ﰡ
فَأَتَاهَا حَاطِبُ بْنُ أبي بَلْتَعَةَ الأَزَدِيُّ حَلِيفُ بَنِي أسَدٍ، فَكَتََبَ إلَى أهْلِ مَكَّةََ وَأعْطَاهَا عَشْرَةَ دَنَانِيرَ عَلَى أنْ تُوصِلَ الْكِتَابَ إلَى أهْلِ مَكَّةَ، وَكَتَبَ فِي الْكِتَاب : مِنْ حَاطِب بْنِ أبي بَلْتَعَةَ إلَى أهْلِ مَكَّةَ : رَسُولُ اللهِ ﷺ يُريدُ أنْ يَغْزُوَكُمْ، فَخُذُوا حِذْرَكُمْ. مَعَ أشْيَاءَ كَتَبَ بهَا يَتَنَصَّحُ لَهُمْ فِيهَا، فَمَضَتْ سَارَةُ بالْكِتَاب.
فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام فَأَخْبَرَ النَّبيَّ ﷺ بمَا فَعَلَ حَاطِبُ، فَبَعَثَ النَّبيُّ ﷺ وَرَاءَهَا عَلِيَّ بْنَ أبي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَالْمِقْدَادَ، فَخَرَجُوا يُعَادِي بهِمْ خيْلُهُمْ، فَطَلَبُوا مِنْهَا الْكِتَابَ، فَقَالَتْ : مَا عِنْدِي كِتَابٌ، وَحَلَفَتْ عَلَى ذلِكَ، فَفَتَّشُواْ مَتَاعَهَا فَلَمْ يَجِدُوهُ، وَقَالَتْ : إنَّكُمْ لاَ تُصَدِّقُونِي حَتَّى تُفَتِّشُوا ثِيَابي، وَاصْرِفُواْ وُجُوهَكُمْ عَنِّي فَصَرَفُوهَا، فَطَرَحَتْ ثِيَابَهَا فَفَتَّشُوهَا فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئاً، فَتَرَكُوهَا وَهَمُّواْ بالرُّجُوعِ.
فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أبي طَالِبٍ : إنِّي أشْهَدُ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَمْ يَكْذِبْنَا، وَإنَّهَا هِيَ الْكَاذِبَةُ فِيمَا تَقُولُ : فَسَلَّ سَيْفَهُ وَقَالَ : أخْرِجِي الْكِتَابَ وَإلاَّ وَاللهِ لأَضْرِبَنَّ عُنُقَكِ وَأقْسَمَ عَلَى ذلِكَ، فَلَمَّا رَأتِ الْحَدَّ أخْرَجَتْهُ مِنْ ظَفَائِرِ رَأسِهَا، فَأَخَذُوهُ وَخَلَّوا سَبيلَهَا وَرَجَعُواْ بالْكِتَاب إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
فَأَرْسَلَ إلَى حَاطِبٍ فأَتَاهُ، فَقَالَ لَهُ :" يَا حَاطِبُ هَلْ تَعْرِفُ هَذا الْكِتَابَ ؟ " قَالَ : نَعَمْ، قَالَ :" مَا حَمَلَكَ عَلَى ذلِكَ ؟ " قَالَ : وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا كَفَرْتُ مُنْذُ أسْلَمْتُ، وَلاَ غَشَشْتُكَ مُنْذُ صَحِبْتُكَ، وَلاَ أحْبَبْتُهُمْ مُنْذُ فَارَقْتُهُمْ، فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيَّ يَا رَسُولَ للهِ، إنِّي كُنْتُ امْرِءاً مُلْصَقاً فِي قُرَيْشٍ، وَلَمْ أكُنْ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ أحَدٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ إلاَّ وَلَهُ بمَكَّةَ مَنْ يَمْنَعُ عَشِيرَتَهُ، وَأنَا غَرِيبٌ فِيْهِمْ، وَكَانَ أهْلِي بَيْنَ أظْهُرِهِمْ، فَخَشِيتُ عَلَى أهْلِي فَأَرَدْتُ أنْ أتَّخِذ عِنْدَهُمْ يَداً، فَوَاللهِ مَا فَعَلْتُ ذلِكَ شَكّاً فِي دِينِي وَلاَ رضًى بالْكُفْرِ بَعْدَ الإسْلاَمِ، وَلاَ ارْتَبْتُ فِي اللهِ مُنْذُ أسْلَمْتُ، وَقَدْ عَلِمْتُ أنَّ اللهَ تَعَالَى نَزَّلَ عَلَيْهِمْ بَأْسَهُ، وَإنَّ كِتَابي لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئاً.
فَصَدَّقَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَعَذرَهُ وَقَالَ :" إنَّهُ قَدْ صَدَقَ ". فَقَاَمَ عُمَرُ رضي لله عنه وَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ دَعْنِي أضْرِبْ عُنُقَ هَذا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" إنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْراً، وَمَا يُدْريكَ أنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ لأَهْلِ بَدْرٍ : اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غُفِرَ لَكُمْ ".
قرأ عاصمُ ويعقوب (يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) بفتحِ الياء وكسر الصاد مخفَّفاً، وقرأ ابنُ عامر والأعرج (يُفَصَّلُ) بضمِّ الياء وفتحِ الصاد مشدَّداً، وقرأ طلحةُ والنخعي (نُفَصِّلُُ) بالنون وبضمَّة وكسرِ الصاد مشدَّداً، وقرأ الباقون (يُفْصَلُ) بضم الياء وفتح الصاد مخفَّفاً.
ثُم ضربَ اللهُ لهم إبراهيمَ مَثلاً حين تبرَّأ من قومهِ فقال تعالى :﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ ﴾ ؛ أي قد كانت لكم قدوةٌ حسَنةٌ في إبراهيمَ خليلِ الله والذين معَهُ من المؤمنين، ﴿ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ ﴾ ؛ لأقاربهم من الكفَّار :﴿ إِنَّا بُرَءآؤُاْ مِّنْكُمْ ﴾ ؛ ومن دِينكم، ﴿ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ ؛ من الأصنامِ، ﴿ كَفَرْنَا بِكُمْ ﴾، تبرَّأنَا منكم، ﴿ وَبَدَا ﴾ ؛ وظهرَ، ﴿ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ ﴾ ؛ بالفعلِ، ﴿ وَالْبَغْضَآءُ ﴾ ؛ بالقولِ، ﴿ أَبَداً ﴾ ؛ إلى الأبدِ، ﴿ حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ ﴾ ؛ تُقِرُّوا وتُصدِّقوا بوحدانيَّة اللهِ تعالى، فهلاَّ تأَسَّيتَ يا حاطبُ بإبراهيمَ في إظهارهِ مُعاداةَ الكفَّار، وقطعِ الموالاةِ بينكم وبينهم كما فعلهُ إبراهيم ومَن معهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ ﴾ ؛ أي قد كانت لكم أسوةٌ حسَنةٌ في إبراهيمَ وأمُورهِ، إلاَّ في قولهِ لأبيهِ لأستغفرن لك، ﴿ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ﴾ ؛ إنْ عَصَيتَهُ، نُهُوا أن يتأَسَّوا بإبراهيمَ في هذا خاصَّة فيَستَغفِرُوا للمشركين.
والمعنى : قد كانت لكم أسوةٌ حَسنةٌ في صُنعِ إبراهيمَ إلاَّ في استغفارهِ لأبيهِ وهو مشركٌ. ثم بيَّن اللهُ عُذرَهُ إبراهيمَ في سورةِ التَّوبة في استغفارهِ لأبيه فقالَ تعالى :﴿ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ ﴾[التوبة : ١١٤] وكان هذا قبلَ إخبار الله تعالى أنْ لا يغفرَ أنْ يُشرَكَ به. وقولُ إبراهيم :﴿ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ﴾ معناهُ : لا أقدرُ على دفعِ شيءٍ من عذاب الله عنكَ إنْ لم تُؤمِنْ.
وكان من دعاءِ إبراهيمَ وأصحابهِ :﴿ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا ﴾ ؛ أي وَثِقْنا، ﴿ وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا ﴾ ؛ أي فوَّضنَا أُمورَنا وإليك رجَعنا بالتَّوبةِ والطاعةِ، ﴿ وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ ؛ في الآخرةِ، ﴿ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ ؛ أي لا تُظهِرِ الكفَّارَ عَلينا فيظُنُّوا أنَّهم على الحقِّ وأنَّا على الباطلِ فيُفتَنوا بها، هكذا قال قتادةُ. وعن ابنِ عبَّاس أنَّهُ قالَ :(مَعْنَاهُ : لاَ تُسَلِّطْهُمْ فَيَفْتِنُونَا). وقال مجاهدُ :(مَعْنَاهُ : لاَ تُعَذِّبْنَا بأَيْدِيهِمْ وَلاَ بعَذابٍ مِنْ عِنْدِكَ فَيَقُولُوا : لَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ عَلَى الْحَقِّ مَا أصَابَهُمْ هَذا).
وهذا يقتضي وجوبَ الاقتداء بهم في أفعالِهم، وأما الأُولى فنُهوا الاقتداءَ بهم في باب العداوة للهِ في أمر الدين. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ ﴾ بدلٌ من قولهِ ﴿ لَكُمْ فِيهِمْ ﴾ وهذا كقولهِ تعالى﴿ وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴾[آل عمران : ٩٧]. ومعنى ﴿ يَرْجُو اللَّهَ ﴾ أي يخافُ اللهَ ويخافُ الآخرةَ، ﴿ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ ؛ أي مَن يُعرِضُ عن الإيمانِ ويُوالِي الكفارَ فإنَّ اللهَ هو الغنيُّ عن خلقهِ، الحميدُ إلى أوليائهِ وأهلِ طاعته.
قال مقاتلُ :(فَلَمَّا أمَرَ اللهُ الْمُسْلِمِينَ بعَدَاوَةِ الْكُفَّار أظْهَرُواْ لَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَرَاءَةَ امْتِثَالاً لأَمْرِ اللهِ تَعَالَى) فأنزلَ اللهُ :﴿ عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم ﴾ ؛ أي كونوا على رجاءٍ وطمعٍ في أن يجعلَ اللهُ بينكم وبين الذين عادَيتم من المشركين، ﴿ مَّوَدَّةً ﴾ ؛ يعني من كفار مكَّة.
ففعلَ اللهُ ذلكَ بأن أسلمَ كثيرٌ منه بعدَ الفتحِ، منهم أبو سُفيان بن حربٍ ؛ وأبو سُفيان بن الحارث ؛ والحارثُ بنُ هشام ؛ وسُهيل بن عمرٍو ؛ وحَكمُ بن حِزام، وكانوا مِن رُؤساء الكفَّار والمعادِين لأهلِ الإسلامِ، فصارُوا لهم أولياءً وإخوَاناً، فخَالَطُوهم وناكَحُوهم، وتزوَّجَ رسولُ الله ﷺ أُمَّ حبيبةَ بنتِ أبي سُفيان بن حرب، فَلانَ لهم أبو سفيان، فهذه المودَّةُ التي جعلَها اللهُ تعالى بينَهم، ﴿ وَاللَّهُ قَدِيرٌ ﴾ ؛ على أن يجعلَ بينكم المودَّة، ﴿ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ ؛ بهم بعد ما تَابُوا وأسلَمُوا.
ولذلك جوَّزَ أبو حَنيفة ومحمَّد صرفَ صدقةِ الفطرِ والكفَّارات والنُّذور الْمُطْلَقَةِ إليهم، وأجْمَعُوا على جواز صرفِ صدقةِ التطوُّع إليهم، وأجْمَعُوا على أنه لا يجوزُ صرفُ الزَّكَوَاتِ إليهم لقوله عليه السلام :" أُمِرْتُ أنْ آخُذ الصَّدَقَةَ مِنْ أغْنِيَائِكُمْ وَأرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِكُمْ ".
وقولهُ تعالى :﴿ أَن تَبَرُّوهُمْ ﴾ في موضعِ خفضٍ بدلَ من ﴿ الَّذِينَ ﴾ كأنَّهُ قالَ عن أنْ تبَرُّوا الذين لم يُقاتِلُوكم، وقوله تعالى :﴿ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ ؛ القِسْطُ إليهم أن نُعطِيَهم قِسْطاً من أموالِنا على جهة البرِّ، ويقالُ : أقسطتُ إلى الرجُلِ اذا عامَلتهُ بالعدلِ، قال الزجَّاج :(مَعْنَاهُ : وَتَعْدِلُوا فِيْمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِنَ الْوَفَاءِ بالْعَهْدِ).
قال ابنُ عبَّاس :" صَالَحَ رَسُولُ اللهِ ﷺ كُفَّارَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبيَةِ عَلَى أنَّ مَنْ أتَاهُ مِنْ مَكَّةَ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ، وَمَنْ أتَى مَكَّةَ مِنْ أصْحَابهِ فَهُوَ لَهُمْ، وَلَمْ يَرُدُّوهُ عَلَيْهِ، وَكَتَبَ النَّبِيُّ ﷺ بذلِكَ كِتَاباً لَهُمْ وَخَتَمَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا خَتَمَ عَلَيْهِ النَّبيُّ ﷺ جَاءَتْهُ سَبيعَةُ بنْتُ الْحَارثِ الأَسْلَمِيَّةُ مُسْلِمَةً.
فَجَاءَ زَوْجُهَا إلَى النَّبيِّ ﷺ وَهُوَ كَافِرٌ وَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ رُدَّهَا عَلَيَّ، فَإنَّكَ شَرَطْتَ لَنَا ذلِكَ عَلَيْكَ، وَهَذِهِ طِينَةُ كِتَابنَا لَمْ تَجِفَّ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ﴿ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ﴾ ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ﴾ ؛ فَاسْتَحْلَفَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ " باللهِ مَا أخْرَجَكِ إلَيْنَا إلاَّ الْحِرْصُ عَلَى الإيْمَانِ وَالرَّغْبَةُ فِيْهِ وَالْمَحَبَّةُ للهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلإسْلاَمِ " فَحَلَفَتْ باللهِ الْعَظِيمِ الَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ مَا خَرَجْتُ إلاَّ لِذلِكَ، فَأَمَرَ النَّبيُّ ﷺ أنْ يُعْطَى زَوْجُهَا مَهْرَهَا الَّذِي أُنْفِقَ عَلَيْهَا، فَأَعْطَوْهُ مَهْرَهَا وذلك معنى قولهِ :﴿ وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ ﴾ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ﴾ أي هذا الامتحانُ لكم، واللهُ عالِمٌ بهنَّ، وليس عليكم إلاَّ علمُ الظاهرِ، واللهُ أعلَمُ بإيمانِهنَّ قبلَ الامتحانِ وبعدَهُ، فإن علمتُموهنَّ في الظاهرِ بالامتحان أنَّهن مؤمناتٍ فلا تردُّوهن إلى أزواجهنَّ الكفَّار بمكة، لا المؤمناتُ حِلٌّ للكفار ولا الكفارُ يحلُّون للمؤمناتِ. وقوله تعالى :﴿ وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ ﴾ أي أعطُوا أزواجَ المهاجراتِ من الكفَّار ما أنفَقُوا عليهنَّ من المهرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ﴾ ؛ أي لا جُناحَ عليكم أنْ تتزوَّجُوهن إذا أعطيتُموهنَّ مُهورَهن ولو كان لَهنَّ أزواجٌ كفَّار في دار الكفر ؛ لأن الإسلامَ قد فرَّقَ بينها وبين الكافرِ، وهذا كلُّه دليلٌ أنَّ الْحُرَّةَ إذا هاجَرت إلينا مُسلمةً أو ذميَّة وقعتِ الفرقةُ بينهما بنفسِ الْمُهَاجَرَةِ، كما هو مذهبُ أصحابنا.
ولهذا قال أبو حنيفةَ :(إنَّ الْمُهَاجِرَةَ لاَ عِدَّةَ عَلَيْهَا لأنَّ اللهَ تَعَالَى أبَاحَ لِلْمُسْلِمِينَ التَّزَوُّجَ بالْمُهَاجِرَاتِ مِنْ غَيْرِ أنْ يَشْرُطَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ، وَلَوْ كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ بَاقِيَةً بَعْدَ الْمُهَاجَرَةِ لَمَا أمَرَ اللهُ برَدِّ مُهُورهِنَّ عَلَى أزْوَاجِهِنَّ.
فَقَالَ ﷺ :" وَلاَ تَسْرِقْنَ " فَقَالَتْ هِنْدٌ : إنَّ أبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ مُمْسِكٌ، وَإنِّي أُصِيبُ مِنْ مَالِهِ لِغِنَاهُ، وَلاَ أدْري أيَحِلُّ لِي أمْ لاَ ؟ فَقَالَ أبُو سُفْيَان : مَا أصَبْتِ مِنْ شَيْءٍ فِيمَا مَضَى أوْ قَدْ بَقِيَ فَهُوَ لَكِ حَلاَلٌ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَعَرَفَهَا وَقَالَ :" إنَّكِ لَهِنْدُ بنْتُ عُتْبَةَ ؟ " قَالَتْ : فَاعْفُ عَمَّا سَلَفَ يَا نَبيَّ اللهِ عَفَا اللهُ عَنْكَ.
فَقَالَ :" وَلاَ تَزْنِينَ " قَالَتْ : وَهَلْ تَزْنِي الْحُرَّةُ ؟ فَضَحِكَ عُمَرُ رضي الله عنه وَقَالَ : لاَ لَعَمْرِي مَا تَزْنِي الْحُرَّةُ، فَقَالَ :" وَلاَ تَقْتُلْنَ أوْلاَدَكُنَّ " فَقَالَتْ هِنْدُ : زَيَّنَّاهُمْ صِغَاراً وَقَتَلْتُمُوهُمْ كِبَاراً، وَكَانَ ابْنُهَا حَنْظَلَةُ بْنُ أبي سُفْيَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَضَحِكَ عُمَرُ رضي الله عنه حَتَّى اسْتَلْقَى عَلَى ظَهْرِهِ، وَتَبَسَّمَ النَّبيُّ ﷺ ".
ومعنى الآية :﴿ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ ﴾ أي لا يدفِنَّ بناتِهنَّ أحياءً كما كان العربُ يفعلونَهُ، فقال تعالى :﴿ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ﴾ ؛ أي لا تُلحِقُ بزوجِها وَلداً ليس منه، وذلك أنَّ المرأةَ كانت تلتقطُ لَقيطاً فتضعهُ بين يدَيها ورجلَيها وتقولُ لزوجِها : ولدتُ هذا الولدَ، فذاكَ البهتانُ والافتراءُ. ويقالُ : أرادَ بين الأيدِي أن يوضَعَ بين يدَيها ولدُ غيرها وبين أيدِيهنَّ أن يأتِين بولدٍ حرام، وهذا كنايةٌ عن الفرجِ، فلما قالَ عليه السلام، قَالَتْ هِنْدٌ : وَاللهِ إنَّ الْبُهْتَانَ لَقَبيحٌ وَمَا تَأْمُرُنَا إلاَّ بالرُّشْدِ وَمَكَارمِ الأَخْلاَقِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ﴾ ؛ أي وجميعُ ما تأمرُهنَّ وتنهاهُنَّ من النَّوحِ وشقِّ الجيوب وخَمْشِ الوُجوهِ ورنَّةِ الشيطانِ وغيرِ ذلك من أصواتِ المعصية ومن صوتِ اللَّعب واللهوِ والمزاميرِ وغير ذلك. والمعروفُ : كلُّ ما كان طاعةً، والمنكَرُ : كلُّ ما كان معصيةً، فلما قالَ ﷺ :" وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ " قَالَتْ هِنْدُ : وَمَا جَلَسْنَا مَجْلِسَنَا هَذا وَفِي أنْفُسِنَا أنْ نَعْصِيَكَ فِي شَيْءٍ، فَأَقَرَّتِ النِّسْوَةُ بمَا أخَذ عَلَيْهِنَّ.
وقولهُ تعالى :﴿ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ ؛ معناهُ : إذا بايعنَكَ على هذهِ الشُّروط فبايعهُن، فقال ﷺ :" قَدْ بَايَعْتُكُنَّ " كلاماً كلَّمَهن به من غيرِ أن مسَّتْ يدهُ يدَ امرأةٍ، وكان على يدِ عُمر رضي الله عنه ثوبٌ يصافحُ به النساءَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخِرَةِ ﴾ ؛ لأنَّهم كانوا يعرِفُون النبيَّ ﷺ كما يعرِفون أبنائَهم، وكانوا لا يؤمنون به، فآيَسُوا من أن يكون لَهم في الآخرةِ خيرٌ. وَقِيْلَ : إنَّهم كانوا يزعُمون أنه لا يكون في الآخرةِ أكلٌ ولا شربٌ ولا نعمة، والمرادُ بذلك اليهودُ.
وقولهُ تعالى :﴿ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ﴾ ؛ معناهُ كما يَئِسَ المشركون الذين لا يُؤمنون بالبعثِ من رُجوعِ أصحاب القبور ومِن أن يُبعَثوا. وَقِيْلَ : معناهُ : كما يَئِسَ الكفارُ إذا ماتوا وصارُوا في القبور من أنْ يكون لَهم في الآخرةِ حظٌّ، ويَئِسُوا من أنْ يكون لهم في الآخرةِ نصيبٌ.