [٣٨ ١٤]، فَقَوْلُهُ: حَقَّ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، أَيْ: وَجَبَ وَثَبَتَ، فَلَا يُمْكِنُ تَخَلُّفُهُ بِحَالٍ.
وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا أَيْضًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَعْلَمُونَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [٢ ١٧٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [٥ ١٠٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [٢ ١٧١]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [٢٥ ٤٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [٧ ١٧٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [٦٧ ١٠]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ مِنْهَا: وَهُوَ كَوْنُهُمْ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَقَدْ جَاءَ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ [٢٩ ٣٨]، أَيْ: فِي الدُّنْيَا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ الْآيَةَ [٥٣ ٢٩ - ٣٠].
وَأَمَّا الرَّابِعُ مِنْهَا: وَهُوَ كَوْنُهُمْ غَافِلِينَ عَنِ الْآخِرَةِ، فَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا الْآيَةَ [٢٣ ٣٦ - ٣٧].
وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ [٤٤ ٣٥]، وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [٦ ٢٩]، مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [٣٦ ٧٨]، وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ.
[تَنْبِيهٌ]
اعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنْ يَتَدَبَّرَ آيَةَ «الرُّومِ» هَذِهِ تَدَبُّرًا كَثِيرًا، وَيُبَيِّنَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ لِكُلِّ مَنِ اسْتَطَاعَ بَيَانَهُ لَهُ مِنَ النَّاسِ.
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ فِتَنِ آخِرِ الزَّمَانِ الَّتِي ابْتَلَى اللَّهُ بِهَا ضِعَافَ الْعُقُولِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ شِدَّةَ إِتْقَانِ الْإِفْرِنْجِ لِأَعْمَالِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَمَهَارَتِهِمْ فِيهَا عَلَى كَثْرَتِهَا، وَاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا مَعَ عَجْزِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ، فَظَنُّوا أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ، وَأَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْهَا مُتَخَلِّفٌ وَلَيْسَ عَلَى الْحَقِّ، وَهَذَا جَهْلٌ فَاحِشٌ، وَغَلَطٌ فَادِحٌ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِيضَاحٌ لِهَذِهِ الْفِتْنَةِ، وَتَخْفِيفٌ لِشَأْنِهَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ قَبْلَ وُقُوعِهَا بِأَزْمَانٍ كَثِيرَةٍ، فَسُبْحَانَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ مَا أَعْلَمَهُ، وَمَا أَعْظَمَهُ، وَمَا أَحْسَنَ تَعْلِيمَهُ.
فَقَدْ أَوْضَحَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، وَيَدْخُلُ فِيهِمْ أَصْحَابُ هَذِهِ الْعُلُومِ الدُّنْيَوِيَّةِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، فَقَدْ نَفَى عَنْهُمْ جَلَّ وَعَلَا اسْمَ الْعَلَمِ بِمَعْنَاهُ الصَّحِيحِ الْكَامِلِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا عَمَّنْ خَلَقَهُمْ، فَأَبْرَزُهُمْ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَرَزَقَهُمْ، وَسَوْفَ يُمِيتُهُمْ، ثُمَّ يُحْيِيهِمْ، ثُمَّ يُجَازِيهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا شَيْئًا عَنْ مَصِيرِهِمُ الْأَخِيرِ الَّذِي يُقِيمُونَ فِيهِ إِقَامَةً أَبَدِيَّةً فِي عَذَابٍ فَظِيعٍ دَائِمٍ، وَمَنْ غَفَلَ عَنْ جَمِيعِ هَذَا فَلَيْسَ مَعْدُودًا مِنْ جِنْسِ مَنْ يَعْلَمُ ; كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ، ثُمَّ لَمَّا نَفَى عَنْهُمْ جَلَّ وَعَلَا اسْمَ الْعَلَمِ بِمَعْنَاهُ الصَّحِيحِ الْكَامِلِ، أَثْبَتَ لَهُمْ نَوْعًا مِنَ الْعِلْمِ فِي غَايَةِ الْحَقَارَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ.
وَعَابَ ذَلِكَ النَّوْعَ الْمَذْكُورَ مِنَ الْعِلْمِ، بِعَيْبَيْنِ عَظِيمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قِلَّتُهُ وَضِيقُ مَجَالِهِ، لِأَنَّهُ لَا يُجَاوِزُ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَالْعِلْمُ الْمَقْصُورُ عَلَى ظَاهِرٍ مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي غَايَةِ الْحَقَارَةِ وَضِيقِ الْمَجَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعِلْمِ بِخَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَلَّ وَعَلَا، وَالْعِلْمِ بِأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، وَبِمَا يُقَرِّبُ عَبْدَهُ مِنْهُ، وَمَا يُبْعِدُهُ عَنْهُ، وَمَا يَخْلُدُ فِي النَّعِيمِ الْأَبَدِيِّ وَالْعَذَابِ الْأَبَدِيِّ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ.
وَالثَّانِي مِنْهُمَا: هُوَ دِنَاءَهُ هَدَفِ ذَلِكَ الْعِلْمِ، وَعَدَمُ نُبْلِ غَايَتِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَتَجَاوَزُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَهِيَ سَرِيعَةُ الِانْقِطَاعِ وَالزَّوَالَ، وَيَكْفِيكَ مِنْ تَحْقِيرِ هَذَا الْعِلْمِ الدُّنْيَوِيِّ أَنَّ أَجْوَدَ
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» : وَقَوْلُهُ: يَعْلَمُونَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَعْلَمُونَ، وَفِي هَذَا الْإِبْدَالِ مِنَ النُّكْتَةِ أَنَّهُ أَبْدَلَهُ مِنْهُ وَجَعَلَهُ بِحَيْثُ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ لِيُعَلِّمَكَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَدَمِ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ الْجَهْلُ، وَبَيْنَ وُجُودِ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَتَجَاوَزُ الدُّنْيَا.
وَقَوْلُهُ: ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يُفِيدُ أَنَّ لِلدُّنْيَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَظَاهِرُهَا مَا يَعْرِفُهُ الْجُهَّالُ مِنَ التَّمَتُّعِ بِزَخَارِفِهَا، وَالتَّنَعُّمِ بِمَلَاذِّهَا وَبَاطِنِهَا، وَحَقِّيَّتُهَا أَنَّهَا مَجَازٌ إِلَى الْآخِرَةِ، يُتَزَوَّدُ مِنْهَا إِلَيْهَا بِالطَّاعَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَفِي تَنْكِيرِ الظَّاهِرِ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِلَّا ظَاهِرًا وَاحِدًا مِنْ ظَوَاهِرِهَا. وَهُمْ الثَّانِيَةُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَغَافِلُونَ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ هُمْ الْأُولَى، وَأَنْ يَكُونَ تَكْرِيرًا لِلْأُولَى، وَغَافِلُونَ خَبَرُ الْأُولَى، وَأَيَّةً كَانَتْ فَذِكْرُهَا مُنَادٍ عَلَى أَنَّهُمْ مَعْدِنُ الْغَفْلَةِ عَنِ الْآخِرَةِ، وَمَقَرُّهَا، وَمَحَلُّهَا وَأَنَّهَا مِنْهُمْ تَنْبُعُ وَإِلَيْهِمْ تَرْجِعُ، انْتَهَى كَلَامُ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ».
وَقَالَ غَيْرُهُ: وَفِي تَنْكِيرِ قَوْلِهِ: ظَاهِرًا تَقْلِيلٌ لِمَعْلُومِهِمْ، وَتَقْلِيلُهُ يُقَرِّبُهُ مِنَ النَّفْيِ، حَتَّى يُطَابِقَ الْمُبْدَلَ مِنْهُ، اهـ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ تَعَلُّمُ هَذِهِ الْعُلُومِ الدُّنْيَوِيَّةِ، كَمَا أَوْضَحْنَا ذَلِكَ غَايَةَ الْإِيضَاحَ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [١٩ ٧٨]، وَهَذِهِ الْعُلُومُ الدُّنْيَوِيَّةُ الَّتِي بَيَّنَّا حَقَارَتَهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا غَفَلَ عَنْهُ أَصْحَابُهَا الْكُفَّارُ، إِذَا تَعَلَّمَهَا الْمُسْلِمُونَ، وَكَانَ كُلٌّ مِنْ تَعْلِيمِهَا وَاسْتِعْمَالِهَا مُطَابِقًا لِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَانَتْ مِنْ أَشْرَفِ الْعُلُومِ وَأَنْفَعِهَا ; لِأَنَّهَا يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ وَمَرْضَاتِهِ جَلَّ وَعَلَا، وَإِصْلَاحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلَا عَيْبَ فِيهَا إِذَنْ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [٨ ٦٠]، فَالْعَمَلُ فِي إِعْدَادِ الْمُسْتَطَاعِ مِنَ الْقُوَّةِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَسَعْيًا فِي مَرْضَاتِهِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ عِلْمِ الْكُفَّارِ الْغَافِلِينَ عَنِ الْآخِرَةِ كَمَا تَرَى، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ» : فِي أَنْفُسِهِمْ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا كَأَنَّهُ قِيلَ: أَوَلَمْ يُحْدِثُوا التَّفَكُّرَ فِي أَنْفُسِهِمْ، أَيْ: فِي قُلُوبِهِمُ الْفَارِغَةِ مِنَ الْفِكْرِ، وَالْفِكْرُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي الْقُلُوبِ، وَلَكِنَّهُ زِيَادَةُ تَصْوِيرٍ لِحَالِ الْمُتَفَكِّرِينَ ; كَقَوْلِكَ: اعْتَقَدَهُ فِي قَلْبِكَ وَأَضْمِرْهُ فِي نَفْسِكَ وَأَنْ يَكُونَ صِلَةً لِلتَّفَكُّرِ كَقَوْلِكَ: تَفَكَّرَ فِي الْأَمْرِ أَجَالَ فِيهِ فِكْرَهُ، وَمَا خَلَقَ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ، مَعْنَاهُ: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فَيَقُولُوا هَذَا الْقَوْلَ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: فَيَعْلَمُوا، لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ دَلِيلًا عَلَيْهِ إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى، أَيْ: مَا خَلَقَهَا بَاطِلًا وَعَبَثًا بِغَيْرِ غَرَضٍ صَحِيحٍ، وَحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ، وَلَا لِتَبْقَى خَالِدَةً، وَإِنَّمَا خَلَقَهَا مَقْرُونَةً بِالْحَقِّ، مَصْحُوبَةً بِالْحِكْمَةِ، وَبِتَقْدِيرِ أَجَلٍ مُسَمًّى لَا بُدَّ لَهَا أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَيْهِ، وَهُوَ قِيَامُ السَّاعَةِ، وَوَقْتُ الْحِسَابِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.
أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [٢٣ ١١٥]، كَيْفَ سَمَّى تَرْكَهُمْ غَيْرَ رَاجِعِينَ إِلَيْهِ عَبَثًا، وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا بِالْحَقِّ مِثْلُهَا فِي قَوْلِكَ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ بِثِيَابِ السَّفَرِ، وَاشْتَرَى الْفَرَسَ بِسَرْجِهِ وَلِجَامِهِ، تُرِيدُ: اشْتَرَاهُ وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِالسَّرْجِ وَاللِّجَامِ غَيْرُ مُنْفَكٍّ عَنْهَا، وَكَذَلِكَ الْمَعْنَى: مَا خَلَقَهَا إِلَّا وَهِيَ مُتَلَبِّسَةٌ بِالْحَقِّ مُقْتَرِنَةٌ بِهِ.
فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا جُعِلَتْ فِي أَنْفُسِهِمْ صِلَةٌ لِلتَّفَكُّرِ فَمَا مَعْنَاهُ؟.
قُلْتُ: مَعْنَاهُ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمُ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ إِلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَهُمْ أَعْلَمُ وَأَخْبَرُ بِأَحْوَالِهَا مِنْهُمْ بِأَحْوَالِ مَا عَدَاهَا، فَتَدَبَّرُوا مَا أَوْدَعَهَا اللَّهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، مِنْ غَرَائِبِ الْحِكَمِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّدْبِيرِ دُونَ الْإِهْمَالِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهَا مِنَ انْتِهَاءٍ إِلَى وَقْتٍ يُجَازِيهَا فِيهِ الْحَكَمُ الَّذِي دَبَّرَ أَمْرَهَا عَلَى الْإِحْسَانِ إِحْسَانًا، وَعَلَى الْإِسَاءَةِ مِثْلَهَا، حَتَّى يَعْلَمُوا عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّ سَائِرَ الْخَلَائِقِ كَذَلِكَ أَمْرُهَا جَارٍ عَلَى الْحِكْمَةِ وَالتَّدْبِيرِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ
وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ خَلْقَهُ تَعَالَى لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَا بَيْنَهُمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا وَلَا عَبَثًا، بَلْ مَا خَلَقَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَلَقَهُمَا عَبَثًا لَكَانَ ذَلِكَ الْعَبَثُ بَاطِلًا وَلَعِبًا، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، بَلْ مَا خَلَقَهُمَا وَخَلَقَ جَمِيعَ مَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَخْلُقُ فِيهِمَا الْخَلَائِقَ، وَيُكَلِّفُهُمْ فَيَأْمُرُهُمْ، وَيَنْهَاهُمْ، وَيَعِدُهُمْ وَيُوعِدُهُمْ، حَتَّى إِذَا انْتَهَى الْأَجَلُ الْمُسَمَّى لِذَلِكَ بَعَثَ الْخَلَائِقَ، وَجَازَاهُمْ فَيُظْهِرُ فِي الْمُؤْمِنِينَ صِفَاتِ رَحْمَتِهِ وَلُطْفِهِ وَجُودِهِ وَكَرَمِهِ وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ، وَتَظْهَرُ فِي الْكَافِرِينَ صِفَاتُ عَظْمَتِهِ، وَشَدَّةُ بَطْشِهِ، وَعِظَمُ نَكَالِهِ، وَشَدَّةُ عَدْلِهِ وَإِنْصَافُهُ، دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [٤٤ ٣٨ - ٤٠]، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ الْآيَةَ، بَعْدَ قَوْلِهِ: مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ، يُبَيِّنُ مَا ذَكَرْنَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ، بَعْدَ قَوْلِهِ: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ يُوَضِّحُ ذَلِكَ، وَقَدْ أَوْضَحَهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [٥٣ ٣١].
وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُ خَلَقَهُمَا بَاطِلًا لَا لِحِكْمَةٍ الْكُفَّارُ، وَهَدَّدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الظَّنِّ الْكَاذِبِ بِالْوَيْلِ مِنَ النَّارِ ; وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [٣٨ ٢٧]، وَبَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَبْعَثِ الْخَلَائِقَ وَيُجَازِهِمْ، لَكَانَ خَلْقُهُ لَهُمْ أَوَّلًا عَبَثًا، وَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ الْعَبَثِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ عُلُوًّا كَبِيرًا ; وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [٢٣ ١١٥ - ١١٦].
فَهَذِهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا خَلَقَ الْخَلْقَ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ: وَمَا بَيْنَهُمَا، أَيْ: مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَدْخُلُ فِيهِ السَّحَابُ الْمُسَخَّرُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْهَوَاءُ الَّذِي لَا غِنَى لِلْحَيَوَانِ عَنِ اسْتِنْشَاقِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [١٥ ٧٦]. وَفِي «الْمَائِدَةِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ [٥ ٣٢]. وَفِي «هُودٍ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [١ ٨٣]. وَفِي «الْإِسْرَاءِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ الْآيَةَ [١٧ ١٧]، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ «الرُّومِ» هَذِهِ: كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا [٣٠ ٩]، جَاءَ مُوَضِّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [٤٠ ٨٢]، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ.
قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: كَانَ عَاقِبَةُ، بِضَمِّ التَّاءِ اسْمُ كَانَ، وَخَبَرُهَا السُّوءَى. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ، بِفَتْحِ التَّاءِ خَبَرُ كَانَ قُدِّمَ عَلَى اسْمِهَا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي «الْخُلَاصَةِ» : وَفِي جَمِيعِهَا تَوَسَّطَ الْخَبَرُ أَجِزْ........
وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَـ السُّوءَى اسْمُ كَانَ، وَإِنَّمَا جُرِّدَ الْفِعْلُ مِنَ التَّاءِ مَعَ أَنَّ السُّوءَى مُؤَنَّثَةٌ لِأَمْرَيْنِ:
وَالثَّانِي: الْفَصْلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفِعْلِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ ضَمِّ التَّاءِ فَوَجْهُ تَجْرِيدِ الْفِعْلِ مِنَ التَّاءِ هُوَ كَوْنُ تَأْنِيثِ الْعَاقِبَةِ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ فَقَطْ.
وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ عِنْدِي أَنَّ الْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ ضَمِّ التَّاءِ: كَانَتْ عَاقِبَةُ الْمُسِيئِينَ السُّوءَى، وَهِيَ تَأْنِيثُ الْأَسْوَءِ، بِمَعْنَى: الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ سُوءًى، أَيْ: كَانَتْ عَاقِبَتُهُمُ الْعُقُوبَةَ الَّتِي هِيَ أَسْوَأُ الْعُقُوبَاتِ، أَيْ: أَكْثَرُهَا سُوءًى وَهِيَ النَّارُ أَعَاذَنَا اللَّهُ وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا.
وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ فَتْحِ التَّاءِ، فَالْمَعْنَى: كَانَتِ السُّوءَى عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا، وَمَعْنَاهُ وَاضِحٌ مِمَّا تَقَدَّمَ، وَأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَنْ كَذَّبُوا، أَيْ: كَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ أَسْوَأَ الْعُقُوبَاتِ لِأَجْلِ أَنْ كَذَّبُوا.
وَهَذَا الْمَعْنَى تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ تُوَضِّحُ أَنَّ الْكُفْرَ وَالتَّكْذِيبَ قَدْ يُؤَدِّي شُؤْمُهُ إِلَى شَقَاءِ صَاحِبِهِ، وَسُوءِ عَاقِبَتِهِ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [٦١ ٥]، وَقَوْلِهِ: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [٢ ١٠]، وَقَوْلِهِ: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [٤ ١٥٥].
وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [١٧ ٤٦]. وَفِي «الْأَعْرَافِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ [٧ ١٠١]، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ.
وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمَ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ مَنْصُوبٌ بِـ أَسَاءُوا، أَيِ: اقْتَرَفُوا الْجَرِيمَةَ السُّوءَى خِلَافُ الصَّوَابِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ أَنْ فِي قَوْلِهِ: أَنْ كَذَّبُوا تَفْسِيرِيَّةٌ، فَهُوَ خِلَافُ الصَّوَابِ أَيْضًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي «الْبَقَرَةِ»، وَ «النَّحْلِ»، وَ «الْحَجِّ»، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ١٩ ٨٢]، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ
قَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا، أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ، الْآيَتَيْنِ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي أُشِيرَ فِيهَا إِلَى أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَأَوْضَحْنَا وَجْهَ ذَلِكَ مَعَ إِيضَاحِ جَمِيعِ الْآيَاتِ الَّتِي أُشِيرَ فِيهَا إِلَى أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي ذِكْرِنَا بَرَاهِينَ الْبَعْثِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [٢ ٢٢]. وَفِي سُورَةِ «النَّحْلِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ [١٦ ١١] وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «طه»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ الْآيَةَ [٢٠ ٥٥]، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا الْآيَةَ [١٦ ٧٢].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ.
وَقَدْ أَوْضَحَ تَعَالَى إِبْطَالَ تَأْثِيرِ الطَّبِيعَةِ غَايَةَ الْإِيضَاحِ فِي سُورَةِ «الرَّعْدِ» : وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ، إِلَى قَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [١٣ ٤]. وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ حَفْصٌ وَحْدَهُ عَنْ عَاصِمٍ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ بِكَسْرِ اللَّامِ، جَمْعُ عَالِمٍ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْجَاهِلِ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ: (لِلْعَالَمِينَ) بِفَتْحِ اللَّامِ ; كَقَوْلِهِ: رَبِّ الْعَالَمِينَ [١ ٢].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ الْآيَةَ [١٧ ١٢]، وَفِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ»، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا.
قَدْ قَدَّمْنَا مَا يُوَضِّحُهُ مِنَ الْآيَاتِ مَعَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: خَوْفًا وَطَمَعًا فِي سُورَةِ «الرَّعْدِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا الْآيَةَ [١٣ ١٢]، وَسَنَحْذِفُ هُنَا بَعْضَ الْإِحَالَاثِ لِكَثْرَتِهَا.
قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ بِالْقُرْآنِ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ الْآيَةَ [١٦ ٧١].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا الْآيَةَ [٢ ٢٧٦].
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ.
أَيْ: يَتَفَرَّقُونَ فَرِيقَيْنِ، أَحَدُهُمَا: فِي الْجَنَّةِ، وَالثَّانِي: فِي النَّارِ.
وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى هَذَا آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ [٣٠ ٤٤ - ٤٥]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [٤٢ ٧]، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ بَعْدَهُ: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [٤٤ - ٤٥]، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى أَيْضًا لِلتَّفَرُّقِ الْمَذْكُورِ هُنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ [٩٩ ٦].
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، إِلَى قَوْلِهِ: إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ فِي لَهُ سُورَةِ «النَّمْلِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى الْآيَةَ [٢٧ ٨٠].
قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً.
وَقَالَ فِي الضَّعْفِ الثَّانِي: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ [١٦ ٧٠]، وَقَالَ: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ [٣٦ ٦٨]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَشَارَ إِلَى الْقُوَّةِ بَيْنَ الضِّعْفَيْنِ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ ; كَقَوْلِهِ: فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [١٦ ٤]، وَإِطْلَاقُهُ نَفْسَ الضَّعْفِ عَلَى مَا خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْهُ قَدْ أَوْضَحْنَا وَجْهَهُ فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ الْآيَةَ [٢١ ٣٧]. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ: مِنْ ضَعْفٍ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ الْمَخْفُوضَيْنِ وَالْمَنْصُوبِ بِفَتْحِ الضَّادِ فِي جَمِيعِهَا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالضَّمِّ.
وَاخْتَارَ حَفْصٌ الْقِرَاءَةَ بِالضَّمِّ وِفَاقًا لِلْجُمْهُورِ ; لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مِنْ طَرِيقِ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ أَنَّهُ أَعْنِي ابْنَ عُمَرَ قَرَأَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مِنْ ضَعْفٍ بِفَتْحِ الضَّادِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَهَا بِضَمِّ الضَّادِ، وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَرَوَاهُ غَيْرُهُمَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «يُونُسَ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ [١٠ ٤٥]، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا بُعِثُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَقْسَمُوا أَنَّهُمْ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ يَقُولُ لَهُمُ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ، وَيَدْخُلُ فِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّسُلُ،
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي سُورَةِ «يس» عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَيْنِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا [٣٦ ٥٢].
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هَذَا قَوْلُ الْكُفَّارِ عَنِ الْبَعْثِ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ دَلَالَةً لَا لَبْسَ فِيهَا، عَلَى أَنَّهُمْ يَنَامُونَ نَوْمَةً قَبْلَ الْبَعْثِ، كَمَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَعِنْدَ بَعْثِهِمْ أَحْيَاءً مِنْ تِلْكَ النَّوْمَةِ الَّتِي هِيَ نَوْمَةُ مَوْتٍ يَقُولُ لَهُمُ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [٣٦ ٥٢]، أَيْ: هَذَا الْبَعْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ، الَّذِي وَعَدَكُمُ الرَّحْمَنُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ فِي ذَلِكَ، كَمَا شَاهَدْتُمُوهُ عِيَانًا، فَقَوْلُهُ فِي «يس» : هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ، قَوْلُ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ، عَلَى التَّحْقِيقِ، وَقَدِ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَهُوَ مُطَابِقٌ لِمَعْنَى قَوْلِهِ: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ الْآيَةَ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ قَوْلَهُ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَأَنَّهَا مِنْ كَلَامِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَيْسَتْ إِشَارَةً إِلَى الْمَرْقَدِ فِي قَوْلِ الْكُفَّارِ: مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا، وَقَوْلُهُ: فِي كِتَابِ اللَّهِ، أَيْ: فِيمَا كَتَبَهُ وَقَدَّرَهُ وَقَضَاهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ قَوْلَهُ: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ الْآيَةَ، مِنْ قَوْلِ الْكُفَّارِ، وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ فِي «الصَّافَّاتِ» : وَقَالُوا يَاوَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الْآيَةَ [٣٧ ٢٠ - ٢١].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ.
قَدْ قَدَّمْنَا مَا فِيهِ مِنَ اللُّغَاتِ، وَالشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [١٦ ٨٤].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [٦ ٧]، وَفِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا [١٧ ٩٠]،
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا [١٧ ٢٢]، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ أَنَّهُ يُخَاطِبُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخِطَابٍ لَا يُرِيدُ بِهِ نَفْسَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ التَّشْرِيعَ.
وَبَيَّنَّا أَنَّ مِنْ أَصْرَحِ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ الْآيَةَ [١٧ ٢٣]، وَمَعْلُومٌ أَنَّ وَالِدَيْهِ قَدْ مَاتَا قَبْلَ نُزُولِ: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا، بِزَمَنٍ طَوِيلٍ، فَلَا وَجْهَ الْبَتَّةَ لِاشْتِرَاطِ بُلُوغِهِمَا، أَوْ بُلُوغِ أَحَدِهِمَا الْكِبَرَ عِنْدَهُ، بَلِ الْمُرَادُ تَشْرِيعُ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ لِأُمَّتِهِ، بِخِطَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا، لِمَنْ يَصِحُّ خِطَابُهُ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، وَأَنَّهُ كَقَوْلِ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ:
سَتُبْدِي لَكَ الْأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلًا
............. خِلَافُ الصَّوَابِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذِكْرِ الْمَعْطُوفَاتِ، عَلَى قَوْلِهِ: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [١٧ ٢٣]، ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْآيَةَ [١٧ ٣٩]، وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ: ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ خِطَابٌ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَمَا تَرَى. وَذَكَرْنَا بَعْضَ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى خِطَابِ الْإِنْسَانِ، مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخِطَابِ فِي الْحَقِيقَةِ غَيْرُهُ.
وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ، وَقَوْلِهِ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [٣٩ ٦٥]، وَقَوْلِهِ: وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [٧٦ ٢٤]، وَقَوْلِهِ: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [١٧ ٢٢]، يُرَادُ بِهِ التَّشْرِيعُ لِأُمَّتِهِ ;
فَائِدَةٌ.
رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَادَاهُ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَقَالَ: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [٣٩ ٦٥]، فَأَجَابَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ.