تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب محاسن التأويل
المعروف بـتفسير القاسمي
.
لمؤلفه
جمال الدين القاسمي
.
المتوفي سنة 1332 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء الثامنويشتمل على تفسير سورتي : الأنفال والتوبة
سورة الأنفال ١
١ بدأت بمحاسن تأويل هذه السورة بعد عودتي من مصر بعد فجر الاثنين ٢٩ ذي القعدة سنة ١٣٢١(مؤلفه).
ﰡ
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ١]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ، قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
روى البخاري «١» عن ابن عباس أن سورة الأنفال نزلت في بدر.
وروى الإمام أحمد «٢» عن عبادة بن الصامت قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فشهدت معه بدرا. فالتقى الناس، فهزم الله تعالى العدوّ، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون: وأقبلت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه. وأحدقت طائفة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يصيب العدوّ منه غرة. حتى إذا كان الليل، وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها، فليس لأحد فيها نصيب.
قال الذين خرجوا في طلب العدوّ: لستم بأحق به منا، نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم. وقال الذين أحدقوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لستم بأحق بها منا. نحن أحدقنا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخفنا أن يصيب العدو منه غرة، واشتغلنا به- فنزلت:
وهذا الحديث رواه الترمذي أيضا وحسنه، ورواه ابن حبان في صحيحه،
وصححه الحاكم.
ولفظ ابن إسحاق عن عبادة قال: فينا، أصحاب بدر، نزلت، حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقسمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين المسلمين على السواء.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١)يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ، قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
روى البخاري «١» عن ابن عباس أن سورة الأنفال نزلت في بدر.
وروى الإمام أحمد «٢» عن عبادة بن الصامت قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فشهدت معه بدرا. فالتقى الناس، فهزم الله تعالى العدوّ، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون: وأقبلت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه. وأحدقت طائفة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يصيب العدوّ منه غرة. حتى إذا كان الليل، وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها، فليس لأحد فيها نصيب.
قال الذين خرجوا في طلب العدوّ: لستم بأحق به منا، نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم. وقال الذين أحدقوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لستم بأحق بها منا. نحن أحدقنا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخفنا أن يصيب العدو منه غرة، واشتغلنا به- فنزلت:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ | الآية- فقسمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على فواق من المسلمين. |
وصححه الحاكم.
ولفظ ابن إسحاق عن عبادة قال: فينا، أصحاب بدر، نزلت، حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقسمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين المسلمين على السواء.
(١) أخرجه البخاري في: التفسير، ٨- سورة الأنفال، باب قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ، حديث رقم ١٨٦٩.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٥/ ٣٢٣.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٥/ ٣٢٣.
252
وروى أبو داود «١» والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال: لما كان يوم بدر، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من صنع كذا وكذا فله من النّفل كذا وكذا. فتسارع في ذلك شبّان القوم، وبقي الشيوخ تحت الرايات. فلما كانت المغانم، جاءوا يطلبون الذي جعل لهم. فقال الشيوخ: لا تستأثروا علينا، فإنا كنا ردءا لكم، لو انكشفتم لثبتم إلينا. فتنازعوا، فأنزل الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ... الآية-
وهذا مما يفيد أن التشاجر كان متنوعا، وأن الآية نزلت لفصله.
والأنفال: هي المغانم، جمع (نفل) محركة، وهو الغنيمة. أي كل نيل ناله المسلمون من أموال أهل الحرب. قال ابن تيمية: سميت بذلك، لأنها زيادة في أموال المسلمين. أي لأن النفل يطلق على الزيادة- كما في (التاج). ومنه النافلة لصلاة التطوع لزيادتها على الفريضة.
وقوله تعالى: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ- قال المهايمي: أي ليست هي في مقابلة الجهاد، وإنما مقابله الأجر الأخرويّ، وهذه زائدة عليه، خرجت عن ملك المشركين فصارت ملكا خالصا لله ولرسوله. والرسول خليفة يعطيها، على ما أراه الله، من يشاء. ولما أطلق له صلّى الله عليه وسلّم الحكم فيها، قسمها بينهم بالسوية، ووهب من استوهبه.
فروى الإمام أحمد «٢» عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يوم بدر قتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاص، وأخذت سيفه، وكان يسمى ذا الكتيفة، فأتيت به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: اذهب فاطرحه في القبض. قال، فرجعت، وبي ما لا يعلمه إلا الله، من قتل أخي، وأخذ سلبي. قال، فما جاوزت إلا يسيرا حتى نزلت سورة الأنفال. فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اذهب فخذ سلبك.
وروى الإمام أحمد «٣» والترمذي- وصححه- عن سعد بن مالك قال: قلت: يا رسول الله! قد شفاني الله اليوم من المشركين، فهب لي هذا السيف، فقال: إن هذا السيف لا لك ولا لي، ضعه. قال، فوضعته ثم رجعت، فقلت: عسى أن يعطي هذا السيف اليوم من لا يبلي بلائي. قال، إذا رجل يدعوني من ورائي. قال، قلت: قد أنزل الله فيّ شيئا. قال:
كنت سألتني السيف، وليس هو لي، وإنه قد وهب لي، فهو لك. قال، وأنزل الله هذه الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ... الآية.
وهذا مما يفيد أن التشاجر كان متنوعا، وأن الآية نزلت لفصله.
والأنفال: هي المغانم، جمع (نفل) محركة، وهو الغنيمة. أي كل نيل ناله المسلمون من أموال أهل الحرب. قال ابن تيمية: سميت بذلك، لأنها زيادة في أموال المسلمين. أي لأن النفل يطلق على الزيادة- كما في (التاج). ومنه النافلة لصلاة التطوع لزيادتها على الفريضة.
وقوله تعالى: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ- قال المهايمي: أي ليست هي في مقابلة الجهاد، وإنما مقابله الأجر الأخرويّ، وهذه زائدة عليه، خرجت عن ملك المشركين فصارت ملكا خالصا لله ولرسوله. والرسول خليفة يعطيها، على ما أراه الله، من يشاء. ولما أطلق له صلّى الله عليه وسلّم الحكم فيها، قسمها بينهم بالسوية، ووهب من استوهبه.
فروى الإمام أحمد «٢» عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يوم بدر قتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاص، وأخذت سيفه، وكان يسمى ذا الكتيفة، فأتيت به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: اذهب فاطرحه في القبض. قال، فرجعت، وبي ما لا يعلمه إلا الله، من قتل أخي، وأخذ سلبي. قال، فما جاوزت إلا يسيرا حتى نزلت سورة الأنفال. فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اذهب فخذ سلبك.
وروى الإمام أحمد «٣» والترمذي- وصححه- عن سعد بن مالك قال: قلت: يا رسول الله! قد شفاني الله اليوم من المشركين، فهب لي هذا السيف، فقال: إن هذا السيف لا لك ولا لي، ضعه. قال، فوضعته ثم رجعت، فقلت: عسى أن يعطي هذا السيف اليوم من لا يبلي بلائي. قال، إذا رجل يدعوني من ورائي. قال، قلت: قد أنزل الله فيّ شيئا. قال:
كنت سألتني السيف، وليس هو لي، وإنه قد وهب لي، فهو لك. قال، وأنزل الله هذه الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ... الآية.
(١) أخرجه أبو داود في: الجهاد، ١٤٤- باب في النفل، حديث رقم ٢٧٣٧.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في المسند ١/ ١٨٠ والحديث رقم ١٥٥٦.
(٣) أخرجه الإمام أحمد في المسند ١/ ١٧٨ والحديث رقم ١٥٣٨.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في المسند ١/ ١٨٠ والحديث رقم ١٥٥٦.
(٣) أخرجه الإمام أحمد في المسند ١/ ١٧٨ والحديث رقم ١٥٣٨.
253
تنبيهات
الأول- ذهب بعضهم إلى أن أنفال بدر قسمت من غير تخميس، ثم نزلت بعد ذلك آية الخمس، فنسخت الأولى.
قال ابن كثير: فيه نظر. ويرد عليه حديث عليّ بن أبي طالب في شارفيه اللذين حصلا له، من الخمس، يوم بدر. فالصواب أنها مجملة محكمة، بيّن مصارفها في آية الخمس.
الثاني- روي عن عطاء أنه فسر (الأنفال) بما شذّ من المشركين إلى المسلمين في غير قتال من دابة أو أمة أو متاع. قال: فهو نفل للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم يصنع به ما يشاء.
قال ابن كثير: وهذا يقتضي أنه فسر (الأنفال) بالفيء، وهو ما أخذ من الكفار من غير قتال.
قلت: صدق (النفل) عليه، لا شك فيه، وأما كونه المراد من الآية بخصوصه، فلا يساعده سبب نزولها المارّ ذكره، لا سيما قوله: وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ المشير إلى التنازع المتقدم.
ثم قال ابن كثير: واختار ابن جرير أنها الزيادة على القسم، أي ما يدفع إلى الغازي زائدا على سهمه من المغنم، والكلام الذي قلته قبل، يجري هنا أيضا.
ونقل الرازي عن القاضي أن كل هذه الوجوه تحتمله الآية. قال: وليس فيها دليل على ترجيح بعضها على بعض، وإن صح في الأخبار ما يدل على التعين، قضى به. وإلا فالكل محتمل. وكما أن كل واحد منها جائز، فكذلك إرادة الجميع جائزة، فإنه لا تناقض بينها. أي لصدق (النّفل) عليها.
الثالث- وقع عند الزمخشري أن المسلمين اختلفوا في غنائم بدر، لمن الحكم فيها اللمهاجرين أم للأنصار، أم لهم جميعا؟ فأجيبوا بأن الحاكم فيها الرسول، وليس لأحد فيها حكم. وتأثر الزمخشري أبو السعود في سوقه لما ذكر، وزاد عليه اعتماده له، بتطويل مملّ. ولا أدري من أين سرت لهم هذه الرواية. فإن رواة الآثار لم يخرجوها في صحاحهم ولا سننهم، بل ولا أصحاب السير، كابن إسحاق وابن هشام. وهل يمكن للمسلمين أن يختلفوا للحكم على الغنائم، ويتنازعوا ولايتها، والرسول بين أظهرهم؟ ومتى عهد ذلك من سيرتهم؟ سبحانك
الأول- ذهب بعضهم إلى أن أنفال بدر قسمت من غير تخميس، ثم نزلت بعد ذلك آية الخمس، فنسخت الأولى.
قال ابن كثير: فيه نظر. ويرد عليه حديث عليّ بن أبي طالب في شارفيه اللذين حصلا له، من الخمس، يوم بدر. فالصواب أنها مجملة محكمة، بيّن مصارفها في آية الخمس.
الثاني- روي عن عطاء أنه فسر (الأنفال) بما شذّ من المشركين إلى المسلمين في غير قتال من دابة أو أمة أو متاع. قال: فهو نفل للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم يصنع به ما يشاء.
قال ابن كثير: وهذا يقتضي أنه فسر (الأنفال) بالفيء، وهو ما أخذ من الكفار من غير قتال.
قلت: صدق (النفل) عليه، لا شك فيه، وأما كونه المراد من الآية بخصوصه، فلا يساعده سبب نزولها المارّ ذكره، لا سيما قوله: وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ المشير إلى التنازع المتقدم.
ثم قال ابن كثير: واختار ابن جرير أنها الزيادة على القسم، أي ما يدفع إلى الغازي زائدا على سهمه من المغنم، والكلام الذي قلته قبل، يجري هنا أيضا.
ونقل الرازي عن القاضي أن كل هذه الوجوه تحتمله الآية. قال: وليس فيها دليل على ترجيح بعضها على بعض، وإن صح في الأخبار ما يدل على التعين، قضى به. وإلا فالكل محتمل. وكما أن كل واحد منها جائز، فكذلك إرادة الجميع جائزة، فإنه لا تناقض بينها. أي لصدق (النّفل) عليها.
الثالث- وقع عند الزمخشري أن المسلمين اختلفوا في غنائم بدر، لمن الحكم فيها اللمهاجرين أم للأنصار، أم لهم جميعا؟ فأجيبوا بأن الحاكم فيها الرسول، وليس لأحد فيها حكم. وتأثر الزمخشري أبو السعود في سوقه لما ذكر، وزاد عليه اعتماده له، بتطويل مملّ. ولا أدري من أين سرت لهم هذه الرواية. فإن رواة الآثار لم يخرجوها في صحاحهم ولا سننهم، بل ولا أصحاب السير، كابن إسحاق وابن هشام. وهل يمكن للمسلمين أن يختلفوا للحكم على الغنائم، ويتنازعوا ولايتها، والرسول بين أظهرهم؟ ومتى عهد ذلك من سيرتهم؟ سبحانك
254
هذا بهتان عظيم! ولكن هو الرأي (قاتله الله!) ونبذ كتب السنة، والتقليد البحث، الذي لا يهتم صاحبه بحقائق الأشياء، ولا يريد معرفتها ولا فحصها بالعقل يضع قدمه على القدم، حيث يكون مطواعا لآراء غيره، منقادا لها مصدقا ما ينطق به فمه، غثّا كان أو سمينا. اللهم نوّر بصيرتنا بفضلك.
وقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ أي في الاختلاف والتخاصم، وكونوا متحدين متآخين في الله.
وقوله تعالى: وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ أي أحوال بينكم، يعني ما بينكم من الأحوال، حق تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق.
وقوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي في قسمه بينكم، على ما أراه الله تعالى. وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ متعلق بالأوامر الثلاثة.
قال الزمخشري: جعل التقوى، وإصلاح ذات البين، وطاعة الله ورسوله، من لوازم الإيمان وموجباته، ليعلمهم أن كمال الإيمان موقوف على التوفر عليها: فمعنى قوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي كاملي الإيمان.
ثم بيّن تعالى من أريد بال (مؤمنين) بذكر أوصافهم الجليلة، المستتبعة لما ذكر من الخصال الثلاث، ترغيبا لهم في الامتثال بالأوامر المذكورة، فقال سبحانه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٢]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أي الكاملون المخلصون فيه الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ أي حقه أو وعيده وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي فزعت لذكره، واقشعرت إشفاقا ألا تكون قامت بحقه، وتهيبا من جلاله وعزة سلطانه، وبطشه بالعصاة وعقابه.
قال الجشمي: ومتى قيل: لم جاز وصفهم هاهنا بالوجل والطمأنينة في قوله الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ [الرعد: ٢٨]، فجوابنا فيه وجوه:
منها: أنه تطمئن قلوبهم عند ذكر نعمه، وتوجل لخوف عقابه بارتكاب معاصيه.
ومنها: أن قلوبهم تطمئن لمعرفة توحيده، ووعده، ووعيده، فعند ذلك توجل
وقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ أي في الاختلاف والتخاصم، وكونوا متحدين متآخين في الله.
وقوله تعالى: وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ أي أحوال بينكم، يعني ما بينكم من الأحوال، حق تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق.
وقوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي في قسمه بينكم، على ما أراه الله تعالى. وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ متعلق بالأوامر الثلاثة.
قال الزمخشري: جعل التقوى، وإصلاح ذات البين، وطاعة الله ورسوله، من لوازم الإيمان وموجباته، ليعلمهم أن كمال الإيمان موقوف على التوفر عليها: فمعنى قوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي كاملي الإيمان.
ثم بيّن تعالى من أريد بال (مؤمنين) بذكر أوصافهم الجليلة، المستتبعة لما ذكر من الخصال الثلاث، ترغيبا لهم في الامتثال بالأوامر المذكورة، فقال سبحانه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٢]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أي الكاملون المخلصون فيه الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ أي حقه أو وعيده وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي فزعت لذكره، واقشعرت إشفاقا ألا تكون قامت بحقه، وتهيبا من جلاله وعزة سلطانه، وبطشه بالعصاة وعقابه.
قال الجشمي: ومتى قيل: لم جاز وصفهم هاهنا بالوجل والطمأنينة في قوله الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ [الرعد: ٢٨]، فجوابنا فيه وجوه:
منها: أنه تطمئن قلوبهم عند ذكر نعمه، وتوجل لخوف عقابه بارتكاب معاصيه.
ومنها: أن قلوبهم تطمئن لمعرفة توحيده، ووعده، ووعيده، فعند ذلك توجل
لأوامره ونواهيه، خوف التقصير في الواجبات، والإقدام على المعاصي، والمستقبل يتغير حاله. انتهى.
وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ أي حججه وهي القرآن زادَتْهُمْ إِيماناً أي يقينا وطمأنينة نفس، إلى ما عندهم فإن تظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه، وأثبت لقدمه.
وقد استدل البخاري وغيره من الأئمة بهذه الآية وأشباهها، على زيادة الإيمان وتفاضله في القلوب، كما هو مذهب جمهور الأمة. بل قد حكى الإجماع عليه غير واحد، كالشافعيّ وأحمد بن حنبل وأبي عبيد وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي لا يرجون سواه، ولا يخشون غيره، ولا يفوّضون أمورهم إلى غيره.
ولما ذكر تعالى، من أعمالهم الحسنة، أعمال القلوب من الخشية والإخلاص والتوكل، أعقبه بأعمال الجوارح من الصلاة والصدقة، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٣]
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي المفروضة بحدودها وأركانها، في أوقاتها.
والموصول نعت للموصول الأول، أو بيان له، أو منصوب على المدح.
وقوله وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ عامّ في الزكاة، وأنواع البر والقربات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٤]
أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)
أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا أي لا شك في إيمانهم. وحَقًّا صفة لمصدر محذوف، أي إيمانا حقّا أو مصدر مؤكد للجملة، أي حق ذلك حقّا، كقولك. هو عبد الله حقّا.
قال عمرة بن مرة (في هذه الآية) : إنما أنزل القرآن بلسان العرب، كقولك:
فلان سيّد حقّا، وفي القوم سادة. وفلان تاجر حقّا، وفي القوم تجار. وفلان شاعر حقّا، وفي القوم شعراء. انتهى.
وكأنه أراد الرد على من زعم أن (حقّا) من صلة قوله: لَهُمْ دَرَجاتٌ بعد، تأكيدا له، وأن الكلام تم عند قوله الْمُؤْمِنُونَ، فإن هذا الزعم يصان عنه أسلوب التنزيل الحكيم.
وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ أي حججه وهي القرآن زادَتْهُمْ إِيماناً أي يقينا وطمأنينة نفس، إلى ما عندهم فإن تظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه، وأثبت لقدمه.
وقد استدل البخاري وغيره من الأئمة بهذه الآية وأشباهها، على زيادة الإيمان وتفاضله في القلوب، كما هو مذهب جمهور الأمة. بل قد حكى الإجماع عليه غير واحد، كالشافعيّ وأحمد بن حنبل وأبي عبيد وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي لا يرجون سواه، ولا يخشون غيره، ولا يفوّضون أمورهم إلى غيره.
ولما ذكر تعالى، من أعمالهم الحسنة، أعمال القلوب من الخشية والإخلاص والتوكل، أعقبه بأعمال الجوارح من الصلاة والصدقة، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٣]
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي المفروضة بحدودها وأركانها، في أوقاتها.
والموصول نعت للموصول الأول، أو بيان له، أو منصوب على المدح.
وقوله وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ عامّ في الزكاة، وأنواع البر والقربات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٤]
أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)
أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا أي لا شك في إيمانهم. وحَقًّا صفة لمصدر محذوف، أي إيمانا حقّا أو مصدر مؤكد للجملة، أي حق ذلك حقّا، كقولك. هو عبد الله حقّا.
قال عمرة بن مرة (في هذه الآية) : إنما أنزل القرآن بلسان العرب، كقولك:
فلان سيّد حقّا، وفي القوم سادة. وفلان تاجر حقّا، وفي القوم تجار. وفلان شاعر حقّا، وفي القوم شعراء. انتهى.
وكأنه أراد الرد على من زعم أن (حقّا) من صلة قوله: لَهُمْ دَرَجاتٌ بعد، تأكيدا له، وأن الكلام تم عند قوله الْمُؤْمِنُونَ، فإن هذا الزعم يصان عنه أسلوب التنزيل الحكيم.
256
وقد تطرف بعض المفسرين هنا لمسألة شهيرة. وهي: هل يجوز أن يقال: أنا مؤمن حقا.
قال الطوسي في (نقد المحصل) : المعتزلة ومن تبعهم يقولون: اليقين لا يحتمل الشك والزوال. فقول القائل: (أنا مؤمن إن شاء الله) لا يصح إلا عند الشك، أو خوف الزوال. وما يوهم أحدهما لا يجوز أن يقال للتبرك. انتهى.
والغزاليّ في الإحياء، بسط هذه المسألة، وأجاب عمن سوّغ ذلك بأجوبة:
منها: التخوف من الخاتمة، لأن الإيمان موقوف على سلامة الخاتمة.
ومنها: الاحتراز من تزكية النفس.
ومنها: غير ذلك. انظره بطوله.
وقال ابن حزم في (الفصل) : القول عندنا في هذه المسألة أن هذه صفة يعلمها المرء من نفسه، فإن كان يدري أنه مصدّق بالله عز وجل، وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وبكل ما أتى به، وأنه يقر بلسانه بكل ذلك، فواجب عليه أن يعترف بذلك، كما أمر تعالى في قوله: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى: ١١]. ولا نعمة أوكد ولا أفضل، ولا أولى بالشكر، من نعمة الإسلام. فواجب عليه أن يقول: أنا مؤمن مسلم قطعا عند الله تعالى، في وقتي هذا. ولا فرق بين قوله (أنا مؤمن مسلم) وبين قوله (أنا أسود أو أنا أبيض) وهكذا سائر صفاته التي لا يشك فيها. وليس هذا من باب الامتداح والعجب في شيء، لأنه فرض عليه أن يحقن دمه بشهادة التوحيد. وقول ابن مسعود: (أنا مؤمن إن شاء الله) عندنا صحيح، لأن الإسلام والإيمان اسمان منقولان عن موضوعهما في اللغة، إلى جميع البر والطاعات. فإنما منع ابن مسعود الجزم على معنى أنه مستوف لجميع الطاعات، وهذا صحيح. ومن ادعى لنفسه هذا فقد كذب بلا شك. وما منع أن يقول المرء (إنّي مؤمن) بمعنى (مصدق).
وأما قول المانعين: (من قال أنا مؤمن، فليقل إنه من أهل الجنة) فالجواب: إنا نقول إن متنا على ما نحن عليه الآن، فلا بد لنا من الجنة بلا شك. وبرهان ذلك أنه قد صح من نصوص القرآن والسنن والإجماع، أن من آمن بالله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وبكل ما جاء به، ولم يأت بما هو كفر، فإنه في الجنة إلا أننا لا ندري ما يفعل بنا في الدنيا، ولا نأمن مكر الله تعالى، ولا إضلاله، ولا كيد الشيطان ولا ندري ماذا نكسب غدا، ونعوذ بالله من الخذلان. انتهى كلام ابن حزم رحمه الله، ولقد أجاد فيما أفاد.
قال الطوسي في (نقد المحصل) : المعتزلة ومن تبعهم يقولون: اليقين لا يحتمل الشك والزوال. فقول القائل: (أنا مؤمن إن شاء الله) لا يصح إلا عند الشك، أو خوف الزوال. وما يوهم أحدهما لا يجوز أن يقال للتبرك. انتهى.
والغزاليّ في الإحياء، بسط هذه المسألة، وأجاب عمن سوّغ ذلك بأجوبة:
منها: التخوف من الخاتمة، لأن الإيمان موقوف على سلامة الخاتمة.
ومنها: الاحتراز من تزكية النفس.
ومنها: غير ذلك. انظره بطوله.
وقال ابن حزم في (الفصل) : القول عندنا في هذه المسألة أن هذه صفة يعلمها المرء من نفسه، فإن كان يدري أنه مصدّق بالله عز وجل، وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وبكل ما أتى به، وأنه يقر بلسانه بكل ذلك، فواجب عليه أن يعترف بذلك، كما أمر تعالى في قوله: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى: ١١]. ولا نعمة أوكد ولا أفضل، ولا أولى بالشكر، من نعمة الإسلام. فواجب عليه أن يقول: أنا مؤمن مسلم قطعا عند الله تعالى، في وقتي هذا. ولا فرق بين قوله (أنا مؤمن مسلم) وبين قوله (أنا أسود أو أنا أبيض) وهكذا سائر صفاته التي لا يشك فيها. وليس هذا من باب الامتداح والعجب في شيء، لأنه فرض عليه أن يحقن دمه بشهادة التوحيد. وقول ابن مسعود: (أنا مؤمن إن شاء الله) عندنا صحيح، لأن الإسلام والإيمان اسمان منقولان عن موضوعهما في اللغة، إلى جميع البر والطاعات. فإنما منع ابن مسعود الجزم على معنى أنه مستوف لجميع الطاعات، وهذا صحيح. ومن ادعى لنفسه هذا فقد كذب بلا شك. وما منع أن يقول المرء (إنّي مؤمن) بمعنى (مصدق).
وأما قول المانعين: (من قال أنا مؤمن، فليقل إنه من أهل الجنة) فالجواب: إنا نقول إن متنا على ما نحن عليه الآن، فلا بد لنا من الجنة بلا شك. وبرهان ذلك أنه قد صح من نصوص القرآن والسنن والإجماع، أن من آمن بالله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وبكل ما جاء به، ولم يأت بما هو كفر، فإنه في الجنة إلا أننا لا ندري ما يفعل بنا في الدنيا، ولا نأمن مكر الله تعالى، ولا إضلاله، ولا كيد الشيطان ولا ندري ماذا نكسب غدا، ونعوذ بالله من الخذلان. انتهى كلام ابن حزم رحمه الله، ولقد أجاد فيما أفاد.
257
وقوله تعالى: لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي منازل ومقامات عاليات في الجنة وَمَغْفِرَةٌ أي تجاوز لسيئاتهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وهو ما أعدّ لهم من نعيم الجنة.
تنبيه:
قال الجشمي: تدل الآية على أشياء:
منها: أن الإيمان اسم شرعي لثلاث خصال: القول، والاعتقاد، والعمل.
خلاف ما تقوله المرجئة. لأن الوجل وزيادة التصديق من فعل القلب، والتدبر والتفكر كذلك، والصلاة والإنفاق من أعمال الجوارح، والتوكل يشتمل على فعل القلب والجوارح. ثم بين في آخره أن من جمع هذه الخصال فهو المؤمن حقا.
ومنها: أنها تدل على أن الإيمان يزيد وينقص، لأن هذه الطاعات تزيد وتنقص، وقد نص على ذلك في قوله زادَتْهُمْ إِيماناً.
ومنها: أن الواجب عند تلاوة القرآن التدبر والتفكر فيما أمر ونهى، ووعد وأوعد، لينجرّ للرغبة والرهبة. وذلك حثّ على الطاعة، وزجر عن المعاصي.
ومنها: وجوب التوكل عليه. والتوكل على ضربين: منها في الدنيا، ومنها في الدين. أما في الدنيا فلا بد من خصال:
منها: أن يطلب مصالح دنياه من الوجه الذي أتيح له، ولا يطلب محرما.
ومنها: إذا حرم الرزق الحلال لا يعدل إلى محرّم.
ومنها: ألا يظهر الجزع عند الضيق، بل يسلك فيه طريق الصبر، واعتقاد أن ما هو فيه مصلحة له.
ومنها: أن ما يرزق من النعم بعدها، من جهته تعالى. إما بنفسه أو بواسطة.
ومنها: ألا يحبسه عن حقوقه خشية الفقر.
ومنها: ألا يسرف في النفقة ولا يقتر.
فعند اجتماع هذه الخصال يصير متوكلا.
فأما الذي يزعمه بعضهم أن التوكل إهمال النفس، وترك العمل- فليس بشيء. وقد أمر الله تعالى بالإنفاق، وبالعمل. وثبت عن الصحابة- وهم سادات الإسلام- التجارة والزراعة والأعمال. وكذلك التابعين. وبهذا أجرى الله العادة. وقد أمر النبيّ «١» صلى الله عليه وسلّم الأعرابيّ أن يعقل ناقته ويتوكل.
تنبيه:
قال الجشمي: تدل الآية على أشياء:
منها: أن الإيمان اسم شرعي لثلاث خصال: القول، والاعتقاد، والعمل.
خلاف ما تقوله المرجئة. لأن الوجل وزيادة التصديق من فعل القلب، والتدبر والتفكر كذلك، والصلاة والإنفاق من أعمال الجوارح، والتوكل يشتمل على فعل القلب والجوارح. ثم بين في آخره أن من جمع هذه الخصال فهو المؤمن حقا.
ومنها: أنها تدل على أن الإيمان يزيد وينقص، لأن هذه الطاعات تزيد وتنقص، وقد نص على ذلك في قوله زادَتْهُمْ إِيماناً.
ومنها: أن الواجب عند تلاوة القرآن التدبر والتفكر فيما أمر ونهى، ووعد وأوعد، لينجرّ للرغبة والرهبة. وذلك حثّ على الطاعة، وزجر عن المعاصي.
ومنها: وجوب التوكل عليه. والتوكل على ضربين: منها في الدنيا، ومنها في الدين. أما في الدنيا فلا بد من خصال:
منها: أن يطلب مصالح دنياه من الوجه الذي أتيح له، ولا يطلب محرما.
ومنها: إذا حرم الرزق الحلال لا يعدل إلى محرّم.
ومنها: ألا يظهر الجزع عند الضيق، بل يسلك فيه طريق الصبر، واعتقاد أن ما هو فيه مصلحة له.
ومنها: أن ما يرزق من النعم بعدها، من جهته تعالى. إما بنفسه أو بواسطة.
ومنها: ألا يحبسه عن حقوقه خشية الفقر.
ومنها: ألا يسرف في النفقة ولا يقتر.
فعند اجتماع هذه الخصال يصير متوكلا.
فأما الذي يزعمه بعضهم أن التوكل إهمال النفس، وترك العمل- فليس بشيء. وقد أمر الله تعالى بالإنفاق، وبالعمل. وثبت عن الصحابة- وهم سادات الإسلام- التجارة والزراعة والأعمال. وكذلك التابعين. وبهذا أجرى الله العادة. وقد أمر النبيّ «١» صلى الله عليه وسلّم الأعرابيّ أن يعقل ناقته ويتوكل.
(١) أخرجه الترمذي في: صفة القيامة والرقائق والورع، ٦٠- باب حدثنا عمرو بن عليّ.
258
فأما التوكل في الدين فخصال:
منها: أن يقوم بالواجبات، ويجتنب المحارم، لأنه بذلك يصل إلى الجنة والرحمة.
ومنها: أن يسأله التوفيق والعصمة.
ومنها: أن يرى جميع نعمه منه، إذ حصل بهدايته وتمكينه ولطفه.
ومنها: أن لا يثق بطاعته جملة، بل يطيع ويجتنب المعاصي، ويرجو رحمة ربه، ويخاف عذابه. فعند ذلك يكون متوكلا.
ثم قال الجشمي: وتدل الآية على أن تارك الصلاة والزكاة لا يكون مؤمنا، خلاف قول المرجئة. انتهى.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٥]
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥)
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ الكاف في (كما) كاف التشبيه، والعامل فيه يحتمل وجوها، فإما هو معنى الفعل الذي دل عليه قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ، تقديره نزع الأنفال من أيديهم بالحق، كما أخرجك بالحق. وإما هو معنى الحق، يعني هذا الذكر حق، كما أخرجك بالحق. وإما أنه خبر مبتدأ محذوف هو المشبه، أي حالهم هذه في كراهة تنفيل الغزاة، كحال إخراجك من بيتك للحرب في كراهتهم له (كما سيأتي في تفصيل القصة). وهذا هو قول الفرّاء، فإنه قال: الكاف شبهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته، بالقصة المتقدمة، التي هي سؤالهم عن الأنفال وكراهتهم لما وقع فيها، مع أنها أولى بحالهم.
وقوله تعالى: مِنْ بَيْتِكَ أراد به بالمدينة، أو المدينة نفسها، لأنها مثواه.
أي إخراجه إلى بدر. وزعم بعض أن المراد إخراجه صلّى الله عليه وسلّم من مكة إلى المدينة للهجرة.
وهو ساقط، برده سياق القصة البدرية في الآيات بعد. وملخصها أن أبا سفيان قدم بعير من الشام في تجارة عظيمة، فخرج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه ليغنموها، فعلمت قريش. فخرج أبو جهل ومقاتلو مكة ليذبّوا عنها، وهم النفير. وأخذ أبو سفيان بالعير
منها: أن يقوم بالواجبات، ويجتنب المحارم، لأنه بذلك يصل إلى الجنة والرحمة.
ومنها: أن يسأله التوفيق والعصمة.
ومنها: أن يرى جميع نعمه منه، إذ حصل بهدايته وتمكينه ولطفه.
ومنها: أن لا يثق بطاعته جملة، بل يطيع ويجتنب المعاصي، ويرجو رحمة ربه، ويخاف عذابه. فعند ذلك يكون متوكلا.
ثم قال الجشمي: وتدل الآية على أن تارك الصلاة والزكاة لا يكون مؤمنا، خلاف قول المرجئة. انتهى.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٥]
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥)
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ الكاف في (كما) كاف التشبيه، والعامل فيه يحتمل وجوها، فإما هو معنى الفعل الذي دل عليه قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ، تقديره نزع الأنفال من أيديهم بالحق، كما أخرجك بالحق. وإما هو معنى الحق، يعني هذا الذكر حق، كما أخرجك بالحق. وإما أنه خبر مبتدأ محذوف هو المشبه، أي حالهم هذه في كراهة تنفيل الغزاة، كحال إخراجك من بيتك للحرب في كراهتهم له (كما سيأتي في تفصيل القصة). وهذا هو قول الفرّاء، فإنه قال: الكاف شبهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته، بالقصة المتقدمة، التي هي سؤالهم عن الأنفال وكراهتهم لما وقع فيها، مع أنها أولى بحالهم.
وقوله تعالى: مِنْ بَيْتِكَ أراد به بالمدينة، أو المدينة نفسها، لأنها مثواه.
أي إخراجه إلى بدر. وزعم بعض أن المراد إخراجه صلّى الله عليه وسلّم من مكة إلى المدينة للهجرة.
وهو ساقط، برده سياق القصة البدرية في الآيات بعد. وملخصها أن أبا سفيان قدم بعير من الشام في تجارة عظيمة، فخرج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه ليغنموها، فعلمت قريش. فخرج أبو جهل ومقاتلو مكة ليذبّوا عنها، وهم النفير. وأخذ أبو سفيان بالعير
طريق الساحل، فنجت. فقيل لأبي جهل: ارجع، فأبى وسار إلى بدر. فشاور صلّى الله عليه وسلّم أصحابه
وقال لهم: إن الله وعدني إحدى الطائفتين
، فوافقوه على قتال النفير، وكره بعضهم ذلك، وقالوا: لم نستعد له، كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٦]
يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦)
يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ وهو الجهاد وتلقي النفير بَعْدَ ما تَبَيَّنَ أي ظهر لهم أنهم ينصرون فيه كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ أي يكرهون القتال كراهة من يساق إلى الموت، وهو ناظر إلى أسبابه، وكان ذلك لقلة عددهم، وعدم تأهبهم.
إذ روي أنهم كانوا ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا، فيهم فارسان، المقداد والزبير. وقيل الأول فقط. والمشركون ألف، ذوو عدّة وعدّة وفيه تعريض بأنهم إنما يسار بهم إلى الظفر والغنيمة للوعد الحق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٧]
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧)
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ العير أو النفير أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أي تحبون أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وهو العير، لا ذات الشوكة، وهي النفير.
والشوكة: السلاح أو حدته وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ أي يثبته ويعليه، وهو دعوة رسوله بِكَلِماتِهِ أي بآياته المنزلة، وأوامره في هذا الشأن وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ أي يستأصلهم، فلا يبقى منهم أحدا.
ثم بيّن تعالى الحكمة في اختيار ذات الشوكة لهم ونصرتهم عليها، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٨]
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨)
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ أي ليثبت الدين الحق، ويمحق الدين الباطل، باستئصال أهله، مع ظهور شوكتهم وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ أي المشركون ذلك.
ثم ذكرهم تعالى التجاءهم إليه، واستمدادهم منه النصر يوم بدر، وإمداده حينئذ بقوله سبحانه:
وقال لهم: إن الله وعدني إحدى الطائفتين
، فوافقوه على قتال النفير، وكره بعضهم ذلك، وقالوا: لم نستعد له، كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٦]
يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦)
يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ وهو الجهاد وتلقي النفير بَعْدَ ما تَبَيَّنَ أي ظهر لهم أنهم ينصرون فيه كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ أي يكرهون القتال كراهة من يساق إلى الموت، وهو ناظر إلى أسبابه، وكان ذلك لقلة عددهم، وعدم تأهبهم.
إذ روي أنهم كانوا ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا، فيهم فارسان، المقداد والزبير. وقيل الأول فقط. والمشركون ألف، ذوو عدّة وعدّة وفيه تعريض بأنهم إنما يسار بهم إلى الظفر والغنيمة للوعد الحق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٧]
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧)
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ العير أو النفير أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أي تحبون أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وهو العير، لا ذات الشوكة، وهي النفير.
والشوكة: السلاح أو حدته وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ أي يثبته ويعليه، وهو دعوة رسوله بِكَلِماتِهِ أي بآياته المنزلة، وأوامره في هذا الشأن وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ أي يستأصلهم، فلا يبقى منهم أحدا.
ثم بيّن تعالى الحكمة في اختيار ذات الشوكة لهم ونصرتهم عليها، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٨]
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨)
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ أي ليثبت الدين الحق، ويمحق الدين الباطل، باستئصال أهله، مع ظهور شوكتهم وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ أي المشركون ذلك.
ثم ذكرهم تعالى التجاءهم إليه، واستمدادهم منه النصر يوم بدر، وإمداده حينئذ بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٩]
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩)
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ أي تطلبون منه الغوث، وهو التخلص من الشدة، والعون بالنضر عليهم فَاسْتَجابَ لَكُمْ أي الدعاء أَنِّي مُمِدُّكُمْ أي معينكم بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ بكسر الدال، أي متتابعين، بعضهم على إثر بعض، أو مردفين غيرهم. وقرئ بفتحها على معنى أن الله أردف المسلمين بهم، أو مردفين بغيرهم، أي من ملائكة آخرين. وقرئ (بآلاف) بالجمع، كما يأتي.
روى مسلم «١» عن ابن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا فاستقبل نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم القبلة ثم مدّ يده فجعل يهتف بربه ويقول: اللهم أنجز لي ما وعدتني. اللهم آتني ما وعدتني. اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض. فما زال يهتف بربه مادّا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه. فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه، فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله! كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله عز وجل إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ.
وروى البخاري «٢» عن ابن عباس أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال يوم بدر: هذا جبريل آخذ برأس فرسه، عليه أداة الحرب.
وروى البخاري «٣» عن معاذ بن رفاعة، عن رافع الزرقيّ، عن أبيه- وكان ممن شهد بدرا- قال: جاء جبريل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما تعدّون أهل بدر فيكم؟ قال:
من أفضل المسمين- أو كلمة نحوها- قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة.
تنبيهات:
الأول- قال الجشمي: تدل الآية على أن الملك يجوز أن يتشبه بالآدمي، ولا يخرج من كونه ملكا، بأن يغير أطرافهم دون الأجزاء التي صاروا بها أحياء والذي ينكر أن يقدر أحد على تغيير الصور، بل نقول: إن الله هو الذي يقدر على ذلك.
انتهى.
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩)
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ أي تطلبون منه الغوث، وهو التخلص من الشدة، والعون بالنضر عليهم فَاسْتَجابَ لَكُمْ أي الدعاء أَنِّي مُمِدُّكُمْ أي معينكم بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ بكسر الدال، أي متتابعين، بعضهم على إثر بعض، أو مردفين غيرهم. وقرئ بفتحها على معنى أن الله أردف المسلمين بهم، أو مردفين بغيرهم، أي من ملائكة آخرين. وقرئ (بآلاف) بالجمع، كما يأتي.
روى مسلم «١» عن ابن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا فاستقبل نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم القبلة ثم مدّ يده فجعل يهتف بربه ويقول: اللهم أنجز لي ما وعدتني. اللهم آتني ما وعدتني. اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض. فما زال يهتف بربه مادّا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه. فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه، فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله! كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله عز وجل إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ.
وروى البخاري «٢» عن ابن عباس أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال يوم بدر: هذا جبريل آخذ برأس فرسه، عليه أداة الحرب.
وروى البخاري «٣» عن معاذ بن رفاعة، عن رافع الزرقيّ، عن أبيه- وكان ممن شهد بدرا- قال: جاء جبريل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما تعدّون أهل بدر فيكم؟ قال:
من أفضل المسمين- أو كلمة نحوها- قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة.
تنبيهات:
الأول- قال الجشمي: تدل الآية على أن الملك يجوز أن يتشبه بالآدمي، ولا يخرج من كونه ملكا، بأن يغير أطرافهم دون الأجزاء التي صاروا بها أحياء والذي ينكر أن يقدر أحد على تغيير الصور، بل نقول: إن الله هو الذي يقدر على ذلك.
انتهى.
(١) أخرجه مسلم في: الجهاد والسير، حديث رقم ٥٨.
(٢) أخرجه البخاري في: المغازي، ١١- باب شهود الملائكة بدرا، حديث رقم ١٨٥٥.
(٣) أخرجه البخاري في: المغازي، ١١- باب شهود الملائكة بدرا، حديث رقم ١٨٥٣.
(٢) أخرجه البخاري في: المغازي، ١١- باب شهود الملائكة بدرا، حديث رقم ١٨٥٥.
(٣) أخرجه البخاري في: المغازي، ١١- باب شهود الملائكة بدرا، حديث رقم ١٨٥٣.
261
الثاني- قال الزمخشري: وعن السدّي (بآلاف من الملائكة) - على الجمع- ليوافق ما في سورة آل عمران. فإن قلت: فيم يعتذر لمن قرأ على التوحيد، ولم يفسر (المردفين) بإرداف الملائكة ملائكة آخرين، و (المردفين) بارتدافهم غيرهم؟
قلت: بأن المراد بالألف، من قاتل منهم، أو الوجوه منهم، الذين من سواهم أتباع لهم. انتهى.
وقال شمس الدين ابن القيّم في (زاد المعاد) في بحث غزوة بدر:
فإن قيل: هاهنا ذكر أنه أمدهم بألف، وفي سورة آل عمران قال: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران: ١٢٤- ١٢٥]، فكيف الجمع بينهما؟
قيل: اختلف في هذا الإمداد الذي بثلاثة آلاف، والذي بخمسة، على قولين:
أحدهما: أنه كان يوم (أحد). وكان إمدادا معلقا على شرط، فلما فات شرطه، فات الإمداد. وهذا قول الضحاك ومقاتل. وإحدى الروايتين عن عكرمة.
والثاني: أنه كان يوم بدر، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة. والرواية الأخرى عن عكرمة واختاره جماعة من المفسرين. وحجة هؤلاء أن السياق يدل على ذلك.
فإنه سبحانه قال: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا، إلى أن قال: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ أي هذا الإمداد إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ [آل عمران: ١٢٣- ١٢٦]. قال هؤلاء: فلما استغاثوا، أمدهم بألف، ثم أمدهم بتمام ثلاثة آلاف، ثم أمدهم بتمام خمسة آلاف، لما صبروا واتقوا. وكان هذا التدريج، ومتابعة الإمداد، أحسن موقعا، وأقوى لتقويتهم وأسرّ لها من أن يأتي مرة واحدة، وهو بمنزلة متابعة الوحي، ونزوله مرة بعد مرة.
وقالت الفرقة الأولى: القصة في سياق (أحد) وإنما أدخل ذكر (بدر) اعتراضا في أثنائها، فإنه سبحانه قال: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران: ١٢١- ١٢٢]، ثم قال: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فذكره نعمه عليهم، لما نصرهم ببدر وهم أذلة، ثم عاد إلى قصة (أحد)، وأخبر عن قول رسوله لهم أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ
قلت: بأن المراد بالألف، من قاتل منهم، أو الوجوه منهم، الذين من سواهم أتباع لهم. انتهى.
وقال شمس الدين ابن القيّم في (زاد المعاد) في بحث غزوة بدر:
فإن قيل: هاهنا ذكر أنه أمدهم بألف، وفي سورة آل عمران قال: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران: ١٢٤- ١٢٥]، فكيف الجمع بينهما؟
قيل: اختلف في هذا الإمداد الذي بثلاثة آلاف، والذي بخمسة، على قولين:
أحدهما: أنه كان يوم (أحد). وكان إمدادا معلقا على شرط، فلما فات شرطه، فات الإمداد. وهذا قول الضحاك ومقاتل. وإحدى الروايتين عن عكرمة.
والثاني: أنه كان يوم بدر، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة. والرواية الأخرى عن عكرمة واختاره جماعة من المفسرين. وحجة هؤلاء أن السياق يدل على ذلك.
فإنه سبحانه قال: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا، إلى أن قال: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ أي هذا الإمداد إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ [آل عمران: ١٢٣- ١٢٦]. قال هؤلاء: فلما استغاثوا، أمدهم بألف، ثم أمدهم بتمام ثلاثة آلاف، ثم أمدهم بتمام خمسة آلاف، لما صبروا واتقوا. وكان هذا التدريج، ومتابعة الإمداد، أحسن موقعا، وأقوى لتقويتهم وأسرّ لها من أن يأتي مرة واحدة، وهو بمنزلة متابعة الوحي، ونزوله مرة بعد مرة.
وقالت الفرقة الأولى: القصة في سياق (أحد) وإنما أدخل ذكر (بدر) اعتراضا في أثنائها، فإنه سبحانه قال: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران: ١٢١- ١٢٢]، ثم قال: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فذكره نعمه عليهم، لما نصرهم ببدر وهم أذلة، ثم عاد إلى قصة (أحد)، وأخبر عن قول رسوله لهم أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ
262
بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ
[آل عمران: ١٢٣- ١٢٦]، ثم وعدهم أنهم إن صبروا واتقوا أمدهم بخمسة آلاف. فهذا من قول رسوله، والإمداد الذي ببدر من قوله تعالى، وهذا بخمسة آلاف، وإمداد بدر بألف، وهذا معلق على شرط، وذلك مطلق. والقصة في سورة آل عمران، هي قصة (أحد) مستوفاة مطولة، و (بدر) ذكرت فيها اعتراضا.
والقصة في سورة الأنفال قصة (بدر) مستوفاة مطولة، فالسياق في آل عمران غير السياق في الأنفال. يوضح هذا أن قوله: وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا [آل عمران: ١٢٥]، قد قال مجاهد: هو يوم (أحد)، وهذا يستلزم أن يكون الإمداد المذكور فيه، فلا يصح قوله إن الإمداد بهذا العدد كان يوم بدر وإتيانهم من فورهم هذا يوم أحد، والله أعلم. انتهى.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ١٠]
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠)
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ أي هذا الإمداد إِلَّا بُشْرى أي بشارة لكم بالنصر وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي من غير أن يكون فيه شركة لغيره إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ قال بعض الحكماء: ذكر تعالى في هذه الآية حكمة إخبارهم بالنصر، وأنه يريد بشراهم وطمأنينتهم وتوكلهم عليه، وهو أدعى إلى قوة العزيمة.
فإن العامل إذا أيقن بأن معه قاهر الكون: رفعته تلك الفكرة، وجعلته أقوى الناس، وأقدرهم على صعاب الأمور، لا كما يظنه المنتكسون الجاهلون الكسالى اليائسون من روح الله، حيث جعلوا التوكل ذريعة إلى البطالة، فباءوا بغضب على غضب. انتهى.
ثم ذكّرهم سبحانه بنعم أخرى جعلها سببا لنصرهم، وللعناية بهم، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ١١]
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١)
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ أي يلقي عليكم النوم للأمن الكائن منه تعالى،
[آل عمران: ١٢٣- ١٢٦]، ثم وعدهم أنهم إن صبروا واتقوا أمدهم بخمسة آلاف. فهذا من قول رسوله، والإمداد الذي ببدر من قوله تعالى، وهذا بخمسة آلاف، وإمداد بدر بألف، وهذا معلق على شرط، وذلك مطلق. والقصة في سورة آل عمران، هي قصة (أحد) مستوفاة مطولة، و (بدر) ذكرت فيها اعتراضا.
والقصة في سورة الأنفال قصة (بدر) مستوفاة مطولة، فالسياق في آل عمران غير السياق في الأنفال. يوضح هذا أن قوله: وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا [آل عمران: ١٢٥]، قد قال مجاهد: هو يوم (أحد)، وهذا يستلزم أن يكون الإمداد المذكور فيه، فلا يصح قوله إن الإمداد بهذا العدد كان يوم بدر وإتيانهم من فورهم هذا يوم أحد، والله أعلم. انتهى.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ١٠]
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠)
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ أي هذا الإمداد إِلَّا بُشْرى أي بشارة لكم بالنصر وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي من غير أن يكون فيه شركة لغيره إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ قال بعض الحكماء: ذكر تعالى في هذه الآية حكمة إخبارهم بالنصر، وأنه يريد بشراهم وطمأنينتهم وتوكلهم عليه، وهو أدعى إلى قوة العزيمة.
فإن العامل إذا أيقن بأن معه قاهر الكون: رفعته تلك الفكرة، وجعلته أقوى الناس، وأقدرهم على صعاب الأمور، لا كما يظنه المنتكسون الجاهلون الكسالى اليائسون من روح الله، حيث جعلوا التوكل ذريعة إلى البطالة، فباءوا بغضب على غضب. انتهى.
ثم ذكّرهم سبحانه بنعم أخرى جعلها سببا لنصرهم، وللعناية بهم، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ١١]
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١)
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ أي يلقي عليكم النوم للأمن الكائن منه تعالى،
مما حصل لكم من الخوف من كثرة عدوّكم. وقد كان أسهرهم الخوف، فألقى تعالى عليهم النوم فأمنوا واستراحوا. وكذلك فعل تعالى بهم يوم (أحد)، كما قال جل ذكره ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ [آل عمران: ١٥٤]، وقرئ يُغَشِّيكُمُ من الإغشاء، بمعنى التغشية والفاعل في الوجهين هو الله تعالى وقرئ (يغشاكم) على إسناد الفعل إلى النعاس.
وفي الصحيح «١»
أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما كان يوم (بدر) في العريش مع الصديق رضي الله عنه، وهما يدعوان، أخذت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنة من النوم، ثم استيقظ متبسما، فقال: أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل، على ثغاياه النقع. ثم خرج من باب العريش، وهو يتلوا سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر: ٤٥].
ثم ذكّرهم تعالى منة أخرى تدل على نصره إياهم بقوله سبحانه: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ أي: من الحدث الأصغر والأكبر، وهو تطهير الظاهر وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ أي وسوسته بأنكم على هذا الرمل لا تتمكنون من المحاربة، ومع فقد الماء كيف تفعلون؟ فأزال تعالى بإنزاله، ذلك. فكان لهم به طهارة باطنة، فكملت لهم الطهارتان، أي من وسوسة أو خاطر سيء، وهو تطهير الباطن وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ أي يقويها بالثقة، بالأمن وزوال الخوف وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ أي على الرمل. قال مجاهد: أنزل الله عليهم المطر، فأطفأ به الغبار، وتلبدت به الأرض، وطابت نفوسهم وثبتت به أقدامهم.
قال الجشمي: قال القاضي: وهو أشبه بالظاهر. وقيل بالصبر وقوة القلب التي أفرغها عليهم، حتى ثبتوا لعدوّهم. وقوله (به) يرجع إلى الماء المنزل، أو إلى ما تقدم من البشارة والنصر.
ثم أشار تعالى إلى نعمة خفية أظهرها تعالى لهم ليشكروه عليها بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ١٢]
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢)
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أي الذين أمدّ بهم المسلمين أَنِّي مَعَكُمْ أي بالعون والنصر.
وفي الصحيح «١»
أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما كان يوم (بدر) في العريش مع الصديق رضي الله عنه، وهما يدعوان، أخذت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنة من النوم، ثم استيقظ متبسما، فقال: أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل، على ثغاياه النقع. ثم خرج من باب العريش، وهو يتلوا سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر: ٤٥].
ثم ذكّرهم تعالى منة أخرى تدل على نصره إياهم بقوله سبحانه: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ أي: من الحدث الأصغر والأكبر، وهو تطهير الظاهر وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ أي وسوسته بأنكم على هذا الرمل لا تتمكنون من المحاربة، ومع فقد الماء كيف تفعلون؟ فأزال تعالى بإنزاله، ذلك. فكان لهم به طهارة باطنة، فكملت لهم الطهارتان، أي من وسوسة أو خاطر سيء، وهو تطهير الباطن وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ أي يقويها بالثقة، بالأمن وزوال الخوف وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ أي على الرمل. قال مجاهد: أنزل الله عليهم المطر، فأطفأ به الغبار، وتلبدت به الأرض، وطابت نفوسهم وثبتت به أقدامهم.
قال الجشمي: قال القاضي: وهو أشبه بالظاهر. وقيل بالصبر وقوة القلب التي أفرغها عليهم، حتى ثبتوا لعدوّهم. وقوله (به) يرجع إلى الماء المنزل، أو إلى ما تقدم من البشارة والنصر.
ثم أشار تعالى إلى نعمة خفية أظهرها تعالى لهم ليشكروه عليها بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ١٢]
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢)
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أي الذين أمدّ بهم المسلمين أَنِّي مَعَكُمْ أي بالعون والنصر.
(١) أخرجه البخاري في: الجهاد، ٧٩- باب ما قيل في درع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والقميص في الحرب.
قال الجشمي: يحتمل مع الملائكة، إذ أرسلهم ردءا للمسلمين، ويحتمل مع المسلمين، كأنه قيل: أوحي إلى الملائكة أني مع المؤمنين، فانصروهم وثبتوهم.
وقوله تعالى: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا أي بدفع الوسواس وبالقتال معهم والحضور مددا وعونا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ أي الخوف.
ثم علمهم تعالى كيفية الضرب بقوله تعالى: فَاضْرِبُوا أمر للمؤمنين أو للملائكة. وعليه، ففيه دليل على أنهم قاتلوا فَوْقَ الْأَعْناقِ أي أعالي الأعناق التي هي المذابح، تطييرا للرؤوس. أو أراد الرؤوس، لأنها فوق الأعناق وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ أي أصابع. جمع (بنانة) قيل: المراد بالبنان، مطلق الأطراف مجازا، تسمية للكل بالجزء، لوقوعها في مقابلة الأعناق والمقاتل. والمعنى: اضربوهم كيفما اتفق من المقاتل وغيرها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ١٣]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣)
ِكَ
أي الضرب أو الأمر به أَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
أي خالفوهما فيما شرعا. وقوله تعالى: مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
تقرير لما قبله، إن أريد بالعقاب ما وقع لهم في الدنيا، أو وعيد بما أعدّ لهم في الآخرة، بعد ما حاق بهم في الدنيا، وبيان لخسرانهم في الدارين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ١٤]
ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤)
ذلِكُمْ خطاب للكفرة على طريقة الالتفات فَذُوقُوهُ أي ذلك العذاب، أيها الكفار، في الدنيا وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ في الآخرة.
ثم نهى تعالى عن الفرار من الزحف، مبينا وعيده بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ١٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ أي الظهور
وقوله تعالى: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا أي بدفع الوسواس وبالقتال معهم والحضور مددا وعونا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ أي الخوف.
ثم علمهم تعالى كيفية الضرب بقوله تعالى: فَاضْرِبُوا أمر للمؤمنين أو للملائكة. وعليه، ففيه دليل على أنهم قاتلوا فَوْقَ الْأَعْناقِ أي أعالي الأعناق التي هي المذابح، تطييرا للرؤوس. أو أراد الرؤوس، لأنها فوق الأعناق وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ أي أصابع. جمع (بنانة) قيل: المراد بالبنان، مطلق الأطراف مجازا، تسمية للكل بالجزء، لوقوعها في مقابلة الأعناق والمقاتل. والمعنى: اضربوهم كيفما اتفق من المقاتل وغيرها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ١٣]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣)
ِكَ
أي الضرب أو الأمر به أَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
أي خالفوهما فيما شرعا. وقوله تعالى: مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
تقرير لما قبله، إن أريد بالعقاب ما وقع لهم في الدنيا، أو وعيد بما أعدّ لهم في الآخرة، بعد ما حاق بهم في الدنيا، وبيان لخسرانهم في الدارين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ١٤]
ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤)
ذلِكُمْ خطاب للكفرة على طريقة الالتفات فَذُوقُوهُ أي ذلك العذاب، أيها الكفار، في الدنيا وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ في الآخرة.
ثم نهى تعالى عن الفرار من الزحف، مبينا وعيده بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ١٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ أي الظهور
بالانهزام. و (الزحف) الجيش الكثير، تسمية بالمصدر، والجمع زحوف، مثل فلس وفلوس. ويقال: زحف إليه، أي مشى، وزحف الصبيّ على استه قبل أن يقوم. شبه بزحف الصبيان مشي الجيش الكثير للقتال، لأنه لكثرته يرى كأنه يزحف، أي يدب دبيبا قبل التداني للضراب أو الطعان.
قال أبو السعود: زَحْفاً منصوب، إما على أنه حال من مفعول لَقِيتُمُ أي: زاحفين نحوكم، أو على أنه مصدر مؤكد لفعل مضمر، هو الحال منه، أي يزحفون زحفا.
وأما كونه حالا من فاعله أو منه، ومن مفعوله معا كما قيل- فيأباه قوله تعالى فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ إذ لا معنى لتقييد النهي عن الإدبار بتوجههم السابق إلى العدوّ، أو بكثرتهم. بل توجه العدوّ إليهم وكثرتهم هو الداعي إلى الإدبار عادة، والمحوج إلى النهي عنه.
وحمله على الإشعار بما سيكون منهم يوم حنين، حيث تولّوا مدبرين، وهم زحف من الزحوف اثنا عشر ألفا- بعيد.
والمعنى: إذا لقيتموهم للقتال، وهم كثير جمّ، وأنتم قليل، فلا تولوهم أدباركم، فضلا عن الفرار، بل قابلوهم وقاتلوهم، فضلا عن أن تدانوهم في العدد أو تساووهم.
قال الشهاب: عدل عن لفظ الظهور إلى الأدبار تقبيحا للانهزام، وتنفيرا عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ١٦]
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦)
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ أي يوم اللقاء دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أي مائلا له.
يقال: تحرف وانحرف واحرورف: مال وعدل. وهذا التحرف إما بالتوجه إلى قتال طائفة أخرى أهمّ من هؤلاء، وإما بالفرّ للكرّ، بأن يخيّل عدوه أنه منهزم ليغره، ويخرجه من بين أعوانه، فيفرّ عنه، ثم يكرّ عليه وحده أو مع من في الكمين من أصحابه، وهو باب من مكايد الحرب أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ أي منضمّا إلى جماعة أخرى من المسلمين ليستعين بهم فَقَدْ باءَ أي رجع بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي ما صار إليه من عذاب النار.
قال أبو السعود: زَحْفاً منصوب، إما على أنه حال من مفعول لَقِيتُمُ أي: زاحفين نحوكم، أو على أنه مصدر مؤكد لفعل مضمر، هو الحال منه، أي يزحفون زحفا.
وأما كونه حالا من فاعله أو منه، ومن مفعوله معا كما قيل- فيأباه قوله تعالى فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ إذ لا معنى لتقييد النهي عن الإدبار بتوجههم السابق إلى العدوّ، أو بكثرتهم. بل توجه العدوّ إليهم وكثرتهم هو الداعي إلى الإدبار عادة، والمحوج إلى النهي عنه.
وحمله على الإشعار بما سيكون منهم يوم حنين، حيث تولّوا مدبرين، وهم زحف من الزحوف اثنا عشر ألفا- بعيد.
والمعنى: إذا لقيتموهم للقتال، وهم كثير جمّ، وأنتم قليل، فلا تولوهم أدباركم، فضلا عن الفرار، بل قابلوهم وقاتلوهم، فضلا عن أن تدانوهم في العدد أو تساووهم.
قال الشهاب: عدل عن لفظ الظهور إلى الأدبار تقبيحا للانهزام، وتنفيرا عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ١٦]
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦)
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ أي يوم اللقاء دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أي مائلا له.
يقال: تحرف وانحرف واحرورف: مال وعدل. وهذا التحرف إما بالتوجه إلى قتال طائفة أخرى أهمّ من هؤلاء، وإما بالفرّ للكرّ، بأن يخيّل عدوه أنه منهزم ليغره، ويخرجه من بين أعوانه، فيفرّ عنه، ثم يكرّ عليه وحده أو مع من في الكمين من أصحابه، وهو باب من مكايد الحرب أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ أي منضمّا إلى جماعة أخرى من المسلمين ليستعين بهم فَقَدْ باءَ أي رجع بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي ما صار إليه من عذاب النار.
266
تنبيهات:
الأول- دلت الآية على وجوب مصابرة العدو، أي الثبات عند القتال، وتحريم الفرار منه يوم الزحف، وعلى أنه من الكبائر. لأنه توعد عليه وعيدا شديدا.
الثاني- ظاهر الآية العموم لكل المؤمنين في كل زمن، وعلى كل حال، إلّا حالة التحرف أو التحيز، وهو مروي عن ابن عبّاس واختاره أبو مسلم. قال الحاكم:
وعليه أكثر الفقهاء.
وروي عن جماعة من السلف أن تحريم الفرار المذكور مختص بيوم (بدر)، لقوله تعالى وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ وأجيب بأن الإشارة في يَوْمَئِذٍ إلى يوم لقاء الزحف كما يفيده السياق، لا إلى يوم بدر.
الثالث- ذهب جماعة من السلف إلى أن معنى قوله تعالى أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ أي جماعة أخرى من المسلمين، سوى التي هو فيها، سواء قربت تلك الفئة أو بعدت وقد روي أن أبا عبيد قتل على الجسر بأرض فارس، لكثرة الجيش من ناحية المجوس، فقال عمر رضي الله عنه: لو تحيز إلي لكنت له فئة. وفي رواية عنه: أيها الناس! أنا فئتكم. وقال الضحاك: المتحيز إلى فئة، الفارّ إلى النبيّ وأصحابه. وكذلك من فرّ اليوم إلى أميره أو أصحابه. وجنح إلى هذا ابن كثير حيث قال: من فرّ من سرية إلى أميره، أو إلى الإمام الأعظم، دخل في هذه الرخصة. ثم أورد
حديث عبد الله بن عمر المروي عند الإمام أحمد «١» وأبي داود»
والترمذيّ «٣» وغيرهم. قال: كنت في سرية من سرايا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فحاص الناس حيصة، فكنت فيمن حاص، فقلنا:
كيف نصنع وقد فررنا من الزحف، وبؤنا بالغضب، ثم قلنا: لو دخلنا المدينة.
فبتنا! ثم قلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإن كانت لنا توبة، وإلا ذهبنا! فأتيناه قبل صلاة الغداة، فخرج فقال: من القوم؟ فقلنا: نحن الفرارون. فقال: لا، بل أنتم العكّارون، أنا فئتكم وفئة المسلمين، قال: فأتيناه حتى قبلنا يده
. قال الترمذي: حديث حسن، لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد- انتهى- أي وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة. قال الحاكم في (مسألة الفرار) : إن ذلك يرجع إلى ظن المقاتل واجتهاده. فإن ظن المقاومة لم يحلّ الفرار. وإن ظن الهلاك، جاز الفرار
الأول- دلت الآية على وجوب مصابرة العدو، أي الثبات عند القتال، وتحريم الفرار منه يوم الزحف، وعلى أنه من الكبائر. لأنه توعد عليه وعيدا شديدا.
الثاني- ظاهر الآية العموم لكل المؤمنين في كل زمن، وعلى كل حال، إلّا حالة التحرف أو التحيز، وهو مروي عن ابن عبّاس واختاره أبو مسلم. قال الحاكم:
وعليه أكثر الفقهاء.
وروي عن جماعة من السلف أن تحريم الفرار المذكور مختص بيوم (بدر)، لقوله تعالى وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ وأجيب بأن الإشارة في يَوْمَئِذٍ إلى يوم لقاء الزحف كما يفيده السياق، لا إلى يوم بدر.
الثالث- ذهب جماعة من السلف إلى أن معنى قوله تعالى أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ أي جماعة أخرى من المسلمين، سوى التي هو فيها، سواء قربت تلك الفئة أو بعدت وقد روي أن أبا عبيد قتل على الجسر بأرض فارس، لكثرة الجيش من ناحية المجوس، فقال عمر رضي الله عنه: لو تحيز إلي لكنت له فئة. وفي رواية عنه: أيها الناس! أنا فئتكم. وقال الضحاك: المتحيز إلى فئة، الفارّ إلى النبيّ وأصحابه. وكذلك من فرّ اليوم إلى أميره أو أصحابه. وجنح إلى هذا ابن كثير حيث قال: من فرّ من سرية إلى أميره، أو إلى الإمام الأعظم، دخل في هذه الرخصة. ثم أورد
حديث عبد الله بن عمر المروي عند الإمام أحمد «١» وأبي داود»
والترمذيّ «٣» وغيرهم. قال: كنت في سرية من سرايا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فحاص الناس حيصة، فكنت فيمن حاص، فقلنا:
كيف نصنع وقد فررنا من الزحف، وبؤنا بالغضب، ثم قلنا: لو دخلنا المدينة.
فبتنا! ثم قلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإن كانت لنا توبة، وإلا ذهبنا! فأتيناه قبل صلاة الغداة، فخرج فقال: من القوم؟ فقلنا: نحن الفرارون. فقال: لا، بل أنتم العكّارون، أنا فئتكم وفئة المسلمين، قال: فأتيناه حتى قبلنا يده
. قال الترمذي: حديث حسن، لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد- انتهى- أي وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة. قال الحاكم في (مسألة الفرار) : إن ذلك يرجع إلى ظن المقاتل واجتهاده. فإن ظن المقاومة لم يحلّ الفرار. وإن ظن الهلاك، جاز الفرار
(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٢/ ٧٠ والحديث رقم ٥٣٨٤.
(٢) أخرجه أبو داود في: الجهاد، ٩٦- باب في التولي يوم الزحف، حديث ٢٦٤٧. [.....]
(٣) أخرجه الترمذي في: الجهاد، ٣٧- باب ما جاء في الفرار من الزحف.
(٢) أخرجه أبو داود في: الجهاد، ٩٦- باب في التولي يوم الزحف، حديث ٢٦٤٧. [.....]
(٣) أخرجه الترمذي في: الجهاد، ٣٧- باب ما جاء في الفرار من الزحف.
267
إلى فئة وإن بعدت، وإذا لم يقصد الإقلاع عن الجهات. وحمل عليه حديث ابن عمر المذكور.
وعن الكرخي: أن الثبات والمصابرة واجب، إذا لم يخش الاستئصال، وعرف عدم نكايته للكفار، والتجأ إلى مصر للمسلمين، أو جيش، وهكذا أطلق في (شرح الإبانة) فلم يبح الفرار إلا بهذه الشروط الثلاثة، ولم يعتبر العدد الآتي بيانه.
الرابع- روي عن عطاء أن حكم هذه الآية منسوخ بقوله تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ [الأنفال: ٦٦]، قال الحاكم: إذا أمكن الجمع فلا نسخ وأقول: كنا أسلفنا أن السلف كثيرا ما يعنون ب (النسخ) تقييد المطلق، أو تخصيص العامّ، فلا ينافي كونها محكمة إطلاقهم النسخ عليها.
قال بعض الأئمة: هذه الآية عامة تقضي بوجوب المصابرة، وإن تضاعف عدد المشركين أضعافا كثيرة. لكن هذا العموم مخصوص بقوله تعالى في السورة هذه:
إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً [الأنفال: ٦٥] فأوجب الله المصابرة على الواحد للعشرة. لأنه خبر معناه الأمر. فلما شق ذلك على المسلمين رحمهم الله تعالى، وأوجب على الواحد مصابرة الاثنين، فقال تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ [الأنفال: ٦٦].
وعن ابن عباس: من فرّ من اثنين فقد فرّ، ومن فرّ من ثلاثة فلم يفرّ.
وبالجملة، فلا منافاة بين هذه الآية وآية الضّعف، فإن هذه الآية مقيدة بها، فيكون الفرار من الزحف محرما بشرط ما بينه الله في آية الضّعف.
وفي (المهذب) : إن زاد عددهم على مثلي عدد المسلمين، جاز الفرار. لكن إن غلب على ظنهم أنهم لا يهلكون، فالأفضل الثبات. وإن ظنوا الهلاك، فوجهان:
يلزم الانصراف لقوله تعالى وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: ١٩٥].
والثاني: يستحب ولا يجب، لأنهم إن قتلوا فازوا بالشهادة. وإن لم يزد عدد الكفار على مثلي عدد المسلمين، فإن لم يظنوا الهلاك، لم يجز الفرار. وإن ظنوه فوجهان:
يجوز لقوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: ١٩٥]. ولا يجوز، وصححوه لظاهر الآية.
ثم بيّن تعالى أن نصرهم يوم بدر، مع قلتهم، كان بحوله تعالى وقوته، فقال سبحانه:
وعن الكرخي: أن الثبات والمصابرة واجب، إذا لم يخش الاستئصال، وعرف عدم نكايته للكفار، والتجأ إلى مصر للمسلمين، أو جيش، وهكذا أطلق في (شرح الإبانة) فلم يبح الفرار إلا بهذه الشروط الثلاثة، ولم يعتبر العدد الآتي بيانه.
الرابع- روي عن عطاء أن حكم هذه الآية منسوخ بقوله تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ [الأنفال: ٦٦]، قال الحاكم: إذا أمكن الجمع فلا نسخ وأقول: كنا أسلفنا أن السلف كثيرا ما يعنون ب (النسخ) تقييد المطلق، أو تخصيص العامّ، فلا ينافي كونها محكمة إطلاقهم النسخ عليها.
قال بعض الأئمة: هذه الآية عامة تقضي بوجوب المصابرة، وإن تضاعف عدد المشركين أضعافا كثيرة. لكن هذا العموم مخصوص بقوله تعالى في السورة هذه:
إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً [الأنفال: ٦٥] فأوجب الله المصابرة على الواحد للعشرة. لأنه خبر معناه الأمر. فلما شق ذلك على المسلمين رحمهم الله تعالى، وأوجب على الواحد مصابرة الاثنين، فقال تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ [الأنفال: ٦٦].
وعن ابن عباس: من فرّ من اثنين فقد فرّ، ومن فرّ من ثلاثة فلم يفرّ.
وبالجملة، فلا منافاة بين هذه الآية وآية الضّعف، فإن هذه الآية مقيدة بها، فيكون الفرار من الزحف محرما بشرط ما بينه الله في آية الضّعف.
وفي (المهذب) : إن زاد عددهم على مثلي عدد المسلمين، جاز الفرار. لكن إن غلب على ظنهم أنهم لا يهلكون، فالأفضل الثبات. وإن ظنوا الهلاك، فوجهان:
يلزم الانصراف لقوله تعالى وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: ١٩٥].
والثاني: يستحب ولا يجب، لأنهم إن قتلوا فازوا بالشهادة. وإن لم يزد عدد الكفار على مثلي عدد المسلمين، فإن لم يظنوا الهلاك، لم يجز الفرار. وإن ظنوه فوجهان:
يجوز لقوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: ١٩٥]. ولا يجوز، وصححوه لظاهر الآية.
ثم بيّن تعالى أن نصرهم يوم بدر، مع قلتهم، كان بحوله تعالى وقوته، فقال سبحانه:
268
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ١٧]
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧)
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ أي يقوّتكم وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ أي سبّب في قتلهم بنصرتكم وخذلانهم وألقى الرعب في قلوبهم، وقوى قلوبكم، وأمدكم بالملائكة، وأذهب عنها الفزع والجزع وَما رَمَيْتَ أي أنت يا خاتم النبيين، أي ما بلغت رمية الحصباء إلى وجوه المشركين إِذْ رَمَيْتَ أي بالحصباء، لأن كفّا منها لا يملأ عيون الجيش الكثير برمية بشر وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى أي بلغ بإيصال ذلك إليهم ليقهرهم. وقال أبو مسلم (في معنى الآية) : أي ما أصبت إذ رميت، ولكن الله أصاب. والرمي لا يطلق إلا عند الإصابة، وذلك ظاهر في أشعارهم.
وقد روي عن غير واحد أنها نزلت في شأن القبضة من التراب التي حصب بها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وجوه المشركين يوم بدر، حين خرج من العريش، بعد دعائه وتضرعه واستكانته. فرماهم بها وقال (شاهت الوجوه). ثم أمر أصحابه أن يصدقوا الحملة إثرها، ففعلوا، فأوصل الله تلك الحصباء إلى أعين المشركين، فلم يبق أحد منهم إلا ناله منها ما شغله عن حاله، وانهزموا.
تنبيه:
قال الجشمي: تدل الآية أن فعل العبد يضاف إليه تعالى إذا كان بنصرته ومعونته وتمكينه. إذ معلوم أنهم قتلوا، وأنه رمى، ولذلك قال إِذْ رَمَيْتَ ولهذا يضاف إلى السيد ما يأتيه غلامه. وتدل على أن الإضافة بالمعونة والأمر، صارت أقوى، فلذلك قال فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ.
وقال في (العناية) : استدل بهذه الآية والتي قبلها على أن أفعال العباد بخلقه تعالى، حيث نفى القتل والرمي. والمعنى: إذ رميت أو باشرت صرف الآلات.
والحاصل: ما رميت خلقا إذ رميت كسبا. وأورد عليه أن المدعي، وإن كان حقا، لكن لا دلالة في الآية عليه، لأن التعارض بين النفي والإثبات الذي يتراءى في بادئ النظر، مدفوع بأن المراد ما رميت رميا تقدر به على إيصاله إلى جميع العيون، وإن رميت حقيقة وصورة، وهذا مراد من قال: (ما رميت حقيقة، إذ رميت صورة) فالمنفيّ هو الرمي الكامل، والمثبت أصله، وقدر منه. فالإثبات والنفي لم يردا على
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧)
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ أي يقوّتكم وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ أي سبّب في قتلهم بنصرتكم وخذلانهم وألقى الرعب في قلوبهم، وقوى قلوبكم، وأمدكم بالملائكة، وأذهب عنها الفزع والجزع وَما رَمَيْتَ أي أنت يا خاتم النبيين، أي ما بلغت رمية الحصباء إلى وجوه المشركين إِذْ رَمَيْتَ أي بالحصباء، لأن كفّا منها لا يملأ عيون الجيش الكثير برمية بشر وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى أي بلغ بإيصال ذلك إليهم ليقهرهم. وقال أبو مسلم (في معنى الآية) : أي ما أصبت إذ رميت، ولكن الله أصاب. والرمي لا يطلق إلا عند الإصابة، وذلك ظاهر في أشعارهم.
وقد روي عن غير واحد أنها نزلت في شأن القبضة من التراب التي حصب بها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وجوه المشركين يوم بدر، حين خرج من العريش، بعد دعائه وتضرعه واستكانته. فرماهم بها وقال (شاهت الوجوه). ثم أمر أصحابه أن يصدقوا الحملة إثرها، ففعلوا، فأوصل الله تلك الحصباء إلى أعين المشركين، فلم يبق أحد منهم إلا ناله منها ما شغله عن حاله، وانهزموا.
تنبيه:
قال الجشمي: تدل الآية أن فعل العبد يضاف إليه تعالى إذا كان بنصرته ومعونته وتمكينه. إذ معلوم أنهم قتلوا، وأنه رمى، ولذلك قال إِذْ رَمَيْتَ ولهذا يضاف إلى السيد ما يأتيه غلامه. وتدل على أن الإضافة بالمعونة والأمر، صارت أقوى، فلذلك قال فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ.
وقال في (العناية) : استدل بهذه الآية والتي قبلها على أن أفعال العباد بخلقه تعالى، حيث نفى القتل والرمي. والمعنى: إذ رميت أو باشرت صرف الآلات.
والحاصل: ما رميت خلقا إذ رميت كسبا. وأورد عليه أن المدعي، وإن كان حقا، لكن لا دلالة في الآية عليه، لأن التعارض بين النفي والإثبات الذي يتراءى في بادئ النظر، مدفوع بأن المراد ما رميت رميا تقدر به على إيصاله إلى جميع العيون، وإن رميت حقيقة وصورة، وهذا مراد من قال: (ما رميت حقيقة، إذ رميت صورة) فالمنفيّ هو الرمي الكامل، والمثبت أصله، وقدر منه. فالإثبات والنفي لم يردا على
269
شيء واحد، حتى يقال: (المنفيّ على وجه الخلق، والمثبت على وجه المباشرة) ولو كان المقصود هذا لما ثبت المطلوب بها، الذي هو سبب النزول، من أنه أثبت له الرمي، لصدوره عنه، ونفى عنه، لأن أثره ليس في طاقة البشر، ولذا عدت معجزة له، حتى كأنه لا مدخل له فيها أصلا. فمبنى الكلام على المبالغة، ولا يلزم منه عدم مطابقته للواقع، لأن معناه الحقيقي غير مقصود. هكذا ينبغي أن يفهم هذا المقام، إذ لو كان المراد ما ذكر، لم يكن مخصوصا بهذا الرمي، لأن جميع أفعال العباد كذلك بمباشرتهم وخلق الله. انتهى.
وهذا التحقيق جيد، وقد نبه عليه أيضا العلامة ابن القيم في (زاد المعاد) حيث قال: وقد ظنت طائفة أن الآية دلت على نفي الفعل عن العبد وإثباته لله، وأنه هو الفاعل حقيقة، وهذا غلط منهم من وجوه عديدة، مذكورة في غير هذا الموضع.
ومعنى الآية: أن الله سبحانه أثبت لرسوله ابتداء الرمي، ونفى عنه الإيصال الذي لم يحصل برميه، فالرمي يراد به الحذف والإيصال، فأثبت لنبيه الحذف، ونفى عنه الإيصال. انتهى.
وقوله تعالى: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ أي ليمنحهم من فضله بَلاءً حَسَناً أي منحا جميلا، بالنصر والغنيمة والفتح، ثم بالأجر والمثوبة، غير مشوب بمقاساة الشدائد والمكاره، فيعرفوا حقه ويشكروه.
قال أبو السعود: واللام، إما متعلقة بمحذوف متأخر، فالواو اعتراضية، أي وللإحسان إليهم بالنصر والغنيمة، فعل ما فعل، لا لشيء غير ذلك، مما لا يجديهم نفعا. وإما، برمي، فالواو للعطف على علة محذوفة، أي ولكن الله رمى ليمحق الكافرين وليبلي... إلخ. وتفسير البلاء هنا بالمنحة هو ما اختاره المحققون من قولهم: (أبلاه الله ببلية إبلاء حسنا) إذا صنع به صنعا جميلا، وأبلاه معروفا، قال زهير (في قصيدته التي مطلعها:
والتعانيق والثقل: مواضع) :
(أي إحسان فعلهما بكم. فأبلاهما خير البلاء، أي صنع الله إليهما خير الصنيع الذي يبتلي به عباده. والإنسان يبلى بالخير والشر) أي صنع بهما خير
وهذا التحقيق جيد، وقد نبه عليه أيضا العلامة ابن القيم في (زاد المعاد) حيث قال: وقد ظنت طائفة أن الآية دلت على نفي الفعل عن العبد وإثباته لله، وأنه هو الفاعل حقيقة، وهذا غلط منهم من وجوه عديدة، مذكورة في غير هذا الموضع.
ومعنى الآية: أن الله سبحانه أثبت لرسوله ابتداء الرمي، ونفى عنه الإيصال الذي لم يحصل برميه، فالرمي يراد به الحذف والإيصال، فأثبت لنبيه الحذف، ونفى عنه الإيصال. انتهى.
وقوله تعالى: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ أي ليمنحهم من فضله بَلاءً حَسَناً أي منحا جميلا، بالنصر والغنيمة والفتح، ثم بالأجر والمثوبة، غير مشوب بمقاساة الشدائد والمكاره، فيعرفوا حقه ويشكروه.
قال أبو السعود: واللام، إما متعلقة بمحذوف متأخر، فالواو اعتراضية، أي وللإحسان إليهم بالنصر والغنيمة، فعل ما فعل، لا لشيء غير ذلك، مما لا يجديهم نفعا. وإما، برمي، فالواو للعطف على علة محذوفة، أي ولكن الله رمى ليمحق الكافرين وليبلي... إلخ. وتفسير البلاء هنا بالمنحة هو ما اختاره المحققون من قولهم: (أبلاه الله ببلية إبلاء حسنا) إذا صنع به صنعا جميلا، وأبلاه معروفا، قال زهير (في قصيدته التي مطلعها:
صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو | وأقفر من سلمى التّعانيق والثّقل |
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم | وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو |
270
الصنيع الذي يبلو به عباده. واستظهر الطيبي تفسيره بالإبلاء في الحرب بدليل ما بعده. قال ابن الأعرابيّ: يقال: أبلى فلان إذا اجتهد في صفة حرب أو كرم. ويقال:
أبلى ذلك اليوم بلاء حسنا.
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ أي لدعائهم واستغاثتهم عَلِيمٌ أي بمن يستحق النصر والغلب وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ١٨]
ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨)
ذلِكُمْ إشارة إلى البلاء الحسن، أو القتل، أو الرمي. ومحله الرفع. أي المقصود أو الأمر (ذلكم). وقوله: وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ معطوف عليه.
أي مضعف بأس الكافرين وحيلهم بنصركم وخذلانهم، أي أن المقصود إبلاء المؤمنين، وتوهين كيد الكافرين.
قال ابن كثير: هذه بشارة أخرى. مع ما حصل من النصر، فإنه أعلمهم بأنه مضعف كيد الكافرين فيما يستقبل، مصغر أمرهم، وأنه في تبار ودمار. أي: وقد وجد المخبر على وفق الخبر، فصار معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلّم، ولله الحمد والمنة.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ١٩]
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩)
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ خطاب للمشركين، أي إن تطلبوا الفتح، أي القضاء وأن يفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين، فقد جاءكم القضاء بما سألتم.
روى الإمام أحمد «١» والنسائي والحاكم، وصححه، عن عبد الله بن ثعلبة. أن أبا جهل قال، حين التقى القوم: اللهم! أقطعنا للرحم. وآتانا بما لا نعرفه، فأحنه- أي فأهلكه- الغداة. فكان المستفتح.
وعن السّدّي أن المشركين حين خرجوا من مكة إلى بدر: أخذوا بأستار
أبلى ذلك اليوم بلاء حسنا.
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ أي لدعائهم واستغاثتهم عَلِيمٌ أي بمن يستحق النصر والغلب وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ١٨]
ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨)
ذلِكُمْ إشارة إلى البلاء الحسن، أو القتل، أو الرمي. ومحله الرفع. أي المقصود أو الأمر (ذلكم). وقوله: وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ معطوف عليه.
أي مضعف بأس الكافرين وحيلهم بنصركم وخذلانهم، أي أن المقصود إبلاء المؤمنين، وتوهين كيد الكافرين.
قال ابن كثير: هذه بشارة أخرى. مع ما حصل من النصر، فإنه أعلمهم بأنه مضعف كيد الكافرين فيما يستقبل، مصغر أمرهم، وأنه في تبار ودمار. أي: وقد وجد المخبر على وفق الخبر، فصار معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلّم، ولله الحمد والمنة.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ١٩]
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩)
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ خطاب للمشركين، أي إن تطلبوا الفتح، أي القضاء وأن يفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين، فقد جاءكم القضاء بما سألتم.
روى الإمام أحمد «١» والنسائي والحاكم، وصححه، عن عبد الله بن ثعلبة. أن أبا جهل قال، حين التقى القوم: اللهم! أقطعنا للرحم. وآتانا بما لا نعرفه، فأحنه- أي فأهلكه- الغداة. فكان المستفتح.
وعن السّدّي أن المشركين حين خرجوا من مكة إلى بدر: أخذوا بأستار
(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٥/ ٤٣١.
الكعبة، فاستنصروا الله وقالوا: اللهم؟ انصر أعزّ الجندين، وأكرم الفئتين، وخير القبيلتين. فقال تعالى إِنْ تَسْتَفْتِحُوا... الآية.
وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن هذه الآية إخبار عنهم بما قالوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ... الآية- قيل: في هذا الخطاب تهكم بهم، يعني في قوله تعالى فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ لأن الذي جاءهم الهلاك والذلة. كذا في (العناية). وهو مبنيّ على أن الفتح بمعنى النصر، وله معنى آخر وهو الحكم بين الخصمين والقضاء. وبهما فسرت الآية أيضا. وَإِنْ تَنْتَهُوا أي عن الكفر وعداوة الرسول فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي في الدنيا والآخرة وَإِنْ تَعُودُوا أي لمحاربة الرسول نَعُدْ أي لنصره عليكم وَلَنْ تُغْنِيَ أي تدفع عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ، وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ أي بالنصر. قرئ بكسر (إن) استئنافا، وفتحها، على تقدير اللام.
تنبيه:
جوّز أن يكون الخطاب في قوله تعالى إِنْ تَسْتَفْتِحُوا للمؤمنين، أي إن تطلبوا النصر باستغاثتكم ربكم، فقد حصل لكم ذلك، فاشكروا ربكم، والزموا طاعته. وقوله تعالى إِنْ تَنْتَهُوا أي عن المنازعة في أمر الأنفال، وعن طلب الفداء على الأسرى الذي عوتبوا عليه بقوله تعالى لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ [الأنفال:
٦٨]، فقال تعالى: وَإِنْ تَنْتَهُوا- عن مثله- فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا إلى تلك المنازعات نعد عليكم بالإنكار، وتهييج العدوّ لأن الوعد بنصرتكم مشروط بشرط استمراركم على الطاعة، وترك المخالفة، ثم لا تنفعكم الفئة والكثرة، إذا لم يكن الله معكم بالنصر، فإنه مع الكاملين في إيمانهم. وهذا الوجه قرره الرازي ونقله عن القاضي.
قال البيضاوي: ويؤكده الآية بعد فإن المراد بها الأمر بطاعة الرسول والنهي عن الإعراض عنه والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٢٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ أي تعرضوا عنه بمخالفة أمره وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ أي القرآن الناطق بوجوب طاعته، والمواعظ الزاجرة عن مخالفته.
وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن هذه الآية إخبار عنهم بما قالوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ... الآية- قيل: في هذا الخطاب تهكم بهم، يعني في قوله تعالى فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ لأن الذي جاءهم الهلاك والذلة. كذا في (العناية). وهو مبنيّ على أن الفتح بمعنى النصر، وله معنى آخر وهو الحكم بين الخصمين والقضاء. وبهما فسرت الآية أيضا. وَإِنْ تَنْتَهُوا أي عن الكفر وعداوة الرسول فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي في الدنيا والآخرة وَإِنْ تَعُودُوا أي لمحاربة الرسول نَعُدْ أي لنصره عليكم وَلَنْ تُغْنِيَ أي تدفع عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ، وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ أي بالنصر. قرئ بكسر (إن) استئنافا، وفتحها، على تقدير اللام.
تنبيه:
جوّز أن يكون الخطاب في قوله تعالى إِنْ تَسْتَفْتِحُوا للمؤمنين، أي إن تطلبوا النصر باستغاثتكم ربكم، فقد حصل لكم ذلك، فاشكروا ربكم، والزموا طاعته. وقوله تعالى إِنْ تَنْتَهُوا أي عن المنازعة في أمر الأنفال، وعن طلب الفداء على الأسرى الذي عوتبوا عليه بقوله تعالى لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ [الأنفال:
٦٨]، فقال تعالى: وَإِنْ تَنْتَهُوا- عن مثله- فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا إلى تلك المنازعات نعد عليكم بالإنكار، وتهييج العدوّ لأن الوعد بنصرتكم مشروط بشرط استمراركم على الطاعة، وترك المخالفة، ثم لا تنفعكم الفئة والكثرة، إذا لم يكن الله معكم بالنصر، فإنه مع الكاملين في إيمانهم. وهذا الوجه قرره الرازي ونقله عن القاضي.
قال البيضاوي: ويؤكده الآية بعد فإن المراد بها الأمر بطاعة الرسول والنهي عن الإعراض عنه والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٢٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ أي تعرضوا عنه بمخالفة أمره وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ أي القرآن الناطق بوجوب طاعته، والمواعظ الزاجرة عن مخالفته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٢١]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١)
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا أي ادعوا السماع وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ أي سماع تدبر واتعاظ، وهم المنافقون أو المشركون. فالمنفيّ سماع خاص، لكنه أتى به مطلقا للإشارة إلى أنهم نزّلوا منزلة من لم يسمع أصلا، بجعل سماعهم بمنزلة العدم. وقيل: السماع مجاز عن التصديق.
قال الزمخشري: والمعنى أنكم تصدقون بالقرآن والنبوة، فإذا توليتم عن طاعة الرسول في بعض الأمور، من قسمة الغنائم وغيرها، كان تصديقكم كلا تصديق، وأشبه سماعكم سماع من لا يؤمن.
ثم بيّن تعالى سوء حال المشبه بهم، مبالغة في التحذير، وتقريرا للنهي، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٢٢]
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ أي ما يدبّ على الأرض، أو شر البهائم عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ أي عن سماع الحق الْبُكْمُ أي عن النطق به الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ أي لا يفهمونه.
جعلهم تعالى من جنس البهائم، لصرفهم جوارحهم عما خلقت له، ثم جعلهم شرّها لأنهم عاندوا بعد الفهم، وكابروا بعد العقل، وفي ذكرهم في معرض التشبيه، بهذا الأسلوب، غاية في الذم. وقد كثر، في التنزيل، تشبيه الكافرين بنحو هذا، كقوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً [البقرة: ١٧١]، وقال تعالى: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف: ١٧٩].
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٢٣]
وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)
وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ أي في هؤلاء الصم البكم خَيْراً صدقا ورغبة لَأَسْمَعَهُمْ أي الحجج والمواعظ، سماع تفهم وتدبر، أي لجعلهم سامعين حتى
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١)
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا أي ادعوا السماع وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ أي سماع تدبر واتعاظ، وهم المنافقون أو المشركون. فالمنفيّ سماع خاص، لكنه أتى به مطلقا للإشارة إلى أنهم نزّلوا منزلة من لم يسمع أصلا، بجعل سماعهم بمنزلة العدم. وقيل: السماع مجاز عن التصديق.
قال الزمخشري: والمعنى أنكم تصدقون بالقرآن والنبوة، فإذا توليتم عن طاعة الرسول في بعض الأمور، من قسمة الغنائم وغيرها، كان تصديقكم كلا تصديق، وأشبه سماعكم سماع من لا يؤمن.
ثم بيّن تعالى سوء حال المشبه بهم، مبالغة في التحذير، وتقريرا للنهي، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٢٢]
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ أي ما يدبّ على الأرض، أو شر البهائم عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ أي عن سماع الحق الْبُكْمُ أي عن النطق به الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ أي لا يفهمونه.
جعلهم تعالى من جنس البهائم، لصرفهم جوارحهم عما خلقت له، ثم جعلهم شرّها لأنهم عاندوا بعد الفهم، وكابروا بعد العقل، وفي ذكرهم في معرض التشبيه، بهذا الأسلوب، غاية في الذم. وقد كثر، في التنزيل، تشبيه الكافرين بنحو هذا، كقوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً [البقرة: ١٧١]، وقال تعالى: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف: ١٧٩].
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٢٣]
وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)
وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ أي في هؤلاء الصم البكم خَيْراً صدقا ورغبة لَأَسْمَعَهُمْ أي الحجج والمواعظ، سماع تفهم وتدبر، أي لجعلهم سامعين حتى
يسمعوا سماع المصدقين. أي ولكن لم يعلم الله فيهم شيئا من ذلك، لخلوّهم عنه بالمرة، فلم يسمعهم كذلك، لخلوه عن الفائدة وخروجه عن الحكمة، وإليه أشير بقوله تعالى وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا أي: ولو أسمعهم سماع تفهم، وهم على هذه الحالة العارية عن الخير بالكلية، لتولوا عما سمعوه من الحق وَهُمْ مُعْرِضُونَ أي عن قبوله جحودا وعنادا. قال الرازي: كل ما كان حاصلا فإنه يجب أن يعلمه الله، فعدم علم الله بوجوده، من لوازم عدمه، فلا جرم حسن التعبير عن عدمه في نفسه بعدم علم الله بوجوده.
تنبيه:
قد يتوهم أن الشرطيتين في الآية مقدمتا قياس اقتراني. هكذا: لو علم فيهم خيرا لأسمعهم، ولو أسمعهم لتولوا. ينتج: لو علم فيهم خيرا لتولوا. وفساده بيّن.
وأجيب: بأنه إنما يلزم النتيجة الفاسدة لو كانت الثانية كلية، وهو ممنوع. واعترض بأن هذا المنع، وإن صح في قانون النظر، إلا أنه خطأ في تفسير الآية، لابتنائه على أن المذكور قياس مفقود شرائط الإنتاج، ولا مساغ لحمل كلام الله عليه. وأجيب: بأن المراد منع كون القصد إلى ترتيب قياس، لانتفاء شرط، لا أنه قياس فقد شرطه. كما أنه يمنع منه عدم تكرار الوسط أيضا، وإنما المقصود من المقدمة الثانية تأكيد الأولى، إذ مآله إلى أنه انتفى الإسماع، لعدم الخيرية فيهم، ولو وقع الإسماع، لا تحصل الخيرية فيهم، لعدم قابلية المحل. كذا في (العناية). وقد حاول بعضهم تصحيح كونها قياسا شرطيّا، متحد الوسط، صحيح الإنتاج، بتقدير: لو علم فيهم خيرا في وقت، لتولوا بعده.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٢٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ الاستجابة:
بمعنى الإجابة. قال:
تنبيه:
قد يتوهم أن الشرطيتين في الآية مقدمتا قياس اقتراني. هكذا: لو علم فيهم خيرا لأسمعهم، ولو أسمعهم لتولوا. ينتج: لو علم فيهم خيرا لتولوا. وفساده بيّن.
وأجيب: بأنه إنما يلزم النتيجة الفاسدة لو كانت الثانية كلية، وهو ممنوع. واعترض بأن هذا المنع، وإن صح في قانون النظر، إلا أنه خطأ في تفسير الآية، لابتنائه على أن المذكور قياس مفقود شرائط الإنتاج، ولا مساغ لحمل كلام الله عليه. وأجيب: بأن المراد منع كون القصد إلى ترتيب قياس، لانتفاء شرط، لا أنه قياس فقد شرطه. كما أنه يمنع منه عدم تكرار الوسط أيضا، وإنما المقصود من المقدمة الثانية تأكيد الأولى، إذ مآله إلى أنه انتفى الإسماع، لعدم الخيرية فيهم، ولو وقع الإسماع، لا تحصل الخيرية فيهم، لعدم قابلية المحل. كذا في (العناية). وقد حاول بعضهم تصحيح كونها قياسا شرطيّا، متحد الوسط، صحيح الإنتاج، بتقدير: لو علم فيهم خيرا في وقت، لتولوا بعده.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٢٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ الاستجابة:
بمعنى الإجابة. قال: