تفسير سورة عبس

تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة عبس من كتاب تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه ابن عثيمين . المتوفي سنة 1421 هـ

﴿ عبس وتولى ﴾ هذا العابس والمتولي هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ومعنى ﴿ عبس ﴾ أي كلح في وجهه يعني استنكر الشيء بوجهه. ومعنى ﴿ تولى ﴾ أعرض.
﴿ أن جاءه الأعمى ﴾ الأعمى هو عبد الله بن عمرو ابن أم مكتوم رضي الله عنه، فإنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة وهو في مكة، وكان عنده قوم من عظماء قريش يطمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إسلامهم، ومن المعلوم أن العظماء والأشراف إذا أسلموا كان ذلك سبباً لإسلام من تحتهم وكان طمع النبي صلى الله عليه وسلّم فيهم شديداً فجاء هذا الأعمى يسأل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وذكروا أنه كان يقول : علمني مما علمك الله ويستقرىء النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فكان النبي عليه الصلاة والسلام يعرض عنه وعبس في وجهه رجاءً وطمعاً في إسلام هؤلاء العظماء وكأنه خاف أن هؤلاء العظماء يزدرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا وجه وجهه لهذا الرجل الأعمى وأعرض عن هؤلاء العظماء، فكان النبي عليه الصلاة والسلام في عبوسه وتوليه يلاحظ هذين الأمرين. الأمر الأول : الرجاء في إسلام هؤلاء العظماء. والأمر الثاني : ألا يزدروا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في كونه يلتفت إلى هذا الرجل الأعمى الذي هو محتقر عندهم، ولا شك أن هذا اجتهاد من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وليس احتقاراً لابن أم مكتوم ؛ لأننا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلّم لا يهمه إلا أن تنتشر دعوته الحق بين عباد الله، وأن الناس عنده سواء بل من كان أشد إقبالاً على الإسلام فهو أحب إليه.
﴿ وما يدريك ﴾ أي : أي شيء يريبك أن يتزكى هذا الرجل ويقوي إيمانه. ﴿ لعله ﴾ أي لعل ابن أم مكتوم ﴿ يزكى ﴾ أي يتطهر من الذنوب والأخلاق التي لا تليق بأمثاله، فإذا كان هذا هو المرجو منه فإنه أحق أن يلتفت إليه.
﴿ أو يذكر فتنفعه الذكرى ﴾ يعني وما يدريك لعله يذكر أي يتعظ فتنفعه الموعظة فإنه رضي الله عنه أرجى من هؤلاء أن يتعظ ويتذكر.
﴿ أما من استغنى ﴾ يعني استغنى بماله لكثرته، واستغنى بجاهه لقوته فهذا ﴿ فأنت له تصدى ﴾ أي تتعرض وتطلب إقباله عليك وتقبل عليه.
﴿ أما من استغنى ﴾ يعني استغنى بماله لكثرته، واستغنى بجاهه لقوته فهذا ﴿ فأنت له تصدى ﴾ أي تتعرض وتطلب إقباله عليك وتقبل عليه.
﴿ وما عليك ألا يزكى ﴾ يعني ليس عليك شيء إذا لم يتزكى هذا المستغني ؛ لأنه ليس عليك إلا البلاغ، فبيّن الله سبحانه وتعالى أن ابن أم مكتوم رضي الله عنه أقرب إلى التزكي من هؤلاء العظماء، وأن هؤلاء إذا لم يتزكوا مع إقبال الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم فإنه ليس عليه منهم شيء. ﴿ وما عليك ألا يزكى ﴾ يعني ليس عليك شيء إذا لم يتزكى لأن إثمه عليه وليس عليك إلا البلاغ.
ثم قال تعالى :﴿ وأما من جاءك يسعى. وهو يخشى. فأنت عنه تلهى ﴾ هذا مقابل قوله :﴿ أما من استغنى. فأنت له تصدى ﴾. ﴿ وأما من جاءك يسعى ﴾ أي يستعجل من أجل انتهاز الفرصة إلى حضور مجلس النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ﴿ وهو يخشى ﴾ أي يخاف الله عز وجل بقلبه. ﴿ فأنت عنه تلهى ﴾ أي تتلهى عنه وتتغافل لأنه انشغل برؤساء القوم لعلهم يهتدون. ﴿ كلا ﴾ يعني لا تفعل مثل هذا ولهذا نقول : إن ﴿ كلا ﴾ هنا حرف ردع وزجر أي لا تفعل مثل ما فعلت. ﴿ إنها تذكرة ﴾ ﴿ إنها ﴾ أي الايات القرآنية التي أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ﴿ تذكرة ﴾ تذكر الإنسان بما ينفعه وتحثه عليه، وتذكر له ما يضره وتحذره منه ويتعظ بها القلب.
ثم قال تعالى :﴿ وأما من جاءك يسعى. وهو يخشى. فأنت عنه تلهى ﴾ هذا مقابل قوله :﴿ أما من استغنى. فأنت له تصدى ﴾. ﴿ وأما من جاءك يسعى ﴾ أي يستعجل من أجل انتهاز الفرصة إلى حضور مجلس النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ﴿ وهو يخشى ﴾ أي يخاف الله عز وجل بقلبه. ﴿ فأنت عنه تلهى ﴾ أي تتلهى عنه وتتغافل لأنه انشغل برؤساء القوم لعلهم يهتدون. ﴿ كلا ﴾ يعني لا تفعل مثل هذا ولهذا نقول : إن ﴿ كلا ﴾ هنا حرف ردع وزجر أي لا تفعل مثل ما فعلت. ﴿ إنها تذكرة ﴾ ﴿ إنها ﴾ أي الايات القرآنية التي أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ﴿ تذكرة ﴾ تذكر الإنسان بما ينفعه وتحثه عليه، وتذكر له ما يضره وتحذره منه ويتعظ بها القلب.
ثم قال تعالى :﴿ وأما من جاءك يسعى. وهو يخشى. فأنت عنه تلهى ﴾ هذا مقابل قوله :﴿ أما من استغنى. فأنت له تصدى ﴾. ﴿ وأما من جاءك يسعى ﴾ أي يستعجل من أجل انتهاز الفرصة إلى حضور مجلس النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ﴿ وهو يخشى ﴾ أي يخاف الله عز وجل بقلبه. ﴿ فأنت عنه تلهى ﴾ أي تتلهى عنه وتتغافل لأنه انشغل برؤساء القوم لعلهم يهتدون. ﴿ كلا ﴾ يعني لا تفعل مثل هذا ولهذا نقول : إن ﴿ كلا ﴾ هنا حرف ردع وزجر أي لا تفعل مثل ما فعلت. ﴿ إنها تذكرة ﴾ ﴿ إنها ﴾ أي الايات القرآنية التي أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ﴿ تذكرة ﴾ تذكر الإنسان بما ينفعه وتحثه عليه، وتذكر له ما يضره وتحذره منه ويتعظ بها القلب.
ثم قال تعالى :﴿ وأما من جاءك يسعى. وهو يخشى. فأنت عنه تلهى ﴾ هذا مقابل قوله :﴿ أما من استغنى. فأنت له تصدى ﴾. ﴿ وأما من جاءك يسعى ﴾ أي يستعجل من أجل انتهاز الفرصة إلى حضور مجلس النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ﴿ وهو يخشى ﴾ أي يخاف الله عز وجل بقلبه. ﴿ فأنت عنه تلهى ﴾ أي تتلهى عنه وتتغافل لأنه انشغل برؤساء القوم لعلهم يهتدون. ﴿ كلا ﴾ يعني لا تفعل مثل هذا ولهذا نقول : إن ﴿ كلا ﴾ هنا حرف ردع وزجر أي لا تفعل مثل ما فعلت. ﴿ إنها تذكرة ﴾ ﴿ إنها ﴾ أي الايات القرآنية التي أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ﴿ تذكرة ﴾ تذكر الإنسان بما ينفعه وتحثه عليه، وتذكر له ما يضره وتحذره منه ويتعظ بها القلب.
﴿ فمن شاء ذكره ﴾ أي فمن شاء ذكر ما نزل من الموعظة فاتعظ، ومن شاء لم يتعظ لقول الله تعالى :﴿ وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ﴾ [ الكهف : ٢٩ ]. فالله جعل للإنسان الخيار قدراً بين أن يؤمن ويكفر، أما شرعاً فإنه لا يرضى لعباده الكفر، وليس الإنسان lخير شرعاً بين الكفر والإيمان بل هو مأمور بالإيمان ومفروض عليه الإيمان، لكن من حيث القدر هو مخير وليس كما يزعم بعض الناس مسير مجبر على عمله، بل هذا قول مبتدع ابتدعه الجبرية من الجهمية وغيرهم. ﴿ فمن شاء ذكره ﴾ أي ذكر ما نزل من الوحي فاتعظ به، ومن شاء لم يذكره، والموفق من وفقه الله عز وجل.
﴿ في صحف مكرمة. مرفوعة مطهرة ﴾ أي أن هذا الذكر الذي تضمنته هذه الايات ﴿ في صحف مكرمة. مرفوعة مطهرة ﴾ معظمة عند الله، والصحف جمع صحائف، والصحائف جمع صحيفة وهي ما يكتب فيه القول.
﴿ في صحف مكرمة. مرفوعة مطهرة ﴾ أي أن هذا الذكر الذي تضمنته هذه الايات ﴿ في صحف مكرمة. مرفوعة مطهرة ﴾ معظمة عند الله، والصحف جمع صحائف، والصحائف جمع صحيفة وهي ما يكتب فيه القول.
﴿ بأيدي سفرة ﴾ السفرة الملائكة، وسموا سفرة لأنهم كتبة مأخوذة من السَّفَر أو من السَّفْرِ وهو الكتاب كقوله تعالى :﴿ كمثل الحمار يحمل أسفاراً ﴾ [ الجمعة : ٥ ]. وقيل : السفرة الوسطاء بين الله وبين خلقه، من السفير وهو الواسطة بين الناس، ومنه حديث أبي رافع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوج ميمونة قبل أن يحرم قال :«وكنت السفير بينهما » أي الواسطة. المهم أن السفرة هم الملائكة وسموا سفرة لأنهم كتبة يكتبون، وسموا سفرة لأنهم سفراء بين الله وبين الخلق، فجبريل عليه الصلاة والسلام واسطة بين الله وبين الخلق في النزول بالوحي، والكتبة الذين يكتبون ما يعمل الإنسان أيضاً يكتبونه ويبلغونه إلى الله عز وجل، والله تعالى عالم به حين كتابته وقبل كتابته.
﴿ كرام بررة ﴾ كرام في أخلاقهم.. كرام في خلقتهم لأنهم على أحسن خلقة، وعلى أحسن خُلق، ولهذا وصف الله الملائكة بأنهم كرام كاتبين يعلمون ما تفعلون، وأنهم عليهم الصلاة والسلام لا يستكبرون عن عبادة الله ولا يستحسرون. يسبحون الليل والنهار لا يفترون. وهذه الايات فيها تأديب من الله عز وجل للخلق ألا يكون همهم هًّما شخصيًّا بل يكون همهم هًّما معنويًّا وألا يفضلوا في الدعوة إلى الله شريفاً لشرفه، ولا عظيماً لعظمته، ولا قريباً لقربه، بل يكون الناس عندهم سواء في الدعوة إلى الله الفقير والغني، الكبير والصغير، القريب والبعيد، وفيها أيضاً تلطف الله عز وجل بمخاطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال في أولها :﴿ عبس وتولى. أن جاءه الأعمى ﴾ ثلاث جمل لم يخاطب الله فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنها عتاب فلو وجهت إلى الرسول بالخطاب لكان فيه ما فيه لكن جاءت بالغيبة ﴿ عبس ﴾ فجعل الحكم للغائب كراهية أن يخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الكلمات الغليظة الشديدة، ولأجل ألا يقع بمثل ذلك من يقع من هذه الأمة، والله سبحانه وتعالى وصف كتابه العزيز بأنه بلسان عربي مبين، وهذا من بيانه، وفي الايات أيضاً دليل على جواز لقب الإنسان بوصفه مثل الأعمى والأعرج والأعمش، وقد كان العلماء يفعلون هذا، الأعرج عن أبي هريرة، الأعمش عن ابن مسعود... وهكذا، قال أهل العلم واللقب بالعيب إذا كان المقصود به تعيين الشخص فلا بأس به، وأما إذا كان المقصود به تعيير الشخص فإنه حرام ؛ لأن الأول إذا كان المقصود به تبيين الشخص تدعو الحاجة إليه، والثانية إذا كان المقصود به التعيير فإنه لا يقصد به التبيين وإنما يقصد به الشماتة وقد جاء في الأثر «لا تظهر الشماتة في أخيك فيرحمه الله ويبتليك ».
﴿ قتل الإنسان ﴾ ﴿ قتل ﴾ تأتي في القرآن كثيراً فمن العلماء من يقول : إن معناها لعن، والذي يظهر أن معناها أُهلك ؛ لأن القتل يكون به الهلاك وهو أسلوب تستعمله العرب في تقبيح ما كان عليه صاحبه فيقولون مثلاً : قتل فلان ما أسوأ خلقه، قتل فلان ما أخبثه وما أشبه ذلك. وقوله تعالى :﴿ قتل الإنسان ﴾ قال بعض العلماء : المراد بالإنسان هنا الكافر خاصة، وليس كل إنسان لقوله فيما بعد ﴿ ما أكفره ﴾ ويحتمل أن يكون المراد بالإنسان الجنس، لأن أكثر بني آدم كفار كما ثبت في الحديث الصحيح : أن الله يقول يقوم القيامة :«يا آدم، فيقول : لبيك وسعديك، فيقول له الله عز وجل : أخرج من ذريتك بعثاً إلى النار. فيقول : يا رب، وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف تسع مئة وتسعة وتسعين »، فيكون المراد بالإنسان هنا الجنس ويخرج المؤمن من ذلك بما دلت عليه النصوص الأخرى. ﴿ ما أكفره ﴾ قال بعض العلماء إن ﴿ ما ﴾ هنا استفهامية أي : أي شيء أكفره ؟ ما الذي حمله على الكفر ؟ وقال بعض العلماء : إن هذا من باب التعجب يعني ما أعظم كفره ! وإنما كان كفر الإنسان عظيماً لأن الله أعطاه عقلاً، وأرسل إليه الرسل، وأنزل عليه الكتب وأمده بكل ما يحتاج إلى التصديق، ومع >ذلك كفر فيكون كفره عظيماً. والفرق بين القولين أنه على القول الأول تكون ﴿ ما ﴾ استفهامية أي : ما الذي أكفره ؟ وعلى القول الثاني تكون تعجبية يعني عجباً له كيف كفر مع أن كل شيء متوفر لديه في بيان الحق والهدى ! ! والكفر هنا يشمل كل أنواع الكفر، ومنه إنكار البعث فإن كثيراً من الكفار كذبوا بالبعث، وقالوا : لا يمكن أن يُبعث الناس بعد أن كانت عظامهم رميماً كما قال تعالى :﴿ وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم ﴾ [ يس : ٧٨ ]. ولهذا قال :﴿ من أي شيء خلقه ﴾
﴿ من أي شيء خلقه ﴾ استفهام تقرير لما يأتي بعده في قوله :﴿ من نطفة خلقه ﴾ يعني أنت أيها الإنسان كيف تكفر بالبعث ؟ من أي شيء خلقت ؟ ألم تخلق من العدم لم تكن شيئاً مذكوراً من قبل فوجدت وصرت إنساناً فكيف تكفر بالبعث ؟ ولهذا قال :﴿ من نطفة خلقه ﴾.
﴿ من نطفة خلقه ﴾ والنطفة هي في الأصل الماء القليل، والمراد به هنا ماء الرجل الدافق الذي يخرج من بين الصلب والترائب يلقيه في رحم المرأة فتحمل ﴿ فقدره ﴾ أي جعله مقدراً أطواراً : نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، كما في الحديث الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق فقال :«إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ». فالإنسان مقدر في بطن أمه من الذي يقدره هذا التقدير ؟ من الذي يوصل إليه ما ينمو به من الدم الذي يتصل به بواسطة السرة من دم أمه ؟ إلا الله عز وجل، ولهذا قال :﴿ ثم السبيل يسره ﴾
﴿ ثم السبيل يسره ﴾ السبيل هنا بمعنى الطريق يعني يسر له الطريق ليخرج من بطن أمه إلى عالم المشاهدة، ويسر له أيضاً بعد ذلك ما ذكره تعالى في قوله :﴿ وهديناه النجدين ﴾ [ البلد : ١٠ ]. يسر له ثديي أمه يتغذى بهما، ويسر له بعد ذلك ما فتح له من خزائن الرزق، ويسر له فوق هذا كله وما هو أهم وهو طريق الهدى والفلاح وذلك بما أرسل إليه من الرسالات، وأنزل عليه من الكتب،
ثم بعد هذا ﴿ أماته ﴾ الموت مفارقة الروح للبدن. ﴿ فأقبره ﴾ أي جعله في قبر، أي مدفوناً ستراً عليه وإكراماً واحتراماً ؛ لأن البشر لو كانوا إذا ماتوا كسائر الميتات جثثاً ترمى في الزبال لكان في ذلك إهانة عظيمة للميت ولأهل الميت، ولكن من نعمة الله سبحانه وتعالى أن شرع لعباده هذا الدفن، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى :﴿ فأقبره ﴾ قال : أكرمه بدفنه.
﴿ ثم إذا شاء أنشره ﴾ أي إذا شاء الله عز وجل ﴿ أنشره ﴾ أي بعثه يوم النشور ليجازيه على عمله. وقوله :﴿ ثم إذا شاء أنشره ﴾ يعني أنه لا يعجزه عز وجل أن ينشره لكن لم يأتِ أمر الله بعد ولهذا قال :﴿ كلا لما يقض ما أمره ﴾
﴿ كلا لما يقض ما أمره ﴾ ﴿ لما ﴾ هنا بمعنى ( لم ) لكنها تفارقها في بعض الأشياء، والمعنى أن الله تعالى لم يقضِ ما أمره، أي ما أمر به كوناً وقدراً، أي أن الأمر لم يتم لنشر أو لانشار هذا الميت بل له موعد منتظر، وفي هذا رد على المكذبين بالبعث الذين يقولون لو كان البعث حقًّا لوجدنا آباءنا الان، وهذا القول منهم تحدي مكذوب ؛ لأن الرسل لم تقل لهم إنكم تبعثون الان، ولكنهم قالوا لهم إنكم تبعثون جميعاً بعد أن تموتوا جميعاً.
ثم قال عز وجل مذكراً للإنسان بما أنعم الله عليه ﴿ فلينظر الإنسان إلى طعامه ﴾. أي فلينظر إلى طعامه من أين جاء ؟ ومن جاء به ؟ وهل أحدٌ خلقه ؟ وينبغي للإنسان أن يتذكر عند هذه الاية قول الله تبارك وتعالى :﴿ أفرأيتم ما تحرثون. أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون. لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تفكهون. إنا لمغرمون بل نحن محرومون ﴾ [ الواقعة : ٦٥، ٦٧ ]. من الذي زرع هذا الزرع حتى استوى ويسر الحصول عليه حتى كان طعاماً لنا ؟ هو الله عز وجل، ولهذا قال ﴿ لو نشاء لجعلناه حطاماً ﴾ أي بعد أن نخرجه نحطمه حتى لا تنتفعوا به.
﴿ أنا صببنا الماء صبًّا ﴾ يعني من السحاب
﴿ ثم شققنا الأرض شقًّا ﴾ بعد نزول المطر عليها تتشقق بالنبات.
﴿ فأنبتنا فيها ﴾ أي في الأرض ﴿ حبًّا ﴾ كالبر والرز والذرة والشعير وغير ذلك من الحبوب الكثيرة
﴿ وعنباً ﴾ معروف ﴿ وقضباً ﴾ قيل : إنه القت المعروف
﴿ وزيتوناً ﴾ معروف ﴿ ونخلاً ﴾ معروف
﴿ وحدائق غلباً ﴾ حدائق جمع حديقة، والغلب كثير الأشجار
﴿ وفاكهة ﴾ يعني ما يتفكه به الإنسان من أنواع الفواكه ﴿ وأبًّا ﴾ الأب نبات معروف عند العرب ترعاه الإبل
﴿ متاعاً لكم ولأنعامكم ﴾ يعني أننا فعلنا ذلك متعة لكم، يقوم بها أودكم، وتتمتعون بها أيضاً بالتفكه بهذه النعم.
ثم لما ذكر الله عز وجل الإنسان بحاله منذ خلق من نطفة حتى بقي في الدنيا وعاش، ذكر حاله الاخرة في قوله :
﴿ فإذا جاءت الصاخة ﴾ يعني الصيحة العظيمة التي تصخ الاذان، وهذا هو يوم القيامة
﴿ يوم يفر المرء من أخيه ﴾ من أخيه شقيقه أو لأبيه أو لأمه
﴿ وأمه وأبيه ﴾ الأم والأب المباشر، والأجداد أيضاً، والجدات يفر من هؤلاء كلهم
﴿ وصاحبته ﴾ زوجته ﴿ وبنيه ﴾ وهم أقرب الناس إليه وأحب الناس إليه. ويفر من هؤلاء كلهم. قال أهل العلم : يفر منهم لئلا يطالبوه بما فرط به في حقهم من أدب وغيره، لأن كل واحد في ذلك اليوم لا يحب أبداً أن يكون له أحد يطالبه بشيء
﴿ لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه ﴾ كل إنسان مشتغل بنفسه لا ينظر إلى غيره، ولهذا لما قال النبي عليه الصلاة والسلام :«إنكم تحشرون يوم القيامة حفاة، عراة، غرلاً » قالت عائشة رضي الله عنها :«الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض » ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلّم :«الأمر أعظم من أن ينظر بعضهم إلى بعض »،
ثم قسّم الله الناس في ذلك اليوم إلى قسمين فقال :﴿ وجوه يومئذ مسفرة ﴾ مسفرة من الإسفار وهو الوضوح لأنها وجوه المؤمنين تُسفر عما في قلوبهم من السرور والانشراح
﴿ ضاحكة ﴾ يعني متبسمة، وهذا من كمال سرورهم ﴿ مستبشرة ﴾ أي قد بشرت بالخير لأنها تتلقاهم الملائكة بالبشرى يقولون ﴿ سلام عليكم ﴾
﴿ ووجوه يومئذ ﴾ يعني يوم القيامة ﴿ عليها غبرة ﴾ أي شيء كالغبار ؛ لأنها ذميمة قبيحة
﴿ ترهقها قترة ﴾ أي ظلمة
﴿ أولئك هم الكفرة الفجرة ﴾ الذين جمعوا بين الكفر والفجور، نسأل الله العافية، ونسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن وجوههم مسفرة ضاحكة مستبشرة إنه جواد كريم.
Icon