تفسير سورة الأحقاف

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة الأحقاف من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ حـم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ ؛ قد تقدَّمَ تفسيرهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ ﴾ ؛ ظاهرُ المعنى، ﴿ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ ؛ ينتهِي إليه وهو يومُ القيامةِ تنتهي إليه السَّمواتُ والأرض، وهذا إشارةٌ إلى فنائِهما وانقضائِهما.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ ﴾ ؛ أي مُعرِضون عمَّا خُوِّفُوا به من القُرآنِ، ولا يتدبَّرون ولا يتفكَّرون.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ ؛ من الملائكةِ والأصنامِ، وتدَّعون أنَّها آلهةٌ، ﴿ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأَرْضِ ﴾ ؛ أي أخبرونِي ماذا خلَقُوا من الأرضِ، لأنَّ الخالقَ هو الذي يستحقُّ العبادةَ، ﴿ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ﴾ أمْ لَهم نصيبٌ في خلقِ السَّموات، فذلك ما أشرَكتُموهم في عبادةِ الله تعالى، ﴿ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَـاذَآ ﴾ ؛ القرآنِ فيه برهانُ ما تدَّعون، ﴿ أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ ﴾ ؛ معناه ائتُونِي ببقية من علمِ المتقدِّمين، ﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾.
وَقِيْلَ : الأثَارَةُ ؛ والأَثْرَةُ - بإسكان الثاء - والأَثَرَةُ - بفتحِها - معناها : الرِّوايَةُ من العُلماءِ، يقالُ : فلانٌ يَأْثُرُ الحديثَ عن فلانٍ، ومنهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنْ هَـاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴾[المدثر : ٢٤]، والعلمُ الْمَأْثُورُ هو الْمَرْويُّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ ؛ أي أبْعَدُ ذهاباً عن الصَّواب ممن يدعُو مِن دون الله مَن لا يستجيبُ دعاءً ولو دعاهُ، ﴿ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ يعني الأصنامَ، ﴿ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ ﴾ أي عن دُعاءِ مَن دعاها ؛ لأنَّها جَمَادٌ لا تسمعُ ولا تُبصِرُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ﴾ معناهُ : وإذا جُمِعَ الناسُ يومَ القيامة صارتِ الأصنامُ أعداءً لِمَن عبَدَها في الدُّنيا، كما قالَ تعالى :﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ ﴾[فاطر : ١٤]، وقال :﴿ تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ﴾[القصص : ٦٣].
وقولهُ تعالى :﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ هَـاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ ؛ ويقولون : إنَّ مُحَمَّداً أتَى به من نفسهِ، وهو قوله :﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ﴾ ؛ أي لايَقدِرون أن يُردُّوا عنِّي عذابَهُ، فكيف أفتَرِي على اللهِ لأجلِكم وأنتُم لا تقدِرُون على دفعِ عِقابهِ عنِّي إن افتريتُ عليهِ شيئاً ؟ وهو قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ ﴾ ؛ أي اللهُ أعلَمُ بما تَقولون في القرآنِ وتَخوضُونَ فيه من التَّكذيب به والقولِ فيه إنه سحرٌ وكهانةٌ، ﴿ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ﴾ ؛ أي القرآنُ جاءَ من عندِ الله، ﴿ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ ؛ في تأخيرِ العذاب عنكم حين لَمْ يعجِّلْ عليكم بالعقوبةِ.
قال الزجَّاجُ :(هَذا دُعَاءٌ لَهُمْ ؛ أيِ التَّوْبَةُ، مَعْنَاهُ : أنَّ مَنْ أتَى مِنَ الْكَبَائِرِ بمِثْلِ مَا أتَيْتُمْ بهِ مِنَ الافْتِرَاءِ عَلَى اللهِ ثُمَّ تَابَ، فَاللهُ غَفُورٌ رَحيمٌ، أيْ غَفُورٌ لَهُ رَحِيمٌ بهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ ﴾ ؛ أي ما أنا أوَّلُ رَسُولٍ أُرسِلَ إلى الناسِ، قد بُعِثَ قَبلِي كثيرٌ من الرُّسل. والبديعُ من كلِّ شيء المبتَدِعُ، ﴿ وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ ﴾ ؛ أيَتركُني بمكَّة أو يُخرِجُني منها أو يُخرِجكم. وَقِيْلَ : معناهُ : لا أدري أموتُ أم أُقتَلُ، ولا أدري أيُّها المكذِّبون أتُرمَون بالحجارةِ من السَّماء أو يُخسَفُ بكم.
وهذا إنَّما هو في الدُّنيا، فأمَّا في الآخرةِ فقد عَلِمَ أنه في الجنَّة، وأنَّ مَن كذبَهُ في النار، ألاَ تراهُ يقول :﴿ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ﴾ ؛ وقد أُوحيَ إليه ما يصيرُ إليه الكافرُ والمؤمنُ في الآخرةِ. وَقِيْلَ : معناهُ : وما أدري ماذا أوْمَرُ به في الكفَّار من حربٍ أو سلِمٍ، وما أدري ماذا يفعَلُ اللهُ بهم أيُعَاجِلُهم اللهُ بالعقوبةِ أو يؤخِّرُها عنهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ﴾ أي ما أتَّبعُ إلاَّ القرآنَ ولا أبتَدِعُ من عندي شيئاً، ﴿ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾ ؛ أي أُنذِرُكم وأُبَيِّنُ لكم الشرائعَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ﴾ ؛ ثم اختلَفُوا، والمرادُ بشاهدٍ في هذه الآيةِ فقالَ مَن ذهبَ إلى أنَّ هذه السُّورةَ مكِّيةٌ كلُّها : أنَّ المرادَ به يَامِينَ بن يامين، فإنَّ عبدَالله بنَ سلام مِمَّن أسلمَ بالمدينةِ، وهذا شاهدٌ قَدِمَ بمكَّة فآمنَ. وَقِيْلَ : إنَّ المرادَ بالشاهدِ مُوسَى عليه السلام كان مِن بني إسرائيلَ، وكان شهادتهُ للنبيِّ ﷺ في التوراةِ من تصديقِ القُرآنِ، ومثل القرآن هو التوراةُ.
وقال ابنُ عبَّاس :(هُوَ عَبْدُاللهِ بْنُ سَلاَمٍ)، رُوي :" أنَّهُ قَدِمَ مِنَ الشَّامِ، فأتَى النَّبيَّ عليه السلام لَيْلاً وشَهِدَ أنَّ نَعتَهُ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ فَآمَنَ بهِ، ثم قالَ : أخْبئْنِي فِي الْبَيْتِ، ثُمَّ أحْضِرِ الْيَهُودَ سَلْهُمْ عَنِّي، فَإنَّهُمْ سَيَذْكُرُونَنِي عِنْدَكَ ويُخْبرُونَكَ بمَكَانِي مِنَ الْعِلْمِ.
فَفَعَلَ ذلِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَاسْتَخْبَرَ الْيَهُودَ وَقَالَ لَهُمْ :" مَا تَقُولُونَ فِي عَبْدِاللهِ ابْنِ سَلاَمٍ ؟ " فَقَالُواْ : عَالِمُنَا وَابْنُ عَالِمِنَا، وَسَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا، وَبَقِيَّةُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَّا. فَقَالَ ﷺ :" أرَأيْتُمْ إنْ آمَنَ بي تُؤْمِنُوا أنْتُمْ ؟ " فَقَالُواْ : إنَّهُ لاَ يَفْعَلُ ذلِكَ.
فَكَرَّرَ عَلَيْهِمْ النَّبيُّ ﷺ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى قَالُواْ : نَعَمْ، فَخَرَجَ عَبْدُاللهِ بْنُ سَلاَمٍ وَقَالَ لَهُمْ : ألَمْ يَأْتِكُمْ فِي التَّوْرَاةِ عَنْ مُوسَى عليه السلام : إذا رَأيْتُمْ مُحَمَّداً فَأَقْرِئُوهُ مِنِّي السَّلاَمَ وَآمِنْواْ بهِ ؟ ثُمَّ جَعَلَ يُوقِفُهُمْ مِنَ التَّوْرَاةِ عَلَى مَوَاضِعَ مِنْهَا فِيْهَا ذِكْرُ النَّبيِّ ﷺ وَصِفَتُهُ، وَكَانُواْ يَسْتَكْبرُونَ وَيَجْحَدُونَ، فَقَالَ عَبْدُاللهِ بْنُ سَلاَمٍ لِلنَّبيِّ ﷺ : أشْهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَأنَّكَ رَسُولُ اللهِ، أرْسَلَكَ بالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ. فَقَالُواْ : مَا كُنْتَ أهْلاً لِمَا أثْنَيْنَا عَلَيْكَ، وَلَكِنَّكَ كُنْتَ غَائِباً فَكَرِهْنَا أنْ نغْتَابَكَ ".
ومعنى الآيةِ : أخبروني ماذا تقُولون إنْ كان القرآنُ من عندِ الله، أنزلَهُ وكفرتُم أيُّها المشرِكون، ﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ عبدُاللهِ بن سلامٍ على صدقِ النبيِّ ﷺ في نبُوَّتهِ ﴿ عَلَى مِثْلِهِ ﴾ أي عليه أنَّهُ من عندِ الله، والْمِثْلُ صلةٌ. وقولهُ تعالى :﴿ فَآمَنَ ﴾ يعني الشاهدُ واستكبَرتُم أنتم عن الإيمانِ به، وجوابُ (إنْ) محذوفٌ ؛ وتقديرهُ : أليسَ قد ظَلمهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ ؛ وَقِيْلَ : تقديرُ الجواب :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ﴾ أفَأَمِنُوا عقوبةَ اللهِ، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ يعني المعانِدين بعدَ الوضُوحِ والبيانِ يَحرِمُهم اللهُ الهدايةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ ﴾ ؛ أي قالَ الكفارُ مِن بني أسَدٍ وغطَفان وأشجَعَ لِمَن أسلمَ من جُهينَةَ ومُزَيْنَةَ وأسْلمَ وغِفَارٍ :(لَوْ كَانَ هَذا) يعنُونَ القرآنَ (خَيْراً) مما نحنُ عليهِ لَمَا سبقَ رعاةُ الشاةِ ونحن أرفعُ منهم، ﴿ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ ﴾ ؛ مع ظُهورهِ ووضُوحهِ، ﴿ فَسَيَقُولُونَ ﴾ مع ذلك، ﴿ هَـاذَآ ﴾ ؛ القرآنُ ؛ ﴿ إِفْكٌ قَدِيمٌ ﴾ ؛ كذِبٌ متقَادِمٌ أتَّبعَهُ مُحَمَّدٌ وأحِبَّاؤهُ في عصرهِ.
يقول اللهُ تعالى :﴿ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً ﴾ ؛ أي ويشهدُ للقرآن كتابُ موسَى قبلَهُ إمامٌ يُقتدَى ونجاةٌ من العذاب لِمَن آمنَ به، ﴿ وَهَـاذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ ﴾ وَهَذَا القرآنُ مُصَدِّقٌ لِمَا في التوراةِ. وقولهُ تعالى :﴿ لِّسَاناً عَرَبِيّاً ﴾ ؛ أي بلسانٍ عربيٍّ تَعقِلونَهُ. ويجوزُ أن يكون منصوباً على الحالِ، ويكون (لِسَاناً) توكيداً، كما يقالُ : جاءَنِي زيدٌ رجلاً صالحاً، يريدُ : جاءَنِي زيدٌ صالحاً، وقال الزجَّاجُ :(قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِمَاماً ﴾ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ) تَقْدِيرُهُ : وَتَقَدَّمَهُ كِتَابُ مُوسَى عليه السلام إمَاماً.
وَفِي الْكَلام محذوفٌ تقديرهُ : إمَاماً ورحمةً فَلَمْ يَهْتَدُوا بهِ، يدلُّ عليه قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ ﴾ وذلك أنَّ المشرِكين لم يهَتدُوا بالتوراةِ فيترُكوا عبادةَ الأصنامِ ويعرِفُوا منه صفةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
ثم قالَ تعالى :﴿ وَهَـاذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ ﴾ ؛ غيرَ الكُتب التي قبلَهُ ﴿ لِّسَاناً عَرَبِيّاً ﴾ منصوبٌ على الحالِ ؛ أي مصَدِّقٌ لما بين يَدَيهِ عَرَبيّاً. ومعنى قولهِ تعالى :﴿ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً ﴾ أي يُقتدَى بهِ ؛ يعني التوراةَ، ﴿ وَرَحْمَةً ﴾ من اللهِ للمؤمنين به ؛ قِيْلَ : القرآنُ.
وعن عروة عن أبيه قالَ :(كَانَتْ زنِّيرَةُ أمْرَأةً ضَعِيفَةَ الْبَصَرِ، فَلَمَّا أسْلَمَتْ كَانَ الأَشْرَافُ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ يَسْتَهْزِئُونَ بهَا وَيَقُولُونَ : وَاللهِ لَوْ كَانَ مَا جَاءَ بهِ مُحَمَّدٌ خَيْراً مَا سَبَقَتْنَا إلَيْهِ زنِّيرَةُ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيْهَا وَفِي أمْثَالِهَا ﴿ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَـاذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ ﴾ أيْ أسَاطيرُ الأَوَّلِينَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِّيُنذِرَ ﴾ ؛ أي أنزلناهُ لِتُخَوِّفَ، ﴿ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾، يعني مُشرِكي مكَّة. ومَن قرأ بالياءِ أسندَ الفعلَ إلى الكتاب. وقولهُ تعالى :﴿ وَبُشْرَى ﴾ أي وهو بُشْرَى، ﴿ لِلْمُحْسِنِينَ ﴾ ؛ الموحِّدين، يعني الكتابَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً ﴾ ؛ في الآيةِ دليلٌ على أنَّها نزَلت في رجُلٍ بعينهِ ؛ لأنَّ الناسَ كلَّهم لا يكون حَملُهم ورضاعُهم ثلاثون شَهراً، ولا يقولون إذا بلَغُوا أربعين سَنةً :﴿ رَبِّ أَوْزِعْنِي ﴾. وجاءَ في التفسيرِ : أنَّها نزَلت في أبي بكرِ الصدِّيق رضي الله عنه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً ﴾ ؛ أي على كُلْفَةٍ ومشَقَّةٍ، وأرادَ به الحملَ في البطنِ إذا ثَقُلَ عليها الولدُ، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً ﴾ ؛ يريدُ شدَّةَ الطَّلْقِ ومشقَّةَ الوضعِ. قرأ أهلُ الكوفة ﴿ إِحْسَاناً ﴾ وهي قراءةُ ابنِ عبَّاس رضي الله عنه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ﴾ ؛ أي حَملهُ سِتَّةُ أشْهُرٍ ورضاعهُ أربعَةٌ وعشرون شهراً. ورَوى عكرمةُ عن ابنِ عبِّاس رضي الله عنه قال :(إذا حَمَلَتِ الْمَرْأةُ تِسْعَةَ أشْهُرٍ أرْضَعَتْهُ أحَدَ وَعِشْرِينَ شَهْراً). وقال مقاتلُ وعطاء والكلبيُّ :(هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ فِي أبي بَكْرٍ رضي الله عنه، وَكَانَ حَمْلُهُ وَفِصَالُهُ هَذا الْقَدْرَ)، ويدلُّ على صحَّة هذا قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ... ﴾ ثم إلى آخر الآية. وقرأ الحسنُ ويعقوب (وَفَصْلُهُ) بغيرِ ألفٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه :(أشُدَّهُ بضْعٌ وَثَلاَثوُنَ سَنَةً) وقال :(ثَمَانِي عَشَرَةَ سَنَةً). وذلك أنه صَحِبَ رسولَ الله ﷺ وهو ابنُ ثَمانِي عشرةَ سنةً، والنبيُّ ﷺ ابنُ عشرين سَنة في تجارتهِ إلى الشامِ، وكان لا يفارقهُ في أسفارهِ وحضورهِ. فلما ﴿ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ﴾ ؛ ونُبئَ رسولُ الله ﷺ دعا ربَّهُ، ﴿ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ﴾ ؛ أي ألْهِمْنِي شُكْرَ نِعمَتِكَ، ﴿ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ﴾ ؛ بالهدايةِ والإيمانِ حتى لم أُشرِكْ بكَ شيئاً، ﴿ وَعَلَى وَالِدَيَّ ﴾ ؛ أبي قُحَافَةَ عثمان بنِ عُمر وأُمِّي أمُّ الخيرِ بنت صخرِ بن عمر، قال عليٌّ رضي الله عنه :(هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ فِي أبي بَكْرٍ أسْلَمَ أبَوَاهُ جَمِيعاً، وَلَمْ يَجْتَمِعْ أحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالْمُهَاجِرِينَ أبَوَاهُ غَيْرُهُ، وَأوْصَاهُ اللهُ بهِمَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ ﴾ ؛ فأجابَ اللهَ وأعتقَ تسعةً مِن المؤمنين يعذبون في اللهِ ولم يُرِدْ شيئاً من الخيرِ إلاَّ أعانَهُ اللهُ عليه، واستجابَ اللهُ في ذُريَّتهِ حين قال :﴿ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ﴾ ؛ فلم يبقَ له ولدٌ ولا والدٌ إلاَّ آمَنُوا باللهِ وحدَهُ، قال موسى بنُ عُقبةَ :(لَمْ يُدْركْ أرْبَعَةٌ النَّبيَّ ﷺ هُمْ وَأبْنَاؤُهُمْ إلاَّ هَؤُلاَءِ : أبُو قُحَافَةَ، وَأبُو بَكْرٍ، وَابْنُهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ، وَأبُو عَتِيقِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أبي بَكْرِ رضي الله عنه). قال البخاريُّ :(أبُو عَتِيقٍ أدْرَكَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم).
قولهُ ﴿ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ﴾ أي اجعَلْ أولاَدِي كُلَّهم صالِحين وقولهُ :﴿ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ ؛ أي إنِّي أقبَلْتُ إلى كلِّ ما يجبُ وأسلمتُ لكَ بقلبي ولسانِي وإنِّي من المخلِصين، فأسلمَ أبوهُ وأُمُّهُ ولم يبقَ له ولدٌ إلاَّ أسلمَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ ﴾ ؛ أي أهلَ هذه الصِّفةِ الذين يَتقبَّلُ عنهم أحسنَ ما عمِلُوا وهو الطاعاتُ، ﴿ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ ﴾ ؛ التي سَبقت في الجهلِ، وقولهُ تعالى :﴿ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ ﴾ ؛ أي يدخُلون في أصحاب الجنَّة وَعْداً صِدْقاً من اللهِ تعالى :﴿ الَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ ﴾ ؛ به في الدُّنيا على ألسِنَةِ الرسُلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ ﴾ ؛ نزَلت في عبدِالرَّحمنِ بن أبي بكر، قالَ لأَبيه وأُمه قبلَ أن يسلمَ حين كانا يدعُوَانهِ إلى الإسلامِ، ويُخبرانهِ بالبعثِ بعد الموت وهو يأبَى ويُسِيءُ القولَ لهما، فقالَ لهما :﴿ أُفٍّ لَّكُمَآ ﴾ أي أُفٍّ قذفاً لكما، كما يقالُ عند شمِّ الرائحةِ الكريهة، ﴿ أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي ﴾ ؛ أي تُخوِّفانِني أن أخرَجَ من القبرِ وقد مضَتِ القرونُ مِن قبل ولم يخرج أحدٌ منهم من قبرهِ، أين عبدُالله بن جَدعان ؟ أين فلان وأين فُلان؟! ﴿ وَهُمَا يَسْتَغثِيَانِ اللَّهَ ﴾ ؛ يعني أبَويهِ يدعُوانِ الله له بالْهُدَى ويقولان له :﴿ وَيْلَكَ آمِنْ ﴾ ؛ أي صدِّقْ بالبعثِ، ﴿ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾، بالبعثِ، ﴿ فَيَقُولُ مَا هَـاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ﴾ ؛ فيقولُ لَهما : ما هذا الذي تقُولانِ إلاَّ أكاذيبُ الأوَّلين.
والاستغاثةُ باللهِ دعاؤُكَ اللهَ ليُغِيثَكَ على ما نَابَكَ، والجارُّ محذوفٌ، تقديرهُ : يستغِيثان باللهِ. وقرأ القُرَّاء والأعمشُ (أنْ أخْرُجَ) بفتحِ الألف وضمِّ الراءِ.
قال ابنُ عبَّاس :(فَلَمَّا ألَحَ عَلَيْهِ أبَوَاهُ فِي دُعَائِهِ إلَى الإِيْمَانِ ؛ قَالَ لَهُمَا : أحْيُوا لِي عَبْدَاللهِ بْنَ جَدْعَان، فَإنَّهُ كَانَ شَيْخاً صَدُوقاً، وَأحْيُوا لِي عَامِرَ بْنَ كَعْبٍ، وَمَشَايخَ مِنْ قُرَيْشٍ حَتَّى أسْأَلَهُمْ عَنْ مَا تَقُولاَنِ، وَأخْرِجَا لِي بَعْضَ آبَائِي وَأجْدَادِي مِنْ قُبُورهِمْ لأَسْأَلَهُمْ، فَإنْ صَدَّقُوكُمَا آمَنْتُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ ؛ أي وجبَتْ عليهم كلمةُ العذاب في أُمَمٍ قد مضَتْ من قبلِهم، ﴿ مِّنَ ﴾ ؛ كفار، ﴿ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ ﴾ ؛ الإيمانَ. ثم أسلمَ عبدُالرحمنِ وحَسُنَ إسلامهُ، وكان من أفاضلِ المؤمنين.
وذهب الحسنُ إلى أنَّ الآيةَ نزلت في كافرٍ عاقٍّ لوالديهِ مكَذِّبٍ للبعثِ، ماتَ على كُفرهِ، قالَ :(لأَنَّ قَوْلَهُ ﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ﴾ إعْلاَمٌ بأَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) وإلى هذا القولِ ذهبَ الزجَّاجُ.
ويُروى أن معاويةَ كتبَ إلى مروان :(لَتَأْخُذنَّ عَلَى النَّاسِ الْبَيْعَةَ لِيَزِيدَ) فَكَرِهَ ذلِكَ عَبْدُالرَّحْمَنِ وَقَالَ :(أتَأْخُذُونَ الْبَيْعَةَ لأَبْنَائِكُمْ؟!) قَالَ مَرْوَانُ : هَذا الَّذِي يَقُولُ اللهُ فِيْهِ﴿ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ ﴾[الحاقة : ١٧] فَلَمَّا بَلَغَ ذلِكَ عَائِشَةُ فَقَالَتْ :(كَذبَ مَرْوَانُ! وَاللهِ مَا هُوَ بهِ، إنَّمَا أنْزَلَ اللهُ ذلِكَ فِي رَجُلٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، وَلَوْ شِئْتُ أنْ أُسَمِّيَهُ لَسَمَّيْتُهُ لَكُمْ، وَلَكِنْ أشْهَدُ أنَّ اللهَ لَعَنَ أبَاكَ وَأنْتَ فِي صُلْبهِ، فَهُوَ فِي قَصَصِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ ﴾ ؛ أي ولكلِّ الفريقَين من الكافرِين والمؤمنين منازلُ مما عمِلُوا، ﴿ وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ ؛ أي لا يُنقَصُ من حسناتِهم ولا يُزَادُ في سيِّئاتِهم.
وقولهُ تعالى :﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ ﴾ ؛ أي وأنذِرهُم يومَ يُعرَضُ كفَّارُ مكَّة على النار ويقالُ لَهم :﴿ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا ﴾ ؛ أي أذهَبتُم أموالَكم، وَقِيْلَ : قوَّتَكم وشبَابَكم في لذاتِكم في الدُّنيا، لا في طلب رضَى اللهِ، بل في وُجوهٍ مُحرَّمَةٍ، وانتقَصتُم بطيِّباتكم في الدُّنيا، ﴿ وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ﴾ ؛ (فَـ) ليس لكم، ﴿ فَالْيَوْمَ ﴾ ؛ ههنا حسناتٍ، وإنما ﴿ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ ؛ أي الْهَوَانِ الشديدِ باستكباركم في الأرضِ بالباطلِ، وخُروجِكم من أمرِ الله تعالى إلى المعصيةِ.
وعن ابنِ عبَّاس :" أنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ : لِلنَّبيِّ ﷺ :(أُدْعُ اللهَ أنْ يُوَسِّعَ عَلَى أُمَّتِكَ، فَقَدْ وَسَّعَ اللهُ عَلَى فَارسَ وَالرُّومَ وَهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ اللهَ تَعَالَى) فَقَالَ ﷺ :" أوَفِي شَكٍّ أنتَ يَا ابْنَ الْخَطَّاب؟! أوْلَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا " ".
ورُوي :" أنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ :(دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي بَيْتِ حَفْصَةٍ وَإنَّهُ لَمُضْطَجِعٌ عَلَى حَصِيرٍ، وَإنَّ بَعْضَهُ لَعَلَى التُّرَاب، وَتَحْتَ رَأسِهِ وسَادَةٌ مَحْشُوَّةٌ لِيْفاً، فَسَلَّمْتُ ثُمَّ جَلَسْتُ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ أنْتَ نَبيُّ اللهِ وَصَفْوَتُهُ وَخِيْرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَكِسْرَى وَقَيْصَرَ عَلَى سُرُر الذهَب وَفُرُشِ الدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ، فَقَالَ ﷺ : يَا عُمَرُ ؛ إنَّ أُوْلَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ وَهِيَ وَشِيكَةُ الانْقِطَاعِ، وَإنَّا أُخِّرَتْ لَنَا طَيِّبَاتُنَا " ) ".
وعن سالِم بن عبدِالله بن عمر كان يقولُ :(وَاللهِ مَا نَعْبَأُ بلَذاتِ الْعَيْشِ بأَنْ نَأْمُرَ بصِغَار الْمِعْزَى فَتُسْمَطَ لَنَا، وَنَأْمُرَ بِلبَاب الْحِنْطَةِ فَيُخْبَزُ لَنَا، وَنَأْمُرَ بالنَّبيذِ فَيُنْبَذُ لَنَا، حَتَّى إذا صَارَ مِثْلَ عَيْنِ يَعْقُوبَ أكَلْنَا هَذا وَشَرِبْنَا هَذا، وَلَكِنَّا أرَدْنَا أنْ نَسْتَبْقِيَ طَيِّبَاتِنَا لأَنَّا سَمِعْنَا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَذْكُرُ قَوْماً فَقَالَ ﴿ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ﴾.
وعن جابرِ بن عبدِالله رضي الله عنه قالَ :(رَأى عُمَرُ رضي الله عنه فِي يَدَيَّ لَحْماً مُعَلَّقاً فَقَالَ : مَا هَذا يَا جَابرُ ؟ قَالَ : اشْتَهَيْتُ لَحْماً فَاشْتَرَيْتُهُ، فَقَالَ عُمَرُ : وَكُلَّمَا اشْتَهَيْتَ يَا جَابرُ اشْتَرَيْتَ ؟ أمَا تَخَافُ هَذِهِ الآيَةَ ﴿ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا ﴾.
وعن محمَّد بن مَيسَرة قالَ : قال جابرُ بن عبدِالله :(اشْتَهَى أهْلِي لَحْماً فَشَرَيْتُهُ وَمَرَرْتُ بعُمَرَ، فَقَالَ : مَا هَذا يَا جَابرُ ؟ قُلْتُ : اشْتَهَى أهْلِي اللَّحْمَ فَاشْتَرَيْتُ هَذا اللَّحْمَ بدِرْهَمٍ، فَقَالَ : أوَكُلَّمَا اشْتَهَى أحَدُكُمْ شَيْئاً جَعَلَهُ فِي بَطْنِهِ، أمَا تَخْشَى أنْ تَكُونَ مِنْ أهْلِ هَذِهِ الآيَةِ ﴿ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا ﴾ ).
وعن عِمَارَةَ بن القَعْقَاعِ عن أبي زَرعَةَ قالَ :(دَخَلَ عُتْبَةُ بْنُ فَرْقَدَ عَلَى عُمَرَ رضي الله عنه وَهُوَ يُكَوِّمُ كَعْكاً شَامِيّاً وَيَتَفَوَّقُ لَبَناً حَازراً فَقَالَ : يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ أمَرْتَ أنْ يُصْنَعَ لَكَ طَعَامٌ ألْيَنُ مِنْ هَذا ؟ فَقَالَ : يَا ابْنَ فَرْقَد ؛ أتَرَى أحَداً مِنَ الْعَرَب أقْدَرُ عَلَى ذلِكَ مِنِّي ؟ فَقَالَ : مَا أحَدٌ أقْدَرُ عَلَى ذلِكَ مِنْكَ يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عُمَرُ : سَمِعْتُ اللهَ تَعَالَى عَيَّرَ أقْوَاماً فَقَالَ ﴿ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ﴾ وَاللهِ لَوْ شِئْتُ أنْ أكُونَ أصْلَبَكُمْ طَعَاماً وَأحْسَنَكُمْ ثِيَاباً لَفَعَلْتُ، وَلَكِنْ أسْتَبْقِي دُنْيَايَ لآخِرَتِي).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ ﴾ ؛ أي اذكُرْ يا مُحَمَّدُ لقومِكَ أهلِ مكَّة أخَا عادٍ وهو هودٌ عليه السلام، ﴿ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ ﴾ ؛ أي إذْ خَوَّفَ قومَهُ وحذرَهم عذابَ اللهِ إن لم يُؤمِنُوا بالأحقافِ، وهو جمعُ حُقْفٍ وهو المستطيلُ الْمُعْوَجُّ من الرَّملِ، قال عطاءٌ :(رمَالُ بلاَدِ الشَّعرِ)، وقال مقاتلُ :(هِيَ بالْيَمَنِ فِي حَضْرَمَوْتٍ)، وقال ابنُ عبَّاس :(وَادٍ بَيْنَ عُمَانَ وَمَهرة) وَإلَى مُهْرَةَ يُنْسَبُ الْجِمَالُ الْمَهْرِيَّةُ.
وقال قتادةُ :(ذُكِرَ لَنَا أنَّ عَاداً كَانُوا حَيّاً بالْيَمَنِ أهْلَ رَمْلٍ مُشْرِفِينَ عَلَى الْبَحْرِ بأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا الشَّعر، وَكَانُواْ مِنْ قَبيلِ إرَمَ). وقال ابنُ زيد :(الأَحْقَافُ : مَا اسْتَطَالَ مِنَ الرَّمْلِ وَأشْرَفَ كَهَيْئَةِ الْجَبَلِ، وَلَمْ يَبْلُغُ أنْ يَكُونَ جِبَالاً، وَجَمْعُهُ حُقُفٌ، وَالأَحْقَافُ جَمْعُ الْجَمْعِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ﴾ ؛ أي وقد مضَتِ الرسُلُ من قبلِ هودٍ ومن بعدهِ إلى قومِهم، ﴿ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ ﴾ ؛ أي لَمْ يُبعَثْ رسولاً قبلَ هودٍ ولا بعدَهُ إلاَّ بالأمرِ بعبادة اللهِ وحدَهُ، وهذا كلامٌ اعترضَ بين إنذار هود وكلامهِ لقومه، ثم عادَ إلى كلامِ هودٍ لقومه بقوله :﴿ إِنَّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ ؛ تقديرُ الكلامِ : إذ أنذرَ قومَهُ بالأحقافِ وقال : إنِّي أخافُ عليكم عذابَ يومٍ عظيم، ويحتملُ أن يكون المرادُ بهذا العذاب عذابَ الدُّنيا، ويحتمل عذابَ الآخرةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا ﴾ ؛ أي قالوا : يا هودُ أجِئتَنا لتَصرِفَنا عن عبادةِ آلهتنا بالإفكِ، ﴿ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ ﴾ ؛ من العذاب، ﴿ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ إنَّ العذابَ نازلٌ بنا، ﴿ قَالَ ﴾ ؛ لَهم هودٌ :﴿ إِنَّمَا الْعِلْمُ ﴾ بمجيءِ العذاب، ﴿ عِندَ اللَّهِ ﴾ ؛ يعلمُ متى يأتيكم العذابُ وَأنا ﴿ وَأُبَلِّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ ﴾ ؛ إليكم من الوحيِ والإنذار، والمعنى : إنما أنا مُبَلِّغٌ، والعلمُ بوقتِ العذاب عند الله، ﴿ وَلَـاكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ ﴾ ؛ أي أمرَ اللهِ وعقابه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ ﴾ ؛ معناهُ : فلمَّا رأوا العذابَ الذي خوَّفُوا به عارضاً كهيئةِ السَّحاب تستقبلُ أودِيَتَهم التي كانوا إذا رأوا الغيمَ من نواحِيها كانت سَنتهم سَنة خصبٍ، ظنُّوهُ سحابَ خيرٍ، ﴿ قَالُواْ هَـاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ﴾ ؛ أي هذا الذي وعَدتَنا به سحابٌ قد عرضَ في السَّماء مُمطِرُنا، فقال لَهم هود :﴿ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ ؛ أي ريحُ الدَّبُور جاءت من قِبَلِ المغرب فيها عذابٌ أليم وجيع لكم.
قال المفسِّرون : كان عادٌ قد حُبسَ عنهم المطرُ أيَّاماً، فَسَاقَ اللهُ إليهم سحابةً سوداء فخرَجت عليهم من وادٍ لهم يقالُ له : الْمُغِيثُ، فلمَّا رأوهُ مستقبلَ أودِيتهم استَكبَروا وقالوا :﴿ هَـاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ﴾ غَيمٌ فيه مطرٌ، فقال هودُ :﴿ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ ﴾ ثُم بيَّنَ ما هو ؛ فقالَ :﴿ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ﴾ ؛ أي تُهلِكُ كلَّ شيءٍ مرَّت به من الناسِ والدواب والأموالِ ﴿ فَأْصْبَحُواْ ﴾ ؛ يعني عاداً ؛ ﴿ لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ ﴾ ؛ قال الزجاج :(معناهُ لا ترَى شيئاً إلاَّ مساكنَهم، والمعنى : لا ترَ أيُّها المخاطَبُ إلاَّ مساكِنَهم، لأنَّ السُّكَّانَ والأنعامَ بادت بالريحِ).
قال ابنُ عبَّاس :(فَلَمْ يَبْقَ إلاَّ هُودٌ وَمَنْ مَعَهُ)، وعن ابنِ عبَّاس قالَ :(لَمَّا رَأوا الْعَارضَ قَامُواْ، فَأَوَّلُ مَا عَرَفُوا أنَّهُ عَذابٌ رَأوا مَا كَانَ خَارجاً مِنْ دِيَارهِمْ مِنَ الرُّعَاةِ وَالْمَوَاشِي تَطِيرُ بهِ الرِّيحُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَرَأوا الْفَسَاطِيطَ وَالضَّعَائِنَ تُرْفَعُهَا الرِّيَاحُ كَأَنَّهَا جَرَادٌ فَدَخَلُوا بُيُوتَهُمْ وَأغْلَقُوا عَلَى أنْفُسِهِمُ الأَبْوَابَ، فَجَاءَتِ الرِّيحُ فَقَلَعَتْ أبْوَابَهُمْ وَاحْتَمَلَتْهُمْ إلَى عَنَانِ السَّمَاءِ، ثُمَّ هَرَعَتْهُمْ وَأهَالَتْ الرِّمَالَ، فَكَانُواْ تَحْتَ الرَّمْلِ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أيَّامٍ حُسُوماً لَهُمْ أنِينٌ، ثُمَّ أمَرَ اللهُ بَعْدَ ذلِكَ فَاحْتَمَلَتْهُمْ فَرَمَتْ بهِمْ فِي الْبَحْرِ).
وقرأ الأعمشُ وحمزة وعاصم ويعقوب (فَأَصْبَحُوا لاَ يُرَى) بياءٍ مضمومة (إلاَّ مَسَاكِنُهُمْ) بالرفع أي لا ترَى الناسُ إلاَّ مساكنَهم لأنَّهم كانوا تحتَ الرَّملِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ﴾ ؛ أي هكذا نَجزِي مَن أجرمَ جُرمَهم بمثلِ ما جازَيناهم. وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالت :" كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إذا رَأى الرِّيحَ فَزِعَ، وَقَالَ :" اللَّهُمَّ إنِّي أسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بهِ، وَأعُوذُ بكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بهِ " وَكَانَ يَقُومُ وَيَقْعُدُ وَيَتَغَيَّرُ لَوْنُهُ، فَيَقُولُ لَهُ : مَا لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟! فَيَقُولُ :" إنِّي أخَافُ أنْ تَكُونَ مِثْلَ قَوْمٍ هُودٍ حَيْثُ قَالُوا : هَذا عَارضٌ مُمْطِرُنَا " ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ ﴾ ؛ الخطابُ لأهلِ مكَّة، والمعنى : ولقد مكَّنا عَاداً فيما لم نُمكِّنْكُم فيه من البَسطَةِ في المالِ والولدِ وزيادة القوَّةِ والقامَةِ وشدَّة الأبدانِ، قال المبرِّدُ :(مَا) فِي قَوْلِهِ (فِيمَا) بِمَنْزِلَةِ (الَّذِي) و(إنْ) بمَنْزِلَةِ (ما).
وتقديرهُ : ولقد مكنَّاهم في الذي ما مكنَّاكم فيه، ﴿ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً ﴾ ؛ أي قُلوباً يعقلون بها فلم ينفَعهم ذلك من عذاب الله إذ نزلَ بهم بسبب أنَّهم، ﴿ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾ ؛ دلائلِ الله، ﴿ وَحَاقَ بِهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ ؛ أي نزلَ بهم عقابُ استهزائِهم بالرُّسلِ، أخبرَ اللهُ أنَّهم أعرَضُوا عن قبولِ الْحُجَجِ والتفكُّر فيما يدلُّهم على التوحيدِ ما أعطاهم اللهُ من الحواسِّ التي تدرَكُ بها الأدلَّة.
قَوْلُه تَعَالَى :﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ الْقُرَى ﴾ ؛ هذه زيادةُ التخويفِ لأهل مكَّة، والمعنى : ولقد أهلَكنا ما حولَكم من أهلِ القُرَى مثلَ عادٍ وقوم تُبَّعٍ باليمنِ وقومِ صالح بالحِجْرِ وقوم لوطٍ على طريقكم بالشَّام، أرادَ بالقُرَى الْمُهلَكَةِ باليمنِ والشَّام. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ ؛ وبَيَّنَا لكم الآياتِ في كلِّ وجهٍ لكي تَرجِعُونَ من الكفرِ إلى الإيمانِ، وَقِيْلَ : معناهُ : وبيَّنا الآياتِ لعلَّ أهلَ القُرْى يرجِعون.
وقولهُ تعالى :﴿ فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةَ ﴾ ؛ فهلاَّ حين نزلَ بهم العذابُ أعانَهم الذين عبَدُوهم من دونِ الله ليُقرِّبوهم إلى اللهِ في زَعمِهم، وقولهُ تعالى :﴿ بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ ﴾ ؛ أي بل ما نفَعُوهم، وقولهُ تعالى :﴿ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ ﴾ ؛ أي إنَّ دُعاءَهم آلهتَهم هو إفْكُهم وافتراؤُهم، ﴿ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ ؛ يعني اتِّخاذهم الآلهةَ من دون اللهِ هو كَذِبُهم وافتراؤُهم على اللهِ أنَّها آلهة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ﴾ ؛ معناهُ : اذكُر إذ وجَّهنا نفَراً من الجنِّ ؛ " أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمَّا آيَسَ مِنْ إسْلاَمِ أهْلِ مَكَّةَ، خَرَجَ إلَى الطَّائِفِ لِيَدْعُوَهُمْ إلَى الإسْلاَمِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ مِنَ الطَّائِفِ رَاجِعاً إلَى مَكَّةَ وَوَصَلَ بَطْنَ نَخْلَةَ، قَامَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ، فَمَرَّ بهِ نَفَرٌ مِنْ أشْرَافِ جِنِّ نَصِيبينَ مِنَ الْيَمَنِ فَاسْتَمَعُواْ الْقُرْآنَ ".
قال ابنُ عبَّاس :(كَانُوا تِسْعَةَ نَفَرٍ)، وقال الكلبيُّ ومقاتل :(كَانُوا سَبْعَةً صُرِِفُوا إلَى النَّبِيِّ ﷺ لِيَسْتَمِعُواْ مِنْهُ وَيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ). وهو قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ﴾.
فلمَّا انتهَوا إلى النبيِّ ﷺ قالَ بعضُهم لبعضٍ : اسكتُوا حتى تَستَمِعوا قراءَتهُ، وذلك معنى قولهِ تعالى :﴿ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنصِتُواْ ﴾ ؛ أي فلما فرغَ من التلاوةِ قال بعضُهم لبعض : اسكُتوا حتى تَستمعوا قراءته، وإما قالوا ذلك لأنهم سَمعوا شيئاً لم يسمعوا مثلَهُ، فلما فرغَ من القرآنِ انصرَفُوا إلى قومِهم مخوِّفين لهم بالقرآن، وذلك معنى قوله تعالى :﴿ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ﴾، أي فلما فرغَ من التلاوةِ انصرفوا إلى قومهم مُنذرين ؛ أي محذِّرين إياهم عذاباً إن لم يُؤمنوا، وهذا قاله سعيدِ بن جُبير وجماعةٍ من أئمَّة الخبرِ.
وقالَ آخَرُون : بل " أُمِرَ رسولُ الله ﷺ أنْ يُنذِرَ الجنَّ ويدعُوَهم إلى اللهِ، فقرأ عليهم القرآنَ، فصرفَ اللهُ نفَراً من الجنِّ وجَمَعهم له، فقال ﷺ لأصحابهِ :" إنِّي أُمِرْتُ أنْ أقْرَأ عَلَى الْجِنِّ اللَّيْلَةَ، فَأَيُّكُمْ تَبعَنِي " فَأَطْرَقُوا، فَقَالَ لَهُمْ مَرَّةً ثَانِيَةً، فَأَطْرَقُواْ، فَقَالَ لَهُمْ مَرَّةً ثَالِثَةً، فَاتَّبَعَهُ عَبْدُاللهِ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ عَبْدُاللهِ بْنُ مَسْعُودٍ :(لَمْ يَحْضُرْ مََعَهُ أحَدٌ غَيْرِي، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى إذا كُنَّا بأَعْلَى مَكَّةَ دَخَلَ النَّبيُّ ﷺ شِعْباً يُقَالُ لَهُ شِعْبُ الْحِجَوْنِ، وَحَطَّ لِي ثُمَّ أمَرَنِي أنْ أجْلِسَ فِيْهِ، وَقَالَ :" لاَ تَخْرُجْ مِنْهُ حَتَّى أدْعُوَ إلَيْكَ ".
ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى قَامَ فَافْتَتَحَ الْقُرْآنَ، فَجَعَلْتُ أرَى أمْثَالَ النُّور تَهْوِي، وَسَمِعْتُ لَفْظاً شَدِيداً حَتَّى خِفْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَغَشِيَتْهُ سَوْدَةٌ كَبيرةٌ حَالَتْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ حَتَّى مَا سَمِعْتُ صَوْتَهُ، ثُمَّ طَفِقُواْ يَتَقَطَّعُونَ أمْثَالَ قِطَعِ السَّحَاب ذاهِبينَ.
فَفَزِعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مَعَ الْفَجْرِ، وَقَالَ :" أنِمْتَ ؟ " قُلْتُ : لاَ وَاللهِ ؛ وَلَقَدْ هَمَمْتُ مِرَاراً أنْ أسْتَغِيثَ بالنَّاسِ حَتَى سَمِعْتُكَ تُفْزِعَهُمْ بعَصَاكَ تَقُولُ :" اجْلِسُوا " فَقَالَ :" لَوْ خَرَجْتَ لَمْ آمَنْ عَلَيْكَ أنْ يخْتَطِفَكَ بَعْضُهُمْ " ثُمَّ قَالَ :" هَلْ رَأيْتَ ؟ " فَقُلْتُ : نَعَمْ ؛ رَأيْتُ رجَالاً سُوداً.
قَالَ :" أُوْلَئِكَ جِنُّ نَصِيبينَ، سَأَلُونِي الْمَتَاعَ فَمَنَعْتُهُمْ بكُلِّ عَظْمٍ حَلِيلٍ وَرَوْثَةٍ وَبَعْرَةٍ " فَقَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ ﷺ يُقَذِّرُهَا لِلنَّاسِ عَلَيْنَا، فَنَهَى رَسُولُ اللهِ ﷺ أنْ يُسْتَنْجَى بالْعَظْمِ وَالرَّوْثِ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ صلى عليه وسلم وَمَا يَعْنِي ذلِكَ مِنْهُمْ ؟ قَالَ :" إنَّهُمْ لاَ يَجِدُونَ عَظْماً إلاَّ يَجِدُونَ عَلَيْهِ لَحْمَةً يَوْمَ أُكِلَ، وَلاَ رَوْثَةً إلاَّ وَجَدُواْ فِيْهَا حَبَّهَا يَوْمَ أُكِلَتْ ".
فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ سَمِعْتُ لَفْظاً كَثِيراً شَدِيداً، قَالَ :" إنَّ الْجِنَّ تَدَارَتْ فِي قَتِيلٍ قُتِلَ بَيْنَهُمْ، فَتَحَاكَمُوا إلَيَّ فَقَضَيْتُ بَيْنَهُمْ ". ثُمَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ :" هَلْ مَعَكَ مَاءٌ ؟ " فَقُلْتُ : يَا رسُولَ اللهِ مَعِي نَبيذُ تَمْرٍ فِي إدْاَوةٍ، فَاسْتَدْعَاهُ فَصَبَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ فَتَوَضََّأَ بهِ وَقَالَ :" ثَمَرَةٌ طيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ " ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ياقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُواْ بِهِ ﴾ ؛ يعني مُحَمَّداً ﷺ، ﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ ؛ فاستجابَ لهم من قومِهم نحو من سبعينَ رجُلاً من الجنِّ، فرجَعُوا إلى رسولِ الله ﷺ فواقَفوهُ بالبطحاءِ، فقرأ عليهم القرآنَ، فقال بعضُهم : أمَرَهم ونَهاهم.
واختلفَ العلماءُ في مؤمني الجنِّ، فقال بعضُهم : ليس لِمُؤمِني الجنِّ إلاَّ نجا منهم من النار، وتأوَّلوا فيه، قوله :﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾، وعن الليث أنه (الجنُّ ثوابُهم أن يُجَارُوا من النار، ثم يقالُ لَهم : كونوا تُراباً مثلَ البهائمِ). وقال آخرون : إذا كان عليهم العقابُ في الإساءة، وجبَ أن يكون لهم الثوابُ في الإحسانِ مثل الإنسِ، وعن الضحَّاك قال :(الْجِنُّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ ﴾ ؛ أي لا يعجِزُ اللهَ ولا يفوتهُ، ﴿ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ أُوْلَئِكَ ﴾ ؛ الذين لا يُجِيبُونَ الرسُلَ، ﴿ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ ﴾ ؛ أي لم يُضِعفْ عن إبداعِهنَّ، ﴿ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِـيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ ؛ والمعنى : أليسَ اللهُ بقادرٍ على إحياءِ الموتَى فيما ترَون يا أهلَ مكَّة، فإنَّ خلقَ السموات والأرضِ بما فيهنَّ من العجائب والبدائعِ أعظمُ من إعادةِ الحياة في الميِّت بعدَ ما كانت فيه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَـاذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ ؛ الآيةُ ظاهرة المعنى.
وقولهُ تعالى :﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ ؛ وهم خمسةٌ أُولُوا الكتب والشرائع : مُحَمَّدٌ ﷺ ونوح وإبراهيم وموسَى وعيسى صَلواتُ اللهِ عليهم، وَقِيْلَ : إنَّهم رسلٌ سُلِخُوا من جلودِهم فلم يجزَعُوا.
وَقِيْلَ : أرادَ بأُولِي العزمِ الأنبياءُ كلَّهم، وحرف (مِنْ) على هذا القولِ لِتَبيين الجنسِ كما في قوله﴿ فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ ﴾[الحج : ٣٠]، قال ابنُ يزيد :(كُلُّ الرُّسُلِ كَانُوا أُوْلِي عَزْمٍ).
وقال بعضُهم : كلُّ الأنبياءِ أُولُوا عزمٍ إلاَّ يونسَ عليه السلام، ألاَ ترَى أنَّ نبيَّنا ﷺ نُهي عن أنْ يكون مثلَهُ لخِفَّة وعجلةٍ ظهرت منهُ حين ولَّى مُغَاضِباً لقومهِ، فابتلاهُ الله بالحوتِ فابتلعَهُ، وَقِيْلَ : أُولُوا العزمِ نُجبَاءُ الرُّسلِ المذكورون في سُورةِ الأنعامِ وهم ثمانيةُ عشر، قَالَ اللهُ تَعَالَى فيهم﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾[الأنعام : ٩٠].
وقال مقاتلُ :(أُوْلُوا الْعَزْمِ سِتَّةٌ : نُوحٌ صَبَرَ عَلَى أذى قَوْمِهِ وَكَانُواْ يَضْرِبُونَهُ حَتَّى يُغْشَى عَلَيْهِ، وَإبْرَاهِيمُ صَبَرَ عَلَى النَّار، وَإسْحَاقُ صَبَرَ عَلَى الذبْحِ، وَيَعْقُوبُ صَبَرَ عَلَى فَقْدِ وَلَدِهِ وَذهَاب بَصَرِهِ، وَيُوسُفُ صَبَرَ عَلَى الْبئْرِ وَالسِّجْنِ، وأيُّوبَ صَبَرَ عَلَى الضُّرِّ). قال ابنُ عبَّاس :(الْعَزْمُ : الصَّبْرُ)، وقال القَرَظِيُّ : الرَّأيُ وَالصَّوَابُ).
وقال الحسنُ :(أُوْلُوا الْعَزْمِ أرْبَعَةٌ : إبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَدَاوُدَ وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ، أمَّا إبْرَاهِيمُ فَعَزْمُهُ أنَّهُ قِيلَ لَهُ : أسْلِمْ، َفَقَالَ أسْلَمْتُ لِرَب الْعَالَمِينَ، وَابْتُلِيَ فِي وَلَدِهِ وََمَالِهِ وَنَفْسِهِ، فَوُجِدَ صَادِقاً وَافِياً فِي جَمِيعِ مَا ابْتُلِيَ بهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾[البقرة : ١٢٤]، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾[النجم : ٣٧]، وَأمَّا مُوسَى فَعَزْمُهُ أنَّ قَوْمَهُ كُلَّمَا قَالُوا لَهُ : إنَّا لَمُدْرَكُونَ، قَالَ : كَلاَّ إنَّ مَعِي رَبي سَيَهْدِينِ. وَأمَّا دَاوُد عليه السلام فَعَزْمُهُ أنَّهُ أخْطَأَ خطِيئَةً فَبَكَى عَلَيْهَا أرْبَعِينَ سَنَةً. وَأمَّا عِيسَى فَعَزْمُهُ أنْ لَمْ يَضَعْ لَبنَةً عَلَى لَبنَةٍ زُهْداً فِي الدُّنْيَا).
فكأنَّ اللهَ تعالى قال لنَبيِّه ﷺ : فاصبرْ كما صبرَ أُولُوا العزمِ من الرُّسلِ ؛ أي كن صَادقاً فيما ابتُلِيت به مثلَ صدقِ إبراهيمَ عليه السلام، وكُن واثقاً بنصرِ مَولاَكَ مثلَ ثقةِ مُوسَى عليه السلام مُهتَمّاً بما سلفَ من هفَوَاتِكَ مثل اهتمامِ داودَ عليه السلام، زاهداً في الدُّنيا مثلَ زُهدِ عيسى عليه السلام، فقالَ الشاعرُ : أُوْلُواْ الْعَزْمِ نُوحٌ وَالْخَلِيلُ كِلاَهُمَا مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبيُّ مُحَمَّدُفلمَّا نزلت هذه الآيةُ قال النبيُّ ﷺ :" واللهِ لأَصْبرَنَّ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وَأجْهَدُ كَمَا جَهِدُوا، ولاَ قُوَّةٍ إلاّ بالله ".
وقولهُ تعالى :﴿ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ﴾ ؛ وذلك أنَّ النبيَّ ﷺ ضَجِرَ بعضَ الضَّجرِ من كُفرِهم، وأحبَّ أن ينْزِلَ العذابُ بمَن أبَى منهم الإسلامَ، فأُمِرَ بالصَّبرِ وتركِ الاستعجالِ، ثم أخبرَ أنَّ العذابَ منهم قريبٌ، فقوله :﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ ﴾ ؛ من العذاب في الآخرة ؛ ﴿ لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ ﴾ ؛ أي إذا عايَنُوا العذابَ صارَ طولُ لُبثِهم في الدُّنيا والقبور كأنَّهُ ساعةٌ، لأنَّ ما مضَى كأنَّهُ لم يكن وإنْ كان طَويلاً.
وتَمَّ الكلامُ، ثم قال تعالى :﴿ بَلاَغٌ ﴾ ؛ أي هذا القرآنُ وما فيه من البيانِ بلاغٌ عن الله إليك، والبلاغُ بمعنى التبليغِ بلَّغَكم مُحَمَّدٌ ﷺ عن اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ ؛ أي لا يقعُ العذاب إلاَّ بالعاصِين الخارجين عن أمرِ الله تعالى، وَقِيْلَ : معناهُ : ما يهلكُ إلاَّ مشركٌ أو منافقٌ.
Icon