تفسير سورة الفاتحة

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
فاتحة الكتاب
فاتحة الكتاب وأم القرآن سميت بهما لأنها أصل القرآن منها يبدأ، وهي السبع المثاني لأنها سبع آيات بالاتفاق وتثنى في الصلاة، وقيل أنزلت مرتين بمكة والمدينة، والأصح أنها مكية قبل سورة حجر. روى ابن جرير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«هي أم القرآن وهي فاتحة الكتاب وهي السبع المثاني » انتهى، وهي سورة الكنز روى إسحاق بن راهويه عن علي رضي الله عنه قال : حدثنا نبي الله صلى الله عليه وسلم أنها أنزلت من كنز تحت العرش، وهي سورة الشفاء لما سنذكر في الفضائل أنها شفاء من كل داء.
﴿ بسم الله ﴾ أسقطت الألف لكثرة استعمالها وطولت الباء عوضا، قال البغوي : قال عمر بن عبد العزيز : طولوا الباء وأظهروا السين ودوروا الميم تعظيما لكتاب الله عز وجل، والاسم مشتق من السمو دون الوسم بدلالة سمي وسميت والمراد به المسمى أو الاسم نفسه، والباء للمصاحبة أو الاستعانة أو التبرك، والاستعانة يكون بذكر الله متعلق بمقدار بعدها كما في قوله تعالى :﴿ بسم الله مجراها ﴾ [ هود : ٤١ ] وليتحقق الابتداء بالتسمية تحقيقا، روى عبد القادر الرهاوي في الأربعين عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم «كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع »[ قال النووي : عنه حديث حسن وقد روي موصولا ومرسلا ورواية الموصول جيدة الإسناد، انظر فيض القدير ( ٦٢٨٤ ) ]، يعني بسم الله أقرأ. ﴿ اللهِ ﴾ قيل جامد والحق أنه مشتق من إله بمعنى المعبود حذفت الهمزة وعوضت عنها الألف واللام لزوما ومن أجل التعويض اللازم قيل يا الله، إذ لا معنى للاشتقاق إلا كون اللفظين متشاركين في المعنى والتركيب، ثم جعل علما لذا الواجب الوجود المستجمع للكمالات المنزه عن الرذائل ولذا يوصف ولا يوصف به، ويقال للتوحيد لا إله إلا الله، وقد يطلق على الأصل فيقال : وهو الله في السموات وفي الأرض، ﴿ الرحمن الرحيم ﴾ مشتقان من الرحمة بمعنى رقة القلب المقتضي للتفضل والإحسان، وأسماء الله تعالى إنما تؤخذ باعتبار الغايات دون المبادي فإنها انفعالات، قيل هما للمبالغة بمعنى واحد، والحق أن الرحمن أبلغ لزيادة البناء ولذا اختص بالله دون الرحيم، قال ابن عباس : هما اسمان رقيقان أحدهما أرقّ من الآخر، والزيادة قد يعتبر بالكمية فيقال رحمن الدنيا ورحيم الآخرة فإن الرحمة في الآخرة للمتقين وقد يعتبر بالكيفية فيقال رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا فإن نعم الآخرة كلها جليلة وفي الدنيا حقيرة وجليلة، وقُدّم الرحمن لاختصاصه بالله كالأعلام ولتقدم عموم الرحمة في الدنيا وهي مقدم بالزمان.
ذهب قراء المدينة والبصرة وأبو حنيفة وغيره من فقهاء الكوفة إلى أنها ليست من الفاتحة ولا من غيرها من السور والافتتاح بها للتيمن، فقيل وليست من القرآن، والحق أنها من القرآن أنزلت للفصل، روى الحاكم وصححه على شرطهما عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورتين حتى ينزل ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ ورواه أبو داود مرسلا وقال : والمرسل أصح، وسئل محمد بن الحسن عنها فقال : ما بين الدفتين كلام الله تعالى، قلت ولو لم تكن من القرآن لما كتبوها في المصاحف مع المبالغة في تجريد القرآن كما لم يكتبوا أمين، والدليل على أنها ليست من الفاتحة ما رواه الشيخان عن أنس قال : صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وخلف عمر فلم يجهر أحد منهم ببسم الله الرحمن الرحيم [ أخرجه مسلم في كتاب : الصلاة، باب : حجة من قال لا يجهر بالبسملة ( ٣٩٩ ) ]، وما سنذكر من حديث أبي هريرة «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين »[ أخرجه مسلم في كتاب : الصلاة، باب : وجوب القراءة في كل ركعة ( ٣٩٥ ) وأخرجه النسائي في كتاب : الافتتاح، باب : ترك قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في فاتحة الكتاب ( ٩٠٣ ) وأخرجه أبو داود في كتاب : الصلاة، باب : من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب :( ٨١٩ ) وأخرجه الترمذي في كتاب : تفسير القرآن، باب : ومن سورة الفاتحة ( ٢٩٠٣ ) ]. في الفضائل، وما رواه أحمد أن عبد الله بن مغفل قال : سمعني أبي وأنا في الصلاة أقرأ ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين ﴾، فلما انصرف قال : يا بني إياك والحدث في الإسلام فإني صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا لا يفتتحون القرآن ببسم الله الرحمن الرحيم ولم أدر رجلا قط أبغض إليه الحدث منه [ أخرجه الترمذي في كتاب : الصلاة، باب : ما جاء في ترك الجهر ب بسم الله الرحمن الرحيم ( ٢٤٢ ) وقال عنه : حسن، وأخرجه ابن ماجة في كتاب : الصلاة، باب : افتتاح القراءة ( ٨١٥ ) ]، ورواه الترمذي فقال فيه : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ولم يسمع منهم أحد يقولها، وذهب قراء مكة والكوفة وأكثر فقهاء الحجاز إلى أنها من الفاتحة دون غيرها من السور وإنما كتبت عليها للفصل لما روى الحاكم وقال إسناده صحيح عن سعيد بن جبير في تفسير قوله تعالى :﴿ ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرءان العظيم ﴾[ الحجر : ٨٧ ] قال : هي أم القرآن وقال :﴿ بسم الله الرحمن الرحيم ﴾ الآية السابعة قرأها عليّ ابن عباس كما قرأتها ثم قال بسم الله الرحمن الرحيم الآية السابعة، ولما روى الترمذي عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته ببسم الله الرحمن الرحيم [ أخرجه الترمذي في كتاب : الصلاة، باب : من رأى الجهر ب بسم الله الرحمن الرحيم ( ٢٤٣ ) ]. قلت : في الحديث الأول قول ابن عباس بسم الله الرحمن الرحيم الآية السابعة ظن منه ليس بمرفوع وما رواه الترمذي ليس بإسناده بقوي : وذهب جماعة إلى أنها من الفاتحة وكذا من كل سورة إلا سورة التوبة وهو قول الثوري وابن المبارك والشافعي لأنها كتبت في المصحف بخط سائر القرآن. قلت : وهذا يدل على أنها من القرآن لا من السورة كيف وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :«سورة من القرآن ثلاثون آية »[ أخرجه الترمذي في كتاب : فضائل القرآن، باب : ما جاء في فضل سورة الملك ( ٢٨٩١ ) وقال حديث حسن، وأخرجه أبو داود في كتاب : الصلاة، باب : عدد الآي ( ١٣٩٩ ) ] في سورة الملك وسنذكر هناك إن شاء الله تعالى، ولا يختلف العادون أنه ثلاثون آية من غير بسملة.
﴿ الحمد ﴾ هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري نعمة كان أو غيرها فهو أعم من الشكر في المتعلق فإن الشكر يخص النعمة، وأخص منه في المورد فإن الشكر من اللسان والقلب والجوارح ولذا قال عليه السلام :«الحمد رأس الشكر، ما شكر الله عبد لا يحمده » [ أخرجه عبد الرزاق في الجامع والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمرو، وقال عنه السيوطي حسن. انظر الجامع الصغير ( ٣٨٣٥ ) ] رواه عبد الرزاق عن قتادة عن عبد الله بن عمرو، والمدح أعم من الحمد مطلقا لأنه على مطلق الجميل، والتعريف للجنس إشارة إلى ما يعرفه كل أحد، أو للاستغراق إذ الحمد كله له تعالى وهو خالق أفعال العباد ﴿ وما بكم من نعمة فمن الله ﴾ [ النحل : ٥٣ ] وفيه دليل على أنه تعالى حي قادر مريد عالم حتى يستحق الحمد. ﴿ للهِ ﴾ اللام للاختصاص يقال الدار لزيد، والجملة الخبرية الاسمية دالة على استمرار الاستحقاق قصد بها الثناء بمضمونها، وفيه تعليم وتقديره قولوا الحمد لله حتى يناسب قوله :﴿ إياك نعبد ﴾. ﴿ رب العالمين ﴾ الربّ بمعنى المالك، يقال : رب الدار لمالكه، ويكون بمعنى التربية وهو التبليغ إلى الكمال تدريجا وصف به كالصوم والعدل ولا يقال على غيره تعالى إلا مقيد كرب الدار وفيه دليل على أن العالم محتاج في البقاء أيضا، والعالمين : جمع عالم لا واحد له في الاستعمال من لفظه، والعالم اسم لما يعلم به الصانع كالخاتم وهو الممكنات بأسرها ﴿ قال فرعون وما ربّ العالمين ﴾ قال يعني موسى ﴿ ربّ السموات والأرض وما بينهما ﴾ [ الشعراء : ٢٣-٢٤ ] وجُمع بملاحظة أجناس تحته وغلّب العقلاء، وقال وهب : لله ثمانية عشر ألف عالم الدنيا عالم منها وما العمران في الخراب إلا كفسفاط في صحراء، وقال كعب الأحبار : لا يحصى عدد العالمين ﴿ وما يعلم جنود ربّك إلا هو ﴾ [ المدثر : ٣١ ] وقيل : العالم اسم لذوي العلم من الملائكة والثقلين وتناول غيرهم استتباعاً.
﴿ الرحمن الرحيم ﴾ أجاز القراء فيه الروم وقفا وكذا في كل مكسور، فيه دليل على أن البسملة ليست من الفاتحة كيلا يلزم التكرار، وقيل كرر للتعليل.
﴿ مالك يوم الدين ﴾ قرأ عاصم والكسائي ويعقوب مَالِكَ والآخرون مَلِكَ، وقرأ أبو عمرو الرحيم مّلِكِ بإدغام الميم في الميم وكذلك يدغم كل حرفين متحركين من جنس واحد أو مخرج واحد أو قريبي المخرج، أما إذا كانا مثلين في كلمتين فذلك واقع في سبعة عشر حرفا، إلا في مواضع عديدة وهي الباء والتاء والثاء والحاء المهملة والراء والسين المهملة والعين وعشرة أحرف بعدها نحو ﴿ لذهب بسمعهم ﴾ ﴿ الشوكة تكون لكم ﴾ ﴿ ثالث ثلاثة ﴾ ﴿ لا أبرح حتى ﴾ ﴿ فاستغفر ربّه ﴾ ﴿ وترى الناس سكارى ﴾ ﴿ وطبع على قلوبهم ﴾ ﴿ ومن يتّبع غير الإسلام ﴾ ﴿ تعرف في وجوههم ﴾ ﴿ الغرق قال ءامنت ﴾ ﴿ إنك كنت بنا ﴾ ﴿ جعل لكم ﴾ ﴿ يعلم ما ﴾ ﴿ وأحسن نديّا ﴾ ﴿ إلا هو والملائكة ﴾ ﴿ إنه لهو ﴾ ولا تمنع صلة الهاء ﴿ نودي يا موسى ﴾ إذا لم يكن الحرف الأول تاء المتكلم أو المخاطب ﴿ كنت ترابا ﴾ ﴿ أفأنت تُكره ﴾ ولا منونا نحو :﴿ واسع عليم ﴾ ولا مشددا نحو :﴿ تم ميقات ﴾ والمواضع العديدة المستثناة منها ﴿ يحزنك كفره ﴾ لا يدغم فيه أبو عمرو لإخفاء النون قبلها اتفاقاً ومنها كل موضع التقيا فيه مثلان بسبب حذف وقع في آخر الكلمة الأولى نحو :﴿ يبتغ غير الإسلام ﴾ ﴿ إن يك كاذبا ﴾ ﴿ يخل لكم ﴾ ففي هذه الكلمات لأبي عمرو وجهان : الإظهار والإدغام. ومنها عند البعض ﴿ ءال لوط ﴾ والصحيح إدغامه. ومنها واو هي إذا كان الهاء مضموما على قراءة أبي عمرو ووقع بعده واو نحو :﴿ هو ومن يأمر بالعدل ﴾ وذلك في ثلاثة عشر موضعا فاختلف في إدغامه لكن رواية الإدغام أقوى. ومنها واو هي إذا كان الهاء ساكنا على قراءته وهو ثلاثة مواضع ﴿ فهو وليّهم ﴾ ﴿ وهو واقع ﴾ قال بعضهم فيها الإظهار بلا خلاف، وقال بعضهم بخلاف والإظهار أقوى. هذا إذا كان المثلان في كلمتين، وأما إذا كانا في كلمة واحدة فلم يأت عنه الإدغام إلا في موضعين ﴿ مناسككم ﴾ في البقرة ﴿ ما سلككم ﴾ في المدثر هذا إدغام المثلين، وأما إدغام المتقاربين في كلمة واحدة فالقاف تدغم في الكاف إذا كان قبلهما متحرك وبعدهما ميم نحو :﴿ يرزقكم ﴾ بخلاف ﴿ ميثاقكم ﴾ و﴿ نرزقك ﴾ وحُكي الخلاف في إدغام ﴿ طلّقكنّ ﴾ ولا يدغم غيره، وفي كلمتين تدغم ستة عشر حرفا إذا لم يكن منونا ولا تاء مخاطب ولا مجزوما ولا مشددا، الحاء تدغم في العين في ﴿ زحزح عن النار ﴾ وروي إدغامها في العين حيث التقيا نحو :﴿ ذُبح على النُّصب ﴾ ﴿ المسيح عيسى ﴾ ﴿ لا جناح عليهما ﴾ والقاف في الكاف وبالعكس عند تحرك ما قبلهما نحو :﴿ خلق كل شيء ﴾ ﴿ لك قصورا ﴾ بخلاف ﴿ فوق كلّ ﴾ ﴿ وتركوك قائما ﴾ والجيم في التاء في كلمة ﴿ ذي المعارج تعرج ﴾ وفي الشين في ﴿ أخرج شطئه ﴾ والشين في السين في ﴿ ذي العرش سبيلا ﴾ والضاد في الشين في ﴿ لبعض شأنهم ﴾ والسين في الزاء ﴿ وإذا النفوس زوّجت ﴾ وفي الشين في ﴿ الرأس شيبا ﴾ والدال تدغم في حروف عشرة حيث جاءت نحو :﴿ المساجد تلك ﴾ ﴿ عدد سنين ﴾ ﴿ القلائد ذلك ﴾ ﴿ وشهد شاهد ﴾ ﴿ من بعد ضراء ﴾ ﴿ يريد ثواب ﴾ ﴿ تريد زينة ﴾ ﴿ تفقد صُواع ﴾ ﴿ من بعد ظلم ﴾ ﴿ داود جالوت ﴾ وفي ﴿ دار الخلد جزاء ﴾ خلاف، ولم يلق الدال طاء في القرآن ولم تدغم الدال مفتوحة بعد ساكن بحرف بغير التاء فلا تدغم ﴿ لداود سليمان ﴾ ﴿ بعد ذلك زنيم ﴾ ﴿ ءال داود شكرا ﴾ ﴿ وءاتينا داود زبورا ﴾ ﴿ بعد ضرّاءَ مسّته ﴾ ﴿ بعد ظلم ﴾ ﴿ بعد ثبوتها ﴾ وتدغم ﴿ كاد يزيغ ﴾ ﴿ بعد توكيدها ﴾ ولا ثالث لهما والتاء تدغم في تلك العشرة إلا في التاء من باب المثلين وقد مر ذكره وكذا في الطاء حيث جاءت ولم يلق التاء دالا إلا والتاء ساكنة نحو ﴿ أجيبت دعوتكما ﴾ ولا ثالث لهما والتاء تدغم في تلك العشرة إلا في التاء من باب المثلين وقد مر ذكره وكذا في الطاء حيث جاءت ولم يلق التاء دالا إلا والتاء ساكنة نحو ﴿ أجيبت دعوتكما ﴾ وذلك واجب الإدغام نحو :﴿ الملائكة طيّبين ﴾ ﴿ بالساعة سعيرا ﴾ ﴿ والذاريات ذروا ﴾ ﴿ بأربعة شهداء { والعاديات ضبحا ﴾ ولا ثاني له ﴿ والنبوّة ثم يقول ﴾ ﴿ إلى الجنة زمرا ﴾ ﴿ الملائكة صفا ﴾ ﴿ والملائكة ظالمي ﴾ في النساء والنحل ليس غيرهما ﴿ وعملوا الصالحات جناح ﴾ والتاء لم تقع مفتوحة بعد ساكن إلا وهو حرف خطاب ولا إدغام فيه إلا في مواضع وقعت بعد ألف فمنها لا خلاف في إدغامه وهو ﴿ أقم الصلاة طرفي النهار ﴾ وفي الباقي خلاف نحو :﴿ حُمِّلوا التوراة ثم لم يحملوها ﴾ وأيضا خلاف في بعض تاء مكسورة ﴿ آت ذا القربى ﴾ ﴿ ولتأت طائفة ﴾ وفي ﴿ جئت شيئا ﴾ مكسور التاء خلاف في إدغامه مع أنه تاء خطاب. ولا خلاف في الإظهار إذا كانت مفتوحة ﴿ جئت شيئا نكرا ﴾ والثاء تدغم في خمسة أحرف حيث جاءت نحو ﴿ حيث تؤمرون ﴾ ﴿ وورث سليمان ﴾ ﴿ والحرث ذلك ﴾ وليس غيره و﴿ حيث شئتم ﴾ و﴿ حديث ضعيف ﴾ وليس غيره. والذال في السين والصاد ﴿ فاتخذ سبيله ﴾ في الكهف في موضعين ﴿ ما اتخذ صاحبه ﴾ واللام تدغم في الراء وبالعكس إلا إذا انفتحا بعد ساكن فتدغم نحو :﴿ كمثل ريح ﴾ ﴿ هنّ أطهر لكم ﴾ لا نحو ﴿ فعصوا رسول ربّهم ﴾ ﴿ إن الأبرار لفي نعيم ﴾ لكن لام قال إذا كان الراء بعده تدغم وإن كان مفتوحا بعد ساكن ﴿ قال ربّ ﴾ ﴿ قال رجلان ﴾ ﴿ قال ربّكم ﴾ والنون تدغم في اللام والراء إذا تحرك ما قبلها نحو :﴿ يخافون ربّهم ﴾ ﴿ بإذن ربّهم ﴾ ﴿ أنّى يكون له الملك ﴾ إلا نون نحن تدغم في اللام حيث جاءت وإن كانت بعد ساكن نحو ﴿ نحن له ﴾ ﴿ وما نحن لك ﴾ وهو عشر مواضع، والميم المتحرك ما قبلها إذا كان بعدها باء تُسكن وتخفى، والباء في ﴿ يعذّب من يشاء ﴾ حيث أتى بدغم في الميم وهي خمسة مواضع سوى ما في البقرة فإنه ساكن الباء في قراءة أبي عمرو وفيه الإدغام الصغير وحيث ما يُجوِّز أبو عمرو الإدغام الكبير فله هناك ثلاثة أوجه أُخر : الإشمام والروم والإظهار غير أن الإشمام يقع في الحروف المضمومة فقط والروم في المضمومة والمكسورة دون المفتوحة. والإشمام : عبارة عن ضم الشفتين كقُبلة المحبوب إشارة إلى الضمة والروم عبارة عن الإخفاء والتلفظ ببعض الحركة، لكن الإشمام والروم عنده في سائر الحروف غير الباء مع الميم وبالعكس نحو :﴿ نصيب برحمتنا ﴾ ﴿ يعذب من يشاء ﴾ ﴿ يعلم ما ﴾ ﴿ أعلم بما كانوا ﴾ والإدغام لا يتأتى إذا كان قبل الحرفين حرف ساكن صحيح نحو :﴿ خذ العفو وأمر ﴾ ﴿ بعد ظلمه ﴾ ﴿ في المهد صبيّا ﴾ ﴿ دار الخلد جزاء ﴾ لاجتماع الساكنين فالإدغام هناك بنطق بعض الحركة وهو الإخفاء والروم، والتعبير هناك بالإدغام تجوز. أما إذا كان الساكن حرف مد أو لين صح الإدغام نحو :﴿ فيه هدى ﴾ ﴿ وقال لهم ﴾ ﴿ ويقول ربنا ﴾ ﴿ وقوم موسى ﴾ و﴿ كيف فعل ﴾ والله أعلم.
المَلِكُ والمَالِكُ قيل : معناهما واحد الرّبّ مثل فرهين وفارهين وحذرين وحاذرين، والحق أن المالك من المِلك بالكسر بمعنى الرب يقال مالك الدار ورب الدار والمَلك من الملك بالضم بمعنى السلطان هما صفتان له تعالى، والقراءتان متواترتان فلا يجوز أن يقال المَلِك هو المختار، وقيل : الملك والمالك بمعنى القادر على الاختراع من العدم إلى الوجود فلا يطلق على غيره تعالى إلا مجازا. ويوم الدين يوم القيامة والدين الجزاء ومنه «كما تدين تدان » [ رواه أبو نعيم وابن عدي والديلمي، وعبد الرزاق في الزهد عن أبي قلابة مرسلا وأحمد عن أبي الدرداء موقوفا، انظر كشف الخفاء ( ٩٠٢ ) ] وهو مثل مشهور وحديث مرفوع رواه ابن عدي في الكامل بسند ضعيف وله شاهد مرسل عند البيهقي وأخرج أحمد عن مالك ابن دينار أنه في التوراة والديلمي عن فضالة بن عبيدة مرفوعا أنه في الإنجيل، وقال مجاهد : يوم الدين أي الحساب ﴿ ذلك الدين القيّم ﴾ [ التوبة : ٣٦ ] أي الحساب المستقيم، وقيل : القهر منه دنته فدان أي قهرته فذل، أو الإسلام أو الطاعة، فإنه يوم لا ينفع فيه إلا الإسلام والطاعة، وإنما خص ذلك اليوم بالذكر لأن في غيرها من الأيام قد يطلق الملك لغيره تعالى مجازاً ولأن فيه إنذار ودعوة إلى القول بإياك نعبد، أضاف الصفة إلى الظرف إجراءً له مجرى المفعول به نحو يا سارق الليلة، ومعناه الماضي على طريقة ﴿ نادى أصحاب الجنة ﴾ [ الأعراف : ٤٤ ] فإن المتيقن كالواقع فصح وقوعها صفة للمعرفة، وإجراء هذه الصفات على الله تعالى للتعليل على أنه الحقيق بالحمد ومن لم يتصف بتلك الصفات لا يستأهل الحمد فضلا أن يعبد والتمهيد لقوله ﴿ إياك نعبد ﴾.
وقوله :﴿ الرحمن الرحيم ﴾ يدل على الاختيار وينفي الإيجاب بالذات والوجوب عليه قضية لسوابق الأعمال.
ثم لما ذكر الحقيق بالحمد ووصفه بصفات عظام مميزة عن سائر الذوات وتعلق العلم بمعلوم معين خاطب بذلك فقال :﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾ أجاز القراء فيه الروم والإشمام في حالة الوقف وكذا في كل مضموم، والمعنى يا من هو بالصفات المذكورة نخصك بالعبادة والاستعانة عليها وعلى جميع أمورنا، ومن عادة العرب التفنن في الكلام والالتفات من الغيبة إلى الخطاب وبالعكس من التكلم إليهما وبالعكس تنشيطا للسامع. والعبادة أقصى الخضوع والتذلل ومنه طريق معبد أي مذلل والضمير في الفعلين للقارئ ومن معه، وفيه إشعار على التزام الجماعة، وقدم المفعول للتعظيم والاهتمام والحصر، قال ابن عباس : معناه نعبدك ولا نعبد غيرك، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق الضحاك عنه، وقيل الواو في ﴿ وإياك نستعين ﴾ للحال أي نعبدك مستعينين بك.
﴿ اهدنا ﴾ أي أرشدنا، بيان للمعونة المطلوب، أو إفراد لما هو المقصود الأعظم والهداية : دلالة بلطف ولذلك يستعمل في الخير، وأصله أن يعدى باللام أو إلى وقد يعدى بنفسه، وهذا الدعاء من المؤمنين ومن النبي صلى الله عليه وسلم مع كونهم على الهداية لطلب التثبت أو طلب مزيد الهداية فإن الألطاف والهدايات من الله تعالى لا تتناهى على مذهب أهل السنة. ﴿ الصراط المستقيم ﴾ قرأ ابن كثير برواية قنبل الصراط معرفا باللام ومضافا في الفاتحة وسائر القرآن وكذا منكرا حيث أتى بالسين على الأصل لأنه من سَرَطَ الطّعامَ أي ابتلعه، والطريق يسرط السابلة وللباقون بالصاد وهو لغة قريش، وقرأ خلف كلها بين الصاد والزاء وكذا خلاد ههنا خاصة، والمستقيم : المستوي والمراد طريق الحق، وقيل ملة الإسلام، والقولان أخرجهما ابن جرير عن ابن عباس
﴿ صراط الذين أنعمت عليهم ﴾ بدل من الأول بدل الكل، وفائدته التوكيد والتنصيص على أن طريقهم هو المشهود عليه بالاستقامة، والمراد بالذين أنعمت عليهم كل من ثبَّته الله تعالى على الإيمان والطاعة من النّبيّين والصديقين والشهداء والصالحين. قرأ حمزة عليهم – إليهم – لديهم – حيث وقع بضم الهاء وصلا ووقفا والباقون بكسرها، وضم ابن كثير كل ميم جمع مشبعا في الوصل إذا لم يلقها ساكن، وقالون يقول بالتخيير في الإشباع وعدمه لقيها ساكن أو لا وورش يشبع عند ألف القطع فقط، وإذا تلقته ألف الوصل وقبل الهاء كسر أو ياء ساكنة نحو :﴿ بهم الأسباب ﴾ ﴿ وعليهم القتال ﴾ ضم الهاء والميم حمزة والكسائي وكسرهما أبو عمرو، وكذلك يعقوب إذا انكسر ما قبله، والآخرون ضموا الميم على الأصل وكسروا الهاء لأجل الياء والكسرة، وفي الوقف يكسر الهاء عند الكل لكسرة ما قبلها أو الياء إلا ما ذكرنا خلاف حمزة في الكلمات الثلاث.
﴿ غير المغضوب عليهم ولا الضالين ﴾ بدل من ﴿ الذين أنعمت عليهم ﴾ أي المنعم عليهم هم السالمون من الغضب والضلال، أو صفة له مبينة أو مقيدة إن أجري الموصول مجرى النكرة إذا لم يُقصد به معهود، كما في قول الشاعر ولقد أمَرُّ على اللئيم يسبُّني، أو جعل غير معرفة لإضافته إلى ماله ضد واحد فيتعين، يقال عليكم بالحركة غير السكون، وعليهم في محل الرفع نائب مناب الفاعل، ولا مزيدة لتأكيد ما في غير من معنى النفي كأنه قال لا المغضوب عليهم، والغضب : ثوران النفس لإرادة الانتقام وإذا أسند إلى الله أريد به المنتهى، والضلالة : ضد الهداية وهو العدول عن الطريق الموصل وله عرض عريض. أخرج أحمد في مسنده، والترمذي وحسنه وابن حبان في صحيحه وغيرهم عن عدي بن حاتم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن المغضوب عليهم اليهود وإن الضالين النصارى » [ أخرجه الترمذي في كتاب : تفسير القرآن، باب : ومن سورة الفاتحة :( ٢٩٥٤ ) ] وأخرج ابن مردويه عن أبي ذر نحوه، وأخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم التفسير بذلك عن ابن عباس، وابن مسعود، والربيع ابن أنس، وزيد بن أسلم، قال ابن أبي حاتم : لا أعلم في ذلك خلافا بين المفسرين، واللفظ عام يعم الكفار والعصاة والمبتدعة، قال الله تعالى في القاتل عمدا ﴿ وغضب الله عليه ﴾ [ النساء، ٩٣ ] قال :﴿ فماذا بعد الحق إلا الضلال ﴾ [ يونس : ٣٢ ] وقال :﴿ الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا ﴾[ الكهف : ١٠٤ ].
Icon