تفسير سورة سبأ

تفسير ابن عطية
تفسير سورة سورة سبأ من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز المعروف بـتفسير ابن عطية .
لمؤلفه ابن عطية . المتوفي سنة 542 هـ
سورة سبأ مكية
وآياتها أربع وخمسون
هي سورة مكية واختلف في قوله تعالى :﴿ ويرى الذين أوتوا العلم ﴾ [ سبأ : ٦ ] الآية١ فقالت فرقة هي مكية والمراد المؤمنون بالنبي صلى الله عليه وسلم وقالت فرقة هي مدنية والمراد من أسلم بالمدينة من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأشباهه٢.
١ هي الآية رقم(٦) من السورة..
٢ وقال قتادة: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم المؤمنون به كائنا من كان، وعدد آيات السورة(٥٤) آية، وقد نزلت بعد سورة (لقمان)..

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة سبأ
هذه السورة مكية واختلف في قوله تعالى: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ [سبأ: ٦] الآية، فقالت فرقة هي مكية، والمراد المؤمنون بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقالت فرقة هي مدنية والمراد من أسلم بالمدينة من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأشباهه.
قوله عز وجل:
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢)
الألف واللام في الْحَمْدُ لاستغراق الجنس، أي الْحَمْدُ على تنوعه هو لِلَّهِ تعالى من جميع جهات الفكرة، ثم جاء بالصفات التي تستوجب المحامد وهي ملكه جميع ما في السماوات والأرض، وعلمه المحيط بكل شيء وخبرته بالأشياء إذ وجودها إنما هو به جلت قدرته ورحمته بأنواع خلقه وغفرانه لمن سبق في علمه أن يغفر له من مؤمن، وقوله تعالى: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ يحتمل أن تكون الألف واللام للجنس أيضا وتكون الآية خبرا، أي أن الحمد في الآخرة هو له وحده لإنعامه وإفضاله وتغمده وظهور قدرته وغير ذلك من صفاته، ويحتمل أن تكون الألف واللام فيه للعهد والإشارة إلى قوله تعالى:
وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: ١٠] أو إلى قوله وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ [الزمر: ٧٤] ويَلِجُ معناه يدخل، ومنه قول شاعر: [الطويل]
رأيت القوافي يتلجن هوالجا تضايق عنها أن تولجها الابر
ويَعْرُجُ معناه يصعد، وهذه الرتب حصرت كلما يصح علمه من شخص أو قول أو معنى، وقرأ أبو عبد الرحمن «وما ينزّل من السماء» بضم الياء وفتح النون وشد الزاي.
قوله عز وجل:
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٣ الى ٥]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥)
روي أن قائل هذه المقالة هو أبو سفيان بن حرب، وقال اللات والعزى ما ثم ساعة تأتي ولا قيامة ولا حشر فأمر الله تعالى نبيه أن يقسم بربه مقابلة لقسم أبي سفيان قبل ردا وتكذيبا وإيجابا لما نفاه وأجاز نافع الوقف على بَلى وقرأ الجمهور «لتأتينكم» بالتاء من فوق، وحكى أبو حاتم قراءة «ليأتينكم» بالياء على المعنى في البعث.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بخلاف «عالم» بالخفض على البدل من رَبِّي، وقرأ نافع وابن عامر «عالم» بالرفع على القطع، أي هو عالم، ويصح أن يكون «عالم» رفع بالابتداء وخبره لا يَعْزُبُ وما بعده، ويكون الإخبار بأن العالم لا يعزب عنه شيء إشارة إلى أنه قد قدر وقتها وعلمه والوجه الأول أقرب، وقرأ حمزة والكسائي «علام» على المبالغة وبالخفض على البدل ويَعْزُبُ معناه يغيب ويبعد، وبه فسر مجاهد وقتادة، وقرأ جمهور القراء «لا يعزب» بضم الزاي، وقرأ الكسائي وابن وثاب «لا يعزب» بكسرها وهما لغتان، ومِثْقالُ ذَرَّةٍ معناه مقدار الذرة، وهذا في الأجرام بين وفي المعاني بالمقايسة وقرأ الجمهور «ولا أصغر ولا أكبر» عطفا على قوله مِثْقالُ وقرأ نافع والأعمش وقتادة «أصغر وأكبر» بالنصب عطفا على ذَرَّةٍ ورويت عن أبي عمرو، وفي قوله تعالى: إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ ضمير تقديره إلا هو في كتاب مبين، والكتاب المبين هو اللوح المحفوظ، واللام من قوله تعالى: لِيَجْزِيَ يصح أن تكون متعلّقة، بقوله تعالى: لَتَأْتِيَنَّكُمْ ويصح أن تكون متعلقة بقوله لا يَعْزُبُ، ويصح أن تكون متعلقة بما في قوله إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ من معنى الفعل لأن المعنى إلا أثبته في كتاب مبين، و «المغفرة» تغمد الذنوب، و «الرزق الكريم» الجنة وَالَّذِينَ معطوف على الَّذِينَ الأول أي وليجزي الذين سعوا، ومُعاجِزِينَ معناه محاولين تعجيز قدرة الله فيهم، وقرأ الجحدري وابن كثير «معجزين» دون ألف أي معجزين قدرة الله تعالى بزعمهم، وقال ابن الزبير: معناه مثبطين عن الإيمان من أراده مدخلين عليه العجز في نشاطه وهذا هو سعيهم في الآيات، ثم بين تعالى جزاء الساعين كما بين قبل جزاء المؤمنين، وقرأ عاصم في رواية حفص «أليم» بالرفع على النعت للعذاب، وقرأ الباقون «أليم» بالكسر على النعت، ل رِجْزٍ، و «الرجز» العذاب السيّء جدا، وقرأ ابن محيصن «من رجز» بضم الراء.
قوله عز وجل:
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٦ الى ٨]
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨)
قال الطبري والثعلبي وغيرهما وَيَرَى معطوف على ما قبله من الأفعال والظاهر أنه فعل مستأنف وأن
الواو إنما عطفت جملة على جملة وكأن المعنى الإخبار بأن أهل العلم يرون الوحي المنزل على محمد حقا وأنه يهدي إلى صراط الله، وقوله الَّذِي أُنْزِلَ مفعول ب يَرَى، والْحَقَّ مفعول ثان وهو عماد، والَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ قيل هم من أسلم من أهل الكتاب.
وقال قتادة هم أمة محمد المؤمنون به كان من كان، وَيَهْدِي معناه يرشد، و «الصراط» الطريق، وأراد طريق الشرع والدين، ثم حكي عن الكفار مقالتهم التي قالوها على جهة التعجب والهزء، أي قالها بعضهم لبعض كما يقول الرجل لمن يريد أن يعجبه: هل أدلك على أضحوكة ونادرة فلما كان البعث عندهم من البعيد المحال جعلوا من يخبر به في حيز من يتعجب منه، والعامل في إِذا فعل مضمر قبلها فيما قال بعض الناس تقديره «ينبئكم بأنكم تبعثون إذا مزقتم»، ويصح أن يكون العامل ما في قوله إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ من معنى الفعل لأن تقدير الكلام «ينبئكم إنكم لفي خلق جديد إذا مزقتم»، وقال الزجاج العامل في إِذا، مُزِّقْتُمْ وهو خطأ وإفساد للمعنى المقصود، ولا يجوز أن يكون العامل يُنَبِّئُكُمْ بوجه، ومُزِّقْتُمْ معناه بالبلى وتقطع الأوصال في القبور وغيرها، وكسر الألف من إِنَّكُمْ لأن يُنَبِّئُكُمْ في معنى يقول لكم ولمكان اللام التي في الخبر، وجَدِيدٍ معناه مجدد، وقولهم أَفْتَرى هو من قول بعضهم لبعض، وهي ألف الاستفهام دخلت على ألف الوصل فحذفت ألف الوصل وبقيت مفتوحة غير ممدودة، فكأن بعضهم استفهم بعضا عن محمد أحال الفرية على الله هي حاله أم حال الجنون، لأن هذا القول إنما يصدر عن أحد هذين فأضرب القرآن عن قولهم وكذبه، فكأنه قال ليس الأمر كما قالوا بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ والإشارة بذلك إليهم، فِي الْعَذابِ يريد عذاب الآخرة لأنهم يصيرون إليه، ويحتمل أن يريد فِي الْعَذابِ في الدنيا بمكابدة الشرع ومكابرته ومحاولة إطفاء نور الله تعالى وهو يتم، فهذا كله عذاب وفي الضَّلالِ الْبَعِيدِ أي قربت الحيرة وتمكن التلف لأنه قد أتلف صاحبه عن الطريق الذي ضل منه.
قوله عز وجل:
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٩ الى ١١]
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩) وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١)
الضمير في يَرَوْا لهؤلاء الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [سبأ: ٨] وقفهم الله تعالى على قدرته وخوفهم من إحاطتها بهم، المعنى أليس يرون أمامهم ووراءهم سمائي وأرضي لا سبيل لهم إلى فقد ذلك عن أبصارهم ولا عدم إحاطته بهم، وقرأ الجمهور «إن نشأ نخسف» و «نسقط» بالنون في الثلاثة وقرأ حمزة والكسائي «إن يشأ يخسف بهم أو يسقط» بالياء في الثلاثة وهي قراءة ابن وثاب وابن مصرف والأعمش وعيسى واختارها أبو عبيد، و «خسف الأرض» هو إهواؤها بهم وتهورها وغرقهم فيها، و «الكسف» قيل هو
406
مفرد اسم القطعة، وقيل هو جمع كسفة جمعها على حد تمرة وتمر ومشهور جمعها كسف كسدرة وسدر وأدغم الكسائي الفاء في الباء في قوله نَخْسِفْ بِهِمُ قال أبو علي وذلك لا يجوز لأن الباء أضعف في الصوت من الفاء فلا تدغم فيها وإن كان الباء تدغم في الفاء كقوله اضرب فلانا، وهذا كما تدغم الباء في الميم كقوله «اضرب محمدا» ولا تدغم الميم في الباء كقولك اضمم بكرا، لأن الباء انحطت عن الميم يفقد الغنة التي في الميم، والإشارة بقوله تعالى في ذلك إلى إحاطة السماء بالمرء ومماسة الأرض له على كل حال، و «المنيب» الراجع التائب، ثم ذكر تعالى نعمته على داود وسليمان احتجاجا على ما منح محمدا، أي لا تستبعدوا هذا فقد تفضلنا على عبدنا قديما بكذا وكذا، فلما فرغ التمثيل لمحمد ﷺ رجع التمثيل لهم بسبأ وما كان من هلاكهم بالفكر والعتو، والمعنى قلنا يا جِبالُ، وأَوِّبِي معناه ارجعي معه لأنه مضاعف آب يؤوب، فقال ابن عباس وقتادة وابن زيد وغيرهم معناه سبحي معه أي يسبح هو وترجع هي معه التسبيح، أي ترده بالذكر ثم ضوعف الفعل للمبالغة، وقيل معناه سيري معه لأن التأويب سير النهار كان الإنسان يسير بالليل ثم يرجع السير بالنهار أي يردده فكأنه يؤوبه، فقيل له التأويب ومنه قول الشاعر: [البسيط]
يومان يوم مقامات وأندية ويوم سير إلى الأعداء تأويب
ومنه قول ابن أبي مقبل: [الطويل]
لحقنا بحي أوبوا السير بعد ما دفعنا شعاع الشمس والطرف مجنح
وقال مروح أَوِّبِي سبحي بلغة الحبشة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف غير معروف، وقال وهب بن منبه: المعنى نوحي معه والطير تسعدك على ذلك، قال فكان داود إذا نادى بالنياحة والحنين أجابته الجبال وعكفت الطير عليه من فوقه، قال فمن حينئذ سمع صدى الجبال، وقرأ الحسن وقتادة وابن أبي إسحاق «أوبي» بضم الهمزة وسكون الواو أي ارجعي معه أي في السير أو في التسبيح، وأمر الجبال كما تؤمر الواحدة المؤنثة لأن جمع ما لا يعقل كذلك يؤمر وكذلك يكنى عنه ويوصف ومنه المثل «يا خيل الله اركبي» ومنه مَآرِبُ أُخْرى [طه: ١٨] وهذا كثير، وقرأ الأعرج وعاصم بخلاف وجماعة من أهل المدينة «والطير» بالرفع عطفا على لفظ قوله يا جِبالُ، وقرأ نافع وابن كثير والحسن وابن أبي إسحاق وأبو جعفر «والطير» بالنصب فقيل ذلك عطف على فَضْلًا وهو مذهب الكسائي، وقال سيبويه هو على موضع قوله يا جِبالُ لأن موضع المنادى المفرد نصب، وقال أبو عمرو: نصبها بإضمار فعل تقديره وسخرنا الطير، ووَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ معناه جعلناه لينا، وروى قتادة وغيره أن الحديد كان له كالشمع لا يحتاج في عمله إلى نار، وقيل أعطاه قوة يثني بها الحديد، وروي أنه لقي ملكا وداود يظنه إنسانا وداود متنكر خرج ليسأل الناس عن نفسه في خفاء، فقال داود لذلك الشخص الذي تمثل فيه الملك ما قولك في هذا الملك داود؟ فقال له الملك: نعم العبد لولا خلة فيه، قال داود وما هي؟ قال: يرتزق من بيت المال ولو أكل من عمل يديه لتمت فضائله، فرجع فدعا الله تعالى في أن يعلمه صنعة ويسهلها عليه فعلمه تعالى صنعة لبوس وألان له الحديد، فكان فيما روي يصنع ما بين يومه
407
وليلته درعا تساوي ألف درهم حتى ادخر منها كثيرا وتوسعت معيشة منزله، وكان ينفق ثلث المال في مصالح المسلمين، وقوله تعالى: أَنِ اعْمَلْ قيل إن أَنِ مفسرة لا موضع لها من الإعراب، وقيل هي في موضع نصب بإسقاط حرف الجر، و «السابغات» الدروع الكاسيات ذوات الفضول، قال قتادة داود عليه السلام أول من صنعها، ودرع الحديد مؤنث ودرع المرأة مذكر، وقوله تعالى: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ اختلف المتأولون في أي شيء هو التقدير من أشياء السرد، إذ السرد هو اتباع الشيء بالشيء من جنسه، قال الشماخ: «كما تابعت سرد العنان الخوارز»، ومنه سرد الحديث، وقيل للدرع مسرودة لأنها توبعت فيها الحلق بالحلق ومنه قول الشاعر [القرطبي] :[الكامل]
وعليهما مسرودتان قضاهما دواد أو صنع السوابغ تبع
ومنه قول دريد بالفارسي المسرد، فقال ابن زيد: التقدير الذي أمر به هو في قدر الحلقة أي لا تعملها صغيرة فتضعف ولا تقوى الدرع على الدفاع ولا تعملها كبيرة فينال لاسبها من خلالها، وقال ابن عباس التقدير الذي أمر به هو المسمار يريد ثقبه حين يشد نتيرها، وذكر البخاري في مصنفه ذلك فقال: المعنى لا تدق المسمار فيسلسل، ويروى فيتسلسل، ولا تغلظه فيقصم بالقاف، وبالفاء أيضا رواية، وروى قتادة أن الدروع كانت قبله صفائح فكانت ثقالا، فلذلك أمر هو بالتقدير فيما يجمع بين الخفة والحصانة، أي قدر ما يأخذ من هذين المعنيين بقسطه، أي لا تقصد الحصانة فتثقل ولا الخفة وحدها فتزيل المنعة، وقوله تعالى: وَاعْمَلُوا صالِحاً لما كان الأمر لداود وآله حكى وإن كانوا لم يجر لهم ذكر لدلالة المعنى عليهم، ثم توعدهم تعالى بقوله: إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي لا يخفى علي حسنه من قبيحة وبحسب ذلك يكون جزائي لكم.
قوله عز وجل:
[سورة سبإ (٣٤) : آية ١٢]
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢)
قال الحسن: عقر سليمان الخيل أسفا على ما فوتته من فضل وقت صلاة العصر فأبدله الله تعالى خيرا منها وأسرع الريح تجري بأمره، وقرأ جمهور القراء «الريح» بالنصب على معنى ولسليمان سخرنا الريح، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر والأعرج «الريح» بالرفع على تقديره تسخرت الريح أو على الابتداء والخبر في المجرور، وذلك على حذف مضاف تقديره ولسليمان تسخير الريح، وقرأ الحسن «ولسليمان تسخير الرياح» وكذلك جمع في كل القرآن، وقوله تعالى: غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ قال قتادة معناه أنها كانت تقطع به في الغدو إلى قرب الزوال مسيرة شهر وتقطع به في الرواح من بعد الزوال إلى الغروب مسيرة شهر، فروي عن الحسن البصري أنه قال كان يخرج من الشام من مستقره تدمر التي بنتها له الجن بالصفاح والعمد فيقيل في إصطخر ويروح منها فيبيت في كابل من أرض خراسان ونحو هذا، وكانت الأعصار تقل بساطه وتحمله بعد ذلك الرخاء، وكان هذا البساط من خشب يحمل فيما روي أربعة آلاف فارس وما
يشبهها من الرجال والعدد ويتسع بهم، وروي أكثر من هذا بكثير ولكن عدم صحته مع بعد شبهه أوجب اختصاره.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الجيوش أربعة آلاف» وما كان سليمان ليعدو الخير، وقرأ ابن أبي عبلة «غدوتها شهر وروحتها شهر» وكان إذا أراد قوما لم يشعروا به حتى يظلمهم في جو السماء، وقوله تعالى: وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ، روي عن ابن عباس وقتادة أنه كانت تسيل له باليمن عين جارية من نحاس يصنع له منها جميع ما أحب، والْقِطْرِ: النحاس، وقالت فرقة الْقِطْرِ الفلز كله النحاس والحديد وما جرى مجراه، كان يسيل له منه عيون، وقالت فرقة بل معنى أَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ أذبنا له النحاس عن نحو ما كان الحديد يلين لداود، قالوا وكانت الأعمال تتأتى منه لسليمان وهو بارد دون نار، وعَيْنَ على هذا التأويل بمعنى الذات، وقالوا لم يلن النحاس ولا ذاب لأحد قبله، وقوله مَنْ يَعْمَلُ يحتمل أن مِنَ تكون في موضع نصب على الاتباع لما تقدم بإضمار فعل تقديره وسخرنا من الجن من يعمل، ويحتمل أن تكون في موضع رفع على الابتداء والخبر في المجرور، ويَزِغْ معناه يمل أي ينحرف عاصيا، وقال عَنْ أَمْرِنا يقل عن إرادتنا لأنه لا يقع في العالم شيء يخالف الإرادة، ويقع ما يخالف الأمر، قال الضحاك وفي مصحف عبد الله «ومن يزغ عن أمرنا» بغير مِنْهُمْ، وقوله تعالى: مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ قيل عذاب الآخرة، وقيل بل كان قد وكل بهم ملك وبيده سوط من نار السعير، فمن عصى ضربه فأحرقه به.
قوله عز وجل:
[سورة سبإ (٣٤) : آية ١٣]
يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣)
«المحاريب» الأبنية العالية الشريفة، قال قتادة القصور والمساجد، وقال ابن زيد المساكن، والمحراب أشرف موضع في البيت، والمحراب موضع العبادة أشرف ما يكون منه، وغلب عرف الاستعمال في موضع وقوف الإمام لشرفه ومن هذه اللفظة قول عدي بن زيد: [الخفيف]
كدمى العاج في المحاريب أو كال... بيض في الروض زهره مستنير
«والتماثيل» قيل كانت من زجاج ونحاس، تماثيل أشياء ليست بحيوان، وقال الضحاك كانت تماثيل حيوان، وكان هذا من الجائز في ذلك الشرع.
قال القاضي أبو محمد: ونسخ بشرع محمد صلى الله عليه وسلم، وقال قوم: حرم التصوير لأن الصور كانت تعبد، وحكى مكي في الهداية أن فرقة كانت تجوز التصوير وتحتج بهذه الآية وذلك خطأ، وما أحفظ من أئمة العلم من يجوزه، و «الجوابي» جمع جابية وهي البركة التي يجبى إليها الماء الذي يجمع قال الراجز: [الرجز]
فصحبت جابية صهارجا... كأنه جلد السماء خارجا
409
وقال مجاهد: «الجوابي» جمع جوبة وهي الحفرة العظيمة في الأرض.
قال الفقيه الإمام القاضي: ومنه قول الأعشى: [الطويل]
نفى الذم عن آل المحلق جفنة كجابية الشيخ العراقيّ تفهق
وأنشده الطبري: تروح على آل المحلق، ويروى السيح بالسين غير نقط، وبالحاء غير نقط أيضا، وهو الماء الجاري على وجه الأرض، ويروى بالشين والخاء منقوطين، فيقال أراد كسرى ويقال أراد شيخا من فلاحي سواد العراق غير معين وذلك أنه لضعفه يدخر الماء في جابيته، فهي تفهق أبدا فشبهت الجفنة بها لعظمها، قال مجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد «الجوابي» الحياض، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي «كالجواب» بغير ياء في الوصل والوقف، وقرأ أبو عمرو وعيسى بغير ياء في الوقف وياء في الوصل، وقرأ ابن كثير بياء فيهما، ووجه حذف الياء التخفيف والإيجاز، وهذا كحذفهم ذلك من القاض والغاز والهاد، وأيضا فلما كانت الألف واللام تعاقب التنوين وكانت الياء تحذف مع التنوين وجب أن تحذف مع ما عاقبه كما يعملون للشيء أبدا عمل نقيضه، وراسِياتٍ معناه ثابتات لكبرها ليست مما ينقل ولا يحمل. ولا يستطيع على عمله إلا الجن وبالثبوت فسرها الناس، ثم أمروا مع هذه النعم بأن يعملوا بالطاعات، وقوله تعالى: شُكْراً يحتمل أن يكون نصبه على الحال، أي اعملوا بالطاعات في حال شكر منكم لله على هذه النعم، ويحتمل أن يكون نصبه على جهة المفعول، أي اعملوا عملا هو الشكر كأن الصلاة والصيام والعبادات كلها هي نفسها الشكر إذ سدت مسده، وفي الحديث إن النبي ﷺ صعد المنبر فتلا هذه الآية ثم قال: «ثلاث من أوتيهن فقد أوتي العمل شكرا العدل في الغضب والرضى والقصد في الفقر والغنى وخشية الله في السر والعلانية»، وروي أن داود عليه السلام قال يا رب كيف أطيق شكرك على نعمك وإلهامي وقدرتي على شكرك نعمة لك، فقال: يا داود الآن عرفتني حق معرفتي، وقال ثابت: روي أن مصلى داود لم يخل قط من قائم يصلي ليلا ونهارا كانوا يتناوبونه دائما، وكان سليمان عليه السلام فيما روي يأكل خبز الشعير وطعم أهله الخشكار ويطعم المساكين الدرمك، وروي أنه ما شبع قط فقيل له في ذلك فقال: أخاف أن أنسى الجياع، وقوله تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ يحتمل أن تكون مخاطبة لآل داود، ويحتمل أن تكون مخاطبة لآل محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى كل وجه ففيها تنبيه وتحريض، وسمع عمر بن الخطاب رجلا يقول: اللهم اجعلني من القليل، فقال له عمر: ما هذا الدعاء؟ فقال الرجل: أردت قوله عز وجل: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ، فقال عمر رحمه الله: كل الناس أعلم من عمر.
قال الفقيه الإمام القاضي: وقد قال تعالى وَقَلِيلٌ ما هُمْ [ص: ٢٤]، والقلة أيضا بمعنى الخمول منحة من الله تعالى، فلهذا الدعاء محاسن.
قوله عز وجل:
410

[سورة سبإ (٣٤) : آية ١٤]

فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤)
الضمير في عَلَيْهِ عائد على سليمان، وقَضَيْنا بمعنى أنفذنا وأخرجناه إلى حيز الوجود وإلا فالقضاء الآخر به متقدم في الأزل، وروي عن ابن عباس وابن مسعود في قصص هذه الآية أن سليمان عليه السلام كان يتعبد في بيت المقدس وكان ينبت في محرابه كل سنة شجرة فكان يسألها عن منافعها ومضارها وسائر شأنها فتخبره فيأمر بها فتقلع فتصرف في منافعها وتغرس لتتناسل، فلما كان عند موته خرجت شجرة فقال لها ما أنت؟ فقالت: أنا الخروب خرجت لخراب ملكك هذا، فقال سليمان عليه السلام: ما كان الله ليخربه وأنا حي ولكنه لا شك حضور أجلي فاستعد عليه السلام وغرسها وصنع منها عصا لنفسه وجد في عبادته، وجاءه بعد ذلك ملك الموت فأخبره أنه قد أمر بقبض روحه وأنه لم يبق له إلا مدة يسيرة، فروي أنه أمر الجن حينئذ فصنعت له قبة من رخام تشف وجعل فيها يتعبد ولم يجعل لها بابا، وتوكأ على عصاه على موضع يتماسك معه وإن مات، ثم توفي ﷺ على تلك الحالة، وروي أنه استعد في تلك القبة بزاد سنة وكان الجن يتوهمون أنه يتغذى بالليل وكانوا لا يقربون من القبة ولا يدخلون من كوة كانت في أعاليها، ومن رام ذلك منهم احترق قبل الوصول إليها، هذا في المدة التي كان سليمان عليه السلام حيا في القبة، فلما مات بقيت تلك الهيبة على الجن، وروي أن القبة كان لها باب وأن سليمان أوصى بعض أهله بكتمان موته على الجن والإنس وأن يترك على حاله تلك سنة، وكان غرضه في هذه السنة أن تعمل الجن عملا كان قد بدىء في زمن داود قدر أنه بقي منه عمل سنة، فأحب الفراغ منه، فلما مضى لموته سنة، خر عن عصاه والعصا قد أكلته الأرض، وهي الدودة التي تأكل العود، فرأت الجن انحداره، فتوهمت موته فجاء جسور منهم فقرب فلم يحترق، ثم خطر فعاد ثم قرب أكثر ثم قرب حتى دخل من بعض تلك الكوى فوجد سليمان ميتا، فأخبر بموته، فنظر ذلك الأكل فقدر أنه منذ سنة، وقال بعض الناس: جعلت الأرضة فأكلت يوما وليلة ثم قيس ذلك بأكلها في العصا فعلم أنها أكلتها منذ سنة فهكذا كانت دلالة دَابَّةُ الْأَرْضِ على موته، وللمفسرين في هذه القصص إكثار عمدته ما ذكرته، وقال كثير من المفسرين دَابَّةُ الْأَرْضِ هي سوسة العود وهي الأرضة، وقرأ ابن عباس والعباس بن المفضل «الأرض» بفتح الراء جمع أرضة فهذا يقوي ذلك التأويل، وقالت فرقة دَابَّةُ الْأَرْضِ حيوان من الأرض شأنه أن يأكل العود، وذلك موجود وليس السوسة من دواب الأرض، وقالت فرقة منها أبو حاتم اللغوي الْأَرْضِ هنا مصدر أرضت الأثواب والخشبة إذا أكلتها الأرضة، فكأنه قال دابة الأكل الذي هو بتلك الصورة على جهة التسوس، وفي مصحف عبد الله «الأرض أكلت منسأته»، والمنسأة العصا ومنه قول الشاعر: [البسيط]
إذا دببت على المنساة من هرم فقد تباعد عنك اللهو والغزل
وقرأ جماعة من القراء «منساته» بغير همز منها أبو عمرو ونافع، قال أبو عمرو لا أعرف لها اشتقاقا فأنا لا أهمزها لأنها إن كانت مما يهمز فقد يجوز لي ترك الهمز فيما يهمز، وإن كانت مما لا يهمز فقد احتطت لأنه لا يجوز لي همز ما لا يهمز، وقال غيره أصلها الهمز وهي «المنسأة» مفتوحة من نسأت الإبل والغنم والناقة إذا سقتها ومنه قول طرفة: [الطويل]
411
أمون كعيدان الاران نسأتها على لاحب كأنه ظهر برجد
ويروى «وعنس» كألواح وخففت همزتها جملة، وكان القياس أن تخفف بين بين، وقرأ باقي السبعة «منسأته» على الأصل بالهمز، وقرأ حمزة «منساته» بفتح الميم وبغير همز، وقرأت فرقة «مسنأته» بهمزة ساكنة وهذا لا وجه له إلا التخفيف في تسكين المتحرك لغير علة كما قال امرؤ القيس: [السريع]
فاليوم أشرب غير مستحقب إثما من الله ولا واغل
وقرأت فرقة «من ساته» بفصل «من» وكسر التاء وهذه تنحو إلى سية القوس لأنه يقال سية وساة، فكأنه قال «من ساته» ثم سكن الهمزة ومعناها من طرف عصاه أنزل العصا منزلة القوس، وقال بعض الناس: إن سليمان عليه السلام لم يمت إلا في سفر مضطجعا ولكنه كان في بيت مبني عليه وأكلت الأرضية عتبة الباب حتى خر
البيت فعلم موته.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا ضعيف وقرأ الجمهور «تبينت الجنّ» بإسناد الفعل إليها أي بان أمرها كأنه قال افتضحت الجن أي للإنس، هذا تأويل، ويحتمل أن يكون قوله تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ بمعنى علمت الجن وتحققت، ويريد الْجِنُّ جمهورهم والفعلة منهم والخدمة ويريد بالضمير في كانُوا رؤساءهم وكبارهم لأنهم هم الذين يدعون علم الغيب لأتباعهم من الجن والإنس ويوهمونهم ذلك، قاله قتادة، فيتيقن الأتباع أن الرؤساء لَوْ كانُوا عالمين الغيب ما لَبِثُوا وأَنْ على التأويل الأول بدل من الْجِنُّ وعلى التأويل الثاني مفعولة محضة، وقرأ يعقوب «تبينت الجن» على بناء الفعل للمفعول أي تبينتها الناس، وأَنْ على هذه القراءة بدل، ويجوز أن تكون في موضع نصب بإسقاط حرف الجر أي «بأن» على هذه القراءة وعلى التأويل الأول من القراءة الأولى.
قال الفقيه الإمام القاضي: مذهب سيبويه أن أَنْ في هذه الآية لا موضع لها من الإعراب وإنما هي مؤذنة بجواب ما تنزل منزلة القسم من الفعل الذي معناه التحقق واليقين، لأن هذه الأفعال التي تبينت وتحققت وعلمت وتيقنت ونحوها تحل محل القسم في قولك: علمت أن لو قام زيد ما قام عمرو، فكأنك قلت والله لو قام زيد ما قام عمرو، فقوله ما لَبِثُوا على هذا القول جواب ما تنزل منزلة القسم لا جواب لَوْ وعلى الأقوال الأول جواب لَوْ وفي كتاب النحاس إشارة إلى أنه يقرأ «تبينت الجن» أي تبينت الإنس الجن، والْعَذابِ الْمُهِينِ هو العمل في تلك السخرة، والمعنى أن الجن لو كانت تعلم الغيب لما خفي عليها موت سليمان، وقد ظهر أنه خفي عليها بدوامها في الخدمة الصعبة وهو ميت، ف الْمُهِينِ المذل من الهوان، قال الطبري وفي بعض القراءات «فلما خر تبينت الإنس أن الجن لو كانوا» وحكاها أبو الفتح عن ابن عباس والضحاك وعلي بن الحسين وذكر أبو حاتم أنها كذلك في مصحف ابن مسعود.
قال القاضي أبو محمد: وكثر المفسرون في قصص هذه الآية بما لا صحة له ولا تقتضيه ألفاظ القرآن (وفي معانيه بعد فاختصرته لذلك).
412
قوله عز وجل:
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٥ الى ١٧]
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧)
هذا مثل لقريش بقوم أنعم الله عليهم وأرسل إليهم الرسل فكفروا وعصوا، فانتقم الله منهم، أي فأنتم أيها القوم مثلهم و «سبأ» هنا أراد به القبيل، واختلف لم سمي القبيل بذلك، فقالت فرقة هو اسم لامرأة كانت أمّا للقبيل، وقال الحسن بن أبي الحسن في كتاب الرماني هو اسم موضع فسمي القبيل به وقال الجمهور هو اسم رجل هو أبو القبيل كله قيل هو ابن يشجب بن يعرب، وروي في هذا القول أن رسول الله ﷺ سأله فروة بن مسيك عن «سبأ» فقال: هو اسم رجل منه تناسلت قبائل اليمن.
وقرأ نافع وعاصم وأبو جعفر وشيبة والأعرج «لسبإ» بهمزة منونة مكسورة على معنى الحي، وقرأ أبو عمرو والحسن «لسبأ» بهمزة مفتوحة غير مصروف على معنى القبيلة، وقرأ جمهور القراء «في مساكنهم» لأن كل أحد له مسكن، وقرأ الكسائي وحده «في مسكنهم» بكسر الكاف أي في موضع سكناهم وهي قراءة الأعمش وعلقمة، قال أبو علي والفتح حسن أيضا لكن هذا كما قالوا مسجد وإن كان سيبويه يرى هذا اسم البيت وليس موضع السجود. قال هي لغة الناس اليوم، والفتح هي لغة الحجاز وهي اليوم قليلة، وقرأ حمزة وحفص «مسكنهم» بفتح الكاف على المصدر وهو اسم جنس يراد به الجمع، وهي قراءة إبراهيم النخعي وهذا الإفراد هو كما قال الشاعر: [الوافر] كلوا في بعض بطنكم تعفوا وكما قال الآخر: [البسيط] قد عض أعناقهم جلد الجواميس وآيَةٌ معناها عبرة وعلامة على فضل الله وقدرته، وجَنَّتانِ ابتداء وخبره في قوله عن يَمِينٍ وَشِمالٍ أو خبر ابتداء تقديره هي جنتان، وهي جملة بمعنى هذه حالهم والبدل من آيَةٌ ضعيف، وقد قاله مكي وغيره، وقرأ ابن أبي عبلة «آية جنتين» بالنصب، وروي أنه كان في ناحية اليمن واد عظيم بين جبلين وكانت جنتا الوادي منبت فواكه وزروع وكان قد بني في رأس الوادي عند أول الجبلين جسر عظيم من حجارة من الجبل إلى الجبل فارتدع الماء فيه وصار بحيرة عظيمة، وأخذ الماء من جنبتيها فمشى مرتفعا يسقي جنات جنتي الوادي، قيل بنته بلقيس، وقيل بناه حمير أبو القبائل اليمينة كلها، وكانوا بهذه الحال في أرغد نعم، وكانت لهم بعد ذلك قرى ظاهرة متصلة من اليمن إلى الشام، وكانوا أرباب تلك البلاد في ذلك الزمان، وقوله كُلُوا فيه حذف كأنه قال قيل لهم كلوا، وطَيِّبَةٌ معناه كريمة التربة حسنة الهواء رغدة
413
من النعم سليمة من الهوام والمضار هذه عبارات المفسرين، وكان ذلك الوادي فيما روي عن عبد الرحمن بن عوف لا يدخله برغوث ولا قملة ولا بعوضة ولا عقرب ولا شيء من الحيوان الضار، وإذا جاء به أحد من سفر سقط عند أول الوادي، وروي أن الماشي بمكتل فوق رأسه بين أشجاره يمتلي مكتله دون أن يمد يدا، وروي أن هذه المقالة من الأمر بالأكل والشرب والتوقيف على طيب البلدة وغفران الرب مع الإيمان به هو من قيل الأنبياء لهم، وقرأ رؤيس عن يعقوب «بلدة طيبة وربا غفورا» بالنصب في الكل، وبعث إليهم فيما روي ثلاثة عشر نبيا فكفروا بهم وأعرضوا، فبعث الله تعالى على ذلك السد جردا أعمى توالد فيه وخرقه شيئا بعد شيء وأرسل سيلا في ذلك الوادي، فيحتمل ذلك السد، فيروى أنه كان من العظم وكثرة الماء بحيث ملأ ما بين الجبلين، وحمل الجنات وكثيرا من الناس ممن لم يمكنه الفرار، ويروى أنه لما خرق السد كان ذلك سبب يبس الجنات، فهلكت بهذا الوجه، وروي أنه صرف الماء من موضعه الذي كان فيه أولا فتعطل سقي الجنات، واختلف الناس في لفظة الْعَرِمِ فقال المغيرة بن حكيم وأبو ميسرة: الْعَرِمِ في لغة اليمن: جمع عرمة، وهو كل ما بني أو سنم ليمسك الماء ويقال ذلك بلغة أهل الحجاز المسناة.
قال الفقيه الإمام القاضي: كأنها الجسور والسداد ونحوها، ومن هذا المعنى قول الأعشى:
وفي ذلك للمتأسي أسوة ومآرب... عفا عليها العرم
رخام بناه لهم حمير... إذا جاءه موارة لم يرم
ومنه قول الآخر:
ومن سبأ الحاضرين مأرب إذ... يبنون من دون سيله العرما
وقال ابن عباس وقتادة والضحاك الْعَرِمِ اسم وادي ذلك الماء بعينه الذي كان السد بني له، وقال ابن عباس أيضا إن سيل ذلك الوادي أبدا كان يصل إلى مكة وينتفع به، وقال ابن عباس أيضا الْعَرِمِ الشديد.
قال الفقيه الإمام القاضي: فكأنه صفة للسيل من العرامة، والإضافة إلى الصفة مبالغة وهي كثيرة في كلام العرب، وقالت فرقة الْعَرِمِ اسم الجرذ.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا ضعيف، وقيل الْعَرِمِ اسم المطر الشديد الذي كان عنه ذلك السيل، وقوله وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ قول فيه تجوز واستعارة وذلك أن البدل من «الخمط والأثل» لم يكن جنات، لكن هذا كما تقول لمن جرد ثوبا جيدا وضرب ظهره هذا الضرب ثوب صالح لك ونحو هذا، وقوله ذَواتَيْ تثنية ذات، و «الخمط» شجر الأراك قاله ابن عباس وغيره، وقيل «الخمط» كل شجر له شوك وثمرته كريهة الطعم بمرارة أو حمضة أو نحوه، ومنه تخمط اللبن إذا تغير طعمه، و «الأثل» ضرب من الطرفاء هذا هو الصحيح، وكذا قال أبو حنيفة في كتاب النبات، قال الطبري وقيل هو شجر شبيه بالطرفاء وقيل إنه السمر، و «السدر» معروف وهو له نبق شبه العناب لكنه في الطعم دونه بكثير، وللخمط ثمر غث هو البريد، وللأثل ثم قليل الغناء غير حسن الطعم، وقرأ ابن كثير ونافع «أكل» بضم الهمزة وسكون
414
الكاف، وقرأ الباقون بضم الهمزة وضم الكاف، وروي أيضا عن أبي عمرو سكون الكاف وهما بمعنى الجنى والثمر، ومنه قوله تعالى تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ [إبراهيم: ٢٥] أي جناها، وقرأ جمهور القراء بتنوين «أكل» وصفته بخمط وما بعده، قال أبو علي: البدل هذا لا يحسن لأن الخمط ليس بالأكل والأكل ليس بالخمط نفسه والصفة أيضا كذلك، لأن الخمط اسم لا صفة وأحسن ما فيه عطف البيان، كأنه بين أن الأكل هذه الشجرة ومنها ويحسن قراءة الجمهور أن هذا الاسم قد جاء بمجيء الصفات في قول الهذلي:
[الطويل]
عقار كماء الني ليس بخمطة ولا خلة يكوي الشروب شبابها
وقرأ أبو عمرو بإضافة «أكل» إلى «خمط» وبضم كاف «أكل خمط»، ورجح أبو علي قراءة الإضافة، وقوله ذلِكَ إشارة إلى ما أجراه عليهم، وقوله وَهَلْ نُجازِي أي يناقش ويقارض بمثل فعل قدرا بقدر لأن جزاء المؤمنين إنما هو بتفضيل وتضعيف، وأما الذي لا يزاد ولا ينقص فهو الْكَفُورَ قاله الحسن بن أبي الحسن، وقال طاوس هي المناقشة، وكذلك إن كان المؤمن ذا ذنوب فقد يغفر له ولا يجازى، والكافر يجازي ولا بد، وقد قال عليه السلام «من نوقش الحساب عذب»، وقرأ جمهور القراء «يجازى» بالياء وفتح الزاي، وقرأ حمزة والكسائي «نجازي» بالنون وكسر الزاي، «الكفور» بالنصب، وقرأ مسلم بن جندب «وهل يجزي» وحكى عنه أبو عمرو الداني أنه قرأ «وهل يجزي» بضم الياء وكسر الزاي، قال الزجاج يقال جزيت في الخير وجازيت في الشر.
قال الفقيه الإمام القاضي: فترجح هذه قراءة الجمهور.
قوله عز وجل:
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٨ الى ١٩]
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩)
هذه الآية وما بعدها وصف حالهم قبل مجيء السيل، وهي أن الله تعالى مع ما كان منحهم من الجنتين والنعمة الخاصة بهم، كان قد أصلح لهم البلاد المتصلة بهم وعمرها وجعلهم أربابها، وقدر فيها السير بأن قرب القرى بعضها من بعض حتى كان المسافر من مأرب إلى الشام يبيت في قرية ويقيل في قرية أخرى، فلا يحتاج إلى حمل زاد والْقُرَى المدن، ويقال للمجتمع الصغير قرية أيضا، وكلها من قريت أي جمعت، والقرى التي بورك فيها هي بلاد الشام بإجماع من المفسرين، و «القرى الظاهرة» هي التي بين الشام ومأرب وهي الصغار التي هي البوادي «قال ابن عباس: هي قرى عربية بين المدينة والشام وقاله الضحاك» واختلف في معنى ظاهِرَةً فقالت فرقة: معناه مستعلية مرتفعة في الآكام والظراب وهي أشرف القرى.
415
وقالت فرقة: معناه يظهر بعضها من بعض فهي أبدا في قبضة المسافر لا يخلو من رؤية شيء منها فهي ظاهرة بهذا الوجه.
قال الفقيه الإمام القاضي: والذي يظهر إليّ أن معنى ظاهِرَةً خارجة عن المدن، فهي عبارة عن القرى الصغار التي هي في ظواهر المدن، فإنما فصل بهذه الصفة بين القرى الصغار وبين القرى المطلقة التي هي المدن، وظواهر المدن ما خرج عنها في الفيافي والفحوص، ومنه قولهم نزلنا بظاهر فلانة، أي خارجا عنها، وقوله ظاهِرَةً نظير تسمية الناس إياها البادية والضاحية، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
فلو شهدتني من قريش عصابة قريش البطاح لا قريش الظواهر
يعني الخارجين عن بطحاء مكة، وفي حديث الاستسقاء وجاء أهل الضواحي يشكون الغرق، وقوله تعالى: وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ هو ما ذكرناه من أن المسافر فيها كان يبيت في قرية ويقيل في أخرى على أي طريق سلك لا يعوزه ذلك، وقوله تعالى: سِيرُوا معناه قلنا لهم، وآمِنِينَ معناه من الخوف من الناس المفسدين، وآمِنِينَ من الجوع والعطش وآفات المسافر، ثم حكى عنهم مقالة قالوها على جهة البطر والأشر وهي طلب البعد بين الأسفار والإخبار بأنها بعيدة على القراءات الأخر وذلك أن نافعا وعاصما وحمزة والكسائي قرؤوا «باعد بين أسفارنا» بكسر العين على معني الطلب، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والحسن ومجاهد «بعّد بين أسفارنا» بشد العين وكسرها على معنى الطلب أيضا، فهاتان قراءتان معناهما الأشر بأنهم ملوا النعمة بالقرب وطلبوا استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، وفي كتاب الرماني أنهم قالوا لو كان جني ثمارنا أبعد لكان أشهى وأكثر قيمة، وقرأ ابن السميفع وسفيان بن حسين وسعيد بن أبي الحسن أخو الحسن وابن الحنفية «ربّنا» بالنصب «بعد بين أسفارنا» بفتح الباء وضم العين ونصب «بين» أيضا، وقرأ سعيد بن أبي الحسن من هذه الفرقة «بين» بالرفع وإضافته إلى الأسفار وقرأ ابن عباس وأبو رجاء والحسن البصري وابن الحنفية أيضا «ربّنا» بالرفع «باعد» بفتح العين والدال، وقرأ ابن عباس وابن الحنفية أيضا وعمرو بن فائد ويحيى بن يعمر «ربّنا» بالرفع «بعّد» بفتح العين وشدها وفتح الدال فهذه القراءة معناها الأشر بأنهم استبعدوا القريب ورأوا أن ذلك غير مقنع لهم حتى كأنهم أرادوها متصلة بالدور وفي هذا تعسف وتسحب على أقدار الله تعالى وإرادته وقلة شكر على نعمته بل هي مقابلة النعمة بالتشكي والاستضرار، وفي هذا المعنى ونحوه مما اقترن بكفرهم ظلموا أنفسهم فغرقهم الله تعالى وخرب بلادهم وجعلهم أحاديث، ومنه المثل السائر «تفرقوا أيادي سبإ وأيدي سبإ» ويقال المثل بالوجهين، وهذا هو تمزيقهم كُلَّ مُمَزَّقٍ، وروي أن رسول الله قال: إن سبأ أبو عشرة قبائل فلما جاء السيل على مأرب وهو اسم نبدهم تيامن منها ستة قبائل أي إذ تبددت في بلاد اليمن وتشاءمت منها أربعة فالمتيامنة كندة والأزد وأشعر ومذحج وأنمار الذي منها بجيلة وخثعم وطائفة قيل لها حمير بقي عليها اسم الأب الأول والتي تشاءمت لخم وجذام وغسان وخزاعة نزلت تهامة ومن هذه المتشائمة أولاد قتيلة وهم الأوس والخزرج ومنها عاملة وغير ذلك، ثم أخبر تعالى محمدا ﷺ وأمته على جهة التنبيه بأن هذه القصص فيها آيات وعبر لكل مؤمن على الكمال، ومن اتصف بالصبر والشكر فهو المؤمن الذي لا تنقصه خلة جميلة بوجه.
416
قوله عز وجل:
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٠ الى ٢٢]
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢)
قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر «ولقد صدق» بتخفيف الدال «إبليس» رفعا «ظنّه» بالنصب على المصدر، وقيل على الظرفية، أي في ظنه، وقيل على المفعول على معنى أنه لما ظن عمل عملا يصدق به ذلك الظن، فكأنه إنما أراد أن يصدق ظنه، وهذا من قولك أخطأت ظني وأصبت ظني، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «صدّق» بتشديد الدال ف «الظن» على هذا مفعول ب «صدّق» وهي قراءة ابن عباس وقتادة وطلحة وعاصم والأعمش، وقرأ الزهري وأبو الهجاج «ظنّه» بالرفع، وبلال بن أبي بردة «صدق» بتخفيف الدال «إبليس» بالنصب «ظنّه» بالرفع، وقرأت فرقة «صدق» بالتخفيف «إبليس» بالرفع على البدل وهو بدل الاشتمال، ومعنى الآية أن ما قال إبليس من أنه سيفتن بني آدم ويغويهم وما قال من أن الله لا يجد أكثرهم شاكرين وغير ذلك كان ظنا منه فصدق فيهم، وأخبر الله تعالى عنهم أنهم «اتبعوه» وهو اتباع في كفر لأنه في قصة قوم كفار، وقوله مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ يدل على ذلك ومِنَ في قوله مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لبيان الجنس لا للتبعيض، لأن التبعيض يقتضي أن فريقا من المؤمنين اتبعوا إبليس، و «السلطان» الحجة، وقد يكون الاستعلاء والاستقدار، إذ اللفظ من التسلط، وقال الحسن بن أبي الحسن: والله ما كان له سيف ولا سوط ولكنه استمالهم فمالوا بتزيينه، وقوله تعالى: إِلَّا لِنَعْلَمَ أي لنعلمه موجودا، لأن العلم به متقدم أزلا، وقرأت فرقة «إلا ليعلم» بالياء على ما لم يسم فاعله، وقوله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية، آية تعجيز وإقامة حجة، ويروى أن ذلك نزل عند الجوع الذي أصاب قريشا، والجمهور على «قل ادعوا» بضم اللام وروى عباس عن أبي عمرو «قل ادعوا» بكسر اللام، وقوله الَّذِينَ يريد الملائكة والأصنام وذلك أن قريشا والعرب كان منهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يقول نعبدها لتشفع لنا ونحو هذا، فنزلت هذه الآية معجزة لكل منهم، ثم جاء بصفة هؤلاء الذين يدعونهم آلهة من أنهم لا يَمْلِكُونَ ملك الاختراع مِثْقالَ ذَرَّةٍ في السماء وَلا فِي الْأَرْضِ وأنهم لا شرك لهم فيهما وهذان فيهما نوعا الملك إما استبدادا وإما مشاركة، فنفى عنهم جميع ذلك، ونفى أن يكون منهم لله تعالى معين في شيء من قدرته و «الظهير» المعين، ثم تقرر في الآية بعد أن الذين يظنون أنهم يشفعون لهم لا تصح منهم شفاعة لهم إذ هؤلاء كفرة ولا يأذن الله تعالى في الشفاعة في كافر.
قوله عز وجل:

[سورة سبإ (٣٤) : آية ٢٣]

وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣)
المعنى أن كل من دعوتم إلها من دون الله لا يملكون مثقال ذرة ولا تنفع شفاعتهم إلا بإذن فيمن آمن، فكأنه قال ولا هم شفعاء على الحد الذي ظننتم أنتم واختلف المتأولون في قوله تعالى: إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ فقالت فرقة معناه لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أن يشفع، فيه، وقالت فرقة معناه لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أن يشفع هو.
قال القاضي أبو محمد: واللفظ يعمهما، لأن الإذن إذا انفرد للشافع فلا شك أن المشفوع فيه معين له، وإذا انفرد للمشفوع فيه فالشافع لا محالة عالم معين لذلك، وانظر أن اللام الأولى تشير إلى المشفوع فيه من قوله لِمَنْ تقول شفعت لفلان، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «أذن» بضم، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر «أذن» بفتحها، والضمير في قُلُوبِهِمْ عائد على الملائكة الذين دعوهم آلهة، ففي الكلام حذف يدل عليه الظاهر فكأنه قال ولا هم شفعاء كما تحسبون أنتم بل هم عبدة مستسلمون أبدا حتى إذا فزع عن قلوبهم.
قال الفقيه الإمام القاضي: وتظاهرت الأحاديث عن رسول الله ﷺ أن هذه الآية أعني قوله حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ إنما هي الملائكة إذا سمعت الوحي إلى جبريل وبالأمر يأمر به سمعت كجر سلسلة الحديد على صفوان فتفزع عند ذلك تعظيما وهيبة، وقيل خوف أن تقوم الساعة فإذا فزع ذلك فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ أي أطير الفزع عنها وكشف فيقول بعضهم لبعض ولجبريل ماذا قالَ رَبُّكُمْ فيقول المسئولون قال الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ وبهذا المعنى من ذكر الملائكة في صدر الآيات تتسق هذه الآية على الأولى، ومن لم يشعر أن الملائكة مشار إليهم من أول قوله الَّذِينَ زَعَمْتُمْ [سبأ: ٢٢] لم تتصل لهم هذه الآية بما قبلها فلذلك اضطرب المفسرون في تفسيرها حتى قال بعضهم في الكفار بعد حلول الموت فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ بفقد الحياة فرأوا الحقيقة وزال فزعهم من شبه ما يقال لهم في حياتهم، فيقال لهم حينئذ ماذا قالَ رَبُّكُمْ فيقولون قال الْحَقَّ يقرون حين لا ينفعهم الإقرار، وقالت فرقة الآية في جميع العالم، وقوله حَتَّى إِذا يريد في القيامة.
قال الفقيه الإمام القاضي: والتأويل الأول في الملائكة هو الصحيح وهو الذي تظاهرت به الأحاديث، وهذان بعيدان، وقرأ جمهور القراء «فزع» بضم الفاء ومعناه أطير الفزع عنهم، وهذه الأفعال جاءت مخالفة لسائر الأفعال، لأن فعل أصلها الإدخال في الشيء كعلمت ونحوها وقولك: فزعت زيدا معناه أزلت الفزع عنه، وكذلك جزعته معناه أزلت الجزع عنه، ومنه الحديث فدخل ابن عباس على عمر بجزعة ومنه مرضت فلانا أي أزلت عنه المرض.
قال الفقيه الإمام القاضي: وانظر أن مطاوع هذه الأفعال يلحق بتحنث وتحرج وتفكه وتأثم وتخوف، وقرأ ابن عامر «فزّع» بفتح الفاء وشد الزاي وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس وطلحة وأبي المتوكل الناجي واليماني، وقرأ الحسن البصري بخلاف «فزع» بضم الفاء وكسر الزاي وتخفيفها كأنه بمعنى أقلع، ومن قال بأنها في العالم أجمعه قال معنى هذه القراءة فزع الشيطان عن قلوبهم أي بادر، وقرأ أيوب عن الحسن أيضا
«فرّغ» بالفاء المضمومة والراء المشددة غير منقوطة والغين المنقوطة من التفريغ، قال أبو حاتم رواها عن الحسن نحو من عشرة أنفس وهي قراءة أبي مجلز.
وقرأ مطر الوراق عن الحسن «فزع» على بناء الفعل للفاعل وهي قراءة مجاهد والحسن أيضا «فرغ» بالراء غير منقوطة مخففة من الفراغ، قال أبو حاتم وما أظن الثقات رووها عن الحسن على وجوه إلا لصعوبة المعنى عليه فاختلفت ألفاظ فيه، قرأ عيسى بن عمر «حتى إذا افرنقع» وهي قراءة ابن مسعود ومعنى هذا كله وقع فراغها من الفزع والخوف، ومن قرأ شيئا من هذا على بناء الفعل للمفعول فقوله عز وجل عَنْ قُلُوبِهِمْ في موضع رفع، ومن قرأ على بناء الفعل للفاعل فقوله عَنْ قُلُوبِهِمْ في موضع نصب، وافرنقع معناه تفرق، وقوله ماذا يجوز أن تكون «ما» في موضع نصب ب قالَ ويصح أن تكون في موضع رفع بمعنى أي شيء قال، والنصب في قوله الْحَقَّ على نحوه في قوله ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً [النحل: ٣٠] لأنهم حققوا أن ثم ما أنزل، وحققوا هنا أن ثم ما قيل، وقولهم وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ تمجيد وتحميد.
قوله عز وجل:
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٤ الى ٢٧]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧)
أمر الله تعالى نبيه على جهة الاحتجاج وإقامة الدليل على أن الرزاق لهم من السماوات والأرض من هو ثم أمره أن يقتضب الاحتجاج بأن يأتي جواب السؤال إذ هم في بهتة ووجمة من السؤال، وإذ لا جواب لهم ولا لمفطور إلا بأن يقول هو الله، وهذه السبيل في كل سؤال جوابه في غاية الوضوح، لأن المحتج يريد أن يقتضب ويتجاوز إلى حجة أخرى يوردها، ونظائر هذا في القرآن كثير وقوله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ تلطف في الدعوة والمحاورة، والمعنى كما تقول لمن خالفك في مسألة أحدنا يخطىء، أي تثبت وتنبه، والمفهوم من كلامك أن مخالفك هو المخطئ، وكذلك هذا معناه لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فلينتبه، والمقصد أن الضلال في حيز المخاطبين وحذف أحد الخبرين لدلالة الباقي عليه، وقال أبو عبيدة أَوْ في الآية بمعنى واو النسق، والتقدير «وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين» وهما خبران غير مبتدأين.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا القول غير متجه واللفظ لا يساعده وإن كان المعنى على كل قول يقتضي أن الهدى في حيز المؤمنين والضلال في حيز الكافرين، وقوله تعالى: قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا الآية مهادنة ومتاركة منسوخة بآية السيف، وقوله عز وجل قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا الآية إخبار بالبعث من
القبور، وقوله يَفْتَحُ معناه يحكم والفتاح القاضي وهي مشهورة في لغة اليمن، وهذا كله منسوخ بآية السيف، وقوله تعالى قُلْ أَرُونِيَ يحتمل أن تكون رؤية قلب فيكون قوله شُرَكاءَ مفعولا ثالثا وهذا هو الصحيح أي أروني بالحجة والدليل كيف وجه الشركة وقالت فرقة هي رؤية بصر وشُرَكاءَ حال من الضمير المفعول ب أَلْحَقْتُمْ العائد على الَّذِينَ.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا ضعيف لأن استدعاء رؤية العين في هذا لا غناء له، وقوله كَلَّا رد لما تقرر من مذهبهم في الإشراك بالله تعالى ووصف نفسه عز وجل باللائق به من العزة والحكمة.
قوله عز وجل:
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٨ الى ٣٠]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠)
هذا إعلام من الله تعالى بأنه بعث محمدا ﷺ إلى جميع العالم، و «الكافة» الجمع الأكمل من الناس، وكَافَّةً نصب على الحال وقدمها للاهتمام، وهذه إحدى الخصال التي خص بها محمد ﷺ من بين الأنبياء التي حصرها في قوله «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأوتيت جوامع الكلم وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وبعث كل نبي إلى خاص من الناس وبعثت إلى الأسود والأحمر»، وفي هذه الخصال زيادة في كتاب مسلم، وقوله تعالى: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يريد بها العموم في الكفرة، والمؤمنون هم الأقل، ثم حكى عنهم مقالتهم في الهزء بأمر البعث واستعجالهم على معنى التكذيب بقولهم مَتى هذَا الْوَعْدُ فأمر الله تعالى نبيه أن يخبرهم عن مِيعادُ هو يوم القيامة لا يتأخر عنه أحد ولا يتقدمه، قال أبو عبيدة: «الوعد والوعيد والميعاد» بمعنى واحد، وخولف في هذا، والذي عليه الناس أن «الوعد» في الخير، و «الوعيد» في المكروه و «الميعاد» يقع لهذا ولهذا.
قال الفقيه الإمام القاضي: وأضاف الميعاد إلى اليوم تجوزا من حيث كان فيه وتحتمل الآية أن يكون استعجال الكفرة لعذاب الدنيا ويكون الجواب عن ذلك أيضا ولم يجر للقيامة ذكر على هذا التأويل.
قوله عز وجل:
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢)
حكيت في هذه الآية مقالة قالها بعض قريش وهي أنهم لا يؤمنون بالقرآن ولا بما بين يديه من التوراة
والإنجيل والزبور فكأنهم كذبوا بجميع كتب الله وإنما فعلوا هذا لما وقع الاحتجاج عليهم بما في التوراة من أمر محمد ﷺ وقالت فرقة: «الذي بين يديه» هي الساعة والقيامة.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا خطأ قائله لم يفهم أمر بين اليد في اللغة وأنه المتقدم في الزمان وقد بيناه فيما تقدم، ثم أخبر الله تعالى نبيه عن حالة الظالمين في صيغة التعجيب من حالهم، وجواب لَوْ محذوف، وقوله يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ أي يرد، أي يتحاورون ويتجادلون، ثم فسر ذلك الجدل بأن الأتباع والضعفاء من الكفرة يقولون للكفار وللرؤوس على جهة التذنيب والتوبيخ ورد اللائمة عليهم لَوْلا أَنْتُمْ لآمنا نحن واهتدينا، أي أنتم أغويتمونا وأمرتمونا بالكفر، فقال لهم الرؤساء على جهة التقرير والتكذيب أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ أي دخلتم في الكفر ببصائركم، وأجرمتم بنظر منكم، ودعوتنا لم تكن ضربة لازب عليكم لأنا دعوناكم بغير حجة ولا برهان.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا كله يتضمنه اللفظ.
قوله عز وجل:
[سورة سبإ (٣٤) : آية ٣٣]
وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣)
هذه مراجعة من الأتباع للرؤساء حين قالوا لهم: إنما كفرتم ببصائر أنفسكم قال المستضعفون بل كفرنا بمكركم بنا بالليل والنهار «وأضاف المكر إلى الليل والنهار من حيث هو فيهما» ولتدل هذه الإضافة على الدؤوب والدوام، وهذه الإضافة كما قالوا «ليل نائم ونهار صائم»، وأنشد سيبويه «فنام ليلي وتجلى همي»، وهذه قراءة الجمهور، وقرأ قتادة بن دعامة «بل مكر الليل والنهار» بتنوين «مكر» ونصب «الليل والنهار» على الظرف، وقرأ سعيد بن جبير «بل مكر» بفتح الكاف وشد الراء من كر يكر وبالإضافة إلى «الليل والنهار» وذكر عن يحيى بن يعمر وكأن معنى هذه الآية الإحالة على طول الأمل والاغترار بالأيام مع أمر هؤلاء الرؤساء بالكفر بالله، و «الند» المثيل والشبيه، والضمير في قوله أَسَرُّوا عام جميع من تقدم ذكره من المستضعفين والمستكبرين، أَسَرُّوا معناه اعتقدوها في نفوسهم، ومعتقدات النفس كلها سر لا يعقل غير ذلك، وإنما يظهر ما يصدر عنها من كلام أو قرينة، وقال بعض الناس أَسَرُّوا معناه أظهروا وهي من الأضداد.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا كلام من لم يعتبر المعنى أما نفس الندامة فلا تكون إلا مستسرة ضرورة، وأما الظاهر عنها فغيرها ولم يثبت قط في لغة أن أسر من الأضداد، وقوله تعالى: لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ أي وافوه وتيقنوا حصولهم فيه وباقي الآية بين.
قوله عز وجل:
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٣٤ الى ٣٧]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧)
421
هذه تسلية للنبي ﷺ عن فعل قريش وقولها أي هذه يا محمد سيرة الأمم فلا يهمنك أمر قومك، و «القرية» المدينة، و «المترف» المنع البطال الغني القليل تعب النفس والجسم فعادتهم المبادرة بالتكذيب، وقوله وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً يحتمل أن يعود الضمير على المترفين ويكون ذلك من قولهم مع تكذيبهم، ثم لما كانت قريش مثلهم أمره الله تعالى بأن يقول إِنَّ رَبِّي الآية، ويحتمل أن يعود الضمير في قالُوا لقريش ويكون كلام المترفين قد تم، ثم تطرد الآية بعد، وقولهم نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً معناه الاحتجاج أي أن الله لم يعطنا هذا وقدره لنا إلا لرضاء عنا وعن طريقنا ونحن لا نعذب البتة إذ الله الذي تزعم أنت علمه بجميع الأشياء وإحاطته قد قدر علينا النعم، فهو إذن راض عنا، وقال بعض المفسرين معنى قولهم وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أي بالفقر.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا ليس كالأول في القوة فأمر الله تعالى نبيه أن يقول: إن الأمر ليس كما ظنوا بل بسط الرزق وقدره معلق بالمشيئة في كافر ومؤمن وليس شيء من ذلك دليلا على رضى الله تعالى والقرب منه لأنه قد يعطي ذلك إملاء واستدراجا، وكثير من الناس لا يعلم ذلك كأنتم أيها الكفار، وقرأت فرقة «ويقدر»، وقرأت فرقة «ويقدّر» بضم الباء وفتح القاف وشد الدال وهي راجعة إلى معنى التضييق الذي هو ضد البسط، ثم أخبرهم بأن أموالهم وأولادهم ليست بمقربة من الله زُلْفى، والزلفى مصدر بمعنى القرب، وكأنه قال تقربكم عندنا تقريبا، وقرأ الضحاك «زلفى» بفتح اللام وتنوين الفاء، وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ آمَنَ استثناء منقطع، ومَنْ في موضع نصب بالاستثناء، وقال الزجاج مَنْ بدل من الضمير في تُقَرِّبُكُمْ، وقال الفراء مَنْ في موضع رفع، وتقدير الكلام ما هو المقرب إلا من آمن، وقرأ الجمهور «جزاء الضعف» بالإضافة، وقرأ قتادة «جزاء الضعف» برفعها، وحكى عنه الداني «جزاء» بالنصب «الضعف» بنصب الفاء، والضِّعْفِ هنا اسم جنس أي بالتضعيف إذ بعضهم يجازى إلى عشرة وبعضهم أكثر إلى سبعمائة بحسب الأعمال. ومشيئة الله تعالى فيها، وقرأ جمهور القراء «في الغرفات» بالجمع، وقرأ حمزة وحده «في الغرفة» على اسم الجنس يراد به الجمع، ورويت عن الأعمش وهما في القراءة حسنتان، قال أبو علي: وقد يجيء هذا الجمع بالألف والتاء «الغرفات» ونحوه للتكثير ومنه قول حسان بن ثابت:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
فلم يرد إلا كثرة جفان.
قال الفقيه الإمام القاضي: وتأمل نقد الأعشى في هذا البيت، وقرأ الأعمش والحسن وعاصم بخلاف في «الغرفات» بسكون الراء.
422
قوله عز وجل:
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩)
لما ذكر تعالى المؤمنين العاملين الصالحات وذكر ثوابهم عقب بذكر ضدهم وذكر جزائهم ليظهر تباين المنازل، وقرأت فرقة «معاجزين» (وقرأت فرقة معجزين)، وقد تقدم تفسيرها في صدر السورة، ومُحْضَرُونَ من الإحضار والإعداد، ثم كرر القول ببسط الرزق وقدره تأكيدا وتبيينا وقصد به هاهنا رزق المؤمنين وليس سوقه على المعنى الأول الذي جلب للكافرين، بل هذا هنا على جهة الوعظ والتزهيد في الدنيا والحض على النفقة في الطاعات، ثم وعد بالخلف في ذلك وهو بشرط الاقتصاد والنية في الطاعة ودفع المضرات وعد منجز إما في الدنيا وإما في الآخرة، وروى أبو هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: «قال الله لي أنفق أنفق عليك» وفي البخاري أن ملكا ينادي كل يوم اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول ملك آخر: اللهم أعط ممسكا تلفا، وقال مجاهد المعنى إن كان خلف فهو موليه وميسره، وقد لا يكون الخلف، وأما قوله خَيْرُ الرَّازِقِينَ فمن حيث يقال في الإنسان إنه يرزق عياله، والأمير جنده، لكن ذلك من مال يملك عليهم والله تعالى من خزائن لا تفنى ومن إخراج من عدم إلى وجود، وقرأ الأعمش «ويقدّر» بضم الياء وشد الدال.
قوله عز وجل:
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٤٠ الى ٤٣]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣)
هذه آية وعيد للكفار، والمعنى واذكر يوم نحشرهم، وقرأ جمهور القراء «نحشرهم جميعا ثم نقول» بالنون فيهما، ورواها أبو بكر عن عاصم، وقرأ حفص عن عاصم «ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول» بالياء فيهما، وذكرها أبو حاتم عن أبي عمرو، والقول للملائكة هو توقيف تقوم منه الحجة على الكفار عبدتهم وهذا نحو قوله تعالى لعيسى عليه السلام أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [المائدة: ١١٦] وإذا قال الله تعالى للملائكة هذه المقالة قالت الملائكة سُبْحانَكَ أي تنزيها لك عما فعل هؤلاء الكفرة، ثم برؤوا أنفسهم بقولهم أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ يريدون البراءة من أن يكون لهم رضى أو علم أو مشاركة في أن يعبدهم البشر، ثم قرروا أن البشر إنما عبدت الجن برضى الجن وبإغوائها للبشر فلم تنف الملائكة عبادة البشر
إياها وإنما قررت أنها لم تكن لها في ذلك مشاركة، ثم ذنبت الجن، وعبادة البشر للجن هي فيما نعرفه نحن بطاعتهم إياهم وسماعهم من وسوستهم وإغوائهم، فهذا نوع من العبادة، وقد يجوز إن كان في الأمم الكافرة من عبد الجن، وفي القرآن آيات يظهر منها أن الجن عبدت في سورة الأنعام وغيرها، ثم قال تعالى: فَالْيَوْمَ وفي الكلام حذف تقديره فيقال لهم أي من عبد ومن عبد اليوم لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً، وقوله وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا ذكر الله تعالى في هذه الآية أقوال الكفرة وأنواع كلامهم عند ما يقرأ عليهم القرآن ويسمعون حكمته وبراهينه البينة، فقائل طعن على النبي ﷺ بأنه يقدح في الأوثان ودين الآباء، وقائل طعن عليه بأن هذا القرآن مفترى أي مصنوع من قبل محمد ﷺ ويدعي أنه من عند الله، وقائل طعن عليه بأن ما عنده من الرقة واستجلاب النفوس واستمالة الأسماع إنما هو سحر به يخلب ويستدعى، تعالى الله عن أقوالهم وتقدست شريعته عن طعنهم.
قوله عز وجل:
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٤٤ الى ٤٦]
وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦)
معنى هذه الآية أنهم يقولون بآرائهم في كتاب الله فيقول بعضهم سحر، وبعضهم افتراء، وذلك منهم تسور لا يستندون فيه إلى إثارة علم ولا إلى خبر من يقبل خبره، فإنا ما آتيناهم كتبا يدرسونها ولا أرسلنا إليهم نذيرا فيمكنهم أن يدعوا أن أقوالهم تستند إلى أمره، وقرأ جمهور الناس «يدرسونها» بسكون الدال، وقرأ أبو حيوة «يدّرسونها» بفتح الدال وشدها وكسر الراء- والمعنى وما أرسلنا من نذير يشافههم بشيء ولا يباشر أهل عصرهم ولا من قرب من آبائهم، وإلا فقد كانت النذارة في العالم وفي العرب مع شعيب وصالح وهود ودعوة الله وتوحيده قائم لم تخل الأرض من داع إليه، فإنما معنى هذه الآية مِنْ نَذِيرٍ يختص بهؤلاء الذين بعثناك إليهم، وقد كان عند العرب كثير من نذارة إسماعيل، والله تعالى يقول: إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيّا ولكن لم يتجرد للنذارة وقاتل عليها إلا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم مثل لهم بالأمم المكذبة قبلهم، وقوله وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ يحتمل ثلاثة معان: أحدها أن يعود الضمير في بَلَغُوا على قريش، وفي آتَيْناهُمْ على الأمم الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، والمعنى من القوة والنعم والظهور في الدنيا، قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد، والثاني أن يعود الضمير في بَلَغُوا على الأمم المتقدمة وفي آتَيْناهُمْ على قريش، والمعنى من الآيات والبينات والنور الذي جئتهم به، والثالث أن يعود الضميران على الأمم المتقدمة، والمعنى من شكر النعمة وجزاء المنة و «المعشار»، ولم يأت هذا البناء إلا في الشعرة والأربعة فقالوا: مرباع ومعشار وقال قوم: المعشار عشر العشر.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ليس بشيء، والنكير مصدر كالإنكار في المعنى وكالعديد في الوزن
وسقطت الياء منه تخفيفا لأنها آخر آية، و «كيف» تعظيم للأمر وليست استفهاما مجردا، وفي هذا تهديد لقريش أي أنّهم معرضون لنكير مثله، ثم أمر تعالى نبيه ﷺ أن يدعوهم إلى عبادة الله والنظر في حقيقة نبوته هو ويعظهم بأمر مقرب للأفهام فقوله بِواحِدَةٍ معناه بقضية واحدة إيجازا لكم وتقريبا عليكم، وقوله أَنْ مفسرة، ويجوز أن تكون بدلا من «واحدة»، وقوله تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى يحتمل أن يريد بالطاعة والإخلاص والعبادة فتكون الواحدة التي وعظ بها هذه، ثم عطف عليها أن يتفكروا في أمره هل هو به جنة أو هو بريء من ذلك والوقف عند أبي حاتم ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا.
قال الفقيه الإمام القاضي: فيجيء ما بِصاحِبِكُمْ نفيا مستأنفا وهو عند سيبويه جواب ما تنزل منزلة القسم لأن تفكر من الأفعال التي تعطي التحقيق كتبين وتكون الفكرة على هذا في آيات الله والإيمان به، ويحتمل أن يريد بقيامهم أن يكون لوجه الله في معنى التفكر في محمد ﷺ فتكون الواحدة التي وعظ بها أن يقوموا لمعنى الفكرة- في أمر صاحبهم، وكأن المعنى أن يفكر الواحد بينه وبين نفسه ويتناظر الاثنان على جهة طلب التحقيق، هل بمحمد ﷺ جنة أم لا؟ وعلى هذا لا يوقف على تَتَفَكَّرُوا وقدم المثنى لأن الحقائق من متعاضدين في النظر أجدى من فكرة واحدة، فإذا انقدح الحق بين الاثنين فكر كل واحد منهما بعد ذلك فيزيد بصيرة وقد قال الشاعر: [الطويل]
إذا اجتمعوا جاءوا بكل غريبة فيزداد بعض القوم من بعضهم علما
وقرأ يعقوب «ثم تفكروا» بتاء واحدة، وقال مجاهد بواحدة معناه بلا إله إلا الله وقيل غير هذا مما لا تعطيه الآية، وقوله بَيْنَ يَدَيْ مرتب على أن محمدا ﷺ جاء في الزمن من قبل العذاب الشديد الذي توعدوا به.
قوله عز وجل:
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٤٧ الى ٥١]
قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١)
أمره الله تعالى في هذه الآية بالتبري من طلب الدنيا وطلب الأجر على الرسالة وتسليم كل دنيا إلى أربابها والتوكل على الله في الأجر وجزاء الجد والإقرار بأنه شهيد على كل شيء من أفعال البشر وأقوالهم وغير ذلك، وقوله يَقْذِفُ بِالْحَقِّ يريد بالوحي وآيات القرآن واستعار له القذف من حيث كان الكفار يرمون بآياته وحكمه، وقرأ جمهور القراء «علّام» بالرفع أي هو علام، وقرأ عيسى بن عمرو ابن أبي إسحاق «علّام» بالنصب إما على البدل من اسم إِنَّ وإما على المدح، وقرأ الأعمش «بالحق وهو علام الغيوب»، وقرأ عاصم «الغيوب» بكسر الغين، وقوله قُلْ جاءَ الْحَقُّ يريد الشرع وأمر الله ونهيه، وقال قوم
يعني السيف، وقوله وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ، قالت فرقة: الْباطِلُ هو غير الْحَقُّ من الكذب والكفر ونحوه استعار له الإبداء والإعادة ونفاهما عنه، كأنه قال وما يصنع الباطل شيئا، وقالت فرقة الْباطِلُ الشيطان، والمعنى ما يفعل الشيطان شيئا مفيدا أي ليس يخلق ولا يرزق، وقالت فرقة ما استفهام كأنه قال وأي شيء يصنع الباطل؟ وقرأ جمهور الناس «ضللت» بفتح اللام «فإنما أضل» بكسر الضاد، وقرأ الحسن وابن وثاب «ضللت» بكسر اللام «أضل» بفتح الضاد وهي لغة بني تميم، وقوله فَبِما يحتمل أن تكون «ما» بمعنى الذي، ويحتمل أن تكون مصدرية، وقَرِيبٌ معناه بإحاطته وإجابته وقدرته، واختلف المتأولون في قوله تعالى: وَلَوْ تَرى الآية، فقال ابن عباس والضحاك: هذا في عذاب الدنيا، وروي أن ابن أبزى قال ذلك في جيش يغزو الكعبة فيخسف بهم في بيداء من الأرض ولا ينجو إلا رجل من جهينة فيخبر الناس بما نال الجيش قالوا بسببه قيل «وعند جهينة الخبر اليقين»، وهذا قول سعيد، وروي في هذا المعنى حديث مطول عن حذيفة وذكر الطبري أنه ضعيف السند مكذوب فيه على داود بن الجراح، وقال قتادة: ذلك في الكفار عند الموت، وقال ابن زيد: ذلك في الكفار في بدر ونحوها، وقال الحسن بن أبي الحسن: ذلك في الكفار عند خروجهم من القبور في القيامة.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا أرجح الأقوال عندي، وأما معنى الآية فهو التعجيب من حالهم إذا فزعوا من أخذ الله إياهم ولم يتمكن لهم أن يفوت منهم أحد، وقوله مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ معناه أنهم للقدرة قريب حيث كانوا قبل من تحت الأقدام، وهذا يتوجه على بعض الأقوال والذي يعم جميعها أن يقال إن الأخذ يجيئهم من قرب في طمأنينتهم ويعقبها بينا الكافر يؤمل ويظن ويترجى إذ غشيه الأخذ، ومن غشيه أخذ من قريب، فلا حيلة له ولا روية، وقرأ الجمهور «وأخذوا»، وقرأ طلحة بن مصرف «فلا فوت وأخذ»، كأنه قال وجاء لهم أخذ من مكان قريب.
قوله عز وجل:
[سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٥٢ الى ٥٤]
وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤)
الضمير في بِهِ عائد على الله تعالى، وقيل على محمد ﷺ وشرعه والقرآن، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم وعامة القراء «التناوش» بضم الواو دون همز، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم أيضا «التناؤش» بالهمز، والأولى معناها التناول من قولهم ناش ينوش إذا تناول «تناوش القوم في الحرب إذا تناول بعضهم بعضا بالسلاح، ومنه قول الراجز: [الرجز]
فهي تنوش الحوض نوشا من علا نوشا به تقطع أجواز الفلا
فكأنه قال وأنى لهم تناول مرادهم وقد بعدوا عن مكان إمكان ذلك، وأما التناؤش بالهمز فيحتمل أن
426
يكون من التناؤش الذي تقدم تفسيره وهمزت الواو لما كانت مضمونة وكانت ضمتها لازمة، كما قالوا أقتت وغير ذلك، ويحتمل أن يكون من الطلب، تقول اتناشت الشيء إذا طلبته من بعد، وقال ابن عباس تناؤش الشيء رجوعه حكاه عنه ابن الأنباري وأنشد: [الوافر]
تمنى أن تؤوب إليك ميّ وليس إلى تناوشها سبيل
فكأنه قال في الآية: وأنى لهم طلب مرادهم وقد بعد، قال مجاهد المعنى من الآخرة إلى الدنيا، وقرأ جمهور الناس «ويقذفون» بفتح الياء وكسر الذال على إسناد الفعل إليهم، أي يرجمون بظنونهم ويرمون بها الرسل وكتاب الله، وذلك غيب عنهم في قولهم سحر وافتراء وغير ذلك، قاله مجاهد، وقال قتادة قذفهم بالغيب هو قولهم لا بعث ولا جنة ولا نار، وقرأ مجاهد «ويقذفون» بضم الياء وفتح الذال على معنى ويرجمهم الوحي بما يكرهون من السماء، وقوله وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ قال الحسن معناه من الإيمان والتوبة والرجوع إلى الإتابة والعمل الصالح، وذلك أنهم اشتهوه في وقت لا تنفع فيه التوبة، وقاله أيضا قتادة، وقال مجاهد معناه وحيل بينهم وبين نعيم الدنيا ولذاتها، وقيل حيل بينهم وبين الجنة ونعيمها، وهذا يتمكن جدا على القول بأن الأخذ والفزع المذكورين هو في يوم القيامة، وقوله كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ الأشياع الفرق المتشابهة، فأشياع هؤلاء هم الكفرة من كل أمة، وهو جمع شيعة، وشيع، وقوله مِنْ قَبْلُ يصلح على بعض الأقوال المتقدمة تعلقه بفعل، ويصلح على قول من قال إن الفزع هو في يوم القيامة تعلقه بِأَشْياعِهِمْ أي بمن اتصف بصفتهم من قبل في الزمن الأول، لأن ما يفعل بجميعهم إنما هو في وقت واحد. لا يقال فيه مِنْ قَبْلُ، و «الشك المريب» أقوى ما يكون من الشك وأشده إظلاما.
427
Icon