ﰡ
إن تقوى ربنا خير نَقَلْ | وبإذن الله رَيْثى والعجل |
سبب آخر في نزول الآية
وقال الإمام أحمد عن أبي أمامة قال : سألت ( عبادة ) عن الأنفال، فقال : فينا أصحاب بدر نزلت، حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا، فانتزعه الله من أيدينا، وجعله إلى رسول الله ﷺ فقسمه رسول الله ﷺ بين المسلمين عن بواء، يقول : عن سواء، وقال الإمام أحمد أيضاً عن عبادة بن الصامت قال :
وقوله تعالى :﴿ فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ ﴾ أي اتقوا الله في أموركم وأصلحوا فيما بينكم ولا تظالموا ولا تخاصموا ولا تشاجروا، فما آتاكم الله من الهدى والعلم خير مما تختصمون بسببه، ﴿ وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ ﴾ أي في قسمه بينكم على ما أراده الله، فإنه إنما يقسمه كما أمره الله من العدل والإنصاف، وقال ابن عباس : هذا تحريج من الله ورسوله أن يتقوا ويصلحوا ذات بينهم، وقال السدي ﴿ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ ﴾ أي لا تستبوا، ولنذكر هاهنا حديثاً أورده الحافظ أبو يعلى الموصلي رحمه الله في « مسنده » عن أنس رضي الله عنه قال :« بينا رسول الله ﷺ جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه، فقال عمر : ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ فقال :» رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة تبارك وتعالى، فقال أحدهما : يا رب خذ لي مظلمتي من أخي، قال الله تعالى : أعط أخاك مظلمته، قال : يا رب لم يبق من حسناتي شيء، قال : رب فليحمل عني من أوزاري «، قال : ففاضت عينا رسول الله ﷺ بالبكاء، ثم قال :» إن ذلك ليوم عظيم، يوم يحتاج الناس إلى من يتحمل عنهم من أوزارهم، فقال الله تعالى للطالب : ارفع بصرك وانظر في الجنان فرفع رأسه فقال : يا رب أرى مدائن من فضة وقصوراً من ذهب مكللة باللؤلؤ، لأي نبي هذا؟ لأي صديق هذا؟ لأي شهيد هذا؟ قال : هذا لمن أعطى ثمنه؟ قال : رب ومن يملك ثمنه؟ قال : أنت تملكه، قال : ماذا يا رب؟ قال تعفو عن أخيك، قال : يا رب فإني قد عفوت عنه. قال الله تعالى : خذ بيد أخيك فادخلا الجنة « ثم قال رسول الله ﷺ :﴿ فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ ﴾، فإن الله تعالى يصلح بين المؤمنين يوم القيامة ».
وقوله تعالى :﴿ أولائك هُمُ المؤمنون حَقّاً ﴾ أي المتصفون بهذه الصفات هم المؤمنون حق الإيمان، « عن الحارث بن مالك الأنصاري : أنه مر برسول الله ﷺ فقال له :» كيف أصبحت يا حارث «؟ قال : أصبحت مؤمناً حقاً، قال :» انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك «؟ فقال : عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها، فقال :» يا حارث عرفت فالزم « ثلاثاً »
روى ابن أبي حاتم قال :« خرج رسول الله ﷺ إلى بدر، حتى إذا كان بالروحاء خطب الناس فقال :» كيف ترون «؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله بلغنا أنهم بمكان كذا وكذا، قال : ثم خطب الناس فقال :» كيف ترون «؟ فقال عمر : مثل قول أبي بكر، ثم خطب الناس فقال :» كيف ترون «؟ فقال سعد بن معاذ : يا رسول الله إيانا تريد؟ فوالذي أكرمك وأنزل عليك الكتاب ما سلكتها قط ولا لي بها علم، ولئن سرت حتى تأتي برك الغماد من ذي يمن لنسيرن معك، ولا نكون كالذين قالوا لموسى :﴿ فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [ المائدة : ٢٤ ]، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، ولعلك أن تكون خرجت لأمر، وأحدث الله إليك غيره، فانظر الذي أحدث الله إليك فامض له، فصل حبال من شئت، واقطع حبال من شئت، وعاد من شئت، وسالم من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، فنزل القرآن على قول سعد :﴿ كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ ﴾ »
وقال محمد بن إسحاق رحمه الله :« لما سمع رسول الله ﷺ بأبي سفيان مقبلاً من الشام ندب المسلمين إليهم، وقال : هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها، فانتدب الناس فخف بعضهم، وثقل بعضهم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله ﷺ يلقى حرباً، وكان أبو سفيان قد استنفر حين دنا من الحجاز، يتجسس الأخبار، ويسأل من لقي من الركبان تخوفاً على أمر الناس حتى أصاب خبراً من بعض الركبان أن محمداً قد استنفر أصحابه لك ولعيرك فحذر عند ذلك، فاستأجر ( ضمضم بن عمرو الغفاري ) فبعثه إلى أهل مكة وأمره أن يأتي قريشاً، فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمداً قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعاً إلى مكة، وخرج رسول الله ﷺ في أصحابه حتى بلغ وادياً يقال له ذفران، فخرج منه، حتى إذا كان ببعضه نزل، وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار رسول الله ﷺ الناس، وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال فأحسن، ثم قام عمر رضي الله عنه، فقال فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله امض لما أمرك الله به فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى :﴿ فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [ المائدة : ٢٤ ]، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد - يعني مدينة الحبشة - لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله ﷺ خيراً، ودعا له بخير، ثم قال رسول الله ﷺ :» أشيروا علي أيها الناس « وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم كانوا عدد الناس، وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : يا رسول الله، إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا، ونساءنا وكان رسول الله ﷺ يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو قال :» أجل «، فقال : قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أمرك الله، فوالذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما يتخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا الصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله، فسر رسول الله ﷺ بقول سعد : ونشطه ذلك، ثم قال :» سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم «، وروى العوفي عن ابن عباس نحو هذا، وكذلك قال السدي وقتادة وعبد الرحمن بن أسلم وغير واحد من علماء السلف والخلف، اختصرنا أقوالهم اكتفاء بسياق محمد بن إسحاق ».
قال البخاري في كتاب « المغازي » باب قول الله تعالى :﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ ﴾ الآية، عن طارق بن شهاب قال : سمعت ابن مسعود يقول : شهدت من المقداد بن الأسود مشهداً لأن أكون صاحبه أحب إليَّ مما عدل به، أتى النبي ﷺ وهو يدعو على المشركين فقال : لا نقول كما قال قوم موسى ﴿ فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا ﴾ [ المائدة : ٢٤ ]، ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك ومن خلفك، فرأيت النبي ﷺ أشرق وجهه وسره، يعني قوله، وعن ابن عباس قال، « قال النبي ﷺ يوم بدر :» اللهم أنشدك عهدم ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد « فأخذ أبو بكر بيده فقال : حسبك، فخرج وهو يقول :» سيهزم الجمع ويولون الدبر « وقوله تعالى :﴿ بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة مُرْدِفِينَ ﴾ أي يردف بعضهم بعضاً، كما قال ابن عباس ﴿ مُرْدِفِينَ ﴾ : متتابعين، ويحتمل أن المراد ﴿ مُرْدِفِينَ ﴾ لكم أي نجدة لكم، كما قال العوفي عن ابن عباس ﴿ مُرْدِفِينَ ﴾ يقول : المدد، كما تقول أنت للرجل زده كذا وكذا. وفي رواية ﴿ مُرْدِفِينَ ﴾ قال : بعضهم على أثر بعض، وقال ابن جرير : نزل جبريل في ألف من الملائكة عن ميمنة النبي ﷺ وفيها أبو بكر، ونزل ميكائيل في ألف من الملائكة عن مسيرة النبي ﷺ، وهذا يقتضي - إن صح إسناده - أن الألف مردفة بمثلها، ولهذا قرأ بعضهم :﴿ مُرْدِفِينَ ﴾ بفتح الدال والله أعلم، والمشهور ما روي عن ابن عباس قال : وأمد الله نبيه ﷺ والمؤمنين بألف من الملائكة، فكان جبريل في خمسمائة من الملائكة مجنبة، ومكائيل في خمسمائة مجنبة، وروي عن ابن عباس قال : بينا رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت الفارس يقول : أقدم حيزوم، إذ نظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقياً، قال : فنظر إليه، فإذا هو قد حطم وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول الله ﷺ فقال : صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة، فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين.
وفي » البخاري « قال : جاء جبريل إلى النبي ﷺ فقال : ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال :» من أفضل المسلمين « أو كلمة نحوها قال : وكذلك من شهد بدراً من الملائكة، وفي الصحيحين » أن رسول الله ﷺ قال لعمر لما شاوره في قتل ( حاطب بن أبي بلتعة ) « إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم »؟ «
وقوله تعالى :﴿ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً ﴾، قال ابن عباس : إن المشركين من قريش لما خرجوا لينصروا العير وليقاتلوا عنها، نزلوا على الماء يوم بدر، فغلبوا المؤمنين عليه، فأصاب المؤمنين الظمأ فجعلوا يصلون مجنبين محدثين، حتى تعاطوا ذلك في صدورهم، فأنزل الله من السماء ماء حتى سال الوادي، فشرب المؤمنون، وملأوا الأسقية، وسقوا الركاب واغتسلوا من الجنابة، فجعل الله في ذلك طهوراً وثبت به الأقدام، وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رملة فبعث الله المطر عليها، والمعروف « أن رسول الله ﷺ لما سار إلى بدر نزل على أدنى ماء هناك أي أول ماء وجده، فتقدم إليه الحباب بن المنذر فقال : يا رسول الله هذا المنزل الذي نزلته منزل أنزلك الله إياه فليس لنا أن نجاوزه أو منزل نزلته للحرب والمكيدة؟ فقال :» بل منزل نزلته للحرب والمكيدة « فقال : يا رسول الله إن هذا ليس بمنزل، ولكن سر بنا حتى ننزل على أدنى ماء يلي القوم ونغور ما وراءه من القلب، ونستقي الحياض فيكون لنا ماء وليس لهم ماء، فسار رسول الله ﷺ ففعل ذلك »
وقوله تعالى :﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ ﴾ وهذه نعمة خفية أظهرها الله تعالى لهم ليشكروه عليها، وهو أنه تعالى لهم ليشكروه عليها، وهو أنه تعالى وتقدس أوحى إلى الملائكة الذين أنزلهم لنصر نبيه ودينه أن يثبتوا الذين آمنوا، قال ابن جرير : أي ثبتوا المؤمنين وقووا أنفسهم على أعدائهم سألقي الرعب والذلة والصغار على من خالف أمري وكذب رسولي، ﴿ فاضربوا فَوْقَ الأعناق واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾ أي اضربوا الهام فأفلقوها واحتزوا الرقاب فقطعوها، وقطعوا الأطراف منهم وهي أيديهم وأرجلهم، وقد اختلف المفسرون في معنى ﴿ فَوْقَ الأعناق ﴾ فقيل : معناه اضربوا الرؤوس، قاله عكرمة. وقيل معناه أي على الأعناق وهي الرقاب، قاله الضحاك. ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى :﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرقاب ﴾ [ محمد : ٤ ] وقال القاسم، قال النبي ﷺ :« إني لم أبعث لأعذب بعذاب الله، إنما بعثت لضرب الرقاب وشد الوثاق »، وقال الربيع بن أنس : كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة بضرب فوق الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق به، وقوله :﴿ واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾، قال ابن جرير : معناه واضربوا من عدوكم أيها المؤمنون كل طرف ومفصل من أطراف أيديهم وأرجلهم، والبنان جمع بنانه كما قال الشاعر :
ألا ليتني قطعت مني بنانة | ولاقيته في البيت يقظان حاذراً |
وقال الإمام أحمد عن بشير بن معبد قال :« أتيت النبي ﷺ لأبايعه فاشترط عليَّ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن أقيم الصلاة، وأن أؤدي الزكاة، وأن أحج حجة الإسلام، وأن أصوم شهر رمضان، وأن أجاهد في سبيل الله؛ فقلت يا رسول الله أما اثنتان فوالله لا أطيقهما : الجهاد، فإنهم زعموا أنه من ولى الدبر فقد باء بغضب من الله، فأخاف إن حضرت ذلك خشعت نفسي وكرهت الموت. والصدقة، فوالله ما لي إلا غنيمة وعشر ذودهن رسل أهلي وحمولهم، فقبض رسول الله ﷺ يده ثم حرك يده ثم قال :» فلا جهاد ولا صدقة فبم تدخل الجنة إذاً «؟ قلت : يا رسول الله أنا أبايعك، فبايعته عليهن كلهن »
( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال : سمعت النبي ﷺ يقول :» ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه «، وكان يقول :» يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك « قال :» والميزان بيد الرحمن يخفضه ويرفعه « ( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد عن أم سلمة أن رسول ﷺ كان يكثر في دعائه يقول :» اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك « قالت، فقلت : يا رسول الله أو إن القلوب لتقلب؟ قال :» نعم ما خلق الله من بشر من بني آدم إلا أن قلبه بين أصبعين من أصابع الله عزَّ وجلَّ، فإن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه، فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب « قالت : فقلت : يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال :» بلى، قولي اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتني «.
( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد عن حذيفة بن اليمان أن رسول الله ﷺ قال :« والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم »، وقال حذيفة رضي الله عنه : إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله ﷺ فيصير منافقاً، وإني لأسمعها من أحدكم من المقعد الواحد أربع مرات، لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر، ولتحاضُنَّ على الخير، أو ليسحتكم الله جميعاً بعذاب، أو ليؤمرن عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم. ( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد أيضاً عن عامر رضي الله عنه قال : سمعت النعمان بن بشير يخطب يقول - وأومأ بأصبعيه إلى أذنيه - يقول : مثل القائم على حدود الله والواقع فيها والمدهن فيها كمثل قوم ركبوا سفينة فأصاب بعضهم أسفلها وأوعرها وشرها، وأصاب بعضهم أعلاها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم فآذوهم، فقالوا : لو خرقنا في نصيبنا خرقاً فاستقينا منه ولم نؤذ من فوقنا! فإن تركوهم وأمرهم هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعاً.
وقال السدي : إذا خانوا الله ورسوله فقد خانوا أماناتهم. وقال أيضاً : كانوا يسمعون من النبي ﷺ الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين، وقال ابن زيد : نهاكم أن تخونوا الله والرسول كما صنع المنافقون، وقوله :﴿ واعلموا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ أي اختبار وامتحان منه لكم إذ أعطاكموها ليعلم أتشكرونه عليها وتطيعونه فيها أو تشتغلون بها عنه وتعتاضون بها منه كما قال تعالى :﴿ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾، وقال :﴿ وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً ﴾ [ الأنبياء : ٣٥ ]، وقال تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ الله ﴾
قال ابن إسحاق : أتاه جبريل عليه السلام فأمره أن لا يبيت في مكانه الذي كان يبيت فيه، فدعا رسول الله ﷺ ( علي بن أبي طالب ) فأمره أن يبيت على فراشه ويتسجى ببرد له أخضر، ففعل ثم خرج رسول الله ﷺ على القوم، وهم على بابه، وخرج معه بحفنة من تراب فجعل يذروها على رؤوسهم، وأخذ الله بأبصارهم عن نبيه ﷺ وهو يقرأ :﴿ يس * والقرآن الحكيم ﴾ [ يس : ١-٢ ] إلى قوله :﴿ فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ﴾ [ يس : ٩ ]. وقد روى ابن حبان في « صحيحه » والحاكم في « مستدركه » عن ابن عباس قال :« دخلت فاطمة على رسول الله ﷺ وهي تبكي، فقال :» ما يبكيك يا بنية «؟ قالت : يا أبت ومالي لا أبكي وهؤلاء الملأ من قريش في الحِجْر يتعاهدون باللات والعزى ومناة الثالثة لو قد رأوك لقاموا إليك فيقتلونك، وليس منهم إلا من قد عرف نصيبه من دمك، فقال : يا بنية ائتني بوضوء »، فتوضأ رسول الله ﷺ، ثم خرج إلى المسجد، فلما رأوه قالوا : ها هو ذا، فطأطأ رؤوسهم، وسقطت رقابهم بين أيديهم فلم يرفعوا أبصارهم، فتناول رسول الله ﷺ قبضة من تراب فحصبهم بها، وقال :« شاهت الوجوه » فما أصاب رجلاً منهم حصاة من حصياته إلا قتل يوم بدر كافراً « وعن ابن عباس في قوله :﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ﴾ الآية. قال :» تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم : إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي ﷺ، وقال بعضهم : بل اقتلوه، وقال بعضهم : بل اخرجوه، فأطلع الله نبيه ﷺ على ذلك فبات علي رضي الله عنه على فراش رسول الله ﷺ، وخرج النبي ﷺ حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون علياً يحسبونه النبي ﷺ، فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوا علياً رد الله تعالى مكرهم، فقالوا : أين صاحبك هذا؟ قال : لا أدري، فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا في الجبل، فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا : لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال « وقال عروة بن الزبير في قوله :﴿ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله ﴾ أي فمكرت بهم بكيدي المتين حتى خلصتك منهم.
وقوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ هذا من كثرة جهلهم وشدة تكذيبهم وعنادهم وعتوهم، وهذا مما عيبوا به، وكان الأولى لهم أن يقولوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ووفقنا لاتباعه، ولكن استفتحوا على أنفسهم واستعجلوا العذاب وتقديم العقوبة، كقوله تعالى :﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ العذاب ﴾ [ العنكبوت : ٥٣ ]، ﴿ وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب ﴾ [ ص : ١٦ ]، وقوله :﴿ سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ﴾ [ المعارج : ١ ]، وكذلك قال الجهلة من الأمم السالفة كما قال قوم شعيب له :﴿ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء إِن كُنتَ مِنَ الصادقين ﴾ [ الشعراء : ١٨٧ ]. عن أنس بن مالك قال أبو جهل ابن هشام :﴿ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾، فنزلت :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ وقال الأعمش عن ابن عباس في قوله ﴿ وَإِذْ قَالُواْ اللهم ﴾ الآية، قال : هو النضر بن الحارث بن كلدة قال : فأنزل الله :﴿ سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ﴾ [ المعارج : ١-٢ ].
وقوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾، قال ابن عباس : كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون : لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك، ويقولون : غفرانك غفرانك، فأنزل الله ﴿ وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ﴾ الآية.
وقال عروة والسدي في قوله تعالى :﴿ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ المتقون ﴾ قال : هم محمد ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم، وقال مجاهد : هم المجاهدون من كانوا حيث كانوا، ثم ذكر تعالى ما كانوا يعتمدونه عند المسجد الحرام وما كانوا يعاملونه به، فقال :﴿ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً ﴾ المكاء هو الصفير، وزاد مجاهد : وكانوا يدخلون أصابعهم في أفواههم.
وقال الضحاك عن ابن عباس :﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ يعني لا يكون شرك.
وقال ابن جرير عن الحسن قال : أوصى الحسن بالخمس من ماله، وقال : ألا أرضى من مالي بما رضي الله لنفسه؛ وعن عطاء قال : خمس الله والرسول واحد يحمل منه ويصنع فيه ما شاء، يعني النبي ﷺ، وهذا أعم وأشمل، وهو أنه ﷺ يتصرف في الخمس الذي جعله الله له بما شاء ويرده في أمته كيف شاء. ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد عن المقدام بن معد يكرب الكندي : أنه جلس مع عبادة بن الصامت وأبي الدرداء والحارث ابن معاوية الكندي رضي الله عنهم، فتذكروا حديث رسول الله ﷺ، فقال أبو الدرداء لعبادة :» يا عبادة كلمات رسول الله ﷺ في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس، فقال عبادة : إن رسول الله ﷺ صلى بهم في غزوة إلى بعير من المغنم، فلما سلم قام رسول الله ﷺ فتناول وبرة بين أنملتيه فقال :« إن هذه من غنائمكم، وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخيط والمخيط، وأكبر من ذلك وأصغر، ولا تغلوا، فإن الغلول عار ونار على أصحابه في الدنيا والآخرة، وجاهدوا الناس في الله القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله لومة لائم، وأقيموا حدود الله في السفر والحضر، وجاهدوا في الله، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة عظيم ينجي الله به من الهم والغم »
وقال شيخنا الإمام العلامة ابن تيمية رحمه الله : وهذا قول مالك وأكثر السلف وهو أصح الأقوال، فإذا ثبت هذا وعلم فقد اختلف أيضاً في الذي كان يناله عليه السلام من الخمس ماذا يصنع به من بعده؟ فقال قائلون : يكون لمن يلي الأمر من بعده، وقال آخرون : يصرف في مصالح المسلمين؛ وقال آخرون : بل هو مردود على بقية الأصناف ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، اختاره ابن جرير. وقال آخرون : بل سهم النبي ﷺ وسهم ذوي القربى مردودان على اليتامى والمساكين وابن السبيل، قال ابن جرير : وذلك قول جماعة من أهل العراق، وقيل : إن الخمس جميعه لذوي القربى، ثم اختلف الناس في هذين السهمين وفاة رسول الله ﷺ فقال قائلون : سهم النبي ﷺ يُسلّم للخليفة من بعده، وقال آخرون : لقرابة النبي ﷺ، وقال آخرون : سهم القرابة لقرابة الخليفة، واجتمع رأيهم أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدة في سبيل الله، فكانا على ذلك في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
وقال جبير بن مطعم : مشيت أنا وعثمان بن عفان، إلى رسول الله ﷺ فقلنا :« يا رسول الله أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا، ونحن وهم منك بمنزلة واحدة؟ فقال :» إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد « وفي بعض روايات هذه الحديث :» إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام « ؛ وهذا قول جمهور العلماء أنهم بنو هاشم وبنو المطلب. قال ابن جرير : وقال آخرون : هم بنو هاشم، ثم روى عن مجاهد قال : علم الله أن في بني هاشم فقراء، فجعل لهم الخمس مكان الصدقة، وفي رواية عنه قال : هم قرابة رسول الله ﷺ الذين لا تحل لهم الصدقة؛ عن ابن عباس قال، قال رسول الله ﷺ :» رغبت لكم عن غسالة الأيدي، لأن لكم من خمس الخمس ما يغنيكم أو يكفيكم «، وقوله :﴿ واليتامى ﴾ أي أيتام المسلمين، واختلف العلماء هل يختص بالأيتام الفقراء أو يعم الأغنياء والفقراء؟ على قولين، والمساكين هم المحاويج الذين لا يجدون ما يسد خلتهم ومسكنتهم ﴿ وابن السبيل ﴾ هو المسافر أو المريد للسفر إلى مسافة تقصر فيها الصلاة وليس له ما ينفقه في سفره ذلك، وسيأتي تفسير ذلك في آية الصدقات من سورة براءة إن شاء الله تعالى.
وقوله تعالى :﴿ إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا ﴾ أي امتثلوا ما شرعنا لكم من الخمس في الغنائم إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وما أنزل على رسوله، ولهذا جاء في » الصحيحين « من حديث عبد الله بن عباس في وفد عبد القيس أن رسول الله ﷺ قال لهم :
وقوله تعالى :﴿ إِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ ﴾، وقال ابن عباس : لما دنا القوم بعضهم من بعض قلل الله المسلمين في أعين المشركين، وقلل المشركين في أعين المسلمين، فقال المشركون : غرَّ هؤلاء دينهم، وإنما قالوا ذلك من قلتهم في أعينهم، فظنوا أنهم سيهزمونهم لا يشكون في ذلك، فقال الله :﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَإِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾، قال قتادة : وذكر لنا أن أبا جهل عدو الله لما أشرف على محمد ﷺ وأصحابه قال : والله لا يعبد الله بعد اليوم قسوة وعتواً، وقال ابن جريج : هم قوم كانوا من المنافقين بمكة قالوه يوم بدر، وقال الشعبي : كان ناس من أهل مكة قد تكلموا بالإسلام فخرجوا مع المشركين يوم بدر، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا : غرَّ هؤلاء دينهم، وقال مجاهد : هم فئة من قريش خرجوا مع قريش من مكة وهم على الارتياب فحبسهم ارتيابهم، فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله ﷺ قالوا : غرَّ هؤلاء دينهم، حتى قدموا على ما قدموا عليه مع قلة عددهم وكثرة عدوهم. وهكذا قال محمد بن إسحاق بن يسار سواء. وقال ابن جرير عن الحسن في هذه الآية قال : هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر فسموا منافقين، وقوله :﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله ﴾ أي يعتمد على جنابه ﴿ فَإِنَّ الله عَزِيزٌ ﴾ أي لا يضام من التجأ إليه، فإن الله عزيز منيع الجناب عظيم السلطان ﴿ حَكِيمٌ ﴾ في أفعاله لا يضعها إلا في مواضعها، فينصر من يستحق النصر، ويخذل من هو أهل لذلك.
فاضرب وجوه الغدر للأعداء | حتى يجيبوك إلى السواء |
« الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وأهلها معانون عليها، ومن ربط فرساً في سبيل الله كانت النفقة عليه كالماد يده بالصدقة لا يقبضها » وفي « صحيح البخاري » قال رسول الله ﷺ :« الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم » وقوله :﴿ تُرْهِبُونَ ﴾ أي تخوفون ﴿ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ ﴾ أي من الكفار ﴿ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ ﴾، قال مجاهد : يعني بني قريظة، وقال السدي : فارس، وقال سفيان الثوري : هم الشياطين التي في الدور، وقال مقاتل : هم المنافقون، وهذا أشبه الأقوال، ويشهد له قوله تعالى :
وفي « الصحيحين » « أن رسول الله ﷺ لما خطب الأنصار في شأن غنائم حينن قال لهم :» يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي « كلما قال شيئاً قالوا : الله ورسوله أمنّ » ؛ ولهذا قال تعالى :﴿ ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ أي عزيز الجناب فلا يخيب رجاء من توكل عليه ﴿ حَكِيمٌ ﴾ في أفعاله وأحكامه، عن ابن عباس قال : إن الرحم لتقطع، وإن النعمة لتكفر، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء، ثم قرأ :﴿ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ﴾، وعن مجاهد قال : إذا التقى المتحابان في الله فأخذ أحدهما بيد صاحبه وضحك إليه، تحاتت خطاياهما كما تحات ورق الشجر، قال عبدة : فقلت له : إن هذا ليسير فقال : لا تقل ذلك، فإن الله يقول :﴿ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ﴾ قال عبدة : فعرفت أنه أفقه مني. عن سلمان الفارسي أن رسول الله ﷺ قال :« إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم فأخذ بيده تحاتت عنهما ذنوبهما كما تحات الورق عن الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف، وإلا غفر لهما ذنوبهما ولو كانت مثل زبد البحار ».
وقال ابن عباس قالوا للنبي ﷺ : آمنا بما جئت به ونشهد أنك رسول الله لننصحن لك على قومنا، فأنزل الله :﴿ إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ ﴾ يخلف لكم خيراً مما أخذ منكم ﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾ الشرك الذي كنتم عليه، قال فكان العباس يقول : ما أحب أن هذه الآية لم تنزل فينا وإن لي الدنيا، لقد قال :﴿ يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ ﴾، فقد أعطاني خيراً مما أخذ مني مائة ضعف، وقال :﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾ وأرجو أن يكون قد غفر لي. وقال قتادة : ذكر لنا أن رسول الله ﷺ لما قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفاً، وقد توضأ لصلاة الظهر، فما أعطى يومئذ شاكياً، ولا حرم سائلاً، وما صلى يومئذ حتى فرقه، فأمر العباس أن يأخذ منه ويحتثي، فكان العباس يقول : هذا خير مما أخذ منا وأرجو المغفرة. قال الحافظ أبو بكر البيهقي عن أنس بن مالك قال :« أتى رسول الله ﷺ بمال من البحرين فقال :» انثروه في مسجدي « قال : وكان أكثر مال أتي به رسول الله ﷺ، فخرج إلى الصلاة ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحداً إلا أعطاه، إذ جاءه العباس، فقال : يا رسول الله أعطني فإني فاديت نفسي، وفاديت عقيلاً، فقال له رسول الله ﷺ :» خذ « فحثا في ثوبه، ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال : مر بعضهم يرفعه إليّ، قال :» لا «، قال : فارفعه أنت عليّ، قال :» لا «، فنثر منه ثم احتمله على كاهله، ثم انطلق، فما زال رسول الله ﷺ يتبعه بصره حتى خفي عنه عجباً من حرصه، فما قام رسول الله ﷺ وثَمَّ منها درهم » وقوله :﴿ وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ ﴾ أي وإن يريدوا خيانتك فيما أظهروا لك من الأقوال ﴿ فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ ﴾ أي من قبل بدر بالكفر به ﴿ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ﴾ أي بالأسارى يوم بدر ﴿ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ أي عليم بفعله حكيم فيه، قال قتادة : نزلت في ( عبد الله بن أبي سرح ) الكاتب حين ارتد ولحق بالمشركين، وقال عطاء الخراساني : نزلت في عباس وأصحابه حين قالوا : لننصحن لك على قومنا، وقال السدي بالعموم، وهو أشمل وأظهر والله أعلم.