ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: ﴿في أَدْنَى الأرض﴾ : زعم بعضُهم أنَّ أل عِوَضٌ من الضميرِ، وأنَّ الأصلَ «في أَدْنى أَرْضِهم» وهو قولٌ كوفيٌّ. وهذا على قولِ: إن الهَرَب كان مِنْ جهة بلادِهم. وأمَّا مَنْ يقول: إنه من جهةِ بلادِ العَرَبِ فلا يَتَأَتَّى ذلك. وقرأ العامَّةُ «غُلِبَتْ» مبنياً للمفعول. وعلي بن أبي طالب وأبو سعيد الخُدْري وابن عمر وأهل الشام ببنائِه للفاعلِ.قوله: «غَلَبِهم» على القراءةِ الشهيرةِ يكون المصدرُ مضافاً لمفعولِه. ثم هذا المفعولُ: إمَّا أَنْ يكونَ مرفوعَ المحلِّ على أن المصدرَ المضافَ إليه مأخوذٌ مِنْ مبنيّ للمفعولِ على خلافٍ في ذلك، وإمَّا منصوبَ المحلِّ على أنَّ المصدرَ مِنْ مبني للفاعل، والفاعلُ محذوفٌ تقديره: مِن بعد أَنْ غَلَبَهم عدوُّهم، وهم فارس. وأمَّا على القراءةِ الثانيةِ فهو مضافٌ لفاعلِه.
قوله: ﴿مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ﴾ العامَّةُ على بنائِهما ضمَّاً لقَطْعِهما عن الإِضافة. وأراد بها أي: مِنْ قبل الغَلَبِ ومِنْ بعدِه. أو من قَبْلِ كل أمرٍ ومِنْ بعده. وحكى الفراء كَسْرهما مِنْ غير تنوين. وغَلَّطه النحاسُ، وقال:» إنما يجوز مِنْ قبلٍ ومِنْ بعدٍ/ يعني مكسوراً منوناً «. قلت: وقد قُرِئ بذلك. ووجهُه أنه لم يَنْوِ إضافتَهما فَأَعْرَبهما كقوله:
٣٦٤٢ - فساغَ لي الشَّرابُ وكنتُ قَبْلاً | أَكاد أَغَصُّ بالماءِ القَراحِ |
وقد خَرَّج بعضُهم ما حكاه الفراء على أنه قَدَّر أنَّ المضافَ إليه موجودٌ فتُرِكَ الأولُ بحالِه. وأنشد:
٣٦٤٣ - ونحنُ قَتَلْنا الأُسْدَ أُسْدَ خَفِيَّةٍ | فما شَرِبُوا بَعْداً على لَذَّةٍ خَمْرا |
٣٦٤٤ -................. | بين ذراعَيْ وَجبْهةِ الأَسَدِ |
قوله:» ويومَئذٍ «أي: إذ يغلِبُ الرومُ فارسَ. والناصب ل» يومَ «» يفرحُ «.
قوله: «بِنَصْرِ الله» الظاهرُ تعلُّقُه ب «يَفْرَح». وجَوَّز فيه أَنْ يتعلَّقَ ب «يَنْصُرُ» أبو البقاء. وهذا تفكيكٌ للنَّظْمِ.
قوله: «ما خَلَقَ» «ما» نافيةٌ. وفي هذه الجملةِ وجهان، أحدهما: أنها مستأنفةٌ لا تَعَلُّقَ لها بما قبلَها. والثاني: أنها معلِّقَةٌ للتفكُّرِ، فتكونُ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافضِ. ويَضْعُفُ أَنْ تكونَ استفهاميةً بمعنى النفيِ. وفيها الوجهان المذكوران.
و «بالحقِّ إمَّا سببيَّةٌ، وإمَّا حاليةٌ.
قوله:» بلقاءِ «متعلقٌ ب» لَكافرون «. واللامُ لا تَمْنَعُ مِنْ ذلك لكونِها في حَيِّزِ» إنَّ «.
وجوَّز بعضُهم أَنْ يكونَ خبرُ كان محذوفاً للإِبهامِ، والسُّوْءَى: إمَّا مصدرٌ، وإمَّا مفعولٌ كما تقدَّم أي: اقْتَرَفوا الخطيئةَ السُّوْءَى أي: كان عاقبتُهم الدَّمارَ.
وأمَّا النصبُ فعلى خبر كان. وفي الاسم وجهان، أحدهما: السُّوْءى أي: كانت الفَعْلَةُ السُّوْءَى عاقبةَ المُسيئين، و «أنْ كَذَّبُوا» على ما تقدَّم. والثاني: أن الاسمَ «أنْ كَذَّبُوا» والسُّوْءَى على ما تقدَّم أيضاً.
٣٦٤٥ - يا صاحِ هل تَعْرِفُ رَسْماً مُكَرَّسَاً | قال نعم أعرِفُه وأَبْلَسا |
والرَّوضةُ: الجنَّةُ. قيل: ولا تكونُ روضةً إلاَّ وفيها نبتٌ. وقيل: إلاَّ وفيها ماءٌ. وقيل: ما كانَتْ منخفضةً، والمرتفعةُ يقال لها تُرْعَة. وقيل: لا يُقال لها: رَوْضة/ إلاَّ وهي في مكانٍ غليظ مرتفعٍ. قال الأعشى:
٣٦٤٦ - ما رَوْضَةٌ مِنْ رياض الحَزْنِ مُعْشِبَةٌ | خضراءُ جادَ عليها مُسْبِلٌ هَطِلُ |
قوله: ﴿ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ﴾. الترتيبُ والمُهْملة هنا ظاهران؛ فإنهم إنما يصيرون بَشَراً بعد أطوارٍ كثيرةٍ. «وتَنْتشرون» حالٌ. و «إذا» هي الفجائيةُ. إلاَّ أنَّ الفجائيةَ أكثرُ ما تقع بعد الفاء لأنها تَقْتضي التعقيبَ. ووجهُ وقوعِها مع «ثُمَّ» بالنسبة إلى ما يليقُ بالحالةِ الخاصةِ أي: بعد تلك الأطوارِ التي قَصَّها علينا في موضعٍ آخرَ مِنْ كونِنا نُطْفَةً ثم علقةً ثم مضغةً ثم عَظْماً مجرداً ثم عَظْماً مَكْسُوَّاً لحماً فاجأ البشريَّةَ والانتشارَ.
قوله: «للعالمين» قرأ حفصٌ بكسر اللام جعله جمعَ عالِم ضدَّ الجاهل. ونحوُه ﴿وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون﴾ [العنكبوت: ٤٣] والباقون بفتحها؛ لأنها آياتٌ لجميع الناس، وإن كان بعضُهم يَغْفُلُ عنها. وقد تقدَّم أولَ الفاتحةِ الكلامُ في «العالمين» : هل هو جمعٌ أو اسمُ جمع؟ فعليك باعتبارِه ثَمَّةَ.
٣٦٤٧ - ألا أيُّهذا الزاجرِيْ أَحْضُرُ الوغَى | ................... |
٣٦٤٨ - وما الدَّهْرُ إلاَّ تارَتان فمِنْهما | موتُ.................. |
الثاني: أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ صفةً ل دَعْوة. الثالث: أنه متعلِّق بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه «تَخْرُجون» أي: خَرَجْتُمْ من الأرض. ولا جائزٌ أَنْ يتعلَّق ب «تَخْرُجون» لأنَّ ما بعد «إذا» لا يعملُ فيما قبلها. وللزمخشري هنا عبارةٌ/ جيدة.
الثاني: أنَّ الضميرَ في «عليه» ليس عائداً على الله تعالى، إنما يعودُ على الخَلْقِ أي: والعَوْدُ أهونُ على الخَلْقِ أي أسرعُ؛ لأن البُداءةَ فيها تدريجٌ مِنْ طَوْرٍ إلى طَوْر، إلى أنْ صار إنساناً، وَالإِعادةُ لا تحتاجُ إلى هذه التدريجاتِ فكأنه قيل: وهو أقصرُ عليه وأَيْسَرُ وأقلُّ انتقالاً.
الثالث: أنَّ الضميرَ في «عليه» يعودُ على المخلوق، بمعنى: والإِعادةُ أهونُ على المخلوقِ أي إعادتُه شيئاً بعدما أَنْشأه، هذا في عُرْفِ المخلوقين، فكيف يُنْكِرون ذلك في جانب اللَّهِ تعالى؟
قوله: ﴿وَلَهُ المثل الأعلى﴾ يجوز أَنْ يكونَ مرتبطاً بما قبلَه، وهو قولُه: ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ أي: قد ضَرَبه لكم مَثَلاً فيما يَسْهُل وفيما يَصْعُبُ. وإليه نحا الزجَّاج أو بما بعدَه مِنْ قولِه: ﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ [الروم: ٢٨] وقيل: المَثَلُ: الوصفُ. «وفي السماوات» يجوز أَنْ يتعلَّق بالأَعْلى أي: إنه علا في
قوله: «مِنْ أَنْفُسكم» «مِنْ» لابتداء الغاية في موضع الصفةِ ل مَثَلاً أي: أَخَذَ مثلاً، وانتزعه مِنْ أقربِ شيءٍ منكم هو أنفسكُم.
والثاني: أنَّ الخبرَ «مِمَّا مَلَكَتْ» و «لكم» متعلِّقٌ بما تَعَلَق به الخبرُ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «شركاء» أو بنفس «شركاء» كقولك: «لك في الدنيا مُحِبٌّ» ف «لك» متعلقٌ ب مُحِبّ. و «في الدنيا» هو الخبرُ.
قوله: ﴿فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ﴾ هذه الجملةُ جوابُ الاستفهامِ الذي بمعنى النفي، و «فيه» متعلِّقٌ ب «سَواء».
قوله: «تَخافونهم» فيه وجهان، أحدهما: أنها خبرٌ ثانٍ ل أنتم. تقديرُه:
وقال أبو البقاء: ﴿فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ﴾ الجملةُ في موضع نصبٍ على جوابِ الاستفهامِ أي: «هل لكم فَتَسْتَوُوا» انتهى. وفيه نظرٌ؛ كيف جَعَل جملةً اسمية حالَّةً محلَّ جملةٍ فعلية، ويَحْكمُ على موضع الاسمية بالنصب بإضمارِ ناصبٍ؟ هذا ما لا يجوزُ ولو أنه فَسَّر المعنى وقال: إنَّ الفعلَ لو حَلَّ بعدَ الفاءِ لكان منصوباً بإضمار «أن» لكان صحيحاً. ولا بُدَّ أَنْ يُبَيَّنَ أيضاً أنَّ النصبَ على المعنى الذي قَدَّمْتُه مِنْ نَفْيِ الأشياءِ الثلاثة.
والوجه الثاني: أنَّ «تخافونهم» في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير الفاعل/ في «سَواء» أي: فتساوَوْا خائِفاً بعضُكم بعضاً مشاركتَه له في المال. أي: إذا لم تَرْضَوا أن يشارِكَكم عبيدُكم في المال فكيف تُشرِكون بالله مَنْ هو مصنوعٌ له؟ قاله أبو البقاء.
وقال الرازي معنى حسناً، وهو: «أنَّ بين المَثَلِ والمُمَثَّلِ به مشابهةً ومخالفةً.
فالمشابهةُ معلومةٌ، والمخالفةُ مِنْ وجوه: قوله: «مِنْ أنفسكم» أي: مِنْ نَسْلِكم مع حقارةِ الأنفس ونَقْصِها وعَجْزِها، وقاسَ نفسَه عليكم مع جلالتِها وعظمتِها وقُدْرَتِها. قوله: ﴿مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ أي: عبيدِكم والمِلْكُ طارئ
وقوله:» كَخِيْفَتِكم «أي: خِيْفَةً مثلَ خِيْفتكم. والعامَّةُ على نصب» أنفسَكم «لأنَّ المصدرَ مضافٌ لفاعلِه. وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع على إضافةِ المصدرِ لمفعولِه. واستقبح بعضُهم هذا إذا وُجِد الفاعلُ. وقال بعضُهم: ليس بقبيحٍ بل يجوزُ إضافتُه إلى كلٍ منهما إذا وُجدا. وأنشد:
٣٦٤٩ - أَفْنَى تِلادي وما جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبٍ | قَرْعُ القواريزِ أفواهَ الأباريقِ |
قوله:» كذلك نُفَصِّل «أي: مثلَ ذلك التفصيلِ البيِّنِ نُفَصِّل. وقرأ
قوله: «فِطْرَةَ الله» فيه وجهان، أحدهما: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لمضمونِ الجملة كقوله: ﴿صِبْغَةَ الله﴾ [البقرة: ١٣٨] و ﴿صُنْعَ الله﴾ [النمل: ٨٨]. والثاني: أنه منصوبٌ بإضمارِ فِعْل. قال الزمخشري: «أي: الزموا فطرةَ الله، وإنما أَضْمَرْتُه عَلَى خطابِ الجماعة لقولِه:» مُنِيبيْن إليه «. وهو حالٌ من الضمير في» الزَموا «. وقولُه:» واتَّقوه، وأقيموا، ولا تكونوا «معطوفٌ على هذا المضمر». ثم قال: «أو عليكم فطرةَ». ورَدَّه الشيخُ: «بأنَّ كلمةَ الإِغراءِ لا تُضْمَرُ؛ إذ هي عِوَضٌ عن الفعلِ، فلو حَذَفْتَها لَزِمَ حَذْفُ العِوَضِ والمُعَوَّضِ منه. وهو إحجافٌ». قلت: هذا رأيُ البصريين. وأمَّا الكسائيُّ وأتباعُه فيُجيزون ذلك.
٣٦٥٠ - وكلُّ خليلٍ غيرُ هاضمِ نَفْسِه | ........................ |
٣٦٥١ - جادَتْ عليه كلُّ عينٍ ثَرَّةٍ | فَتَرَكْنَ كلَّ حديقةٍ كالدِّرْهمِ |
٣٦٥٢ - وَلِهَتْ عليه كلُّ مُعْصِفَةٍ | هَوْجاءُ ليس لِلُبِّها زَبْرُ |
قوله: «فَتَمَتَّعُوْا» قرأ العامَّة بالخطاب فيه وفي «تَعْلمون». وأبو العاليةِ بالياء فيهما، والأولُ مبنيٌّ للمفعول. وعنه «فَيَتَمَتَّعوا» بياءٍ قبل التاء. وعن عبد الله «فَلْيَتَمَتعوا» بلامِ الأمر.
قوله: «المُضْعِفُون» أي: أصحابُ الأضعاف. قال الفراء: «نحو مُسْمِن، ومُعْطِش أي: ذي إبِل سمانٍ وإبل عِطاش». وقرأ أُبَيُّ بفتح العين، جعله اسمَ مفعولٍ.
وقوله: «فأولئك هم» قال الزمخشري: «التفاتٌ حسن، كأنه [قال] لملائكتِه: فأولئك الذين يريدون وجهَ اللَّهِ بصدقاتِهم هم المُضْعِفون. والمعنى: هم المُضْعِفُون به؛ لأنه لا بُدَّ مِنْ ضميرٍ يَرْجِعُ إلى ما» انتهى. يعني أنَّ اسم الشرط متى كان غيرَ ظرفٍ وَجَبَ عَوْدُ ضميرٍ من الجواب عليه. وتقدَّم ذلك في البقرة عند قوله: ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ﴾ [البقرة: ٩٧] الآية. ثم قال:
قوله: «مِنْ شركائِكم» خبرٌ مقدمٌ و «مِنْ» للتبعيض. و «مَنْ يَفْعَلُ» هو المبتدأ و «مِنْ ذلكم» متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ مِنْ «شيء» بعده؛ فإنَّه في الأصل صفةٌ له. و «مِنْ» الثالثةُ مزيدةٌ في المفعولِ به؛ لأنه في حَيِّزِ النفي المستفادِ من الاستفهام. والتقدير: ما الذي يَفْعَلُ شيئاً مِنْ ذلكم مِنْ شركائكم.
وقرأ الأعمش «تُشْرِكون» خطاباً.
قوله: «لِيُذِيقَهم» اللامُ للعلةِ متعلقةٌ ب «ظهر». وقيل: بمحذوفٍ أي: عاقبهم بذلك لِيُذِيقَهم. وقيل: اللامُ للصيرورةِ. وقرأ قنبل «لنُذِيْقَهم» بنون العظمة. والباقون بياء الغيبة.
قوله: «ولِيُذيْقَكم» إمَّا عطفٌ على معنى «مُبَشِّرات» ؛ لأنَّ الحالَ والصفةَ يُفْهِمان العلةَ، فكأنَّ التقديرَ: ليبشِّرَ وليذيقَكم، وإمَّا أَن يتعلَّقَ بمحذوفٍ، أو وليذيقَكم أرسلَها، وإمَّا أَنْ تكون الواوُ مزيدةً على رأيٍ، فتتعلَّقَ اللامُ ب «أَنْ يُرْسِلَ».
وقد أبْدى كلٌّ من الشيخَيْن: الزمخشريِّ وابنِ عطية فائدةَ التأكيدِ المذكور. فقال ابن عطية: «أفادَ الإِعلامَ بسرعةِ تَقَلُّب قلوبِ البشر من الإِبلاسِ إلى الاستبشار؛ وذلك أن قولَه ﴿مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ﴾ يحتملُ الفُسْحَةَ في الزمانِ، أي: من قبلِ أَنْ يُنَزِّل بكثيرٍ كالأيَّامِ ونحوِه فجاء» مِنْ قبله «، بمعنى أنَّ ذلك متصلٌ بالمطر فهو تأكيدٌ مفيدٌ».
إلاَّ أنَّ الشيخَ لم يَرْتَضِه منهما فقال: «ما ذكراه من فائدةِ التأكيدِ غيرُ ظاهرٍ، وإنما هو لمجرَّدِ التوكيد ويُفيد رَفْعَ المجازِ فقط». انتهى. ولا أدري عدمُ الظهورِ لماذا؟ وقال قطرب: «وإن كانوا مِنْ قبلِ التنزيل مِنْ قبل المطَر. وقيل: التقديرُ مِنْ قبلِ إنزالِ المطرِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَزْرعوا. ودَلَّ المطرُ على الزرع؛ لأنه يَخْرج بسببِ المطر. ودلَّ على ذلك قولُه» فَرَأَوْه مُصْفَرَّاً «يعني الزرعَ؛ قال الشيخ:» وهذا لا يَسْتقيم؛ لأنَّ ﴿مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ﴾ متعلِّقٌ ب «مُبْلِسِيْن» ولا يمكن مِنْ قَبْل الزَّرْع أَنْ يتعلَّقَ بمُبْلِسين؛ لأنَّ حرفَيْ جرّ لا يتعلَّقان بعاملٍ واحدٍ إلاَّ بوساطةِ حرفِ العطف أو البدلِ، وليس هنا عطفٌ والبدلُ لا يَجوز؛ إذ إنزالُ الغيثِ ليس هو الزرعَ ولا الزرعُ بعضَه. وقد يُتَخَيَّلُ فيه بدلُ الاشتمالِ بتكلُّفٍ: إمَّا لاشتمالِ الإِنزالِ على الزَّرْع، بمعنى: أنَّ الزرعَ يكون ناشِئاً عن الإِنزال، فكأن الإِنزالَ مُشْتملٌ عليه. وهذا على مذهبِ مَنْ يقول: الأولُ مشتملٌ على الثاني «.
وقال المبردُ:» الثاني السحابُ؛ لأنهم لَمَّا رَأَوْا السحابَ كانوا راجين المطرَ «انتهى. يريد مِنْ قبل رؤيةِ السحاب. ويحتاج أيضاً إلى حَرْفِ عطفٍ ليصِحَّ تعلُّقُ الحرفين ب» مُبْلِسين «. وقال الرمَّاني:» من قبلِ الإِرسال «.
وقرأ العامَّةُ «كيف يُحْيي» بياء الغَيْبة أي: أثر الرحمة فيمَنْ قرأ بالإِفراد، ومَنْ قرأ بالجمع فالفعلُ مسندٌ لله تعالى، وهو مُحْتَمَلٌ في الإِفراد أيضاً. والجحدري وأبو حيوة وابن السَّمَيْفع «تُحْيي» بتاء التأنيث. وفيها تخريجان، أظهرهما: أنَّ الفاعلَ عائدٌ على الرحمة. والثاني قاله أبو الفضل: عائدٌ على أثر، وأنَّثَ «أثر» لاكتسابه بالإِضافةِ التأنيثَ، كنظائرَ له تقدَّمَتْ. ورُدَّ عليه: بأن شرطَ ذلك كَوْنُ المضافِ بمعنى المضاف إليه، أو مِنْ سببِه لا أجنبياً، وهذا أجنبيٌّ. و «كيف يُحْيي» مُعَلِّقٌ ل «انظرْ» فهو في محلِّ نصب على/ إسقاطِ الخافضِ. وقال أبو الفتح: «الجملةُ مِنْ» كيف يُحْيي «في موضعِ نصبٍ على الحال حَمْلاً على المعنى». انتهى وكيف تقع جملةُ الطلب حالاً؟
وتقدَّم الكلامُ على نحوِ ﴿فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ﴾ إلى آخره في الأنبياء وفي النمل، وكذلك في قراءَتَيْ «ضعف» وما الفرقُ بينهما في الأنفال؟
والضميرُ في «مِنْ بعدِه» يعودُ على الاصفرارِ المدلولِ عليه بالصفة كقولِه:
٣٦٥٣ - إذا نُهِي السَّفيهُ جَرَى إليه | ....................... |
والعامَّةُ على سكون عَيْن» البعث «. والحسنُ بفتحها. وقُرِئ بكسرِها. فالمكسورُ اسمٌ، والمفتوحُ مصدرٌ.
قوله:» فهذا يومُ «في الفاءِ قولان، أظهرهما: أنها عاطفةٌ هذه الجملةَ على» لَقَدْ لَبِثْتُمْ «. وقال الزمخشري:» هي جوابُ شرطٍ مقدرٍ كقوله:
٣٦٥٤ -....................... | .................. فقد جِئْنا خُراسانا |
قالوا:
خراسانُ أَقْصى ما يُراد بنا | ثم القُفولُ فقد جِئْنا خُراسانا |
قوله: ﴿وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ قال الزمخشري: «مِنْ قولك: اسْتَعْتَبني فلانٌ فَأَعْتَبْتُه أي: استرضاني فَأَرْضَيْتُه، وكذلك إذا كنتَ جانياً عليه. وحقيقةُ أَعْتَبْتَه. أَزَلْتَ عَتْبَه ألا ترى إلى قوله:
٣٦٥٥ - غَضِبَتْ تميمٌ أَنْ يُقتَّل عامرٌ | يومَ النسارِ فَأُعْتِبُوا بالصَّيْلَمِ |
وقال ابن عطية: «ويَسْتَعْتِبون بمعنى يَعْتِبون كما تقول: يَمْلك ويَسْتملك. والبابُ في استفعل طلبُ الشيءِ، وليس هذا منه؛ لأنَّ المعنى كان يَفْسُدُ؛ إذ كان المفهومُ منه: ولا يُطْلَبُ منهم عُتْبى». قلت: وليس فاسداً لِما تقدَّم مِنْ قولِ أبي القاسم.