ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ يُونُسَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ الْآيَةَ.
ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِشُرْبِ الْحَمِيمِ، وَبِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَالْحَمِيمُ: الْمَاءُ الْحَارُّ، وَذَكَرَ أَوْصَافَ هَذَا الْحَمِيمِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [٥٥ ٤٤]، وَقَوْلِهِ: وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [٤٧ ١٥]، وَقَوْلِهِ: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [٢٢ ١٩، ٢٠]، وَقَوْلِهِ: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ الْآيَةَ [١٨ ٢٩]، وَقَوْلِهِ: فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ [٥٦ ٥٤، ٥٥].
وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي يُسْقَوْنَ صَدِيدٌ، أَعَاذَنَا اللَّهُ وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ الْآيَةَ [١٤ ١٦] :
وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ يُسْقَوْنَ مَعَ الْحَمِيمِ الْغَسَّاقَ، كَقَوْلِهِ: هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ [٣٨ ٥٧، ٥٨]، وَقَوْلِهِ: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا [٧٨ ٢٤، ٢٥]، وَالْغَسَّاقُ: صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ - أَعَاذَنَا اللَّهُ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْهَا - وَأَصْلُهُ مِنْ غَسَقَتِ الْعَيْنُ: سَالَ دَمْعُهَا، وَقِيلَ: هُوَ لُغَةً: الْبَارِدُ الْمُنْتِنُ، وَالْحَمِيمُ الْآنِي: الْمَاءُ الْبَالِغُ غَايَةَ الْحَرَارَةِ، وَالْمُهْلُ: دُرْدِيُّ الزَّيْتِ، أَوِ الْمُذَابُ مِنَ النُّحَاسِ، وَالرَّصَاصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْآيَاتُ الْمُبَيِّنَةُ لِأَنْوَاعِ عَذَابِ أَهْلِ النَّارِ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ.
ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ تَحِيَّةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ سَلَامٌ، أَيْ يُسَلِّمُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِذَلِكَ، وَيُسَلِّمُونَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وَتُسَلِّمُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ بِذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى هَذَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ الْآيَةَ [٣٣ ٤٤]، وَقَوْلِهِ: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ الْآيَةَ [١٣ ٢٣، ٢٤]، وَقَوْلِهِ: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا الْآيَةَ
وَمَعْنَى السَّلَامِ: الدُّعَاءُ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْآفَاتِ.
وَالتَّحِيَّةُ: مَصْدَرُ حَيَّاكَ اللَّهُ، بِمَعْنَى أَطَالَ حَيَاتَكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ.
ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ فِي وَقْتِ الْكَرْبِ يَبْتَهِلُ إِلَى رَبِّهِ بِالدُّعَاءِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، فَإِذَا فَرَّجَ اللَّهُ كَرْبَهُ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ، وَنَسِيَ مَا كَانَ فِيهِ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قَطُّ.
وَبَيَّنَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ الْآيَةَ [٣٩ ٨]، وَقَوْلِهِ: فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ الْآيَةَ [٣٩ ٤٩]، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ [٤١ ٥١] وَالْآيَاتُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
إِلَّا أَنَّ اللَّهَ اسْتَثْنَى مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ هُودٍ: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [١٠، ١١]، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجَبًا لِلْمُؤْمِنِ لَا يَقْضِي اللَّهُ لَهُ قَضَاءً إِلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ، إِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ فَصَبَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ».
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي.
أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ مَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُبَدِّلَ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبَدِّلُ مِنْهُ مَا شَاءَ بِمَا شَاءَ.
وَصَرَّحَ بِهَذَا الْمَفْهُومِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ الْآيَةَ [١٦ ١٠١]، وَقَوْلِهِ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا الْآيَةَ [٢ ١٠٦]، وَقَوْلِهِ: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى [٨٧ ٦، ٧].
فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حُجَّةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى كُفَّارِ مَكَّةَ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُبْعَثْ إِلَيْهِمْ رَسُولًا حَتَّى لَبِثَ فِيهِمْ عُمُرًا مِنَ الزَّمَنِ، وَقَدْرُ ذَلِكَ أَرْبَعُونَ سَنَةً، فَعَرَفُوا صِدْقَهُ، وَأَمَانَتَهُ، وَعَدْلَهُ، وَأَنَّهُ بَعِيدٌ كُلَّ الْبُعْدِ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُسَمُّونَهُ الْأَمِينَ، وَقَدْ أَلْقَمَهُمُ اللَّهُ حَجَرًا بِهَذِهِ الْحُجَّةِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ [٢٣ ٦٩] وَلِذَا لَمَّا سَأَلَ هِرَقْلُ مَلِكُ الرُّومِ أَبَا سُفْيَانَ، وَمَنْ مَعَهُ عَنْ صِفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ هِرَقْلُ لِأَبِي سُفْيَانَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: لَا، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ زَعِيمَ الْكُفَّارِ، وَرَأْسَ الْمُشْرِكِينَ وَمَعَ ذَلِكَ اعْتَرَفَ بِالْحَقِّ، وَالْحَقُّ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْأَعْدَاءُ.
فَقَالَ لَهُ هِرَقْلُ: فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ يَذْهَبُ فَيَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ. اهـ.
وَلِذَلِكَ وَبَّخَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ هُنَا: أَفَلَا تَعْقِلُونَ [١٠ ١٦].
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى قَوْلِهِ: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.
ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمَثَلَ لِلدُّنْيَا بِالنَّبَاتِ النَّاعِمِ الْمُخْتَلِطِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَعَمَّا قَلِيلٍ يَيْبَسُ، وَيَكُونُ حَصِيدًا يَابِسًا كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَطُّ، وَضَرَبَ لَهَا أَيْضًا الْمَثَلَ الْمَذْكُورَ فِي «الْكَهْفِ» فِي قَوْلِهِ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ [١٨ ٤٥] إِلَى قَوْلِهِ: وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا، وَأَشَارَ لِهَذَا الْمَثَلِ بِقَوْلِهِ فِي «الزُّمَرِ» : ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ [٢١]، وَقَوْلِهِ فِي «الْحَدِيدِ» : كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا الْآيَةَ [٢٠].
تَنْبِيهٌ
التَّشْبِيهُ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَ الْبَلَاغِيِّينَ مِنَ التَّشْبِيهِ الْمُرَكَّبِ ; لِأَنَّ وَجْهَ الشَّبَهِ صُورَةٌ مُنْتَزَعَةٌ مِنْ أَشْيَاءَ، وَهُوَ كَوْنُ كُلٍّ مِنَ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ يَمْكُثُ مَا شَاءَ اللَّهُ، وَهُوَ فِي إِقْبَالٍ وَكَمَالٍ، ثُمَّ عَمَّا قَلِيلٍ يَضْمَحِلُّ وَيَزُولُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى:
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا الْآيَةَ.
ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَجْمَعُ النَّاسَ جَمِيعًا، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ الْآيَةَ.
صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، بِأَنَّ كُلَّ نَفْسٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَبْلُو، أَيْ: تُخْبَرُ وَتَعْلَمُ مَا أَسْلَفَتْ، أَيْ قَدَّمَتْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [٧٥ ١٣]، وَقَوْلِهِ: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [٨٦ ٩]، وَقَوْلِهِ: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [١٧ ١٣، ١٤]، وَقَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا الْآيَةَ [١٨ ٤٩].
وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ «تَتْلُو» بِتَاءَيْنِ فَفِي مَعْنَى الْآيَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا تَتْلُو بِمَعْنَى تَقْرَأُ فِي كِتَابِ أَعْمَالِهَا جَمِيعَ مَا قَدَّمَتْ، فَيَرْجِعُ إِلَى الْأُولَى.
وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ عَمَلَهَا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَتَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُهُ فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ» الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ إِلَى قَوْلِهِ: فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ.
صَرَّحَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، بِأَنَّ الْكَفَّارَ يُقِرُّونَ بِأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا، هُوَ رَبُّهُمُ الرَّزَّاقُ الْمُدَبِّرُ لِلْأُمُورِ الْمُتَصَرِّفُ فِي مُلْكِهِ بِمَا يَشَاءُ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي اعْتِرَافِهِمْ بِرُبُوبِيَّتِهِ، وَمَعَ هَذَا أَشْرَكُوا بِهِ جَلَّ وَعَلَا.
وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ مُقِرُّونَ بِرُبُوبِيَّتِهِ جَلَّ وَعَلَا وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ ذَلِكَ لِإِشْرَاكِهِمْ مَعَهُ غَيْرَهُ فِي حُقُوقِهِ جَلَّ وَعَلَا - كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [٤٣ ٨٧]، وَقَوْلِهِ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [٤٣ ٩]، وَقَوْلِهِ: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [٢٣ ٨٤، ٨٥] إِلَى قَوْلِهِ: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [١٢ ١٠٦].
وَالْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الِاعْتِرَافَ بِرُبُوبِيَّتِهِ جَلَّ وَعَلَا لَا يَكْفِي فِي الدُّخُولِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِتَحْقِيقِ مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ
أَمَّا تَجَاهُلُ فِرْعَوْنَ - لَعَنَهُ اللَّهُ - لِرُبُوبِيَّتِهِ جَلَّ وَعَلَا، فِي قَوْلِهِ: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [٢٦ ٢٣] فَإِنَّهُ تَجَاهُلُ عَارِفٍ ; لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَرْبُوبٌ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ الْآيَةَ [١٧ ١٠٢]، وَقَوْلِهِ: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [٢٧ ١٤].
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ إِلَى قَوْلِهِ: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ.
أَلْقَمَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُشْرِكِينَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ حَجَرًا، بِأَنَّ الشُّرَكَاءَ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِهِ لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ هُوَ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ بِالْإِحْيَاءِ مَرَّةً أُخْرَى، وَأَنَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ.
وَصَرَّحَ بِمِثْلِ هَذَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [٣٠ ٤٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا [٢٥ ٣]، وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [٣٥ ٣]، وَقَوْلِهِ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ الْآيَةَ [١٦ ١٧].
وَقَوْلِهِ: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ [١٣ ١٦] وَقَوْلِهِ: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ الْآيَةَ [٣٩ ٣٨]، وَقَوْلِهِ: أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ الْآيَةَ [٦٧ ٢١]، وَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ الْآيَةَ [٢٩ ١٧].
وَالْآيَاتُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَسْوِيَةَ مَا لَا يَضُرُّ، وَلَا يَنْفَعُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مَعَ مَنْ بِيَدِهِ الْخَيْرُ كُلُّهُ الْمُتَصَرِّفِ بِكُلِّ مَا شَاءَ - لَا تَصْدُرُ إِلَّا مِمَّنْ لَا عَقْلَ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ أَصْحَابِ ذَلِكَ: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [٦٧ ١٠].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَا يَكُونُ مُفْتَرًى مِنْ دُونِ اللَّهِ مَكْذُوبًا بِهِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ جَلَّ وَعَلَا،
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا صَرَّحَ هُنَا بِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَا كَانَ أَنْ يُفْتَرَى عَلَى اللَّهِ، أَقَامَ الْبُرْهَانَ الْقَاطِعَ عَلَى أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ، فَتَحَدَّى جَمِيعَ الْخَلْقِ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ الْخَلْقِ لَقَدَرَ الْخَلْقُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، فَلَمَّا عَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ كُلُّهُمْ حَصَلَ الْيَقِينُ وَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ أَنَّهُ مِنَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، قَالَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [١٠ ٣٨]، وَتَحَدَّاهُمْ أَيْضًا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، بِقَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ الْآيَةَ [٢ ٢٣]، وَتَحَدَّاهُمْ فِي «هُودٍ» بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ، بِقَوْلِهِ: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ الْآيَةَ [١٣]، وَتَحَدَّاهُمْ فِي «الطُّورِ» بِهِ كُلِّهِ بِقَوْلِهِ: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ [٣٤]، وَصَرَّحَ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» بِعَجْزِ جَمِيعِ الْخَلَائِقِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ بِقَوْلِهِ: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [١٧ ٨٨]، كَمَا قَدَّمْنَا، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا الْآيَةَ [٢ ٢٤].
قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ.
التَّحْقِيقُ أَنَّ تَأْوِيلَهُ هُنَا، هُوَ حَقِيقَةُ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ الْأَمْرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ «آلِ عِمْرَانَ»، وَيَدُلُّ لِصِحَّةِ هَذَا قَوْلُهُ فِي «الْأَعْرَافِ» : هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ [٥٣].
وَنَظِيرُ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ [٣٨ ٨].
أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنْ يُظْهِرَ الْبَرَاءَةَ مِنْ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ الْقَبِيحَةِ إِنْكَارًا لَهَا، وَإِظْهَارًا لِوُجُوبِ التَّبَاعُدِ عَنْهَا، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [١٠٩ ١]، إِلَى قَوْلِهِ: وَلِيَ دِينِ [١٠٩ ٦]، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَأَتْبَاعِهِ لِقَوْمِهِ: إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الْآيَةَ [٦٠ ٤] ٣٠.
وَبَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ اعْتِزَالَ الْكُفَّارِ، وَالْأَوْثَانِ، وَالْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ مِنْ فَوَائِدِهِ تَفَضُّلُ اللَّهِ تَعَالَى بِالذُّرِّيَّةِ الطَّيِّبَةِ الصَّالِحَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِي «مَرْيَمَ» : فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ [٤٩]، إِلَى قَوْلِهِ: عَلِيًّا [١٩ ٥٠].
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ، وَغَيْرُهُ: إِنَّ آيَةَ: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي الْآيَةَ [١٠ ٤١]، مَنْسُوخَةٌ بِآيَاتِ السَّيْفِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَاهَا مُحْكَمٌ ; لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ إِلَى اللَّهِ مِنْ عَمَلِ السُّوءِ لَا شَكَّ فِي بَقَاءِ مَشْرُوعِيَّتِهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ الْآيَةَ.
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا حُشِرُوا اسْتَقَلُّوا مُدَّةَ مُكْثِهِمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا، حَتَّى كَأَنَّهَا قَدْرُ سَاعَةٍ عِنْدَهُمْ، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِي آخِرِ «الْأَحْقَافِ» : كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ [٣٥]، وَقَوْلِهِ فِي آخِرِ «النَّازِعَاتِ» : كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا الْآيَةَ [٤٦]، وَقَوْلِهِ فِي آخِرِ «الرُّومِ» : وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ الْآيَةَ [٥٥].
وَقَدْ بَيَّنَّا بِإِيضَاحٍ فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ أَنَّ الدُّنْيَا عِنْدَهُمْ كَسَاعَةٍ وَبَيْنَ الْآيَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ أَنَّهَا عِنْدَهُمْ كَأَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا [٢٠ ١٠٣]، وَقَوْلِهِ: قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ [٢٣ ١١٣]، فَانْظُرْهُ فِي سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [٢٣ ١] فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ.
صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ أَهْلَ الْمَحْشَرِ
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» أَيْضًا وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ: فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [٣٧ ٢٧]، فِي سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ أَيْضًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ.
صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِخُسْرَانِ الْمُكَذِّبِينَ بِلِقَائِهِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُهْتَدِينَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الْمَفْعُولَ بِهِ لِقَوْلِهِ: «خَسِرَ» وَذَكَرَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ أَسْبَابًا مِنْ أَسْبَابِ الْخُسْرَانِ، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ الْمَفْعُولَ الْمَحْذُوفَ هُنَا، فَمِنَ الْآيَاتِ الْمُمَاثِلَةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي «الْأَنْعَامِ» : قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَاحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا الْآيَةَ [٣١]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي «الْبَقَرَةِ» : الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [٢٧] وَقَوْلُهُ فِي «الْبَقَرَةِ» أَيْضًا: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [٢٧]، وَقَوْلُهُ فِي «الْأَعْرَافِ» : أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [١٢١]، وَقَوْلُهُ فِي «الْأَعْرَافِ» أَيْضًا: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [١٧٨]، وَقَوْلُهُ فِي «الزُّمَرِ» : لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [٦٣].
وَالْآيَاتُ فِي مِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ، وَقَدْ أَقْسَمَ تَعَالَى عَلَى أَنَّ هَذَا الْخُسْرَانَ لَا يَنْجُو مِنْهُ إِنْسَانٌ إِلَّا بِأَرْبَعَةِ أُمُورٍ:
الْأَوَّلُ: الْإِيمَانُ.
الثَّانِي: الْعَمَلُ الصَّالِحُ.
الثَّالِثُ: التَّوَاصِي بِالْحَقِّ.
الرَّابِعُ: التَّوَاصِي بِالصَّبْرِ.
وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ [١٠٣ ١، ٢] وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ
وَزَادَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ خُسْرَانَ الْأَهْلِ مَعَ النَّفْسِ، كَقَوْلِهِ فِي «الزُّمَرِ» : قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [١٥]، وَقَوْلِهِ فِي «الشُّورَى» : وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ [٤٥].
وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ خُسْرَانَ الْخَاسِرِينَ قَدْ يَشْمَلُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [٢٢ ١١].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ الْآيَةَ.
بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُرِيَهُ فِي حَيَاتِهِ بَعْضَ مَا يَعِدُ الْكُفَّارَ مِنَ النَّكَالِ وَالِانْتِقَامِ، أَوْ يَتَوَفَّاهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَمَرْجِعُهُمْ إِلَيْهِ جَلَّ وَعَلَا لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِمَّا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ بِهِمْ لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِمْ، وَنُفُوذِ مَشِيئَتِهِ جَلَّ وَعَلَا فِيهِمْ، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «الْمُؤْمِنِ» : فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [٧٧]، وَقَوْلِهِ فِي «الزُّخْرُفِ» : فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ [٤١، ٤٢] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
تَنْبِيهٌ
لَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فِعْلُ الْمُضَارِعِ بَعْدَ «إِنْ» الشَّرْطِيَّةِ الْمُدْغَمَةِ فِي «مَا» الْمَزِيدَةِ لِتَوْكِيدِ الشَّرْطِ، إِلَّا مُقْتَرِنًا بِنُونِ التَّوْكِيدِ الثَّقِيلَةِ، كَقَوْلِهِ هُنَا: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ الْآيَةَ [١٠ ٤٦]، فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ الْآيَةَ [٤٣ ٤١]، فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ الْآيَةَ [٨ ٥٧]، وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ الْآيَةَ [٨ ٥٨].
وَلِذَلِكَ زَعَمَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةَ وُجُوبَ اقْتِرَانِ الْمُضَارِعِ بِالنُّونِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَالِ
فَإِمَّا تَرَيِنِّي وَلِي لَمَّةٌ | فَإِنَّ الْحَوَادِثَ أَوْدَى بِهَا |
زَعَمَتْ تُمَاضِرُ أَنَّنِي إِمَّا أَمُتْ | يُسَدِّدُ أُبَيْنُوهَا الْأَصَاغِرُ خَلَّتِي |
صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا، وَبَيَّنَ هَذَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا الْآيَةَ [١٦ ٣٦]، وَقَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ [٣٥ ٢٤]، وَقَوْلِهِ: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [١٣ ٧] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدْ بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عَدَدَ الْأُمَمِ سَبْعُونَ أُمَّةً فِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ الْقُشَيْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ»، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْآيَاتِ فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» وَوَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ الْآيَةَ [٦]، فِي سُورَةِ «الرَّعْدِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ.
أَوْضَحَ اللَّهُ تَعَالَى مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي سُورَةِ «الزُّمَرِ» بِقَوْلِهِ: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى:
لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ.
صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلًا، وَأَنَّهُ لَا يَسْبِقُ أَحَدٌ أَجَلَهُ الْمُحَدَّدَ لَهُ، وَلَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ.
وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ [١٥ ٥ - ٢٣ ٤٣]، وَقَوْلِهِ: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [٧١ ٤]، وَقَوْلِهِ: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا الْآيَةَ [٦٣ ١١] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ.
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ يَطْلُبُونَ فِي الدُّنْيَا تَعْجِيلَ الْعَذَابِ كُفْرًا وَعِنَادًا، فَإِذَا عَايَنُوا الْعَذَابَ آمَنُوا، وَذَلِكَ الْإِيمَانُ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ وَحُضُورِهِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ، وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ
وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [٤٠ ٨٤، ٨٥]، وَقَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [١٠ ٩٠، ٩١]، وَقَوْلِهِ: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ الْآيَةَ [٤ ١٨]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَاسْتَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى قَوْمَ يُونُسَ دُونَ غَيْرِهِمْ بِقَوْلِهِ: فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [١٠ ٩٨].
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ الْآيَةَ.
ذَكَرَ تَعَالَى عَنْ مُوسَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُ سِحْرَ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ.
وَصَرَّحَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ بِأَنَّ ذَلِكَ الَّذِي قَالَ مُوسَى إِنَّهُ سَيَقَعُ مِنْ إِبْطَالِ اللَّهِ لِسِحْرِهِمْ، أَنَّهُ وَقَعَ بِالْفِعْلِ، كَقَوْلِهِ: فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ [٧ ١١٨، ١١٩] وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ:
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ الْآيَةَ.
ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ بَوَّأَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ.
وَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا الْآيَةَ [٧ ١٣٧]، وَقَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ [٦٢ ٥٧، ٥٨] إِلَى قَوْلِهِ: كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [٢٦ ٥٩] وَقَوْلِهِ: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ [٤٤ ٢٥، ٢٦] إِلَى قَوْلِهِ: كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ [٤٤ ٢٨]، وَمَعْنَى بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ: أَنْزَلْنَاهُمْ مَنْزِلًا مَرْضِيًّا حَسَنًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ.
صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ
وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ.
ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ إِيمَانَ قَوْمِ يُونُسَ مَا نَفَعَهُمْ إِلَّا فِي الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ، لِقَوْلِهِ: كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
وَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ: فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَنَّ الْآخِرَةَ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى أَطْلَقَ عَلَيْهِمُ اسْمَ الْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ فِي سُورَةِ «الصَّافَّاتِ»، وَالْإِيمَانُ مُنْقِذٌ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ، كَمَا أَنَّهُ بَيَّنَ فِي «الصَّافَّاتِ» أَيْضًا كَثْرَةَ عَدَدِهِمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [١٤٧، ١٤٨].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا الْآيَةَ.
صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ لَوْ شَاءَ إِيمَانَ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ لَآمَنُوا كُلُّهُمْ جَمِيعًا، وَهُوَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ كُفْرَهُمْ وَاقِعٌ بِمَشِيئَتِهِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا الْآيَةَ [٦ ١٠٧]، وَقَوْلِهِ: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [٣٢ ١٣]، وَقَوْلِهِ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى [٦ ١٠٧] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ.
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَلَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَقْهَرَ قَلْبَهُ عَلَى الِانْشِرَاحِ إِلَى الْإِيمَانِ إِلَّا إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهِ ذَلِكَ.
وَأَوْضَحَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [٥ ٤١]، وَقَوْلِهِ: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ الْآيَةَ
وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَأَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّهُ لَا يَهْدِي الْقُلُوبَ وَيُوَجِّهُهَا إِلَى الْخَيْرِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَأَظْهَرُ دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ الْآيَةَ [١٠ ١٠٠].
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ.
أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا جَمِيعَ عِبَادِهِ أَنْ يَنْظُرُوا مَاذَا خَلَقَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى عِظَمِ خَالِقِهَا، وَكَمَالِهِ، وَجَلَالِهِ، وَاسْتِحْقَاقِهِ لِأَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا.
وَأَشَارَ لِمِثْلِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ الْآيَةَ [٤١ ٥٣]، وَوَبَّخَ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ» مَنْ لَمْ يَمْتَثِلْ هَذَا الْأَمْرَ، وَهَدَّدَهُ بِأَنَّهُ قَدْ يُعَاجِلُهُ الْمَوْتُ فَيَنْقَضِي أَجَلُهُ قَبْلَ أَنْ يَنْظُرَ فِيمَا أَمَرَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ ; لِيُنَبِّهَ بِذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ الْمُبَادَرَةِ فِي امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ الْآيَةَ [١٨٥].
تَنْبِيهٌ
آيَةُ «الْأَعْرَافِ» هَذِهِ الَّتِي ذَكَرْنَا تَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْفَوْرَ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأُصُولِيِّينَ، خِلَافًا لِجَمَاعَةٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ.
أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ.
أَوْضَحَ مَعْنَاهُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ.
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا حَكَمَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ نَبِيِّهِ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِ، وَقَدْ بَيَّنَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ حَكَمَ بِنَصْرِهِ عَلَيْهِمْ، وَإِظْهَارِ دِينِهِ عَلَى كُلِّ