هذه السورة مدنية، وقالوا : إن سبع آيات منها مكية، وعباراتها السامية تنبئ عن أنها مكية، وهي تبتدئ من قوله تعالى :﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ( ٣٠ ) ﴾ ( الأنفال ) فإن هذه الآيات السبع مكية، تدل عليها عباراتها وزمانها، ولكن لأنها متصلة بالهجرة أضيفت إلى سورة مدنية.
والأنفال سميت بأولها، وهو ﴿ يسألونك عن الأنفال ( ١ ) ﴾ ( الأنفال ) فسميت بهذا الإسم، وإن هذه السورة تشتمل على أعمال من أجل ما قام في الإسلام، فيها كان يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان، وبهذا اللقاء كان الفرق بين عزة الحق وذلة الباطل، وفيها تشريع الأنفال والغنائم، وفيها حكم الأسرى، ومتى يكون الأسر، وفيها إعداد العدة، وفيها الوفاء بالعهد، ومتى ينقض.
وقد ابتدئت السورة بذكر الأنفال، وما يؤخذ من الحرب، وبين الله تعالى أنها في الأصل لله تعالى ولرسوله، ليقوي بها الجيش، ويتخذ منها العدة والأهبة، وكان ذلك إيذانا بما يجيء بعد ذلك من يوم الفرقان.
١. ابتدئت السورة بالإشارة إلى ما كان من تساؤل حول الأنفال، ثم تكلمت بعد ذلك عن الاستعداد للالتقاء يوم الفرقان، وكانت أول العدة طاعة الله ورسوله، وامتلاء القلوب بهيبة الله، وبيان أن المؤمنين المجاهدين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا، ويتوكلون على ربهم إذا أعدوا العدة، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وإن ذكر الماضي وإرادة تغييره يكون بالعمل، والجهاد، وإنه يجب الصبر على فراق الأحبة، ومنع المجادلة في الحق، قال تعالى :﴿ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ( ٥ ) لُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ ( ٦ ) ﴾.
ثم يملأ الله تعالى قلوب المؤمنين إيمانا وهو من عدة النصر، ﴿ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ( ٧ ) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ( ٨ ) ﴾.
ويبين من بعد ذلك الالتجاء إلى الله واستغاثته فاستجاب بإمداد الملائكة الروحي الذي جعله الله تعالى بشرى لهم ولتطمئن قلوبهم.
ورزقهم الله الأمان فناموا، والنوم آمنين قوة، وأنزل الله تعالى من السماء ماء ليطهرهم به، ويذهب عنهم رجس الشيطان، ويوحي رب العالمين إلى الملائكة أن يثبتوا الذين آمنوا فيثبتوهم، وألقى في قلوب الذين كفروا الرعب، وصار المؤمنون على استعداد للقتال يضربون فوق الأعناق، ويضربون منهم كل بنان ؛ لأنهم عاندوا الله ورسوله وساقوه فليذوقوا ذلك البأس ومن بعد النار.
ثم يكون التحريض على القتال والثبات ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ ( ١٥ ) وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير ( ١٦ ) ﴾. ُ
وإنه بعد انتهاء المعركة التي كانت فيصل الحق بين قوة الإيمان والكفر، بين الله أن ذلك كان بفضل الله للمؤمنين، وأنه هو الذي رد كيد الكافرين، ووهن تدبيرهم، وأنه سبحانه هو الذي جاء بالفتح وأمر من عنده، وأنه مع إرادة الله تعالى للنصر، لن تغني عنهم فئتهم من الله سبحانه، وإن ذلك من طاعة المؤمنين لله وسماعهم لأوامره، وأنهم لا يقولون سمعنا وعصينا.
وقد بين الله بعد ذلك أن شر الدواب الذين آتاهم الله عقولا، فأصموا آذانهم عن الحق وتردوا في الباطل ترديا، وليعلموا أن الله هو المسيطر على القلوب به يهتدون، ويتركهم إن ساروا في طريق فيضلون، وبين أن الفتن إن جاءت تعم ولا تخص، وأن أشد الفتن أن يخونوا الله ورسوله ويخونوا أماناتهم، وان التقوى حصن القلوب، وهي فرقان ما بين الحق والباطل، وبها يفرق بينهما.
ويذكر الله تعالى بعد ذلك ما كان في آخر إقامتهم بمكة إذ يدبرون لمحمد حبسه أو قتله، أو يخرجوه، ويمكرون، والله سبحانه يدبر له أم هجرته، ﴿ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ( ٣٠ ) ﴾.
ويذكر بعض ما كان المشركون ينالون بالباطل من القرآن، وما تلج به عداوتهم فيقولون مستهينين بالحق الذي يدعوهم الله تعالى إليه :﴿ وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٣٢ ) ﴾، وذلك أبلغ التحدي والاستهانة بالحق فبدل أن يقولوا اللهم إن كان هذا هو الحق فاهدنا إليه، يقولون متحدين ﴿ فأمطر علينا حجارة من السماء ﴾، ولكن الله تعالى ما كان ليعذبهم والنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهم قائم بدعوته.
ثم يفرق اله تعالى بين المؤمنين الذين ينفقون في سبيل الله والكافرين الذين ينفقون عن سبيله، وان مآلهم جهنم، ويفتح الله تعالى لهم باب الرجاء والمغفرة إن ينتهوا، وإن نهاية القتال هو انتهاء الفتنة في الدين ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٣٩ ) وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ( ٤٠ ) ﴾.
في هذه السورة من أولها إلى هذه الآية، بيان القتال، وأن النصرة فيه بالتأييد من الله العزيز الحكيم والإيمان الصادق المستجلب لهذا التأييد، فهو قوة المسلمين، وضعف المشركين من كفرهم، وأنهم ينفقون ليصدوا عن سبيل الله تعالى.
بعد ذلك يتكلم الله تعالى في توزيع الغنائم، فيقول :﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٤١ ) ﴾.
ويبين الله مواقع القتال يوم بدر الذي انتهى بالنصر المؤزر، وإذ يربي الله تعالى قوة روح المؤمنين برؤية الأعداء في المنام قليلا، ﴿ وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ.......... ( ٤٣ ) ﴾ وإنه في رؤية العيان تستقلونهم لتتقدموا، ويستقلونكم لأنكم فعلا قلة، وذلك ﴿ ليقضي الله أمرا كان مفعولا.............. ( ٤٤ ) ﴾.
ويدعو الله تعالى إلى الثبات مكررا له ؛ لأن الثبات في الصدمة الأولى هو قوة الصبر كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم :( إنما الصبر عند الصدمة الأولى ) ( ١ )١.
ويدعو مع الثبات إلى ذكر الله تعالى ؛ لأنه عدة الأتقياء، وينهى عن التنازع حتى لا تذهب القوة، ولا يكن خروجكم بطرا بالمعيشة ورجاء الترف أو رئاء الناس فإن هذه هي مفاسد الجهاد، ولا يصح أن يزين الشيطان لكم ويركبكم ويقول لكم :﴿ لا غالب لكم اليوم من الناس......... ( ٤٨ ) ﴾ وإذا التقى الجمعان قال إني بريء منكم.
وعندئذ يجد المنافقون سبيلا إلى جموعكم، ويقولون :﴿ غير هؤلاء دينهم........... ( ٤٩ ) ﴾، فاطرحوا الشيطان، وغروره، وتوكلوا على الله، وإن الملائكة و يضربون وجوه الكافرين وأدبارهم عند موتهم، وقد ضرب الله تعالى الأمثال بآل فرعون إذ أخذهم الله بذنوبهم، وإذ كذبوا، وإن الله تعالى :﴿ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾.
ومن بعد ذلك يعود إلى الجهاد، والوقوف أمام الأشرار وحربهم، والاستعانة بالعهد لمن يقدم عهدا، إن وفوا ﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء.............. ( ٥٨ ) ﴾ وإنه يجب أن يكون المؤمنون على حذر واستعداد ﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ( ٦٠ ) ﴾ وأنه مع وجوب الاستعداد والإعداد، ﴿ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ......... ( ٦١ ) ﴾ ولا تنس التحريض على القتال، فيجتمع العهد مع الوفاء، والاستعداد للسلم وللحرب معا، ولا بد مع ذلك من تأليف قلوب المؤمنين، فإنه أقوى أسباب النصر، وإن القوة المعنوية مع ائتلاف القلوب تضاهي الألوف ﴿ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ............ ( ٦٥ ) ﴾.
وإن أدخل فيكم ضعف بوجود المنافقين فيكم، وضعاف الإيمان فإنه ﴿ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ( ٦٦ ) ﴾.
وقد بين الله بعد ذلك وقت الأسر، وهو بعد الإثخان في الأرض، وعتب الله على نبيه والمؤمنين أن كان لهم أسرى وأخذوا فدية، فقال :﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٦٧ ) لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ٦٨ ) فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٦٩ ) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٧٠ ) ﴾.
هذا إذا أرادوا، وإن يريدوا خيانة الرسول فقد خانوا الله من قبل.
وبعد ذلك بين الله تعالى ولاء المؤمنين فقال تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٧٢ ) ﴾.
وقد بين سبحانه وتعالى أن الكافرين بعضهم أولياء بعض، فلا تربطنا بهم ولاية، وإلا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
وقد ذكر سبحانه بعد ذلك { وَالَّ
ﰡ
قال تعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ ﴾
الأنفال : جمع نفل بفتح الفاء، وهو هنا الغنائم، وسميت أنفالا ؛ لأن النفل هو الزيادة، لأنها ليست في مقابل، حتى تكون أجرة للمحارب كالمرتزقة من الجنود في هذا الزمان، وإنما أجر المجاهد عند ربه، وثوابه ورضوانه أعظم، فهي زيادة على ثواب الجهاد، وقد جعلت الغنائم من خواص الرسالة المحمدية.
ويطلق على الغنيمة، وقد يطلق على كل ما يؤخذ من العدو من غير قتال كالفيء، وقد يطلق على ما نفله النبي صلى الله عليه وآله وسلم من خمس الله ورسوله لبعض المؤمنين، ومنه ما كان يعطي للمؤلفة قلوبهم، ومهما يكن ما يعطي من نفل غير ما يكون في الجهاد، فإن الظاهر المراد من الأنفال الغنائم التي غنمت في غزوة، فقد جاءت قريش بخيلها ورجلها، وكثير من مالها، فآل ذلك كله للمؤمنين المنتصرين، فأخذ كل من المجاهدين ما عهده حقا له دون غيره، وثبت في الصحاح بعض الاختلاف، إذ لم يكن ثمة منهاج يتبع، ولم يكن لهم بهذه الغنائم في الإسلام مثال يحتذي، فيروي الإمام أحمد في مسنده عن عبادة بن الصامت أنه قال :( خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فشهدت معه بدرا، فالتقى الناس فهزم الله تبارك وتعالى العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون، وأكبت طائفة على العسكر ؛ يحوزونه ويجمعونه، وأحذقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى لا يصيب العدو منه غرة، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم لبعض قال الذين جمعوا الغنائم : نحن جمعنها وحويناها فليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم بأحق منا، نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم، وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لستم بأحق بها منا، نحن الذين أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخفنا أن يصيب العدو منه غرة، واشتغلنا به قوله تعالى :﴿ يسألونك عن الأنفال ﴾ ( ١ )١، ولقد حاول بعض المجاهدين أن يأخذ من الغنيمة قبل قسمتها، فيروي الإمام أحمد لاعن سعد بن أبي وقاص قال :( لما كان يوم بدر قتل أخي عمير، وقتلت سعيد بن العاص وأخذت سيفه، وكان يسمى الكتيفة، فأتيت به نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : اذهب فاطرحه في القبض – وهو المكان الذي تجمع فيه الغنائم – قال فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا اله من قتل أخي، وأخذ سلبي قال : فما جاوزت إلا يسيرا حتى نزلت ﴿ يسألونك عن الأنفال ﴾ إلى آخر الآية ) ( ٢ )٢.
لم يكن بالمسلمين عهد بالغنائم ولا تقسيمها، فاختلفوا في ذلك، فأنزل الله تعالى أنها لله تعالى ورسوله يضعانها حيث تكون القسمة العادلة التي تجمع بين العدل والمصلحة، وقد أخذها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقسمها حيث أراه الله.
وهل قسمها قسمة الغنائم المنصوص عليها في قوله تعالى :﴿ واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ﴾ إلى آخر السورة ! !.
يرجح بعض الرواة أنه لم تكن نزلت آية الغنائم فقسمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المحاربين بالسوية، ورجح ابن كثير أنه قسمها قسمة الغنائم في قوله تعالى :﴿ واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول............... ﴾.
واستأنس لذلك بما روى عن علي – كرم الله وجهه – أنه كانت له شارفتان أخذهما من الخمس ؛ بمقتضى الآية الكريمة.
ولقد قال الزمخشري : إن من الخلاف في الأنفال، أن المهاجرين طلبوها دون الأنصار ؛ لأنها بدل عما اغتصب من أموالهم عند الهجرة، ولكن ذلك لا سند له من الرواية، فلعله قاسه الزمخشري، ولعل عنده رواية ولم يذكر نقلها.
بعد الإجابة عن التساؤل عن الأنفال، وكانت بادرة خلاف، وإن كان قد حسمه الإيمان والجهاد واحتساب النية لله، وأن الأمر آل إلى أعدل العادلين وأحكم الحاكمين.
ولكن الله تعالى دعا إلى الادراع بالتقوى، حتى يسد منافذ الخلاف ومثارات الشيطان فقال آمرا بكل ما يقتضي على الخلاف في موطنه، فقال تعالى :
﴿ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾.
أمرهم سبحانه بأمور أربعة وقاية من النزاع، وإبقاء للمودة :
أولها – التقوى، فإن القلوب إذا امتلأت بالتقوى لم يكن للشيطان منفذ، ولم يكن للخلاف موضع، و ( الفاء ) في قوله تعالى :﴿ فاتقوا الله ﴾ فاء الإفصاح ؛ لأن المعنى إذا كان الأمر في القسمة لله ورسوله، ففرغوا أنفسكم لتقوى الله، ولا تشغلوا أنفسكم بالمال وتقسيمه، فقسمة الله هي العدل والمصلحة معا، وهي العدل والحق والنظام.
وثانيها – في قوله تعالى :﴿ وأصلحوا ذات بينكم ﴾ وهي الأمر الذي يربطكم، فليس المراد البين نفسه، إنما المراد ذات الرابط، وهو كما قلنا المودة الواصلة، ومعنى إصلاحه رعايته، وتعهده، بأن تكون المودة ملاحظة في كل ما يربطنا، فيكون الإيثار بدل الأثرة، والمحبة الموصولة بدل الحرص المفرق.
الأمر الثالث والرابع – طاعة الله ورسوله بألا تجعلوا لأنفسكم إرادة بجوار إرادة الله، وأن تجعلوا الله ملء أسماعكم، وطاعة رسوله هي سنة حياتكم.
وقد بين سبحانه أن ملاحظة هذه الأمور هي نور الإيمان وموجبته، ولا إيمان إلا كانت معه هذه الأمور، ولذا قال تعالى :﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ أي إن كان الإيمان حالة نفسية ملازمة لكم.
وقد قال الزمخشري :( جعل التقوى وإصلاح ذات البين وطاعة الله ورسوله من لوازم الإيمان وموجباته ؛ ليعلم أن كمال الإيمان موقوف على التوفر عليها ).
٢ رواه أحمد: مسند العشرة المبشرين – مسند أبي إسحاق بن أبي وقاص (١٥٥٩)، كما رواه مسلم: السير والجهاد (١٧٤٨)..
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( ٢ ) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( ٣ ) ﴾.
ذكر الله بعد أن ذكر موجبات الإيمان من إصلاح ذات البين والتقوى والطاعة ذكر سبحانه صفات المؤمنين، فذكر صفتين معينتين، وعملين تدفع إليهما قوة الإيمان.
أول الأمرين الأولين – ذكره الله تعالى بقوله تعالت كلماته :﴿ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾، الوجل الخوف منه والفزع إليه، فالله سبحانه هو مالك الوجود من استحضر عظمته وجلاله وكبرياءه وملكوته خافه وفزع إليه في الملمات، وركن إليه مطمئنا إلى ساحته العظمى، فهو المخوف المحبوب المرجو في الملمات ؛ ولذا جاءت هذه الآية تقول : إن القلوب توجل لذكره، أي ترهبه وتحس بعظمته، وتعتمد عليه وحده، وتطمئن بالالتجاء إليه، كمن يخاف رجلا عظيما، فيرهب قوته، وفي الوقت ذاته يطمئن إليه ؛ ولذلك قال تعالى :﴿ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ( ٢٨ ) ﴾ ( الرعد )، فهو المخوف الذي يركن إليه.
وقال تعالى جامعا بين وجل المؤمن واطمئنانه :﴿ الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ( ٢٣ ) ﴾ ( الزمر ).
وثاني الأمرين – ﴿ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ﴾ أي إذا قرئت عليهم الآيات القرآنية زادتهم إيمانا، فكل آية فيها نور مبين، والإيمان استضاءة بالنور، فكلما تعددت مشارق النور عم الضياء وازداد النظر إبصارا، كذلك آيات الله تعالى، كلما تليت عليهم آية أضاءت القلب وازدادوا نور الإيمان فازداد إيمانا، فزيادة الإيمان بزيادة الدليل وكثرته، وكل آية تقوي ناحية من نواحي الإيمان، ﴿ وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون ( ١٢٤ ) ﴾ ( التوبة ).
وهناك مسألة تثار، وهي زيادة الإيمان ونقصه، ونحن ممن يقولون إن الإيمان يزيد بتضافر الأدلة، وكثرة الآيات الموحية، فغنها تقويه وتثبته، وتزيل الريب والشبهات، وليست زيادة الإيمان إلا قوته ودعمه بالأدلة، وكل آية في القرآن دليل قائم بذاته.
وهناك أمر ثالث – يتعلق بالأمرين السابقين، وهو التوكل ؛ ولذا قال تعالى :﴿ وعلى ربهم يتوكلون ﴾ التوكل على الله تعالى حق توكله يتحقق بعد اتخاذ الأسباب في ثلاثة أمور :
أولها – أن يحس بأنه مهما يكمل إعداد أمره فإنه لا ينتج ثمرته إلا بإرادة الله تعالى، فمن يظن أن الأسباب وحدها تنتج الأثر فقد ضل ؛ لأنه توهم أنه يؤثر في الإيجاد، وذلك وهم يفسد العقول.
ثانيها – أنه يفوض أموره لله تعالى وحده.
ثالثها – ألا يعتمد على أحد سواه ؛ ولذا قال تعالى :﴿ وعلى ربهم يتوكلون ﴾ فقد الجار والمجرور على الفعل أي لا يتوكلون على أحد سواه ؛ وبهذا يكون التوكل عبادة من العبادات.
هذه الأحوال النفسية للمؤمن، أما الأمور للعملية المدفوعة بأمور نفسية فهي إقامة الصلاة والإنفاق مما رزق الله تعالى :
﴿ الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ﴾.
وهاتان صفتان أو عملان لهما مظهر عملي، ولهما مظهر نفسي إيجابي :
أولاهما – إقامة الصلاة ؛ أي الإتيان بها مقومة على وجهها من أداء الأركان الحسية مستوفاة، وأن تكون مصورة للمعاني الروحية من خضوع وخشوع، واستحضار لصفات الربوبية بأن يكون قائما بحق الله فيها كأنه يراه، مستشعرا الإحساس بأنه في حضرة الله تعالى جل جلاله، وبذلك تتحقق للصلاة خاصيتها، وهي أنها تجانب المرء من فعل السوء، كما قال :﴿ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر........... ( ٤٥ ) ﴾ ( العنكبوت )، فليست الصلاة نقر كنقر الديكة، ولكنها تجرد لله تعالى، وانصراف، وقضاء في حضرته.
والتعبير بالمضارع في قوله تعالى :﴿ يقيمون الصلاة ﴾ يفيد المداومة عليها في أوقاتها من غير تخلف ؛ لأن التعبير بالمضارع يفيد التجدد المستمر الدائم، والمحافظة عليها من غير انقطاع.
وإن الصلاة فريضة عملية مهذبة تجريدية لله سبحانه وتعالى، وهي فريضة اجتماعية، لتأليف مجتمع متحاب متواد مترابط بصلات من الرحمة والتعاون، يجمعه الإلف الروحي والطهر والإخلاص والالتقاء عند الله تعالى في كل يوم خمس مرات.
ومهما يكن فالأساس في أمر الصلاة أنها تهذيب روحي، وتأليف اجتماعي على الطهر، واجتماع على الألفة والمودة والرحمة. أما الزكاة فهي تعاون اجتماعي، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها مغنم لا مغرم، لأنها تغني الفقراء، وتدفع الآفات الاجتماعية الناجمة عن الفقر، ولقد قال تعالى :﴿ ومما رزقناهم ينفقون ﴾ أي أن الزكاة من رزق الله تعالى، لا من فيها، فالله هو المعطي وهو المنفق وهو الآمر وهو المكلف، فتقديم الجار والمجرور، لبيان الاختصاص أو القصر، أي أن الإنفاق مما أعطاه الله دون غيره، وفيه من الاهتمام بأنه من رزق الله الذي رزقه للأغنياء ليعطوا منه للفقراء، فالمال مال اله، والجميع عباد الله، فهو يأخذ من مال الله ويعطي عباد الله. وإن الله اختبر بعض الناس بالمال وجعلهم مستخلفين، كما قال تعالى في آية أخرى :﴿ وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ( ٧ ) ﴾ ( الحديد )، وأمرهم بالعطاء، واختبر بعض الناس بالفقر، وأمرهم بالصبر والعمل واحتمال البلاء.
﴿ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ( ٤ ) ﴾.
حكم الله تعالى لهم بأنهم المؤمنون حقا، أي إيمانا حقا صادقا، ثابتان وفي النص الكريم ما يدل على القصر، أي أنهم وحدهم دون غيرهم المقصور عليهم وصف الإيمان، أي لا مؤمن على وجه الكمال غيرهم، وهذه شهادة من الله تعالى بانفرادهم بكمال الإيمان، وكفى بالله شهيدا.
وقد وصفهم الله تعالى بثلاثة أوصاف هي صفات الكمال للمؤمنين :
أولها – أن لهم عند الله درجات، والدرجات لا تذكر إلا للدرجات العليا، ومعنى ﴿ لهم درجات ﴾، أن السبق عند الله، وأنهم علوا على الناس بهذه الدرجات فهو بيان للتشريف كما نقول – ولكلام الله المنزلة – لفلان مكانة عندي فأي درجة أعلى من درجات عند الله.
الوصف الثاني – أن لهم مغفرة أي غفار الذنوب وقابل التوب يغفر لهم وذلك تقريب من الله تعالى لهم، فإنه تعالى يتجاوز عن سيئاتهم إذا تابوا وأنابوا، وتلك منزلة مقربة، وتثبيت ؟أنهم قريبون منه تبارك وتعالى.
والثالثة – رزق كريم، والرزق عطاء الله تعالى، وهو رزقان : مادي ومعنوي، فأما المادي : فهو عطاء الله في الدنيا، بحيث يغنيه عن الناس لا يجعل حاجته عند أحد، بل تكون حاجته عند الله، والمال نعمة لمن أحسن تحصيله، فلم ينله إلا من حلال، ولم ينفقه إلا في حلال، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قد ورد أنه قال :( نعم المال الصالح للمرء الصالح ) ( ١ )١.
والمعنوي : هو رضا الله تعالى وتغمده برحمته في الآخرة، بالنعيم المقيم وإبعاده عن العذاب الأليم، فهذا رزق، ومن الرزق المحامد، وأن يقول أهل التقى فيه الخير، ولا يقولون إلا خيرا، ومن الرزق الكريم ألا يوفق لعمل السوء، ولا يوفق إلا للخير.
ووصف الرزق بالكريم يفيد أنه لا يكسب إلا بشريف الأعمال، ولا يتدلى في طلبه إلى حيث الأشرار، والمعنى أنه يرزق من خير، ولا ينفق إلا في خير، ولا يكتسب إلا من مكان كريم، والله يرزقه من حيث لا يحتسب.
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ( ٥ ) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ ( ٦ ) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ( ٧ ) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ( ٨ )
الآيات بعضها متصل ببعض، فهذه الآيات متصلة بما قبلها في النسق والبيان والموضوع، إذ كلها في مقدمات غزوة بدر، والسير النفسي حتى تصل إلى نهايتها، وقوله تعالى :
﴿ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ﴾.
ما وضع ( كما ) في التشبيه، ذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري عدة تفسيرات كلها تحتملها الآية، فذكر أنها باختلافهم في الأنفال، وان الله تعالى انتزعها من أيديهم على رغبتهم فيها كذلك ﴿ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ ﴾ بالأمر الثابت ﴿ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ﴾، يقول الطبري في توضيح هذا المعنى :( ومعنى هذا أن الله تعالى يقول : كما أنكم لما اختلفتم في المغانم، وتشاححتم فيها، فانتزعها الله تعالى منكم وجعلها إلى قسمة، وقسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقسمها على العدل فكان هذا هو المصلحة التامة لكم، وكذلك لما كرهتم الخروج إلى العداء من قتال ذات الشوكة، وهم النفير الذين خرجوا لنصر دينهم، وإحراز عيرهم فكان عاقبة كراهتهم للقتال بأن قدره الله لكم، وجمع به بينكم، وبين عدوكم على غير ميعاد رشدا وهدى ونصرا وفتحا، كما قال تعالى :﴿ وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وانتم لا تعلمون ( ٢١٦ ) ﴾ ( البقرة ).
وخلاصة المعنى أن الله يختبركم كما اختبركم في الغنائم، فقد أخذها منكم وتولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قسمتها بالعدل والمصلحة، كذلك اختبركم، فأخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذات الشوكة والمصلحة ﴿ وإن فريقا من المؤمنين لكارهون ﴾.
ونرى أن هذا التخريج مؤداه أن الله اختبركم بمنع نفوسكم من المشاقة في المال ترويضا على الصبر على هوى النفس، وقمعها عن شهواتها استعدادا للقتال كذلك اختبركم بحمل أنفسكم على ما تكره ابتلاء بالصبر على المكاره، كما اختبركم بالصبر على رد هوى النفس، فكلاهما لابد منه للجهاد.
ويذكر ابن جرير وجها آخر، فيقول :( قال آخرون معنى ذلك : كما أخرجك ربك من بيتك بالحق على كره من فريق من المؤمنين، كذلك هم الكارهون للقتال، فهم يجادلونك فيه من بعد ما تبين لهم أنه الحق ).
ومؤدى هذا أنهم وجد فيهم حال تردد أو على الأقل كراهية للقتال مرتين : مرة عندما أخرجك ربك من بيتك بالحق وهو الأمر الثابت الذي قامت الدواعي إليه وكان ذلك للعير، ومرة أخرى عندما تعين القتال، وصار الأمر للنفير لا للعير، وإني أميل إلى التخريج الثاني لأنه يساوق اللفظ ولا يحتاج إلى تأويل، ولا تأباه الألفاظ، ومؤداه أنه كما وجد فريق من المؤمنين كاره للخروج من بيتك لتتبع العير، وجدت كراهية القتال عند إرادة الحرب، ويكون قوله تعالى :﴿ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ ﴾ متعلقا بقوله تعالى :﴿ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ ﴾.
ونقف هنا عند أمرين : أولهما – أن الله تعالى ذكر الحق بالحق مرتين :
أولاهما – ﴿ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ ﴾ أتى بالأمر الثابت الذي هو الحق في ذاته، والحق في رفع شأن الدين، والحق في مصلحة المؤمنين، والحق في أنه أمر الله تعالى وإرادته، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما أراده من ذات نفسه، وإنما أراده الله تعالى له، وهو ربه الذي خلقه ورباه وهو أعلم بمصالحه ومصالح المؤمنين والإسلام، وإعزازه تعالى كلمة الحق، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا.
ثانيهما – عندما ذكر الجدال في قوله تعالى :﴿ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ ﴾.
والحق هنا هو أمر القتال فقد فرت منهم العير التي خرجوا إليها ليأخذوها، وبدا لهم النفير، فبدل أن يلقوا عيرا ينقلوها، لقوا جيشا يقاتلونه، وذلك هو الحق الثابت الذي فيه الشوكة إن انتصروا، والصبر عند الصدمة، وقد جادلوا في هذا مع أنه صار أمرا لا مناص منه.
وفي الحق كانت قوة الكفر مسيطرة، وما كان للمؤمنين قبل بها لولا تأييد الله تعالى ونصرته، فالخوف كان لابد منه، وليس الشجاع هو الذي لا يخاف ؛ إنما الشجاع هو الذي يقدر قوة عدوه ويخافها، ولكن يدبر للقائها، ويعمل على التغلب عليها، ولقد كان جدلهم في هذا منشؤه المحافظة على النفس كجدلهم حول الغنائم فمنشؤه الرغبة في الموت.
وقد قال الله تعالى في تصوير خوفهم وتقديرهم للقاء :﴿ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ ﴾ فقد شبه سبحانه وتعالى حالهم بحال من يساق إلى الموت، وهو مشدوه ناظر إليه، متوقع له كأنه يراه رأى العين، وأنه نازل به لا محالة.
ولقد تجسم لديهم الخطر، كأنه نازل بهم لا محالة، ولا مناجاة منه، وإن رضوا بالفداء فالله سبحانه وتعالى يبين لهم أن ثمة خطر، ولكن ثمة أيضا وعد الله تعالى بالنصر والتأييد وثمة الإيمان الثابت الذي نزلت معه الجبال ولا يتزلزل.
وإن الله تعالى يدعوهم في هذا إلى الصبر والاطمئنان إلى وعد الله تعالى وإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يبث فيهم روح الاطمئنان والأمن، ولكنه كان يريد أن يثبت من اعتزامهم اللقاء وطلبهم للنصر، وطاعتهم له.
ويروي الحافظ ابن كثير وأصحاب السير الصحاح أنه لما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم خبر فرار العير إلى سيف البحر، ومجيء جيش المشركين وكان النزال لابد منه أراد صلى الله عليه وآله وسلم أن يتثبت من جيشه فاستشار من معه وأخبرهم عن قريش.
فقال أبو بكر، فأحسن القول، ثم قام عمر فقال فأحسن.
ثم قام المقداد بن عمرو، فقال : امض يا رسول الله لما أمرك الله به فنحن معك، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى :﴿ فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا نحن هاهنا قاعدون ( ٢٤ ) ﴾ ( المائدة ) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد ( مدينة بالحبشة ) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيرا، ودعا له بخير.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( أشيروا علي أيها الناس )، وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم كانوا عدد الناس، وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : يا رسول الله إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتخوف من ألا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدوهم من بلادهم، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك. قال سعد بن معاذ : والله لكأنك تريدنا يا رسول الله قال :( أجل ). قال : فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله كما أمرك الله، فوالدي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر، فخضته لخضناه معك، ما يتخلف منا رجل واحد، وما نكره أن نلقى بك عدوانا غدا، إنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء، ولعل الله تعالى يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله تعالى، فسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقول سعد ونشطه، وقال :( سيروا على بركة الله ) ( ١ )١
انظر إلى حكمة القائد المحنك لا سير إلا بعد أن يعرف أن إرادة جيشه قد اجتمعت على الحرب.
لقد أراد الله تعالى أن يعز الإسلام، ويضع الحواجز المانعة من أن يستمر الشرك في غيه، لقد طاوله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وصابره في مكة، وتحمل أذاه حتى كون الله للإسلام شوكة في المدينة دار الإيواء والنصرة، فكان لابد من بعد ذلك من وضع حد للطغيان، ووقف للفتنة فكان لا بد من القتال. كانت عير لمكة تذهب إلى الشام وتمر على المدينة أو على مقربة من المدينة وكانت فيها أموال كثيرة لقريش، فأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يأخذها المسلمون بدل الأموال التي أخرجوا منها، ولأنه لا سلم بينهم، ولأنهم أباحوا دماء المسلمين في مكة وأموالهم، فكان حقا أن تباح دماؤهم وأموالهم، خرج نحو ثلاثمائة لمصادرة العير، فانفلت بها المشركون وعلى رأسها أبو سفيان، ولكنه كان قد أرسل إلى مكة يستنفرها لتحمي عيرها، فنفرت بجيش كبير اتجه إلى بدر، ومع أن العير قد نجت فقد أصر الحمقى من المشركين على غزو المدينة، ونسوا الآل والرحم فكان اللقاء أمرا لابد منه.
ولقد كان بعض المؤمنين، وخصوصا الذين أخذت أموالهم يودون العير، ولم يريدوا القتال لأنها غنيمة أتت إليهم، وأنفلهم الله إياها، ولأن القتال كره لهم، والنفس المؤمنة رقيقة تكره الدماء، وكما قال تعالى :﴿ كتب عليكم القتال وهو كره لكم ﴾ ( البقرة : ٢١٦ ) وإن كان خيرا في مثل حال المشركين معهم ولذلك كانوا يريدون العير، لا الحرب، وتلك هي الفطرة وقال تعالى :
﴿ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ﴾.
وعد الله تعالى إحدى الطائفتين إما طائفة العير وإما طائفة النفير، والطائفة هنا الجماعة، والمراد هنا جماعة العير يأخذونها بما معها من مال، أو جماعة الحرب يقتلون ويأسرون فيهم، ويغنمون أموالهم، ولكن فيها الشوكة والقوة وإذلال المشركين.
وهم يودون السهلة الهينة الخالية من الدماء، ولكن ليس فيها شوكة، ويختار الله تعالى لهم ما فيه الشوكة.
وعبر عن القوة بالشوكة عل سبيل المجاز ؛ لأن نتيجة الحرب ستكون رهبة للمشركين تجعلهم يتحفظون في معاملة المسلمين، ولا يقدمون على إيذائهم إلا إذا أقدموا على أمر خطير يشوكهم قبل أن ينالوه، فلا يكون طعمة تؤكل أو تنتهز، الفرص لأكلها.
وقد عبر الله سبحانه وتعالى عن إرادتهم العير بقوله تعالت كلماته ﴿ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ ﴾ أي تودون العير وهي تعطيكم مالا، ولا يكون لكم بأخذها قوة ترهبهم، فهي ما لا حماية ولا عزة فيها، وعبر سبحانه وتعالى عن إرادتها بقوله :﴿ وتودون ﴾ أي تحبون مائلين للعير، للمعاني التي ذكرناها.
وفي هذا التعبير إشارة إلى معنى من معاني العتب، وتنبيه إلى أن الواجب هو طلب القوة، لمن كان المشركون يستضعفونهم، فيبدل الله تعالى من خوفهم أمنا، ومن استضعافهم قوة، وتمكينا في الأرض ؛ ولذلك يقول الله تعالى :
﴿ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ﴾.
عبر الله تعالى بقوله يودون في جانبهم، وعبر بقوله ﴿ يريد الله ﴾ دون ( يود ) للإشارة إلى أن ذلك من جانب الله إرادة، وإرادة الله نافذة وهي المصلحة وهي الخير، وكان التعبير في جانبهم بقوله :﴿ وتودون ﴾ للإشارة إلى انه مجرد ود، ولم يصر إرادة، وكيف يريدون ما لم يرد اله تعالى، وكيف وهم المؤمنون حقا وصدقا، وإرادة الله إعلاء لهم، وميلهم ميل إلى ما هو أدنى.
هذا ما أراده الله تعالى، وذلك ما كانوا يودونه، وقد أراد الله تعالى لهم العزة، فكان النصر المؤزر، وكانوا قليلا فكثرهم الله، وقوله :﴿ بكلماته ﴾، أي بالقرآن الذي هو حجة، فالتأييد تأييد للقرآن الكريم.
ثم أكد سبحانه معنى تأييد الحق، فذكر أنه سنة الله في تأييد الإيمان، وإبطال الشرك وهو الباطل : فقال عز من قائل :
﴿ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ ﴾.
( اللام ) هنا لام العاقبة، وهي تدل على الباعث على القتال، و ( الحق ) هنا هو الدين الثابت، و( الباطل ) هو الشرك المفترى، والمعنى لتكون عاقبة القتال الذي هو الحق المؤيد للحق الذي أراده الله، وهو ذات الشوكة أن يثبت الحق ثبوتا دائما مستمرا ما دام أهل الإيمان مستمسكين، ويبطل الشرك وهو الباطل مستمرا، ﴿ ولو كره المجرمون ( ٨ ) ﴾ ولو كان ذلك رغم المجرمين الذين يجرمون في الأرض فيفسدون فيها ولا يصلحون ونجد هنا أن المجرمين مكرهون على قبول ما يقع، ولو كان وبالا.
وعبر هنا بالمجرمين، وفي الآية السابقة بقطع دابر الكافرين، وذلك لتنوع عنادهم وتعدد صوره، فهم كافرون لجحودهم مع قيام البينات، وهم مجرمون مفسدون لفتنتهم المؤمنين، فإذا كان الكفر تعديا على أنفسهم، وهم به كافرون، فالفتنة تعد على غيرهم، وهم بها مجرمون.
والحق الذي أحقه الله وثبته هو الجهاد وطلب ذات الشوكة، ولذا اقترن بها قطع دابر الكافرين، والحق الثاني هو الدين الحق، وتثبيته وإبطال الباطل، وهو منع الفتنة، كما قال تعالى :﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه ﴾. ( الأنفال : ٣٩ ).
٢ أي يسلب سلاح العدو ويقاتل به..
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ ( ٩ ) وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ١٠ ) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ ( ١١ ) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ( ١٢ ) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( ١٣ ) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ ( ١٤ )
كان النص القرآني السامي يحث المسلمين على أن يطلبوا الجهاد، بطلب الطائفة ذات الشوكة، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم أمامهم يستحثهم ويستوثق منهم، حتى لا تغلبهم الدنية في دينهم، وقد ظهر أنهم يودون غير ذات الشوكة، حتى إذا دانت الواقعة كان مع الاستعداد بالقلوب، والاطمئنان كان لابد من الالتجاء إلى الله تعالى ليكون الغوث، وليكون النصر، فهم مؤمنون، وليسوا مغرورين ؛ ولذلك لابد من الالتجاء إلى الله، وخصوصا من الرسول الذي أحس بأن عليه العبء الأكبر، فاستغاث هو ومن معه بالله، وكان هو أظهرهم قال تعالى :
﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ ( ٩ ) ﴾.
والاستغاثة طلب الغوث، و ( إذ ) ظرف يكون للماضي، وهو هنا للماضي المتصل بالحاضر، كما في قوله تعالى :﴿ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ........ ( ٨ ) ﴾ وجاء المضارع بعدها لتصوير الاستغاثة وأنها كانت التجاء متجددا مستمرا لله تعالى.
وقد روت استغاثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كانت ضراعة له سبحانه وتعالى، وروى مسلم والإمام أحمد، وغيرهما من الصحاح عن عمر ابن الخطاب أنه قال :( لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أصحابه، وهم ثلاثمائة ونيف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم القبلة، وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال :( اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض أبدا ) فما زال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداؤه، ثم التزمه من ورائه، ثم قال : يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك ) ( ١ )١.
هذه هي استغاثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي استغاثة من معه، فهو إمام الصلاة استغاثته استغاثة لهم، كما أن الإمام قراءته قراءة للمأمومين، وإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما اتجه إلى الاستغاثة اتجه إلى القبلة، وكأنها صلاة، يمم وجهه فيها شطر المسجد الحرام.
وقد استجاب الله تعالى لاستغاثة نبيه، فقال تعالى :﴿ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ ﴾.
( الفاء ) للعطف الدال على الفورية، أي أن الإجابة كانت فور الدعاء، وكذلك دعاء النبيين ومن معهم من الصديقين والشهداء والصالحين.
والاستجابة بالسين والتاء هي شدة الإجابة كأحسن ما تجاب به الاستغاثة ؛ لأنها استغاثة لله تعالى فهي إيمان لأجل قوة الإيمان وعزة المؤمنين، وقرنت الإجابة بما يدل على قوتها، فهي من ربكم الذي يكلؤكم، ويرعاكم، وذكر الاختصاص في قوله سبحانه :﴿ لكم ﴾، أي لإجابة لكم أنتم من ربكم ولا إجابة لغيركم لأنكم على الحق، وتدعون للحق.
وفسر سبحانه وتعالى الاستجابة بقوله :﴿ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ ﴾. هنا ثلاث قراءات في ( ألف )، فقرئ ب ( ألف )، ويكون الإمداد بألف من الملائكة على قدر عدد المشركين، فإنه إذا كان عددكم ثلاثمائة ونيفا وعددهم ألف، فقد أمدكم اله تعالى بألف من الملائكة، فيكون العدد في الحسبة متساويا أو تزيدون.
وهناك قراءة أخرى ب ( آلف )، جمع ألف، على وزن أفعل، وبذلك لا يكون العدد محدودا بل بألوف، وذكر الزمخشري قراءة ثالثة وهي ( آلاف )، والرسم الإملائي العثماني القرآني غير المنقوط والمشكول يحتمل القراءات الثلاث.
و ( مردفين ) أي متتابعين، مشتقة من أردف، وهي لغة في ردف بفتح الدال وهي قراءة ( ١ )٢، والمعنى أنهم جاءوا وقد أردف بعضهم ببعض.
وهنا تقرر أن الله تعالى أمدهم بألف أو عدد من الألوف، وذلك أمر لا ريب، ولا تناقض بين الإمداد بآلاف، أو بآلاف، فالمراد جنس الألف لا تعيين العدد.
ولكن كيف كان الإمداد، جاء في روايات لم نرها في صحاح السنة أنهم صوروا بالإنس، وكان بعض الناس يرى سيوفا لا يرى حاملوها.
ولكن الثابت في الصحاح أنه كان إمدادا من غير أن يتعرض لبيان أنهم كانوا بصور إنسانية أم لم يكونوا، وهذا ما نراه.
وإذا لم تكن ثمة صور أو أجسام إنسانية، فإننا نقرر أنه كان إمدادا روحيا، ومن الإمداد الروحي شحذ العزائم وطمأنينة نفوسهم وإبعاد الشياطين ومنازع الشيطان، وهذا بلا ريب من إمداد الله بالملائكة، فهو حقيقة ثابتة، وإنه يؤيد أن الإمداد روحي – آمنا بحقيقته وجهلنا كيفيته – قووله تعالى :
﴿ وما جعله الله إلا بشرى ﴾.
.
٢ (مردفين) بفتح الدال، قراءة نافع، وأبي جعفر، ويعقوب، وقرأ الباقون بالكسر. غاية الاختصار – الهمداني (٩٢٩)..
الضمير يعود إلى المصدر المشتق من ( ممددكم )، أي أن ذلك الإمداد كان روحانيا فيه بشرى أي تبشير لكم بالنصر وإنه آت لا ريب فيه، وفيه أمن للقلوب، ولتدخل الحرب مع رجاء النصر، فرجاء النصر والاطمئنان إليه مع أخذ الأهبة نصر على النفس، وابتداء النصر اطمئنان النفس فلا تفزعن ولا تهاب، ولا تخور ؛ ولذا قال سبحانه :﴿ ولتطمئن به قلوبكم ﴾، فلا تجزع في غير خوف ولا وجل، وإنه وحده الناصر فما كان الإمداد بالملائكة، والإخبار به إلا لتطمئن القلوب.
وإنه بعد اتخاذ الأسباب لا يكون النصر ﴿ إلا من عند الله ﴾ العزيز الحكيم أي الغالب الذي يدبر لكل شيء وبأمره سبحانه وتعالى.
وفي الآيتين الكريمتين إشارات بيانية تليق بكتاب الله معجزة الوجود الإنساني كله :
أولاها – تأكيد الإمداد بالملائكة تلك القوى الروحانية التي تبشر وتطمئن فقد أكدها بالتوكيد بأن في قوله تعالى :﴿ أني ممدكم ﴾ وبإضافة الإمداد إليه سبحانه، وهو القوي القهار الغالب على كل شيء.
وثانيها – بالجملة الاسمية الدالة على البقاء والاستمرار.
وثالثها – الحد بألف الذي يوازي عدد المشركين أو يزيد، وهو على القراءات الأخرى أضعاف عدد المشركين.
ومن الإشارات البيانية – ضرورة الاعتماد على الله بعد اخذ الأهبة، وإعداد العدة، فقد قال تعالى :﴿ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾، فقد قصر النصر مهما تتوافر أسبابه على أنه من عند الله فلا نصر إلا منه، والقصر بالنفي والإثبات فنفي وجود أي نصر إلا أن يكون من عند الله، ووصفه سبحانه وتعالى بما يزكي هذا القصر، فهو العزيز الذي لا يغلب، وهو الحكيم الذي يدبر الأمور بحكمته ومن مقتضاها أن ينصر الحق ويخذل الباطل، فهو وحده ناصر الحق دائما، وتأكيد ذلك ب ( إن ) والجملة الاسمية.
﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ ﴾.
يقال : غشاه، بمعنى غلبه النوم، و ( غشى ) ك ( أغشى ) يجوز فيها التعدية بالتضعيف وبالهمزة : كقوله تعالى :﴿ فأغشيناهم فهم لا يبصرون ( ٩ ) ﴾ ( يس ) وكقوله تعالى :﴿ فغشاها ما غشى ( ٥٤ ) فبأي آلاء ربك تتمارى ( ٥٥ ) ﴾ ( النجم ).
وغشاهم الله تعالى بالنعاس أي وضعه على عيونهم كأنه غشاء من نعاس. ونعاس مفعول ثان.
و ﴿ أمنة ﴾ مصدر أمن، والمعنى غشاهم الله تعالى بالنعاس آمنين، أي لأجل أن يكون ذلك أمنا لهم ممن الخوف، أي للدلالة على أمنهم واطمئنانهم، فإن النعاس أمن وقرار، وبعد عن الهم، فمع القلق السهر، ومع الأمن النوم.
وإن النعاس عند الإقدام على أمر مهم يقوي النفس، ويشحذ العزيمة، ويذهب القلق والاضطراب، وهو أمارة الاطمئنان، وقد أنعم الله تعالى على المؤمنين، ليلتقوا بالأعداء آمنين مطمئنين راجين النصر، محسنين بتأييد الله، ومحسين بأن الحق معهم، ولقد قال علي – كرم اله وجهه – في ليلة بدر :( ما كان منا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ).
والنعمة الأخرى التي ثبت الله تعالى بها قلوبهم نزول المطر، فقد قال تعالى :﴿ وينزل عليكم من السماء ماء ﴾ فقد كان المشركون في مكان فيه ماء، ولم يكن عند المؤمنين ماء فغلب عليهم الظمأ، فوسوست في بعضهم الوساوس، فانزل الله سبحانه وتعالى الماء حتى سال الوادي، وملأوا الأسقية وسقوا الركاب، واغتسلوا من الجنابة فجعل الله ذلك الماء طهورا، وثبت به الأقدام إذ لبد الله به الأرض، ويقول الحافظ ابن كثير :( وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رملة فبعث الله تعالى المطر عليها فضربها حتى اشتدت وثبتت عليها الأقدام ).
وهذا قول الله تعالى :﴿ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ ﴾.
فالماء الذي أنزله الله تعالى سقوا منه، وكان طهورا أذهبوا به رجز الشيطان وهو الجنابة، وطهورا حسا ومعنى، وربط الله تعالى به على قلوبهم، وثبتهم وأذهب عنهم وساوس الشيطان، ولبد به الأرض وثبتت عليها الأقدام، فلا تغوص في الرمال، وإن هذا الماء كان وبالا على المشركين فقد انهمر حتى دعثر ( ١ )١ عليهم الأرض وصارت الأرض لا تقوى على تحمل أقدامهم.
هذا كله تأييد حسي من الله اقترن به اطمئنان وذهاب القلق، والطهر، وهو يزيد النفوس اطمئنانا.
﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ﴾.
موقعة الفرقان هي موقعة الحق أيدها الله، واتخذت كل الأسباب لها، والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء، أيدهم الله تعالى أولا بالمدد من الملائكة الذي كان بشرى واطمئنانا، وأيدهم ثانيا بأن الله مع المؤمنين والملائكة، وأيدهم ثالثا بأن أمر الملائكة بأن يثبتوا الذين آمنوا، وأيدهم رابعا بأن ألقى الرعب في قلوب الكافرين، وأيدهم خامسا بأن كان الضرب فوق أعناقهم، والضرب في الأيدي التي تقتل.
﴿ إذ ﴾ في قوله تعالى :﴿ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُم ﴾ هي للماضي المتصل بالحاضر، والمضارع للدوام المتجدد، أي اذكر أيها النبي من معك، وحي الله تعالى المستمر الذي لا ينقطع إلى الملائكة أن الله معكم أيها الملائكة في تأييدكم للمؤمنين فهو سبحانه جل جلاله في ملكوته العلى معكم في تأييد المؤمنين وتثبيت قلوبهم، ﴿ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ و ( الفاء ) هنا للإفصاح عن شرط مقدر، والمؤدى : إذا كان اله معكم في التأييد فثبتوا الذين آمنوا، أي قووهم معشر أرواح الله، واملأوهم بروحانيتكم لتمتلئ قلوبهم بروح من عند الله، وإحساس بعظمته، وجبروته وقوته وعزته ليطلبوا العلا والعزة ولا يذلوا.
وقد التفت سبحانه من خطاب الملائكة إلى خطاب المؤمنين، ﴿ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ ﴾ وهذا معناه اضربوا الرؤوس، فما فوق العنق هو الرأس، والبنان الأيدي، والمعنى أن اضربوا رؤوسهم، فإنها موطن الشيطان، واقطعوا أيديهم، فإنهم يبطشون بها وآذوا المؤمنين وعذبوهم، وفتنوهم عن دينهم.
والمعنى لا تأخذكم بهم رأفة، فرد الاعتداء يكون بمثله، فاقتلوهم وأضعفوا قواهم يشف الله بذلك صدور قوم مؤمنين.
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾.
الإشارة إلى الرعب الذي ألقاه الله في قلوبهم، وإلى إمداد الملائكة للمؤمنين وإلى تثبيت الملائكة لقلوب المؤمنين، وإلى الغلب في المعركة، وأمر الله للمؤمنين أن يضربوا رؤوسهم وأطرافهم، كل ذلك لأنهم شاقوا الله ورسوله، أي صاروا في شق، والله ورسوله في شق آخر، يحادون الله ورسوله، ويغالبونهم حاسبين أنهم الغالبون، و ( الباء ) في قوله تعالى :﴿ بأنهم ﴾ للسببية أي بسبب أنهم حادوا الله ورسوله، وما دام الأمر أمر مغالبة، فالله هو الغالب، وذكر الله ورسوله، وكان يكفي ذكر الرسول أو ذكر ربه، والجواب عن ذلك للإشارة إلى أن محاربة الرسول محاربة لله، وأن طاعة الرسول طاعة لله ﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ﴾ ( النساء : ٨٠ ) وإلى أن عصيان الرسول محادة لله سبحانه وتعالى، وأظهر في موضع الإضمار : فقال :﴿ وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ ﴾، ولم يقل من ( يشاققهما ) وذلك لبيان عظيم ما يقترفون، فهو تنديد بهم، وتكرار لعظم جرمهم.
وقوله تعالى :﴿ فإن الله شديد العقاب ﴾ بيان لشدة العقاب في الدنيا والآخرة، وهي دالة على جواب شرط محذوف هذه علته، والمعنى فإن الله منزل عقابه الشديد بهم في الدنيا ؛ لأنهم يغالبون الله ورسوله، ونسوا أن الله تعالى غالب على كل شيء.
وسماه الله عقابا لهم، للإشارة إلى أنهم ليسوا في مقام المغالبة لله، بل إنهم في مقام من يؤدبون ويعاقبون، ويردون خاسئين.
وإن عقاب الدنيا والتنكيل بهم فيها، لكيلا يستشري الشر، ولكيلا يغروا بالمؤمنين، ولكيلا يكون على المؤمنين حرج، ولكي ينالوا جزاء ما فعلوا، ولأن السابقين كان ينزل العقاب الدنيوي بهم بخاسف أو بريح صرصر عاتية، أما أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإن الله تعالى يفني الأشرار، ويبقي الأخيار.
الإشارة إلى هذا العذاب الأليم، واتى بكاف الخطاب للجمع، تأكيدا لعموم الخطاب للكافرين، وإنهم جميعا يخاطبون بذلك حتى يتوبوا، فإن تابوا فقد انتهوا والله قابل للتوب شديد العقاب.
وذلك كما قلنا إشارة إلى العذاب، والإشارة استحضار له، و ( الفاء ) في قوله تعالى :﴿ فذوقوه ﴾ فيها إشارة إلى العذاب الدنيوي الذي ( يذوقونه ) وهي للإفصاح أي إذا كان هذا عذابكم فذوقوه، والتعبير بذوقوه إشارة إلى آلامه وقد ذاقوها وأحسوها، فقد ذاقوا النكال وذاقوا القتل، وذاقوا الذل بعد الاستكبار، وذاقوا عذاب الهون بما كانوا يكسبون.
وإنهم مع ذلك لن يفلتوا من عذاب الآخرة، فإذا النار لاحقة بهم ؛ ولذا قال تعالى :﴿ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ ﴾ وفي العبارة ما يوحي بأنه العذاب المعد لهم، وكأن عقاب الدنيا أمر عرضي ليس هو الجزاء الحقيقي لهم، إنما كان لمنع استمرار شرهم، وإنهاء فسادهم، ولمنع الفساد في الأرض.
﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ( ٢٥١ ) ﴾ ( البقرة ).
ولذا أكد جزاء الآخرة، لأنه الأصل الثابت، فقال :﴿ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ ﴾ فأكده أولا – ب ( أن ) الدالة على التأكيد، وثانيا بالجملة الاسمية الدالة على الاستمرار والدوام، وثالثا – بتقديم الجار والمجرور الدال على اختصاصهم بعذاب النار، ورابعا ببيان أن الكفر هو السبب ؛ لأنه عبر بالوصف، وذلك دليل على أن الكفر هو السبب في عذاب النار.......
اللهم اكفنا شره، واقبل من حسناتنا ما يمحو سيئاتنا، فإنك قلت قولك الحق :﴿ إن الحسنات يذهبن السيئات ﴾ ( هود : ١١٤ ).
هذه معركة الإيمان والكفر، وإن شئت فقل معركة الله ورسوله مع الكافرين ؛ لأن المؤمنين اتخذوا الأسباب، لأنهم توكلوا على الله واستغاثوا به، ولأنه لم يكن فيهم ضعفاء الإيمان أو المنافقون، فكانت معركة الله حقا وصدقا، وهو ﴿ عزيز حكيم ﴾.
يبين الله تعالى أن أول النصر الثبات، وألا يفر من الميدان ؛ ولذا شدد سبحانه وتعالى في منع الفرار، لأن الفرار أول الهزيمة، ولأنه خور في العزيمة، ولأنه والصبر نقيضان لا يجتمعان، ولا معذرة في فرار قط، ولأن يقتل الرجل وهو مقبل بصدره، خير من أن يقتل وهو مدبر بظهره.
وقال تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً ﴾.
النداء للمؤمنين بوصفهم كونهم مؤمنين، والإيمان صبر وفداء، فالنداء بالذين آمنوا تحريض على الصبر واللقاء والثبات، وذكر لقاء الكافرين، وهم كانوا يتمنون لقاءهم لينتصروا لله منهم، وليردوا كيدهم، فكان نداء أهل الإيمان بعنوان الإيمان تحريضا على الثبات والمجاهدة، وكان ذكر لقاء الكافرين تحريضا أشد ؛ لأنهم الذين آذوهم وأخرجوهم من ديارهم وظاهروا على إخراجهم ؛ ولذا كان النهي بعد التمهيد، فقال :﴿ فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ ﴾، و ( الفاء ) واقعة في جواب الشرط، وعبر سبحانه وتعالى عن النهي عن الفرار بقوله تعالى :﴿ فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ ﴾، ومعنى تولى الدبر، أي أن يتركوا ظهورهم للسيوف تضرب في أدبارهم، وذلك منظر هو من أقبح المناظر وأقبح تصويرا للفرار من الميدان بضرب السيف في دبره وقفاه، وإن من يقتل في صدره لا يقتل إلا بعد أن يقتل من الأعداء، أما من يقتل في ظهره، فإنه يذهب دمه عبيطا ( ١ )١ لا يثأر لنفسه.
ذكر مفردا فارا ؛ للإشارة إلى وجوب التضافر والتآزر، وألا ينفرد بقرار، وألا يكون إلا في جماعة.
وقد استثنى الله تعالى من الذين يتركون الميدان طائفتين لا تعدان فارتين، بل تعدان متقاتلتين.
أولاهما – المتحرفة لقتال، والثانية – المتحيزة إلى فئة.
المتحرفة معناها المائلة، والمتحيزة هي التي تتجه إلى حوزة جماعة من جماعة المسلمين.
والمتحرفة المراد بها المائلة في القتال غير تاركة، ولكنها آخذة بضرب من ضروب الحيلة والخديعة، وقد ضرب لذلك الحافظ ابن كثير مثلا، فقال :( ذلك الذي يظهر أنه يميل إلى الفرار حتى إذا اطمأن محاربه انقض إليه غرة وقتله، والمتحيز إلى فئة الذي يلجأ إلى فئة يحسبها تحتاج إلى قوة فينضم إليها مقويا صفوفها ).
وهاتان الطائفتان لا تعتبران فارتين ولا متوليتين الأدبار ؛ ولذا نقرر أن الاستثناء منقطع، بمعنى لكن، أي لكن المتحرف أو المتحيز لطائفة لا يعدان مولين الأدبار.
وقد يكون الفرار أمرا ضروريا إذا كان العدو أغلب، ولكن الفرار لا يكون بتولية الأدبار، بل يكون بتدبير الانسحاب ويكون بالتراجع، من غير أن يولوا ظهورهم للأعداء، يضربون في أدبارهم، كما فعل القائد العظيم خالد بن الوليد هذا عندما آل إليه أمر القيادة بعد قتل زيد بن حارثة وجعفر بمن أبي طالب وعبد الله بن أبي رواحة، فقد رأى أن أمامه جيشا يعد بمئات الألوف، ومعه ثلاثة ألوف، فقد أخذ يتراجع، ويوهم الأعداء أنه قد جاءه مدد حتى عاد إلى المدينة وسماهم بعض المجاهدين فرارين، وسماهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( العكارين ) ( ١ )١ أي الكرارين.
وإن الفرار في الزحف من أكبر الكبائر، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم :( اجتنبوا السبع الموبقات، قيل يا رسول الله وما هن ؟ قال : الشرك بالله والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ) ( ٢ )٢.
وقد تكلم العلماء في الفرار، فأجازه بعضهم إذا كان العدو كثيفا، والمؤمنون قلة، وهم مأكولون لا محالة ونحن لا نجيز تولية الأدبار مطلقا، لأنه تمكين من رقاب المؤمنين، وإذهاب للبأس، ولكن نجيز التراجع المنظم كما فعل القائد العظيم خالد، إن تولية الأدبار إذلال للمؤمنين وتمكين من القتل الرخيص وليس هو التراجع الحكيم ؛ لأن التراجع يحمي صدره، والمولي الأدبار يمكنهم من ظهره.
وقد بين الله سبحانه في النهي عن الفرار جزاء من يولهم يومئذ دبره، فقال تعالى :﴿ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ﴾، أي يوم الزحف ولى مدبرا مضطربا ﴿ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ ﴾ أي رجع مغضوبا عليه من الله تعالى، فغضب عليه، والواجب أن يطلب رضوانه، ﴿ ومأواه جهنم ﴾، أي الذي يأوي إليه جهنم ﴿ وبئس المصير ﴾.
٢ متفق عليه؛ رواه البخاري: الوصايا – قول الله تعالى: ﴿إن الذين يأكلون لاأموال اليتامى (١٠)﴾ (النساء) (٢٧٦٧)، ومسلم: الإيمان – بيان الكبائر وأكبرها (٨٩). عن أبي هريرة رضي الله عنه..
﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾.
وفق الله المؤمنين في هذه الغزوة، كانوا قلة فأراهم المشركين كثيرين، ورأوا المشركين قليلا وهم كثيرون، وسهل الله السبل للمؤمنين فألقى في قلوبهم الرعب وأمدكم بالملائكة، فملأكم روحانية وجعلهم اله بشرى لكم، واطمأنت قلوبكم، وغشاكم النعاس، وأنزل عليهم الماء فثبت به الأقدام وطهر رجز الشيطان.
أمدهم الله تعالى بهذا فكان النصر، وقد قال تعالى :﴿ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ﴾ ( البقرة : ٢٤٩ ) فكان النصر من عند الله وكما قال تعالى :﴿ ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة ) ( آل عمران : ١٢٣ )، ولما أصابهم الغرور، وحرمهم الله من نصره ابتداء ولوا الأدبار، وقال الله تعالى في ذلك :{ لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما ربحت ثم وليتم مدبرين ﴾ ( التوبة : ٢٥ ) لهذا التوفيق وذلك التأييد الذي تكاثر في غزوة بدر نسب الله تعالى النصر إليه سبحانه، والقتل إليه والرمي إليه، فقال تعالى :﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ ﴾، نفى سبحانه أنهم قتلوهم، لأنهم لم يكونوا المسلطين عليهم من أنفسهم إنما سلطهم الله تعالى عليهم، وهو الذي أرداهم، و ( الفاء ) مترتبة على ما قبلها ما دام الله تعالى هو الذي هداهم وحرضهم، وأيدهم بنصره، وبملائكته، ثم قال :﴿ ولكن الله قتلهم ﴾ إما أن نقول إن القتل حق لله تعالى ؛ لأنه هو الفاعل المختار، وإن نظرنا إلى الأسباب العادية نقول : إنه من قبيل إطلاق المسبب وإرادة السبب، فلأن الله تعالى هو السبب في القتل أسند القتل إليه.
وكذلك قوله تعالى :﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى ﴾.
قال بعض المفسرين على أن المراد من الرمي هو الرمي بالنبال المريشة التي تصيب المقاتل، ويكون من قبيل إطلاق المسبب وإرادة السبب، لأن الله تعالى هو السبب إذ هو الموفق، وهو المؤيد، وهو الممد بالملائكة وهو سبحانه وتعالى ملقي الرعب في قلوب المشركين.
وقال بعض المفسرين : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما التقى الجمعان قبض قبضة من التراب، ورمى بها المشركين، وقال :( شاهت الوجوه ) ( ١ )١، فاضطربت الأبصار، وزاغت القلوب.
فقوله تعالى :﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى ﴾أي فلست أنت الذي رميت إنما الله تعالى هو الذي رمى ؛ ولذلك أفرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخطاب لأنه هو الذي رمى.
وإني أميل إلى التفسير الأول لأنه هو الأوضح، ونحن نميل إلى الواضح من الآراء.
وإن الله سبحانه وتعالى فعل ذلك، ليؤيد المؤمنين بنصره، ﴿ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً ﴾ أي ليعامل المؤمنين معاملة المختبر الذي يبليهم بلاء حسنا، بلاء نتيجته حسنة دائما، وذلك بأن يكلفهم، وأن يتخذوا هم الأسباب للنصر المؤزر، والعزة والرفعة، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وهو العزيز الحكيم، ولقد قال سبحانه وتعالى :﴿ إن الله سميع عليم ﴾ أي إن الله عالم علم من يسمع، ومحيط بكل شيء علما.
﴿ ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ ﴾.
الإشارة إلى نصر الله تعالى وما كان من تأييده حتى شرف الله تعالى ذلك القتل والقتال بأن نسبه إليه سبحانه، وأتى بضمير الخطاب للجمع، لإعلام الجميع بذلك النصر، وخبر اسم الإشارة محذوف معلوم من الكلام، أي ذلك النصر المؤزر ثابت لكم وحسبه نعمة أنعم بها عليكم، فالنصر وحده له فرحة شديدة، فتقبلوا نعمة الله فيه، وعطف على هذا النصر أمر آخر جليل في ذاته وهو ثمرة النصر، وهو قوله تعالى :﴿ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ ﴾ فموهن معطوف على ما يفهم من الكلام السابق وهو فرق بشرى النصر بشرى إضعاف وتوهين شأن المشركين وكيدهم، لقد كانوا أصحاب القوة والسطوة، والسلطان والشرف في البلاد العربية وكانوا يستطيلون بكل ذلك على المؤمنين، فلما جاء النصر المبين لتلك الفئة الصغيرة واستطالت عليهم ونالت النصر دونهم وهنوا في أنفسهم، وإذا وهنوا في ذات أنفسهم وهن كيدهم للمسلمين، وهو تدبيرهم، وتأليبهم العرب عليهم، وحربهم، وصاروا يرهبونهم بعد أن كانوا يستضعفونهم، ويرون فيهم العزة.
فهذه الحرب المقدسة كان لها ثمرتان دانيتان :
إحداهما – النصر في ذاته، وأن صارت كلمة الله هي العليا وكلمة الشرك هي السفلى، وتلك نعمة أنعم الله تعالى بها عليهم.
الثانية – أنه انتهى عهد الاستهانة بالمسلمين واستعلاء المشركين عليهم ووهن أمر الكافرين لديهم فكانت تلك هي الضربة القاصمة التي كسرت أنفتهم وكبرياءهم.
﴿ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
بعد أن ذكر الله تعالى غزوة بدر الكبرى، أو ( يوم الفرقان ) كما سماها القرآن الكريم، أخذ يشير سبحانه وتعالى إلى المغزى الأمثل فيها، وهو الطاعة لله ورسوله، فهو كان أساس النصر وتخاذل النصر في أحد، لنقصان في الطاعة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وفي هذه الآيات يبين الله تعالى مقصد الحرب عند الفريقين، ومقام طاعة الله تعالى فيها.
قال تعالى :﴿ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ ﴾.
الاستفتاح السين والتاء لطلب الفتح، وهو النصر أو الفصل بين الحق والباطل، كقوله تعالى :﴿ ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ﴾ ( الأعراف : ٨٩ ).
وهل استفتح المشركون، أي أيعد الخطاب للمشركين، أم يعد الخطاب للمؤمنين ؟، إن الخطاب في الآيات السابقة لهذه الآية للمؤمنين مثل :﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى ﴾، وقوله تعالى :﴿ ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ ﴾، وهكذا تجد الآيات السابقة المخاطب فيها المؤمنون، والمتحدث عنهم بالغيبة الكافرون، وكان مقتضى السياق ذلك، كما هو فيما بعد هذه.
لكن طائفة من المفسرين قالوا : إن الخطاب للمشركين، لأنهم استفتحوا فعلا بالله الذي كانوا يعلمونه، وإن لم يوحدوه في العبودية، ولقد ذكر الزمخشري وابن كثير وابن جرير عدة صور من عبارات استفتاحهم فيروى أنهم عندما أرادوا أن ينفروا لحماية العير، ومحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا : اللهم انصر قرانا للضيف، ووصلنا للرحم، وفكنا للعاني إن كان محمد على حق فانصره، وإن كنا على حق فانصرنا.
ويروى أنهم قالوا : اللهم انصر أعلى الجندين، وأهدى الفئتين، وأكرم الحزبين، ويروى أن أبا جهل قال يوم بدر : اللهم أينا كان أفجر وأقطع للرحم فاحنه، أي فأهلكه.
هذه صور للاستفتاح المروي، وغن صح أن الاستفتاح كان منهم فلعلها جميعها قد وقعت منهم والاختلاف اختلاف عبارات لآحادهم لا لجمعهم.
وقوله تعالى :﴿ قد جاءكم الفتح ﴾، قال الزمخشري : إنه تهكم عليهم، من حيث إن الفتح كان على غير ما يرغبون، وقد يقال : إنه أريد الحد، لأنكم إذا كنتم تستفتحون طالبين الفصل بينكم وبين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فها هو ذا الفصل، فاخضعوا له ولكنهم لا يطلبون حقا، ولا يخضعون للحق، وإن تنتهوا بالإيمان بالحق بموجب استفتاحكم ووعدكم فهو الإيمان وهو خير لكم، وإن تعودوا إلى الباطل ومحاربة محمد ومن معه نعد إليهم بالنصر، ولن تغني عنكم جماعتكم وكثرتكم شيئا، ولو كثرت، وإن الله تعالى مع المؤمنين دائما بنصره وتأييده، وقد رأيتم مرات هذا النصر وذلك التأييد، فصارت كلمتهم هي العليا والله عزيز حكيم.
هذا هو توجيه القول الكريم على أساس أن الخطاب للمشركين، وهو ظاهر لا يقاومه إلا سياق الآيات السابقة قبلها وبعدها.
وأما تخرج القول الكريم على أن الخطاب للمؤمنين فإنه يؤيد سياق الخطاب، ويكون المعنى إن تستفتحوا أيها المؤمنون، بأن تتضرعوا إلى الله تعالى طالبين الفتح والنصر، وتستغيثون به، فقد جاءكم النصر فعلا، ومعه الغنائم التي طلبتموها وأردتموها، وقد علمتم أن ذلك بفضل الطاعة، والامتناع عن العصيان ﴿ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ أي إن تنتهوا إلى الطاعة، وإصلاح ذات بينكم وتقوية جمعكم، فهو خير لكم، ﴿ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ ﴾ أي إن تعودوا إلى المشاحنة والخلاف على الغنائم والمنازعة نعد لكم بالخذلان والفشل، كما قال تعالى :﴿ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ﴾ ( الأنفال : ٤٦ ) ولا تغني الكثرة شيئا مع الاختلاف لأن الاختلاف لا يكون فيه القوة على العدو، ولكن يكون بأسهم بينهم شديدا، فحربهم على أنفسهم لا على أعدائهم، وقد أكد سبحانه وتعالى ذلك فقال :﴿ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ ﴾.
أكد سبحانه وتعالى النفي ب ( لن )، وأنه لا يغني أي شيء ولو قليلا، وثالثا أنه لا يغني مع الكثرة. وإن الله سبحانه وتعالى علام الغيوب، يخبر بما سيكون يوم أحد، فقد كانت معهم قوة، وسابقة نصر، ولكن لم يطيعوا واختلفوا على الغنائم فلم ينتصروا، ولا نقول انهزموا، بل كان الأمر بينهما.
ذلكم تخريجان، ونحن نرى أن الأقرب إلى سياق الآيات، وإلى سياق الأمر بالطاعة، وإلى الانسجام البياني المعجز، أن نقول : إن الخطاب للمؤمنين تحذيرا وإنذارا.
وختم الله تعالى الآية بقوله تعالت حكمته وكلماته :﴿ وأن الله مع المؤمنين ﴾ ( أن ) مفتوحة الهمزة للدلالة على أنها متعلقة بقوله تعالى :﴿ وأن الله موهن كيد الكافرين ﴾، ويكون هذا قرينة على أن الخطاب للمؤمنين وليس للكافرين، وهناك تقول : إن ( إن ) مكسورة.
والتعبير بقوله تعالى :﴿ وأن الله مع المؤمنين ﴾ سواء أكانت أن مكسورة أو مفتوحة يدل على أمرين :
أحدهما – أن الله تعالى مع المؤمنين، ينصرهم، ويكون الفتح في جانبهم ومعهم دائما، والثاني – أن ذلك يكون إذا تخلقوا بأخلاق المؤمنين، ولم يتفرقوا، حتى لا يفشلوا فتذهب ريحهم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ ( ٢٠ ) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ( ٢١ )
النداء في قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ بالبعيد لعموم النداء ولأهمية ما يدعوهم إليه سبحانه، وهو الدفاع عن المؤمنين والضعفاء، والشيوخ والنساء والذرية، نادهم بطاعة الله ورسوله، والنداء من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الذي يجاب فمقام الله تعالى لا يتطاولون إليه، وإنما يخاطب رسوله.
وذكر الله تعالى ( رسوله ) هنا للدلالة أولا – على أن من يطع الرسول يطع الله تعالى، وثانيا – لأنه هو الذي ينصر، وهو الذي يعز ويذل، فإجابته اعتزاز بمنشئ الوجود كله، وثالثا – لأنه المسيطر علينا وعليهم كما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في دعائه عند الدخول في الحرب :( اللهم إنهم عبادك ونحن عبادك ) لهذا ذكر الله تعالى قبل ذكر الرسول، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يتولى دعوتهم.
ويقول سبحانه وتعالى :﴿ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ ﴾.
( ولا تولوا ) بتخفيف التاءين، وهناك قراءة بثبوت التاءين معا ( رولا تتولوا ). والتوالي الإعراض، أو الانصراف، والمعنى لا تنصرفوا، وانتم تسمعون القول، والانصراف وهم يسمعون القول، يتضمن معنيين : أولهما – أن يكون التولي نفسيا، فهم يكونون سامعين ولكن غير واعين، وغير منفذين، ولا نقول غير مطبقين، ولكن نقول غير مقدرين القول قدره.
وثانيهما – أن يعرضوا عن النبي وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ فيعرضوا حسيا، وهو يتكلم، وهم يسمعون، وخلاصة المؤدى أن النص يطالب بثلاثة أمور :
أولها – سماعهم سماع وعي وعناية بالقول بفهمه، وتعرف مراده.
ثانيها – ألا يعرضوا عن القول فكرا، أو نفسا، وأن يكونوا معه بقلوبهم، وكل جوارحهم.
وثالثها – الطاعة المطلقة فيما لا أرى فيه، ومراجعة النبي وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ فيما رأى في حرب، أو مكيدة، كما شاور النبي وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ في منزل الحرب في غزوة بدر الصحابي حباب بن المنذر رضي الله عنه. وهنا إشارة بيانية لا بد من ذكرها، هي أن الله تعالى طالب بطاعة اله ورسوله، وعندما نهى عن الإعراض أعاد الضمير مفردا فقال :﴿ ولا تولوا عنه ﴾.
والجواب عن ذلك أن طلب الطاعة لهما ذكرنا، ولكن النبي وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ هو الذي خاطبهم وهو المتحدث باسم ربه عنهم، ولا يتصور أن يكون التولي عن الله تعالى، بل التولي عنه وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ، وإن نسبة التولي منهم لله تعالى لا تليق، وإن كانت غير ممكنة.
والنهي عن التولي، وهم في حال يسمعون فيها ؛ ولذا قال :﴿ وأنتم تسمعون ﴾ فهو دعوة إلى حسن الاستماع ؛ ولذا قال تعالى مؤكدا هذا المعنى :﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ﴾.
أي لا يكن حالكم كحال الذين يقولون بأفواههم سمعنا، ﴿ وهم لا يسمعون ﴾ أي سمعنا، ولم نع ما نقول ولم نتدبره، ونتفكر فيه ونعمل على تنفيذ ما طلبه القائل، فهم سمعوا بآذانهم، ولم يسمعوا بقلوبهم.
وإن هذا النص يؤخذ منه بالتضمن أن السماع أقسام ثلاثة :
أولها – سماع تفهم وتدبر وإدراك وتنفيذ على بصر وعلم، وهذا الذي يطلبه الله تعالى والنبي وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ، وهو الذي ذكرناه آنفا.
والثاني – سماع من غير تدبر وإدراك وتبصر، وهذا ما ينهاهم الله تعالى عنه، وهو إن لم يكن نفاقا فهو غفلة عن الحق، وليس سماع وعي وإنصات.
والثالث – سماع أهل النفاق الذين يقولون : سمعنا وعصينا، أو الذين يحرفون القول عن موضعه.
ومهما يكن فهذان القسمان الآخران سماع كلا سماع. اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ( ٢٢ ) وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ( ٢٣ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( ٢٤ ) وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( ٢٥ )
إن الله تعالى أعطى الإنسان أدوات الفهم التي تميزه عن الحيوان، وتجعله كونا مستقلا قائما بذاته، وما ذلك إلا ليحتل المكانة التي هيأها الله تعالى له في هذا العالم بين العالمين فقال تعالى :﴿ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ( ٧٨ ) ﴾ ( النحل ). فالسمع لمعرفة ما أمر الله، والبصر لمعرفة آيات الله في كونه، والأفئدة ليدرك وليفهم ويعلم، وهذا شكرها.
وإنه إذا فقد ما خصه الله تعالى به من هذه النعم فقد نزل من درجات الإنسانية إلى حضيض الحيوانية، وكان شر الدواب في هذا الكون ؛ ولذا قال تعالى :﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾.
الدواب جمع دابة وهي ما يدب على وجه الأرض من النملة إلى الحشرة إلى ما فوق ذلك، وإنه إذا عبر عن الإنسان بأصغر ما ينطبق على اسم الدواب والحيوان كان ذلك تحقيرا له واستهانة بأمره من زعيم يرفع ويخفض إلى حيوان لا يملك من أمره شيئا، تدعكه الأرض بالأقدام، وهو حيوان كله آفات، ليس بكامل بل هو أصم لا يسمع، أبكم لا ينطق، وهو لا يعقل فليس يفقه، ولا عقل يعقل، إنه شائه ( ١ )١ في ذاته، ناقص في كونه، وإن كان ذا رواء ؛ لأن تقدير الإنسان ليس بشكله وصورته، ولكن بقلبه وعمله.
وفي الكلام استعارة تمثيلية شبه فيها من لا يسمع الحق ولا يدركه، ولا يبصر الآيات ولا يتأملها، ومن لا يفقه الحق ولا يدرك بالدابة التي لا تسمع مواطئ الأقدام، فتطؤها، ومن لا ينطق مستغيثا، فتدقه الأمور دقا، ومن لا يعقل ما يضره فيكون، فريسة الكل، وجامع التشبيه هو عدم الفائدة من هذه الحواس فهي إذا كانت ذات فائدة في ذاتها فإنه لا يستفيد منها، ومن لا يستفيد من شيء فوجوده وعدمه سواء.
وإن تشبيه الكافر بالدابة هو أصغر تشبيه له، وقد قال تعالى في تشبيهه :
﴿ ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء ( ١٧١ ) ﴾ ( البقرة ).
وكقوله تعالى :﴿ أولئك كالأنعام بل هم أضل ( ١٧٩ ) ﴾ ( الأعراف ).
وإنهم لو سمعوا لا يجيبون ؛ ولذا قال تعالى :
﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ﴾.
هذا ترشيح للاستعارة التي قوامها تشبيه حالهم في أنهم لا يسمعون سماع تدبر، ولا يبصرون بصر تأمل، بمن لا يسمعون ولا يبصرون فهذا النص تقوية للتشبيه ؛ لأنه قرينة تساعد المشبه به.
وإن الله تعالى بكل شيء عليم، فهو سبحانه يعلم ما كان وما سيكون، وهو قد قدر كل شيء بعلمه، وقد قدر سبحانه في علمه أنهم لا يهتدون ؛ لأنهم لم يسلكوا طريق الهداية، ولن يسلكوه، وذلك لا ينافي اختيارهم، كما قال الإمام علي – كرم الله وجهه – وفسر قدر الله بعلمه الواسع المحكم.
﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ ﴾ ( لو ) هي حرف امتناع لامتناع، أي امتنع إسماع تعالى لهم الكلام إسماع تدبر وإدراك لما فيه من تهديد وإنذار وتبشير، وامتنع ذلك لأنه لم يعلم خيرا في السماع، والمعنى لو علم الله أنه سيترتب على سماعهم تدبرهم وتفكرهم، وأنه سيترتب خير كالعظة والاعتبار – لأسمعهم.
ولبيان أن من كتب الله تعالى شقوتهم لا جدوى معهم فقال :﴿ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ﴾ ولو سمعوا سماع تدبر، وإمعان وإدراك ما صبروا على الحق، بل إن قلوبهم في ريب دائم مستمر، واضطراب لا استقرار معه، فالحق يحتاج البقاء عليه إلى صبر، ودوام تأمل وتفكر ؛ فليس الإيمان واقعة تمر، بل هو حال مستمرة دائمة يغذيها التدبر، ويقويها طول التأمل، وهؤلاء، إن سمعوا وتفكروا حينا، لا تستمر بشاشة الإيمان في قلوبهم.
ولذا قال تعالى في جواب الشرط :﴿ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ﴾ وهذه صورة حال المعرضين بعد أن كاد يدخل نور الإيمان قلوبهم، التولي أن يولى جنبه بدل وجهه ولإظهار أنه معرض شبهت حالهم وقد أعرضوا عن الحق وتركوه بحال الذين يديرون وجوههم وهم معرضون، غير مقبلين.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾.
النداء للذين آمنوا، والنداء للبعيد ؛ لعموم النداء، ولأن أداة البعيد أنسب في هذا المقام والنداء هو قوله تعالى :﴿ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ ﴾ والاستجابة معناها الإجابة، والسين والتاء للطلب، ومعنى ذلك أن المنادين يطلبون إجابة أنفسهم، أي يسعون لأن يجيبوا ؛ لأن الإجابة لمنفعة أنفسهم، لا لمنفعة من يجيبونه فالخير عائد إليهم، وذكر الرسول بجوار إجابة الله تعالى لدلالة على أن إجابة الرسول إجابة لله تعالى، ولبيان أن الرسول هو الذي يوجه الخطاب عن ربه لذا عاد الضمير بلفظ المفرد.
والاستجابة لأمر عظيم، وصفه الله تعالى بأنه ﴿ يجيبكم ﴾ فقال :﴿ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ والأمر الذي يحيي الناس جميعا ؛ لأنه يعم كل المؤمنين – هو العقيدة، وما اشتمل عليه القرآن من أوامر ونواه، وأمر بمعروف ونهى عن المنكر، فإن العقيدة وما اشتملت عليه من توحيد بها إحياء للعقول والنفوس بإدراك الحق، وإنقاذهم من الأوهام، والبعد عن مزالق الشيطان، والشريعة بما فيها من أحكام زاجرة، وأحكام مصلحة ورابطة للعلاقات الإنسانية على أكمل وجوه التعاون، في كل هذا حياة للجماعات ؛ ولذا قال تعالى :﴿ أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ( ١٢٢ ) ﴾ ( الأنعام ) فجعل الهداية حياة، وجعل الشرك موتا، أو عيشا في الظلمات.
وبعض المفسرين قال : إن المراد بما يحيي هنا الجهاد ؛ لأن الجهاد في طلب الحق به حياة المم، فما تركت أمة الجهاد إلا أماتها الذل، وما اعتزت أمة بالجهاد إلا وهبت الحياة، كما قال خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( اطلب الموت توهب لك الحياة )، وكما قال الأستاذ الشيخ محمد عبده :( إن موتا في سبيل الحق هو عين البقاء، وحياة في ذلة هي عين الفناء ).
وإن الحق أن يكون ما يدعو إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الشريعة كلها من عدل وتعاون وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وجهاد في سبيل الله، وهو أعلاها، وهو سنام الحق وعزته.
ويقول سبحانه وتعالى حاثا على القيام بالحق ومحاربة الهوى :
﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ﴾
ذكر الزمخشري في تفسيره أن هذا التعبير السامي يحتمل ثلاثة تفسيرات :
أولها – أن الله تعالى أن الله تعالى مالك للإنسان في أفكاره ومشاعره، فهو موجه قلبه إلى ما يريد الله تعالى، فالله مالك كل شيء، وهو موجه إليه في مصيره، أي أنه هو الذي يحول المرء قلبه واتجاهه، فهو لا يملك من أمره شيئا، قالوا : إن هذا يفسر قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم مخاطبا ربه :( أنت مقلب القلوب ) ( ١ )١، ويظهر أن الزمخشري المعتزلي لا يرتضي هذا ؛ ولذلك يقول إنه قول بعض الجبرية، وذلك غير مذهبه، ويقول تعليقا على ذلك إن الله لا يوجب جبرا ولكن يوجه من صار في الخير إلى ما صار فيه، ومن صار في غيره إلى نهايته.
الاحتمال الثاني – وهو الذي اختاره، أن المعنى أن الله، بأمره ونواهيه يحول بين المرء وقلبه أي بين المرء وما تهواه نفسه، وما يشتهيه قلبه من لذائذ هذه الدنيا، وشهواتها، فالشريعة قامعة للنفوس كابحة للأهواء.
فإننا نرى ذلك حقا من غير أن نقرر بطلان السابق، كما أشار الزمخشري.
والاحتمال الثالث – أن يراد قرب العبد من الله، وأنه أقرب إليه من حبل الوريد، وأنه بينه وبين قلبه كما قال الله تعالى :﴿ ادعوني أستجب لكم ( ٦٠ ) ﴾ ( غافر ).
وإنه لا مانع من الجمع بين هذه الاحتمالات فليست متعارضة، ولا شبه متعارضة، فيصح أن يراد أن الله مالك كل شيء، وأن شريعته فاصلة بين المرء وأهوائه وأن الله تعالى قرب منه مجيب دعاءه إذا دعاه، وأنه رقيب عليه يراه.
ثم بين الله سبحانه أنه راجع إليه سبحانه، فقال منذرا، مبشرا :﴿ وأنه إليه تحشرون ﴾.
الضمير ضمير الشأن والمعنى، أنه الحال والشأن تحشرون، أي تجمعون مهما يكن جمعكم، ومهما تدخلت أجزاءكم في الأجسام، ولو كنتم في حجارة أو حديد، أو يخلق مما يكبر في صدوركم، فأنتم مجتمعون، والتعبير به ﴿ تحشرون ﴾ يفيد الجمع مهما يكن العدد، ومهما تتناثر الأجزاء أو يتباين كونها.
وقدم الجار والمجرور للدلالة على أن الناس جميعا يحشرون إليه وحده، وهو الذي أنذر وبشر، وأنه منفذ ما وعد، وما أوعد.
فهذه الجملة السامية تربي مهابة اللقاء، تؤكده، وإنه لقاء بالغفور الرحيم العزيز الحكيم المنعم الجبار.
إن ظلم الجماعات لا تقف مغباته عند من يرتكب الظلم، بل يتجاوز إلى الإفساد في الجماعة نفسها، فمن أشاع الفاحشة في الدين آمنوا بأن جاهر بها مرتكبا لها، أو أشاع قول السوء في الجماعة – إن ما يدعوا إليها، محرضا عليه، ولو كان ما يرتكبه ليس كثرا، ولكن المجاهر بها دعوة إليها وتحريض عليها ؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يدعوا إلى الاستتار، فيقول فيما روى الشافعي :( يا معشر الناس من ارتكب شيئا من هذه القاذورات، فل يستتر، فهو في ستر الله ومن أبدى صفحته أقمنا عليه الحد ) ( ١ )١.
من أجل هذا حث الله تعالى على اتقاء الفتن، وهي ذنوب، أو الذنوب التي تختبر بها الجماعات من شأنها أن تشيع أو تفسد رأيها العام، كما نرى في عصور الانحلال وشيوع الفساد، وشيوع الدعوات المنحرفة ويكون فيها الهوى.
متبعا، والرأي منحرفا، أو الفتن تموج كموج البحر، كما رأينا في بغي معاوية ومن معه على إمام الهدى عالم المسلمين، وحامل سيف الحق علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
يقول تعالى :﴿ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ﴾ ومعنى اتقوا : اجعلوا بينكم وبين الفتن التي تعم آثارها وقاية، وذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتنوير العقول وتثقيف القلوب. وتطهير الرأي العام من شيوع الأقوال الباطلة، فإنها تفسد الأفكار ولا تجعلها متجهة صوب الحق، تتميع العقول، ويكون شح مطاع وهوى متبع، ولا يكون التفكير الدقيق لما يقال، بل يتبع كل فاسق.
وإن الوقاية تكون بأمرين : أولهما – العدل، وثانيهما – الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم :( ( لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم، ثم تدعون فلا يستجاب لكم ) ( ١ )٢.
وقوله تعالى :﴿ لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ﴾ هي جواب لشرط محذوف أو في معنى جواب الأمر، وهو ﴿ اتقوا ﴾، والمعنى : إن تتقوها، لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة. ودخلت نون التوكيد الثقيلة ؛ لأن جواب الأمر في معنى الأمر، ونون التوكيد تدخل الأمر فتؤكد جوابه، وذكرت الصلة في الموصول للإشارة إلى السبب، وهو الظلم الذي يعم، ولا يخص، وأظهر الظلم ليتبين أنه السبب، وأن السبب في عموم الفتن أو الذنوب، أو الفساد في الأمة بعمل الطاغين، وعدم الخصوصية أن ظلم الخاصة تكون نتيجته على الجميع ؛ لأنه لا يوجد من ينهاهم، وقد أمروا بأن ينهوهم بل أن يحاجزوا بينهم وبين الظلم كما أشرنا، وكما روينا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم :( لا تؤخذ العامة بظلم الخاصة إلا إذا رأوه ولم ينكروه )، فلا يعترض على عموم الفتن بقوله تعالى :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ( ١٦٤ ) ﴾ ( الأنعام ) فالعامة لا يؤخذون بوزر غيرهم إنما يؤخذون بتقصيرهم، وإنه إذا كان الفساد من بعضهم، فأثر الفساد يعم، فإذا شاع العبث، ونتأ برأسه غير مبال بشيء فإن الجماعة كلها مسئولة ؛ لأنها لم تأخذ على يد من يدعو إلى الشر، ويعلنه جهارا، ورضيت من المتسلطين ما يفعلون أو لم يستنكروا، ولم يقاطعوا أعمال المنكرين، ومن يدفعونهم أو يشجعونهم، فكانوا وهم على سواء. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وإنه لا يكفي أن يكون الأخيار غير مرتكين ما يرتكبه الأشرار، بل إنه يجب أن يقوموا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن الفتنة الكبرى التي وقعت بعد مقتل الإمام عثمان – رضي الله عنه – وظهور البغي السافر في عهد إمام الهدى علي وقعت آثاره على المؤمنين، ولنترك الكلمة للإمام الزمخشري في تفسيره فقد قال ناقلا :( روي أن الزبير قال : نزلت فينا وقرأناها زمانا، وما نرانا من أهلها، فإذا نحن المعنيون بها ). وعن السدي : نزلت في أهل بدر فاقتتلوا يوم الحلبة، وروي أن الزبير كان يساير النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوما إذا أقبل علي – رضي الله عنه – فضحك إليه الزبير، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( كيف حبك لعلي ) ؟ فقال : يا رسول الله بأبي وأمي إني أحبه كحبي لولدي أو أشد حبا. فقال :( فكيف أنت إذا سرت إليه تقاتله ) ( ١ )٣.
ولقد كان ما انتهى بأن ذهبت الشورى في الإيلام، وصارت ملكا عضوضا، صالحا أو طالحا، ولكن فقد الحكم قوة الأمة، وأهمل قوله تعالى :﴿ وأمرهم شورى بينهم........... ( ٣٨ ) ﴾ ( الشورى ).
ولم يبق إلا أن نعلم أن الله أنذرنا بعقابه فقال :{ واعلموا أن الله شديد العقاب وإنا قد علمناه، ولم نرتدع عن غينا، ونسلك طريق ربنا، علمناه وآمنا به، ورأينا بعضه، وهو عقاب الدنيا، فتفرق جمعنا، وتقطع الأمر بيننا، وتحكم الأعداء فينا وصرنا نهبا مقسوما، وصار أكثر حكامنا يرتمون في أحضان من لا يرجون للإسلام وقارا، ويفسدون تفكير المسلمين، وما يلقانا يوم القيامة أشد ولا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
٢ سبق تخريجه..
٣ ذكره بهذا اللفظ الرازي في التفسر ج ١٥، ص ٤٧٣، والزمخشري في الكشاف: ج٢، ص ١٥٢..
وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( ٢٦ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٢٧ ) وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ( ٢٨ ) يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( ٢٩ )
إنه لكي تشعر الجماعات والأفراد بنعمة الحاضر يجب أن تعرف الماضي، وأن تكون صورته حاضرة دائما في حاضرها، وكذلك إذا عرفت ما كان في ماضيها من خير أدركت ما عساه يكون حاضرها، ومن حكمة الله وسنته دائما أن يجعل الماضي نورا للحاضر، أو يكون فيه عبرة للمعتبر ﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما أنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال ( ١١ ) ﴾ ( الرعد ).
يذكر الله سبحانه وتعالى ما كان بالمؤمنين من ضعف ليذكروا ما هم فيه من قوة ونعمة، وليشكروه على ما أعطاهم وعلى ما آتاهم، فيقول :﴿ وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ ﴾.
( الواو ) عاطفة على قوله تعالى :﴿ استجيبوا لله وللرسول ﴾ الوقت هنا ( إذ ) مفعول به، وليست مفعولا فيه، فالذكر ليس ظرفه الوقت، وإنما ذات الوقت هو المذكر، والوقت إذا كان في الوقت يكون مظروفا فيه لا يعدوه، وأما إذا كان هو المقصود فيكون الذكر لذات الوقت، وما كان فيه من أحداث وأحوال.
والمعنى : اذكروا في زمن العزة زمن الذلة، وصور الله سبحانه وتعالى الحال فقال :﴿ إذ أنتم قليل ﴾ أي : عدد قليل فإن الإسلام إذا نشأ كان عدد المسلمين قليلا، وكان المشركون يستذلونهم، ويستضعفونهم ويؤذونهم، مرة بالسخرية والاستهزاء، ومرة بالضرب والأذى، ومرة بوضع الحجر المحمى على ظهورهم، حتى كانوا يضطرونهم إلى أن ينطقوا بكلمة الكفر، وقلوبهم مطمئنة بالإيمان، ولم يسلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأذى، حتى إنه ليرمى عليه فرث الجزور وهو يصلي، ومع هذا الاستضعاف في الأرض غير مستقرين في أنفسهم وأموالهم فهم في خوف وفزع واضطراب ؛ ولذا وصفهم الله تعالى بقوله :﴿ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ ﴾ والتخطف معناه : سلبهم أو سلت أموالهم سريعا من غير تلبث، والتخطف هو موضع الخوف، ولا يكون معه استقرار أبدا، فلا يأمن التاجر، ولا العامل، ولا الزارع، لا على ماله، ولا على نفسه ؛ ولذلك كانت منهم الهجرة إلى الحبشة، وقد بين الله نعمته بالإيواء والتأييد بالنصر، والرزق من الطيبات
فقال سبحانه :﴿ فآواكم ﴾ بالهجرة إلى المدينة حيث الإخوة بالمدينة الذين آووا ونصروا وعوضكم عن نصرة القرابة والنسب التي عقها الشرك أخوة الإيمان، وآثروكم على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة وقال :﴿ وأيدكم بنصره ﴾ فجعل لكم الغلب والقوة، وكان يوم الفرقان، إذ جعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا، وأعزكم بعد ذلك، وصاروا هم – أي الكفار – يخافون الاختطاف العادل، وسلبهم الله تعالى الأمن والاطمئنان. وقال :﴿ ورزقكم من الطيبات ﴾ أي الطعام الطيب في ذاته، والطيب في طريق الحصول عليه، فوجدتم في المدينة الزرع والثمار بدل الجدب، وأعطاكم من غنائم المشركين حلالا طيبا، ثم قال سبحانه :﴿ لعلكم تشكرون ﴾ أي رجاء أن تشكروه على ما أنعم.
ونجد أن الخطاب للمؤمنين ليشكروه على ما أنعم من نعم نالوها بإيمانهم، واتجه بعض المفسرين إلى أن الآية نعمة الإسلام على العرب، بعد أن دخل الناس في الإسلام أفواجا، أفواجا، ولا يقصر الإيواء والنصر على ما كان بعد الهجرة مباشرة، بل يعم ما شمل العرب من خير عميم، وجاء ذلك في أقوال بعض التابعين، فقد روي عن قتادة السدوسي في هذه الآية أنه قال :( كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا، وأشقاها عيشا، وأجوعها بطونا، وأعراها جلودا، و أبينها ضلالا، من عاش منهم عاش شقيا، و من مات منهم زوى في النار. يؤكلون، ولا يأكلون، والله ما نعلم من حاضر أهل يومئذ من كانوا شرا منزلا منهم حتى جاء الإسلام، فمكن به في البلاد، ووسع به في الرزق، وجعلهم ملوكا على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا الله على نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من الله ).
وإن هذا ليس رأيا مغايرا للتفسير السابق، ولكنه حكم بعموم النعمة على العرب أجمعين، لا للذين هاجروا وجاهدوا، وأيدهم الله تعالى بنصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل كان العرب ؛ إذ رفعهم من جهل إلى علم بالإيمان، ومن شظف العيش إلى عيش رفيع، حتى لقد قال خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( والله ليتألمن من النوم على الصوف الأذربي كما يتألم أحدكم من النوم على حسك السعدان )،
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾.
أمر الله تعالى المؤمنين بأن يذكروا في الرخاء الشدة، وفي الكثر يذكرون القل، وفي العز يذكرون الذل، وفي حال الاعتزاز يذكرون الاستضعاف ليعرفوا النعمة، وحقها، وقد ذكر بعد ذلك ما يصون رفعة الأمم والآحاد، فذكر أنه الأمانة ؛ ولذا حث عليها بالنهي عن الخيانة.
والتفسير اللغوي لكلمة ( خان ) هو أن معناها نقص ؛ ولذا يقال لنقيضها، ( وفى ) فيقال خان الأمانة، بمعنى نقضها، ويقال وفاها أي أداها على وجهها، والنهي عن خيانة الله وخيانة رسوله فهي واحدة، لأن ما يطلبه الله يطلبه رسوله، ولكن ألحق جلاله مع النبي أو النبي مع الله ؛ لتأكيد المعنى في أن من أطاع الرسول فقد أطاع الله، ولبيان أن الرسول لا يطلب إلا ما يطلبه الله تعالى ؛ ولأن يبين أن نصرة لرسول نصر لله، ومحبة لرسول محبة لله ﴿ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم............. ( ٣١ ) ﴾ ( آل عمران )، وأن خيانة الرسول خيانة لله تعالى.
وخيانة الله ورسوله، تشمل عدم إطاعة الشرع، ومخالفة نواهيه، وترك الجهاد، وإفشاء أسرار المؤمنين، وإعلان ما أمر الله بكتمانه، والغلول في الغنيمة قبل قسمتها، والكيد لجماعات المسلمين، واتخاذ بطانة من غيرهم، وموالاة أعداء الحق، وفي الجملة مناوأة أهل الحق سرا وباطنا، فهذه كلها خيانة لله ورسوله، وعدم رعاية الأمانات، ومناصرة الظالم، ومعاونته على الظلم وعدم مراعاة الأمانات، وفي الجملة تشتمل خيانة الله ورسوله كل خيانة للشريعة، سواء أكانت تتعلق بالآحاد والجماعات، وقوله :﴿ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾، عطف على خيانة الله ورسوله، والمراد ﴿ أماناتكم ﴾ الأمانات التي عهد إليكم بالقيام عليها، وأدائها في وقتها ويكون النهي عن خيانتها وارد من ناحيتين :
الناحية الأولى : من جهة أن خيانتها خيانة لله ولرسوله ؛ لأن الله تعالى أمر بأداء الأمانات إلى أهلها، فقال تعالى :﴿ إن الله يأمركم أن تأدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ( ٥٨ ) ﴾ ( النساء ) ومن أن شريعة الله التي بلغها محمد صلى الله عليه وآله وسلم تأمر بأداء أمانات العباد إلى أصحابها.
والناحية الثانية من أمانات العباد : حق العباد، وديوان ظلم العباد لا يغفر إلا برد مظلمة ظلم الطاغين، وقد أكد الله تعالى النهي وغلظه بقوله تعالى :﴿ وأنتم تعلمون ﴾ أي تجحدون الأمانة وأنتم تعلمون وجوبها، أو تنكرونها، وأن تعلمون أمرها، وأن أداءها واجب عليكم.
ونرى من هذا أن خيانة الله ورسوله والناس أجمعين منهي عنها، وأن عمومها لا يمنع أنها قد تكون اقترنت في نزولها بحوادث وقعت من بعض الصحابة.
فقد روى أن أبا لبابة بينه وبين قريظة صلات، فلما حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم سعد بن معاذ فيهم أشار إليهم أبو لبابة بألا يحكموه، وأشار إليهم بأن حكمه الذبح، فأحس بأنه خان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فربط نفسه في سارية المسجد، ونذر ألا يأكل حتى يحله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمكث تسعة أيام خر على أثرها مغشيا عليه فتاب الله تعالى عليه، وحل وثاقه فقال : إنه نذر أن ينخلع من كل ماله، إن تاب الله عليه، فاكتفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بثلث ماله ( ١ )١.
وروى أنها نزلت عندما أرسل حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين يخبرهم بسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد أمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالكتمان، فخان المسلمين بهذا الإخبار ( ٢ )٢. وفي الحق أن الآية عامة لهذه الأحوال وغيرها.
٢ انظر مسند البخاري: الجهاد والسير – الجاسوس (٧.. ٣)، ورواه مسلم: فضائل الصحابة – من فضائل أهل بدر (٢٤٩٤)..
﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾.
سبحان منزل القرآن، أنزله نظاما وشرعا محكما، وحكمة منزلة، هو أمرنا ألا نخون، وعلمنا كيف نحارب نوازع الخيانة في نفوسنا، ونعالج منابع الفساد فينا، وهدانا السبيل لأن نربي أنفسنا ؛ طلب إلينا ألا نخون، ثم بين موضع الداء وهو فتنة المال والولد.
والأمر في قوله تعالى :﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾. أمر تعليم وعلم، وهذا العلم هو أن المال والولد فتنة، والفتنة هنا المراد بها الاختبار والامتحان من فتن الفلز إذ صهره بالنار لإخراج الفلز مما يعلق من مفاسد.
وإنه بمقدار توقينا لفتنة المال يكون بعدنا عن الخيانة، ولقد قالوا : إنه كان لأبي لبابة الذي ذكرنا أنه شعر بأنه خان الله ورسوله إذ أشار لليهود بأن الحكم الذي سيصدره معاذ هو الذبح، كانت له أموال عند اليهود يخاف ضياعها ففتنة المال أغرته، بأن يقدم على الخيانة، وأن يطهر نفسه ذلك التطهير الشديد، بأن يحاول الانخلاع من كل ماله، فيخفف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه يجعله في الثلث.
وفتنة المال أشد فتنة، ويقول الله تعالى :﴿ المال والبنون زينة الحياة الدنيا........... ( ٤٦ ) ﴾ ( الكهف )، وقال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم........... ( ١٤ ) ﴾ ( التغابن ).
وقدم المال على الولد ؛ لأن المال في أظهر أحواله متعة خالصة، والولد متعة، وتكليف، وما لا تكليف فيه يكون أوضح و أظهر استمتاعا، و لذلك طلب المال الجميع. و الأبوة متعة و لكن معها تكليف ورعاية، والذين تفتنهم الدنيا تغرهم الأمور الظاهرة، وتعوق متعتهم الأمور القابلة، وإنه حيث فقد الشخص إحدى المتعتين المال، أو الولد، اشتدت الأخرى ؛ ولذا كانت متعة الولد تشتد عند الفقراء، ولا تكون عند الأغنياء، كقوتها عند الفقراء، وتلك الفطرة.
وقوله تعالى :﴿ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ فيها قصر الأموال والأولاد على الفتنة، ومن ناحيتها تجد الخيانة مسرب الشيطان إلى النفوس، فالآية تحذرنا من هذه الفتنة، والحذر لا يكون بترك المال والأولاد، إنما الحذر ألا نطلب المال إلا من الحلال، وألا تدفعنا عاطفة الأبوة إلى الشطط ومجاوزة الحد.
وإنه يجب محاربة المتعة حتى لا تشتط بالإنسان بطلب متعة أبقى وأدوم وأهدى سبيلا، ولذا علمنا الله تعالى الإيمان بأن عند الله أجرا عظيما، إذا قاومنا فتنة المال والولد، والمقاومة ليست بالحرمان كما أشرنا، ولكن بالحذر، وألا نتعدى حدود الله تعالى :﴿ تلك حدود الله فلا تعتدوها.......... ( ٢٢٩ ) ﴾ ( البقرة )، ولذا قال تعالى :﴿ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ وذلك أجر مقاومة الفتنة، والوقوف بالمحبة للمال والولد، عند الحد الذي لا تكون معه خيانة، ولا تجانف لإثم.
وقد أكد الله تعالى أجر الله الذي يتكافأ مع مقاومة الخيانة بسبب متعة المال والولد أولا : بالتعبير بالجملة الاسمية : وثانيا : ب ( أن )، وثالثا : بتنكير أجر، فإن معنى هذا التنكير الكبر إلى درجة، ورابعا : بوصفه بأنه عظيم وذلك لتحصين نفسه بهذا الأجر الذي لا يقارن قدره.
﴿ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾.
يحصن الله تعالى نفس المؤمن ليكون دائما بعيدا عن الخيانة، وقد حصنها بما أعد من أجر عظيم للمؤمنين الأمناء الذين شروا أنفسهم لله تعالى، وأعدها بتربية التقوى في النفس، حتى تكون في حال خوف من عذابه، كما ترجوا ثوابه ؛ لذلك ناداهم سبحانه وتعالى مبينا خواص التقوى، فذكر أنها تنير الطريق، فلا تضل العقول، فيقول سبحانه :﴿ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾.
ثلاثة أمور تترتب على التقوى مجاوبة لنفس المتقي، وهي الفرقان، وتكفير السيئات، والغفران.
أما الأول وهو الفرقان، فهي كلمة جامعة لمعاني الفصل بين النور والهدى، والحق والباطل، والواضح النير وما فيه إشباه وإبهام، والطاعة والعصيان.
وتطلق كلمة الفرقان على كل ما يؤدي إلى هذه المعاني، فتطلق على النصر ؛ لأنه يعلى الحق، ويخفض الباطل، ويفرق بين العزة والذلة، وتطلق على البيان ؛ لأنه يفرق بين الحق والشبهات، ويشهر الحق ويعلنه، وينشر الاسم والصيت في الأرض.
وكيف تكون التقوى تعمر النفوس، وتطهر القلوب، وتنير الأبصار، وفي الحكمة الشرقية أن القلب إذا عمره الإخلاص وقذف الله فيه بالحكمة، فاستقام اللسان واستقام العمل، واستقام السلوك ولم ينحرف عن الجادة، وحينئذ لا يشتبه أمر من الأمور، وتكون المشتبهات ضاحيات نيرات إما إلى الهدى، وإما إلى الضلال.
هذا هو الفرقان، وهو أولى ثمرات التقوى، وهو جامع للخير، إذ هو جامع للعلم النافع الهادي.
والثاني : هو إن الله تعالى يكفر عنه السيئات، وتكفير السيئات معناه إزالة آثارها في النفس، فإن النفس إذا أذنبت نكتت فيها نكت سوداء تتوالى حتى يرباد القلب، وتكفير السيئات إزالة هذه النكت السوداء، أو ما علق منها، حتى يصير القلب أملس كالمرآة، وإن التقوى تفعل ذلك ؛ لأنها تجلوا صدأ القلوب ويمتلئ القلب بذكر الله تعالى، فيعبده كأنه يراه، ويحس بعظمته تملأ نفسه، وتنير سبيله.
والثالث : فمن بعد تطهير النفس من السيئات بتكفيرها، يكون الغفران وستر الذنوب، وتكون الرحمة الشاملة، ولقد ختم الله تعالى ذلك بقوله تعالى :﴿ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾، لأن ذلك كله من فضل الله تعالى ﴿ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾.
المكر الأبلغ الإيذاء :
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ( ٣٠ ) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ( ٣١ ) وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( ٣٢ ) وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ( ٣٣ )
في هذه الآية يذكر سبحانه وتعالى ما كانوا يبيتونه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قبيل أن يهاجر، وإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدبر للهجرة من قبل ذلك، فقد أخذ يعرض نفسه على القبائل، حتى وجد قبل الهجرة ما يقارب سنتين الأوس والخزرج، فأخذ يدبر أمر الهجرة إليهم في يثرب، ويعد العدة لذلك ويهيء المتبوأ، ويتم الرسالة، بلاغا وتبيينا، وقد هاجر من هاجر قبل ذلك إلى الحبشة، وهاجر إلى المدينة من يحفظ القرآن ويعلم الإسلام فهل كانت الهجرة فرارا من الإيذاء وطلبا للأمن ؟.
لا شك أن فرار الذين هاجروا إلى الحبشة كان من الأذى بل كانت نظاما لتأسيس دولة، ولأنه نظام يجب أن يتحقق، ولأن الإسلام جاء لإقامة دولة تحكم بأمر الله ونهيه، وتقيم العدل، وترفع الجور، وما كانت تتمكن من ذلك، وهي خاضعة لعبدت الأوثان، بل كان لابد من الهجرة حيث تكون القوة، وحيث يتمكن من إقامة الدولة، وقد اختار الله تعالى من الأرض أرضا ينتشر منها خبر الدعوة المحمدية في كل ربوع البلاد العربية، فكانت أرض البيت الحرام، وقد مكث محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثلاث عشرة سنة يدعو، دخل خلالها في دينه بعض قريش، وبعض القبائل، وعرف العرب دعوته، حتى إذا تكونت الجماعة التي كانت النواة الأولى، مهد لإنشاء الدولة، فسافر إلى المدينة مهاجرا.
وبينما هو يعد العدة، أو أعدها ومهد الأرض وعبد المقام – كانوا يفكرون في الإيذاء، ولذا لا نقول هاجر فرارا، بل كان الاتفاق الزمني، وهم يفرغون جعبتهم، وقد أفرغوها، وراشوها ( ١ )١، ولم يجدوا موضوعا لفعلهم.
﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾.
( إذ ) ظرف وقائعه في الماضي، وهو متعلق بمحذوف تقديره اذكر، أي اذكر يا محمد ومن معك الوقت الذي بلغ الأذى أقصاه، وهم يمكرون، ويدبرون ويحكمون، ويتجادلون في أنجع طريق لسد الطريق على دعوتك، أيحبسونك، أو يقتلونك أو يخرجونك، وقد اجتمعوا، ويقول الله تعالى مشيرا إلى آرائهم ﴿ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ﴾ ( ويثبتونك ) معناها يحبسونك فيمنعونك الحركة أو يقتلونك أو يخرجونك.
ولنضرب بكلمة موجزة، لقد ثبت بإسناد صحيح أن الملأ من قريش اجتمعوا في دار ندوتهم ليتشاوروا في أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد صار على أمر عظيم عليهم، خالفهم وسفه أحلامهم وعاب آلهتهم فتقاولوا في أمره ماذا يصنعون أيثبتونه أي يمنعونه من الحركة بالحبس، أم يقتلونه، أم يخرجونه.
قال قائل منهم : احبسوه في وثاق ثم تربصوا به ريب المنون، حتى يهلك كما هلك من قبله، فلم يرتضوا هذا رأيا، وقال قائلهم : والله ليخرجنه أصحابه فليوشكن أن يثبتوا يأخذونه من أيديكم فيمنعونه منكم. قال قائل منهم : أخرجوه من بين أظهركم، فتستريحوا منه، فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع وأين وقع، وكان أمره في غيركم.
فقال قائل : ما هذا لكم برأي، ألم تروا حلاوة قوله وطلاقة لسانه وأخذه القلوب بما تسمع من حديثه، والله لئن فعلتم عليه، ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم.
وقال أبو جهل : والله لأشيرن عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه بعد، لا أرى غيره ؛ قالوا : وما هو ؟ قال تأخذون من كل قبيلة غلاما شابا وسطا نهدا، ثم يعطى كل غلام منهم سيفا صارما، ثم يضربونه ضربة رجل واحد فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها، فما أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها، فإنهم إن رأوا ذلك قبلوا العقل واسترحنا.
قبلوا ذلك الرأي واستطابوه وهموا لتنفيذه، واجتمعوا حول داره لينفذوا الخطة، وأتوا بالشباب الأنهاد، ولكن الله تعالى كان يدبر لرسوله ورسالته، ولقد جاء سيف الحق علي كرم الله وجهه ونام مكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم مصطفون حول الدار وقبض قبضة من الرماد وقال :( شاهت الوجوه ) ( ١ )٢، ويروى أنه تلا قوله تعالى :﴿ وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون ( ٩ ) ﴾ ( يس ) ( ٢ )٣. هذا تدبيرهم ومكرهم، وإنه في هذا الوقت الذي كانوا يمكرون فيه، كان الله يدبر فيه لرسوله ولرسالته، فكان يدبر أمر هجرته، وابتدأت بهجرة كبراء الصحابة كعمر رضي الله عنه، وأبي عبيدة، وغيرهما من كبار الصحابة، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحتجز أبا بكر لصحبته، فكان له فضل في الصحبة في الغار.
وسمي تدبير الله تعالى مكرا من قبيل المشاكلة اللفظية، كقوله تعالى :﴿ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم........ ( ١٩٤ ) ﴾ ( البقرة ) فدفع الاعتداء ليس اعتداء.
والله تعالى ﴿ خير الماكرين ﴾ أي خير من يدبر، وينظم ويحمي نبيه ورسالته لأن تدبيره سبحانه وتعالى خير، ولا يمكن إلا أن يكون خيرا وهو نافذ ومنتتج ومؤد إلى غاية هي خير غاية.
٢ رواه أحمد: مسند بني هاشم – بداية مسند عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (٢٧٢٥)..
٣ رواه أحمد: مسند بني هاشم (٣٢٤١)..
نزلت هذه الآية في مكة، وهي تتلى في سورة أكثرها نزل بالمدينة لتذكرهم بما نزل بهم من المشركين بمكة إذ كانوا يستهينون بأمرهم، ويستضعفونهم، وقد امتد أمر استهانتهم إلى الحجج القارعة، مع عجزهم عن أن يأتوا بمثله القرآن، يقول تعالى :﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا ﴾، هذا تصوير لبعض أحوالهم عند سماع تلاوة القرآن ؛ فأحيانا كانوا يتناهون عن الاستماع وقالوا :﴿ وقال الذين كفروا لا تسمعوا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ( ٢٦ ) ﴾ ( فصلت ) وأحيانا يطلبون آيات، وأحيانا لا يعيرون القرآن التفاتا ويعلنون الاستهانة به.
﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ﴾، عبر بالمضارع لتصوير حالهم وتجددها آنا بعد آن والتلاوة : الترتيل بالقراءة آية تلو آية في نغم هو ترتيل الله تعالى، ولا يجيبون بالتأمل والتفكير والتدبر فيما يتلى، بل يعاجلون القارئ كأنهم يطلبون أن يسكت ولا يقرأ قائلين : سمعنا، كما تقول لمتكلم لا تريد منه الاستمرار : سمعنا، سمعنا، أي أقصر، وكأنهم يتأففون، ثم يردون قائلين، ﴿ لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا ﴾.
أي لو نشاء أن نقول مثل هذا الكلام لقلناه، ولكنا نرده، وهذا كلام يحمل في نفسه دلالة على عجزهم أن يأتوا بمثله، ولقد تحداهم القرآن ان يأتوا بعشر سور، فما أتوا، تحداهم أن يأتوا بسورة فعجزوا واعتذروا بأنهم لم يأتهم تأويله، فتحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله مفتريات فعجزوا، أفبعد هذا التحدي الشامخ والسكوت الخانع والعجز الخاضع يقول قائلهم : لو شئنا لقلن امثل هذا ؟ ! ! تلك غطرسة كاذبة، ونفخة جوفاء.
ويردفون كذبهم بكذبة أخرى فيقولون :﴿ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ﴾ ( إن ) هنا نافية، أي ما هذا الكلام إلا أحاديث الأولين التي يسمر بها ويقصدونها قطعا للفراغ، والأساطير جمع أسطورة وهي الأخبار التي يخترعها القصاصون وغيرهم في سمرهم ولهوهم.
وقد روي أن قائل هذا هو النضر بن الحارث، وكان يتخذ مجلسا بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقص فيه أخبار ملوك الفرس، وأمرائهم، ونسب القول إلى كلهم ؛ لأنهم ارتضوه وقبلوه وصدقوه. وكل ذلك بهتانا وكذبا.
ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى أنهم قالوا ذلك ورد قولهم، فقال تعالى :﴿ وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ( ٥ ) قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما ( ٦ ) ﴾ ( الفرقان ).
﴿ وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾.
إن هذه الجملة السامية الحالية تنبئ عن أن هؤلاء قد أركست نفوسهم في الشرك إلى درجة أنهم يتمنون أن يعيشوا فيه، وألا يكفروا في تغير ما بأنفسهم.
يقول الله تعالى عنهم يقولون :﴿ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ............... ﴾ هذا أقصى أحوال الجحود والإنكار، حتى إنه ليتوقع شر ما يتمناه المرء إذا كان ذلك صدقا، فيقول : إن كان هذا هو الحق وحده ولا حق سواه، فخير لنا أن تنزل علينا حجارة من السماء أو تأتنا بعذاب أليم من جنس هذا العذاب، فهو ينكر أولا، ويعده شر الأحوال ثانيا، ويصر عن إنكاره، ولو بدت دلائل الحق ثالثا.
وفي ذلك فوق هذا الجحود الذي لا حد له سخرية وتهكم، وأنه يستحيل في نظره أن يكون حقا. وهنا إشارتان بيانيتان رائعتان :
الأولى – قولهم :﴿ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ ﴾، فيها قصر الحق على هذا، وهو التوحيد، والإيمان بما جاب به محمد صلى اله عليه وآله وسلم، فالإنكار واقع على قصر الحق، وكأنهم يريدون أن يكون ما هم عليه حقا وهو الباطل الذي لا ريب فيه.
الإشارة الثانية – أنهم يقولون في الجواب المترتب على هذا الشرط، ﴿ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء ﴾، فذكر السماء ؛ لأنه المناسب للإمطار، وليكون أشد ؛ لأنه يكون حجارة تنصب على الرؤوس انصبابا كانصباب الماء، ولأنه كما قال الزمخشري، يكون سجيلا، كالحجارة التي نزلت بأصحاب الفيل، التي حمى الله تعالى بها بيته الحرام من أبرهة الذي أراد هدم البيت.
وإن ذلك النص السامي، كما هو أقصى الجحود والتهكم هو أقصى ما يدل على الحمق والجهل، يروى في هذا أن معاوية بن أبي سفيان دخل عليه رجل من سبأ، وقال له : إنكم قوم تجهلون وليتم عليكم امرأة، فقال الرجل : أنتم أجهل ؛ لأنكم قلتم :﴿ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾، ولم تقولوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا.
والجواب لمثل معاوية حق ؛ لأنه هو وأبوه كانا ممن يظن أنهم قالوا ذلك، وإن أسلموا من بعد وكانوا من المؤلفة قلوبهم وأخذوا مئات من النوق.
هذا النص السامي فيه بيان أن اله لا يعذب الأقوام، والرسول يدعوهم حتى يكون اليأس من إيمانهم كما فعل الله تعالى مع قوم نوح، لقد قال تعالى عند إنزال العزم فيهم ﴿ لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن............ ( ٣٦ ) ﴾ ( هود ).
و( اللام ) في قوله تعالى :﴿ ليعذبهم ﴾ هي التي يسميها علماء النحو لام الجحود أي تكون لتأكيد النفي، والمعنى : ما كان من شأن الله العلي الأعلى أن يعذب المشركين، وأنت فيهم تدعو، ويفشو الإيمان فيهم وقتا بعد آخر، وهؤلاء بهذا الدعاء الذي يجحدون به يستعجلون العذاب، والله فوق أهوائهم وله في خلقه سنة ولن تجد لسنة الله تعالى تبديلا، ولقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول :( أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله تعالى ) ( ١ )١.
ثم يقول سبحانه :﴿ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾، قال بعض العلماء إن العذاب الذي يعم يكون الجميع مستحقونه، فإذا كان فيهم من يستغفر لا يعمهم العذاب، فمعنى ﴿ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾، أي بعضهم يستغفر وعبر بما يدل على الجميع للإشارة إلى أنه ينبغي أنم يكون ذلك، وقيل إن المراد قولهم في الطواف : غفرانك. وقيل المراد توبتهم إن تابوا.
وينقدح في نفسي أن الأقرب للمعنى أن نقول، ﴿ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾، بمعنى يدخلون في دين الله تعالى فوجا بعد فوج، إذن لا نقطع السبيل على المستغفرين الذين يجيئون تباعا بإنزال العذاب، بطلب المستعجلين خضوعا لأهوائهم وضلالهم.
وقد نفى الله عن ذاته العلية الشأن، فقال تعالت كلماته :﴿ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ ﴾ فنفى اسم الفاعل وهو نفي الوصف القائم بالذات العلية، ﴿ إن الله غفور رحيم ( ٢٠ ) ﴾ ( المزمل ).
إن الله سبحانه وتعالى رد استعجالهم للعذاب، كما استعجل المشركون إسلافهم العذاب، فأنزل تعالى، أما المشركون الذين بعث فيهم محمد صلى اله عليه وآله وسلم، فما بعث لهم وحدهم، بل بعث للأحمر والأسود، والأبيض والأصفر، فما كان لينهي رسالته بكفر أهل مكة وإصرارهم على الشرك ومعاندة الحق، لا بل لا بد من تبليغ رسالة ربه، وان يعرفها الكافة فقد أرسل إليهم، كما قال تعالى :﴿ وما أرسلناك إلا كافة للناس.......... ( ٢٨ ) ﴾ ( سبأ ) ولذلك قال :﴿ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ على ما ذكرنا ولكن هناك عذاب لهم ينزل بهم في الدنيا، أساسه منازعة الحق للباطل، وإزالة مثارات الشيطان أمام شرع الرحمن، ولا بد أن يخلو وجه الناس للحق، فكان لا بد من مغالبتهم بالقتال، وهو بعون الله تعالى عذاب لهم، وهذا هو العذاب الذي قرره الله تعالى لهم في قوله تعالى :
﴿ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾.
هذا تعجب من عدم تعذيب الله لهم بالمغالبة، ومنازعتهم ما وضعوا أيديهم عليه بالباطل، وأقاموا أصنامهم فيه، وليسوا أهلا لولايته.
والاستفهام للتعجب من مناقضة حالهم لما يجب لحرم الله الآمن، والمعنى أي أمر ثبت لهم حتى يقيموا في الحرام ولا يعذبهم يمنعهم منه، وهم يحاربون شعائره، وذلك بصدهم عن سبيل الله، وعن المسجد نفسه فهم يمنعون النبي صلى اله عليه وآله وسلم من أن يؤدي المناسك، ويمنعون ضعاف المؤمنين بإيذائهم، ويصدون الناس معنويا بوضع الأصنام على الكعبة بناء إبراهيم، وينتهكون المحارم، بحمل الناس على الطواف عرايا رجالا ونساء، حتى إنهن ليسترن سوءاتهن بأكفهن، هذا كله صد عن البيت.
فكيف لا يعذبهم الله بمغالبتهم على الاستيلاء على البيت، والحال أنهم لا يقومون على حرمات البيت، وهو المسجد الحرام الذي جعله الله حراما آمنا، والناس يتخطفون من حوله.
والتعذيب، كما أشرنا هو مغالبتهم لنزع البيت من تحت أيديهم، ووضعه في يد أولياء الله ولكنهم يدعون أنهم سدنته، أو أنه بأيديهم مفاتيحه، من عهد إبراهيم، وقد أجاب الله تعالى عن ذلك بأنهم ليسوا أولياءه، أي ليسوا حماته، أو القائمين عليه ؛ وذلك لأن ولايتهم إنما هي بالخلافة عن إبراهيم بانيه ورافع قواعده، وما كان مشركا.
وإنهم إذ أشركوا، وصدوا الناس عن المسجد الحرام، ومنعوا غير العرايا، قد فقدوا صفة الخلافة عن إبراهيم الذي جاء بالحنفية السمحة، قد فقدوا الحق في هذه الولاية. ولذا قال تعالى :﴿ وما كانوا أولياءه ﴾ أي ما استمرت لهم هذه الولاية، لأن ( كان ) تدل على الاستمرار وفيها نفى لهذا الاستمرار.
والولاية الحق تكون لمن كانوا على ملة إبراهيم السمحة ؛ ولذا قال :﴿ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ ﴾، هذا قصر للولاية على الموحدين المؤمنين الذين بلغوا ذروة الإيمان، وهي التقوى ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾، أنفسهم وضلالهم فلا يستحق الولاية المؤمن فقط، بل المؤمن الذي يتقي الله ويحفظ حرمات بيته، قال عز من قائل :﴿ إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ( ١٨ ) ﴾ ( التوبة ).
وإن هؤلاء المشركين لا يعرفون شيئا مما يليق بهذا البيت العتيق الذي هو أقدس بيت في هذه الأرض ؛ لذا ذكر سبحانه، كيف يتعبدون في هذا البيت عابثين، غير مؤمنين.
﴿ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾.
كانوا يصفرون ويصفقون، ويضعون خدودهم على الأرض، وهم على هذه الحال، ويسمون هذه الحال صلاة، فهي في حقيقتها ليست صلاة إبراهيم، ولا صلاة مطلقا، ولكنهم سموها صلاة، وعدوا أنفسهم بها مصلين، وتجاوزوا كل معقول، وعدوا أنفسهم أولياء البيت الحرام، وهم يصدون الناس عنه، ويتحكمون فيه، وفيمن يغدون إليه إجابة لدعوة إبراهيم من كل فج عميق.
يقول تعالى :﴿ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً ﴾ أي ما كان دعاؤهم عند البيت أو ما كان ما يسمونه صلاة، سولتها لهم نفوسهم عند البيت، أي عند ذلك المكان المقدس الذي كان أول بيت وضعه الله للناس الذي قال اله تعالى فيه :﴿ إن أول بيت وضع للناس ببكة مباركا وهدى للعالمين ( ٩٦ ) فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا........ ( ٩٧ ) ﴾ ( آل عمران )، إما كانت إلا مكاء وتصدية وذكر كلمة البيت، وأن هذه التي سموها صلاة كانت عنده، ليتبين عبثهم بهذا البيت المقدس، وليتبين عبثهم في هذا المكان الذي ادعوا أنهم أولياؤه، والمكاء كرغاء وخوار وغثاء ويعني الصفير، فوزنه فعال، وفعله مكا يمكوا إذا صفر، والتصدية مأخوذة من الصدى، والمراد التصفيق ؛ لأن التصفيق ترديد للصدى. وقد روي ذلك عن أبي حاتم، وابن عمر، وقال ابن عباس : كانت قريش تطوف بالبيت عراة، وتصفق، والمكاء : الصفير، والتصدية : التصفيق.
ويروى أنهم كانوا يفعلون ذلك، ليخلطوا بذلك على النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاته.
وإن الزمخشري يقول : إن الله تعالى سمى فعلهم ذلك صلاة تهكما عليه، وقد جاء في الكشاف ما نصه :( فإن قلت ما وجه الكلام قلت هو نحو قوله :
وما كنت أخشى أن يكون عطاؤه أداهم سودا أو محدرجة سمرا
والمعنى أنه وضع القيود والسياط موضع العطاء، ووضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة، وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال والنساء وهم يشبكون أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون، وكانوا يفعلون ذلك إذا قرأ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ).
وخلاصة القول أن نقول : إن تسمية عملهم صلاة على زعمهم، أو نقول مقالة الزمخشري : إنه تهكم على فعلهم، فسمى صلاة تهكما، كما يسمى وضع الأيدي في القيود، وهي الأداهم، والسياط وهي المحدرجة السمر – عطاء، وذلك إهانة للبيت، وتحقيرا له، لا يعقل أن يصدر من أوليائه فليسوا له.
هذه تصرفاتهم في البيت، وهي صغار شديد لأمره، لا يليق ببيت إبراهيم، بيت الله العتيق، ولذا قال تعالى :
﴿ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾.
وفي هذا الكلام التفات إليهم وتوجيه الخطاب لهم، لأن مخاطبتهم بالعقاب يجعله أوقع في النفوس وأدعى للرهبة، والفاء فاء الإفصاح ؛ لأنها فاء تفصح عن شرط مقدر، إذ يكون الكلام تقديره : إذا كانت هذه صلاتهم وإذا كان هذا فسادهم، فذوقوا العذاب بسبب كفركم.
وهنا إشارات بيانية يجب التنبيه إليها.
الأولى – التعبير ب ( ذوقوا العذاب ) فإنه مجاز عن نزوله بهم بحيث يمس إحساسهم، وكأنه يذاق مذاقا مؤلما ولا يخلوا ذلك من تهكم بهم، كما يقول الله تعالى :﴿ فبشرهم بعذاب أليم ( ٣٤ ) ﴾ ( التوبة ).
الثانية – قوله تعالى :﴿ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ٣٥ ) ﴾، فإنها تدل على استمرار الكفر، وأن هذا الاستمرار هو السبب في ضلالهم، فإن كنتم وكان فيها دالة على الاستمرار.
الثالثة – أن التعبير بالمضارع يفيد تصوير حال كفرهم المتجدد المستمر، فكل ساعة تمر وهم كافرون تجديد للكفر، وحيث يتجدد الكفر يتجدد سبب العذاب، وقانا الله تعالى منه.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴾.
هذه الآية أقرب إلى الظن أنها مدنية، ولكن نقبل ما يقرره القراء، وهي أنها مكية عند بعضهم، وهي لا تتغير بوصف المكية أو المدنية، فكله كلام الله تعالى، لا يتغير بميقات نزوله، ونحسب أن ما في سورة الأنفال مما نزل بمكة، قد انتهى إلى ما قبل هذه الآية.
كتب الصحاح التي تكلمت في أسباب النزول تجمع على أن سبب نزول هذه الآية أن قريشا بعد أن عضتهم الحرب في بدر، وأرادوا أن يثأروا لأنفسهم جمعوا ما لا لينفقوه في حرب أخرى يعدون لها، ولكن قال الضحاك : إنه عنى بالآية المطعمون الذين كانوا يطمعون يوم بدر، وكانوا اثني عشر رجلا.
والمذكور في سيرة محمد بن إسحاق أنه لما أصيبت قريش يوم بدر، ورجع فلهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان لعيره، مشى رجال من قريش أصيب آباؤهم وابناؤهم وإخوانهم ببدر فكلموا أبا سفيان، ومن كانت له في تلك العيرة تجارة فقالوا :( يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأرا بمن أصيب منا ) ففعلوا، وقد ذكر ذلك عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما.
وأيا كانت الأخبار في ذلك وإنها لصادقة، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإن الله تعالى الرحيم الرءوف بعباده، لا يجعل المؤمنين فريسة لأموال المنافقين ينفقونها للصد عن سبيله، فينصروا بأموالهم وينخذل أهل الحق، فصد هؤلاء عن سبيل الله.
إن الله تعالى يؤكد أن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فلا يتحقق لهم قصدهم فيقول :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ﴾.
أكد الله سبحانه الإنفاق لهذه الغاية وهي الصد عن سبيل الله، وذلك يجعل كلمة الشرك عالية، ويخضد شوكة المسلمين دعاة الحق، ويمنع الرسول ومن اتبعه من الدعوة، وفي سبيل حرب أهل الإيمان، وقد أكد الله تعالى أنهم سينفقونها بهذه النية الفاسدة، فالسين هنا لتأكيد الوقوع في المستقبل، وقد كرر النص الكريم الإخبار بالإنفاق، والأول للغرض من الإنفاق، وهو أنه للصد عن سبيل الله فهو بيان للنية الخبيثة، والقصد الفاسد.
والثاني لبيان أنه لا نتيجة لهذا الإنفاق، بل يكون عليهم حسرة، وسيغلبون.
والفاء في قوله تعالى :﴿ فسينفقونها ﴾ لبييان وقوع ما يريدون من غير أن يترتب عليه ما يحبون.
و ( ثم ) هي للعطف والترتيب، وكان التعبير ب ( ثم ) لبيان بعد ما يقع عما يريدون، فهم أرادوه سرورا لأنفسهم بتحقيق الصد عن سبيل الله، وهزم الحق، وكانت النتيجة ليست سرورا بل حسرة ؛ لأنهم لم يحققوا ما أرادوا وكانت الهزيمة، وهي حسرة ثانية، وكان نصر المؤمنين، وأن يكونوا هم المغلوبين.
ولاشك أن هذه الأمور التي ترتبت بعيدة عن الغاية التي أرادوها، فكان التعبير ب ( ثم ) لهذه المفارقة بين النتائج التي حققت، والمبعث للإنفاق.
والتعبير بالموصول في قوله تعالى :﴿ إن الذين كفروا ﴾ إيذان بأنهم يغالبون الله – وهم الكافرون – بأموالهم، والله هو القاهر فوق عباده.
هذه عقوبتهم في الدنيا، وهي إنفاقهم وإحباط عملهم، وذهاب ذلك حسرات عليهم، وأن يكونوا مغلوبين ما داموا ينازعون أهل الحق ويصدون عن سبيل الله.
أما في الآخرة فجهنم وبئس المصير ؛ ولذا ختم الله تعالى الآية بقوله تعالت كلماته :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴾ أي والذين كفروا بسبب كفرهم يذهبون إلى جهنم يحشرون فيها، وقدم الجار والمجرور للدلالة على الاختصاص، أي أنهم يحشرون إلى جهنم وحدها، والتعبير يحشرون يومئ إلى كثرة أهل جهنم، وإلى أنهم يكونون في ضيق محشورون. اللهم قنا عذاب النار.
وكان الكافرون في جهنم ليتميزوا بعقابهم، ولذا قال تعالى :
﴿ لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾.
الآية متصلة بالآية التي قبلها، فاللام متعلقة بقوله تعالى :﴿ يحشرون ﴾ في آخر الآية السابقة، أي أن الله تعالى يحشر أولئك الكافرين في جهنم دون غيرها يمسهم فيها النصب واللغون كلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها، كان ذلك الحشر ﴿ لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾ والخبث هو الكافر، والطيب هو المؤمن، وأظهر في موضع الإضمار، فلم يقل ليميزهم عن المؤمنين ؛ وذلك لبيان أن الكافر خبيث في عقله وفكره وعمله واعتقاده، ولبيان أن المؤمن طيب في نفسه واعتقاده وعمله وخير كله، ولبيان أن الخبث لا ينتج إلا الحشر في جهنم، وأن الطيب لا ينتج إلا خيرا، وهذا النص يفيد بإشارة القول ولمح البيان أن جزاء الطيبين نعيم مقيم.
وإن الخبيث يجتمع بعضهم إلى بعضه، يضم الخبيث إلى الخبيث ويتراكم عليه، حتى يكادوا يكونون عليه لبدا، وقد عبر الله تعالى عن ذلك بقوله تعالت كلماته :﴿ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً ﴾، تعبير يتناسب مع تكاثف شيء كله خبيث، أي يجعل الله تعالى الخبيث الحاضر فوق الخبيث الغابر، فوق ما سبقه، فنظمه جميعا بعضه لبعضه، وفي هذا إشارة إلى أن في جهنم مكانا للجميع، وإن كان مزدحما متراكما، وإشارة إلى تلاحق الحاضرين مع من يقلدونهم، وإشارة إلى تميزهم على الطيبين، أو تميز الطيبين عنهم، وإن هذا كله ينبئ عن الخسارة المطلقة التي لا كسب فيها ؛ ولذلك قال تعالى :
﴿ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾.
الإشارة إلى الذين أنفقوا ليصدوا عن سبيل الله، ومن كان إنفاقهم حسرة عليهم، والذين حشروا إلى جهنم، وكانوا قد حملوا الخبث، أي أولئك الذين كان منهم هذا وجوزوا ذلك الجزاء – هم الخاسرون، وفي الكرم قصر بتعريف الطرفين، أي أولئك هم الخاسرون وحدهم خسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.
قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ ( ٣٨ ) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٣٩ ) وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ( ٤٠ )
إن الذنوب مهما تكبر، فباب التوبة مفتوح فما أنزل الله الرسل ليحصوا عدد الذين أساءوا، بل للدعوة إلى الحق، وقد يكفرون فالدعوة تستمر لهدايتهم، ومن يستجب منهم تجب استجابته ما كان منه من قبل ؛ ولذلك كان الباب مفتوحا، ولذا أمر الله نبيه – مع كفرهم – أن يقول لهم :﴿ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ ﴾.
يأمر الله نبيه بأن يقول لهم في شأن الذين كفروا متحدثا عن مآلهم إن ينتهوا عما هم فيه من كفر ومشاقة للمؤمنين ومحاربة للحق – يغفر لهم ما سلف من أعمالهم، ويدخلون في الإسلام طاهرين مبتدئين حياة جديدة هي طهر وتقى ونقاء. وهناك قراءة بالخطاب، ورويت عن ابن مسعود :( إن تنتهوا يغفر لكم ما قد سلف ) ولكن القراءة المشهورة الأولى، ، ويكون المعنى قل مخاطبا لهم إن تنتهوا يغفر لكم ما قد سلف.
والتعبير بالذين كفروا في موضعه، لأنهم متلبسون بالكفر، ومع تلبسهم بالكفر، إن ينزعوه من إهابهم ويلبسوا لباس الإيمان وينتهوا من أرجاسه يغفر لهم ما قد سلف ؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، وعبر عن الإيمان بعد الكفر ب ( الانتهاء ) للإشارة إلى أن الفطرة هي الإيمان، وأن الكفر عارض على النفس وهو حال قابلة للانتهاء، وإذا انتهت عاد الطهر والنقاء.
وقال تعالى :﴿ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ ﴾، من حرب وإيذاء، ولبس الحق بالباطل، وكل ما كان منهم من جرائم في جنب الله، فالله غفور رحيم، وما ارتكبوا من زور وربا موضوع، وكل دماء الجاهلية موضوع، فكل ذلك داخل في قوله تعالى :﴿ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ ﴾.
وقرر الفقهاء أن الحربي إذا أسلم لم تبق عليه تبعة من حقوق الله تعالى، لأنه إذا غفر الشرك فما دونه أولى بالغفران، إلا ما كان من حقوق العباد كديون عليه، أو أكل مال بالباطل أو نحو ذلك، والذمي إذا أسلم فإن الحدود تقام عليه وحقوق العباد تجب على العباد ؛ لأن ذلك يلزمه بمقتضى عقدا الذمة، والإيمان يؤكد الالتزامات ولا يسقطها.
وقوله تعالى :﴿ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ ﴾ ظاهر النص إن يعودوا إلى الكفر بعد الإيمان فإن معاملة الكافرين تعود إليهم، فمعنى ﴿ فَقَدْ مَضَتْ ﴾، أي فقد تقررت سنة الأولين، وهي معاداتهم لله تعالى، منزل بهم ما نزل بالأولين من إخضاعهم للحق بالمحاربة وتنكيس رءوسهم، وإقامة الحق، أو تدمير ديارهم بزلزال مدمر أو حاصب من السماء، وإن سنة الأولين إما سلم مخزية، أو حرب مجلية، كما في بدر، أو ريح عاصف أو سيل عال.
الفتنة في الدين : إيذاء المؤمن لمنعه من اعتقاد ما يراه الحق، أو من الاستمرار عليه، وحمله على تركه بعد اعتقاده، كما يفعل المشركون في مكة مع المؤمنين، وكمنا فعل أصحاب الأخدود الذين قال الله تعالى فيهم :﴿ قتل أصحاب الأخدود ( ٤ ) النار ذات الوقود ( ٥ ) إذ هم عليها قعود ( ٦ ) وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ( ٧ ) وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ( ٨ ) ﴾ ( البروج ).
ومن الفتنة في الدين أن يمنع الداعي إلى الحق من الدعوة إليه، وان يمنع تعريف الناس بهذا الحق. وكان الناس يفتنون في دينهم بعد دعوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحق، فكانوا في مكة يفتنون، وقتل في الشام من أسلم من العرب، وحيل بين الدعوة الإسلامية، وأن تصل إلى الناس، والقتال يستمر إلى أن يزول سببه، وأن يكون الدين كله لله تعالى بأن يطلب الرجل الدين خالصا لا إرهاق ولا ضلال، بل يعتقد ما يعتقدا مخلصا لله طالبا وجه الله والحق لا يبغي سواه، وهذا معنى قوله تعالى :﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه ﴾، وإنه إذا طلب الدين كله لله سبحانه وتعالى، لا يفكر فيه كله إلا من هو لله مخلص مستقيم فإنه لا يمكن أن يكون مشركا، بل لابد أن يكون مؤمنا بالله الواحد الأحد الذي ليس بوالد ولا ولد، فإنه حينئذ يسلم كل أمر في وجهه لله تعالى بعيدا عن تأثير الملوك والرؤساء، وتضليل المضلين، هذا هو ما يشير إليه قوله تعالى :﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه ﴾، أي يكون التدين كله لله تعالى.
إن نهاية القتال تكون بانتهاء الفتن في العقيدة، وأن يكون طلب الدين، وقد قال تعالى :﴿ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾، والمعنى إن انتهوا عن الشر والاعتداء والفتنة في الدين، والإيذاء في الاعتقاد، فإن الله تعالى :﴿ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾، أي أنه مراقب نفوسهم وعليهم بما تخفي صدورهم، وما يجيش بنفوسهم، وفي هذا بيان علم الله الكامل، وتهديد لهم إن عادوا، كما فيه تبشير لهم إن استقاموا على الطريقة، وفي آية يقول الله تعالى :﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ( ١٩٣ ) ﴾ ( البقرة ).
في الآية السابقة فتح الله تعالى باب التوبة للكافرين ليخلصهم الله تعالى من الشرك الذي أركسوا فيه، وأشار سبحانه إلى أنه أمر عارض على نفوسهم، يستطيعون أن يرحضوه عنها، كما يرخص الوسخ على الثوب الأملس، وبين أن القتال لإزالة الفتنة في الدين، حتى يكون الدين لله.
وبعد هذا ذكر ولاء الله تعالى للمؤمنين، وأنه وليهم وناصرهم إن أعرض المشركون، فقال تعالى :﴿ وإن تولوا ﴾ أي أعرضوا ونأوا بجانبهم بعد أن فتح لهم باب الغفران، أو أن يقول : إن استمروا على إعراضهم وتنائيهم عن الحق فإنه هو مولاكم، فلا تخافوهم، وإن الله غالبكم عليهم لأنه مولاكم وناصركم، فقال تعالى :﴿ أن الله مولاكم ﴾، ليس هو الجواب، إنما هوعلة الجواب بل الجواب فأنتم الغالبون، وقوله تعالى :﴿ أن الله مولاكم ﴾ أي أنه مولاكم أنتم دون غيركم، والولاية للحق، ومعنى مولاكم أي وليكم وناصركم، وأنتم وحدكم حزب الله.
ومن كان الله وليه فلن يهزم، من كان الله ناصره، فلن يغلب ﴿ فإن حزب الله هم الغالبون ( ٥٦ ) ﴾ ( المائدة ) ولذا قال تعالى :﴿ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ ونعم من الألفاظ التي تقال في مقام المدح، والمدح بالنسبة لله تعالى الشكر، والثناء على اله بما هو أهله، فنعم هو وليا مواليا، ونعم الله نصيرا غالبا.
وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٤١ ) إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٤٢ )
هذا تعليم الله تعالى بشأن توزيع الغنائم، فالله سبحانه وتعالى تعهد الحرب من وقت الإعداد لها إلى الإقدام عليها إلى اللقاء فيها حتى الإنتهاء، ثم علمنا توزيع غنائمها ليكون التوزيع حكما شرعيا نخضع له، فلا نختلف ولا نتأثر، وقسمة الله تعالى هي العادلة وغيرها قسمة باطلة، وقسمة ضيزى لا صلاح فيها، ولا خير.
قال تعالى :﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ................. ﴾ ( ما ) في قوله تعالى هي اسم موصول بمعنى ( الذي ) والمصدر المنسبك من أن وما بعدها، مفعول ل ( اعلموا )، أي اعلموا كون الذي غنمتموه : خمسه لله ولرسوله إلى آخر النص الكريم.
والغنيمة ما يؤخذ بغير مقابل، ولكن بجهد، وخصت في عرف القرآن بما يؤخذ في الحرب من العدو ؛ لأنه يؤخذ بغير مقابل، لأنه أبيح دم العدو وماله، إذ الحرب تبيح دماء العدو وأمواله، ولكنها لا تؤخذ إلا بجهد، وصار ذلك حقيقة عرفية قرآنية.
ولكن أنطلق الغنائم على كل ما يستولى عليه في الحرب، سواء أكانت أرضا يستولى عليها، أم كانت أموالا منقولة، كالذهب والفضة والثياب والمطبوعات، أم كانت جواري وأناسي ؟.
تجري الأقلام على ذلك، ولذلك لاقى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مخالفة بادئ ذي بدء عندما منع قسمة الأرضين عن الفاتحين، وخالفه الأكثرون حتى إذا قرأ عليهم قوله تعالى :﴿ مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( ٧ ) لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ( ٨ ) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( ٩ ) وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ( ١٠ ) ﴾ ( الحشر ).
وعندما تلا عليهم أمير المؤمنين عمر هذه الآيات خروا صاغرين ووافقوا على ما قال، وقد دل هذا على أمرين :
أولهما – أنهم عدوا الفيء من الغنائم، إذ أجروا على الغنائم حكمه، وكذلك قال بعض فقهاء الصحابة والتابعين فعدوا الأنفال والفيء والغنائم مؤداها واحد، وغن اختلفت أسماءها.
ثانيهما – أن الغنائم لا تكون إلا في المنقول الذي ينقل من حيز إلى حيز كالعروض والذهب والفضة والأواني والثياب ونحوها، وقد قال ذلك الرأي بعض الصحابة، جاء في تفسير القرطبي :( لم يختلف العلماء )، في أن قوله تعالى :﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ ﴾ ليس على عمومه، وأنه يدخله الخصوص فمما خصصوه بإجماع أن قالوا : سلب المقتول لقاتله إذا نادى به الإمام، وكذلك الرقاب أعني الأسارى الخيرة فيها إلى الإمام بلا خلاف......... ومما خص به أيضا الأرض، والمعنى ما غنمتم من ذهب وفضة وسائر الأمتعة. وأما الأرض فغير داخلة في عموم هذه الآية.......... ولو كانت الأرض ما بقي لمن جاء بعد الغانمين شيء، والله تعالى يقول :﴿ والذين جاءوا من بعدهم ( ١٠ ) ﴾ ( الحشر ) بالعطف على قوله :﴿ للفقراء المهاجرين......... ( ٨ ) ﴾ ( الحشر ) قال : أو إنما يقسم ما ينقل من موضع إلى موضع.
نقلنا هذا الكلام، لبيان أن من علماء الصحابة من قال : إن الغنائم ما يؤخذ وينقل، والأراضي لا تنقل ويستولى عليها، فلا تعد عليها، ولنضع الحجارة في أفواه الذين يقولون : إن الإمام عمر رضي الله عنه عارض النص بالمصلحة عندما عارض نصا، ولما اعتمد على المصلحة وحدها لم يجد من يوافقه من الصحابة إلا من كان له مثل علمه، وبصره بالنصوص كعلي بن أبي طالب عالم الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
قوله تعالى :﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾ – من – في قوله تعالى : من شيء، بيانية لبيان عموم ما يغنم قليلا كان أو كثيرا، أي قدر من الغنيمة يغتنم يخمس قليلا كان أو كثيرا، وهذا دليل على أن هذا التقسيم من الله تعالى لا يجوز لأحد أن يقسم غنائم الحروب العادلة كما يهوى، بل إنها أموال الله تعالى يتولى تقسيمها ولي الأمر بتقسيم الله تعالى، لا بمجرد الهوى يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، كما كان يفعل ملوك الأمويين والعباسيين، حتى جاء الأتراك فطم سيل الفوضى، وضاع حكم الله تعالى، وصار أمر المؤمنين فرطا.
وقوله :﴿ فإن لله خمسه ﴾ أن ومصدرها مفعول لفعل محذوف، تقديره : ثبت والمعنى ﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ ﴾، فقد ثبت وتقرر وحكم الله أن لله خمسه............ وللرسول.
هذا تقسيم جعل الخمس لله أولا وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، فهو خمس مخمس إلى خمسة أخماس، وأربعة الأخماس الأخرى تقسم على الغانمين، ولم يصرح بتوزيعها ؛ لأنها معلومة بحكم الغنم الذي قام به الفاتحون، فهي تقسيم بين محصورين، وهم الله ورسوله، وفقراء الأمة وضعفاؤها، والفاتحون، فإذا ذكرت حصة أحد الفريقين فقد علمت حصة الفريق الآخر، كما قال الله تعالى :﴿ فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث............... ( ١١ ) ﴾ ( النساء ) ويعلم بذلك أن الأب حصته الباقي وهو الثلثان.
فإذا علم أن فريق الله ورسوله والضعفاء نصيبه الخمس، فأربعة الأخماس تكون للفاتحين.............. ولنتكلم في حصة الله ورسوله والضعفاء.
قالوا : إنها مقسمة إلى خمسة أقسام، فالأول للرسول، وهو لله تعالى، والله ورسوله خمسهما واحد، والثاني لذوي القربى، والثالث من خمس الله ورسوله – للضعفاء ولليتامى، والرابع للمساكين، وهم الفقراء الذين سكنتهم الحاجة، ولا قوت عندهم، والخامس لابن السبيل، وهو الذي انقطع عن ماله في سفره، فإنه يعطي من ذلك الخمس، ما يكفيه حتى يعود إلى أهله.
وهنا ملاحظة بيانية – ترتب عليها حكم فقهي، هي أن نصيب الرسول والضعفاء، ذكر فيه أنه لله، فلماذا ذكر الرسول بجواره ؟ والجواب عن ذلك الإشارة إلى أن ما كان للرسول، إنما هو للقربات، ولأن الرسول هو لسان الحق، وهو ينطق باسم الله، ولأن ما خص به الرسول ليس لذاته، ولكن جعل تحت يده ينفق منه على الكعبة، وعلى المؤلفة قلوبهم ويرضخ منه لا سهم له من الفاتحين كالعبيد والنساء فهو ليس له خاصة، بل يسد به ما عساه يكون مكملا للقسمة ومهما يكن فإنه ينفق في الحاجات العامة للمسلمين.
هذا تخريج بعض العلماء، فخمس الله ورسوله والضعفاء يقسم إلى خمسة.
وبعض العلماء يقول : إن لله في هذا الخمس، كإصلاح الكعبة والقيام على سدانتها، ويظهر أن مثل ذلك المرافق العامة.
وأما ما يخص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فينفق على أزواجه، وعلى من يرضخ لهم ونحوهم مما يتعلق بالجهاد بالنسبة.
وقوله تعالى :﴿ ولذي القربى ﴾، قال العلماء : إن المراد بهم ذوو القرابة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من بني هاشم وبني المطلب، وقال رواة السيرة : إنه لم يعط كل بني عبد مناف، فلم يعط بني نوفل، ولا بني عبد شمس من الأمويين ؛ وذلك لأن بني المطلب كانوا يناصرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الجاهلية، وكانوا مع بني هاشم، ولما قاطعت قريش بني هاشم انضم إليهم في شعب أبي طالب بنو عبد المطلب فرضوا مختارين أن ينزل بهم ما نزل ببني هاشم، في الوقت الذي لم يشرك أبو لهب إخوته في بلائهم وروي أن عثمان بن عفان، وجبير بن مطعم لما أعطى بني المطلب ذهبا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقالا له : هؤلاء إخوتك من بني هاشم لا ينكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله منهم، أرأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا، وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام، وإنما هاشم وبنو المطلب شيء واحد ) وشبك بين أصابعه ( ١ )١.
وإنهم يأخذون بالنصرة والقرابة فيهم واسوه في الشدة، فكان أن يواسوا في الغنيمة ؛ لأنهم نصراؤه، ولم يسلموه إلى المشركين وقت أن رماه أولئك المشركون بالسوء.
ولقد كانوا يأخذون ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حي، ومن بعده يستحقونه لهذا السبب لأنهم نصراء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولأنهم لا يأخذون الصدقة لأنها أوساخ الناس، ويأخذون سهمهم بالسوية بينهم غنيهم وفقيرهم على سواء، ولا يسقط سهمهم بوفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم لا يستحقون شيئا بالفقر، فبقى ذلك السهم لهم بالنصرة، والقرابة.
أما سهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه يسقط ويكون في يد ولي الأمر ينفقه حيث كان ينفقه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. والشافعي يبقي سهم ذوي القربى غنيهم وفقيرهم على سواء غير إنهم لاستحقاقهم بمقتضى القربى كان التوزيع على نحو قريب من الميراث، بأن يكون للذكر مثل حظ الأنثيين.
وإن الأسهم الثلاثة الأخيرة تكون لليتامى والمساكين وابن السبيل لكل سهم، ولا يعدو أصحاب سهم على آخر. وقال الإمام مالك رضي الله تعالى عنه : بعد سهم الله ورسوله وذوي القربى يكون الأمر في الأسهم الثلاثة الأخرى مفوضا لرأي الإمام إن شاء أعطى كل ذي سهم سهما، وإن شاء لم يعط واحدا، ولكنه لا يخليها منها.
وعلى الأسهم ستة يقدر لله سهم يكون للكعبة، وقد روي أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يأخذ الخمس، فيقبض منه قبضة، فيجعلها للكعبة، وهو سهم الله تعالى، ثم يقسم ما بقي على خمسة ( ١ )٢، وقد جاء في الكشاف لجار الله الزمخشري : وقيل إن سهم الله تعالى لبيت المال، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان على ستة أسهم، لله و
٢ ذكره الزمخشري في كشافه: ج٢، ١٥٨، والآلوسي: ج. ١، ص٢، وأبو السعود: ج٤، ص٢٢، عن أبي العالية رضي الله عنه..
﴿ إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ ﴾.
ذكرت في الآية السابقة الغنائم التي أخذت في بدر، وكيف توزع، واختص الله تعالى بالذكر الخمس على الضعفاء، والذي ذكر باسم الله ورسوله.
ولكي تقي النفوس شحها، أشار سبحانه إلى أن النصر كان من عند الله، وفي هذه الآية :﴿ إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا........... ﴾ يبين سبحانه وتعالى أن الموقعة كلها كانت بتدبير الله تعالى، ولم تكن بتدبيرهم، ولا بتدبير المؤمنين، ولو تواعد الفريقان لاختلفا في الميعاد.
وإذ في قوله تعالى :﴿ إذ أنتم ﴾ متعلقة بمحذوف معناه : اذكر يا محمد أنت ومن معك إذ أنتم بالعداوة الدنيا، وقد جئتم لمصادرة العير، لم تريدوا نفيرا، ولكن تريدون عيرا، وقد أفلتت منكم، وهي أسفل منكم، أي أسفل من المدينة عند سيف البحر، فجاءكم جيش هو بالعدوة الدنيا، وقد قال بعض المفسرين : إن ( إذ ) بدل من يوم الفرقان، وذلك جائز، ولكن نختار ما ذكرنا ؛ لبعد ما بين البدل والمبدل منه، ولأن تعلقها بمحذوف تكون ابتداء لكلام مستقبل فيه عبرة واضحة، وبيان لأن النصر من عند الله العزيز الحكيم استقلالا، ولأن ذكر يوم الفرقان لبيان التذكير به والإيمان بما فيه.
و ﴿ العدوة ﴾ أعلى الجانب، و ﴿ الدنيا ﴾ مؤنث أدنى، والبعد والقرب بالنسبة للمدينة، و ﴿ القصوى ﴾ مؤنث أقصى، وهو القاصي عن المدينة، ﴿ والركب أسفل منكم ﴾، الركب هو العير الذي كانت فيه متاجر قريش، وخرج المسلمون لأخذها بدلا من الأموال التي اغتصبها المشركون منهم وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم بغير حق، ومن المقرر في قانون العدل والإنصاف أن من ظفر بعين ماله أو بمثله ممن اعتدى عليه واغتصبه كان له ان يأخذه، فلا يذهب حق صاحب الحق هدرا، ولأن المشركين إذ أهدروا حقوق المسلمين وأموالهم واستباحوا دماءهم، فقد أباحوا دماء أنفسهم، وأموالهم وما على المؤمنين من سبيل إن استباحوها، فذلك قانون الحرب بسبب العداوة والبغضاء التي آثارها المشركون.
كان المؤمنون بالناحية القريبة من المدينة، وكانت العير أسفل عند سيف البحر، وقد كان ذلك لقاء بغير تدبر كامل مقصود، بل هو لقاء توفيقي من الله تعالى.
وقد جاء في سيرة محمد بن إسحاق ( بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين دنا من بدر علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام في نفر من أصحابه يتحسسون له الخبر، فأصابوا سقاة لقريش غلاما لبني سعيد بن العاص، وغلاما لبني الحجاج، فأتوا بهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوجدوه يصلي، فجعلوا يسألونهما : من أنتما، فيقولون : نحن سقاة لقريش، بعثونا نسقيكم من الماء، فكرهوا خبرهما، فضربوهما حتى أزلقوهما، قالا : نحن لأبي سفيان فتركوهما، وقال صلى الله عليه وآله وسلم :( إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما صدقا والله إنهما لقريش : أخبراني عن قريش، قالا : هم وراء الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كم القوم ؟ قالا : كثيرا، قال : ما عدتهم لهم ؟ قالا : لا ندري، قال : كم ينحرون كل يوم ؟ قالا : يوما تسعا ويوما عشرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : عدتهم ما بين التسعمائة إلى الألف.
هذا خبر يؤكد نزول جيش المشركين بالعدوة القصوى على كثيب من الأرض، والمؤمنون بالعدوة الدنيا، وهنا نجد سؤال الزبير وسعد وعلي كان على العير ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان – وهم – خارجا للعير، ولذلك كذبا الغلامين إذ لم يخبراهما عن العير الذي كان بحراسة أبي سفيان، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يسأل عن قريش.
والعير كما ذكرنا كان من أسفل المدينة عند سيف البحر، كما أشار القرآن الكريم.
وإن قصة خروج جيش المؤمنين، وجيش المشركين، والعير، هي كما أشار القرآن الكريم، خرج جيش الإيمان وكان قليلا لمصادرة عير لقريش وقد أفلتت منه، وهي ذاهبة إلى الشام، فترصدها المؤمنون، وهي عائدة، وأحس بذلك أبو سفيان قائدها، فمال بها نحو سيف البحر، وأخبر قريشا بنجاتها ولكنها كونت جيشا لحمايتها، وأصروا على الذهاب إلى بدر، حيث كان الترصد للعير، ليفرضوا هيبتهم في البلاد العربية، وإنهم لم يتخاذلوا، ولم يضعفوا، فكان اللقاء بتوفيق الله تعالى أو توقيفه، وإرادته، ليعز الله الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون.
﴿ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ ﴾.
أي أن ذلك اللقاء الذي انتهى بذلك اللقاء الذي كان فرقانا بين الحق والباطل لم يكن بميعاد على الحرب، ولا اتفاق ابتداء على معركة، ﴿ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ ﴾، أي لتخلف بعضكم، فيختلف الميعاد، فالمؤمنون ابتداء ما أرادوه : لقلة عددهم، ولقلة ما عندهم من عدة ولسطوة قريش في أرض العرب، فقد يودون غير ذات الشوكة تكون لهم، والمشركون ظهر التردد فيهم، فبنوا زهرة تركوا جيش الشرك، وبعض بني هاشم تركه، ومن جاء منهم إلى الحرب كالعباس ما كان مريدا، بل كان متورطا، وما في قلوبهم من هيبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما اعتراهم من العلم بأن الله معه، ولو لم يؤمنوا به، وخصوصا ما أفزعهم من خروجه من بين ظهرانيهم، وهم يترصدونه يوم الهجرة، فهم كانوا يتهيبون لقاءه، وإن كانوا يعادونه، ويقاومونه.
ولكن الله أوجد هذا اللقاء، وإن ابتدأ غير مقصود من الفريقين المتقاتلين ؛ ولذا قال تعالى :
﴿ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً ﴾، أي ليقضي الله تعالى أمرا وحققه، وهو إعزاز الإسلام، وإحقاق الحق وإبطال الباطل، و ( كان )، أي قرره الله تعالى وثبته على أن يكون واقعا ثابتا مفعولا، ويصح أن تفسر ( كان ) بمعنى صار أي صار مفعولا، ولقد قال كعب بن مالك : إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد.
أغراهم الله تعالى بالعير ليخرجوا، وأراد المشركون أن يحموا عيرهم فالتقوا وتحقق ما أراد الله. ثم قال تعالى :
﴿ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ﴾ ( اللام ) هنا لا م العاقبة، والمعنى لتكون نتيجة ذلك اللقاء أن يهلك الذين هلكوا عن بينة وحجة قائمة، وهو أن الله تعالى ناصر المؤمنين وغالب الكافرين، وأن الله تعالى مؤيد جنده، ويستشرف المستشرفون إلى نصر الله، ﴿ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ﴾ أي حجة ونور وهداية أن يكون الحق غالبا، وأن يظهر الله دينه، ولو كره المشركون.
ويصح أن يكون الهلاك والحياة مجازيين، ويراد من الهلاك الكفر، ومن الحياة الإيمان، ويكون المعنى وليكفر من يكفر عن بينة ظاهرة، وهي بيان أن الله ناصر المؤمنين ويحيا المؤمنون بالإيمان عن بينة برجاء النصر.
وللزمخشري في هذا كلام قيم ننقله، قال رضي الله تعالى عنه :( فإن قلت : ما فائدة هذا التوقيت وذكر مراكز الفريقين وإن العير كان أسفل منهم ؟ قلت : الفائدة فيه الإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدو وشوكته، وتكامل عدته تمهد أسباب الغلبة له وضعف شأن المسلمين، والثبات في أمرهم، وأن غلبتهم في مثل هذه ليست إلا صنعا من الله سبحانه، ودليلا على أن ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله وقوته وباهر قدرته، وذك أن العدوة القصوى التي كان المشركون فيها كان فيها الماء، وكانت أرضا لا بأس بها، ولا ماء بالعدوة الدنيا وهي خبار ( أي لينة مسترخية ) تسوخ فيها الأرجل ولا يمشي فيها إلا بتعب ومشقة، وكانت العير وراء ظهور العدو مع كثرة عددهم، فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم، ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم ليبعثهم الذود عن الحريم، والغيرة على الحرب على بذل جهيداهم في القتال وألا يتركوا وراءهم ما يحدثون أنفسهم بالانحياز إليه، فيجمع ذلك قلوبهم، ويضبط هممهم، ويوطن نفوسهم على ألا يبرحوا موطنهم، ولا يخلوا مراكزهم ويبذلوا منتهى نجدتهم، وقصارى شدتهم، وفيه تصوير ما دبر سبحانه من أمر وقعة بدر ليقضي اله أمرا كان مفعولا من إعزاز دينه، وإعلاء كلمته، وعد المسلمين إحدى الطائفتين مبهمة غير مبينة، حتى خرجوا ليأخذوا العير راغبين في الخروج، وشخص بقريش مرعوبين مما بلغهم من تعرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأموالهم حتى نفروا ليمنعوا عيرهم، وسبب الأسباب حتى أناخ هؤلاء بالعدوة الدنيا، وهؤلاء بالعدوة القصوى ووراء العير يحامون عليها حتى قامت الحرب على ساق وكان ما كان ) وهذا القول من عيون ما اشتمل عليه الكشاف من دقة معنى، وبلاغة لفظ، وتسام لإدراك سر القرآن، وسر الأحداث.
ولقد ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى :﴿ وإن الله لسميع عليم ﴾ أي أن ذلك كله تدبير من الله، وهو من مقتضى علمه الشامل الذي هو علم من يسمع من غير أذن، ومن يبصر من غير عين جارحة ؛ لأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وقد أكد سبحانه علمه بالجملة الاسمية، وب ( إن ) المؤكدة، وباللام في قوله :( لسميع )، وبصيغة فعيل، فسبحان من وسع كل شيء علما.
إِد يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( ٤٣ ) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ( ٤٤ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَلثثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ ( ٤٥ ) وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ( ٤٦ ) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ( ٤٧ )
إن اللقاء كما قررنا، وكما أرشدنا الله تعالى كان بجمع الله بين الفريقين، وتلاقيهما، والنصر أيضا والإقدام كان بإرادة الله تعالى وهدايته.
وإن أول النصر ألا يهاب المؤمن عدو الله وعدوه بل يقدم وهو مدرع بأمرين أولهما – إرادة النصر، والثاني – الصبر، وقد هيأ الله تعالى الأمرين، فقال تعالى :
﴿ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ ﴾.
أما الصبر فقد أمر به في آيات كثيرة، وقد أمر بالثبات، كما سيأتي في الآية الأخرى، وأما إرادة النصر فتكون بالإقدام، وذلك برؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام الأعداء، قليلين، ورؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحي، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم :( الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من الوحي ) ( ١ )١.
ومعنى رؤيتهم عددا قليلا، أنه صلى الله عليه وآله وسلم رآهم في حال يستهين بها، فلم يتكاثروا عليهم، ولم يتضافروا على المؤمنين، ورأى المؤمنين ظاهرين بارزين كأنهم كثيرون، وكان أولئك قليلون من قوة الغلب، ومظاهرتهم عليهم، أو أنه يستتر عنه في منامه أكثرهم، فيستبشر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنصر، ويفهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تأويل رؤياه أنه سينصر أهل الإيمان، فم يفهم أن العدد قليل، ولكن يفهم أن الرؤيا الصادقة النصر المبين لا محالة، وذلك لا ينافي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدر عددهم بما بين تسعمائة وألف، وقد كانوا كذلك.
وقوله تعالى :﴿ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً ﴾ إذ مفعول لفعل محذوف أي اذكر يا محمد لأصحابك ﴿ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً ﴾ و ( قليلا ) مفعول مطلق لموصوف محذوف أي عددا قليلا ؛ ويوم هنا الوصف مقام الموصوف.
وإن الله تعالى أرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم العدد قليلا، ليقدم المؤمنون واثقين، فالثقة بالنصر تزيدهم قوة، وتدفعهم إلى الإقدام، ولا يصيبهم رهق ولا خوف، فيتقدمون واثقين بالنجاة.
ويقول تعالى :﴿ وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ ﴾، أي لو أراكهم الله عددا كثيرا قويا لأصابكم الفزع ووراء الفزع العجز، وهذا معنى الفشل، فالفشل هو العجز، ﴿ ولتنازعتم ﴾ لاختلفتم في الخروج، ولكان فيكم من يخشى عاقبة الحرب مع قلة العدد، ومع قلة العدة، ، ومع قلة ما يحملكم، فلقد كنتم في قلة من الأمرين، ومع اختلاف التنازع في الفكرة ثم التنازع من بعد ذلك فيما بينكم وبين أنفسكم.
وقوله تعالى :﴿ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ ﴾ مؤداه الاختلاف في أمر القتال ؛ أتقدمون عليه مع إحساسكم بالقلة وضعف العدة أم تمتنعون عنه لهذا الإحساس. وعبر عنه بالتنازع لقوة أسباب الخلاف، فإنها في باب القتال أمر خطير.
وقد درأ الله تلك الأسباب عن أعينكم بما رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من رؤيا صادقة كان تأويلها نصركم، ولقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يطمئن المؤمنين بعد أن تقرر القتال، فبعد أن أخذ رأي الأنصار في القتال وقال قائلهم :( امض لما أمرك الله فإنا صدق في الحرب صبر عند اللقاء، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم :( إني لأرى مصارع القوم ) ( ١ )٢.
ويقول سبحانه :﴿ ولكن الله سلم ﴾، الاستدراك من الكلام السابق، وسلم الله تعالى من الفشل والجزع والتنازع، وكان اللقاء يوم الجمعين مع النصر المؤزر، الذي جعل المؤمنين أعزة، بعد أن كانوا مستضعفين يتخطفهم الناس، ثم ختم سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالت كلماته :﴿ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ ذات الصدور هي ما يكون في الصدور مما يدفعها إلى الإقدام، أو يثبط فيها العزائم، أو يلقي فيها بالخور والخوف، فالله تعالى عليم بها، وبما يدفع الهمم، ويقوي القلوب، ويمنع الفشل والنزاع، فيطب لأدوائها بما يقيها الهلع والفزع ويطمئن القلوب، ويبعد عنها مخاوفها، إنه عليم حكيم.
هذا ما أودعه قلب القائد الحكيم، وأودعه قلوب المؤمنين بتلك الرؤيا الصادقة التي أراه إياها.
٢ انظر البداية والنهاية: ج٤، ص، ٦، وسنن النسائي الكبرى، ج٥، ص ١٨٦، وفي مجمع الزوائد (٨٧٩٩) وراجع واية مسلم: الجهاد والسير – غزوة بدر (١٧٧٩)..
فقال سبحانه :
﴿ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً ﴾.
قد كان من أمر الله تعالى وتوفيقه أن يرى المؤمنين المشركين عددهم قليلا، وأن يقلل عدد المؤمنين في نظر الكافرين، كما قال تعالى :﴿ قد كان لكم آية في فئتين التقتا فتنة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ( ١٣ ) ﴾ آل عمران ).
وإن الحكمة في أنهم في نظر المؤمنين عدد قليل واضحة ؛ لأن الله تعالى ألقى في قلوب المؤمنين بأسا وقوة جعلتهم يستصغرون عددهم، ويستهينون بقوتهم لكي يقدموا من غير وجل مع الإيمان بالله والنصر، وقد رأوهم كذلك قلة، إذ صغر أمرهم في نظرهم، ولم يجدوا كثرتهم، والعين قد تخطئ في العدد بالكثرة أو القلة فقد كان المشركون عددا كبيرا، قد قدر النبي صلى الله عله وآله وسلم عددهم، ولكن المؤمنين عندما التقوا بهم لما ألقاه الله تعالى في روع المؤمنين من قوة بأس وإقدام رأوهم قليلا، لا للهمة التي بدت من المؤمنين كحمزة، وعلي، والزبير، وابن رواحة، وسعد بن معاذ فقد كانوا يفرون من سيوف هؤلاء حتى لم يروا في الميدان إلا عددا قليلا.
وأرى الله تعالى جيش المؤمنين قليلا في نظر المشركين عند اللقاء ليستهينوا بهم، ويغتروا بقوتهم فيسترخوا في القتال، حتى إذا غطتهم قوة المؤمنين، ورأوا فيهم شدة البأس أرادوا المقاومة بعد الاستهانة والاسترخاء فلم يجدوا، وأخذت صفوف المسلمين المتراصة تحصدهم حصدا، وقد كانت رؤية عدد المسلمين قلة من الكافرين حقيقة، وكنها سيطرت عليهم الاستهانة، فقتلت منهم.
وقوله تعالى :﴿ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ﴾ فيه متعلق بفعل محذوف تقديره اذكروا إذ................ وفي ذلك تذكير بفضل الله في هذه المعركة، إذ قواهم وسلطهم عليكم، وأذهب عنكم الفزع منهم، وثبت أقدامكم، وهنا إشارتان بيانيتان :
إحداهما – أنهم لم يكونوا قليلا، بل كانوا عددا كثيرا، ولكن الله تعالى جعل أبصاركم ترى ذلك الكثير قليلا، فالله تعالى هو الذي يخلق الأبصار، فهو يجعله قليلا، ويجعله كثيرا، ولا تغيير في الحقائق إنما التغيير في الإدراك لحكمة علمها الله وقدرها، وكان النصر بسببها وهو ينصر من يشاء بإذنه.
الثانية – قوله تعالى :﴿ ويقللكم في أعينهم ﴾ فقوله ( في أعينهم ) فيه إشارة إلى أن هذا التقليل في أعينهم هو من إرادة الله تعالى، لأنه استهانة منهم أدت إلى استرخاء في القتال، فالله سبحانه وتعالى ما جعل المؤمنين قلة، لأنهم فعلا كانوا قلة، ولكن عمل الله جعلهم يجعلون من أمر قتالهم أنهم قلة فقاتلوهم على أنهم عدد قليل فاستهانوا وتهاونوا، وكان النصر المؤزر.
وقال تعالى :﴿ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً ﴾ – أي ليحقق الله بقضائه المحتوم أمرا كان مفعولا أي صار واقعا ثابتا، وهو النصر بفضل الله، وتأييده، فقد حقق الله تعالى كل أسباب النصر فهيأ الأسباب المادية من النعاس الآمن، وأنزل المطر الذي لبد الأرض، وهيأ الأسباب النفسية من بشارة الملائكة، ومن تقليلهم في أعينهم.
وختم الله تعالى بقوله :﴿ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ﴾، أي إلى الله وحده ترجع الأمور يوم القيامة، فهذا هو نصر الله عليهم في الدنيا بتوفيقه سبحانه، وتهيئة كل الأسباب المؤدية إلى النصر، وفي الآخرة الأمور كلها إليه سبحانه، وتقديم الجار والمجرور دليل على أن الأمور لا ترجع إلا إليه سبحانه وهو يجازي المحسن إحسانا، وللمسيء االعاقبة السوءى.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ ﴾.
الفئة الجماعة من الناس، والتعبير بفئة يفيد بأنهم قد فاء بعضهم إلى بعض، وتجمعوا لغرض أن ينالوا منكم، وكأن هذه الآية وما بعدها. تعد المؤمنين للقاء أشد عن لقاء بدر ؛ لأن لقاء بدر كان لأجل حماية المال، واللقاء من بعد لأجل الثأر، ولأجل إلقاء السطوة والسلطان، وهو أعنف من المال، وإذا كان الله تعالى قد استقبل القتال في بدر بعدم الفرار فقال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ ( ١٥ ) وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ١٦ ) ﴾ ( الأنفال )، فإنه سبحانه يستقبل القتال الجديد، بطلب الثبات، والذكر لله، والطاعة لله ولرسوله، ومنع التنازع، وقال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا ﴾.
أمران جليلان عند اللقاء، وهما الثبات، وذكر الله. واللقاء لم يبين فيه من الذي ابتدأ باللقاء، وظاهر القول أن المشركين هم الذين جاءوا إلى ديارهم والتقوا بهم، ولقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف )، ثم قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال :( اللهم منزل الكتاب ومجرى السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم ) ( ١ )١.
أمر الله تعالى بالثبات بأن يلاقوهم ثابتين في أماكنهم، فإنهم إن لم يثبتوا من عدوهم منالا، وإن ثبتوا لا يقتل واحد من المؤمنين إلا إذا قتل عددا من المشركين، وحيث كان الفرار كانت الهزيمة لا محالة، وقد أمر بذكر الله كثيرا فإن النصر ليس بالسلاح ولا التخطيط فقط، بل مع ذلك بأمرين في القلوب :
أولهما – الثبات، فلا تضطرب الصفوف ولا يصيبها الخلل فترجف الأفئدة ولا تضيع الثقة بين الجند.
وثانيهما – ذكر الله تعالى، فإن الله يجعل القلوب تطمئن، وإن ذكر الله يملأها إيمانا ويقينا، ورجاء في النصر. وإن ذكر الله يذهب فزع القلوب، ويساعد على الثبات، وإن ذكر الله يذكر بوعده بالنصر فهو يزيده أملا بالنصر، وإن ذكر الله إذا جهر به في الميدان ازداد المؤمنون حماسة، وألقي بالرعب في قلوب المشركين، وإن ذكر الله يجعلهم لا يشغلهم عن الله شاغل، وتكون أجسامهم وقلوبهم لنصره، و ﴿ كثيرا ﴾ مفعول مطلق أي اذكروا الله ذكرا كثيرا بحيث لا تتوقفوا عن ذكره مهما تشتد الحرب، وتلتحم السيوف وتتلاقى بالحتوف وقال تعالى :﴿ لعلكم تفلحون ﴾ أي راجين بثباتكم وذكر ربكم أن تفوزوا بالنصر، فالرجاء من الناس لا من الله ؛ لأن الله تعالى يعلم الغيب في السماء والأرض، ويعلم ما كان وما يكون.
﴿ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾.
إن الله سبحانه وتعالى يأمر بطاعته ورسوله في هذه الحرب التي أمر الله تعالى فيها بالثبات وذكر الله كثيرا، والأمر بطاعة الرسول في الحرب أمر بطاعة القائد ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الحروب التي قامت في عهده كان هو القائد، وطاعة القائد واجبة لأنه المنظم، وإذا كان ذلك وواقعة أحد التي خولف فيها القائد فكانت القتلة في المسلمين، وإن لم يكن الانهزام كما تصور بعض الأقلام، فيكون ذلك من الله تنبيها لما يقع، وهو علام الغيوب، وإن طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الحروب هو بكونه قائدا فيكون أمرا بطاعة القائد، فإن طاعته إذا كان دربه مخلصا من أسباب الانتصار.
وطاعة الله هي لب الاستقامة، وطهارة القلوب، وهي التي تكون بها قوة الإيمان، وقوة الإيمان دعامة الانتصار، وهي قوة الجهاد، ودعامة الصبر، وتلك عناصر الجهاد الحق في سبيل الله تعالى.
وذكر تعالى بعد الأمر بطاعته – ورسوله – النهي عن التنازع، والنهي عن التنازع يكون أولا بالنهي عن الخلاف، فإن الحلاف يؤدي إلى النزاع، والنزاع يؤدي إلى التنابذ والتدابر، وأن يكون كل فريق جمعا منفصلا عن الآخر، ويكون بأسهم بينهم شديدا، وإن الأثر الواضح للتنازع هو الفشل، ولذا قال تعالى :﴿ فتفشلوا ﴾ الفاء للسببية تدل على أن ما بعدها سبب لما قبلها، أي أنه بسبب ذلك التنازع يكون الفشل، والفشل هو العجز، بحيث كان النزاع كان العجز عن عمل جماعي ؛ لأن العمل الجماعي يجب أن تتضافر فيه القوى، ويكون كل جزء من الجماعة متعاونا مع الجزء الآخر، فتتحدى القوى، وتتلاقى نحو هدف معين يجمعها.
وإنه وراء الفشل ذهاب القوة، ويطمع فيهم الطامعون ؛ ولذا قال تعالى :﴿ وتذهب ريحكم ﴾ أي قوتكم، ويفسر الزمخشري الريح بالدولة، ويقول رضي الله تعالى عنه :( والريح الدولة شبهت في نفوذ أمرها وتمشيه بالريح وهبوبها )، فيقال : هبت رياح بني فلان إذا دالت له الدولة ونفذ أمره، ومنه قوله :
يا صاحبي ألا لا حي بالوادي إلا عبيدا قعود بين أزراد ( ١ )١
أتنظران قليلا ريث عقلهم أم تعدوان فإن الريح للعادي
ولقد قال قتادة لم يكن نصرا إلا بريح يبعثها، وكان ذلك مناسبا فيكون الفشل فيه ذهاب للريح التي تكون القوة، ولقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( نصرت بالصبا وأهلكت عادا بالدبور ) ( ٢ )٢.
حذرهم الله تعالى من ثلاثة أمور أولها : مخالفة الله ورسوله بالعمل بغير أمر الله ونهيه، والثاني : من مخالفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم القائد، ومخالفة كل قائد رشيد، والأمر الثالث : من التنازع، فإن الاختلاف مضيعة الجيوش، ومهلكة الأمم.
وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى :﴿ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾، وفي هذا النص الكريم يدعو الله تعالى إلى الصبر ؛ لأنه قوة الجهاد، وقوة الطاعة، ويربي العزيمة، وبمنع الاختلاف، إذ إن الاختلاف ينشأ عن الجزع أو عن الطمع، والصبر علاج الجزع والطمع معا ؛ إذ الجزع ضعف في الإرادات وخور في العزيمة، والطمع يتنافى مع ضبط النفس لا يكون إلا مع الصابرين، والله تعالى مع الصابرين.
وقد رفع الله تعالى الصابرين إلى أعلى المراتب عند الله، فذكر أنه سبحانه في آية أخرى أنه يحب الصابرين، والحب أعلى من الرضوان ؛ لأنه يتضمن رضا الله وأكثر منه، وهو أن يكون محبوبا عند الله ؛ لأن الصبر تحمل المشقة في طاعة الله، وقد أكد الله محبته للصابرين بالجملة الاسمية وب ( إن ) المؤكدة، وبفعل المضارع الدال على تجدد المحبة كلما صبروا، وإن محبة الله – تعالى – غاية المؤمنين الصادقين.
٢ سبق تخريجه..
﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾.
إن الإيمان قوة الجهاد، وإخلاص النية لله تعالى هي خشيته، والمؤمنون كانوا يجاهدون طالبين مرضاة الله ومحبته، وكانوا يصبرون ويصابرون، وقد حثهم الله على طاعته ورسوله، وأن يمتنعوا عن النزاع، وقد جنبهم أن يكونوا كالمشركين الذين يحاربون مفاخرين، قد بطروا معيشتهم، ولا يهمهم إلا المراءاة بالقتال، والصد عن سبيل الله ؛ ولذا قال تعالى :﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ ﴾ البطر كفر النعمة والتقوية بها على معاصي الله، والاستعلاء بها على الناس، والرئاء مصدر راءى يرائي، يقصد به الظهور أمام الناس مفاخرا مباهيا، لا يقصد به رفع حق ولا خفض باطل، ولا إغاثة ملهوف، ولا نصرة مظلوم، بل يقصد الغلب لمجرد الغلب، وقد خرجوا من ديارهم لهذا الغرض وهو البطر ورئاء الناس ؛ ولذا قالوا : إن بطرا ورئاء الناس مفعولان لأجله، أي العلة الباعثة للخروج من ديارهم هي البطر والمفاخرة والاستعلاء على الناس، وإذا كان لهم غرض آخر يظهر من أعمالهم، فهو الصد عن سبيل الله تعالى باستعلائهم، وإرهاب الناس وبيان أن لهم القوة في بلاد العرب، فيرهبهم المؤمن ويخافهم من يريد الإيمان، وبذلك يصدون الناس ويدفعونهم عن سبيل الله تعالى، وهو الصراط المستقيم، وسبيل الحق.
ومعنى النهي عن مشابهتهم بهؤلاء في قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ﴾ أن يخرجوا من المدينة لأجل الحق ونصرته، لا للبطر والاستعلاء والمفاخرة.
ولقد كان المشركون قد خرجوا لذلك، أو انتهى الأمر في خروجهم في بدر إلى تمحض لذلك، لقد خرجوا ليحموا عيرهم، ولكن أبا سفيان انفلت بالعير عن طريق بدر، وعبر بها سيف البحر، وقد أرسل إليهم بنجاة العير، وكان حقا عليهم أن يعودوا أدراجهم إذ قد نجت عيرهم، وسلمت أموالهم، فذهب الباعث على خروجهم، وعاد بنوا زهرة منهم، وتلكأ الباقون من عقلائهم، وترددوا وأرادوا حقن الدماء، وقالوا : نقاتل أبناء عمومتنا من غير حاجة إلى قتال ؟ ! وغلب رأي السفهاء منهم، ووقف ( أبو الحكم ) الذي سمى في التاريخ الإسلامي ( أبا جهل ) وقال :( والله لا نرجع عن قتال محمد، حتى نرد بدرا فنشرب فيها الخمور، وتعزف علينا القيان، فإن بدرا موسم من مواسم العرب، وسوق من أسواقهم حتى تسمع العرب بمخرجنا، فتهاهبنا آخر الأبد )، وقد انساقت قريش وراء هذا الناعب، فكانت المعركة ولم يشربوا الخمر، بل ذاقوا كأس المنون، وكان الحمام بدل المدام، وناحت عليهم النواحي بدل غناء القيان.
ونرى أنهم ما اضطروا إلى الحرب، بل بطر النقمة، والاستعلاء بالقوة والصد عن سبيل الله، وأن يكون الشرك هو الغالب، مع أن الله تعالى هو القاهر.
وقد بين الله قدرته وأنه هو القاهر فوقهم، فقال تعالى في ختام الآية الكريمة، ﴿ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ وصدر الجملة السامية بلفظ الجلالة لبيان قدرة الله العالية وتربية المهابة في نفوسهم، وقدم ﴿ بما يعملون ﴾ لبيان اختصاصه سبحانه بالعلم بما يعمله وإحاطته، والجملة السامية تهديد لهم، لأن هذا العلم الجزاء الوفاق لعملهم.
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( ٤٨ ) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٤٩ ) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ( ٥٠ ) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ( ٥١ )
إن الشيطان ولي الكافرين يخرجهم من النور إلى الظلمات، ومن الحق إلى الباطل ؛ ولذا قال تعالى :
﴿ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ ﴾.
( الواو ) عاطفة هذا الكلام على ما قبله، والضمير في لهم يعود إلى الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس، وفي هذا النص بيان أنهم ما دفعوا إلى ما فعلوا يوم بدر حتى كان نصيبهم الردى والهزيمة النكراء – إلا لوسوسة الشيطان، فالذي حرضهم على ذلك الخروج هو ما زين في نفوسهم من أن لهم الغلب.
و ( إذا ) ظرف للماضي متعلق بمحذوف، أي : اذكر يا محمد إذ زين لهم الشيطان أعمالهم، وقال لهم لا غالب لكم اليوم من الناس، وقوله تعالى :﴿ زين ﴾ أي حسن لهم ذلك، بأن وسوس في نفوسهم حسنة وأوهمهم الشيطان بوسوسته في النفس أنهم أتوا القوة كلها، وأنه لا غالب لهم اليوم من الناس، وأن لهم بحيرا من أوهامهم فليس هناك شيطان ظهر لهم، وقال ما قال، إنما هي وسوسة الشيطان و هو يجري في الإنسان مجرى الدم، فهو زين لهم بوسوسته، كما زين بها عبادة الأصنام، وكما زين لهم تحريم ما أحل من بحيرة وسائبة ووصيلة وحام، زين لهم بوسوسته أنهم لا غالب لهم من الناس، وزين لهم بأوهامه التي بثها فيهم أنه مجير وجار لهم يجيرهم من أي ضيم ينزل بهم، كما تلاقى الخربان تبدد ذلك كله، ورأوا الأمر عيانا، وأنه لا مناجاة لهم، ورأوا أنه أوهمهم ما لم ير، وإن الحقائق بدت لهم واضحة.
الكلام تصويري يحكي قصة إغرائه، وتزيينه لهم أنهم الأقوياء وكأنه يحدثهم، فيدليهم بغرورهم، وبث فيهم القوة الزائفة، ويوهمهم أنه جار ولا جوار، وأنه لما اشتدت الشديدة قال : إني بريء منكم، وإني أرى ما لا ترون، وكل هذا تصور لما جاش في نفوسهم، وإنا نميل إلى هذا.
وقد جاء في السير وفي بعض اّلأخبار في مقابل ما ذكرنا أن إبليس تمثل في صورة رجل من العرب، روى محمد بن إسحاق عن عروة بن الزبير : لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر من الحرب، فكاد ذلك أن يثنيهم، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك جعشم، وكان من أشراف بني كنانة فقال : أنا جار لكم أن تأتيكم لنا بشيء تكرهونه فخرجوا سراعا، قال محمد ابن إسحاق : فذكروا لي أنهم كانوا يرونه في صورة سراقة بن مالك فلا ينكرونه، حتى إذا كان يوم بدر والتقى الجمعان كان الذي رآه حين نكص – الحارث بن هشام أو عمير بن وهب، فقال : أي سراقة ؟ ! ونظر عدو الله إلى جنود الله من الملائكة فقد أيد الله بهم رسوله فنكص على عقبيه، قال : إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون، وصدق الله، والله شديد العقاب.
وقد روي مثل هذا عن السدي والضحاك والحسن البصري ومحمد بن كعب، وقدر رأي ذلك النظر الحافظ ابن كثير بما ورد من آيات في شأن تغرير إبليس لأهل الضلال، فتلا قوله تعالى :﴿ كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين ( ١٦ ) ﴾ ( الحشر ). ﴿ وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم ( ٢٢ ) ﴾ ( إبراهيم ).
ذلكم الرأيان اللذان أخذ فيهما بظاهر الألفاظ، واعتمد على روايات في رواتها نظر، والذي أخذ فيه بمعنى الألفاظ وإنا نؤمن بصدق قصص القرآن، ولكنا في هذه الآية نميل إلى النظر إلى أنها خير تصوير لاستمكان الشيطان من قلوب الكفار، وتحكمه فيها، وسد ينابيع الإدراك في نفوسهم، ونميل إلى ذلك ؛ لأن خبر إبليس وتمثله بصورة سراقة لم يثبت بسند صحيح يفسر به القرآن، ولأننا نفسر القرآن بما يبعده عن الغرائب، وبما هو مأنوس للناس من غير تكذيب لأخباره، والله أعلم، وقوله تعالى :﴿ فلما تراءت الفئتان ﴾ أي الجماعتان المتقاتلتان ﴿ نكص على عقبيه ﴾، نكص معناها رجع على عقبيه، تصوير لارتداده متقهقرا سائرا على العقبين، وهو خائف مضطرب، ويتبرأ من لحق أغراهم، وقد رأى الشدة آخذة بهم، وذلك تصوير لما يكون في نفوسهم، وسيكون يوم القيامة محسوسا، وقوله تعالى :﴿ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ ﴾ أي إني أعلم ما لا تعلمون وقد أضلهم، وقد غرهم الغرور، ﴿ إني أخاف الله والله شديد العقاب ﴾ يعلن أنه يخاف الله والله شديد العقاب.
وبذلك يصور لهم كيف ضلوا بوسوسته، وكيف تعرضوا للعقاب بتزيين ومثله في هذا التصوير كمثل من يدلي بإنسان في هاوية حتى إذا تردى فيها أخذ بعيره في هذا التردي، وما فعله إلا بتزيين وتحسينه فهو المجرم الأصيل.
﴿ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ ﴾.
عندما انتصر المسلمون في غزوة بدر وصارت لهم قوة ترهب أعداء الله وجد من ينافق بأن يظهر الإيمان ويبطن الكفر، لقد كان سكان المدينة منهم الذين آمنوا بالله ورسوله وأيدوه، ومنهم اليهود، ومنهم الوثنينون فلما صارت للإسلام شوكة وعزة وقوة – ظهر النفاق، وأولئك كانوا مع المؤمنين في المظهر، ومع أعداء الله – تعالى – في حقيقة نفوسهم، وكانوا يبثون الخبال في المؤمنين، فقال تعالى في أولئك المنافقين :﴿ إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ أهما وصفان لطائفة واحدة، وهم الذين وصفوا بالنفاق، فلهم وصفان أحدهما النفاق، والثاني أن في قلوبهم مرضا، وقد وصفهم الله تعالى بذلك، فقال :﴿ في قلبوهم مرض فزادهم الله مرضا................. ( ١٠ ) ﴾ ( البقرة )، والعطف عطف أوصاف، لا عطف موصوفين لقولهم :
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
أو نقول : إن هناك موصوفين، وهم المنافقون الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، والطائفة الثانية هم الذين في إيمانهم ضعف، فهم آمونا على حرف ولما يدخل الإيمان في قلوبهم.
وقد بدا لي نظر لم أطلع عليه، ولكن له شواهد، وذلك أن الذين في قلوبهم مرض اليهود، ذلك أن في قلوبهم مرض الحسد، وهو أشد أدواء القلوب، وهو في اليهود دائما، فالمراد بالمنافقين الذين يقولون : إنهم مؤمنون ويبطنون الكفر، والذين في قلوبهم مرض اليهود.
والوقائع التاريخية تؤيد ذلك أن المنافقين كانوا يقولون غر هؤلاء دينهم، أي أوقعهم في غرور، فظنوا أنفسهم الأقوياء، وليسوا من القوة في شيء وقال اليهود من بني قينقاع :( لقد غر هؤلاء دينهم، وغرهم انتصارهم، لئن لاقونا فسيجدننا الناس ) وكان منهم اعتداء على المسلمين حتى أجلاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هذا ما سبق إلى خاطرنا، وهو ينطبق على المنافقين واليهود، والشواهد التاريخية تؤيده، والله أعلم.
ولقد قال تعالى :﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ التوكل هو التفويض إلى الله تعالى بعد أخذ الأسباب وتهيئة ما يكون سببا للنصر، ثم يتجه إلى الله تعالى معتمدا عليه مفوضا الأمور إليه، فإن الأسباب لا تعمل وحدها بل تعمل بإرادة الله، وهذا فرق ما بين التوكل والتواكل، إذ أن المتواكل لا يتخذ الأسباب.
وقوله تعالى :﴿ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ ليست جواب الشرط وهو قوله تعالى :﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ﴾ بل هي سبب جواب الشرط قام السبب مقام المسبب، والمعنى ومن يتوكل على الله حق توكله، فإن الله ناصره، وهو الغالب، لأن الله معه، وهو عزيز وحكيم ينصر من ينصره وهو على كل شيء قدير.
﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾.
تصور هذه الآية الكريمة هول عذاب الجحيم، وتبين أنه من وقت أن تتوفاهم الملائكة الذين أمرهم الله بذلك، والتوفي مصدر توفاه، معناه أوفاهم الله أجلهم في الدنيا، وانتهوا به، وإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.
و ( لو ) في قوله تعالى :﴿ ولو ترى.......... ﴾ حرف امتناع لامتناع، وهي هنا لتصوير حالهم والعذاب يستقبلهم إذ تتوفاهم الملائكة المأمورة بذلك آجالهم، وهنا فعل شرط حذف جوابه، لبيان هوله، وأن تذهب فيه النفس كل مذهب من حيث إنه لا يدرك كنهه، ولا تتصور حقيقته في الدنيا، والمعنى لو عاينت الذين كفروا، وأرواحهم تقبض ما يجيء بعد ذلك رأيت هولا عظيما، لا تدركه عقول أهل الدنيا ولا تحيط به أفهامهم، كقوله تعالى :﴿ ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب ( ١٦٥ ) ﴾ ( البقرة ).
ويقول الزمخشري : إن ( لو ) إذا دخلت على المضارع جعلت معناه ماضيا، فمعنى لو ترى : لو عاينت ورأيت الذين ظلموا إلى آخره، وكان التعبير بالمضارع لتصوير الماضي حاضرا مرئيا مهيئا ليتصور ما يكون ويراه كأنه حاضر، والتعبير بالذين كفروا لبيان أن السبب في هذه الشدة التي يكونون عليها هو كفرهم، وهو مقابل لطغيانهم وتمردهم وعنادهم للحق في الدنيا، فإنه بسبب ذلك الطغيان، يكون الإذلال والخسران والهوان.
وقد صور حالهم فقال :﴿ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ﴾ وهذا تصوير لحال ذلهم الذي يقابل اغترارهم واستكبارهم عن الحق، فتضرب الوجوه التي تكون بها المواجهة، وضرب الوجوه لا يكون لمن يعاملون بالصغار والهوان، وهذا عقاب معنوي شديد، وأدبارهم، أي يركلون بالأرجل في أدبارهم كما تضرب بالأيدي وجوههم، فهم في مهانة تحيط بهم، أو أن المهانة والمذلة تحوط بهم من الأمام والخلف، وذلك تصوير لذلهم بعد الغطرسة، والاستهانة بهم بعد الغرور.
وذلك بلا ريب عقاب معنوي، بالتحقير في مقابل تكريم المؤمنين الذين كانوا يقولون :﴿ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي ( ٢٧ ) ﴾ ( هود ).
وقد بين بعد ذلك العذاب المعنوي فقال :﴿ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾ وهي معطوفة على قوله تعالى :﴿ يضربون وجوههم ﴾ وذلك بتقدير فعل محذوف تقديره، ويقولون لهم ذوقوا عذاب........ ، أو تقول : إن هذا فعل أمر في معنى الخبر، ويكون ويذوقون عذاب الحريق، وعبر سبحانه وتعالى عن إصابة العذاب لهم بقوله :﴿ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾ للإشارة إلى أن العذاب لا يكون إلا بالإحساس به، فهم في إحساس دائم به، يذوقونه ويحسون به، وكلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب.
والحريق هو النار المحترقة التي لا يطيقها إحساس محس إلا أن يكون عذابا.
وإن التعبير بقوله :﴿ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾ لا يخلوا من تهكم بهم ؛ لأنهم فسقوا وذاقوا من الهوى ما ذاقوا، فكأنه يقال لهم : كما ذقتم المتع والشهوات، فذوقوا الحريق، وكأنه يبشرهم.
وقد قال بعض المفسرين : إن ذك ضرب الوجوه، وضم الأدبار إليهم تذكير لهم بشهوتهم التي كانوا منغمسين فيها وأنهم يضربون فيها، كما وقعوا في المفاسد بها والله تعالى أعلم.
﴿ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾.
الإشارة إلى ما سينزله الله بالذين كفروا، من العذاب الشديد والعذاب الأليم، والباء للسببية والمعنى العذاب الشديد بسبب ما قدموا من إيذاء للمؤمنين، ومعانة لرب العالمين، وجحود بالآيات وتكذيب لكتاب الله ورسوله، وعبر سبحانه وتعالى عن ذنوبهم التي تضافرت وتكاثرت بقوله :﴿ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ مع أن الذنوب تكون بالألسنة وقول الباطل كما تكون بالأيدي ؛ لأن الأيدي بها البطش الظاهر، وبها أوذي المؤمنون، وبها نكل بالضعفاء، وحملها للأسلحة في الحروب، وإن التعبير عن الكل باسم الجزء مجاز مرسل مشهور، إذا كان للجزء مكانة خاصة في الحكم، كقولهم عن الجاسوس : العين ؛ لأن العين لها مظهر خاص في التجسس.
والمراد بما قدموا من أعمال وما قالوا به من أقوال، وإن هذا الجزاء عدل لا ظلم فيه، ولذا قال تعالى :﴿ وما ربك بظلام لعبيد ( ٤٦ ) ﴾ ( فصلت )، وقال سبحانه في هذه الآية ﴿ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ والواو هنا للعطف، أي أن ذلك العذاب كان بسبب ما قدموه، وبسبب أن الله تعالى ليس بظلام للعبيد، أي أنهم ينالون جزاء ما اقترفوا والعادل يعطي كل إنسان ما يستحق، ﴿ وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء................ ( ٥٨ ) ﴾ ( غافر )، فذلك يتحقق عدل الله الكامل، وينتفي عنه الظلم سبحانه إنه علي قدير.
ولو كان الله تعالى سوى بين المجرمين والمحسنين، لكان ثمة شائبة ظلم، والله منزه عن ذلك، ومعاذ الله أن ينسب إليه، وقوله تعالى :﴿ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾، فيه تقرير العذاب، وتثبيته، وفيه تبريره.
وقوله تعالى :﴿ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ نفى للظلم الكثير المتكرر، فهل معنى ذلك بمفهوم المخالفة أن الظلم القليل، ليس بمنفى عنه سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ؟.
والجواب عن ذلك أن النص الكريم ينفي أصل الظلم عن رب العالمين، وإنما النفي بصيغة المبالغة للإشارة إلى أن المساواة بين المحسن والمسيء ظلم كبير ولا يفعله إلا ظلام للعبيد، وقيل : إن الظلم بصيغة المبالغة لكثرة المستحقين للعقاب، فلو لم يعاقبهم لكان ظلاما، والله تعالى ليس بظلام.
ومن هذا النص الكريم يفهم أن العدل يوجب أمرين أولهما ألا يعاقب المحسن، فإن عقابه ظلم، وثانيهما أن يعاقب المسيء ولا تأخذ الناس به رأفة، لأنه لم يرحم الناس، ويقول صلى الله عليه وآله وسلم ( من لا يرحم لا يرحم ) ( ١ )١.
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( ٥٢ ) ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٥٣ ) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ ( ٥٤ )
بين الله تعالى في الآيات السابقة أن الله تعالى يعاقب المشركين عقابين ؛ عقابا في الدنيا وهو أن ينتصف للمؤمنين، وأن ينصرهم، وأن يجعل الكافرين الأذلين، وكلمة الله هي العليا، وكلمة الكفر هي السفلى، ويبدل المؤمنين من خوفهم أمنا.
العقاب الثاني هو عقاب الآخرة، وإن عقاب الدنيا قد يكون بأسباب يوفق إليها، وقد يكون من الله تعالى يكون بمعجزة أو بأمر خارق للعادة كإغراق فرعون، والنصرة بالريح، وكلاهما من أمر الله تعالى، ومن توفيقه، وقد ذكر الله طواغيت مكة بطاغوت فرعون، وقد أذال الله تعالى منه، فقال تعالى :﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾.
الكاف للتشبيه والمشبه ما فعله المشركين، وما ارتكبوه بالنسبة للمؤمنين، والمعنى أن الله تعالى لتشابه أفعال مع أعمال فرعون وآله أنزل بهم ما أنزله بفرعون، لقد طغوا وبغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، فأخذهم بذنوبهم أي أنزل بهم عاقبة ما فعلوا، فأصابهم بالرجس وأرسل عليهم الضفادع والدم آيات مفصلات.
وقوله ﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾ الدأب مصدر دأب دءوبا، أي فعلوا مثل ما فعل آل فرعون دائبين مستمرين عليه من تذبيح أبنائهم، واستحياء نسائهم، وإيذاء موسى وقومه، ومن قطع أيدي السحرة وأرجلهم من خلاف، إذ آمنوا بربهم، ومن طغيانه وملئه في البلاد، وادعائه الألوهية وطغيانه على أهل مصر، وقوله لهم ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد.
تشابهت أفعال المشركين مع أفعال فرعون وملئه الذين دأبوا عليها، واستمروا قائمين بها، فكان حقا عليهم أن ينتظروا لهم مثل ما آل إليه أمر فرعون، وقد بين سبحانه وتعالى أنه أخذهم بذنوبهم فقال :﴿ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ ﴾ الباء للسببية وأخذهم معناها أخذهم أخذ معذب مكافئ بما فعلوا، فالأخذ يتضمن عقابهم على ما فعلوا، وهو القوي القادر، كما قال في آية أخرى :﴿ فأخذهم أخذ عزيز مقتدر ( ٤٢ ) ﴾ ( القمر )، وقوله تعالى بذنوبهم، أي أخذهم بالعقاب بسبب ذنوبهم التي ارتكبوها في حق الناس من تأله، ومن تعذيب، وإفساد للعقول بالضلال والنفوس بالإرهاق والأذى، ويصح أن تكون الباء للإلصاق، ويكون المعنى أخذهم مصاحبين لذنوبهم ويذكرون جرائمهم، إذ ينزل بهم العذاب.
وقد ذيل الله تعالى النص الكريم بقوله تعالى :﴿ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾.
وهذا في مقام التعليل لقدرته تعالى على الأخذ الشديد لفرعون وأشباه فرعون، وإن بغوا وطغوا، وقد وصف الله جل جلاله بوصفين يدلان على شدة الأخذ والعذاب ؛ الأول وصف ذاتي معنوي، وهو القوة فهو ذو القوة المتين، والوصف الثاني، هو أن عقابه شديد متناسب مع الذنوب، ومثل فرعون وملته ذنوبهم كبيرة شديدة قوية، فلا بد أن العقاب من جنسها، وهو جزاء وفاق لها.
وأكد الله تعالى هذين الوصفين بعدة مؤكدات فأكده بتصويره الجملة بوصف الجلالة، وهو يلقي بالرهبة والهيبة ويكون الجملة الاسمية، ( وبإن ) التي تؤكد القول......... وقنا الله تعالى شر عذابه ومنحنا رحمته، إنه هو الغفور الرحيم.
وإما ينزل بالطغاة من أخذ لهم إنما هو من نفوسهم التي غيروها، وشوهوا فطرتها بمظالمهم، لذا قال تعالى :﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما له من دونه من وال ( ١١ ) ﴾ ( الرعد )، وقال الله تعالى في معنى هذه الآية :
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾.
الإشارة إلى ما فعله اله سبحانه وتعالى بالمشركين من أهل مكة، إذ عجل لهم عذاب بتنكيل المسلمين بهم، وغيرهم من سطوة في أرض العرب وجاه وسلطان إلى أن يغلبوا على أمرهم، ويذلوا بعد عزة، وإلى ما فعله سبحانه بآل فرعون ومن قبلهم قوم نوح وعاد وثمود، وآل مدين، فإن هؤلاء غيروا نفوسهم، وطمسوا فطرتهم، فغير الله تعالى نعمته، فانتزع منهم ما كانوا في زرع فاكهين فيه.
والمعنى كان هذا الذي أنزله بالكافرين بآيات الله تعالى قد وضع نظما حكيمة في هذا الوجود الإنساني، ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾، أي أن نظام الله تعالى في الإنسان أنه أنعم عليه نعما لها واجب وكما أنها له حق وعليها واجب، وأن الفطرة الإنسانية تدرك حق كل نعمة، وتفسد هذه الفطرة بالاتجاه إلى الشر، وذلك تغيير وطمس لنور الفطرة، والمعنى أن الله تعالى لا يغير نعمة أنعمها على قوم، إلا إذا غيروا ما بأنفسهم، و ( ما ) هنا موصولة بمعنى الذي، والذي بأنفسهم هو نور الفطرة، وإخلاص الفطرة، وما أخذه الله تعالى على ظهور بني آدم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا : بلى، فهذا العهد المودع في الفطرة وهو التوحيد هو الذي يغيرونه بأنفسهم، فكفار قريش كانت لهم القوة لأنهم كانوا يدينون بديانة إبراهيم، ولكنهم غيروا ما بأنفسهم فشوهوا الفطرة، وأشركوا بالله أحجارا لا تضر ولا تنفع، وزاد تغييرهم لما في أنفسهم بأن جاءهم رسول من ربهم يدعوهم إلى التوحيد فعاندوا، وكفروا بآيات الله تعالى، فأزالهم من سطوتهم، إلى حيث يغلبون على أمرهم.
وكذلك آل فرعون وكذلك من قبلهم آتاهم نعمة المال والسلطان فغيروا ما بأنفسهم من موجبات الفطرة، وكفروا بالله فغير الله النعمة، وأزال أموالهم وأغرقهم في اليم، وكانوا عبرة المعتبرين، وهذه سنة الله في الأكوان وفي الناس.
وقوله تعالى :﴿ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ جملة معطوفة على قوله تعالى :﴿ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً............. ﴾ ولذلك كانت ( أن ) هي المفتوحة وليست المكسورة، والمعنى ذلك التغيير بسبب ( أن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم، وأن الله سميع عليم ) أي بسبب ما سنه الله وبسبب أن الله تعالى سميع يسمع همسات القلوب، وخواطر النفوس وما يختلج في الأفئدة، فهو يعلم النفوس إذا تغيرت، عليم بكل ما يجري في الوجود وما تتحرك به الجوارح، وما يعلمون من أمور مغيبة على الناس فإنها لا تغيب عن الله.
وإن هذا النص يدل على أمرين جليلين :
أولهما – أن النفوس الإنساني هي التي تتعلق بها الأحكام، ويجري الله تعالى أمره على ما في هذه النفوس من خير أو شر.
ثانيهما – أن النصر والتأييد من الله تعالى بالقوة إنما هو استقامة بالنفوس، فإن استقام ما فيها استقام الأمر وكان النصر والتأييد،
﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ ﴾.
التشبيه منعقد بين المشركين وآل فرعون الذين من قبلهم، كما هو في الآية السابقة، بيد أنه في التشبيه صرح سبحانه بما لم يصرح به في الآية السابقة، ففي هذا التشبيه صرح سبحانه بأن أخذهم كان بالإهلاك الذي لا بقاء معه، وفي هذا التشبيه صرح بإغراق آل فرعون، ولم يصرح بذلك في التشبيه السابق، وفي هذا التشبيه أنه كان مع الكفر والتكذيب لآيات الله كان الظلم للناس فلم يكتفوا بكفرهم، وتكذيبهم لآيات الله وظلموا أحكامهم، ولم يتخذوا العدل صراطا مستقيما لظلموا مخاليفهم، وظلموا رسلهم مع رعيتهم، والقول الجملى أن التشبيه الأول كان تقريبا بين الظالمين من مناهج ومسالك، والثاني فيه معنى تعيين وجه الشبه.
قال تعالى في أوصاف المشركين وآل فرعون ومن قبلهم ﴿ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ ﴾ أي أنهم جاءتهم المعجزات الباهرة القاطعة، فجاء فرعون تسع آيات منفصلات فكذبها أي كذب ما تلد عليه من وحدانية الله تعالى في الخلق والتكوين والذات الألوهية والمشركون، كذبوا ما تدل عليه المعجزة الكبرى وهي القرآن فوق ما تدل عليه الخوارق الأخرى من وجوب الإيمان بالرسالة.
وهذا التكذيب سبب الكفر، فإذا كان قد ذكر في التشبيه الأول – بأن السبب في العذاب هو الكفر، فقد صرح في هذا بأن سبب الكفر هو إصرارهم على التكذيب كأنه لا رقيب عليهم ولا حسيب.
وعبر سبحانه في التكذيب بأنهم كذبوا بآيات ربهم، ونسبة الآيات المكذبة إلى ربهم تفيد فائدتين :
إحداهما – بيان فظاعة التكذيب ؛ لأنهم كذبوا بآيات ربهم الذي خلقهم وكونهم وربهم وهو العليم بما يناسبهم من أدلة.
والثانية – أن هذه الآيات من المتفضل عليهم بنعمة الوجود والتنمية، وإعطائهم القوة التي طغوا بها.
ويقول سبحانه :﴿ فأهلكناهم بذنوبهم ﴾ ( الفاء ) عاطفة لرد ما بعدها على ما قبلها، أي أنه بسبب تكذيبهم أهلكهم الله تعالى بسبب هذه عقابا من الله تعالى، ولأن الذنوب المتظافرة يترتب عليها الهلاك لا محالة.
وفي الكلام التفات من الغيب إلى الحاضر، والإسناد إلى الله تعالى، بإسناد الإهلاك إليه سبحانه وتعالى ؛ لبيان تأكد الوقوع لأنه من الله تعالى القاهر فوق عباده العزيز الحكيم، وبتربية المهابة في النفس، وللتذكير بالرهبة.
وقد خص آل فرعون بذكر هلاكهم فقال :﴿ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ ﴾ اختص آل فرعون بذكر هلاكهم ؛ لأن فرعون كان أشهر ملوك عصره، وأشدهم طغيانا عن رعيته، وأرهبهم، وأظلمهم، فذكره للعرب وقد أهلكه الله تعالى بالغرق أرهب لنفوسهم وأشد على غرورهم وأردع لطغيانهم، وفوق ذلك أغرقه الله تعالى بأمر خارق للعادة لم يكن في حسبانهم، إذ انفلق البحر فكان كل فلق كالطود العظيم ثم انطبق عليهم بما لم يعهدوا، ولم يحسبوا، فهو يذكر المشركين بأن الله تعالى يأتيهم من حيث لم يحتسبوا، وأنه سيهزمهم من حيث لا يشعرون، بل يحسبون في أنفسهم أنهم الغالبون، ويوسوس لهم الشيطان بأنه لا غالب لهم، وقد وصف الله تعالى العصاة جميعا، بأنهم ظالمون، فقال تعالى :﴿ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ ﴾ أي كل الذين كفروا برسل الله، وآيات ربهم كانوا ظالمين.
ف ( كل ) مضاف إلى محذوف يعم حكم الله تعالى عليه بأنه ظالم، وأكد ذلك الحكم ب ( كان ) الدالة على استمرار الظلم وبالجملة الاسمية، وقد ظلموا أنبيائهم بتكذيبهم مع أن الحق واضح أبلج، وظلموا أنفسهم لأنهم ارتضوا الضلالة بدل الهداية، وظلموا المؤمنين لأنهم آذاوهم، وسخروا منهم، وظلموهم لأنهم حاربوهم، وهم فاجرون في حربهم، وظلموهم لأنهم أشاعوا عنهم السوء، وهكذا أحاط الظلم بهم، والظلم ظلمات يوم القيامة والله منتقم جبار.
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( ٥٥ ) الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ ( ٥٦ ) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ( ٥٧ ) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ ( ٥٨ )
في هذه الآيات البينات يبين ما عليه الذين كفروا من إصرارهم على الكفر، ونقضهم للعهد، وما ينبغي لهم من معاملة، وأنه إذا وجدهم في الحرب للمسلمين فيه غلب أن يضربهم ضربة قاسمة ليشرد الذين من ورائهم من قومهم أو يصيبهم الرعب، فلا يجتمعون عليه رهبا وخوفا، وإنه يجب توقع الخيانة منهم ومن كان يخاف خيانته، ينبذ عهده، ويتقي أذاه، وقد ابتدأ سبحانه بوصف الكفر، كيف يتدلى الكافر من مرتبة الإنسانية إلى مرتبة الدواب الحقيرة التي هي أدنى الحيوان إلى أن قال تعالى :
﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾.
( الدواب ) جمع دابة، وهي كل ما يدب على وجه الأرض من حشرات إلى قردة وخنازير، إلى كلاب وحمير وخيل إلى الإنسان، والتعبير عن الذين كفروا بالدواب حط من إنسانيتهم ؛ لأنهم أغفلوا مداركهم وصاروا كأقل الحيوان ذكرا، ومكانا.
وليسوا فقط أحط الحياء، بل هم أحط من أحطها فهم شر الدواب، وهم في الدرك الأسفل من الحيوانية، وأحط ما في هذا الدرك.
يقول تعالى مؤكدا القول :﴿ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ فحكم الله تعالى بأنهم أشد الحيوانات شرا، من الحشرات التي تدب إلى الإنسان الذي خلقه الله تعالى فسواه في أحسن تقويم، وشرهم الشديد ؛ لأنهم أتوا عقولا فشوهوا إدراكها، وأوتوا فطرة سليمة، فرضوا أن يعبدوا حجارة هي أحط من أحط الحشرات وجودا ؛ لأن الحشرة فيها حياة وأوثانهم لا حياة فيها، وهم شر الأحياء لأن كل شيء حي فيه نفع، وإن كنا لا نحصيه، وهم شر لأنهم ظالمون ولا نفع فيهم، وهم شر لأنهم يعاندون الخير ويعاندون الحق ويؤيدون الشر، وإذا كان مقياس الخير والشر هو النفع في الخير، والفساد في الشر – فالذين كفروا بمقتضى هذا القياس سلب منهم كل خير، واتسموا بكل شر، فكانوا شر الأحياء.
ثم قال تعالى :﴿ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ ( الفاء ) تفيد السببية والمعنى هم سبب كفرهم لا يؤمنون والنفي نفي متجدد للإيمان، أي أنه قد تلبس بهم الكفر فلا يؤمنون قط، وعبر بالمضارع لتجدد كفرهم آنا بعد آن، وتلك حالهم، ونفى الله عنهم الإيمان بإطلاق، فلم ينف الإيمان بالله والرسول فقط، بل نفى الإيمان بإطلاق فهم لا يؤمنون بحق إلا في ظل أهوائهم وشهواتهم، ولا يؤمنون بفضيلة، ولا يؤمنون بحق الإنسان على أخيه بل يؤمنون بالجبت والطاغوت، لا يؤمنون إلا بالشيطان، فعقولهم كلها للشر، ونفوسهم سكنا الشيطان يعاضدون الظلم، ويؤيدون الباطل، فكانوا بهذا شر الدواب عند الله، أي في حكم الله تعالى خالق الحياة والأحياء.
﴿ الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُون ﴾.
﴿ الذين ﴾ في هذه الآية بدلا من ﴿ الذي كفروا ﴾ في الآية السابقة، فهذا وصف من أوصافهم، وحال من أحوالهم، وأوضح ما كان ذلك في اليهود الذين جاءوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة فهم الذين عاهدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونقضوا عهده ؛ ولذلك يقول تعالى :﴿ الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ﴾ وإذا كانت واضحة في اليهود، ولم يكن للمشركين إلا عهد الحديبية، وقد نقضوه، فيصح أن يكونوا عاهدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونقضوه، ولكن لم يتكرر نقضهم ؛ ولذا نقول : إن البدل في الذين عاهدتهم ليس بدل كل من كل، بل بدل بعض من كل.
واليهود عاهدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتكرر النقض فقد عاهدهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أول إقامته عهد تعاون على البر والتقوى، ونقضه بنو قينقاع عقب وقعة بدر الكبرى، ثم أبرمه مرة ثانية بنو النضير حتى اضطر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى إجلائهم، حتى يقيم في المدينة ( والجنة تجاوره )، ثم كانت الممالأة للمشركين، ومكانتهم للمشركين، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الشديدة في غزوة الأحزاب، وقد تألبت عليه الجزيرة العربية كلها وتحزبت عليه، وقد جاءوا ليقتلعوا الإسلام من المدينة فرد الله الذين كفروا بغيظهم ولم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال.
ثم قال تعالى :﴿ وهم لا يتقون ﴾ أي هؤلاء الذين ينقضون العهد، في كل مرة يعاهدون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ( لا يتقون ) وقد أطلق عدم الاتقاء فلم يذكر أنهم يتقون الله، أو يتقون أذى الناس، أو يتقون نقض فهو سبحانه أطلق عدم الاتقاء، أي من صفاتهم التقوى وتقدير الأمور، وتقدير معنى الوفاء بالعهد، فإنه لا يصح نقض العهد لأي سبب ؛ لأنه يفقد الثقة، وفقد الثقة يؤدي إلى ضعفهم، ولقد قال تعالى :﴿ وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ( ٩١ ) ﴾ ( النحل ).
ولا شيء يضعف الجماعات أكثر من النكث في العهود ؛ لأن الناس لا يثقون، ويكونون جميعا إلبا لبعض، وتعد فاسدة الأخلاق، ولا تكون لها قوة أبد.
وقد رأينا ذلك في الدول في الماضي، ونراه الآن ؛ ولذا يقول تعالى :
﴿ وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ( ٤٣ ) ﴾ ( الإسراء ).
﴿ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُون ﴾.
( الفاء ) عاطفة، وهي فاء السببية، أي أن ما قبلها سبب لما بعدها، أي أن هؤلاء الكفار لا يفعلون خيرا، وليس منهم إلا الأذى المنكر، ولا يمنع شرهم بعهد يقدمونه، فإنه يجب قمعهم بالشر إذا وجدوا في حرب حتى لا يجتمعوا على شر ؛ لأن اجتماعهم إيذاء فلا بد من إرهابهم.
﴿ فإما تثقفنهم ﴾ ( إن ) مدغمة في ( ما )، و ( ما ) زائدة لتوكيد القول، ولذا جاء في الفعل نون التوكيد وجوبا. أو قريبا من الوجوب، للتأكيد للفعل أي إن تأكدت من وجودهم فلا تجعلهم يفلتون من يدك، واضربهم الضرب القاسم التي تفزع من خلفهم فيشردون، بدل أن يكونوا مجتمعين للشر، فضرب من يقع في اليد من الأشرار، وضربات قاسمة يجعل من خلقهم ممن هم على شاكلتهم مشردين، غير مجتمعين، ومعنى ﴿ تثقفنهم ﴾ تجدهم في ثقاف، أي حال ضعف تقدر فيها عليهم، وذلك من قوله ثقفتهم أي وجدته.
وقوله تعالى :﴿ في الحرب ﴾، أي انساقوا إليك محاربين، وقدرت عليهم فاغلظ عليهم واضربهم الضربات القاسمة التي تجعلهم نكالا لغيرهم، فلا يستمرئون الشر بعد ذلك، وقال تعالى :﴿ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ ﴾، أي شرد بضربهم والتنكيل بهم من خلفهم، فإذا رأوا الهوان ينزل بمن هم على شاكلتهم جزاء غيهم، فإنهم لا يجتمعون لحرب أهل الحق بعد ذلك ؛ إذ إن ضرب الذين جاءوا للحرب وأخذهم بالسوق والأقدام يجعلهم لا يجتمعون على قتال لأهل الحق، فلا يهاجمون المؤمنين من بعد ذلك ؛ ولذا قال تعالى :﴿ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ أي رجاء أن يعتبروا بغيرهم، ويذكروا مآلهم الذي يستقبلهم بما يرون في من تقدموهم، إن في ذلك لذكرى لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
( إما ) هنا كما في قوله تعالى ﴿ فإما تثقفنهم ﴾ هي ( إما ) الشرطية مؤكدة بلفظ ( ما ) ؛ ولذا أكدت بالنون الثقيلة، ولذا يكون تأكيدا للشرط، فهو تأكيد للخوف، والمعنى إن خفتم خوفا مؤكدا، توفرت أسبابه حتى يكون توقع الخيانة أمرا ثابتا قامت أماراته وبدرت بوادره، ﴿ فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء ﴾أ أطرح عددهم وأنبذه نبذا ظاهرا معلوما تكون وهم على سواء، لا يربطكم، ولتأكد الخوف قال بعض المفسرين : إن معنى الخوف هنا العلم.
وقد فسرنا كما ترى معنى الآية على سواء، أي لتكونوا معهم على سواء أي متساويين تحللون من العهد ويكون الاستعداد من الجانبين، وقيل : إن معنى ﴿ على سواء ﴾ أي يكون النبذ معلوما مشهورا.
وإن النبذ يقتضي أن يكون ثمة عهد قد خانوه، أو هموا بأن يخونوه، وتؤكد لديكم هذا، وتلك هي الأمانة التي أودعها الله تعالى وأوامره للمؤمنين، بأن يكون أشرافا في الوفاء بعهودهم، فإذا توقعوا الخيانة متأكدين لها، فإنهم لا يسبقون بالخيانة، بل ينبذون ويعلمونهم بأن لا عهد.
وإن الخيانة لها سورتان :
السورة الأولى – سورة الذين يتوقعون الخيانة ومتأكدين من وقوعها قبل أن تقع، وفي هذه الحال يعلنون ترك العهد واعتبار كأن لم يكن ليسدوا.
السورة الثانية – أن يغدر المتعاهدون بالفعل، كما غدر المشركون في صلح الحديبية، فقد كان العهد يجيز لمن يدخل في جانب محمد أن يدخل فلا يعتدي عليه، فدخلت خزاعة في عهده، فاعتدت عليها قريش، وقد رأينا ذلك في الدول في الماضي، ونراه الآن، ولذا يقول تعالى :
{ وأوفوا بالعهد مسئولا، ( ٣٤ ) ( الإسراء )، فكان الاعتداء بل الخيانة بالفعل.
وقد زال العهد بذلك، فكان متحللا ؛ ولذا غزا الغزوة الكبرى بفتح مكة من غير نبذ، إذ هم قد نبذوه من قبل لا بالقول بل بالفعل.
وقد كان الصحابة قبل أن ينقضوا هذا العهد بالفعل، يحذرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم من نقضهم ويخافونه، فكان النبي الوفي الأمين :( وفوا لهم واستعينوا الله عليه ).
وإن ذكر الخوف من الخيانة يقتضى أن هناك عهدا عاهده صلى الله عليه وآله وسلم أو من جاء بعده ويخاف من نقضه فإنه لا خيانة إلا في عهد المبرمين.
ونقول : إن الخيانة قد تكون بحرب يعدونها، وينقضون بها السلم الذي كان بحكم العلاقات الأدبية أو السلمية ويريدون أن يخونوا المسلمين ويأخذوهم، فإنه إذا تأكد المسلمون نبذوا هذا السلم الذي كان أصل هذه العلاقة وكانوا معهم على سواء.
ولا يقال : إن النبذ بني على الخوف من الخيانة، والخوف ظن، ولا يبنى أمر قطعي على أمر ظني – لأننا قلنا : إنه خوف مؤكد بدت بوادر الخيانة وظهرت أماراتها، والقائد المدرك لا ينتظر حتى تقع الخيانة، بل يسارع بنبذ العهد، ويستعد لهم، ويحلهم من العهد، كما أحل نفسه، حتى لا يؤتى من غرة.
فعن عمر بن عبسة أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم يقول :{ من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة، ولا يحلها حتى يمضى أمداها أو ينبذ إليهم على سواء ) ( ١ )١.
وقد قال تعالى :﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ ﴾، هذا النص السامي فيه تعليل للنبذ على سواء، أي أن النبذ على سواء إعلام بإنهاء العقد، ليكون معلوما مشهورا، ولا يقع المؤمنين في خيانة ؛ لأن الله تعالى لا يحب الخائنين فالنص يمنع عن الخيانة، بالنبذ على سواء، و إلا هجموا سواء على دمائهم قبل النبذ فقد خانوا، والله تعالى لا يحب الخيانة، وقد أكد نفي محبة الله تعالى للخيانة بالجملة الاسمية، وب ( إن ) ونفى المحبة أبلغ في النهي، لأن محبة الله مطلوبة، فإذا كانت الخيانة لا تؤدي إليها فهي منهي عنها نهيا شديدا مؤكدا.
هاتان آيتان في بيان قوة الإيمان وأهله، وأنه لا يعجزه شيء ما دام مؤمنا بالله ومستعينا به سبحانه، ومادام يستعد ويأخذ في أسباب القوة، ولقد كان المشركون يتوهمون الغلب لمجرد أن يسبقوا في أمر أو يفوزوا فيه أو يفلتوا من مصادر عيرهم، فبين الله تعالى أنهم إن نجوا مرة لا يعجزوا الله تعالى ورسوله والمؤمنين، ولذا قال تعالى :﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ ﴾.
( الواو ) للاستئناف، و ( لا ) ناهية، والنهي عن الحسبان والظن هو نهي عما ينبغي ؛ لأن الحسبان لا يقع عليه النهي إنما المراد – فيما يظهر والله أعلم – لا ينبغي لهم أن يحسبوا أنهم سبقوا أي فازوا، إذا سبقوا إلى عيرهم وأخذوها وأفلتوا بها فإنهم لا يعجزون، ولم يذكر في الآية ما سبقوا فيه أو ما فازوا به، بل أطلق نفي ظنهم أنهم سبقوا أي نوع من السبق، أو فازوا بأي نوع من الفوز، فالمعنى أنهم لا يظنون أنهم يسبقون بأي سبق، فحياتهم فارغة أبدا، لأنهم ليست لهم غاية، لأن أي سبق لهم فهو لغو، وأن نهايتهم واحدة إن استمروا على كفرهم، وإن الله تعالى غالب، والنصر للمؤمنين وقوله تعالى :﴿ إنهم لا يعجزون ﴾ قرنت بكسر ( إن )، وتكون الجملة مستأنفة في معنى تعليل نهيهم عن حسبان أنهم سبقوا على المعنى الذي ذكرناه، لأنه ما دامت النهاية للمؤمنين وأنهم لا يعجزون، فالهزيمة لاحقة بهم مهما سبقوا، ومهما يفوزوا في حركات ليست هي النهاية، والله من ورائهم محيط حتى يوم القيامة.
وهناك قراءة بفتح ( أن )١، أي أنهم لا يعجزون، وتكون هنا لام التعليل محذوفة، ومفهومة من مطوي الاسم : ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا أنهم لا يعجزون، وكثيرا ما تحذف لام التعليل ؛ لأنها مفهومة من سرد القول، والمعنى الجملي للنص السامي أنهم مهما يسبقوا ويفوزوا فإن الغلب عليهم، ولا تحسبنهم معجزين من المؤمنين، كما في قوله تعالى :﴿ لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض............. ( ٥٧ ) ﴾ ( النور )، ( النور )، وقوله تعالى :﴿ لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ( ١٩٦ ) متاع قليل ثم مأواهم جهنم................. ( ١٩٧ ) ﴾ ( آل عمران ).
إنهم لن يعجزوا الله، ومهما ينالوا من سبق فلن يعجزوا الله عن أخذهم من نواصيهم بالهزيمة في الدنيا، والعذاب في الآخرة.
﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ ﴾.
﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ ﴾، هذا أمر تكليفي وهو فرض كفاية على الأمة الإسلامية يجب على الأمة كلها أن تتعاون في إعداد هذه القوة، بالدربة، والتعليم والرمي، وكل ما يربي الجند القوى.
فلا بد من التربية على الجندية، وإعداد عدة القتال، وذلك بالمستطاع بل بأقصى ما يستطاع، ومن هنا بيانية في قوله :﴿ من قوة ﴾ وهي تدل على عموم القوى، فأعدوا كل ما يمكن أن يكون قوة في الحرب من دربة على الرمي بالسهام، ولقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول :( ألا إن القوة الرمي ) ( ١ )١، كما روى عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كان الراوي نفسه وهو عقبة بن عامر راميا حتى لقد مات وعنده سبعون قوس رمي، ومن القوة الحصون، ومن القوة المنجنيق، وهكذا ك ما يكون سببا للقوة، ومنها من الماضي النار الإغريقية، ولم تكن معروفة عند العرب، وإن وجدت في الحروب الإسلامية.
فكل قوة مستطاعة يجب على الأمة أن تتضافر على إيجادها، وإلا أثمت كلها، ولم ينج من الإثم فقيرها وغنيها ولا قويها أو ضعيفها، فالقادر بقدرته، والضعيف بلسانه.
وقوله تعالى :﴿ ومن رباط الخيل ﴾ معطوفة على ﴿ من قوة ﴾، ورباط الخيل جماعة الخيل خمسة فأكثر، وقال رباط جمع ربيط، وقيل رباطا مصدر - رابط،
وأطلق على الخيل ؛ لأن المرابطة تكون بها، ومهما يكن فالمراد من رباط : الخيل المجتمعة، وخصت الخيل بالذكر ؛ لأنها كانت قوة الحرب، في العرب، وربط الخيل بنواصيها، فكانت رمز القوة، ولقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : الخيل ثلاثة لرجل أجر ولرجل ستر، ولرجل وزر، فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله، ورجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله في رقابها، ولا في ظهورها فهو ليس له ستر، ورجل ربطها فخرا ورياء فهي له وزر ) ( ١ )٢.
وقوله تعالى :﴿ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ ترهبون أي تخيفون، وتفزعون وتربون في نفوس أعدائهم المهابة، وتلقون في قلوبهم الرهبة وسمي الكفار عدو الله ؛ لأنهم كفروا به وكذبوا آياته، وسماهم ( عدوكم ) لأنهم يريدون بكم الأذى، ويناصبونكم العداوة لإيمانكم وكفرهم.
وقال تعالى :﴿ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ﴾ وقوله :﴿ مِن دُونِهِمْ ﴾ أي من غيرهم، أي من غير الذين يجاهرون الآن بعداوتكم من المشركين واليهود وغيرهم ممن يلاقونكم من الرومان الذين يعاصرونكم، ويشير بهذا إلى الذين يجيئون بعد ذلك الذين لا يعلمهم المسلمون في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن والاه والله تعالى يعلمهم ؛ لأنه علام الغيوب، وإن الله تعالى يشير بذلك إلى الأخلاف الذين يجيئون بعد ذلك، فإنه بمجرد أن انتشر الإسلام في الأرض ودخل الناس في الدين أفواجا، صار المسلمون في مذأبة من الأرض، فأوروبا أرادت أن تنقض على الإسلام من الشرق والغرب............. والتتار أخذوا ينقصون على المسلمين الأرض من أطرافها.
وكان لا بد من قوة تقهر وترهب هؤلاء، وتلقي مهابة المسلمين في قلوبهم، ولكن مع ذلك لم يستجيبوا لنداء الله، ولم يعدوا ما استطاعوا من قوة، وإن ذلك الاستعداد كان يوجب أولا – أن يكون لهم مصانع تصنع لهم الأسلحة لا أن يستعينوا بأسلحة من غيرهم، إن شاء أعطى وإن شاء منع، وفي عطائه ومنعه يعمل لمصلحة نفسه، ولا يريد بالإسلام خيرا.
ويوجب ثانيا : أن ينافسوا الناس في اختراع الأسلحة ليدفعوا أذاهم، و إلا كانوا – وهم هم المرهوبون – يرهبون ولا يرهبون، يخافون ولا يخيفون، وتتبدد قواهم ضياعا.
ويوجب ثالثا : تعاونهم جميعا في ذلك، حتى لا يؤكلوا في الأرض.
وقد كان عكس ذلك، فتقطعت وحدتهم، وضرب الناس بهم في افتراقهم فتوزعتهم الأرض، وأكلتهم ذئابها، وصيروا الخير لغيرهم دونهم، وصاروا لأعداء الله وأعدائهم ما يصنعون به السلاح ليستعمل لإرهابهم، وإرهاب كل من يعاونهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هذا وإن إعداد عدة الحرب، والحرب ذاتها تحتاج إلى المال، ولذا قال تعالى :
﴿ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴾.
إن الحرب تحتاج إلى نفقات، وإعداد العدة يحتاج إلى نفقات، وفي أيامنا تحتاج العدة إلى الإنفاق من الدولة والجماعات، ولقد كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يخرج من ماله كله للجهاد في سبيل الله، كأبي بكر، ومنهم من كان يخرج من نصف ماله كعمر، ومنهم من كان يجهز جيشا بأسره كذي النورين عثمان بن عفان، وأنى لنا بأمثال هؤلاء من أمراء المسلمين وملوكهم، وعندهم المال الوفير من أكناز الأرض.
ومن لا ينفق ألقى بنفسه وبقومه في التهلكة، ولقد قال تعالى في الإنفاق في الحرب :﴿ وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة................. ( ١٩٥ ) ﴾ ( البقرة ).
﴿ وما تنفقوا ﴾ و ( ما ) هنا شرطية، أي أن تنفقوا ف سبيل الله تعالى، سبيل الله تعالى هو الجهاد ﴿ يوف إليكم ﴾ أي بالبركة في رزقكم وبتسيير الرزق لكم وتسهيل سبل الحياة، والنماء في أموالكم، وبعد ذلك الجزاء في الآخرة، وهي خير وأبقى، وأوفى وأتم بهذا التفسير الدنيوي والنماء في هذه الحياة، والجزاء في الآخرة لا يظلمون لا تنقصون شيئا مما قدمتم.
٢ سبق تخريجه..
وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ٦١ ) وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ( ٦٢ ) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٦٣ ) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( ٦٤ )
إن الإسلام ما جاء للحرب، بل جاء للسلام، وهو يقول :﴿ ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا......... ( ٩٤ ) ﴾ ( النساء )، فهو دين السلام، وما كانت الحرب إلا لتأييد السلام، وليكون على العدل، وقال تعالى :﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ( ٢٥١ ) ﴾ ( البقرة ).
وما حارب النبي صلى اله عليه وآله وسلم المشركين إلا بعد أن فتنوا الناس عن دينهم، وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم، وشردوا المؤمنين، فكان لا بد من القتال ليقعدوهم، ويمنعوهم من هذا الظلم، فإذا جنحوا للسلم، وامتنعوا عن الفتنة، فقد وال سبب القتال، وعاد الأمر إلى أصل السلام الذي هو أساس العلاقة الإنسانية بين المسلمين وغيرهم ؛ ولذا ﴿ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ﴾.
﴿ جنحوا ﴾ أي مالوا، والضمير يعود إلى المشركين الذين وقعت الحرب بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذين كانوا يريدون الغارة على النبي ومن معه من المؤمنين الوقت بعد الآخر، والذين يخاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم خيانتهم من وقت لآخر، وإنهم إن كانوا كذلك ينبذ إليهم على سواء، والسلم تكون بفتح السين كما في هذه الآية، وتكون بكسرها، كما في قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ( ٢٠٨ ) ﴾ ( البقرة ).
والسلم هو السلام، وهي مؤنثة كنقيضها، وهي الحرب، ولذا عاد الضمير عليها مؤنثا في قوله تعالى :﴿ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ﴾ ومؤدى هذا النص السامي أنهم إذا مالوا إلى السلم، ولم يقولوه بظاهر من القول، بل قالوه مطمئنين إلى أنه أصلح لهم، فإنه لا مضارة منه عليهم، ولا على المسلمين.
ومؤدى ذلك أن الإسلام يكون في قوة وعزة وغلبة أو أقرب إلى الغلب، فإنه يجب على المؤمنين، ولو كانوا هم الأقوياء الغالبين أن يميلوا إلى الصلح كما مالوا، فالإسلام لا يريد الغلب لذات الغلب، فليست فروسية، إنما يريد دفع الأسرى وتسهيل الدعوة، وإزالة كل العقبات المانعة للدعوة، فإن كان ذلك بسلم فهو أولى بالأخذ والاتباع.
وقد لوحظ في الدعوة المحمدية أنها تقوي في السلم العزيمة، ولا تضعف، فقد حصل في فترة الحديبية أنه دخل الناس في الإسلام بعدد يعد أضعاف ما دخل فيه المسلمون من وقت البعثة المحمدية إلى وقت عهد الحديبية.
وإنه واضح من النص الكريم أن الذين جنحوا إلى السلم هم المشركون، وأن المسلمين كان فيهم الغلب والقوة، وقد نهى الإسلام بنص القرآن عن أن يعرض المسلمون الصلح على المشركين، وهم في صلفهم لا يبدون ميلا للسلام، ولذا قال تعالى :﴿ فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم........... ( ٣٥ ) ﴾ ( محمد ).
وإن التقدم بطلب الصلح في هذه الحال خنوع في وقت القوة، والصلح في هذه الحال يمكنهم من معاودة الحرب، والاستعداد لها.
فالصلح، أو السلام لا يكون إلا حيث تكون شوكة العدو قد خضدت، وفلت حدتها، فهو صلح حيث تؤمن الحرب من بعد ؛ ولذا قال تعالى :﴿ وتوكل على الله ﴾ أي اجعل اعتمادك على الله تعالى وتوقع الأمن الدائم، وأن يتجهوا إلى الحق في هدأة السلم وأن يؤمنوا، ولقد رأوا قوة الإيمان، وخذلان الشرك.
﴿ وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ﴾.
إن الإسلام يتشوق للسلم إن كانت الحرب، كما يتشوق الجراح المخلص لإنهاء جراحة بالشفار اضطرته حال الجسم لإقامتها. فمثل الحرب في نظر الإسلام كمثل الجراحة التي يقطع بها جسم فاسد، يخشى أن يسري فساده ؛ ولذلك إذا جنح العدو للسلم كان على المؤمن أن يبادر إلى المجاوبة على السلم بسلم غير متردد، ولا متوان ؛ لذلك قال تعالى :﴿ وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ ﴾ فهذا النص فيه أمر بمنع التردد، لشك يقوم في نية الصلح أو السلم، إذ السلم خير كله، ولا يمنع الخير، لظن الخديعة، ولذا قال تعالى :﴿ وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ ﴾ جعل سبحانه فعل الشرط إرادة الخديعة لا الخديعة نفسها، وعبر في حرف الشرط ب ( إن ) الدالة على الشك، لبيان أنه يجب إبعاد إرادة الخديعة والخديعة نفسها لقدم على السلم بقلب سليم، وإرادة معتزمة مع اليقظة والحذر، كما قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم ( ٧١ ) ﴾ فالإقدام على السلم يكون من غير دخل، ولا تردد في العزيمة مع الحذر.
وجواب الشرط هو قوله تعالى :﴿ فإن حسبك الله ﴾ أي أن الله تعالى كافيك وعاصمك من الناس بقوته وقدرته القاهرة الظاهرة، وقد أكد الله تعالى عصمته لنبيه وأنه عاصمه من الناس ب ( إن )، وبتعريف الطرفين، وهو يفيد قصر العصمة على الله تعالى وحده، أي أنه وحده هو العاصم لك من الناس، ومن يحاول أن يخدعك، فإنما يخدع الله، والله بكل شيء عليم.
وقد أيد الله تعالى عصمته بحاضر نصرته، والماضي نور للحاضر، فقال :
﴿ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ﴾.
إن الله تعالى وحده هو الذي أيدك بالنصر المؤزر كما كان في بدر، فأيدك بالملائكة، وأيدك بالإطمئنان في المعركة، وأيدك بما كان من إلقاء الرعب في قلوبهم، وإذ يريكموهم في أعينكم قليلا، وأيدكم بالكلمة، وقد أثنى الله تعالى على المؤمنين فقال تعالى :﴿ وبالمؤمنين ﴾ فالمؤمنون اجتمعوا ولم يختلفوا، واعتزموا ولم يترددوا، وانتظموا في صفوف كالبنيان، وأمدهم بالصبر ولم يهنوا ولم يحزنوا.
﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾.
( التأليف ) إيجاد ألفة بين الجماعات، بحيث تألف كل واحد من الجماعة صاحبه، كالألفة التي أنشأتها المؤاخذة بين المؤمنين، وهو غير الاتحاد ؛ لأن الاتحاد الاجتماع على أمر بالرأي والنظر، وقد لا يتألف واحد صاحبه، وذلك قد يكون يجتمع على فكرة أو حزب، ولا يشترط فيه تلاقي قلوب الاجتماع، وائتلاف النفوس، وإن ذلك لا يستطيعه إلا الله، لقد ألف الله تعالى بين المؤمنين والمهاجرين حتى كان الأنصار يؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة، وألف بين الأنصار بعضهم مع بعض، حتى زال ما بين الأوس والخزرج ما كان بينهما من حروب، وامتزجت نفوس القبائل المهاجرة، حتى زالت من بينهم العصبية الجاهلية.
وإن تأليف القلوب لا يمكن أن يجيء إلى من عمل مقلب القلوب، ومؤلف الأرواح، وقد الله استحالة ذلك إلا من الله فقال :﴿ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ﴾ كما أن خلق شيء من العدم لا يكون إلا من خالق الوجود، وكما أن الزرع لا يخرج من كمئه إلا من الله، وكما أن الله يدرأ الإنسان كهذه كلها يكون التأليف بعد النفور، والمودة بعد العداوة كذلك خلق الله تعالى هذا التأليف في النفوس ؛ لتكون الجماعة القوية المتألفة المتآزرة التي يكون فيها البنيان يشد بعضه بعضا، وإن ذلك مستحيل من العبيد، وقد بين الله استحالة ذلك، فقال تعالى :﴿ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ﴾ أي لو ملكت كل ما في الأرض جميعا، وأنفقته طالبا بهذا الإنفاق أن تؤلف القلوب، ما استطعت لأنك لا تستطيع أنت ومن أن تخلقوا ذبابا، والتأليف لا يملكه إلا الخالق، فهو ليس في مقدور أحد من العباد، ثم قال :﴿ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ﴾ الاستدراك، ارتقاء في القول من قدرة الإنسان العاجز، إلى ما يملكه الخالق القادر.
وإن هذا التأليف كما قلنا هو الذي أوجد الجماعة الإسلامية الأولى التي كانت الخلية التي بذرت فيها بذرة الإسلام، فنمت وترعرعت، وكانت قوة الإسلام وقد قال الزمخشري في معنى ذلك التأليف :( التأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الآيات الباهرة ؛ لأن العرب لما فيهم من الحمية والعصبية، والانطواء على الضغينة في أدنى شيء وإبقائه بين أعينهم إلى أن ينتقموا لا يكاد يتألف منهم قلبان، ثم ائتلفت قلوبهم على إتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واتحدوا، وأنشأوا يرمون عن قوس واحد، وذلك لما نظم الله من ألفتهم، وجمع من كلمتهم، وأحدث بينهم من التحاب والتواد وأماطه عنهم من التباغض والتماقت، وكلفهم من الحب في الله والبغض في الله، ولا يقدر على ذلك إلا من يملك القلوب فهو يقلبها كما ياء، ويصنع فيها ما أراد، وإنه إذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم خوارق عادات غير معجزة القرآن فهذا أشد خوارق العادات وضوحا وبيانا.
وإن الآية تدل على تأليف قلوب العرب الذين كانوا أول من خوطب بالرسالة، يستوي في ذلك المهاجري والأنصاري والأوسي والخزرجي، بهذا نما الإسلام قويا عزيزا غالبا بقوة الله وقدرته ).
وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله :﴿ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ فهو عزيز يخلق العزة وأسبابها، عالم يجمع القلوب بحكمته وتدبيره، وهو الذي أحاط بكل شيء علما.
وفيه إشارة إلى أمرين :
أولهما – أن ائتلاف القلوب والتحاب والتواد، والبعد عن التباغض والتنابز هما عماد العزة، والتدبير الحكيم.
وثانيهما – إنه لا غلب ولا سلطان إلا بالتآلف، وإن يصير المجتمع كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.
اللهم أعد للمسلمين ائتلافهم، واجمعهم على محبتك ومحبة رسولك، وأزل ما بينهم من بغضاء وعداوة وأبدل بهما محبة وولاء، إنه لا يقدر على ذلك إلا أنت، كما ألفت القلوب ابتداء، فأعدها بعزتك وحكمتك إنك سميع مجيب الدعاء.
النداء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان النداء ب ( يا ) التي تكون للبعيد، لبعد الشرف في موضوع النداء وهو الاعتماد على الله والالتقاء بحمايته، وبكلاءته سبحانه.
والكلام السابق في هذه الآية وما قبلها للتحريض على الجنوح للسلام إن جنحوا معتمدا على الله، آمنا من أن يخدعوه ؛ لأن الله تعالى منه وكالته، والمؤمنون معه يؤيدونه وينصرونه، وإنه بنعمته سبحانه ألف بين قلوبهم، وما كان يمكن لأحد أن يؤلف قلوبهم، وتلك إحدى خوارق العادات، وهنا تصرح الآية الكريمة بأن الله وحده عاصم نبيه ومن معه.
﴿ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ معنى حسبك عاصمك وكافيك وحاميك، ولقد قال شاعر :
إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا فحسبك والضحاك سيف مهند
أي إذا كانت الهيجاء تكاد تحبك مع الضحاك سيف مهند.
و ( الواو ) في قوله ﴿ ومن اتبعك ﴾ هي واو المعية، والمعنى عاصمك وكافيك مع المؤمنين ذلك، أن النبي خاف من الحروب على من معه من المؤمنين أن يخانوا أو يخدعوا، فبين الله أن حاميه وعاصمه هو من معه من المؤمنين، فلن يأخذهم من مأمنهم، لأن الله معهم.
ويصح أن تكون الواو عاطفة ( من اتبعك من المؤمنين ) على ( الكاف ) في ( حسبك )، ويجوز العطف على الضمير المجرور من غير إبرازه بضمير منفصل، ويكون المعنى حسبك أنت ومن معك من المؤمنين.
والمعنيان واضحان من حيث المؤدى، ولكن الأخذ بأن الواو للمعية أولى ؛ لأنها تدل على الصحبة، والتصريح به هنا يقوي الكلام ويؤيده.
وقوله :﴿ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ يشير إلى حكمة العصمة والكفاية، وهو كونهم الذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته، ونصرته، وإنهم بذلك قوة الرسالة، فهم قوة الدين الحق، وكان الله تعالى عاصمهم كما وعد نبيه بأنه عاصمه من الناس كما قال تعالى :﴿ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس.............. ( ٦٧ ) ﴾ ( المائدة ).
وإن الله تعالى إذ يأمرنا بالسلام، إن جنحوا، ويزيل كل شك في أن يأخذوا المؤمنين على غرة يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يجعل المؤمنين على حذر ويستعدوا للحرب إن جالوا جولة ثانية، وذلك بأن يحرضهم على الاستعداد للقتال، وأن يقووا وحدتهم، وجماعتهم وأن يعلموا أنهم لن يغلبوا من قلة.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ ( ٦٥ ) الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ( ٦٦ )
هذا بيان تحذير الله تعالى لنبيه إذ جنحوا للسلم، فلا تغمد السيوف في أجفانها، ولا يسترخون، ويسكنون فإن المشركين إن جنوا للسلم مدة، وجنح المسلمون استجابة للسلام يكونون على حذر دائم، فعساهم يأخذون المسلمين على غرة فيجب أن يكون المسلمون على استعداد دائم يستجيبون لكل هيعة ( ١ )١، ويكونون مستعدين للنفير دائما، كما قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا ( ٧١ ) ﴾ النساء ). ولذا أمر الله نبيه بأن يبث فيهم روح القتال دفاعا عن الحق، كما يبث فيهم الإيمان، فإنه لا بد لهم من شوكة ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ﴾ أي حثهم وبث فيهم روح الحمية، وإعداد العدة والاستعداد للحرب وإن يأخذوا الأهبة للقتال، ويدربوا أولادهم، فإن الكفار لا أمان لهم، ولو جنحوا للسلم ؛ لأن الاستعداد وقاية من أن ينقضوا على المؤمنين انقضاضا.
ولقد كان من الحض على القتال أن يبين لهم أنهم بإيمانهم أشد بأسا، وأكثر عزما، فإن كانوا في العدد كثير، فهم بالإيمان أكثر وأغلب، وأقوى وأثبت، وبالصبر والعزيمة أعظم وأشد.
وقوله تعالى :﴿ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ ﴾ إلى آخر ما ذكر من أعداد ؛ أهو إخبار من الحكيم الخبير، ويتضمن الحض على الإيمان والصبر، أم هو أمر بالثبات مع هذا العدد، وعلى أنه أمر يكون ما في النص تكليف بألا يفر مائة من ألف، ولا عشرون من مائة، فإذا التقى عشرون في سرية بمائة لا يفرون منهم، ويعودون أدراجهم لمكاثرتهم بالعدد، بل عليهم أن يقاتلوهم صابرين في قتالهم، وإذا التقى مائة بألف، لا يفرون منهم لكثرتهم، بل يقاتلون مريدين النصر والعزة، وعندما تكاثر المجوس على المسلمين، وخاف عمر رضي الله عنه على المسلمين لم يأمرهم بأن يعودوا، بل اعتزم أن يخرج إليهم، ويتقدم صفوفهم، ويذهب للقتال، واستشار الصحابة في ذلك فمنهم من وافقه، ولكن عليا اعترض ومنع، وهو أخبرهم بالجهاد في سبيل الله، فقال رضي الله عنه : كن قطبا، واستدر رحى الحرب بالعرب، فإنك إن خرجت فما تدع وراءك من العورات أشد، وأما كثرة العدد، فإنا ما كنا ننتصر بالعدد، بل بالنصر والمعاونة ).
هذا على قول من قال : إذ ذكر الأعداء للأمر بألا يكون الفرار من أقل من هذا العدد.
وابتدأ بذكر العشرين ؛ لأن السرية عادة لا تكون في أقل من العشرين.
وقال بعض المفسرين، والنص يحتملها : إن ذلك للإخبار عن قوة النفوس بالصبر والإيمان، وأن الواحد بها بعد كعشرة ممن لم يؤتوا الإيمان والصبر وعزة الحق، ونفوسهم بوار من هذه القوى كلها، وهذا النحو من القول فيه تثبيت للقلوب، فإن جنحت فعندها من مدخر من هذه القوى، ما تقابل بها الخيانة إن كانت، وإن حاربوا ولم يسالموا ولم يجنحوا إلى سلم – كانت القوى واقفة تدفع الباطل بالحق فإذا هو زاهق وللكافرين الويل مما يصفون، وإنه إذا كان القول للإخبار، فإن الأمر يجيء نتيجة للخير، إذ إن مقتضى إخبار الله المحيط بكل شيء علما بذلك الخبر الذي لا يتطرق إليه الشك – أن يكون الوجوب عليهم بمقدار ما منحهم الله تعالى من هذه القوة التي منحهم الله إياها، فالوجوب على مقدار الاستطاعة، والاستطاعة كانت عظيمة ؛ فالواجب عظيم. ينتهي الأمر بأن المؤمنين عليهم أن يعدوا العدة من قوة المادة والدربة وأن يعدوا أقوى عدة، وهي الصبر والعزيمة والاعتزاز بعزة الله تعالى وعزة الحق.
وهنا أمور تجب ملاحظتها هنا في هذه الآية التي تثبت القلوب :
أولها – أنها تثبت أن المؤمنين إن كانوا أقوياء بالوحدة المؤلفة الجامعة للقلوب والمشاعر، يكون العشرون غالبين لمأتين، فإذا كان الرجل بالرجل، فلقوة النفس والإئتلاف تسعة رجال وحدها، فيكون الواحد بعشرة، وبذلك يتبين فضل الصبر والوحدة المؤتلفة التي لا تفرق فيها.
ثانيها – أن الله تعالى وصف العشرين بالصبر، وترك ذكره في المائة، وهو ملاحظ فيها، ولم يذكر اعتمادا على ذكره في الأول، وذلك شأن الكلام البليغ فكيف يكون الشأن في أبلغ كلام في الوجود.
ثالثها – قوله تعالى في آخر الآية :﴿ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ وهو وصف أيضا للمأتين، أي أنهم من الذين كفروا، وذكر الوصف بالموصول للدلالة على الكفر هو سبب الضعف كما كان الإيمان والصبر هما بسبب القوة فينا، فعلينا أن ندرع بالصبر والإيمان دائما، لأنهما قوتنا، وعزتنا.
وقد علل الله سبحانه هزيمة الكفار بقوله تعالت كلماته :﴿ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ ﴾ أي سببا لذلك التفاوت في القوة الذي كان مظهره التفاوت العددي، بأن كانت العشرون الصابرة تعادل منهم، السبب في ذلك ( أنهم قوم لا يفقهون ) أي لا يدركون إدراكا ينفد إلى الحقائق، وإلى لب الأمور، فإنهم بذلك ضلوا، فلم ينفذوا إلى الحق فيؤمنوا به، ولم ينفذوا إلى إدراك قوة الحق فظنوا أنهم يغلبونه بالكثرة الكاثرة، ولا تغنيهم في الشديدة فتيلا، ولم ينفذوا إلى سبب الغلب، فغرهم الغرور.
والله سبحانه وتعالى يعبر عن الجماعة التي يجمعها هوى ( بالقوم ) لأنه لا قوة لهم إلا كونهم قوما، جمعهم جامع من هوى أو غرور، وضلال.
فقال تعالى :﴿ الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ ﴾
كان هذا التناسب في العدد الذي ذكره القرآن من أن العشرين الصابرين فيهم كفاية لمئتين، كان ذلك في حال القوة المؤمنة، وتلك القوة تقوم على الاتحاد والائتلاف، وعلى قوة الإيمان بالنصر والتأييد من الله تعالى وعلى قوة العزم والتوكل عليه سبحانه، وعلى الرغبة في إحدى الحسنين النصر أو الاستشهاد، وفيه حياة، فمن كانوا على هذه الحال كانوا الأقوياء حقا وصدقا.
أما إذا كان الضعف فقد خف الله النسبة ؛ ولذا قال تعالى :﴿ الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ﴾.
وقوله تعالى :﴿ خفف عنكم ﴾ فيه إشارة إلى أن التناسب العددي فيه تكليف بالثبات لما يناسبه من عدد، فالعشرون مكلفون أن يثبتوا أمام مائتين وقد ذكرنا أن ذلك مطلوب، إما بالقصد الصريح، أو بالتضمن وقد بين معنى القوة، فلنشر إلى معنى الضعف، وهو ألا يكون ائتلاف قويا، وألا يكون العزم صادقا وأن يكون فيهم ضعفاء الإيمان ومنافقون، وقد بدا ذلك واضحا في غزوة أحد، فقد كان في جيش تردد في الخروج من المدينة ابتداء، وكان في بعضهم ميل إلى المادة، وكان في بعضهم ضعفاء الإيمان، وكان فيهم منافقون، ولم يكن في بعضهم صدق، وكان الصادقون قوته ؛ ولذا في أول الأمر همت طائفتان أن تفشلا، والله وليهما.
ولذلك لم يكن النصر المؤزر كما كان في بدر ؛ إذ لم يكن الأقوياء الذين غير بهم وجه القوة في البلاد العربية هذا هو الضعف، وذاك هو العزة، وخفف الله التكليف في تناسب العدد في حال الضعف، فجعل المائة تغلب مائتين. وقال تعالى في ذلك :﴿ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ ﴾، أي أن التكليف يكون بأنه إذا كان مائة لا يجوز أن يفروا من مائتين، بل عليهم أن يثبتوا، وإن كان ألف يجب أن يثبتوا أمام الألفين.
والتخفيف هو تخفيف التكليف، و تخفيف التكليف لا يمكن أن يعد نسخا، وقد يعد ترخيصا من عزيمة وهي الأصل، ولم يقل : ألف صابرة، أي لم يذكر وصف الصبر، اكتفاء بذكره أولا، وذلك شأن الكلام البليغ موجز حيث يوجد ما يدل على المضمون.
وذكر المائة في مقابل المائتين، كما ابتدأ في الآية الماضية ذكر العشرين ابتداء، وذلك من التخفيف ؛ لأن العشرين مع القدرة عدد مناسب للسرايا ونحو ذلك، فلا يرسل فيها إلا الأقوياء، ولا يرسل فيها من يكون فيه ضعف، إلا بعدد كثير، فكان ذكر المائة كحد أدنى، لجماعة فيهم ضعف.
ومع قلة التناسب في العدد في حال وجود الضعف، لا يكون النصر بقوتهم الذاتية، إنما يكون النصر بإذنه أي بتوفيقه وتوجيهه، وهو لازم في كل الأحوال في حال القوة، وإن كان هناك ضعف، وصرح به هنا لأنه واضح بأنه من أسباب النصر، أو سببه في حال ما إذا كان ضعف.
ومن الناس من شغف بإثبات النسخ في القرآن فيفرضون النسخ لأوهى معارضة لفظية، كما فرضوا النسخ في آيات الصيام، ولا معارضة بين آياته، وكما فرضوا النسخ بين الآيتين، وكان المعنى بين الآيات واحد يكمل بعضه بعضا، كذلك ادعوا النسخ هنا، فافترضوه لمجرد التخالف التقديري بين الآيتين، وادعوا أن الثانية ناسخة للأولى مع أنه لا تعارض بين الآيتين، إن الأولى ذكرت ذلك العدد في حال القوة، والتآلف بين المؤمنين، والثانية خف فيها العدد الأول لحال الضعف، والجهة منفكة بينهما.
وهكذا بين أو مسلم الأصفهاني ونفى أن يكون النسخ بينها سيرا على مبدئه الذي انتهى إليه أنه لا نسخ في القرآن قط، وأن القرآن ينسخ غيره، ولا ينسخ حكمه أبدا.
ولقد ادعى الإجماع بأن الثانية نسخت الأولى، ولكنه ليس إجماعا، ولكنه قول قيل، وقبله كثيرون من علماء الأصول وساروا في دراسة الموضوع في الآيتين على أن ثمة نسخا.
والحق أن الآيتين حكمهما خالد دائم إلى يوم القيامة، وهو أنه في حال القوة يكون العشرون كفء المئتين وفي حكم الضعف بالأسباب التي ذكرناها، أو بعضها – يكون المائة في مقابل مائتين.
ولقد قال تعالى في نصرالمائة أمام مائتين، والألف أمام الألفين :﴿ بإذن الله ﴾ وفي الواقع كان نصر إنما هو بإذن الله، ولكن ذكر هنا، ولم يذكر في الآية الأولى للإشارة إلى أن الضعف والتخاذل لا يكون معه نصر إلا إذا كان ثمة إذن الله، للحث على منع التخاذل والتنازع والتردد، واتقاء كل أسباب الضعف والله يؤيد من يشاء بغير حساب. لا ى
وختم الله تعالى الآية بقوله تعالى :﴿ والله مع الصابرين ﴾ والمعنى في ذلك : والله تعالى بجلاله وقوته وتأييده مع الصابرين، وهذه المعية السامية تجعل الصابر مطمئنا إلى النصر لا محالة لسببين :
أولهما – أن الله معه، ومن يكون الله معه تكون معه القوة كلها، فلا تقف أمامها قوة في الأرض فكيف يغلب، إنها تدرأ العجز، وتغلب القوة، بل يجعل من الضعف قوة فيكون النصر.
ثانيهما – أن الصبر يقرب من الله ؛ لأن فيه ضبط النفس عن الهوى، وعن الجزع يوم الفزع، والقرب من الله لشد العزائم، وتثبت القلوب.
وإن الله تعالى يحب الصابرين، والمحبة أعلى من الراضى الذي هو أكبر الجزاء، فالمحبة أكبر من الرضوان.
قال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ ( ٦٥ ) الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ( ٦٦ ) ﴾.
كانت غزوة بدر غزوة مباركة إذ انتصر فيها المسلمون قتلوا سبعين، وساقوا من المشركين سبعين أسيرا من كبار قريش، وكان المقتولون مثلهم من كبار قريش، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يميل إلى الإبقاء على الأسرى، سيرا على سنته في الدعوة من أنه يريد الإيمان للمشركين مع حياتهم، ولا يريد قتلهم كافرين فما كان يحارب لأجل كفرهم، ولكن كان يحارب لتنفذ الدعوة وتستمر رجاء إيمان الإجماع، وذلك سبب الميل في إبقاء الأسرى.
والله تعالى عاتب نبيه لا على إبقاء الأسرى، بل عاتبه لأنه أسر، وليست له قوة قاهرة مستمرة، عاتبه لأنه في أول واقعة التقى بهم، وأسر منهم، بل كان قتلهم في الميدان، وإثقالهم بالجراح وهو الإثخان، حتى تكون له قوة قاهرة قاصمة، ويأسر فيمن أو يفدى.
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٦٧ ) لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( ٦٨ ) فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٦٩ ) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٧٠ )
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد أن يستبقي المقاتلين من أعدائه رجاء أن يكونوا للحق أو أن يكون من ذريتهم من يعبد الله تعالى، كان يقول صلى الله عليه وآله وسلم في حروبه لقواده :( لأن تأتوني بهم مؤمنين، خير من أن تأتوني بنسائهم وذرياتهم سبايا مأسورين ) ( ١ )١، فكان يحب الإبقاء على مقاتليه بدل إبادتهم، ولذا كان لا يبيد الخسيس، فلما انهزم المشركون أسر منهم بدل أن يقتلهم، وقد كره سعد بن معاذ الأمر عندماوقع، وقد كان يحرس عريش النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذكر ذلك وقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن هذه أول واقعة بيننا وبين المشركين فما أحب أن أأسر قبل أن نثقلهم بالجراح، وجاء القرآن الكريم بذلك النظر فقال تعالى :
﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ﴾.
أي ما ساغ لنبي، أمره الله تعالى بالجهاد لجعل كلمة الله أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض حتى يثقلهم بالجراح بحيث لا يستطيعون أن يقفوا للحرب مرة ثانية، فالاثخان المبالغة في الجراح، حتى يثقلوا عن استئناف القتال، وتكون المعركة شافية لا تبقي من باقية، وذلك حتى لا يتجمعوا لكم من بعد في وقت قريب، كما فعلوا في أحد، وحتى لا تثقلوا أنتم بإطعام الأسرى، وقد يكون ذلك عليكم عسيرا، وإطعامهم لا بد منه، ولذا يقول تعالى في أوصاف المؤمنين :﴿ ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا قف ( ٧ ) ﴾ ( الإنسان )، ولكي يسد باب الخديعة والنفاق، كما حدث من بعض الأسرى.
لهذا كان النفي الذي يتضمن نهيا مؤكدا، عن أن يكون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أسرى، والآية كما تضمنت النهي عن أخذ أسرى قبل أن يثخن في الأرض، ويثقل العدو حتى لا يتحرك إليه عن قريب، لما نهى عن ذلك نهى عن أخذ الفدية، في حال عدم الإثقال ؛ ولذلك قال تعالى :﴿ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ ﴾، أي تريدون عرض الدنيا بالمال تأخذونه، وقد برروا أخذ الفداء بأن يكون قوة للمؤمنين، والله سبحانه وتعالى يريد الآخرة، أي يريد ما يكون نصرا غالبا مؤزرا يؤدي إلى إرضائه سبحانه.
وقصة إشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالفداء كانت بشورى أشار بها بعض كبار المؤمنين الصديقين، وإليك الخبر كما جاءت به كتب السنة والسيرة في أصح أخبارها.
لما كان يوم بدر جيء بالأسرى، وفيهم العباس فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( ما ترون في هؤلاء الأسرى )، فقال أبو بكر : قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم، وقال عمر : كذبوك وأخرجوك وقاتلوك ؛ قدمهم فاضرب أعناقهم.
وقال عبد الله بن رواحة : انظر واديا كثير الحطب فأضرمه عليهم.
فدخل رسول اله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يرد عليهم مسغيا، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال :( إن الله ليلين قلوب رجال منه حتى يكون ألين من اللبن ويشدد قلوب 'رجال حتى يكون أشد من الحجارة، ومثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال :﴿ فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ( ٣٦ ) ﴾ ( إبراهيم )، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى إذ قال :﴿ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ( ١١٨ ) ﴾ ( المائدة ).
ومثلك يا عمر مثل نوح إذ قال :﴿ رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ( ٢٦ ) ﴾ ( نوح )، ومثلك يا عمر مثل موسى عليه السلام إذ قال :﴿ ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ( ٨٨ ) ﴾ ( يونس ).
اختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ الفداء، لأنه أرفق، ولأنه رأى فيه تقوية المؤمنين، بالمال يأخذه منهم، وتقوية للمؤمنين بتعليم الأميين من الصحابة إذ كان من يقرأ ويكتب من الأسرى وليس معه مال، تكون فديته بتعليم بعض المؤمنين، ولقد من على العاجزين عن الأمرين ممن رجا فيه خيرا.
نزلت هذه المعاتبة بعد ذلك، فبكى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبكى معه صاحبه في الغار، وصديق هذه الأمة وقالوا :( إن القرآن نزل برأي عمر ) ( ١ )٢.
ونحن نرى أن القرآن نزل برأي سعد بن معاذ، وروي أنه وافق سعدا الفاروق عمر، وعبد الله بن رواحة ؛ لأن العتاب ابتداء ما كان متجها إلى أخذ الفداء، إنما كان متجها ابتداء إلى أخذ الأسرى قبل أن يثخن في الأرض، أما الفداء فلا لوم فيه، وقد جاء به القرآن في نظام الأسرى، فقال تعالى :﴿ حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ( ٤ ) ﴾ ( محمد ).
وهنا يسأل سائل لماذا لم يعلم الله رسوله الحق قبل أن يقع في الخطأ بدل أن يتركه يخطئ، ثم يعتب عليه والجواب عن ذلك أن حكمة الله تعالى في أقواله وأفعاله بالغة، فإن في ذلك تعليم لنا ومنع لغرورنا، إن هذا يبين أن هذا النبي المختار المصطفى إذا ترك في أمر قد يقع في الخطأ والوحي ينزل، أو تعرض للخطأ، وإن كل إنسان عرضة للخطأ، وإن العقل يعجز عن إدراك الحقائق كاملة، وبيان فساد حكم الطغاة الذين ينفردون بالحكم، ويحسبون أنهم لا يخطئون، وبجوارهم فئة المنافقين الضالين المضلين الذين يأكلون السحت مما يتساقط من أموالهم التي هي سحت كلها، إن هذا رسول الله وسيد الخلق المصطفى إذا ترك من غير وحي في أمر تشريعي، كان عرضة للخطأ وقد أخطأ فكيف بكم أيها الطغاة الذين قمتم للشر وقام بنيانكم على الشر.
ثم ختم الله تعالى الآية بقوله :﴿ والله عزيز حكيم ﴾ أي أنه هو العزيز الذي أعطاكم العزة والرفعة في هذه وجعل لكم قدرة على الأسر بعد أن كنتم قليلين مغلوبين يتخطفكم الناس في الأرض، وقد فعل ذلك بمقتضى حكمته.
ثم بين سبحانه أنهم معفوون من خطئهم، فقال تعالت كلماته :
﴿ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾.
٢ البداية والنهاية: ج٤، ص٤. ١، وأصح ما روي في ذلك ما رواه مسلم: الجهاد والسير – الإمداد بالملائكة فقي غزوة بدر (١٧٦٣)..
الآية كسابقتها في موضوع الأسرى وأخذ الفداء عنهم، وعتب الله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شأنه وأخذ الفداء عنهم.
و ( لولا ) في قوله تعالى :﴿ لولا كتاب ﴾ حرف شرط امتناع لوجود، أي امتناع الجواب لوجود الشرط، أي امتنع أن يمسكم عذاب عظيم بوجود كتاب سبق، والكتاب الذي سبق هو الذي عهد إلى بني آدم ألا يعذبهم حتى يبين، ( فلا عذاب إلا إذا سبقه بيان )، وهو أيضا ألا عقاب على الخطأ في اللفظ كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم :( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) ( ١ )١، والعهد أيضا لا عقاب على الخطأ في الرأي، وأن المخطئ في الاجتهاد له أجر، ومن له أجر في أمر ليس عليه عقاب فيه، فلا يجتمع الأجر والعقاب، فلوجود الكتاب كان العفو، وهذا الشرط وجوابه يومئ إلى أن أخذ أسرى هو في ذاته موضع مؤاخذة، ولكن لم يكن العقاب لهذا الكتاب الذي أشرنا إليه، فالنص يومئ إلى أن أخذ الأسرى لولا ما حف به _ لكان محل العقاب.
وعبر سبحانه وتعالى عن العذاب بقوله تعالى :﴿ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾، فعبر عن العذاب ب ( مسكم )، لأن عذاب النار يمس الجلد، وذكر العذاب ببيان أنه عذاب شديد، ووصفه بأنه عظيم، لأنه على قدر الذنب الموقع يكون العذاب، والذنب لو وقع كان في الحرب، والحرب إما هزيمة وانتصار، ويجب ألا يكون فيها تراخ، ولا أخذ بالهوادة، بل إنها أخذ بالصرامة والصرامة في الحرب تمنعها، ويرهبها الناس ؟، فلا يقعون في أسبابها.
وقوله تعالى :﴿ فيما أخذتم ﴾ من المال يوهم أن أخذ المال وحده هو السبب في هذا العقاب، والحقيقة أن ذلك جزء من السبب وإن لم يكن جوهر السبب ؛ لأن السبب الأصلي هو أخذ الأسرى، وتبع هذا الأخذ إن اختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ الفداء تيسيرا عليهم، واستبقاء لهم عسى أن يتوبوا، وقد دخل في الإسلام أكثرهم واستمر على الكفر أقلهم، والتيسير في الدعوة مطلوب لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمجاهدين :( يسروا ولا تعسروا ولا تنفروا ) ( ١ )٢.
وقلنا : إن أخذ المال جزء من سبب المؤاخذة ؛ لأن المؤاخذة هي على الأسر وما تبعه من أخذ الفداء أو إن شئت فقل إذا إن السبب أخذ المال في هذا الأسر الذي لم يسغ.
وقد قال الرازي : إن بعض المفسرين قال إن قوله تعالى :﴿ حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ( ٤ ) ﴾ ( محمد ) نسخت :﴿ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ ﴾، إلى آخرها، والحق أنه لا نسخ، بل الآيتان متلاقيتان متضافران في الدلالة على معنى واحد وهو أنه لا أسر إلا عند الإثخان، وإذا كان الأسر في موضعه ووقته، فالإمام يخير بين المن من غير فداء، والفداء بالمال، أو مبادلة الأسرى كما بادل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسرانا بأسراهم، فتلك شريعة محكمة باقية خالدة لا تغيير فيها ولا تبديل.
٢ سبق تخريجه..
الفاء فاء الإفصاح، فهي تفصح عن شرط مقدر، أي تقديره مأخوذ من حالهم عند أخذ الغنائم، والتقدير هكذا إذا كنتم تريدون تقويتكم بالمال، وما تأخذونه منكم، فعندكم الغنائم، ولذا قال :﴿ فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾.
ومعنى الأكل هنا الأخذ، كما في قوله تعالى :﴿ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ( ١٨٨ ) ﴾ ( البقرة )، أي لا تأخذوه، وعبر عن أخذ المال بالأكل، لأن الأكل هو الأمر الضروري الذي يؤخذ لأجله المال ابتداء، فعبر عن الشيء بأهم مسبباته، وذلك من المجاز المرسل السائغ، كقوله تعالى :﴿ إني أراني أعصر خمرا ( ٣٦ ) ﴾ ( يوسف )، أي أعصر عنبا يكون سبب الخمر.
وقوله تعالى :﴿ مما غنمتم ﴾ المراد بها الغنائم التي وزعت بحكم الله تعالى في قوله تعالى :﴿ واعلما أن ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين......... ﴾ إلى آخر النص الكريم العادل، وعلى ذلك يكون المراد هذه الغنائم، وذكره ( من ) للدلالة على نصيب المجاهد منها، والمعنى على هذا ما كان لكم أن يكون لكم أسرى ولم تثخنوا في الأعداء، لتكون الغاية أن تأخذوا منهم ما تتقون به، فإنه يكفيكم ما تأخذون من الغنائم حلالا، لا لوم فيه ولا عتاب، وإنه لكثير يغنيكم عما يكون فيه لوم أو عتاب تأخذونه من فداء الأسرى في أمر جاء في غير وقته ومن غير مبرراته.
وقال بعض المفسرين : إن النص لإباحة تناول الفداء باعتباره من الغنائم، واللوم في أصل الأمر، وإنا نرى أن الأظهر للأوضح الذي يتفق مع العتاب على أخذ الفداء، مع الأسر، ويكون تأكيدا للعتب وتدليلا على وجوبه.
ويقول الله تعالى بعد ذلك :﴿ واتقوا الله... ﴾ أي اجعلوا بينكم وبين الوقوع في المحظور وقاية، فلا تفعلوا ما يغضبه. وارجوا رحمته ومغفرته ﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ أي كثير المغفرة يرحم الناس بمغفرته، وقد أكد سبحانه وتعالى مغفرته ورحمته، بصيغة المبالغة أو الصفة المشبهة في ﴿ غفور رحيم ﴾، وبالجملة الاسمية، وب ( إن ) ( اللهم اغفر لنا وارحمنا ).
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾.
يظهر أن ذلك العتب كان والأسرى لا يزالون بالمدينة أو أكثرهم، وكانوا قد دفعوا الفداء ؛ وذلك لأنه سبحانه أمر نبيه بأن يخاطبهم هذا الخطاب وعبر بأنهم لا يزالون في أيدي المسلمين أو بعضهم.
خاطب الله نبيه بأن يقول لهم كلمة رحيمة هادية تقرب القلوب، ولا تجفيها، قال سبحانه لنبيه :﴿ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى ﴾، أي لا يزالون تحت سلطانكم، وقريبين منكم ﴿ إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ ﴾ أي إن يعلم الله في قلوبكم خيرا، وهو رجاء الإيمان منكم، أو قرب احتماله، يؤتكم خيرا مما أخذ منكم أي يؤتكم إيمانا وأن تكونوا في صفوف جيش الله ومع المؤمنين، فيكون الإيمان، وهو خير مطلق، وفضل عميم ويؤتكم من خير الغنائم أكثر مما أخذ منكم.
وهذا تحريض على الإيمان/ وقوله تعالى :﴿ يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ ﴾ من غنائم غنمها المسلمون، ومن فدية افتديتم بها أنفسكم، وقد روت صحاح السنة أن ممن شملهم خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ويقول بعض المفسرين : إن الآية نزلت فيه، ونحن نقول : إنها تشمله فيمن كان معه من الأسرى الذين أخذت منهم غنائم في القتال، وأخذت فيه فدية في الأسر، وقد عوض من الأمرين خيرا مما أخذ منه.
روي عن العباس رضي الله عنه من طريق الزهري : بعثت قريش في فداء أسرهم، ففدى كل قوم أسيرهم، وقال العباس رضي الله عنه – وكان في الأسرى : قد كنت مسلما، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( الله أعلم بإسلامك فإن يكن ما تقول فإن الله يجزيك، وأنا ظاهرك ) ( فقد كان علينا وقد كان ممن ضمن طعام جيش مكة في بدر ) فافد نفسك وابني أخيك نوفل بن الحارث، وعقيل بن أبي طالب وحليفك عتبة بن عمرو، وعبد الله ) قال : ما ذاك عندي يا رسول الله قال صلى الله عليه وآله وسلم :( فأين المال الذي دفعته أنت لأم الفضل ) ؟.
قلت لها : إن أصبت في سفري هذا فهذا المال الذي فيه لبني الفضل، وعبد الله، وقثم.
قال العباس : والله يا رسول الله إني لأعلم أنك لرسول الله، وإن هذا لشيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل.
فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم منى عشرين أوقية من مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( لا، ذاك شيء أعطانا الله تعالى منك، ففدى نفسه وولدي أخويه، وحليفه ) ( ١ )١.
وقد قال : عوضني الله أربعين أوقية أربعين عبدا في الغزوات، وأعطاني زمزم، وما أحسب أن لي بها جميع مالي، وهكذا عوض الله تعالى كل من آمن من بعد ذلك وغزا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغزوات وأصاب من خير وآتاه الله تعالى مع ذلك الإيمان والإخلاص، ومن قبل منهم في الجهاد، أعطي خيرا من كل هذا فضل الشهادة وإن فضلها لعظيم.
ثم ختم الله تعالى الآية الكريمة بقوله :﴿ والله غفور رحيم ﴾، أي أنه سبحانه وتعالى مع هذا العطاء المضاعف لما أخذ منكم يعطيكم شيئا غير قابل للتعويض وهو من فضل الله ورحمته وهو غفران ما أسلفتم من كفر وجحود ومعاندة لله تعالى، فهو الغفور الذي يغفر ما سبق بأبلغ درجات الغفران ويرحمكم أبلغ الرحمة.
.
﴿ وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ٧١ ) ﴾.
الزمخشري لا يعد الضمير يعود على الكفار الذين يخونون العهود في المستقبل، والذين خانوا عهد الله بارتدادهم، ويذكر أنه ربما يعود على الأسرى الذين عاهدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أن يكفوا ألسنتهم عنه فلم يكفوها وأبلوا الناس، وهؤلاء خانوا.
ويلاحظ أن الله تعالى يقول :﴿ وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ ﴾، أي وسوست لهم شياطينهم بالخيانة وأرادوها، فإن أرادوها فخذ حذرك منهم ولا تأس عليهم، فقد خانوا الله تعالى وكفروا به وأشركوا به الأوثان وهموا أن يقتلوك، فأمكن الله تعالى أهل الإيمان منهم، وأعلنوا بذلك كلمة الحق والإيمان.
وإن مضمون النص يجعلني أميل إلى أن الضمير لا يعود على الأسرى، ولا يعود على من ذكر الإيمان ورده من المشركين وأظهروا أنهم يريدون تقربا للمسلمين.
وإنما أميل إلى الذين جنحوا للسلم، وأمر الله نبيه أن يجنح ولا يمنعه أن يحاولوا خديعته ؛ لأن الله حسبه، وفي هذه الآية بين الله تعالى لنبيه أنه يجب أن يستمر غير ملتفت لهم إن أرادوا خيانة بعد أن جنحوا للسلم، ولكن أرادوا خيانتك، وألا يهتم لخيانتهم في ذاتها، وألا يأسى على خيانتهم بعد أن جنحوا للسلم والله تعالى ينبه نبيه بأنهم إن أرادوا خيانتك بأن هموا بالانقضاض على المؤمنين، فإنهم قوم من طبعهم الخيانة فقد خانوا الله تعالى من قبل بأن عبدوا الأحجار والأوثان وهموا بأن يقتلوا الرسول، أو يحبسوه أو يخرجوه، وخانوا الله تعالى بخيانته أهله فلا تأس عليهم، والله من ورائهم محيط ؛ ولذا ختم سبحانه الآية الكريمة بقوله :﴿ والله عليم حكيم ﴾ أي عليم بخبايا نفوسهم، وما تحدثهم به خواطرهم، وبنزعات نفوسهم، وقد رتب لهم سبحانه ما يصلح لهم بمقتضى علمه وحكمته، فهو حكم من يضع الأمور في مواضيعها، ويدبر لك بحكمته، فلا تخش وبالهم، والعاقبة للمتقين.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٧٢ ) وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ( ٧٣ ) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ( ٧٤ ) وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ٧٥ )
المؤمنون أمة واحدة، وولايتهم واحدة، فلا ولاية للمؤمنين إلا من المؤمنين، ولن يجعل الله للمؤمنين على الكافرين سبيلا، وأكد الله تعالى هذه الولاية ومنع غيرها، فقال تعالى :﴿ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير ( ٢٨ ) ﴾ ( آل عمران : ٢٨ ) )، وقد نهى الله تعالى عن كل مدارة للكافر يكون فيها نصرة له، وانتصار به، أو اتخاذه بطانة يعرف منها أسراره وخفايا أموره، فقال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ( ١١٨ ) ﴾ ( آل عمران ).
وعندما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان المؤمنون فريقين مؤتلفين متوادين متحابين قد عقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم المؤاخاة التي قد صارت سنة يجب إتباعها إلى اليوم.
ولقد أكد سبحانه وتعالى الولاية بينهم مع افتراق كقبائلهم فخوذهم وبطونهم فقال تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ ﴾، وصف الله المهاجرين بأنهم آمنوا إيمانا لقوا فيه الأسى والعذاب فما وهنوا وما ضعفوا وما استكانوا، وصبروا وصابروا، وبأنهم هاجروا، أي تركوا ديارهم وأسرهم وأموالهم وخرجوا من ديارهم وهي الحبيبة إليهم، فنالوا فضل الهجرة بترك الأحبة في سبيل الله، وما هاجروا للسياحة والراحة بل خرجوا ليحملوا مشقة أعظم ما يحملوا ؛ ولذا قال تعالى فيهم :﴿ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ﴾، جاهدوا الهوى في النفس والركون للراحة، وحملوا السيوف مقاتلين في سبيل الله، وبذلوا أموالهم التي كسبوها بكدهم من كسبهم بعد الهجرة بعد أن فقدوا أموالهم التي كسبوها قبل الهجرة، وكان من هؤلاء من يخرج من كل ماله له ورسوله، ومنهم من يحمل من ماله نفقات جيش، كما حمل عثمان نفقات جيش العسرة.
وكل ذلك في سبيل الله تعالى لا يرجون إلا ما عند الله، وهؤلاء أولياء لمن يماثلون خيرا، وهم الذين آووا ونصروا وتحلوا بما تحلى به إخوانهم المهاجرون، فآمنوا الإيمان الكامل، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وإذا كانوا قد نقصوا عن إخوانهم فضل الهجرة، فقد عوضوا عن ذلك بفضل الإيواء والنصرة، يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.
هؤلاء الأطهار قرر الله تعالى أن بعضهم أولياء فقال سبحانه وتعالى في خبر ( إن ) ﴿ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ﴾الولاية محبة ومودة ومناصرة، وقد اجتمعت كل هذه الأحوال في ولاية المؤمنين المهاجرين، والأنصار فقد اجتمعت فيها المودة، فتوادوا وتحابوا، وتناصروا وجاهدوا جميعا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله.
ولقد جمعت المؤاخاة معنى المودة والمحبة والإيثار وجمع الجهاد معنى النصر، والتعاون بالجهاد في سبيل الله، وإن هذه الولاية كانت تضمن مع ذكرنا معنيين آخرين :
أولهما – أنهم يقتسمون الغنيمة بالسوية على النظام الذي قرره الله تعالى في الغنائم، لا فضل لأنصاري على مهاجري، ولا فضل للمهاجر على الأنصاري، ولما أعطى رسول اله صلى الله عليه وآله وسلم المؤلفة قلوبهم، وجد بعض الأنصار، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( إنها لعاعة ( ١ )١ مال تألفت بها قلوب قوم، وتركتكم لدينكم )، ودعا للأنصار دعوة ختمها بأنه من الأنصار لولا الهجرة، ( ولو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار ).
ثانيهما – أن هذه الولاية التي كللها رسول اله صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤاخاة كانت تثبت الميراث بين المهاجرين والأنصار إذا مات أحدهما من غير قريب مسلم، فالمؤاخاة تثبت الميراث، كأنها تحل محل بيت المال.
هذه الولاية بين المهاجرين والأنصار، والإيمان وحده من غير هجرة يوجد ولاية الإيمان لا موجد ولاية قسم الغنيمة والميراث بالمؤاخاة ؛ ولذلك نفى هذا النوع من الموالاة عن الذين يؤمنون ولم يهاجروا نعمة الجهاد المشترك بين المهاجرين والأنصار ونعمة المؤاخاة ؛ ولذا قال تعالى :﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ ﴾.
عندما شاع أمر الإسلام، وذاع في البلاد العربية مع استمرار الدعوة والجهاد قد آمن ناس ولم يهاجروا وقد رغب الإسلام في هجرتهم، ليكثر بهم جمع أهل الإيمان، وليكون الجهاد متكاملا أمام أهل الشرك، ولكي لا يستضعف المشركون يستخذى المؤمنون لقلتهم وضعفهم ؛ ولذا قال تعالى :﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها أولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ( ٩٧ ) ﴾ ( النساء ).
وقد ذكر الله تعالى في هذه مقدار ولايتهم، وهي ثابتة لأنه ولاية الإيمان، ولكن لا تكون لهم ولاية قسمة الغنيمة، ولا الولاية التي تثبت بالإخاء، ولذا قال تعالى :﴿ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ ﴾ أي ليس لكم من ولايتهم في الغنائم أي شيء. وهذا النص يومئ إلى أنه يحسن بهم أن ينضموا لجماعة المؤمنين ويتناصروا.
ولقد جاء في تفسير الحافظ ابن كثير ما نصه : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين، خيرا، وقال :( اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم : ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وان عليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا واختاروا ديارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله تعالى الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا – أي الإسلام – فادعهم إلى إعطاء الجزية. فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا – أي الإسلام والجزية – فاستعن بالله وقاتلهم ) ( ١ )٢.
هذه رواية مسلم، وظاهر أن الولاية المنفية هي ولاية الاشتراك في قسمة الغنائم وما يترتب على الإخاء، أما الإيمان فولايته قائمة ثابتة وهي ولاية النصرة، ولذا قال تعالى :
﴿ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ ﴾.
إن هذه ولاية الإيمان وهي توجب النصرة على أساس أن المؤمنين جميعا إخوة، كما قال تعالى :﴿ إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون ( ١٠ ) ﴾ ( الحجرات ).
فحيثما كان المؤمن فهو ولاية المؤمنين مهما تختلف الديار، وتتباعد الأقطار، ولذلك إذا استنصر المؤمن ؛ أي طلب النصر – وجبت نصرته، فالسين والتاء للطلب أي طلب النصرة، في دفع عدو داهم، أو في حرب عادلة ؛ ولذا قال تعالى :﴿ فعليكم النصر ﴾ والاستجابة لطلبه، وقد استثنى الله حالا واحدة، وهي أن يكون ثمة ميثاق، أي عقد موثق بمواثيق الله تعالى، وميثاق وزن مفعال من ( وثق )، فأصله ( موثاق ) قلبت الواو ياء لوقوعها ساكنة بعد كسرة، والمعنى عليكم النصر، أي فإن دعوكم فعليكم الإجابة إلا أن يكون النصر الذي تنصرونهم فيه يكون على قوم بينكم وبينهم ميثاق، ألا لا تنصروهم على قوم لهم ميثاق، ولكن يجب أن تدفعوا عنهم كل من يتعدى عليهم، ولو كان بينكم وبينهم ميثاق، لأنهم ينقضون الميثاق بمجرد أن يعتدوا على مؤمنين، فلا عهد على أهل الإيمان.
وإذا كان في المؤمنين غير المهاجرين ضعف، واستضعفتم أعداء الإسلام أيان كانوا، وجبت نصرتهم، ويقول في ذلك ابن العربي في تفسيره في أهل الميثاق إلا أن يستنصروكم على قوم بينكم وبينهم عهد فلا تنصروهم عليهم ولا تنقضوا العهد، حتى تتم مدته إلا أن يكونوا – أي المسلمون – أسراء مستضعفين فإن الولاية معهم قائمة والنصرة لهم واجبة حتى لا تبقى منا عين تطرف، حتى تذهب إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو ينزل جميع أموالنا في استخراجهم حتى لا يبقى لأحد منا درهم.
وقد ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى :﴿ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾، أي أن الله العلي الكريم الغالب على كل شيء مطلع كما يطلع ذو البصر على ما تعملون، ومكافئهم عليه، وقدم ( بما تعملون ) علي ( بصير ) لمزيد الاهتمام، والحساب على مقتضى علمه سبحانه وتعالى بما يعملون.
٢ مختصرا من حديث طويل رواه مسلم: الجهاد والسير – تأمير الإمام على البعوث ووصيته (١٧٣١)..
إذا كان المؤمن لا يوالي إلا مؤمنا، ولا تكون له المحبة والولاية إلا المؤمن مثله، فلا تكون ولايته لغيره، ﴿ وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ﴾، أنهم لا يكونون إلا أولياء لأنفسهم، فالمسلمون ولايتهم للإسلام، والكفار لا يتولون ولا يصح لمسلم أن يتولاهم كما قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم ( ٥١ ) ﴾ ( المائدة )، والولاية هنا النصر، أي أن الكافر نصير الكافر، ولا يصح أن ينصر المسلم الكافر، والنص يتضمن ذلك المعنى، أي أنه لا تناصر بين المسلم والكافر، ولا تناصر إلا بين الكافر والكافر.
وقوله تعالى :﴿ إلا تفعلوه ﴾ الضمير هنا يعود على التناصر بين المسلم والكافر بأن يستنصر المسلم بالكافر أو ينصر المسلم، ونفيه مفهوم ضمنا من اختصاص الولاية للمؤمن بأن تكون مع مؤمن، واختصاص الولاية للكافر بألا تكون إلا لكافر، ﴿ وإلا تفعلوه ﴾ هي ( إن ) المدغمة في ( لا ) النافية، ففعل الشرط ( لا تفعلوه )، ومعنى إلا تفعلوه أي إن لا تتقوا تناصركم معه، تكن فتنة في الأرض وفساد كبير، والمعنى إن كنتم تناصرون بهم فتستنصرون بهم وتنصرونهم تكن فتنة في الأرض وفساد، لأن نفي النفي إثبات، ومؤدى ذلك : إن كنتم لا تتباعدون عن المناصرة فيهم تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
وذلك حق ؛ لأن أقبح الفتنة أو أشدها أن يكون ولاء المؤمن للكافر، بأن يكون للولي ناصرا، ومستنصرا فإن ذلك يفتن المسلمين عن دينهم، ويجعلهم في ولاء للكافرين، والله تعالى يقول :﴿ لا تتولوا قوما غضب الله عليهم ( ١٣ ) ﴾، ( الممتحنة )، فتوليهم فتنة تفتن المؤمن عن دينه وفي خلقه، وتجعل تعاونه مع الكفار، وفيه فساد كبير فيه قوة للكفر، وضعف للإيمان وأي فساد أكبر.
وإن الفساد الذي أصاب المسلم الآن، والفتنة التي يموج فيها المؤمنون، إنما هي من ولاء المؤمنين للكافرين كما ترى ذلك في ساسة المسلمين منذ ضعفوا، فقد ازدادوا ضعفا بهذا الولاء، وكان أمر المسلمين إلى بوار، ﴿ إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ( ٥٥ ) ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ( ٥٦ ) ﴾ ( المائدة ).
جمع الله تعالى في هذه الآية الذين كانوا دعامة الإسلام، وعليهم هدي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قام بنيانه، وشيدت أركانه، وهم المهاجرون والأنصار، فالمهاجرون ابتدأ بهم تكوين الجماعات الأولى التي صبرت وصابرت وتلقت الصدمة الأولى من المشركين، ويقول صلى الله عليه وآله وسلم :( إنما الصبر عند الصدمة الأولى ) ( ١ )١، فهم الذين تلقوها من عتاة المشركين الذين قابلوا أهل الحق بالأذى من أمثال أبي لهب، وأبي جهل، والوليد بن المغيرة، وغيرهم، وهم الذين هاجروا إلى الحبشة فرارا بإيمانهم، ومنهم من هاجر إليها مرتين، وهم الذين لاقوا العنت، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، ومنهم من اضطروه تحت العذاب أن ينطق بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ومنهم من مات بعض أسرته تحت حر العذاب.
ثم في آخر الأمر هاجروا إلى المدينة، فاستقبلهم إخوانهم بالترحاب وآووا ونصروا.
والأنصار هم الذين آووا ونصروا، وأعزوا كلمة التوحيد وأغلوها وأعلوها، فإذا كان المهاجرون هم الذين أظلوا شجرة الإسلام ابتداء، فالأنصار هم الذين حموا ثمرتها وقامت دولة الإسلام في أرضهم وحراستهم، وإذا كان المهاجرون قد لاقوا العنت في مكة فقد لقوا الإيواء في المدينة، وإذا كانوا هم دعامة الإسلام فالأنصار دولته، وفي رحابهم قامت المدينة الفاضلة التي أقامها محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ديارهم وإذا كان المهاجرون قد جاهدوا ابتداء بالصبر والمصابرة، فقد كان جهادهم في المدينة مع إخوانهم الأنصار بذلك وبالقتال في المدينة، والفريقان اختارهم الله للتأليف حتى تكونت منهم أطر جماعة رأتها الإنسانية وأقواها ؛ ولذا قال تعالى :﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ﴾.
الإشارة إلى السابقين، والإشارة إلى الموصوف إشارة إلى أوصافه، وجعلها مناط الحكم، أي أولئك الذين هاجروا بعد الإيمان، وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا هم المؤمنون حقا، أي إيمانا ثابتا صادقا حقا تلاقت أقوالهم وقلوبهم وأعمالهم.
وفي الكلام قصر، أي من كانوا على هذه الصفات هم وحدهم المؤمنون حقا، أي لا يؤمنون حقا غيرهم، ومن هم على صفاتهم، وفيهم قوة الإيمان مثلهم، أي ذلك هو الإيمان حقا وصدقا ﴿ وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ( ٢٦ ) ﴾ ( المطففين ).
ولقد كرر الله تعالى الثناء على المهاجرين والأنصار في كثير من محكم آياته، من ذلك قوله تعالى :﴿ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار.... ( ١٠٠ ) ﴾ ( التوبة ).
ويقول تعالى :﴿ لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة...... ( ١١٧ ) ﴾ ( التوبة ).
وقال تعالى : في توزيع ما أفاء الله على رسوله :﴿ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ( ٨ ) والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ( ٩ ) ﴾ ( الحشر ).
وهكذا ترى قوة الإيمان، والجهاد ونصرة الرسول، والإيثار فكانوا بذلك المؤمنين حقا وصدقا، وقد ذكر الله تعالى ما كتب من خير في الدنيا والآخرة، بعد أن ذكر أنهم المؤمنون حقا، قال :﴿ لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾، وهذا يتضمن جزائين :
أولهما – المغفرة السابقة وراءها الرحمة والنعيم المقيم.
ثانيهما – رزق كريم واسع في الدنيا بعد المشقة التي تحملوها والله واسع عليم.
باب الإيمان مفتوح، وباب الهجرة مفتوح، وميدان الجهاد متسع للجميع، فلم يغلق على المجاهدين الأولين، ويحكم الرتاج على من بعدهم، لا بل هو مفتوح وهذه الآية الكريمة تلحق الذين يؤمنون كمن بعد ويهاجرون بالأولين الذين هم المؤمنون حقا، ولهم مغفرة ورزق كريم ( ١ )٢.
يقول تعالى :﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ ﴾، أي من بعد نزول الآيات الكريمات، ويفعلون فعل من سبقوهم فيهاجرون ويجاهدون معكم لا فرق بينكم وبينهم في الميدان فأولئك منكم، ومثل هؤلاء أبو موسى الأشعري، ومن معه من الأشعريين ؛ ولذلك يقول سبحانه وتعالى :﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ ﴾، أي أولئك يصيرون جزءا منكم لهم حكمكم، ولهم ثناؤكم، لا تعلون عليهم لأنهم منكم، فالمهاجر الأول والذين آووا ونصروا لهم فضلهم، ويلحق بهم في الفضل والثناء والجزاء من آمنوا من بعد وأبلوا مثل بلائهم، ولم يختلفوا عنهم في الفضل وإن تخلفوا في الزمن، وهو لا حساب فيه عند الله ما دام الإيمان والجهاد والهجرة قد تحقق فيهم.
هذا ولاء المؤمنين بعضهم مع بعض، وكهدى القرآن لا يمحوا ولاء الفطرة ولا يمحوا الولاء العام، ولاء الأسرة لأنه يدعمه ويقويه، ولذلك جاء ولاء الأسرة بعد الولاء العام، فقد قال تعالى :﴿ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾.
أي في حكم كتاب الله تعالى، ومقررات الإسلام الثابتة، فالأسرة لا تفنى بجوار الإيمان ولكن تقوي دعائم المجتمع الإسلامي.