تفسير سورة يونس

تفسير القاسمي
تفسير سورة سورة يونس من كتاب محاسن التأويل المعروف بـتفسير القاسمي .
لمؤلفه جمال الدين القاسمي . المتوفي سنة 1332 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

١٠- سورة يونس
سميت به، عليه السلام، لتضمنها قوله١ :﴿ فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس ﴾ ففيه غاية ما يفيد فيه الإيمان، وضرر تركه وتأخيره، وهو المقصد الأعلى من إنزال الكتاب قاله المهايمي.
وهذه السورة مكية، واستثنى منها قوله تعالى٢ :﴿ فإن كنت في شك... ﴾ الآيتين. وقوله٣ :﴿ ومنهم من يؤمن به... ﴾ الآية. قيل : نزلت في اليهود. وقيل : من أولها إلى رأس أربعين مكي، والباقي مدني- حكاه ابن الفرس والسخاوي في ( جمال القراء ).
وآياتها مائة وتسعة.
١ [١٠ / يونس / ٩٨]..
٢ [١٠ / يونس /٩٤-٩٥]..
٣ [١٠ / يونس / ٤٠]..

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١)
الر مسرود على نمط التعديد بطريق التحدي. أو اسم للسورة فمحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. أي هذه السورة مسماة ب الر والإشارة إليها قبل جريان ذكرها لما أنها باعتبار كونها على جناح الذكر وبصدده، صارت في حكم الحاضر، كما يقال: هذا ما اشترى فلان، أو النصب بتقدير: اقرأ.
وكلمة تِلْكَ إشارة إليها، إما على تقدير كون الر مسرودة على نمط التعديد، فقد نزّل حضور مادتها، التي هي الحروف المذكورة، منزلة ذكرها فأشير إليها، كأنه قيل: هذه الكلمات المؤلفة من جنس هذه الحروف المبسوطة... إلخ.
وأما على تقدير كونه اسما للسورة، فقد نوهت بالإشارة إليها بعد تنويهها بتعيين اسمها، أو الأمر بقراءتها. وما في اسم الإشارة من معنى البعد، للتنبيه على بعد منزلتها في الفخامة، ومحله الرفع على أنه مبتدأ، خبره قوله تعالى:
آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ، وعلى تقدير كون الر مبتدأ، فهو مبتدأ ثان، أو بدل من الأول. والمعنى: هي آيات مخصوصة منه، مترجمة باسم مستقل، والمقصود ببيان بعضيتها منه، وصفا بما اشتهر اتصافه به من النعوت الفاضلة، والصفات الكاملة.
والمراد ب الْكِتابِ: إما جميع القرآن العظيم، وإن لم ينزل الكل حينئذ، لاعتبار تعينه وتحققه في علم الله تعالى وإما جميع القرآن النازل وقتئذ، المتفاهم بين الناس إذ ذاك.
والْحَكِيمِ أي ذو الحكمة، وإنما وصف به لاشتماله على فنون الحكم الباهرة، ونطقه بها، أو هو من باب وصف الكلام بصفة صاحبه، أو من باب الاستعارة المكنيّة المبنية على تشبيه الكتاب الحكيم الناطق بالحكمة- أفاده أبو السعود-.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٢]
أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢)
أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ الهمزة لإنكار التعجب والتعجيب منه، وإنما أنكر ذلك لكون سنة الله جارية أبدا على هذا الأسلوب في الإيحاء إلى الرجال، وإنما كان تعجبهم لبعدهم عن مقامه، وعدم مناسبة حالهم لحاله، ومنافاة ما جاء به لما اعتقدوه و «القدم» بمعنى السبق مجازا، لكونه سببه وآلته، كما تطلق «اليد» على النعمة، و «العين» على الجاسوس، و «الرأس» على الرئيس. ثم إن السبق مجاز عن الفضل والتقدم المعنويّ إلى المنازل الرفيعة، فهو مجاز بمرتبتين أو «القدم» بمعنى المقام، ك مَقْعَدِ صِدْقٍ [القمر: ٥٥]، بإطلاق الحالّ وإرادة المحلّ، وإضافته إلى الصدق من إضافة الموصوف إلى الصفة. وأصله «قدم صدق» أي محققة مقررة. وفيه مبالغة لجعلها عين الصدق، وتنبيه على أنهم إنما نالوا ما نالوا بصدقهم، ظاهرا وباطنا.
قال في (الانتصاف) : ولم يرد في سابقة السوء تسميتها «قدما» إما لأن المجاز لا يطرد، وإما أن يكون مطردا، ولكن غلب العرف على قصرها، كما يغلب في الحقيقة.
قالَ الْكافِرُونَ وهم المتعجبون إِنَّ هذا أي الكتاب الحكيم لَسِحْرٌ مُبِينٌ أي ظاهر. وقرئ «لساحر» على أن الإشارة إلى الرسول صلوات الله عليه. وهو دليل عجزهم واعترافهم، وإن كانوا كاذبين في تسميته سحرا، وذلك لأن التعجب أولا، ثم التكلم بما هو معلوم الانتفاء قطعا، حتى عند نفس المعارض، دأب العاجز المفحم.
ثمّ بيّن تعالى بطلان تعجبهم، وما بنوا عليه، وحقق فيه حقية ما تعجبوا منه، وصحة ما أنكروه، بالتنبيه على بعض ما يدل عليها من شؤون الخلق والتقدير، ويرشدهم إلى معرفتها بأدنى تذكير، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٣]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ قال
البخاري «١» في صحيحه في الرد على الجهمية:
قال أبو العالية: استوى إلى السماء ارتفع. وقال مجاهد: استوى على العرش علا، أي بلا تمثيل ولا تكييف، والعرش: هو الجسم المحيط بجميع الكائنات، وهو أعظم المخلوقات و «الأيام» قيل: كهذه، وقيل: كل يوم كألف سنة.
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي يقضي ويقدر، على حسب مقتضى الحكمة أمر الخلق كله، وما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ تقرير لعظمته وعز جلاله، ورد على من زعم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله. ذلِكُمُ اللَّهُ إشارة إلى المعلوم بتلك العظمة، أي ذلك العظيم الموصوف بما وصف هو رَبَّكُمُ أي الذي رباكم لتعبدوه فَاعْبُدُوهُ أي وحّدوه بالعبادة. أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي تتفكّرون أدنى تفكّر فينبهكم على أنه المستحق للربوبية والعبادة. لا ما تعبدونه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٤]
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤)
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً أي الموت أو النشور. أي لا ترجعون في العافية إلا إليه، فاستعدوا للقائه وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا أي صدقا، ثم علل وجوب المرجع إليه بقوله سبحانه: إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ أي من النطفة ثُمَّ يُعِيدُهُ أي بعد الموت لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ أي بعدله أو بعدالتهم وقيامهم على العدل في أمورهم، أو بإيمانهم، لأنه العدل القويم، كما أن الشرك ظلم عظيم، وهو الأوجه لمقابلة قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ أي من ماء حارّ قد انتهى حره وَعَذابٌ أَلِيمٌ وجيع يخلص ألمه إلى قلوبهم بِما كانُوا يَكْفُرُونَ تعليل لقوله.
لمقابلة قوله، فإن معناه ليجزي الذي كفروا بشراب من حميم، وعذاب أليم، بسبب كفرهم، لكنه غيّر النظم للمبالغة في استحقاقهم للعقاب بجعله حقا مقررا لهم، كما تفيده «اللام» وللتنبيه على أن المقصود بالذات من الإبداء والإعادة هو الإثابة.
والعقاب واقع بالعرض بكسبهم، وعلى أنه تعالى يتولى إثابة المؤمنين بما لا تحيط
(١) أخرجه البخاري في التوحيد، ٢٢- باب وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم.
العبارة به لفخامته وعظمته ولذلك لم يعينه.
ثم نبه تعالى، للاستدلال على وحدته في ربوبيته، بآثار صنعه في النيرين، إثر الاستدلال بما مرّ من إبداع السموات والأرض، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٥]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً للعالمين بالنهار وَالْقَمَرَ نُوراً أي لهم بالليل: والضياء أقوى من النور وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ الضمير لهما، بتأويل كل واحد منهما، أو للقمر، وخص بما ذكر، لكون منازله معلومة محسوسة، وتعلق أحكام الشريعة به، وكونه عمدة في تواريخ العرب لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ أي حساب الشهور والأيام، مما نيط به المصالح في المعاملات والتصرفات ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ أي بالحكمة البالغة يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي يبين الآيات التكوينية أو التنزيلية المنبهة على ذلك لقوم يعلمون الحكمة في إبداع الكائنات، فيستدلون بذلك على وحدة مبدعها.
قال السيوطيّ: هذه الآية أصل في علم المواقيت والحساب ومنازل القمر والتاريخ ثم نبه للاستدلال على وحدانيته سبحانه أيضا بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٦]
إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦)
إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي في تعاقبهما وكون كل منهما خلفة للآخر وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي من الشمس والقمر والنجوم والشجر والدواب والجبال والبحار وغير ذلك لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ أي لآيات عظيمة دالة على وحدة مبدعها، وكمال قدرته، وبالغ حكمته. وخص «المتقين» لأنهم المنتفعون بنتائج التدبر فيها، فإن الداعي إلى النظر والتدبر إنما هو تقواه تعالى، والحذر من العاقبة.
تنبيه:
في هذه الآيات إشارة إلى أن الذي أوجد هذه الآيات الباهرة، وأودع فيها
المنافع الظاهرة، وأبدع في كل كائن صنعه، وأحسن كل شيء خلقه، وميز الإنسان وعلمه البيان- يكون من رحمته وحكمته اصطفاء من يشاء لرسالته، ليبلغ عنه شرائع عامة، تحدد للناس سيرهم في تقويم نفوسهم، وكبح شهواتهم، وتعلمهم من الأعمال ما هو مناط سعادتهم وشقائهم في الآخرة، كما أشار إلى ذلك بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : الآيات ٧ الى ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠)
إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أي فلا يتوقعون الجزاء وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ أي لا يتفكرون فيها أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ أي بسببه، إلى مأواهم، وهي الجنة، وإنما لم تذكر تعويلا على ظهورها، وانسياق النفس إليها، لا سيما بملاحظة ما سبق من بيان مأوى الكفرة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي من تحت منازلهم أو بين أيديهم. دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ أي دعاؤهم هذا الكلام، لأن اللَّهُمَّ نداء، ومعناه: اللهم إنما نسبحك، كقول القانت:
اللهم إياك نعبد. يقال: دعا يدعو دعاء ودعوى، كما يقال: شكا يشكو شكاية وشكوى، ويجوز أن يراد بالدعاء العبادة، ونظيره آية وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [مريم: ٤٨] : وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ أي ما يحيي به بعضهم بعضا، أو تحية الملائكة إياهم، كما في قوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرعد: ٥٨]، أو تحية الله عز وجل لهم كما في قوله تعالى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: ٣٦]. و «التحية» التكرمة بالحالة الجلية أصلها: أحياك الله حياة طيبة. و «السّلام» بمعنى السلامة من كل مكروه. وَآخِرُ دَعْواهُمْ أي وخاتمة دعائهم هو التسبيح أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي حمده تعالى: والمراد من الآية أن دعاء أهل الجنة وعبادتهم هو قولهم. سبحانك اللهم وبحمدك. وإيثار التعبير عن
(وبحمدك) بقوله: وَآخِرُ إلخ رعاية للفواصل، واهتماما بالحمد وما معه من النعوت الجليلة تذكيرا بمسماها، والآية تدل على سموّ هذا الذكر لأنه دعاء أهل الجنة وذكر الملائكة كما قالوا: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة: ٣٠] ولذلك ندب قراءته بعد تكبيرة الإحرام.
قال الرازي لما استسعد أهل الجنة بذكر «سبحانك اللهم وبحمدك»، وعاينوا ما فيه من السلامة عن الآفات والمخافات، علموا أن كل هذه الأحوال السنية، والمقامات القدسية، إنما تيسرت بإحسان الحق سبحانه وإفضاله وإنعامه، فلا جرم اشتغلوا بالحمد والثناء.
ولما بيّن تعالى وعيده الشديد، أتبعه بما دل على أن من حقه أن يتأخر عن هذه الحياة الدنيوية لأن حصوله في الدنيا كالمانع من بقاه التكليف فقال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ١١]
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١)
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ وهم الذين لا يرجون لقاءه تعالى لكفرهم الشَّرَّ أي الذي كانوا يستعجلون به، فإنهم كانوا يقولون: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال: ٣٢] ونحو ذلك اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ أي تعجيلا مثل استعجالهم الدعاء بالخير لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ أي لأميتوا وأهلكوا فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ أي في ضلالهم وشركهم يترددون.
لطيفة:
زعم الزمخشري أن معنى استعجالهم بالخير، أي تعجيله لهم الخير وضع الأول موضع الثاني إشعارا بسرعة إجابته لهم، وإسعافه بطلبتهم، حتى كأنّ استعجالهم بالخير تعجيل لهم، وعندي أنه صرف اللفظ الكريم عن ظاهره بلا داع. ولا بلاغة فيه أيضا، وإن توبع فيه والحرص على موافقة عامل المصدر له ليكونا من باب واحد- غير ضروريّ في العربية، والشواهد كثيرة.
وجوز الرازيّ أن يكون يُعَجِّلُ أصله يستعجل. عدل عنه تنزيها للجناب الأقدس عن وصف طلب العجلة، فوصف بتكوينها، ووصف الناس بطلبها، لأنه الأليق.
ولعل الأليق أن اسْتِعْجالَهُمْ مصدر لفعل دل عليه ما قبله والتقدير، ولو يعجل الله للناس الشر الذي يستعجلون به استعجالهم. وإنما حذف إيجازا، للعلم به، ويوافقه قوله تعالى: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ [الإسراء: ١١].
فإنه في معنى ما هنا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ١٢]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢)
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا أي لكشفه وإزالته لِجَنْبِهِ حال من فاعل (دعا) واللام بمعنى (على) أي على جنبه، أي مضطجعا أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ أي مضى على طريقته الأولى، كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ أي كشفه مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي من الإعراض عن الذكر، واتباع الشهوات. والآية سيقت احتجاجا على المشركين، بما جبلوا عليه كغيرهم من الالتجاء إليه تعالى عند الشدائد، علما بأنه لا يكشفها إلا هو، ليطرحوا عبادة ما لا يضر ولا ينفع، ويستيقنوا أنه الإله الأحد، الذي لا يعبد سواه. وفيها نعي عليهم سوء منقلبهم، إثر كشف كرباتهم، وتحذير من مثل صنيعهم.
ثم ذكرهم تعالى بعظيم قدرته مما وصل إليهم من نبأ الأقدمين ليتقوه، بقوله سبحانه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ١٣]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا أي بالتكذيب والكفر وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا أي فقرر عليهم الحجة بالوجوه الكثيرة. وما كانوا ليؤمنوا بتلك البينات ولا بغيرها، فجزاهم بالإهلاك المعروف فيهم. كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ١٤]
ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤)
ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ الخطاب للذين
بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلّم أي استخلفناكم في الأرض بعد القرون التي أهلكناها، لننظر كيف تعملون من خير أو شر، فنعاملكم حسب عملكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ١٥]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥)
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ يخبر تعالى عن تعنت الكفار من مشركي قريش، بأنهم إذا قرأ عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلّم كتاب الله وحججه الواضحة، قالوا له: ائت بقرآن غير هذا، أي جئنا بغيره من نمط آخر أو بدله إلى وضع آخر. قال تعالى لنبيه: قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي: أي ليس ذلك إليّ، إنما أنا مبلغ عن الله تعالى.
قيل: إنما اكتفى بالجواب عن التبديل، للإيذان بأن استحالة ما اقترحوه أولا، من الظهور بحيث لا حاجة إلى بيانها. وأن التصدي لذلك، مع كونه ضائعا، ربما يعدّ من قبيل المجاراة مع السفهاء، إذ لا يصدر مثل ذلك الاقتراح عن العقلاء. ولأن ما يدل على استحالة الثاني يدل على استحالة الأول بالطريق الأولى، فهو جواب عن الأمرين بحسب المآل والحقيقة وقوله: إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي أي بالتبديل والنسخ من عند نفسي.
قال السيوطيّ في (الإكليل) استدل به من منع نسخ القرآن بالسنة.
قال الزمخشري: فإن قلت: فما كان غرضهم، وهم أدهى الناس وأمكرهم، في هذا الاقتراح قلت: الكيد والمكر. أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن ففيه أنه من عندك، وأنك قادر على مثله، فأبدل مكانه آخر، وأما اقتراح التبديل والتغيير فللطمع، ولاختبار الحال، وأنه إن وجد منه تبديل فإما أن يهلكه الله فينجو منه، أو لا يهلكه فيسخروا منه، ويجعلوا التبديل حجة عليه، وتصحيحا لافترائه على الله- انتهى-.
ولما بيّن بطلان ما اقترحوا الإتيان به واستحالته، أشار إلى تحقيق حقيقة القرآن، وكونه من عنده تعالى بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ١٦]
قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦)
قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ.
قال الزمخشري: يعني أن تلاوته ليست إلا بمشيئة الله وإحداثه أمرا عجيبا خارجا عن العادات، وهو أن يخرج رجل أميّ لم يتعلّم ولم يستمع، ولم يشهد العلماء ساعة من عمره، ولا نشأ في بلد فيه علماء، فيقرأ عليكم كتابا فصيحا، يبهر كلّ كلام فصيح، ويعلو على كلّ منثور ومنظوم، مشحونا بعلوم من علوم الأصول والفروع، وأخبار مما كان ويكون ناطقا بالغيوب التي لا يعلمها إلا الله، وقد بلغ بين ظهرانيكم أربعين سنة تطلعون على أحواله، ولا يخفى عليكم شيء من أسراره، وما سمعتم منه حرفا من ذلك، ولا عرفه به أحد من أقرب الناس منه، وألصقهم به.
وَلا أَدْراكُمْ بِهِ أي ولا أعلمكم به على لساني فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل نزوله، لا أتعاطى شيئا مما يتعلق بنحوه، ولا كنت متواصفا بعلم وبيان، فتتهموني باختراعه. أَفَلا تَعْقِلُونَ أي فتعلموا أنه ليس إلا من الله، لا من مثلي.
قال الزمخشري: وهذا جواب عما دسّوه تحت قولهم: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا من إضافة الافتراء إليه.
تنبيه:
رأى أبو السعود أن الأنسب ببناء الجواب فيما سلف على مجرد امتناع صدور التغيير والتبديل عنه عليه الصلاة والسّلام، لكونه معصية موجبة للعذاب العظيم، واقتصار حاله عليه الصلاة والسّلام على اتباع الوحي، وامتناع الاستبداد بالرأي، من غير تعرض هناك ولا هاهنا، لكون القرآن في نفسه أمرا خارجا عن طوق البشر، ولا لكونه عليه السّلام غير قادر على الإتيان بمثله، أن يستشهد هاهنا على المطلوب مما يلائم ذلك من أحواله المستمرة في تلك المدة المتطاولة، من كمال نزاهته عما يوهم شائبة صدور الكذب والافتراء عنه في حق أحد كائنا من كان. كما ينبئ عنه تعقيبه بتظليم المفتري على الله تعالى. والمعنى: قد لبثت فيما بين ظهرانيكم قبل الوحي، لا أتعرض لأحد قط بتحكم ولا جدال، ولا أحوم حول مقال فيه شائبة شبهة. فضلا
عما فيه كذب أو افتراء، أفلا تعقلون أن من هذا شأنه المطّرد في هذا العهد البعيد، مستحيل أن يفتري على الله، ويتحكم على الخلق كافة، بالأوامر والنواهي الموجبة لسفك الدماء، وسلب الأموال، ونحو ذلك. وأن ما أتي به وحي مبين، تنزيل من رب العالمين- انتهى-.
وما استنسبه رحمه الله، اقتصر عليه ابن كثير، ثم استشهد بقول «١» هرقل ملك الروم لأبي سفيان، فيما سأله من صفة النبي صلى الله عليه وسلم: قال هرقل له: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان فقلت: لا! وكان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة، وزعيم المشركين، ومع هذا اعترف بالحق، والفضل ما شهدت به الأعداء، فقال له هرقل: فقد أعرف أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يكذب على الله.
وقال جعفر بن أبي طالب للنجاشيّ ملك الحبشة «٢» : بعث الله فينا رسولا نعرف صدقه ونسبه وأمانته، وقد كانت مدة مقامه بين أظهرنا قبل النبوة أربعين سنة.
وعن ابن المسيب: ثلاثا وأربعين سنة. والصحيح المشهور الأول.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ١٧]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ استفهام إنكاريّ معناه الجحد. أي لا أحد أظلم ممن تقوّل على الله تعالى، وزعم أنه تعالى أرسله وأوحى إليه، أو كفر بآياته، كما فعل المشركون بتكذيبهم للقرآن، وحملهم على أنه من جهته عليه الصلاة والسّلام.
إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ أي لا ينجون من محذور، ولا يظفرون بمطلوب، ونظير هذه الآية قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ [الأنعام: ٩٣]، وترتيب عدم الفلاح على من افترى الوحي، وعده صادق بلا مرية، فإن مفتريه، يبوء بالخزي والنكال، ولا يشتبه أمره على أحد بحال.
(١) أخرجه البخاري في صحيحه في: بدء الوحي، ٦- حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ١/ ٢٠٢، والحديث رقم ١٧٤٠.
وقد ذكر أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة الكذاب- وكان صديقا له في الجاهلية، وكان عمرو لم يسلم بعد- فقال له مسيلمة: ويحك يا عمرو! وماذا أنزل على صاحبكم- يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- في هذه المدة؟ فقال: لقد سمعت أصحابه يقرءون سورة عظيمة قصيرة. فقال: وما هي؟ فقال: وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنْسانَ... إلخ [العصر: ١- ٣]، ففكر مسيلمة ساعة ثم قال: وأن قد أنزل عليّ مثله! فقال: وما هو؟
فقال: يا وبر يا وبر.. إنما أنت أذنان وصدر وسائرك حقر نقر!! كيف ترى يا عمرو؟
فقال له عمرو: والله! إنك لتعلم أني أعلم أنك لكذاب! وقال عبد الله بن سلام «١» : لما قدم رسول الله ﷺ المدينة انجفل الناس، فكنت فيمن انجفل منه، فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب. قال: فكان أول ما سمعته: يقول: أيها الناس! أفشوا السّلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام. قال حسان:
لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تأتيك بالخبر
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ١٨]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ أي الأوثان التي هي جماد لا تقدر على نفع ولا ضرّ، أي ومن شأن المعبود القدرة على ذلك. وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ، قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ أي أتخبرونه بكونهم شفعاء عنده، وهو إنباء بما ليس بمعلوم الله، وإذا لم يكن معلوما له- وهو العالم المحيط بجميع المعلومات- لم يكن موجودا، فكان خبرا ليس له مخبر عنه.
فإن قلت: كيف أنبأوا الله بذلك؟ قلت: هو تهكم بهم، وبما ادعوه من المحال الذي هو شفاعة الأصنام، وإعلام بأن الذي أنبأوا به باطل، فكأنهم يخبرونه بشيء لا يتعلق علمه به، كما يخبر الرجل بما لا يعلمه.
وقوله: فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ تأكيد لنفيه، لأن ما لم يوجد فيهما فهو
(١) أخرجه الترمذي في القيامة، ٣٢- باب حدثنا محمد بن بشار.
وأخرجه ابن ماجة في الإقامة، ١٧٤- باب ما جاء في قيام الليل، حديث رقم ١٣٣٤.
منتف معدوم- كذا في الكشاف- سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي عن الشركاء الذي يشركونهم به، أو عن إشراكهم.
ثم أشار تعالى إلى أن التوحيد والإسلام ملة قديمة كان عليها الناس أجمع، فطرة وتشريعا، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ١٩]
وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩)
وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً أي حنفاء متفقين على ملة واحدة، وهي فطرة الإسلام والتوحيد التي فطر عليها كل أحد فَاخْتَلَفُوا باتباع الهوى وعبادة الأصنام، فالشرك وفروعه جهلات ابتدعها الغواة صرفا للناس عن وجهة التوحيد، ولذلك بعث الله الرسل بآياته وحججه البالغة، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ، وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال: ٤٢]، وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ أي بتأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي عاجلا فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ بتمييز الحق من الباطل، بإبقاء المحق، وإهلاك المبطل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٢٠]
وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠)
وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ أي من الآيات التي اقترحوها تعنتا وعنادا، وكانوا لا يعتدّون بما أنزل عليه من الآيات العظام المتكاثرة، التي لم ينزل على أحد من الأنبياء مثلها، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر، بديعة غريبة في الآيات. فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ أي هو المختص بعلم الغيب، المستأثر به، لا علم لي ولا لأحد به. يعني أن الصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيّب لا يعلمه إلا هو.
فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ أي فما يقضيه الله تعالى في عاقبة تعنتكم، فإن العاقبة للمتقين. وقد قال تعالى في آية أخرى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [الإسراء: ٥٩]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ [يونس: ٩٦- ٩٧]، وقال تعالى:
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام: ٧]، أي فمثل هؤلاء أقل من أن يجابوا لمقترحهم، لفرط عنادهم.
ولا يخفى أن القرآن الكريم لما قام به الدليل القاهر على صدق نبوته، عليه السّلام، لإعجازه، كان طلب آية أخرى سواه من مقترحهم- مما لا حاجة له في صحة نبوته، وتقرير رسالته. فمثلها يكون مفوضا إلى مشيئته تعالى، فتردّ إلى غيبه، وسواء أنزلت أو لا، فقد ثبتت نبوته، وضحت رسالته، صلوات الله عليه.
ثم أكد تعالى ما هم عليه من العناد واللجاج مشيرا إلى أنهم لا يذعنون ولو أجيبوا لمقترحهم، بما يعهد منهم من عدولهم عنه تعالى بعد كشفهم ضرهم، إلى الإشراك بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٢١]
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١)
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ أي خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا أي يتبين مكرهم ويظهر كامن شركهم، فهم في وقت الضراء في الإقبال عليه تعالى لكشفها، كالمخادع الذي يظهر خلاف ما يبطن، ثم ينجلي أمره بعد: قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً أي عقوبة، أي عذابه أسرع وصولا إليكم مما يأتي منكم في دفع الحق. وتسمية العقوبة بالمكر، لوقوعها في مقابلة مكرهم وجودا أو ذكرا. إِنَّ رُسُلَنا أي الذي يحفظون أعمالكم يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ أي مكركم، أو ما تمكرونه. وهو تحقيق للانتقام، وتنبيه على أن ما دبروا في إخفائه غير خاف على الحفظة فضلا عن العليم الخبير.
ثم بين تعالى نوعا من أنواع مكرهم في آية إنجائهم من لجج البحر بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٢٢]
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢)
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ أي السفن
وَجَرَيْنَ أي السفن بِهِمْ أي بالذين فيها بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ أي لينة الهبوب، موافقة للمرغوب وَفَرِحُوا بِها لأمن الآيات جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ أي ذات شدة وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ أي أحاط بهم أسباب الهلاك.
وهي شدة الموج والريح دَعَوُا اللَّهَ أي للتخلص منها مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وهو الدعاء لأنهم حينئذ لا يدعون معه غيره لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي العابدين لك شكرا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٢٣]
فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣)
فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي يفسدون فيها، ويسارعون إلى ما كانوا عليه من الشرك ونحوه يا أَيُّهَا النَّاسُ أي الناسين نعمة الخلاص بالإخلاص واستجابة الدعاء إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أي وباله عليكم. مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا خبر محذوف أو هو متاع. أو خبر ثان أو هو الخبر ل (بغيكم) و (على) متعلق به. وقرئ بالنصب مصدر لمحذوف، أي نمتعكم. أو مفعول به له. أي تبغون. ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي في الدنيا وهو وعيد بجزائهم على البغي.
ثم بيّن تعالى شأن الدنيا وقصر مدة التمتع بها وقرب زمان الرجوع. الموعود بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٢٤]
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤)
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ أي امتزج به لسريانه فيه، فالباء للمصاحبة، أو هي للسببية أي اختلط بسببه حتى خالط بعضه بعضا، أي التف بعضه ببعض، والأول أظهر مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ من الزروع
17
والثمار والكلأ والحشيش حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها أي حسنها وبهجتها وَازَّيَّنَتْ أي بأصناف النبات وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أي متمكنون من تحصيل حبوبها وثمرها وحصدها أَتاها أَمْرُنا أي عذابنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً أي كالمحصود من أصله كَأَنْ لَمْ تَغْنَ أي لم تنبت بِالْأَمْسِ أي قبيل ذلك الوقت. و (الأمس) مثل في الوقت القريب كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي بالأمثلة تقريبا لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي في معانيها.
تنبيه:
قال القاشانيّ: البغي ضد العدل، فكما أن العدل فضيلة شاملة لجميع الفضائل، وهيئة وحدانية لها، فائضة من نور الوحدة على النفس، فالبغي لا يكون إلا عن غاية الانهماك في الرذائل بحيث يستلزمها جميعا، فصاحبها في غاية البعد عن الحق، ونهاية الظلمة، كما قال: الظلم ظلمات يوم القيامة «١». فلهذا قال: عَلى أَنْفُسِكُمْ لا على المظلوم، لأن المظلوم سعد به، وشقي الظالم غاية الشقاء، وهو ليس إلا متاع الحياة الدنيا. إذ جميع الإفراطات والتفريطات المقابلة للعدالة تمتعات طبيعية، ولذّات حيوانية، تنقضي بانقضاء الحياة الحسّية التي مثلها في سرعة الزوال، وقلة البقاء، هذا المثل الذي مثل به، من تزيّن الأرض بزخرفها من ماء المطر، ثم فسادها ببعض الآفات سريعا قبل الانتفاع بنباتها، ثم تتبعها الشقاوة الأبدية والعذاب الأليم الدائم.
وفي الحديث «٢» : أسرع الخير ثوابا صلة الرحم، وأعجل الشر عقابا البغي واليمين الفاجرة، لأن صاحبه تتراكم عليه حقوق الناس، فلا تحتمل عقوبته المهل الطويل الذي يحتمله حق الله تعالى
. انتهى.
وسمعت بعض المشايخ يقول: قلما يبلغ الظالم والفاسق أوان الشيخوخة، وذلك لمبارزتهما الله تعالى في هدم النظام المصروف عنايته تعالى إلى ضبطه، ومخالفتهما إياه في حكمته وعدله. انتهى-.
ولما ذكر تعالى الدنيا وسرعة تقضيها، رغّب في الجنة ودعا إليها، وسماها دار
(١) أخرجه البخاري في: المظالم والغصب، ٨- باب الظلم ظلمات يوم القيامة، حديث ١٢٠٤.
ومسلم في: البرّ والصلة والآداب، حديث رقم ٥٧.
(٢) أخرجه ابن ماجة في: الزهد، ٢٣- باب البغي، حديث رقم ٤٢١٢.
18
السّلام، أي من الآفات والنقائص، لذكر الدنيا بما يقابله من كونها معرضا للآفات كما مرّ، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦)
وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ أي يدعو الخلق بتوحيده إلى جنته وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي دين قيم يرضاه، وهو الإسلام.
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ أي للذين أحسنوا النظر، فعرفوا مكر الدنيا والشهوات فأعرضوا عنها، وتوجهوا إلى الله تعالى، فعبدوه كأنهم يرونه، المثوبة الحسنى، وهي الجنة، وزيادة على المثوبة، وهي التفضل كما قال تعالى: وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النساء: ١٧٣]، و [النور: ٣٨]، و [فاطر: ٣٠]، و [الشورى: ٢٦]، وأعظم أنواعه النظر إلى وجه تعالى الكريم. ولذا تواتر تفسيرها بالرؤية عن غير واحد من الصحابة والتابعين. ورفعها ابن جرير إلى النبي صلوات الله عليه، عن أبي موسى وكعب بن عجرة، وأبيّ. وكذا ابن أبي حاتم.
وروى الإمام أحمد «١» عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ تلا هذه الآية لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا... إلخ. وقال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار، نادى مناد: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعدا، يريد أن ينجزكموه. فيقولون: ما هو؟
ألم يثقل موازيننا، ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار النار؟ قال:
فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه، فو الله! ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه، ولا أقر لأعينهم. وهكذا رواه مسلم «٢».
وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ أي لا يغشاها غبرة سوداء من أثر حب الدنيا والشهوات وَلا ذِلَّةٌ أي أثر هوان، وكسوف بال، من أثر الالتفات إلى ما دون الله تعالى.
(١) أخرجه في مسنده ٦/ ١٥.
(٢) أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم ٢٩٧.
قال الناصر: وفي تعقيب الزيادة بهذه الجملة مصداق لصحة تفسير الزيادة بالرؤية الكريمة فإن فيه تنبيها على إكرام وجوههم بالنظر إلى وجه الله تعالى، فجدير بهم أن لا يرهن وجوههم قتر البعد، ولا ذلة الحجاب عكس المحرومين المحجوبين، فإن وجوم مرهقة بقتر الطرد وذلة البعد.
وقوله تعالى: أُولئِكَ أي الذين أحسنوا أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٢٧]
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧)
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ أي الشرك والمعاصي جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أي واق يقيهم العذاب كَأَنَّما أُغْشِيَتْ أي ألبست وُجُوهُهُمْ قِطَعاً أي أجزاء مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً لفرط سوادها وظلمتها. وذلك لارتكابهم الهيئة المظلمة من الميول الطبيعية، والأعمال الردية والقصد الإخبار بأبدع تشبيه عن سواد وجوههم. وقد ذكر هذا المعنى في غير ما آية أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
ثم بين تعالى ما ينال المشركين يوم الحشر من التوبيخ والخزي بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٢٨]
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يعني المشركين ومعبوداتهم للمقاولة بينهم ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أي معبوديهم بالله مع توقعهم الشفاعة منهم مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ أي الزموا مكانكم، لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم.
قال القاشانيّ: معناه قفوا مع ما وقفوا معه في الموقف من قطع الوصل والأسباب التي هي سبب محبتهم وعبادتهم، وتبرؤ المعبود من العابد لانقطاع الأغراض الطبيعية التي توجب تلك الوصل.
ومعنى قوله: فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ أي مع كونهم في الموقف معا، فرقنا بينهم، وقطعنا الوصل التي بينهم، فلا يبقى من العابدين توقع شفاعة، ولا من المعبودين إفادتها، لو أمكنتهم وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ إذ لم تكن عبادتكم عن أمرنا بل عن أمر الشيطان فكنتم عابديه بالحقيقة، بطاعتكم إياه، وعابدي ما اخترعتموه في أوهامكم من أباطيل فاسدة، وأمانيّ كاذبة.
قيل: القول مجاز عن تبرئهم من عبادتهم، وأنهم عبدوا أهواءهم وشياطينهم، لأنها الآمرة لهم دونهم، لأن الأوثان جمادات وهي لا تنطق. وقيل: ينطقها اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت: ٢١]. فتشافههم بذلك، مكان الشفاعة التي كانوا يتوقعونها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٢٩]
فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩)
فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ أي لنا لَغافِلِينَ أي الله يعلم أنا ما أمرناكم بذلك وما أردنا عبادتكم إيانا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٣٠]
هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠)
هُنالِكَ أي في ذلك المقام المدهش، حين قطع المواصلة، وإنكار الشركاء العبادة تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ أي تختبر وتذوق كل نفس ما أسلفت من العمل، فتعاين أثره من قبح وحسن، وردّ وقبول، كما يختبر الرجل الشيء ويتعرفه، ليكتنه حاله. وهذا كقوله تعالى: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
[القيامة: ١٣].
وقوله: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ [الطارق: ٩].
وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ الضمير للذين أشركوا، أي ردوا إلى الله المتولي جزاءهم بالعدل والقسط وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي ضاع عنهم ما افتروه من اختراعاتهم، وأصول دينهم ومذهبهم، وتوهماتهم الكاذبة، وأمانيّهم الباطلة. أي ظهر ضياعه وضلاله ولم يبق له أثر فيهم.
وفي هذه الآية تبكيت شديد للمشركين الذين عبدوا ما لا يسمع ولا يبصر،
ولا يغني عنهم شيئا، ولم يأمرهم بذلك، ولا رضي به ولا أراده، بل تبرأ منهم، أحوج ما يكونون إلى المعونة. والمشركون أنواع وأقسام، وقد ذكرهم تعالى في كتابه، وبين أحوالهم، ورد عليهم أتم رد.
ثم احتج على المشركين على وحدانيته باعترافهم بربوبيته وحده بقوله سبحانه وتعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٣١]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ بالإمطار والإنبات وهل يمكن إلا ممن له التصرف العام فيها أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ أي من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحد الذي سويا عليه من الفطرة العجيبة، كقوله تعالى: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ [الملك: ٢٣].
وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ يعني النسمة من النطفة، أو الطير من البيضة، أو السنبلة من الحب، وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ كأن يخرج النطفة من الإنسان والبيضة من الطائر. وقيل: المراد أن يخرج المؤمن من الكافر أو الكافر من المؤمن. وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي ومن يلي تدبير أمر العالم كله، بيده ملكوت كل شيء، تعميم بعد تخصيص فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ إذ لا مجال للمكابرة لغاية وضوحه فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ أي أفلا تخافون بعد اعترافكم، من غضبه لعبادة غيره اتباعا للهوى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٣٢]
فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢)
فَذلِكُمُ إشارة إلى من هذه قدرته وأفعاله اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ الثابت وحدانيته ثباتا لا ريب فيه، لمن حقق النظر فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ يعني أن الحق والضلال لا واسطة بينهما، فمن تخطى الحق وقع في الضلال. أي فما بعد حقيّة ربوبيته إلا بطلان ربوبية ما سواه، وعبادة غيره، انفرادا أو شركة فَأَنَّى تُصْرَفُونَ
أي عن الحق الذي هو التوحيد، إلى الضلال الذي هو الشرك، وأنتم تعترفون بأنه الخالق كل شيء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٣٣]
كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣)
كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي ثبت حكمه وقضاؤه على الذي تمردوا في كفرهم وخرجوا إلى الحد الأقصى فيه. وقوله أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بدل من الكلمة، أي حق عليهم انتفاء الإيمان. وعلم الله منهم ذلك. أو أراد بالكلمة العدة بالعذاب، أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ تعليل بمعنى (لأنّهم لا يؤمنون) أفاده الزمخشري- أي كقوله تعالى: قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ [الزمر: ٧١]، وقوله تعالى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ [الزمر: ١٩]، قيل: الَّذِينَ فَسَقُوا مظهر وضع موضع ضمير المخاطبين للإشعار بالعلية، و (الفسق) هنا التمرد في الكفر، فآل الكلام إلى أن كلمة العذاب حقت عليهم، لتمردهم في كفرهم، ولأنهم لا يؤمنون، وهو تكرار. وأجيب بأنه تصريح بما علم ضمنا من الَّذِينَ فَسَقُوا، أو دلالة على شرف الإيمان بأن عذاب المتمردين في الكفر بسبب انتفاء الإيمان.
ثم احتجّ أيضا على حقّية التوحيد وبطلان الشرك بما هو من خصائصه تعالى، من بدء الخلق وإعادته، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٣٤]
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أي من يبدؤه من النطفة.
ويجعل فيه الروح ليتعرف إليه، ويستعمله أعمالا، ثم يحييه يوم القيامة، ليجزيه بما أسلف في أيامه الخالية. وإنما نظمت الإعادة في سلك الاحتجاج، مع عدم اعترافهم بها، إيذانا بظهور برهانها، للأدلة القائمة عليها سمعا وعقلا، وإن إنكارها مكابرة وعنادا لا يلتفت إليه، وإشعارا بتلازم البدء والإعادة وجودا وعدما، يستلزم الاعتراف به الاعتراف بها. ثم أمر عليه الصلاة والسّلام بأن يبين لهم من يفعل ذلك، فقيل له:
قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي فكيف تصرفون إلى عبادة الغير، مع
عجزه عمّا ذكر. ثم احتج عليهم أيضا، إفحاما إثر إفحام، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٣٥]
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أي بوجه من الوجوه، كبعثة الرسل، وإيتاء العقل. وتمكين النظر في آيات الكون، والتوفيق للتدبر. قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وهو تبارك وتعالى- أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أي يعيد ويطاع أَمَّنْ لا يَهِدِّي أي إلا أن يهديه الله تعالى- نزل منزلة من يعقل لإفحامهم- وقيل معناه: أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه إلا أن ينقل. أو لا يهتدي ولا يصح منه الاهتداء، إلا أن ينقله الله من حاله إلى أن يجعله حيوانا مكلفا، فيهديه. وقد قرئ أَمَّنْ لا يَهِدِّي بفتح الياء والهاء وتشديد الدال، أصله يهتدي، أدغمت التاء في الدال ونقلت فتحة التاء المدغمة إلى الهاء وقرئ بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال، لأنه لما نقلت الحركة التقى ساكنان، فكسر أولهما للتخلص من التقائهما، وقرئ بسكون الهاء وبتخفيف الدال، على معنى (يهتدي) والعرب تقول: يهدي بمعنى يهتدي. يقال: هديته فهدى أي اهتدى.
وقوله تعالى: فَما لَكُمْ مبتدأ وخبر، والاستفهام للإنكار والتعجب. أي: أيّ شيء لكم في اتخاذ هؤلاء العاجزين عن هداية أنفسهم، فضلا عن هداية غيرهم، شركاء وقوله: كَيْفَ تَحْكُمُونَ مستأنف أي كيف تحكمون بالباطل، حيث تزعمون أنهم أنداد الله؟!.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٣٦]
وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦)
وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ أي في اعتقادهم ألوهية الأصنام إِلَّا ظَنًّا اعتقادا غير مستند لبرهان، بل لخيالات فارغة، وأقيسة فاسدة. والمراد (بالأكثر) : الجميع. إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ أي من العلم والاعتقاد الحق شَيْئاً أي من الإغناء ف (شيئا) في موضع المصدر، أي غناء ما. أو مفعول ل (يغني). ومِنَ الْحَقِّ حال منه. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ وعيد على اتباعهم الظن، وإعراضهم عن البرهان.
24
تنبيه:
قال الرازي في هذه الآية:
اعلم أن الاستدلال على وجود الصانع بالخلق أولا، ثم بالهداية ثانيا، عادة مطردة في القرآن. فحكى تعالى عن الخليل عليه السلام أنه ذكر ذلك فقال: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء: ٧٨]، وعن موسى عليه السلام مثله فقال: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: ٥٠]، وأمر محمدا ﷺ بذلك فقال:
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى: ١- ٣]، وهو في الحقيقة دليل شريف، لأن الإنسان له جسد وروح، فالاستدلال على وجود الصانع بأحوال الجسد هو الخلق، والاستدلال بأحوال الروح هو الهداية فههنا أيضا، لما ذكر دليل الخلق في الآية الأولى وهو قوله: أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [النمل: ٦٤]، أتبعه بدليل الهداية في هذه الآية. والمقصود من خلق الجسد حصول الهداية للروح، كما قال تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل: ٧٨]، وهذا كان كالتصريح بأنه تعالى إنما خلق الجسد، وإنما أعطى الحواس، لتكون آلة في اكتساب المعارف والعلوم. وأيضا، فالأحوال الجسدية خسيسة يرجع حاصلها إلى الالتذاذ بذوق شيء من الطعوم، أو لمس شيء من الكيفيات الملموسة. أما الأحوال الروحانية، والمعارف الإلهية. فإنها كمالات باقية أبد الآباد، مصونة عن الكون والفساد.
فعلمنا أن الخلق تبع للهداية، والمقصود الأشرف الأعلى حصول الهداية. ولاضطراب العقول وتشعب الأفكار كانت الهداية وإدراك الحق بإعانته تعالى وحده. والهداية إما أن تكون عبارة عن الدعوة إلى الحق، أو عن تحصيل معرفتها. وعلى كل فقد بينا أنها أشرف المراتب، وأعلى السعادات، وأنها ليست إلا منه تعالى وأما الأصنام فإنها جمادات لا تأثير لها في الدعوة إلى الحق، ولا في الإرشاد إلى الصدق، فثبت أنه تعالى هو الموصل إلى جميع الخيرات في الدنيا والآخرة، والمرشد إلى كل الكمالات في النفس والجسد، وأن الأصنام لا تأثير لها في شيء من ذلك، وإذا كان كذلك، كانت عبادتها جهلا محضا، وسفها صرفا. فهذا حاصل الكلام في هذا الاستدلال.
ثم بين تعالى حقيّة هذا الوحي المنزل، رجوعا إلى ما افتتحت به السورة من صدق نبوة المنزل عليه، ودلائلها في آيات الله الكونية، والمنبئة عن عظيم قدرته، وجليل عنايته بهداية بريته، فقال تعالى:
25
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٣٧]
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧)
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ لامتناع ذلك إذ ليس لمن دونه تعالى كمال قدرته التي بها عموم الإعجاز وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي مصدقا للتوراة والإنجيل والزبور بالتوحيد، وصفة النبي ﷺ و (تصديق) منصوب على أنه خبر (كان) أو علة لمحذوف، أي أنزله تصديق إلخ. وقرئ بالرفع خبرا لمحذوف، أي: هو تصديق الذي بين يديه. أي وبذلك يتعين كونه من الله تعالى، لأنه لم يقرأها، ولم يجالس أهلها، وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ أي وتبيين ما كتب وفرض من الأحكام والشرائع، من قوله: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء: ٢٤]، كما
قال عليّ رضي الله عنه «١» : فيه خبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وفصل ما بينكم.
لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أي منتفيا عنه الريب، كائنا من رب العالمين، أخبار أخر لما قبلها.
قال أبو مسعود: ومساق الآية، بعد المنع عن اتباع الظن، لبيان ما يجب اتباعه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٣٨]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي بل أيقولون. ف (أم) منقطعة مقدرة ب (بل والهمزة) عند الجمهور، والهمزة للإنكار أي ما كان ينبغي ذلك. وقيل: متصلة، ومعادلها، مقدر. أي أيقرون به بعد ما بيّنا من حقيقته أم يقولون افتراء. قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ أي إن كان الأمر كما تزعمون، فأتوا، على وجه الافتراء، بسورة مثله في البلاغة، وحسن الصياغة، وقوة المعنى، فأنتم مثل في العربية والفصاحة، وأشد تمرنا في النظم وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي ادعوا من دونه تعالى، ما استطعتم من خلقه، للاستعانة به على الإتيان بمثله- إن صدقتم في أني اختلقته- فإنه لا يقدر عليه أحد.
(١) أخرجه الترمذيّ في: ثواب القرآن، ١٤- باب ما جاء في فضل القرآن.
قال أبو السعود: وإخراجه سبحانه من حكم الدعاء، للتنصيص على براءتهم منه تعالى، وكونهم في عدوة المضادة والمشاقّة، لا لبيان استبداده تعالى بالقدرة على ما كلّفوه، فإن ذلك مما يوهم أنهم لو دعوه تعالى لأجابهم إليه.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٣٩]
بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩)
بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ إضراب وانتقال عن إظهار بطلان ما قالوا في حق القرآن العظيم بالتحدي، إلى إظهاره ببيان أنه كلام ناشئ عن جهلهم بشأنه الجليل. أي سارعوا إلى التكذيب به، وفاجؤوه في بديهة السماع، وقبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره، وقبل أن يتدبروه، ويقفوا على تأويله ومعانيه وما في تضاعيفه من الشواهد الدالة على كونه ليس مما يمكن أن يقدر عليه مخلوق، وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم، وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم، كالناشئ على التقليد من الحشوية، إذا أحس بكلمة لا توافق ما نشأ عليه وألفه، وإن كانت أضوأ من الشمس في ظهور الصحة، وبيان الاستقامة، أنكرها في أول وهلة، واشمأز منها، قبل أن يحس إدراكها بحاسة سمعه من غير فكر في صحة أو فساد، لأنه لم يشعر قلبه إلا صحة مذهبه، وفساد ما عداه من المذاهب. وسر التعبير بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ الإيذان بكمال جهلهم به، وأن تكذيبهم به إنما هو بسبب عدم علمهم به- كذا في الكشاف وأبي السعود- وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ أي بيان ما يؤول إليه، مما توعدهم فيه. وهذا المعنى هو الصحيح في الآية. وقد مشى عليه غير واحد.
قال في (تنوير الاقتباس) : أي عاقبة ما وعدهم في القرآن.
وقال الجلال: أي عاقبة ما فيه من الوعيد.
وقال القاشانيّ: تأويله: أي ظهور ما أشار إليه في مواعيده، وأمثاله مما يؤول أمره وعلمه إليه، فلا يمكنهم التكذيب، لأنه إذا ظهرت حقائقه لا يمكن لأحد تكذيبه.
كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي بآيات الرسل، قبل التدبر في معانيها، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ أي من هلاكهم بسبب تكذيبهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : الآيات ٤٠ الى ٤٢]
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢)
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أي يصدق به في نفسه، ولكن يكابر بالتكذيب وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ.
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ أي إن أصروا على تكذيبك، فتبرأ منهم، فقد أعذرت.
ثم أشار إلى أنهم ممن طبع على قلوبهم بقوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أي إذا قرأت القرآن أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ أبرزهم في عدم انتفاعهم بسماعهم، لكونهم لا يعون ولا يقبلون، بصورة الصم المعتوهين: أي اتطمع أنك تقدر على إسماع الصم، ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم؟ لأن الأصم العاقل ربما تفرس واستدل إذا وقع في صماخه دويّ الصوت، فإذا اجتمع سلب السمع والعقل فقد تم الأمر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٤٣]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ كذلك أبرزهم، لدعم انتفاعهم بمشاهدة أدلة الصدق وأعلام النبوة، بصورة العمي المضموم إلى عماهم فقد البصيرة. أي أتحب هداية من كان كذلك؟ لأن الأعمى الذي له في قلبه بصيرة قد يحدس ويتظنن، أما مع الحمق فجهد البلاء. يعني أنهم في اليأس من أين يقبلوا ويصدقوا، كالصم والعمي الذين لا بصائر لهم ولا عقول- كذا في الكشاف-
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٤٤]
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤)
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً بتعذيبهم من غير أن تقوم الحجة عليهم، بإرسال
الرسل، وإنزال الكتب، ومن غير أن يكونوا سليمي الحواس والمدارك، فإنه لعدله لا يفعل ذلك. وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالكفر والتكذيب وعدم استعمال حاساتهم ومداركهم فيما خلقت له.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٤٥]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ أي شيئا قليلا يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ أي يعرف بعضهم بعضا، كأنهم لم يتعارفوا إلّا قليلا قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ أي بالبعث بعد الموت وَما كانُوا مُهْتَدِينَ أي من الكفر والضلالة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : الآيات ٤٦ الى ٤٧]
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧)
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أي من العذاب أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ أي قبل ذلك فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ أي فننجزهم ما وعدناهم كيفما دار الحال ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ أي من مساوئ الأفعال.
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ أي منهم، أرسل لهدايتهم، وتزكيتهم بما يصلحهم فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ أي فبلّغهم ما أرسل به فكذبوه قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي بالعدل فأنجي الرسول وأتباعه، وعذب مكذبوه وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي في ذلك القضاء المستوجب لتعذيبهم، لأنه من نتائج أعمالهم.
وقال القاشانيّ في قوله تعالى قُضِيَ بَيْنَهُمْ: أي بهداية من اهتدى منهم، وضلالة من ضل وسعادة من سعد، وشقاوة من شقي، لظهور ذلك بوجوده، وطاعة بعضهم إياه لقربه منه، وإنكار بعضهم له لبعده عنه. أو قضى بينهم بإنجاء من اهتدى به وإثابته، وإهلاك من ضل وتعذيبه، لظهور أسباب ذلك بوجوده- انتهى- فالآية على هذا كقوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: ١٥]، وجوز أن يكون المعنى لكل أمة من الأمم يوم القيامة رسول تنسب
إليه، وتدعى به، فإذا جاء رسولهم الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان، قضى بينهم بإنجاء المؤمنين، وعقاب الكافرين. كقوله تعالى: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ [الزمر: ٦٩].
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : الآيات ٤٨ الى ٤٩]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ استبعادا له، واستهزاء به إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في أنه يأتينا. ولما فيه من الإشعار بكون إتيانه بواسطة النبيّ صلوات الله عليه، قيل:
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً أي مع أن ذلك أقرب حصولا، فكيف أملك لكم حتى أستعجل في جلب العذاب لكم، وتقديم الضر، لما أن مساق النظم لإظهار العجز عنه. وأما ذكر النفع فلتوسيع الدائرة تعميما. والمعنى لا أملك شيئا ما.
إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أي أن أملكه، أو لكن ما شاء الله كائن فالاستثناء متصل أو منقطع. وصوب أبو السعود الثاني، بأن الأول يأباه مقام التبرؤ من أن يكون، عليه الصلاة والسلام، له دخل في إتيان الوعد. وبسط تقريره.
وأفاد بعض المحققين أن الاستثناء بالمشيئة قد استعمل في أسلوب القرآن الكريم للدلالة على الثبوت والاستمرار، كما في هذه الآية، وقوله: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ [هود: ١٠٧]، قال: والنكتة في الاستثناء بيان أن هذه الأمور الثابتة الدائمة إنما كانت كذلك بمشيئة الله تعالى، لا بطبيعتها في نفسها، ولو شاء تعالى أن يغيرها لفعل. وهو نفيس جدا فليحرص على حفظه.
وقوله تعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ أي لكل واحد من آحاد كل أمة أجل معين إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ قال القاشانيّ: درّجهم إلى شهود الأفعال بسلب الملك والتأثير عن نفسه، ووجوب وقوع ذلك بمشيئة الله، ليعرفوا آثار القيامة. ثم لوح إلى أن القيامة الصغرى هي بانقضاء آجالهم المقدرة عند الله بقوله: لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ... الآية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٥٠]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ أي الذي تستعجلون به بَياتاً أي ليلا أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ أي ولا شيء منه بمرغوب البتة.
لطائف:
الأولى- (أرأيت) يستعمل بمعنى الاستفهام عن الرؤية البصرية أو العلمية، وهو أصل. وضعه ثم استعملوه بمعنى (أخبرني) والرؤية فيه يجوز أن تكون بصرية وعلمية فالتقدير: أأبصرت حالته العجيبة، أو أعرفتها؟ فأخبرني عنها. ولذا لم يستعمل في غير الأمر العجيب. ولما كانت رؤية الشيء سببا لمعرفته، ومعرفته سببا للإخبار عنه، أطلق السبب القريب أو البعيد، وأريد مسببه، وهل هو بطريق التجوز كما ذهب إليه كثير، أو التضمين كما ذهب إليه أبو حيان- كذا في (العناية) الثانية- سر إيثار (بياتا) على (ليلا) مع ظهور التقابل فيه، الإشعار بالنوم والغفلة، وكونه الوقت الذي يبيت فيه العدوّ، ويتوقع فيه، ويغتم فرصة غفلته، وليس في مفهوم الليل هذا المعنى، ولم يشتهر شهرة النهار بالاشتغال بالمصالح والمعاش، حتى يحسن الاكتفاء بدلالة الالتزام كما في النهار، أو النهار كله محل الغفلة، لأنه إما زمان اشتغال بمعاش أو غذاء، أو زمان قيلولة. كما في قوله: بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ [الأعراف: ٤] بخلاف الليل، فإن محل الغفلة فيه ما قارب وسطه وهو وقت البيات، لذا خص بالذكر دون النهار. و (البيات) بمعنى التبييت كالسلام بمعنى التسليم، ولا بمعنى البيتوتة.
الثالثة- قيل: إن استعجالهم العذاب، كان المقصود منه الاستبعاد والاستهزاء، دون ظاهره، فورود (ما) هنا في الجواب على الأسلوب الحكيم. لأنهم ما أرادوا بالسؤال إلا الاستبعاد أن الموعود منه تعالى، وأنه افتراء، فطلبوا منه تعيين وقته تهكما وسخرية، فقال في جوابهم هذا التهكم لا يتم إذا كنت مقرا بأني مثلكم، وأني لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا فكيف أدعي ما ليس لي به حق؟ ثم شرع في الجواب الصحيح، ولم يلتفت إلى تهكمهم واستبعادهم- أفاده الطيبي- الرابعة- سر إيثار ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ على (ماذا يستعجلون منه) هو الدلالة على موجب ترك الاستعجال، وهو الإجرام، لأن من حق المجرم أن يخاف
التعذيب على إجرامه، ويهلك فزعا من مجيئه، وإن أبطأ، فضلا عن أن يستعجله- كذا في (الكشاف) -.
قال في (الانتصاف) : وفي هذا النوع البليغ نكتتان:
إحداهما: وضع الظاهر مكان المضمر.
والأخرى: ذكر الظاهر بصيغة زائدة مناسبة للمصدر.
وكلاهما مستقل بوجه من البلاغة والمبالغة- والله أعلم- وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٥١]
أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١)
أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ إنكار لإيمانهم بنزول العذاب بعد وقوعه حقيقة، داخل مع ما قبله من إنكار استعجالهم به بعد إتيانه حكما، تحت القول المأمور به.
أي: أبعد ما وقع العذاب وحلّ بكم حقيقة، آمنتم به حين لا ينفعكم الإيمان؟ إنكارا لتأخيره إلى هذا الحد، وإيذانا باستتباعه للندم والحسرة، ليقلعوا عما هم عليه من العناد، ويتوجهوا نحو التدارك قبل فوت الفوات- أفاده أبو السعود.
وقوله تعالى: آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ على إرادة القول. أي: قيل لهم إذا آمنوا بعد معاينة العذاب (آلآن آمنتم به) ؟ وذلك إنكارا للتأخير، وتوبيخا عليه. وسر وضع تَسْتَعْجِلُونَ موضع (تكذبون) الذي يقتضيه الظاهر، الإشارة إلى أن المراد به الاستعجال السابق، وهو التكذيب والاستهزاء، استحضارا لمقالتهم فهو أبلغ من (تكذبون).
وقيل: الاستعجال كناية عن التكذيب، وفائدة هذه الحال استحضارها. وهذا ما ذكروه، ولا مانع من بقاء الاستعجال على حقيقته، يدل عليه آية: وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً...
[الأنفال: ٣٢] إلخ، فهم مع تهكمهم رضوا بأن يعاينوا آية يعذبون بها، لما في قلوبهم من مرض العناد العضال، والجهل المصم المعمي، ولذلك أجيبوا بأن العذاب هل فيه ما يستعجل منه. أي فمثل هذا الاستعجال لا يصدر ممن له مسكة من عقل، إذ لا يستعجل إلا ما يرجى خيره، ثم أعلمهم بعدم فائدة إيمانهم وقتئذ، وما يوبخون به إنكارا للتأخير- والله أعلم-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : الآيات ٥٢ الى ٥٣]
ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣)
ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي أشركوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ في الآخرة إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي تقولون وتعملون في الدنيا.
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أي يستخبرونك أَحَقٌّ هُوَ أي الوعد بعذاب الخلد، أو ادعاء النبوة أو القرآن قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي بفائتين العذاب.
فهو. لاحق بكم لا محال من (أعجزه) الشيء إذا فاته. يصح كونه (أعجزه) بمعنى وجده عاجزا. أي: ما أنتم بواجدي العذاب أو من يوقعه بكم عاجزا عن إدراككم، وإيقاعه بكم.
لطائف:
الأولى: دل سؤالهم هذا على محض جهلهم أو عنادهم، لما ثبت من البرهان القاطع على نبوته بمعجز القرآن، وإذا صحت النبوة لزم القطع بصحة كل ما ينبئهم عنه، مما يصدعهم به.
الثانية- إنما أمر بالقسم لاستمالتهم وللجري على ما هو المألوف في المحاورة، من تحقيق المدعي، فإن من أقسم على خير، فقد كساه حلة الجد، وخلع عنه لباس الهزل: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ، وَما هُوَ بِالْهَزْلِ [الطارق: ١٣- ١٤].
الثالثة- لما كانت الناس طبقات، كان منهم من لا يسلم إلا ببرهان حقيقيّ، ومنهم من لا ينتفع به، ويسلم إلا بالأمور الإقناعية، نحو القسم، كالأعرابيّ «١» الذي قدم على النبيّ ﷺ وسأله عن رسالته وبعثه، وأنشده بالذي بعثه، ثم اقتنع
بقوله صلوات الله عليه: «اللهم نعم، فقال: آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة» - رواه البخاري في أوائل كتاب العلم-.
الرابعة- قال ابن كثير: هذه الآية ليس لها نظير في القرآن إلا آيتان أخريان، يأمر الله تعالى رسوله أن يقسم به على من أنكر المعاد في سورة سبأ:
(١) أخرجه البخاريّ في: العلم، ٦- باب ما جاء في العلم وقوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً، حديث رقم ٥٥.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سبأ: ٣]، وفي التغابن: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن: ٧]- انتهى-.
وقد استمد ابن كثير هذا مما ذكره شيخه الإمام ابن القيم في (زاد المعاد) قال: وحلف ﷺ في أكثر من ثمانين موضعا، وأمره الله سبحانه بالحلف في ثلاثة مواضع، ثم ذكر هذه الآيات، ثم قال: وكان إسماعيل بن إسحاق القاضي يذاكر أبا بكر بن داود الظاهريّ ولا يسميه بالفقيه- فتحاكم إليه يوما هو وخصم له فتوجهت اليمين على أبي بكر بن داود، فتهيأ للحلف فقال له القاضي إسماعيل: وتحلف ومثلك يحلف يا أبا بكر؟ فقال: وما يمنعني عن الحلف، وقد أمر الله تعالى نبيه بالحلف في ثلاثة مواضع من كتابه؟ قال: أين ذلك؟ فسردها أبو بكر، فاستحسن ذلك منه جدا، ودعاه بالفقيه من ذلك اليوم. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٥٤]
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤)
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ أي بالشرك بالله، أو التعدي على الغير، أو مطلقا ما فِي الْأَرْضِ أي من الأموال لَافْتَدَتْ بِهِ أي لجعلته فدية لها من العذاب وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ أي أخفوها أسفا على ما فعلوا من الظلم. وضمير أَسَرُّوا للنفوس، المدلول عليها ب (كل نفس). والعدول إلى صيغة الجمع، لتهويل الخطب، بكون الخطب بطريق الاجتماع لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ أي عاينوه وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي فيما فعل بهم من العذاب، لأنه جزاء ظلمهم، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : الآيات ٥٥ الى ٥٦]
أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦)
أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ، هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ إعلام بأن له الملك كله، وأنه المثيب المعاقب، وما
وعده من الثواب والعقاب فهو حق، وهو القادر على الإحياء والإماتة، لا يقدر عليهما غيره، وإلى حسابه وجزائه المرجع، ليعلم أن الأمر كذلك، فيخاف ويرجى، ولا يغتر به المغترون- كذا في الكشاف.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٥٧]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧)
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي تزكية نفوسكم بالوعد والوعيد، والإنذار والبشارة، والزجر عن الذنوب المورطة في العقاب، والتحريض على الأعمال الموجبة للثواب، لتعلموا على الخوف والرجاء وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ أي القلوب من أمراضها، كالشك والنفاق، والغل والغش، وأمثال ذلك، بتعليم الحقائق، والحكم الموجبة لليقين، وتصفيتها بقبول المعارف، والتنوّر بنور التوحيد وَهُدىً أي لنفوسكم من الضلالة وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أي لمن آمن به بالنجاة من العذاب والارتقاء إلى درجات النعيم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٥٨]
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨)
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ يعني القرآن الذي أكرموا به وَبِرَحْمَتِهِ يعني الإسلام فَبِذلِكَ أي فبمجيئهما فَلْيَفْرَحُوا أي لا بالأمور الفانية القليلة المقدار، الدنيئة القدر والوقع، هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أي من الأموال وأسباب الشهوات، إذ لا ينتفع بجميعها ولا يدوم، ويفوت به اللذات الباقية، بحيث يحال بينهم وبين ما يشتهون.
والفاء داخلة في جواب شرط مقدر، كأنه قيل: إن فرحوا بشيء فبهما فليفرحوا.
أو هي رابطة لما بعدها بما قبلها، لدلالتها على تسبب ما بعدها عما قبلها. والفاء الثانية زائدة لتأكيد الأولى، أو الزائدة الأولى، لأن جواب الشرط في الحقيقة فَلْيَفْرَحُوا و (بذلك) مقدم من تأخير، وزيدت فيه الفاء للتحسين. وكذلك جوز أن يكون بدلا من قوله: بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ.
ثم بين تعالى أن من فضله على الناس تبيين الحرام من الحلال على ألسنة
الرسل، لئلا يفتروا عليه الكذب بتحريم ما أحل أو عكسه كما فعل المشركون، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٥٩]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (٥٩)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ أي ما خلق لكم من حرث وأنعام فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا أي أنزله تعالى رزقا حلالا كله، فبغضتموه، وقلتم: هذا حلال وهذا حرام، كقولهم: هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ [الأنعام: ١٣٨]، ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا [الأنعام: ١٣٩]، قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ في الحكم بالتحريم والتحليل، فأنتم تفعلون ذلك بإذنه أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ أي تختلقون الكذب، ثم بين وعيد هذا الافتراء بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٦٠]
وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠)
وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي فيما فعل بهم، وهو يوم الجزاء بالإحسان والإساءة، وهو وعيد عظيم، حيث أبهم أمره إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ في إنزال الوحي وتعليم الحلال والحرام وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ أي هذه النعمة، فيستعملون ما وهب إليهم من الاستعداد والعلوم في مطالب النفس الخسيسة ولا يتبعون ما هدوا إليه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٦١]
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١)
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ أي أمر ما وَما تَتْلُوا مِنْهُ أي التنزيل مِنْ قُرْآنٍ أي سورة أو آية وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ أي تخوضون
وتندفعون فيه وَما يَعْزُبُ أي يغيب عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ أي نملة أو هباء فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أي في دائرة الوجود والإمكان.
وقوله تعالى: وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ كلام برأسه، مقرر لما قيله، أي مكتوب مبين، لا التباس فيه، والمراد بالآية البرهان على إحاطة علمه تعالى بحال أهل الأرض، بأن من لا يغيب عن علمه شيء كيف لا يعرف حال أهل الأرض، وما هم عليه مع نبيه صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : الآيات ٦٢ الى ٦٤]
أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤)
أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ جمع وليّ. وهو في الأصل ضد العدوّ، بمعنى المحب وجاز كونه هنا بمعنى الفاعل، أي الذين يتولونه بالطاعة، كقوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ [المائدة: ٥٦] وبمعنى المفعول أي الذي يتولاهم بالإكرام كقوله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [البقرة: ٢٥٧]، وقوله: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ...
[المائدة: ٥٥] الآية- وكلا المعنيين متلازمان: لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من لحوق مكروه، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أي من الفزع الأكبر، كما في قوله تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: ١٠٣].
الَّذِينَ آمَنُوا أي بكل ما جاء من عند الله تعالى وَكانُوا يَتَّقُونَ أي يخافون ربهم، فيفعلون أوامره، ويتجنبون مناهيه، من الشرك والكفر والفواحش. ومحلّ الموصول الرفع على أنه خبر لمحذوف، كأنه قيل: من أولئك وما سبب فوزهم بذاك الإكرام؟ فقيل: هم الذين جمعوا بين الإيمان والتقوى المفضيين إلى كل خير، المنجيين من كل شر. أو النصب بمحذوف.
وقوله تعالى: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
ْبُشْرى
مصدر إما باق على مصدريته، والمبشر به محذوف، أي لهم البشارة فيهما بالجنة، وإنما حذف للعلم به من آيات أخر كقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا...
إلى قوله: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ
37
[التوبة: ٢٠- ٢١]، وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت: ٣٠]، وإما مراد به المبشر به، وتعريفه للعهد. كقوله سبحانه: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها، ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الحديد: ١٢].
وقوله تعالى: تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
أي لمواعيده لِكَ
أي بشراكم، وهي الجنة. وَالْفَوْزُ الْعَظِيمُ
أي المنال الجليل. الذي لا مطلب وراءه. كيف؟
وقد فازوا بالجنة وما فيها، ونجوا من النار وما فيها.
تنبيه:
هذه الآية الكريمة أصل في بيان أولياء الله، وقد بيّن تعالى في كتابه، ورسوله في سنته، أن لله أولياء من الناس، كما أن الشيطان أولياء، وللإمام تقيّ الدين بن تيمية، عليه الرحمة، كتاب في ذلك سماه (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) نقتبس منه جملة يهم الوقوف عليها. لكثرة ما يدور على الألسنة من ذكر الوليّ والأولياء. قال رحمه الله:
إذا عرف أن الناس فيهم أولياء الرحمن، وأولياء الشيطان، فيجب أن يفرق بين هؤلاء وهؤلاء، كما فرق الله ورسوله بينهما. فأولياء الله هم المؤمنون المتقون، كما في هذه الآية،
وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاريّ وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال «١» : يقول الله: من عادى لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة، أو فقد آذنته بالحرب «٢»... الحديث
- وهذا أصح حديث يروى في الأولياء، دل على أن من عادى وليّا لله، فقد بارز الله بالمحاربة.
وفي حديث آخر: وإنّي لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب
. أي: آخذ ثأرهم ممن عاداهم، كما يأخذ الليث الحرب ثأره، وهذا، لأن أولياء الله هم الذي آمنوا به ووالوه، فأحبوا ما يحب، وأبغضوا ما يبغض، ورضوا بما يرضى، وسخطوا بما يسخط، وأمروا بما يأمر، ونهوا عما نهى، وأعطوا لمن يحب أن يعطى، ومنعوا من يحب أن يمنع.
(١) أخرجه ابن ماجة في: الفتن، ١٦- باب من ترجى له السلامة من الفتن، حديث رقم ٣٩٨٩.
(٢) أخرجه البخاريّ في: الرقاق، ٣٨- باب التواضع، حديث رقم ٢٤٤٠.
38
والولاية ضد العداوة. وأصل الولاية المحبة والقرب. وأصل العداوة البغض والبعد.
وأفضل أولياء الله هم أنبياؤه، وأفضل أنبيائه هم المرسلون منهم، أفضلهم محمد ﷺ خاتم النبيين، وإمام المتقين، الذي بعثه الله بأفضل كتبه، وشرع له أفضل شرائع دينه، وجعله الفارق بين أوليائه، وأعدائه، فلا يكون وليا لله إلا من آمن به، وبما جاء به، واتبعه ظاهرا وباطنا. ومن ادعى محبة الله وولايته، وهو لم يتبعه، فليس من أولياء الله، بل من خالفه كان من أعداء الله، وأولياء الشيطان. وإن كان كثير من الناس يظنون في أنفسهم أو في غيرهم أنهم من أولياء الله، ولا يكونون من أولياءه. فاليهود والنصارى يدعون أنهم أولياء الله وأحباؤه. قال تعالى: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ... [المائدة: ١٨] الآية، وكان مشركو العرب يدعون أنهم أهل الله، لسكناهم مكة، ومجاورتهم البيت، فأنزل تعالى: وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ، إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ [الأنفال: ٣٤]، وكما أن من الكفار من يدعي أنه وليّ الله، وليس وليا لله، بل عدوّ له، فكذلك من المنافقين الذين يظهرون الإسلام، يقرون في الظاهر بالشهادتين، ويعتقدون في الباطن ما يناقض ذلك، مثل ألا يقروا باطنا برسالته عليه السلام، وإنما كان ملكا مطاعا، ساس الناس، برأيه، من جنس غيره من الملوك. أو يقولون إنه رسول الله إلى الأميين خاصة. أو يقولون إنه مرسل إلى عامة الخلق، وأن لله أولياء خاصة لم يرسل إليهم، ولا يحتاجون إليه، بل لهم طريق إلى الله من غير جهته، كما كان الخضر مع موسى. أو أنهم يأخذون عن الله كل ما يحتاجون إليه، وينتفعون به من غير واسطة، أو أنه مرسل بالشرائع الظاهرة، وهم موافقون له فيها. وأما الحقائق الباطنة، فلم يرسل بها، أو لم يكن يعرفها. أو هم أعرف بها منه، أو يعرفونها مثل ما يعرفها من غير طريقته. فهؤلاء كلهم كفار، مع أنهم يعتقدون في طائفتهم أنهم أولياء الله. وإنما أولياء الله: الذي وصفهم تعالى بولايته بقوله: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ [يونس: ٦٢- ٦٣].
ولا بد في الإيمان من أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وأن محمدا ﷺ خاتم النبيين، مرسل إلى جميع الثقلين الإنس والجن. فكل من لم يؤمن بما جاء به فليس بمؤمن، فضلا عن أن يكون من أولياء الله المتقين ومن آمن ببعض ما جاء به، وكفر ببعض، فهو كافر ليس بمؤمن.
ومن الإيمان به، الإيمان بأنه الواسطة بين الله وبين خلقه، في تبليغ أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وحلاله وحرامه. فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما
39
حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله رسوله ﷺ فمن اعتقد أن لأحد من الأولياء طريقا إلى الله من غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم، فهو كافر من أولياء الشيطان.
وأما خلق الله تعالى للخلق، ورزقه إياهم، وإجابته لدعائهم، وهدايته لقلوبهم، ونصرهم على أعدائهم، وغير ذلك من جلب المنافع، ودفع المضار، فهذا الله وحده، يفعله بما يشاء من الأسباب، لا يدخل في مثل هذا وساطة الرسل.
ثم لو بلغ الرجل في الزهد والعبادة والعلم ما بلغ، ولم يؤمن بجميع ما جاء به محمد ﷺ فليس بمؤمن، ولا وليّ لله تعالى. كالأحبار والرهبان من علماء اليهود والنصارى وعبّادهم، وكذلك المنتسبون إلى العلم والعبادة من مشركي العرب والترك والهند وغيرهم، ممن كان من حكماء الهند والترك. وله علم أو زهد وعبادة في دينه، وليس مؤمنا بجميع ما جاء به، فهو كافر، عدوّ لله، وإن ظن طائفة أنه وليّ لله.
كما كان حكماء الفرس من المجوس كفارا مجوسا، وكذلك حكماء اليونان مثل أرسطو وأمثاله، كانوا مشركين، يعبدون الأصنام والكواكب. وفي أصناف المشركين من هذه الطوائف من له اجتهاد في العلم والزهد والعبادة، ولكن ليس بمؤمن بالرسل، ولا يصدقهم فيما أخبروا به ولا يطيعهم فيما أمروا، فهؤلاء ليسوا بمؤمنين، ولا أولياء لله، وهؤلاء تقترون بهم الشياطين وتنزل عليهم، فيكاشفون الناس ببعض الأمور، ولهم تصرفات خارقة من جنس السحر، وهم من جنس الكهان والسحرة الذين تنزل عليهم الشياطين. قال تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ، تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ [الشعراء: ٢٢١- ٢٢٣]، وهؤلاء جميعهم الذين ينتسبون إلى المكاشفات، وخوارق العادات، إذا لم يكونوا متبعين للرسل، فلا بد أن يكذبوا وتكذبهم شياطينهم، لا بد أن يكون في أعمالهم ما هو إثم وفجور، مثل نوع من الشرك أو الظلم أو الفواحش أو الغلو أو البدع في العبادة، ولهذا تنزلت عليهم الشياطين، واقترنت بهم، فصاروا من أولياء الشيطان، لا من أولياء الرحمن.
ومن الناس من يكون فيه إيمان، وفيه شعبة من نفاق، كما
في الصحيحين «١» عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ ﷺ أنه قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان».
وفي صحيح مسلم «٢» :«وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم».
(١) أخرجه البخاريّ في: الإيمان، ٢٤- باب علامة المنافق، حديث رقم ٣١.
ومسلم في: الإيمان، حديث رقم ١٠٧ و ١٠٨. [.....]
(٢) أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث ١٠٩ و ١١٠.
40
وإذ كان أولياء الله هم (المؤمنون المتقون) فبحسب إيمان العبد وتقواه تكون ولايته لله تعالى،. فمن كان أكمل إيمانا وتقوى، كان أكمل ولاية لله. فالناس متفاضلون في ولاية الله عزّ وجلّ، بحسب تفاضلهم في الإيمان والتقوى، وكذلك يتفاضلون في عداوة الله بحسب تفاضلهم في الكفر والنفاق.
وأولياء الله على طبقتين: سابقون ومقربون وأصحاب يمين مقتصدون، ذكرهم الله في عدة مواضع من كتابه العزيز. فالأبرار أصحاب اليمين، هم المتقربون إلى الله بالفرائض، يفعلون ما أوجب الله عليهم، ويتركون ما حرم الله عليهم، ولا يكلفون أنفسهم بالمندوبات، ولا الكفّ عن فضول المباحات. وأما السابقون المقربون، فتقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض، ففعلوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات، فلما تقربوا إليه بجميع ما يقدرون عليه من محبوباتهم، أحبهم الرب حبّا تاما، كما قال تعالى «١» :«ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنّوافل حتّى أحبّه» يعنى الحب المطلق.
ثم إذا كان العبد لا يكون وليّا لله إلا إذا كان مؤمنا تقيّا، لهذه الآية- فمعلوم أن أحدا من الكفار والمنافقين لا يكون وليّا لله. وكذلك من لا يصح إيمانه وعباداته، وإن قدر أنه لا إثم عليه، مثل أطفال الكفار، ومن لم تبلغه الدعوة، وإن قيل إنهم لا يعذبون حتى يرسل إليهم رسولا، فلا يكونون من أولياء الله، إلا إذا كانوا من المؤمنين المتقين. فمن يتقرب إلى الله. لا بفعل الحسنات ولا بفعل السيئات، لم يكن من أولياء الله.
وكذلك المجانين والأطفال،
فإن النبيّ ﷺ قال «٢» : رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبيّ حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ.
وهذا الحديث قد رواه أهل السنن من حديث عائشة رضي الله عنها، واتفق أهل المعرفة على تلقيه بالقبول. ولكن الصبي المميّز تصح عباداته، ويثاب عليها عند جمهور العلماء، وأما المجنون الذي رفع عنه القلم، فلا يصح شيء من عباداته باتفاق العلماء، ولا يصح منه إيمان ولا كفر ولا صلاة ولا غير ذلك من العبادات، بل لا يصلح هو، عند عامة العقلاء، لأمور الدنيا. كالتجارة والصناعة. فلا يصح أن يكون بزازا ولا
(١) أخرجه البخاريّ في: الرقاق، ٣٨- باب التواضع، حديث ٢٤٤٠.
(٢)
أخرجه البخاريّ في: الحدود، ٢٢- باب لا يرجم المجنون والمجنونة، وقال عليّ لعمر: أما علمت أن القلم رفع عن المجنون حتى يفيق وعن الصبيّ حتى يدرك وعن النائم حتى يستيقظ.
41
عطارا ولا حدادا ولا نجارا، ولا تصح عقوده باتفاق العلماء. فلا يصح بيعه ولا شراؤه ولا نكاحه ولا طلاقه ولا إقراره ولا شهادته، ولا غير ذلك من أقواله، بل أقواله كلها لغو لا يتعلق بها حكم شرعيّ. ولا ثواب ولا عقاب. بخلاف الصبيّ المميز فإن له أقوالا معتبرة في مواضع، بالنص والإجماع، وفي مواضع فيها نزاع وإذا كان المجنون لا يصح منه الإيمان ولا التقوى ولا التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل، وامتنع أن يكون وليّا لله، فلا يجوز لأحد أن يعتقد أنه وليّ لله، لا سيما أن تكون حجته على ذلك إما مكاشفة سمعها منه، أو نوعا من تصرف، مثل أن يراه قد أشار إلى واحد فمات أو صرع. فإنه قد علم أن الكفار والمنافقين من المشركين وأهل الكتاب، لهم مكاشفات وتصرفات شيطانية، كالكهان والسحرة وعبّاد المشركين وأهل الكتاب، فلا يجوز لأحد أن يستدل بمجرد ذلك على كون الشخص وليا لله، إن لم يعلم ما يناقض ولاية الله، فكيف إذا علم منه ما يناقض ولاية الله؟ مثل أن يعلم أنه لا يعتقد وجوب اتباع النبيّ ﷺ ظاهرا وباطنا، بل يعتقد أنه يتبع الشرع الظاهر، دون الحقيقة الباطنة، أو يعتقد أن لأولياء الله طريقا إلى الله غير طريق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. أو يقول إن الأنبياء ضيقوا الطريق، أو هم قدوة العامة دون الخاصة، ونحو ذلك مما يقوله بعض من يدعي الولاية. فهؤلاء فيهم من الكفر ما يناقض الإيمان، فضلا عن ولاية الله عزّ وجلّ. فمن احتج بما يصدر عن أحدهم، من خرق عادة، على ولايتهم، كان أضل من اليهود والنصارى. وكذلك المجنون، فإن كونه مجنونا يناقض أن يصح منه الإيمان والعبادات، التي هي شرط في ولاية الله. ومن كان يجن أحيانا، ويفيق أحيانا، إذا كان في حال إفاقته مؤمنا بالله ورسوله، ويؤدّي الفرائض، ويجتنب المحارم، فهذا إذا جن، لم يكن جنونه مانعا من أن يثيبه الله على إيمانه وتقواه، الذي أتى به في حال إفاقته، ويكون له من ولاية الله بحسب ذلك. وكذلك من طرأ عليه الجنون، بعد إيمانه وتقواه، فإن الله يثيبه ويأجره على ما تقدم من إيمانه وتقواه، ولا يحبطه بالجنون الذي ابتلي به من غير ذنب فعله، ولا قلم مرفوع عنه في حال جنونه.
فعلى هذا، فمن أظهر الولاية وهو لا يؤدّي الفرائض، ولا يجتنب المحارم، بل قد يأتي بما يناقض ذلك، لم يكن لأحد أن يقول: هذا وليّ لله، فإن هذا إن لم يكن مجنونا، بل كان متوليها من غير جنون، أو كان يغيب عقله بالجنون تارة، ويفيق أخرى، وهو لا يقوم بالفرائض بل يعتقد أنه لا يجب عليه اتباع الرسول ﷺ فهو كافر وإن كان مجنونا باطنا وظاهرا قد ارتفع عنه القلم. فهذا وإن لم يكن معاقبا عقوبة
42
الكافرين، فليس هو مستحقا لما يستحقه أهل الإيمان والتقوى من كرامة الله عزّ وجلّ، فلا يجوز على التقديرين أن يعتقد فيه أحد أنه وليّ لله، لكن إن كان له حالة في إفاقته كان فيها مؤمنا بالله متقيا، كان له من ولاية الله بحسب ذلك، وإن كان له في حال فيه كفر أو نفاق، أو كان كافرا أو منافقا ثم طرأ عليه الجنون، فهذا فيه من الكفر والنفاق ما يعاقب عليه، وجنونه لا يحبط عنه ما يحصل منه حال إفاقته من كفر أو نفاق.

فصل


وليس لأولياء الله شيء يتميزون به عن الناس في الظاهر من الأمور المباحات، فلا يتميزون بلباس دون لباس، ولا بحلق شعر أو تقصيره أو ضفره، إذا كان كلاهما مباحا، كما قيل: كم من صديق في قباء، وكم من زنديق في عباء. بل يوجدون في جميع أصناف أمة محمد ﷺ إذا لم يكونوا من أهل البدع الظاهرة والفجور.
فيوجدون في أهل القرآن، وأهل العلم، ويوجدون في أهل الجهاد والسيف، ويوجدون في التجار والصناع والزراع. وكان السلف يسمون أهل الدين والعلم (القراء) فيدخل فيهم العلماء والنساك. ثم حدث بعد ذلك اسم الصوفية والفقراء واسم (الصوفية)، نسبة إلى لباس الصوف. هذا هو الصحيح، وقد قيل إنه نسبة إلى صفوة الفقهاء وقيل إلى (صوفة بن أد) قبيلة من العرب كانوا يعرفون بالنسك، وقيل إلى أهل الصفا. وقيل إلى الصفوة، وقيل إلى الصفة، وقيل إلى الصف المقدم بين يدي الله تعالى. وهذه أقوال ضعيفة فإنه لو كان كذلك لقيل: صفي، أو صفائي، أو صفي، ولم يقل صوفي. وصار أيضا اسم الفقراء يعني به أهل السلوك، وهذا عرف حادث وقد تنازع الناس: أيما أفضل: مسمى الصوفي أو مسمى الفقير؟ ويتنازعون أيضا: أيما أفضل؟ الغنيّ الشاكر، أو الفقير الصابر؟ والصواب في هذا كله ما قاله تبارك وتعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: ١٣]
وفي الصحيح «١» عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ ﷺ أنه سئل: «أي الناس أفضل؟ قال: أتقاهم». فدل
(١) أخرجه البخاريّ في: الأنبياء، ٨- قول الله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا، حديث رقم ١٥٨٧.
وأخرجه مسلم في: الفضائل، حديث رقم ١٦٨.
43
الكتاب والسنة على أن أكرم الناس عند الله أتقاهم.
وفي السنن «١» عن النبيّ ﷺ أنه قال: «لا فضل لعربيّ على عجميّ، ولا لعجمي على عربيّ ولا لأسود على أبيض، ولا لأبيض على أسود، إلا بالتقوى».
وعنه أيضا ﷺ أنه قال «٢» :«إن الله تعالى أذهب عنكم عبّية الجاهلية وفخرها بالآباء. الناس رجلان: مؤمن تقيّ وفاجر شقي».

فصل


وليس من شرط وليّ الله أن يكون معصوما لا يغلط ولا يخطئ، بل يجوز أن يخفى عليه بعض علم الشريعة، ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين، حتى يحسب بعض الأمور مما أمر الله به، مما نهى الله عنه. ويجوز أن يظن في بعض الخوارق أنها من كرامات أولياء الله تعالى، وتكون من الشيطان لبّسها عليه، لنقص درجته، ولا يعرف أنها من الشيطان، وإن لم يخرج بذلك عن ولاية الله تعالى. فإن الله سبحانه وتعالى تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ولم يؤثّم النبيّ ﷺ المجتهد المخطئ بل جعل له أجرا على اجتهاده، وجعل خطأه مغفورا له، ولهذا لما كان وليّ الله يجوز أن يغلط، لم يجب على الناس الإيمان بجميع ما يقوله من هو وليّ الله، إلا أن يكون نبيّا، بل ولا يجوز لوليّ الله أن يعتمد على ما يلقى إليه في قلبه، إلا أن يكون موافقا، وعلى ما يقع له مما يراه إلهاما ومحادثة وخطابا من الحق، بل يجب عليه أن يعرض ذلك جميعه على ما جاء به محمد ﷺ فإن وافقه قبله وإن خالفه لم يقبله، وإن لم يعلم أموافق هو أم مخالف توقف فيه. والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف: طرفان ووسط. فمنهم من إذا اعتقد في شخص أنه وليّ الله وافقه في كل ما يظن أنه حدثه به قلبه عن ربه، وسلم إليه جميع ما يفعله. ومنهم من إذا رآه قد قال أو فعل ما ليس بموافق للشرع، أخرجه عن ولاية الله بالكلية، وإن كان مجتهدا مخطئا، وخيار الأمور أوساطها. وهو ألا يجعل معصوما ولا مأثوما، إذا كان مجتهدا مخطئا، فلا يتبع في كل ما يقوله، ولا يحكم عليه بالكفر والفسق مع اجتهاده. والواجب على الناس اتباع ما بعث الله به رسوله.
وأما إذا خالف قول بعض الفقهاء. ووافق قول آخرين، لم يكن لأحد أن يلزمه بقول المخالف، ويقول: هذا خالف الشرع!
(١) أخرجه أحمد في مسنده ٥/ ٤١١.
(٢) أخرجه أبو داود في: الأدب، ١١١- باب في التفاخر بالأحساب، حديث رقم ٥١١٦.
44
وفي الصحيحين «١» عن النبيّ ﷺ أنه قال: «قد كان في الأمم قبلكم محدّثون، فإن كان في أمتي أحد، فعمر منهم»
. وكان عمر يقول: اقتربوا من أفواه المطيعين، واسمعوا منهم ما يقولون، فإنه يتجلى لهم أمور صادقة. والمحدّث الذي يأخذ عن قلبه أشياء، ليس بمعصوم، فيحتاج أن يعرضه على ما جاء به النبيّ المعصوم ﷺ ولهذا كان عمر رضي الله عنه يشاور الصحابة ويناظرهم ويرجع إليهم في بعض الأمور، وينازعونه في أشياء فيحتج عليهم، ويحتجون عليه بالكتاب والسنة، ويقررهم على منازعته، ولا يقول لهم: أنا محدّث ملهم مخاطب فينبغي لكم أن تقبلوا مني ولا تعارضوني. فأيّ من ادعى له أصحابه أنه وليّ الله، وأنه مخاطب يجب على أتباعه أن يقبلوا منه كل ما يقوله ولا يعارضوه ويسلموا له حاله من غيره اعتبار بالكتاب والسنة- فهو وهم مخطئون. ومثل هذا من أضل الناس. فعمر بن الخطاب رضي الله عنه أفضل منه، وهو أمير المؤمنين، وكان المسلمون ينازعونه ويعرضون ما يقول، هو وهم، على الكتاب والسنة. وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن كل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من الفروق بين الأنبياء وغيرهم. ولذا قال الجنيد: علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة. وقال أبو عثمان النيسابوريّ: من أمّر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمّر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة، لقوله تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور: ٥٤] وقال أبو عمرو بن نجيد:
كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل.
فأولياء الله تعتبر بصفاتهم وأفعالهم وأحوالهم التي دل عليها الكتاب والسنة، ويعرفون بنور الإيمان والقرآن، وبحقائق الإيمان الباطنة، وشرائع الإسلام. فإذا كان الشخص مباشرا للنجاسات والخبائث التي يحبها الشيطان، أو يأوي إلى الحمّامات والحشوش التي تحضرها الشياطين، أو يأكل الحيات والعقارب والزنابير وآذان الكلاب التي هي خبائث وفواسق. أو يشرب البول ونحوه من النجاسات التي يحبها الشيطان. أو يدعو غير الله فيستغيث بالمخلوقات، ويتوجه إليها، أو يسجد إلى ناحية شيخه ولا يخلص الدين لرب العالمين. أو يلابس الكلاب أو النيران، أو يأوي إلى المزابل، والمواضع النجسة، أو يأوي إلى المقابر، لا سيما إلى مقابر الكفار من
(١) أخرجه البخاريّ في: فضائل أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، ٦- باب مناقب عمر بن الخطاب، أبي حفص القرشيّ العدويّ رضي الله عنه، حديث رقم ١٦٢٨، عن أبي هريرة.
وأخرجه مسلم في: فضائل الصحابة، حديث رقم ٢٣، عن عائشة.
45
اليهود والنصارى أو المشركين، أو يكره سماع القرآن وينفر عنه، ويقدم عليه سماع الأغاني والأشعار، ويؤثر سماع مزامير الشيطان، على سماع كلام الرحمن، فهذه علامات أولياء الشيطان، لا علامات أولياء الرحمن- انتهى ملخصا-.
والكتاب مما يلزم الوقوف عليه، ومطالعته بالحرف. ففيه من الفوائد ما لا يوجد في غيره، فرحم الله جامعه، وجزاه خيرا. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٦٥]
وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥)
وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ، إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً، هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ تسلية للنبيّ ﷺ عما كان يسمعه من تآمرهم في إيصال مكروه له، ومجاهرتهم بتكذيبه، ورميه بالسحر ونحوه أي: لا تتأثر بقولهم، وشاهد غز الله وقهره، لتنظر إليهم بنظر الفناء وترى أعمالهم وأقوالهم، وما يهددونك به كالهباء، فمن شاهد قوة الله وعزته يرى كل القوة والعزة له، لا قوة لأحد ولا حول. فقوله تعالى: فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ [النساء:
١٣٩]، تعليل للنهي على طريقة الاستئناف، كأنه قيل: ما لي لا أحزن؟ فقيل: إن العزة لله، أي الغلبة والقهر في ملكته وسلطانه لا يملك أحد شيئا منها أصلا، لا هم ولا غيرهم، فهو يغلبهم، وينصرك عليهم كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة:
٢١]. إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا [غافر: ٥١]، وقوله: هُوَ السَّمِيعُ أي لأقوالهم فيك، فيجازيهم الْعَلِيمُ أي لما ينبغي أن يفعل بهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٦٦]
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦)
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ أي كلهم تحت ملكته وتصرفه وقهره، لا يقدرون على شيء بغير إذنه ومشيئته وإقداره إياهم. وقوله: وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ تأكيد لما سبق من اختصاص العزة به تعالى، لتزيد سلوته صلوات الله عليه وبرهان على بطلان ظنونهم وأقوالهم المبنية عليها. وفي (ما) من قوله وَما يَتَّبِعُ وجهان:
أحدهما- أنها نافية، و (شركاء) مفعول (يتبع) ومفعول (يدعون) محذوف
لظهوره. أي ما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء، شركاء في الحقيقة، وإن سموها شركاء لجهلهم، فاقتصر على أحدهما لظهور دلالته على الآخر. ويجوز أن يكون (شركاء) مفعول (يدعون) ومفعول (يتبع) محذوف، لانفهامه، من قوله إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أي ما يتبعون يقينا، إنما يتبعون ظنهم الباطل.
والوجه الثاني: أنها استفهامية، منصوبة ب (يتبع) و (شركاء) مفعول (يدعون) أي: أيّ شيء يتبع هؤلاء؟ أي: إذا كان الكل تحت قهره وملكته فما يتبعون من دون الله ليس بشيء، ولا تأثير له ولا قوة، إن يتبعون إلا ما يتوهمونه في ظنهم، ويتخيلونه في خيالهم، وما هم إلّا يقدّرون وجود شيء لا وجود له في الحقيقة.
ثم نبه تعالى على انفراده بالقدرة الكاملة، والنعمة الشاملة، ليدل على توحده سبحانه باستحقاق العبادة، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٦٧]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ أي خلقه لكم لتستقروا فيه من نصبكم وكلالكم وَالنَّهارَ مُبْصِراً أي مضيئا، تبصرون فيه مطالب أرزاقكم ومكاسبكم.
قيل: الآية من باب الاحتباك. والتقدير: جعل الليل مظلما لتسكنوا فيه، والنهار مبصرا لتتحركوا لمصالحكم، فحذف من كل من الجانبين ما ذكر في الآخر، اكتفاء بالمذكور عن المتروك، وإسناد الإبصار إلى النهار مجازيّ، كقوله: ما ليل المحب بنائم. إِنَّ فِي ذلِكَ أي لجعل المذكور لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ أي هذه الآيات ونظائرها سماع تدبر واعتبار.
ثم شرع في نوع أخر من أباطيلهم بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٦٨]
قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨)
قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ تنزيه له عن أن يجانس أحدا، أو يحتاج إليه،
47
وتعجب من كلمتهم الحمقاء هُوَ الْغَنِيُّ أي الذي وجوده بذاته، وبه وجود كل شيء، فكيف يماثله شيء؟ ومن له الوجود كله، فكيف يجانسه شيء؟ والجملة علة لتنزيهه، وإيذان بأن اتخاذ الولد من أحكام الحاجة، إما للتقوّي به، أو لبقاء نوعه لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ تقرير لغناه. أي فهو مستغن بملكه لهم عن اتخاذ أحد منهم ولدا إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أي: ما عندكم من حجة بهذا القول الباطن. توضيح لبطلانه، بتحقيق سلامة ما أقيم من البرهان الساطع عن المعارض.
أي ليس بعد هذا حجة تسمع. والمراد تجهيلهم، وأنه لا مستند لهم سوى تقليد الأوائل، واتباع جاهل لجاهل.
تنبيه:
دلت الآية على تسمية البرهان سلطانا.
قال الإمام ابن القيم في (مفتاح دار السعادة) : إنه سبحانه سمى الحجة العلمية سلطانا. قال ابن عباس رضي الله عنه: كل سلطان في القرآن فهو حجة، وهذا كقوله تعالى: إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا يعني ما عندكم من حجة بما قلتم، إن هو إلا قول على الله بلا علم. وقوله تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [النجم: ٢٣]، يعني ما أنزل بها حجة ولا برهانا، بل هي من تلقاء أنفسكم وآبائكم. وقول تعالى: أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ يعني حجة واضحة. إلا موضعا واحدا اختلف فيه، وهو قوله: ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ، فقيل: المراد به القدرة والملك، أي ذهب عني مالي وملكي، فلا مال لي ولا سلطان، قيل: هو على بابه، أي انقطعت حجتي وبطلت، فلا حجة لي.
والمقصود: أن الله سبحانه سمى علم الحجة سلطانا، لأنها توجب تسلط صاحبها واقتداره، فله بها سلطان على الجاهلين، بل سلطان العلم أعظم من سلطان اليد، ولهذا ينقاد الناس للحجة ما لا ينقادون لليد، فإن الحجة تنقاد لها القلوب، وأما اليد فإنما ينقاد لها البدن. فالحجة تأسر القلب وتقوده، وتذل المخالف، وإن أظهر العناد والمكابرة، فقلبه خاضع لها ذليل، مقهور تحت سلطانها. بل سلطان الجاه، إن لم يكن معه علم يساس به، فهو بمنزلة سلطان السباع والأسود ونحوها، قدرة بلا علم ولا رحمة، بخلاف سلطان الحجة، فإنه قدرة بعلم ورحمة وحكمة، ومن لم يكن له اقتدار في علمه، فهو إما لضعف حجته وسلطانه، وإما لقهر سلطان اليد والسيف له، وإلا فالحجة ناصرة نفسها، ظاهرة على الباطل قاهرة له- انتهى-.
48
أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ توبيخ وتقريع على جهلهم. قال الزمخشريّ:
لما نفى عنهم البرهان، جعلهم غير عالمين، فدلّ على أن كل قول لا برهان عليه لقائله، فذاك جهل وليس بعلم.
وقال أبو السعود: فيه تنبيه على أن كل مقالة لا دليل عليها، فهي جهالة، وأن العقائد لا بد لها من برهان قطعيّ، وأن التقليد بمعزل من الاعتداد به.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : الآيات ٦٩ الى ٧٠]
قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)
قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ باتخاذ الولد، وإضافة الشركاء لا يُفْلِحُونَ أي لا يفوزون بمطلوب أصلا مَتاعٌ فِي الدُّنْيا مبتدأ خبره محذوف أي لهم تمتع يسير في الدنيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ أي الموت ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ أي بسبب كفرهم. والآية لبيان أن ما يتراءى من فوزهم بالحظوظ الدنيوية، بمعزل من أن يكون من جنس الفلاح. كأنه قيل: كيف لا يفلحون وهم في غبطة ونعيم؟ فقيل: هو متاع يسير في الدنيا. وليس بفوز بالمطلوب.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٧١]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ أي خبره الذي له شأن وخطر، مع قومه المغترين بعزة الأموال والأعوان، ليتدبروا ما فيه من صحة توكله على الله، ونظره إلى قومه، بعين عدم المبالاة بهم، وبمكايدهم، وزوال ما تمتعوا به من النعيم، بإغراقهم بالطوفان، فلعلهم يكفّون عن كفرهم، وتلين أفئدتهم ويستيقنون صحة نبوتك إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ أي شق وثقل عَلَيْكُمْ مَقامِي أي مكاني، يعني نفسه، أو مكثي بين أظهركم مددا طوالا، ألف سنة إلا خمسين عاما أو قيامي بالدعوة إلى الله، من
رؤيتكم ذلتي بقلة الأموال والأعوان، ومنع عزتكم بهما عن الانقياد لي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ أي بحججه وبراهينه، أو تخويفي بعذابه فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ أي عمدت في دفع ما قصدتموني به فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ أي شأنكم في إهلاكي وَشُرَكاءَكُمْ يعني آلهتهم وهو تهكم بهم، أو نظراءهم في الشرك. و (الواو) بمعنى مع. أو معطوف على (أمركم) بحذف المضاف، أي: وأمر شركائكم. أو منصوب بمحذوف، أي ادعوا شركائكم، وذلك لأن (أجمع) يتعلق بالمعاني. يقال: (أجمع الأمر إذا نواه وعزم عليه) ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً أي مستورا. من (غمه، إذا ستره) بل مكشوفا تجاهرونني به ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ أي أدوا إليّ ذلك الأمر الذي تريدون بي وَلا تُنْظِرُونِ أي ولا تمهلوني.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٧٢]
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢)
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي عن الإيمان بما جئتكم به فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ أي جعل على عظتكم، أي فلا باعث لكم على التولي والنفور إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ أي ما ثوابي على التذكير إلا عليه تعالى، يثيبني به، آمنتم أو توليتم وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. أي المستسلمين له وحده بالإيمان به، ونبذ كل معبود دونه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٧٣]
فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣)
فَكَذَّبُوهُ يعني نوحا بما جاءهم، عنادا بعد أن قامت عليهم الحجة، فحقت عليهم، كلمة العذاب، وأرسل عليهم الطوفان. فَنَجَّيْناهُ أي من الغرق وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ أي خلفاء عن المغرقين وعمّار الأرض وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ أي منتهى أمرهم. والمراد ب (المنذرين) المكذبين. والتعبير به إشارة إلى إصرارهم عليه، حيث لم يفد الإنذار فيهم. وقد جرت السنة الربانية أن لا يهلك قوم بالاستئصال إلا بعد الإنذار، لأن من أنذر فقد أعذر. وفي الأمر بالنظر تهويل لما جرى عليهم، وتحذير لمن كذب الرسول ﷺ وتسلية له.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٧٤]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤)
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد نوح رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ يعني هودا وصالحا وإبراهيم ولوطا وشعيبا، فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي الآيات الدالة على صدقهم، المفيدة هدايتهم فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ أي بسبب تعوّدهم تكذيب الحق، وتمرنهم عليه. لأنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية، مكذبين بالحق فحالهم بعدها، كحالهم قبلها، هذا على أن ضمير (كانوا) و (كذّبوا) لقوم الرسل. وجاز عود ضمير (كانوا) لقوم الرسل، و (كذّبوا) لقوم نوح. أي ما كان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح أي بمثله. كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ أي المجاوزين مقتضيات حقائق الأشياء بخذلانهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٧٥]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥)
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد هؤلاء الرسل مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا يعني التسع فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ أي كفار ذوي آثام عظام.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٧٦]
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦)
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا يعني الآيات المزيحة للشك قالُوا يعني من فرط التمرد إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ أي تلبيس ظاهر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٧٧]
قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧)
قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أي على وجه لم يترك لكم شبهة، مقالتكم الحمقى، من أنه سحر، فحذف المحكيّ المقول لدلالة الكلام عليه. ثم قال: أَسِحْرٌ هذا استفهام إنكار من قول موسى لا من قولهم. فهو مستأنف لإنكار
51
كونه سحرا، وتكذيب لقولهم، وتوبيخ لهم على ذلك إثر توبيخ. وليس أَسِحْرٌ هذا مقولهم، لأنهم بتّوا القول بأنه سحر، فكيف يستفهمون عنه؟ - كذا قيل: -.
ولا أرى مانعا من أن يكون مقولهم، والهمزة وسطت مزيدة لتكون مؤكدة لما قبلها من الاستفهام، ومن لطائفها الاحتراس عن إيهام فاعلية سحر ل جاءَكُمْ بادئ بدء وأسلوب القرآن فوق كل أسلوب. أو الهمزة، ومدخولها من مقولهم لقولهم الذي بتّوا عليه أمرهم. ثم رأيت الناصر في (الانتصاف) أشار لهذا حيث قال:
وأما القراءة الثانية- يغني قراءة آلسحر- على الاستفهام ففيها- والله أعلم- إرشاد إلى أن قول موسى أوّلا: أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا حكاية لقولهم، ويكون أَسِحْرٌ هذا هو الذي قالوه، ولا يناقض ذلك حكاية الله عنهم أنهم قالوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ وذلك إما لأنهم قالوا الأمرين جميعا: بدءوا بالاستفهام على سبيل الاستهتار بالحق والاستهزاء بكونه حقا، والاستهزاء بالحق إنكار له بل قد يكون الاستفهام في بعض المواطن أبتّ من الإخبار. ألا ترى أنهم يقولون في قوله: أأنت أمّ سالم أبلغ في البت من قوله مخبرا (أنت أم سالم) ثم ثنوا بصيغة الخبر الخاصة ببت الإنكار، ودعوى أنه سحر، فقالوا: إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ فحكى الله تعالى عنهم هذا القول الثاني، ووبخهم موسى على قولهم الأول. ومعنى العبارتين ومآلهما واحد.
وإما ألا يكونوا قالوا سوى: أَسِحْرٌ هذا على سبيل الإنكار حسبما تقدم، فحكاه الله تعالى عنهم بمآله لأنه يعلم أن مرادهم من الاستفهام الإنكار، وبتّ القول أنه سحر، وحكى موسى عليه السلام قولهم بلفظه، ولم يؤده بعبارة أخرى. وحكاية القصص المتلوّة في الكتاب العزيز بصيغ مختلفة، لا محمل لها سوى أنها معان منقولة إلى اللغة العربية، فيترجم عنها بالألفاظ المترادفة المتساوية المعاني.
وحاصل هذا البحث أن قول موسى عليه السلام أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا إنما حكى فيه قولهم، ويرشد إلى ذلك أنه كافأهم عند ما أتوا بالسحر بمثل مقالتهم مستفهما فقال: ما جئتم به آلسحر (على قراءة الاستفهام) قرضا بوفاء على السواء. والذي يحقق لك أن الاستفهام والإخبار في مثل هذا المعنى مؤداهما واحد، أن الله تعالى حكى قول موسى عليه السلام (ما جئتم به السحر) على الوجهين: الخبر والاستفهام، على اقتضته القراءتان وهو قول واحد، دل أن مؤدى الأمرين واحد، ضرورة صدق الخبر.
وإنما حمل الزمخشري على تأويل القول بالتعييب أو إضمار مفعول (تقولون)
52
استشكال وقوع الاستفهام، محكيا بالقول، والمحكي عنهم الخبر، وقد أوضحنا أن لا تنافر ولا تنافي بين الأمرين.
قال الناصر: فشدّ بهذا الفضل عرى التمسك، فإنه من دقائق النكت، والله الموفق.
وقوله تعالى: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ من كلام موسى قطعا، أتى به تقريرا لما سبق لأنه لما استلزم كون الحق سحرا، كون من أتى به ساحرا، أكد الإنكار السابق وما فيه من التوبيخ والتجهيل، بذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٧٨]
قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨)
قالُوا أي لموسى أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا أي لتصرفنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا يعنون عبادة الأصنام وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ أي الملك والسلطان فِي الْأَرْضِ أي أرض مصر وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ أي لتبقى عزتنا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٧٩]
وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩)
وَقالَ فِرْعَوْنُ أي حفظا لعزته، ودفعا لتعزز موسى ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ أي ماهر في فنه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٨٠]
فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠)
فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ أي من أصناف السحر.
قال بعضهم: جواز الأمر بالسحر لدحضه، وكذلك طلب إيراد الشّبه لتحل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٨١]
فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١)
فَلَمَّا أَلْقَوْا أي عصيّهم وحبالهم ليضاهوا معجزة موسى بعصاه قالَ مُوسى
ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ
أي هو السحر، لا ما جئتكم به مما سميتموه سحرا إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ أي سيمحقه بالكلية بمعجزتي، فلا يبقى له أثر إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ أي بل يسلط عليه الدمار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٨٢]
وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢)
وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ أي يثبته ويقويه بها وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ أي ذلك، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٨٣]
فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣)
فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ معطوف على مقدر معلوم من مواقع أخر، أي فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ [الشعراء: ٤٥]، إلخ. قيل:
الضمير من قَوْمِهِ لفرعون، وهم ناس يسير من قومه، آمنوا به سرّا والأظهر أنهم قوم موسى، وهم بنو إسرائيل، الذين كانوا بمصر من أولاد يعقوب، فهم الذين آمنوا به عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ أي يعذبهم وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ أي مستكبر فِي الْأَرْضِ أي أرض مصر وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ أي المتجاوزين الحد بالظلم والفساد، وبا دعاء الربوبية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٨٤]
وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤)
وَقالَ مُوسى أي تطمينا لقلوبهم، وإزالة للخوف عنهم يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا أي فإليه أسندوا أمركم في العصمة مما تخافون، وبه ثقوا، فإنه كافيكم وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: ٣]، وقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ أي مخلصين وجوهكم له.
قال القاشانيّ: جعل التوكل من لوازم الإسلام، وهو إسلام الوجه لله تعالى، أي إن كمل إيمانكم ويقينكم، بحيث أثر في نفوسكم، وجعلها خالصة لله، لزم التوكل
عليه وإن أريد (الإسلام) بمعنى الانقياد، كان شرطا في التوكل، لا ملزوما له، وحينئذ يكون معناه: إن صح إيمانكم يقينا فعليه توكلوا، بشرط أن تكونوا منقادين. كما تقول: إن كرهت هذا الشجر فاقلعه إن قدرت- انتهى-.
وقال الكرخيّ: قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ أي منقادين لأمره فقوله:
فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا جواب الشرط الأول. والشرط الثاني وهو إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ شرط في الأول. وذلك أن الشرطين متى لم يترتبا في الوجود، فالشرط الثاني شرط في الأول. ولذلك لم يجب تقديمه على الأول. قال الفقهاء: المتأخر يجب أن يكون متقدما، والمتقدم يجب أن يكون متأخرا. مثاله: قول الرجل لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق إن كلمت زيدا فمجموع قوله: (إن دخلت الدار فأنت طالق) مشروط (إن كلمت زيدا) والمشروط متأخر عن الشرط، وذلك يقتضي أن يكون المتأخر في اللفظ، متأخرا في المعنى. فكأنه يقول لامرأته: حال ما كلمت زيدا إن دخلت الدار فأنت طالق، فلو حصل هذا المعلق قبل إن كلمت زيدا لم يقع لم يقع الطلاق فقوله تعالى:
إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ... إلخ يقتضي أن يكون كونهم مسلمين شرطا لأن يصيروا مخاطبين بقوله إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا فكأنه تعالى يقول للمسلم حال إسلامه: إن كنت من المؤمنين بالله فعلى الله توكل. والأمر كذلك، لأن الإسلام عبارة عن الاستسلام وهو الانقياد لتكاليف الله، وترك التمرد والإيمان عبارة عن معرفة القلب بأن واجب الوجود لذاته واحد، وما سواه محدث تحت تدبيره وقهره. وإذا حصلت هاتان الحالتان فعند ذلك يفوض العبد جميع أموره إليه تعالى، ويحصل في القلب نور التوكل على الله تعالى. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٨٥]
فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥)
فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي موضع فتنة لهم، أي عذاب يعذبوننا ويفتنوننا عن ديننا. قال الحاكم: دلت على حسن السؤال بالنجاة من الظلمة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٨٦]
وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦)
وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي من كيدهم، ومن شؤم مشاهدتهم، والعبودية لهم.
قال القاضي: وفي تقديم التوكل على الدعاء تنبيه على أن الداعي ينبغي له أن يتوكل أولا، لتجاب دعوته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٨٧]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧)
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً أي اتخذا بها بيوتا مباءة تلازمونها لتجتمع كلمتكم في شأنكم وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً أي مصلى وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي في بيوتكم: قال بعضهم: كانوا خائفين. وفي ذلك دلالة على جواز كتم الصلاة عند الخوف. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أي بالنصرة في الدنيا، والجنة في العقبى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٨٨]
وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨)
وَقالَ مُوسى أي يدعو الله تعالى في إذهاب عزة فرعون رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً أي ما يتزين به من اللباس والمراكب والحلي وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ أي بالتكبر عليك وعلى آياتك ورسلك. وقوله:
لِيُضِلُّوا متعلق ب (ءاتيت)، وأعيد رَبَّنا توكيدا، و (لام) لِيُضِلُّوا لام العاقبة والصيرورة. أي: آتيتهم النعم المذكورة ليشكروها ويتبعوا سبيلك، فكان عاقبة أمرهم أنهم كفروا وضلوا عن سبيلك. وتجويز جعل اللام للعلة استدراجا. أو لام الدعاء عليهم بذلك- توسع في غير متسع، ونبوّ عن لطف المساق وسره فإن موسى لما رأى القوم مصرين على الكفر والعناد أخذ في الدعاء عليهم، ومن حق من يدعو على الغير أن يقدم بين يدي دعائه ما دفعه واضطره إلى الابتهال، لتحق إجابته ولذا، بين أولا ضلالهم عن السبيل بكفرانهم للنعم، وعتوهم على المحسن بها تمهيدا لقوله: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ أي أهلكها لأنهم يستعينون بنعمتك على معصيتك وأصل (الطمس) محو الأثر والتغير وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ أي اجعلها
قاسية، واطبع عليها، حتى لا تنشرح للإيمان فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ أي يعاينوه ويوقنوا به، بحيث لا ينفعهم ذلك إذ ذاك وقوله: فَلا يُؤْمِنُوا جواب.
للدعاء، أو دعاء بلفظ النهي.
قال ابن كثير: هذه الدعوة كانت من موسى عليه السلام، غضبا لله ولدينه على فرعون وملئه الذي تبين له أنه لا خير فيهم، ولا يجيء منهم شيء. كما دعا نوح عليه السلام فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً، إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نوح: ٢٦- ٢٧]، ولهذا استجاب تعالى لموسى فيهم هذه الدعوة التي شركه فيها أخوه هارون كما أخبر بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٨٩]
قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩)
قالَ تعالى قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما أي على أمري، ولا تعجلا، فإن مطلوبكما كائن في وقته لا محالة وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أي في الاستعجال أو عدم الوثوق بوعده تعالى، أو يعني فرعون وقومه، بقوله سبحانه:
ثم أشار تعالى إلى إجابته دعائهما في إهلاك فرعون وقومه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٩٠]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠)
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ أي لحقهم فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً أي لأجل البغي عليهم والاعتداء حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ يرجو النجاة من الغرق آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ وذلك أن موسى عليه السلام لما رغب إلى فرعون أن يطلق الإسرائيليين من عبوديته، ويأذن لهم بالسراح إلى فلسطين ليعبدوا ربهم، أبى وتمرد، فضربه الله وقومه بالآيات التسع، كما تقدم في سورة (الأعراف) فأذن لموسى وشعبه بالخروج من مصر، فارتحل بنو إسرائيل جميعا بمواشيهم وأثاثهم، ثم ندم فرعون وملؤه على إطلاقهم من خدمتهم، فاشتد فرعون وجنوده في أثرهم ليردهم، فأدركهم وهم نازلون عند البحر، فرهب
الإسرائيليون من مقدمه، وضجوا إلى موسى فسكن روعهم، وأعلمهم ما يشاهدون من نجاتهم، وهلاك عدوّهم، وأوحى تعالى إلى موسى أن يضرب بعصاه البحر، فانشق ودخل بنو إسرائيل في وسطه على اليبس الذي جعله تعالى آية كبرى، ونفذوا منه إلى شاطئه، وتبعهم فرعون وجنوده، حتى إذا توسطوا البحر، مدّ موسى يده على البحر، فارتد إلى ما كان عليه، وغرق فرعون بمن معه. ولما أحس بالغرق، لاذ إلى الإيمان يبغي النجاة، فقيل له:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٩١]
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١)
آلْآنَ أي تؤمن وتسلم لتنجو من الغرق وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ أي كفرت بالله من قبل الغرق وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ أي الضلال والإضلال، والظلم والعتوّ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٩٢]
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢)
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ أي نخرجك من البحر بجسدك الذي لا روح فيه. فرآه بنو إسرائيل ملقى على شاطئ البحر ميتا وفي التعبير عن إخراجه من القعر إلى الشاطئ (بالتنجية) التي هي الخلاص من المكروه، تهكم واستهزاء. لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ من الأمم الكافرة آيَةً أي عبرة من الطغيان والتمرد على أوامره تعالى. وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ أي لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها.
تنبيه:
قال الشهاب الخفاجي في (العناية) : لا يقبل إيمان المرء حال اليأس والاحتضار، كما يدل عليه صريح الآية: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غافر: ٨٥]، وأما ما وقع في (الفصوص) من صحة إيمانه، وأن قوله آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ إيمان بموسى عليه السلام- فمخالف للنص والإجماع، وإن ذهب إلى ظاهره الجلال الدواني رحمه الله. وله رسالة فيه طالعتها، وكنت أتعجب منها حتى رأيت في (تاريخ حلب) للفاضل الحلبي أنها ليست له، وإنما هي لرجل يسمى محمد بن هلال النحوي. وقد ردها القزويني، وشنع عليه وقال: إنما مثاله مثال رجل
58
خامل الذكر، لما قدم مكة بال في زمزم ليشتهر بين الناس، كما في المثل (خالف تعرف) وفي (فتاوى ابن حجر رحمه الله) أن بعض فقهائنا كفّر من ذهب إلى إيمان فرعون ولذا قيل. إن المراد بفرعون (في كلامه) النفس الأمارة، وهذا كله مما لا حاجة إليه- انتهى كلام الشهاب-.
أقول: ذكر شيخنا العطار رحمه الله في كتابه (الفتح المبين في رد اعتراض المعترض على محي الدين) خاتمة في بطلان ما نسب إلى هذا العارف من القول بصحة إيمان فرعون ونجاته، قال رحمه الله:
ليعلم أنه شاع فيما بين أهل العلم بأن حضرة محي الدين رضي الله عنه قال بإيمان فرعون ونجاته، والحال أنه ليس كذلك، كما ستطلع عليه من النقل عنه.
بحث في صحة القول بإيمان فرعون ونجاته وعدمها، حيث الأخذ من الآيات القرآنية، فكان ذلك منه مجرد بحث في الدليل لا غير، وما كان هذا قولا بإيمانه قطعيا. وقد بنى مسألة نجاة فرعون وإيمانه على أصلين من أصوله، وافقه عليهما جم غفير من العلماء الأعلام.
الأصل الأول- في بيان حقيقة إيمان اليأس. فإيمان اليأس عنده، وعند جم غفير من العلماء هو ما كان عند مشاهدة العذاب البرزخي، كحال المحتضر لا غير، ففي هذه الحالة لا ينفع الإيمان، وهذا متفق عليه بين أهل العلم. وذهب قوم إلى أن إيمان اليأس ما كان عند رؤية العذاب دنيويا أو أخرويا. فالإيمان في أي حالة من الحالتين لا ينفع. وعند هذا العارف وجماعة: أن رؤية العذاب الدنيوي لا تمنع صحة الإيمان، وإن أوجبت الهلاك في الدنيا، فإن سنة الله قاضية بأن يتحتم وقوع الهلاك الدنيويّ لمن رأى هذا العذاب، وإن آمن ونجا من عذاب الآخرة، إلا قوم يونس، فإنه تعالى نجاهم منه، كما ذكره تعالى.
الأصل الثاني- من أصوله رضي الله عنه: أن من حقت عليه الكلمة لا يتلفظ بمادة الإيمان بقصد الإيمان، وإن تلفظ بها لا يقصده، فلا بد من تكذيب الله تعالى له، ولو بالحكاية عنه، كما قال تعالى: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ [البقرة: ١٤]، وكما قال: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا [الحجرات: ١٤]، فكذبهم تعالى في دعواهم. وهذا الأصل مأخوذ من قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس: ٩٦- ٩٧]، فكلمة حَتَّى للغاية. فغيّا تعالى إيمانهم إلى حين رؤية
59
العذاب الأليم، وهو الأخروي لا غير، فإنه هو الذي يوصف بالأليم. ونفى تعالى عنهم وقوع الإيمان قبل ذلك، فوقوعه منهم قبله قصدا، محال بنص هذه الآية.
إذا تقرر هذان الأصلان، فلنرجع إلى ما قاله هذا الحبر في شأن فرعون في (الفتوحات المكية) وفي (الفصوص) : فالذي ذكره في (الفتوحات) عن ذكره طبقات أهل النار فيها: هو أن فرعون من أهل النار، حيث قال في هذا البحث:
كفرعون وأضرابه، فخص له ولهم من النار طبقة مخصوصة يؤبّدون فيها. وأشار إلى كفره في موضع آخر منها عند ذكره هذا الحديث وهو «١» : أعوذ بك منك؟ قال:
استعاذ رسول الله ﷺ من مقام الاتحاد الذي كان عليه فرعون وهو قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات: ٢٤]، وعلى هذه الإشارة وما تقدم، يكون فرعون كافرا عنده، كما هو عند عامة الخلق. وعلى هذا لا إشكال ولا كلام.
بقي القول على إيمان فرعون ونجاته من حيث الدليل، وهو مجرد بحث مع الذين ذهبوا إلى كفره قطعيا، وليس لهم هذا القطع، لما أن الدليل القرآني يعطي خلافه قال تعالى: حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ.. الآية- فذكر فرعون هنا الإيمان ثلاث مرات: اثنتان في الجناب الإلهي، والأخيرة تعمه، والإيمان بموسى حيث قال: وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ولم يكن مسلما إلا من جمع بين الإيمان بالله وبرسوله.
ثم قال شيخنا رحمه الله: وفي (الفتوحات) و (الفصوص) ما حاصله: أن إيمانه لم يكن عند اليأس، لا على مذهبه ومذهب من وافقه، ولا على مذهب غيره.
أما الأول فلأن إيمانه كان عند رؤية العذاب الدنيوي، لا عند احتضاره، والإيمان عند رؤية العذاب الدنيوي لا يعد يأسا عنده، وعند جمع. وأما على الثاني، فلأن قول فرعون ما كان عند يأسه من الحياة الدنيوية، فإنه علم أن من آمن بما آمن به قوم موسى كان له المشاركة في الطريق اليبس التي كانت للمؤمنين، وقد شاركهم في إيمانهم، فكان الغالب على ظنه أو يقينه المعاملة الخاصة بالمؤمنين، والمشاهدة له، وما علم سنة الله في خلقه بأنه لا بد من الهلاك الدنيوي لمن كانت حالته كذلك.
والهلاك في الدنيا لا يدل على عدم النجاة في الآخرة، وهو ظاهر. وعلى هذا فإيمانه لم يكن حال اليأس على المذهبين: فالأول بيقين، والثاني بحسب ما يظهر، ولا بعد
(١) أخرجه مسلم في: الصلاة، حديث ٢٢٢.
60
بأنه كان طامعا في النجاة بيقين، لعموم المشاركة. هذا. وإن مذهب هذا العارف الخاص به هو البناء على اتساع الرحمة الإلهية، والأخذ بالظواهر من الآيات، ومع ذلك فلما ذكر البحث في شأن إيمان فرعون ونجاته، مع من قال بخلافهما، قال: إن الوقف في شأن إيمان فرعون هو الأسلم، لما شاع عند الخلق عامة من شقائه، وهذا منه صريح في أنه كان باحثا في إيمانه ونجاته من ظاهر اللفظ القرآني بحثا لا جازما بهما- انتهى ملخصا-.
ثم أنبأ تعالى عما أنعم به على بني إسرائيل إثر نعمة إنجائهم من عدوّهم وإهلاكه، وإخلالهم بشكرها وأداء حقوقها بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٩٣]
وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣)
وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ أضيف المكان إلى الصدق، لأن عادة العرب إذا مدحت شيئا، أن تضيفه إلى الصدق تقول: رجل صدق. وقدم صدق.
وقال تعالى: مُدْخَلَ صِدْقٍ [الإسراء: ٨٠]، ومُخْرَجَ صِدْقٍ [الإسراء: ٨٠]، إذا كان عاملا في صفة صالحا للغرض المطلوب منه، كأنهم لاحظوا أن كل ما يظن به فهو صادق.
وقوله تعالى: وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وهي المنّ والسلوى في التيه وبعده، مما فاض عليهم من الأرض التي تدرّ لبنا وعسلا فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ أي ما تفرقوا على مذاهب شتى في أمر دينهم، إلا من بعد ما جاءهم العلم الحاسم لكل شبهة، وهو ما بين أيديهم من الوحي، الذي يتلونه. أي: وما كان حقهم أن يختلفوا، وقد بيّن الله لهم، وأزاح عنهم اللبس. ونظير هذه الآية، في النعي عليهم اختلافهم، قوله تعالى: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة: ٤]، وقوله جلّ ذكره: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ [آل عمران: ١٩]، وفيه أكبر زاجر وأعظم واعظ عن الاختلاف في الدين، والتفرق فيه.
إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي فيميز المحق من المبطل بالإنجاء والإهلاك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٩٤]
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤)
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ من قصص موسى وفرعون وبني إسرائيل فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ أي التوراة مِنْ قَبْلِكَ فإن عندهم على نحو ما أوحي إليك لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ أي الشاكّين في أنه منزل من عنده.
تنبيه:
لا يفهم من هذه الآية ثبوت شك له صلوات الله عليه، فإن صدق الشرطية لا يقتضي وقوعها. كقولك. (إن كانت الخمسة زوجا، كانت منقسمة بمتساويين) والسر في مثلها تكثير الدلائل وتقويتها، لتزداد قوة اليقين، وطمأنينة القلب، وسكون الصدر. ولذا أكثر تعالى في كتابه من تقرير أدلة التوحيد والنبوة والرجعة. أو السر هو الاستدلال على تحقيق ما قص، والاستشهاد بما في الكتاب المتقدم، وأن القرآن مصدق لما فيه، أو وصف الأحبار بالرسوخ في العلم، بصحة ما أنزل إلى رسول الله، صلوات لله عليه، تعريضا بالمشركين، أو تهييج الرسول، صلوات لله عليه، وتحريضه ليزداد يقينا، كما قال الخليل صلوات الله عليه وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: ٢٦٠]، وقد روي أنه ﷺ قال حين نزول الآية: لا أشك ولا أسأل أخرجه عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة- أو الخطاب له صلى الله عليه وسلم، والمراد غيره، على حد: (إياك أعني واسمعي يا جارة) وفيه من قوة التأثير في القلوب ما لا مزيد عليه، بمثابة ما لو خاطب سلطان عاملا له على بلدته بحضور أهلها بوصاياه وأوامره الرهيبة، فيكون ذلك أفعل في النفوس أو الخطاب لكل من يسمع. أي إن كنت أيها السامع في شك مما نزلنا على لسان نبينا إليك... وأيد هذا بقوله تعالى بعد: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي... [يونس: ١٠٤]، فكأنه أشار إلى أن المذكور في أول الآية رمزا، هم المذكورون بعد صراحة وفي الآية تنبيه على أن كل من خالجته شبهة في الدين ينبغي أن يسارع إلى حلها بمقادحة العلماء المنبهين على الحق.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٩٥]
وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥)
وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ هو أيضا من باب التهييج والإلهاب والتثبيت، وأجرى بعضهم هاهنا قاعدة، فقال: النهي عن كل شيء، إن كان لمن تلبس به فمعناه تركه، وإن كان لغيره فمعناه الثابت على عدمه، وألا يصدر منه في المستقبل كما هنا- انتهى- أو يأتي الوجهان الأخيران قبل هنا أيضا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : الآيات ٩٦ الى ٩٧]
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧)
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ أي قوله الكريم، وأمره بعذابهم، كما قال:
وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة: ١٣].
لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ أي كدأب آل فرعون وأضرابهم. أي: وعند رؤية العذاب يرتفع التكليف، فلا ينفعهم إيمانهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٩٨]
فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨)
فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ أي فهلا كانت قرية من القرى المهلكة آمنت قبل معاينة العذاب، ولم تؤخر إيمانها إلى حين معاينته، كما فعل فرعون، وفي هذا التخصيص معنى التوبيخ، فَنَفَعَها إِيمانُها بأن يقبله الله منها، ويكشف عنها بسببه العذاب. إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ أي لكنّ قومه لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ أي إلى آجالهم.
هذا، وقد جوز أن تكون الجملة في معنى النفي، لتضمن حرف التحضيض معناه، فيكون الاستثناء متصلا، لأن المراد من القرى أهاليها، كأنه قال: ما آمن أهل
63
قرية من القرى العاصية فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس. ويؤيده قراءة الرفع على البدل.
روي أن يونس عليه السلام بعثه الله إلى نينوى، من أرض الموصل وكانت مدينة عظيمة، مسيرة ثلاثة أيام، وهي قصبة بلاد الآشوريين، بانيها آشور أو نينوس ابن نمرود، وكلاهما من أولاد بني نوح، وكانت من أقدم مدن العالم وأشهرها.
والمؤرخون الوثنيون يصفونها بأن ارتفاع اسوارها كان مائة قدم، ودائراتها ستون ميلا، وهي محصنة بألف وخمسمائة قلعة، طول الواحدة منهن مائتا قدم. قيل: أهلها كانوا يبلغون نحو ستمائة ألف. وخلفاء نمرود في هذه المدينة دأبوا على تحسينها، وتوسيع بنائها وقويت شوكة الآشوريين في تلك الأيام حتى خضع لهم أكثر ممالك آسيا، فتجبروا وتمردوا وكانوا كلما ظفروا في غاراتهم يستغرقون في النهب والمظالم، فأرسل الله تعالى إليهم يونس عليه السلام، واسمه في العبرية (يونان)، لينذرهم بأنهم لكفرهم واقترافهم الموبقات سيحل بهم العذاب بعد أربعين يوما فتنقلب بهم نينوى. ثم خرج يونس من بينهم فأصحر. فلما فقدوه، وبلغ أميرهم قول يونس، تخوفوا نزول العذاب الذي أنذروا به، فقذف الله في قلب أميرهم الإيمان والتوبة، فنزل عن عرشه، وألقى عنه حلته، والتف بمسح، وجلس على التراب، وآمن بالله، وآمن أهل نينوى كلهم، وأمر أن ينادى بنينوى بالصيام، فلا يذوق أحد طعاما ولا شرابا، ولا ترعى البهائم ولا تسقى، وأن يلبس الناس المسوح، صغيرهم وكبيرهم، وأن يجتمعوا في صعيد واحد، يجهرون بتسبيح الله. والإنابة إليه، والاستغفار له، والتوبة عما أسلفوا من الظلم والجرم، وأن يحضروا أطفالهم وذويهم ومواشيهم معهم. ففعلوا وتضرعوا إلى الله واستكانوا لجلاله، وسألوه أن يرفع عنهم العذاب الذي أنذرهم به نبيّهم. فلما علم منهم الصدق من قلوبهم، والتوبة والندامة على ما مضى منهم، كشف عنهم العذاب ورحمهم. وسيأتي في (سورة الصافات) زيادة في نبأ يونس عما هنا.
تنبيهات:
الأول: يروي بعض المفسرين هنا أن العذاب تدلى عليهم، وغشيهم، وجعل يدور على رؤوسهم، وغامت السماء غيما أسود، ونحو هذا. وليس في التنزيل بيان لهذا، ولا في صحيح السنة، وكأن من زعمه فهمه من لفظ كَشَفْنا، ولا صراحة فيه.
قال القرطبي: معنى كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ أي العذاب الذي وعدهم يونس أنه ينزل بهم لا أنهم رأوه حينئذ، فلا خصوصية، أي كما روي عن قتادة أن
64
هذا الكشف لم يكن لأمة من الأمم إلا لقوم يونس خاصة، فإنه لم يقع بهم العذاب، وإنما رأوا علامته.
الثاني- في الآية إشارة إلى أنه لم يوجد قرية آمنت بأجمعها بنبيها المرسل إليها من سائر القرى، إثر بعثته وإنذاره، إلا قوم يونس. والبقية دأبهم التكذيب، وكلهم أو أكثرهم، كما قال تعالى: وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف: ٢٣].
وفي الحديث الصحيح «١» : عرض عليّ الأنبياء، فجعل النبيّ يمر ومعه الفئام من الناس، والنبيّ معه الرجل، والنبيّ معه الرجلان، والنبيّ ليس معه أحد.
الثالث-
اخرج ابن أبي حاتم عن عليّ رضي الله عنه: قال: إن الحذر، لا يرد القدر، وإن الدعاء يرد القدر، وذلك في كتاب الله: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا... الآية-.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: الدعاء يرد القضاء، وقد نزل من السماء.
اقرءوا إن شئتم: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ... الآية.
وأخرج ابن مردويه عن عائشة، مرفوعا، في قوله تعالى: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا قال عليه السلام: دعوا- كذا في الإكليل-.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ٩٩]
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩)
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ أي بحيث لا يشذ عنهم أحد جَمِيعاً أي مجتمعين على الإيمان، لا يختلفون فيه. أي: لكنه لا يشاؤه لمخالفته للحكمة التي بنى عليها أساس التكوين والتشريع أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ أي على ما لم يشأ الله منهم حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي ليس ذلك عليك، ولا إليك، كقوله تعالى:
(١) أخرجه البخاريّ في: الطب، ٤٢- باب من لم يرق، حديث ١٦٠٥ ومسلم في: الإيمان، حديث ٣٧٤، عن ابن عباس.
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة: ٢٧٢]، وفيه تسلية له ﷺ وترويح لقلبه مما كان يحرص عليه من إيمانهم، كقوله تعالى: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء: ٣]، فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر: ٨].
ولذا قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ١٠٠]
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠)
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بإرادته وتوفيقه، فلا تجهد نفسك في هداها، فإنه إلى الله. وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ أي الخذلان عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ أي حججه وأدلته لما على قلوبهم من الطبع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ١٠١]
قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١)
قُلِ انْظُرُوا أي تفكروا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي من الآيات الدالة على توحيده وكمال قدرته. قال السيوطي: في الآية دليل على وجوب النظر والاجتهاد، وترك التقليد في الاعتقاد. وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ أي وما تنفع الآيات والرسل المنذرون، أو الإنذارات، عمن لا يؤمن. و (ما) استفهامية أو نافية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ١٠٢]
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢)
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ أو وقائعه تعالى فهم، كما يقال (أيام العرب) لوقائعها، من التعبير بالزمان عما وقع فيه، كما يقال (المغرب) للصلاة الواقعة فيه. قُلْ أي تهديدا لهم فَانْتَظِرُوا أي ما هو عاقبتكم، إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ. وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ١٠٣]
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣)
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا عطف على محذوف معلوم من السياق، كأنه قيل: نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا المرسلة إليهم وَالَّذِينَ آمَنُوا، كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ أي من كل شدة وعذاب. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ١٠٤]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤)
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ إنما أوثر الخطاب باسم الجنس- أعني الناس- مصدرا بحرف التنبيه، تعميما للتبليغ، وإظهارا لكمال العناية بشأن ما بلغ إليهم.
وعبر عما هم فيه من القطع بالشك، للإيذان بأنه أقصى ما يمكن خطوره، وإلا فإن وضوح صحته، وبرهان حقّيته أوضح من الشمس في رائعة النهار. وقدّم ترك عبادة الغير على عبادته تعالى، إيذانا بمخالفتهم من أول الأمر. وفي تخصيص التوفي بالذكر، متعلقا بهم- ما لا يخفى من التهديد، إذ لا شيء أشد عليهم من الموت.
وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي بأعلى مراتب التوحيد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ١٠٥]
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥)
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً أي مائلا عن الأديان الباطلة.
لطيفتان:
الأولى: إقامة الوجه للدين كناية عن توجيه النفس بالكلية إلى عبادته تعالى، والإعراض عما سواه، فإن من أراد أن ينظر إلى شيء نظر استقصاء، يقيم وجهه في مقابلته، بحيث لا يلتفت يمينا ولا شمالا، إذ لو التفت بطلت المقابلة، فلذا كني به عن صرف العمل بالكلية إلى الدين، فالمراد بالوجه الذات. أي: اصرف ذاتك وكليتك للدين، فاللام صلة.
الثانية: جملة (وأن أقم) عطف على (أن أكون) وجاز حكاية صلة (أن) بصيغة الأمر، لأنه لا فرق في صلة الموصول الحرفي بين الطلب وبين الخبر، لأن القصد وصلها بما يتضمن معنى المصدر، وهو يحصل بكل فعل. وقال بعضهم: إن هنا فعلا مقدرا. أي وأوحى إليّ أن أقم، وأنه يجوز أن تكون (أن) مصدرية ومفسرة، لأن في المقدر معنى القول دون حرفه، ثم رجحه بأنه يزول فيه قلق العطف، ويكون الخطاب في وجهك في محله. وردّ بأن الجملة المفسّرة لا يجوز حذفها، ولا قلق في هذا العطف، وأمر الخطاب سهل، لأنه لملاحظة المحكي، والأمر المذكور معه- كذا في (العناية).
وقوله تعالى: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تهييج وحث له على عبادة الله تعالى، ومنع لغيره، كما تقدم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ١٠٦]
وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦)
وَلا تَدْعُ أي لا تعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ أي لا في الدنيا ولا في الآخرة إن عبدته وَلا يَضُرُّكَ إن لم تعبده فَإِنْ فَعَلْتَ أي عبدته فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ أي الضّارّين لنفسك أو بوضع الأمر في غير موضعه إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: ١٣].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ١٠٧]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ: لما نهى تعالى عن عبادة الأوثان، ووصفها بأنها لا تنفع ولا تضر، بين أنه سبحانه هو الضار النافع، الذي إن أصاب بضر لم يقدر على كفه إلا هو وحده، دون كل أحد، كيف بالجماد الذي لا شعور به. وكذلك إن أراد بخير، لم يردّ أحد ما يريده من فضله وإحسانه، فكيف بالأوثان؟ فهو الحقيقي، إذا بأن توجه إليه العبادة دونها.
لطائف:
قيل: ذكر المس في أحدهما، والإرادة في الثاني، للإشارة إلى أنهما متلازمان، فما يريده يصيبه، وما يصيبه لا يكون إلا بإرادته. لكنه صرح في كل منهما بأحد الأمرين، إشارة بالذات، فلذا لم يعبر فيه بالإرادة.
وقيل: قصد الإيجاز، فذكر في كل من الفقرتين المتقابلتين ما يدل على إرادة مثله في الأخرى، لاقتضاء المقام تأكيد كل من الترغيب والترهيب، وهو نوع من البديع يسمى احتباكا.
قال أبو السعود: على أنه قد صرح بالإصابة حيث قيل (يصيب به) إظهارا لكمال العناية بجانب الخير، كما ينبئ عنه ترك الاستثناء فيه. أي: يصيب بفضله الواسع المنتظم لما أرادك به من الخير.
روى ابن عساكر عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرضوا لنفحات ربكم، فإن لله نفحات من رحمته، يصيب بها من يشاء من عباده، واسألوه أن يستر عوراتكم، ويؤمّن روعاتكم. ورواه عن أبي هريرة بمثله.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ١٠٨]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨)
قُلْ أي لأولئك الكفرة الفجرة، بعد ما بلغتهم دلائل التوحيد والنبوة والمعاد، وأنذرتهم، يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ يعني القرآن فَمَنِ اهْتَدى أي الإيمان به، فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي منفعة اهتدائه لها خاصة. وَمَنْ ضَلَّ أي بالكفر به فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي فوبال الضلال عليها. والمعنى: لم يبق لكم بمجيء الحق عذر، ولا على الله حجة، فمن اختار الهدى واتباع الحق، فما نفع إلا نفسه، ومن آثر الضلال، فما ضر إلا نفسه، وفيه تنزيه ساحة الرسالة عن شائبة غرض عائد إليه، عليه السلام، من جلب نفع أو ضر، كما يلوح به إسناد المجيء إلى الحق، من غير إشعار بكون ذلك بواسطته، - أفاده أبو السعود-.
وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أي بحفيظ موكول إليّ أمركم، وإنما أنا بشير ونذير.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة يونس (١٠) : آية ١٠٩]
وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩)
وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ أي في التبليغ، وإن لم يهتدوا به، وَاصْبِرْ أي على أذاهم في الدعوة. حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ أي لك بالنصرة عليهم والغلبة وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ وقد حكم وشاء قتلهم وأسرهم يوم بدر، وله الأمر من قبل ومن بعد.
70

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة هود
أضيفت إليه لتضمنها نبأه مع قومه، وتمييزا لها، وإن تضمنت أنباء غيره من الأنبياء عليهم السلام.
وقال المهايميّ: سميت به لقوله: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود: ٥٦]، الدال على توحيد الأفعال، مع استقامته بإعطاء كل مستعد ما يستعد له، المقتضية للأحكام والجزاء، وهي من أعظم المقاصد.
وهي مكية. واستثنى منها ثلاث آيات أنزلت بالمدينة فألحقت بها: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ [هود: ١٢] أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ [هود: ١٧]، وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ [هود: ١١٤].
وآياتها مائة وثلاث وعشرون.
روى الحاكم عن أبي بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله! قد شبت! قال: قد شيبتني (هود) و (الواقعة) و (المرسلات) و (عمّ يتساءلون) و (إذا الشمس كورت) ورواه هو والترمذي عن ابن عباس.
وروي أيضا عن أنس وسهل وعمران
وفي رواية: شيبتني هود وأخواتها ذكر يوم القيامة وقصص الأمم.
وفي رواية: شيبتني هود وأخواتها. وما فعل بالأمم
71
Icon