تفسير سورة الممتحنة

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة الممتحنة من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: ﴿ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ ﴾ أضاف العدو لنفسه تعالى تشريفاً للمؤمنين، أي أن عدوكم بمنزلة عدوي أنتقم منه، وإلا فالعدو بمعنى الموصل للضر، والضر على الله محال، كما أن الحبيب الموصل للنفع، وهو على الله محال. قوله: (أي كفار مكة) تفسير للعدو، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فحكم الآية باق مع سائر الكفار إلى يوم القيامة. قوله: ﴿ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ ﴾ هذه الجملة إما مفسرة لموالاتهم إياهم، أو استئنافية، فلا محل لها من الإعراب على هذين، أو حال من فاعل تتخذوا أو صفة لأولياء، قوله: (قصد النبي) الخ، أشار بذلك إلى أن مفعول ﴿ تُلْقُونَ ﴾ محذوف، والباء في قوله: ﴿ بِٱلْمَوَدَّةِ ﴾ سببية. قوله: (وورّى بحنين) أي بغزوة حنين، والمعنى: أظهر لعامة الناس أن يريد غزوة حنين على عادته، من أنه كان إذا خرج لغزوة يوري بغيرها، كأن يسأل عن طريق غيرها ستراً عن المنافقين، لئلا يرسلوا إلى الكفار فينتهوا فيفوت تدبير الحرب، والتورية مأخوذة من وراء الإنسان، كأنه يجعل ما أراده خلفه ووراءه، وفي بعض النسخ، وورى بخيبر وهو تحريف، لأن غزوة خيبر كانت في المحرم سنة سبع، وفتح مكة كان في رمضان من السنة الثامنة، وحنين كانت بعد الفتح في شوال من سنة الفتح، فوري بها على عادته في غزاته، والسورة نزلت في غزوة الفتح. قوله: (كتب حاطب بن أبي بلتعة) الخ، أي وكان ممن هاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في الأصل من اليمن، وكان في مكة حليف بني أسد بن عبد العزى رهط الزبير بن العوام، وهذا بيان لسبب نزول قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الآيتين، روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:" بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: ائتوا روضة خاخ بالصرف وتركه موضع بينه وبين المدينة اثنا عشر ميلاً، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها، فانطلقنا نهادي خيلنا أن سرعها، فإذا نحن بامرأة فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حاطب ما هذا؟ فقال: لا تعجل علي يا رسول الله، إني كنت امرأ ملصقاً في قريش - قال سفيان: كان حليفاً لهم ولم يكن من أنفسها - وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ فيهم يداً يحمون بها قرابتي، ولم أفعله كفراً ولا ارتداد عن ديني، ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام، وقد علمت أن الله ينزل بهم بأسه، وأن كتابي لا يغني عنهم شيئاً، وأن الله ناصرك عليهم، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: صدق، فقال عمر رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، فأنزل الله عز وجل: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ ﴾ "قيل: اسم المرأة سارة من موالي قريش، روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمن جميع الناس يوم فتح مكة إلا أربعة هي إحداهم، وقيل إنها عاشت إلى خلافة عمر، وأسلمت وحسن إسلامها، وكان في الكتاب: أما بعد، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل، وأقسم بالله لو لم يسر إليكم إلا وحده لأظفره الله بكم، ولا يخذله موعده فيكم، فإن الله وليه وناصره. وروي أن سارة المذكورة حين قدمت المدينة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمهاجرة جئت يا سارة؟ فقالت: لا، فقال: أمسلمة جئت؟ قالت: لا، قال: فما جاء بك، قالت: كنتم الأهل والموالي، والأصل والعشيرة، وقد ذهب بعض الموالي يعني قتلوا يوم بدر، وقد احتجت حاجة شديدة، فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني، فقال عليه السلام: فأين أنت من شباب أهل مكة؟ وكانت مغنية، قالت: ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر، فحيث رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب على إعطائها، فكسوها وحملوها وأعطوها، فخرجت إلى مكة، وأتاها حاطب فقال: أعطيك عشرة دنانير وبرداً، على أن تلقي هذا الكتاب إلى أهل مكة، وكتب فيه أن رسول الله صلى لله عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم، فخرجت سارة سائرة إلى مكة، ونزل جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فبعث لها علياً إلى آخر ما تقدم. قوله: (فاسترده النبي) أي طلب رده بإرسال علي ومن معه. قوله:(ممن أرسله) أي وهي سارة، والضمير المستتر في أرسل عائد على حاطب، والبارز عائد على الكتاب. قول: (بإعلام الله له) متعلق باسترده والباء سببه. قوله: (وقبل عذر حاطب) أي لأنه مؤمن بدري شهد الله له بالإيمان حيث قال: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الخ. قوله: ﴿ يُخْرِجُونَ ٱلرَّسُولَ ﴾ إما مستأنف أو تفسير لكفرهم أو حال من فاعل ﴿ كَفَرُواْ ﴾.
قوله: ﴿ وَإِيَّاكُمْ ﴾ عطف على ﴿ ٱلرَّسُولَ ﴾ وقدم عليهم لأنه المقصود، فلذلك عدل على اتصال الضمير إلى انفصاله، لأنه لو قال: يخرجونكم والرسول لفات هذا المعنى. قوله: (أي لأجل أن آمنتم) الخ، أشار بذلك إلى أن ﴿ تُؤْمِنُواْ ﴾ في محل نصب مفعول له. والمعنى: يخرجنكم من أجل إيمانكم بالله. قوله: ﴿ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ ﴾ أي من مكة. قوله: (للجهاد) أشار به إلى أن جهاداً وما بعده منصوب على المفعول له. قوله: ﴿ تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ ﴾ بدل من تلقون، بدل بعض من كل أو مستأنف، ومفعول ﴿ تُسِرُّونَ ﴾ محذوف قدره بقوله: (إسرار خبر النبي) والباء في ﴿ بِٱلْمَوَدَّةِ ﴾ للسببية نظير ما تقدم. قوله: ﴿ وَأَنَاْ أَعْلَمُ ﴾ الجملة حالية من فاعل ﴿ تُلْقُونَ ﴾ و ﴿ تُسِرُّونَ ﴾.
قوله: (طريق الهدى) أشار بذلك إلى أن ﴿ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ ﴾ مفعول ﴿ ضَلَّ ﴾.
قوله: ﴿ إِن يَثْقَفُوكُمْ ﴾ الخ، كلام مستأنف مبين لوجه العداوة. قوله: ﴿ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً ﴾ أي يظهروا العداوة لكم. قوله: ﴿ وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ ﴾ عطف على جملة الشرط، والجزاء فقد أخبر عنهم بخبرين: عداوتهم ومودتهم كفر المؤمنين. قوله: ﴿ لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ ﴾ هذا تخطئة لحاطب في رأيه كأنه قال: لا تحملكم قراباتكم وأولادكم الذين بمكة على خيانة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وترك مناصحتهم، ونقل أخبارهم، وموالاة أعدائهم، فإنه لا تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم الذي عصيتم الله لأجلهم. قوله: (من العذاب) متعلق بقوله: ﴿ لَن تَنفَعَكُمْ ﴾.
قوله: ﴿ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ﴾ إما متعلق بما قبله فيوقف عليه ويبتدأ بيفصل بينكم، أو متعلق بما بعده فيوقف على أولادكم ويبتدأ بيوم القيامة. قوله: (بالبناء للمفعول) أي مع التخفيف والتشديد، وقوله: (والفاعل) أي معهما أيضاً، فالقراءات أربع سبيعات. قوله: (وبينهم) أي الأرحام والأولاد. قوله: (فتكون في الجنة) أي فلا ينبغي موالاة الكفار، لأنه لا اجتماع بينكم وبينهم في الآخرة.
قوله: ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ لما بين سبحانه وتعالى حال من جعل الكفار أولياء في أول السورة، ذكر مناقضة ابراهيم وقومه، وأن طريقة التبرؤ من أهل الكفر، وألزم أمة محمد بالاقتداء به في ذلك، وفيه توبيخ لحاطب ومن والى الكفار. قوله: (بكسر الهمزة وضمها) أي فهما قراءتان سبعيتان، وقوله: (في الموضعين) أي وهذا قوله الآتي ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ ومعناها عليهما الاتباع والاقتداء ما قال المفسر. قوله: ﴿ فِيۤ إِبْرَاهِيمَ ﴾ جار ومجرور متعلق بأسوة، ورد بأنه لا يجوز عمل المصدر الموصوف، وأجيب بأنه يتوسع في الظروف ما لا يتوسع في غيرها، ويصح أنه متعلق بحسنة، تعلق الظرف بالعامل، ويصح أنه نعت ثان لأسوة، وإنما خص التأسي بإبراهيم، لأنه صبر على أذى عدو الله النمروذ، ولم يكن معه أحد يعينه عليه، مع تفرده بملك الأرض مشرقاً ومغرباً. قوله: (قولاً وفعلاً) تمييز مبين لجهة الاقتداء، أي اقتدوا به في القول والفعل، فإنه لم يبال بالكفار، ولا بشدتهم وضعفه، قوله: ﴿ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ ﴾ (من المؤمنين) يحتمل أن المراد بالمعية وهو في أرض بابل، وحينئذ لم يكن معه إلا لوط ولد أخيه، وسارة زوجته، أو المراد بعد مجيئه إلى الشام، وحينما كثر المؤمنون به. قوله: ﴿ إِذْ قَالُواْ ﴾ هذا بدل اشتمال من ﴿ إِبْرَاهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ ﴾ والمراد بقومهم النمروذ وجماعته، أي فبارزوهم بالعداوة ولم يبالوا بهم، مع شدة بأسهم وضعف المؤمنين. قوله: ﴿ إِنَّا بُرَءآؤُاْ مِّنْكُمْ ﴾ أي من دينكم وآلهتكم. قوله: ﴿ وَبَدَا ﴾ أي ظهر بيننا وبينكم العداوة على ممر الأزمان، بدليل ذكر الأبد، والعداوة المباينة ظاهراً، والبغضاء المباينة بالقلوب، وفي الحقيقة هما متلازمان. قوله: (بتحقيق الهمزتين) الخ، أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (مستثنى من أسوة حسنة) أي وساغ ذلك، لأن القول من جملة الأسوة، فكأنه قيل لكم فيه أسوة في أفعاله وأقواله، إلا قوله كذا. قوله: (أي فليس لكم التأسي به) أي لأن استغفاره له لرجائه إسلامه، فلما ظهر أنه عدو الله تبرأ منه. قوله: ﴿ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ ﴾ هذه الآية باعتبار معناها الوضعي، تكون من جملة ما يقتدى به فيه، لأن محصلة أنه لا يملك له ثواباً ولا عقاباً، على حد ليس لك من الأمر شيء، وهذا ثابت لإبراهيم وغيره، وليس مراداً هنا، بل المراد معناها الكنائي، وهو أنه لا يملك له غير الاستغفار، فهو غير مقتدى به فيه، وحينئذ فقوله: ﴿ وَمَآ أَمْلِكُ ﴾ معطوف على ﴿ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ﴾ وأشار المفسر لذلك بقوله: (كنى به) الخ. قوله: (فهو مبني عليه) أي معطوف على ﴿ لأَسْتَغْفِرَنَّ ﴾ ومرتبط به ساقه اعتذاراً. قوله: (مستثنى من حيث المراد منه) أي وهو المعنى الكنائي. قوله: (وإ، كان من حيث) الخ، مبالغة على أنه ليس مراداً، وإن كان معناه الوضعي. قوله: (فمن يملك) هذا دليل للمعنى الوضعي الغير المراد. قوله: (واستغفاره) هذا بيان لعذر ابراهيم في استغفاره لأبيه، وذلك أنه لم يستغفر له إلا لرجاء إيمانه، ولما مات على الكفر رجع عن ذلك، كما قال تعالى:﴿ وَمَا كَانَ ٱسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ ﴾[التوبة: ١١٤] الخ. والحاصل أن ابراهيم وعد أباه بالاستغفار في سورة مريم بقوله:﴿ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيۤ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً ﴾[مريم: ٤٧] واستغفر له بالقول في سورة الشعراء في قوله تعالى:﴿ وَٱغْفِرْ لأَبِيۤ ﴾[الشعراء: ٨٦] ثم رجع عن ذلك كما بينه الله في سورة براءة. قوله: (من قول الخليل) الخ، أي الذي يقتدى به فيه، فهو في المعنى مقدم على جملة الاستثناء. قوله: (أي قالوا) أي فهو مقول القول السابق في ﴿ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤُاْ مِّنْكُمْ ﴾ أي قالوا ذلك وقالوا ﴿ رَّبَّنَا ﴾ الخ، ويصح أن يكون أمراً من الله للمؤمنين، تتميماً لما أمرهم به من ترك موالاة الكفار، أي أظهروا لهم العداوة، ولا يهولكم أمرهم، وقالوا: ﴿ رَّبَّنَا ﴾ الخ، ومعنى ﴿ تَوَكَّلْنَا ﴾ فوضنا أمرنا، وقوله: ﴿ وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا ﴾ أي رجعنا بالتوبة عن كل ما تكره منا، وقوله: ﴿ وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ ﴾ المرجع في الآخرة. قوله: (أي لا تظهرهم) أي تجعلهم غالبين علينا، وقوله: (فيظنوا أنهم على الحق) يعني إن ظفروا بنا، قوله: (فيفتنوا) أي يزدادوا كفراً ويدوموا عليه، لأن الاستدراج يوجب زيادة الكفر. قوله: ﴿ وَٱغْفِرْ لَنَا ﴾ أي ما مضى من الذنوب. قوله: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ ﴾ هذه الجملة تأكيد لقوله سابقاً ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ ﴾ الخ، أتى بها للمبالغة في التحريض على الاتباع لإبراهيم وأمته. قوله: (أو يظن الثواب والعقاب) تفسير ثان لمعنى الرجاء والمراد بظن الثواب الخ الإيقان بذلك. قوله: ﴿ وَمَن يَتَوَلَّ ﴾ أي يعرض عن الاقتداء بإبراهيم، وجواب الشرط محذوف تقديره فوباله على نفسه، وقوله: ﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ ﴾ الخ، تعليل للجواب.
قوله: ﴿ عَسَى ٱللَّهُ ﴾ الخ، هذا تسلية للمؤمنين، في عدم موالاة الكفار الذين أمروا به في أول السورة، فشدد المسلمون على أنفسهم في هجر الكفار، فوعد الله المسلمين بإسلام أقاربهم الكفار، فيوالونهم موالاة جائزة مطلوبة، ويجمع الله الشمل بعد التفرق. قوله: ﴿ مِّنْهُم ﴾ أي من الكفار، فهو حال من ﴿ ٱلَّذِينَ ﴾ أي حال كون الذين عاديتموهم من جملة الكفار، وقوله: (طاعة الله) مفعول لأجله، أي حصلت المعاداة لأجل طاعة الله. قوله: ﴿ وَٱللَّهُ قَدِيرٌ ﴾ أي فلا يستبعد عليه ذلك الجعل المذكور. قوله: (وقد فعله) أي بأن أسلم غالب كفار مكة، فصاروا أحباباً وإخواناً. قول: ﴿ وَٱللَّهُ غَفُورٌ ﴾ (لهم) أي للذين عاديتموهم، بأن محا عنهم ما سلف بسبب الإيمان. قوله: ﴿ لاَّ يَنْهَاكُمُ ﴾ نزلت هذه الآية لتخصيص الحكم النازل أول السورة، لأن الآية الأولى عامة في سائر الكفار مطلقاً، ولو كانوا مصالحين، ثم بين هنا، أن من كان من الكفار بينهم وبين المسلمين صلح ومهادنة، تجوز مودتهم ولم يكن النهي شاملاً لهم كخزاعة وبني الحرث، وعلى هذا تكون الآية محكمة، فيجوز الآن للمسلمين مواددة الكفار الذين تحت الذمة والصلح، وقيل: إن المراد بقوله: ﴿ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ ﴾ أي لم يبتدئوكم بالقتال، ولو لم يكن بينكم وبينهم صلح، وهذا كان في أول الأمر بالجهاد، ثم نسخ الأمر بالقتال عموماً بقوله تعالى:﴿ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾[التوبة: ٥].
قوله: ﴿ فِي ٱلدِّينِ ﴾ أي لأجل دينكم. قوله: (بدل اشتمال) أي فالمعنى: لا ينهاكم الله عن أن تبروهم، والبر هو الإحسان. قوله: (تفضوا) إنما فسر ﴿ تُقْسِطُوۤاْ ﴾ بمعنى (تفضوا) ليصح تعديته بإلى. قوله: (أي بالعدل) هذا لا يخص هؤلاء فقط، بل العدل واجب مع كل أحد ولو قاتل، فالأولى تفسيره بالإعطاء، أي تعطوهم قسطاً من أموالكم، فعطف القسط على البر، من عطف الخاص على العام. قوله: (وهذا قبل الأمر بجهادهم) يشير بذلك إلى أن الآية منسوخة وقد علمت ما فيه. قوله: (العادلين) أي على تفسير القسط بالعدل، وعلى تفسير القسط بالإعطاء، فالمراد بالمقسطين المحسنون. قوله: ﴿ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ ﴾ أي وهم أهل مكة. قوله: (بدل اشتمال) أي إنما ينهاكم الله عن أن توالوهم. قوله: ﴿ ٱلظَّالِمُونَ ﴾ فيه مراعاة معنى من بعد مراعاة لفظها.
قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ لما أمر الله المسلمين بهجر الكفار، اقتضى ذلك عدم مساكنتهم والهجرة إلى المسلمين، خوفاً من الموالاة المنهي عنها، وكان التناكح من أقرب أسباب الموالاة بين أحكام الزوجين في هذه الآية، وسبب نزولها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عقد الصلح مع الكفار عام الحديبية على شرط أن من أتى النبي من أهل مكة يرده إليهم وإن كان مسلماً، جاءت سبعية بنت الحرث الأسلمية مهاجرة للنبي، فجاء زوجها صيفي بن الراهب، وقيل المسافر المخزومي، وكان كافراً فقال: يا محمد اردد علي امرأتي، فأنت شرطت ذلك، فأنزل الله هذه الآية، فاستحلفها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلفت، فأعطى زوجها ما أنفق، وتزوجها عمر بن الخطاب. قوله: (بألسنتهن) أي ناطقات بالشهادتين بألسنتهن. قوله: (من الكفار) أي حال كونهم من جملة الكفار، أو متعلق بجاءكم. قوله: (بعد الصلح) متعلق بمهاجرات أو بجاءكم. قوله: (على أن من جاء منهم) أي مؤمناً. قوله: ﴿ فَٱمْتَحِنُوهُنَّ ﴾ (بالحلف) أي حلفوهن هل هن مسلمات حقيقة أو لا؟ وسبب الامتحان، أنه كان من أرادت من الكفار إضرار زوجها قالت: سأهاجر إلى رسول الله، فلذلك أمر بالامتحان. قوله: ﴿ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ﴾ أي بصدقه. قوله: ﴿ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ ﴾ أن لا يحل لكم أن تردوهن إلى الكفار، قال تعالى﴿ وَلَن يَجْعَلَ ٱللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ﴾[النساء: ١٤١].
قوله: ﴿ وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ ﴾ أي ما دفعوا لهن من المهور، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مع زوج سبيعة. قوله: (بشرطه) أي وهو انقضاء عدتها في الإسلام، إن كان مدخولاً بها، والولي والشاهدان وبقية شروط الصحة في المدخول بها وغيرها. قوله: (بالتشديد والتخفيف) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ بِعِصَمِ ٱلْكَوَافِرِ ﴾ جمع عصمة وهي هنا عقد النكاح، والكوافر جمع كافرة، كضوارب جمع ضاربة، وقوله: (زوجاتكم) أي المتأصلات في الكفر اللاتي أسلمتم عنهن، وهذا النعت المقدر هو المعطوف عليه قوله: (واللاحقات) الخ، وصورة المسألة: أن الزوج أسلم عن زوجته الكافرة، فهذا نهي للمؤمنين عن بقائهم على عصم المشركات الباقيات على الكفر، بخلاف إسلامهم عن الكتابيات فلا ينفسخ بكاحهم، فإن النكاح بهن يجوز للمسلم ابتداء، فلا يمنع من البقاء عليهن بعد الإسلام. قوله: (لقطع إسلامكم لها بشروطه) أي شرط القطع، وهو أن لا يجمعهما الإسلام في العدة، فإن أسلم وأسلمت بعده بشهر ونحوه، وأسمت قبله وأسلم بعدها في العدة، والموضوع أنه مدخول بها، أقر عليها في الصورتين. قوله: (أو اللاحقات) معطوف على النعت المقدر بعد (زوجاتكم) وصورتها: مسلمات أصالة تحت أزواج مسلمين، فوقعت منهم الردة والتحقن بالمشركين في ذلك. قوله: (بشرطه) أي وهو دوام الردة إلى وفاء العدة، فإن رجعت للإسلام قبل وفاء العدة، ترجع له من غير عقد، هكذا مذهب الإمام الشافعي في المدخول بها، وأما غيرها فتبين بمجرد الردة، وأما مذهب مالك فلا ترجع له إلا بعقد مطلقاً، سواء رجعت قبل العدة أو بعدها، فكلام المفسر على قاعدة مذهب الإمام الشافعي. قوله: ﴿ وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ ﴾ الخ، قال المفسرون: كان من ذهب من المسلمات مرتداً إلى الكفار المعاهدين، يقال للكفار هاتوا مهرها، ويقال للمسلمين إذا جاء أحد من الكافرات مسلمة مهاجرة، ردوا إلى الكفار مهرها، وكان ذلك نصفاً وعدلاً بين الحالين، ثم نسخ ذلك الأمر، فمن ارتدت لا تقر، ومن جاءتنا منهم مسلمة مهاجرة لا يأخذون لها مهراً. قوله: ﴿ ذَلِكُمْ حُكْمُ ٱللَّهِ ﴾ أي المذكورة في هذه الآية، وقوله: ﴿ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ﴾ استئناف أو حال بتقدير الرابط، وقد جرى على المفسر قوله: ﴿ فَاتَكُمْ ﴾ الخ، هذه الآية أيضاً من تتمة قوله: ﴿ وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ ﴾ فهو بمعناه ومحصله: إنه إن فر شيء أي امرأة أو أكثر إلى الكفار فغنمتم، فأعطوا الذين فرت أزواجهم من الغنيمة قبل قسمها قدر مهرها، فكأنه دين على الكفار، قال ابن عباس: لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين ست نسوة مرتدات، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أواجهن مهور نسائهم من الغنيمة. قوله: (مرتدات) حال من أزواج. قوله: (فغزوتم) فسر العقوبة بالغزو لحصولها به. قوله: ﴿ فَآتُواْ ﴾ بمد الهمزة أي أعطوا، روي أنه لما نزل قوله تعالى: ﴿ وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ ﴾ أدى المؤمنون مهور المؤمنات المهاجرات إلى أزواجهن المشركين، وأبى المشركون أن يؤدوا شيئاً من مهور المرتدات إلى أزواجهن المسلمين، فأنزل الله ﴿ وَإِن فَاتَكُمْ ﴾ الخ. قوله: (ثم ارتفع هذا الحكم) أي نسخ حكمه فصار الآن، إذا ارتدت امرأة ولحقت بالمشركين، لا نأخذ لها مهراً بل ننتظرها، فمتى قدرنا عليها استتبناها، فإن تابت وإلا قتلت، كما أن من فرت من الكفار مسلمة، لا ندفع لها مهراً.
قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُؤْمِنَاتُ ﴾ الخ، أي من أهل المدينة أو مكة أو غيرهن، ولكن الآية نزلت في فتح مكة لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مبايعة الرجال. قول: ﴿ يُبَايِعْنَكَ ﴾ أي يعاهدنك، وسماه مبايعة لأنه مقابلة شيء بشيء، وهو الايمان وتوابعه، في مقابلة الجنة والرضوان، ويبايعن مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة، والكاف مفعول. قوله: ﴿ عَلَىٰ أَن لاَّ يُشْرِكْنَ ﴾ نهاهم في هذه المبايعة عن ستة أشياء، ولم يقابلها بأوامر، لأن النهي عن هذه، يستلزم الأمر بضدها. قوله: ﴿ وَلاَ يَسْرِقْنَ ﴾ روي أنه لما قال النبي لهن ذلك، قالت هند امرأة أبي سفيان: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، فهل علي حرج إذا أخذت ما يكفيني وولدي؟ قال: لا، إلا بالمعروف، فخشيت هند أن تقتصر على ما يعطيها فتضيع، أو تأخذ فتكون ناقصة للبيعة، فلذلك أمرها بالمعروف في الأخذ، ومحل جواز الأخذ بغير إذن، إذا كان غير محجور، وأما إذا كان حجره بقفل ونحوه فيحرم الأخذ، وإن أخذت تعد سارقة وتقطع يدها، فلما قال رسول الله ﴿ وَلاَ يَزْنِينَ ﴾ قالت هند: أو تزن الحرة؟ فلما قال ﴿ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ ﴾ قالت: ربيناهم صغاراً وقتلتموهم كباراً، وعرضت بولدها حنظلة فإنه قتل يوم بدر، فضحك عمر، وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قال ﴿ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَٰنٍ ﴾ قالت: والله إن البهتان لقبيح، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، وكانت هذه البيعة في مكة عند الصفا، فاجتمع له من النسوة أربعمائة وسبع وخمسون امرأة فآمنّ. قوله: (من وأد البنات) أي دفنهن أحياء. قوله: (أي بولد ملقوط) أي فكانت المرأة إذا خافت مفارقة زوجها لعدم الحمل، التقطعت ولداً ونسبته له ليبقيها عنده، فأشار المفسر بقوله: (أي بولد) إلى أن المراد بالبهتان المفترى، وليس المراد الزنا، لتقدمه في النهي صريحاً. قوله: (كترك النياحة) أي فالمراد بالمعروف، وهو ما عرف حسنه في الشرع، وهو اسم جامع لكل خير. قوله: ﴿ فَبَايِعْهُنَّ ﴾ جواب ﴿ إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُؤْمِنَاتُ ﴾ أي التزم لهن الثواب إذا التزمن ذلك. قوله: (بالقول) هذا هو الصحيح، وقيل: إنه صافحهن بحائل لما روي: أنه بايع النساء وبين يديه وأيديهن ثوب، وقالت أم عطية: لما قدم المدينة، جمع نساء الأنصار في بيت، ثم ارسل إلينا عمر بن الخطاب على الباب، فسلم فرددن عليه السلام، فقال: أنا رسول الله إليكن أن لا تشركن بالله شيئاً الآية، فقلن: نعم، فمد يده من خارج البيت، ومددنا أيدينا من داخل البيت ثم قال: اللهم اشهد. قوله: ﴿ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُنَّ ٱللَّهَ ﴾ أي مما سلف منهن. قوله: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ الخ، ختم السورة بمثل ما افتتحها به، وهو النهي عن موالاة الكفار، وهذا من البلاغة، ويقال له: رد العجز على الصدر. قوله: ﴿ غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾ نعت لقوماً، وقوله: ﴿ قَدْ يَئِسُواْ ﴾ نعت ثان. قوله: (هم اليهود) أشار المفسر بذلك إلى سبب نزول الآية، وهو أن ناساً من فقراء المسلمين، كانوا يوصلون اليهود بأخبار المسلمين، ليعطوهم من ثمارهم، فنزلت، وقيل: المراد بالمغضوب عليهم جميع الكفار. قوله: (لعنادهم) علة ليأسهم مع أيقانهم بها، فلا حظ لهم فيها ولا ثواب. قوله: ﴿ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْقُبُورِ ﴾ مشى المفسر على أن قوله: ﴿ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْقُبُورِ ﴾ صفة للكفار، والميؤوس منه محذوف قدره بقوله: (من خير الآخرة) أي أن اليهود يئسوا من الآخرة، كيأس الكفار الذين قبروا من خير الآخرة، وقيل: إن قوله: ﴿ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْقُبُورِ ﴾ هو الميؤوس منه، المعنى أن اليهود أيسوا من الآخرة، كيأسهم من أصحاب القبور، لأنهم ينكرون البعث، وقيل: كما يئس الكفار المقهورون من رجوعهم إلى الدنيا، احتمالات ثلاث. قوله: (إذا تعرض عليهم) أي وهم في القبور. قوله: (لو كانوا آمنوا) أي قبل الموت. قوله: (وما يصيرون إليه) معطوف على (مقاعدهم) أي ويعرض عليهم ما يصيرون إليه من النار.
Icon