تفسير سورة الرّوم

الدر المصون
تفسير سورة سورة الروم من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله: ﴿في أَدْنَى الأرض﴾ : زعم بعضُهم أنَّ أل عِوَضٌ من الضميرِ، وأنَّ الأصلَ «في أَدْنى أَرْضِهم» وهو قولٌ كوفيٌّ. وهذا على قولِ: إن الهَرَب كان مِنْ جهة بلادِهم. وأمَّا مَنْ يقول: إنه من جهةِ بلادِ العَرَبِ فلا يَتَأَتَّى ذلك. وقرأ العامَّةُ «غُلِبَتْ» مبنياً للمفعول. وعلي بن أبي طالب وأبو سعيد الخُدْري وابن عمر وأهل الشام ببنائِه للفاعلِ.
قوله: «غَلَبِهم» على القراءةِ الشهيرةِ يكون المصدرُ مضافاً لمفعولِه. ثم هذا المفعولُ: إمَّا أَنْ يكونَ مرفوعَ المحلِّ على أن المصدرَ المضافَ إليه مأخوذٌ مِنْ مبنيّ للمفعولِ على خلافٍ في ذلك، وإمَّا منصوبَ المحلِّ على أنَّ المصدرَ مِنْ مبني للفاعل، والفاعلُ محذوفٌ تقديره: مِن بعد أَنْ غَلَبَهم عدوُّهم، وهم فارس. وأمَّا على القراءةِ الثانيةِ فهو مضافٌ لفاعلِه.
29
قوله: «سَيَغْلِبون» خبرُ المبتدأ. و ﴿مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ﴾ متعلقٌ به. والعامَّةُ - بل نقل بعضُهم الإِجماعَ - على «سَيَغْلِبون» مبنياً للفاعل. فعلى الشهيرةِ واضحٌ أي: مِنْ بعدِ أن غَلَبَتْهُمْ فارسُ سيَغْلِبون فارسَ. وأمَّا على القراءةِ الثانيةِ فأخبرَ أنهم سيَغْلبون ثانياً بعد أن غَلَبوا أولاً. ورُوِي عن ابنِ عمرَ أنه قرأ ببنائه للمفعول. وهذا مخالِف لِما وَرَدَ في سبب الآية وما وَرَدَ في الأحاديث. وقد يُلائم هذا بعضَ ملاءَمَةٍ مَنْ قرأ «غَلَبَتْ» مبنياً للفاعلِ. وقد تقدَّم أن ابن عمرَ ممَّن يقرأُ بذلك. وقد خَرَّج النحاسُ قراءةَ عبدِ الله بن عمرَ على تخريجٍ حَسَنٍ، وهو أن المعنى: وفارسُ مِنْ بعدِ غَلَبِهم للرومِ سيُغْلَبون. إلاَّ أنَّ فيه إضمارَ ما لم يُذْكَرْ، ولا جَرى سببُ ذِكْرِه.
30
قوله: ﴿فِي بِضْعِ﴾ : متعلِّقٌ بما قبلَه. وتقدَّم تفسيرُ البِضْع واشتقاقُه في يوسف. وقال الفراء: «الأصلُ في» غَلَبِهم «: غَلَبَتِهم بتاءِ التأنيثِ فَحُذِفت للإِضافة ك» وإقامَ الصلاةِ «. وغَلَّطه النحاسُ: بأنَّ إقامَ الصلاةِ قد يُقال فيه ذلك لاعتلالِها، وأمَّا هنا فلا ضرورةَ تَدْعو إليه.
30
وقرأ ابنُ السَّمَيْفَع وأبو حيوة» غَلْبِهم «بسكونِ اللام، فَتَحْتملُ أَنْ تكونَ تخفيفاً شاذاً، وأن تكونَ لغةً في المفتوحِ كالظَّعْن والظَّعَن.
قوله: ﴿مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ﴾ العامَّةُ على بنائِهما ضمَّاً لقَطْعِهما عن الإِضافة. وأراد بها أي: مِنْ قبل الغَلَبِ ومِنْ بعدِه. أو من قَبْلِ كل أمرٍ ومِنْ بعده. وحكى الفراء كَسْرهما مِنْ غير تنوين. وغَلَّطه النحاسُ، وقال:»
إنما يجوز مِنْ قبلٍ ومِنْ بعدٍ/ يعني مكسوراً منوناً «. قلت: وقد قُرِئ بذلك. ووجهُه أنه لم يَنْوِ إضافتَهما فَأَعْرَبهما كقوله:
٣٦٤٢ - فساغَ لي الشَّرابُ وكنتُ قَبْلاً أَكاد أَغَصُّ بالماءِ القَراحِ
[وقوله:]
31
وحُكي» مِنْ قبلٍ «بالتنوينِ والجرِّ،» ومِنْ بعدُ «بالبناءِ على الضم.
وقد خَرَّج بعضُهم ما حكاه الفراء على أنه قَدَّر أنَّ المضافَ إليه موجودٌ فتُرِكَ الأولُ بحالِه. وأنشد:
٣٦٤٣ - ونحنُ قَتَلْنا الأُسْدَ أُسْدَ خَفِيَّةٍ فما شَرِبُوا بَعْداً على لَذَّةٍ خَمْرا
٣٦٤٤ -................. بين ذراعَيْ وَجبْهةِ الأَسَدِ
والفرقُ لائحٌ؛ فإنَّ في اللفظ مِثْلَ المحذوفِ، على خلافٍ في تقديرِ البيت أيضاً.
قوله:»
ويومَئذٍ «أي: إذ يغلِبُ الرومُ فارسَ. والناصب ل» يومَ «» يفرحُ «.
32
وقوله: ﴿بِنَصْرِ الله يَنصُرُ﴾ : مِن التجنيس. وتَقَدَّم آخرَ الكهف.
قوله: «بِنَصْرِ الله» الظاهرُ تعلُّقُه ب «يَفْرَح». وجَوَّز فيه أَنْ يتعلَّقَ ب «يَنْصُرُ» أبو البقاء. وهذا تفكيكٌ للنَّظْمِ.
قوله: ﴿وَعْدَ الله﴾ : مصدرٌ مؤكدٌ ناصبُه مضمرٌ أي: وَعَدَهم اللَّهُ ذلك وَعْداً. وقوله ﴿لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ﴾ مقرِّرٌ لمعنى هذا المصدرِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من المصدر، فيكونَ كالمصدرِ الموصوف فهو مبيِّنٌ للنوعِ كأنه قيل: وَعَد اللَّهُ وَعْداً غيرَ مُخْلِفٍ.
قوله: ﴿في أَنفُسِهِمْ﴾ : ظرفٌ للتفكُّر. وليس مفعولاً للتفكُّر، إذ متعلِّقُه [ما] خَلَق السماواتِ والأرضَ.
قوله: «ما خَلَقَ» «ما» نافيةٌ. وفي هذه الجملةِ وجهان، أحدهما: أنها مستأنفةٌ لا تَعَلُّقَ لها بما قبلَها. والثاني: أنها معلِّقَةٌ للتفكُّرِ، فتكونُ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافضِ. ويَضْعُفُ أَنْ تكونَ استفهاميةً بمعنى النفيِ. وفيها الوجهان المذكوران.
و «بالحقِّ إمَّا سببيَّةٌ، وإمَّا حاليةٌ.
قوله:»
بلقاءِ «متعلقٌ ب» لَكافرون «. واللامُ لا تَمْنَعُ مِنْ ذلك لكونِها في حَيِّزِ» إنَّ «.
قوله: ﴿أَكْثَرَ مِمَّا﴾ : نعتُ مصدرٍ محذوف أي: عِمارةً أكثرَ مِنْ عِمارتِهم. وقُرِئ «وآثاروا» بألفٍ بعد الهمزة وهي إشباعٌ لفتحة الهمزة.
قوله: ﴿عَاقِبَةَ الذين﴾ : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالرفع. والباقون بالنصب. فالرفعُ على أنها اسمُ كان، وذُكِّر الفعلُ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ. وفي الخبرِ حينئذٍ وجهان، أحدهما: «السُّوْءَى» أي: الفَعْلَة السُّوْءَى أو الخَصْلَةَ السُّوْءى. والثاني: «أَنْ كَذَّبوا» أي: كان آخرُ أَمْرِهم التكذيبَ. فعلى الأولِ يكونُ في «أَنْ كَذَّبوا» وجهان: أحدُهما: أنه على إسقاطِ الخافض: إمَّا لامِ العلةِ أي: لأَنْ كَذَّبوا، وإمَّا باءِ السببيةِ أي: بأَنْ كَذَّبوا. فلمَّا حُذِفَ الحرفُ جَرَى القولان المشهوران بين الخليلِ وسيبويه في محلِّ «أَنْ». والثاني: أنه بدلٌ من «السُّوْءَى» أي: ثم كان عاقبتُهم التكذيبَ، وعلى الثاني يكونُ «السُّوْءَى» مصدراً ل أساْءُوا، أو يكونُ نعتاً لمفعولٍ محذوفٍ أي: أساْءُوا الفَعْلَةَ السُّوْءَى، والسُّوْءَى تأنيثُ الأَسْوَأ.
وجوَّز بعضُهم أَنْ يكونَ خبرُ كان محذوفاً للإِبهامِ، والسُّوْءَى: إمَّا مصدرٌ، وإمَّا مفعولٌ كما تقدَّم أي: اقْتَرَفوا الخطيئةَ السُّوْءَى أي: كان عاقبتُهم الدَّمارَ.
وأمَّا النصبُ فعلى خبر كان. وفي الاسم وجهان، أحدهما: السُّوْءى أي: كانت الفَعْلَةُ السُّوْءَى عاقبةَ المُسيئين، و «أنْ كَذَّبُوا» على ما تقدَّم. والثاني: أن الاسمَ «أنْ كَذَّبُوا» والسُّوْءَى على ما تقدَّم أيضاً.
قوله: ﴿يُبْلِسُ﴾ : قرأ العامَّةُ ببنائه للفاعلِ، وهو المعروفُ يُقال: أَبْلَسَ الرجلُ أي: انقطعَتْ حُجَّتُه فسكتَ، فهو قاصرٌ
34
لا يتعدَّى. قال العجاج:
٣٦٤٥ - يا صاحِ هل تَعْرِفُ رَسْماً مُكَرَّسَاً قال نعم أعرِفُه وأَبْلَسا
وقرأ السُّلمي «يُبْلَسُ» مبنياً للمفعول وفيه بُعْدٌ؛ لأنَّ أَبْلَسَ لا يتعدَّى. وقد خُرِّجَتْ هذه القراءةُ على أنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ مصدرُ الفعلِ، ثم حُذِفَ المضافُ وأُقيمَ المضافُ إليه مُقامه؛ إذ الأصلُ: يُبْلِس إبلاسَ المجرمين. ويُبْلِس هو الناصبُ ل «يومَ تقومُ».
35
و ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ : مضافٌ لجملةٍ، تقديرُها: يومئذٍ تقومُ. وهذا كأنه تأكيدٌ لفظيٌّ؛ إذ يصيرُ التقدير: يُبْلِس المجرمون يومَ تقومُ الساعةُ، يومَ تقومُ الساعة.
قوله: ﴿يُحْبَرُونَ﴾ : أي: يُسَرُّون. والحَبْرُ والحُبُور: السُّرور. وقيل: هو مِن التحبير وهو التحسين. يُقال: هو حَسَنُ الحِبْر والسِّبر بكسر الحاء والسين وفتحهما. وفي الحديث: «يَخْرج من النارِ رجلٌ ذَهَبَ حِبْرُه وسِبْرُه» فالمفتوح مصدرٌ والمكسورُ اسمٌ.
والرَّوضةُ: الجنَّةُ. قيل: ولا تكونُ روضةً إلاَّ وفيها نبتٌ. وقيل: إلاَّ وفيها ماءٌ. وقيل: ما كانَتْ منخفضةً، والمرتفعةُ يقال لها تُرْعَة. وقيل: لا يُقال لها: رَوْضة/ إلاَّ وهي في مكانٍ غليظ مرتفعٍ. قال الأعشى:
35
٣٦٤٦ - ما رَوْضَةٌ مِنْ رياض الحَزْنِ مُعْشِبَةٌ خضراءُ جادَ عليها مُسْبِلٌ هَطِلُ
وأصل رِياض: رِواض، فقُلِبت الواوُ ياءً على حَدِّ: حَوْض وحِياض.
36
قوله: ﴿حِينَ تُمْسُونَ﴾ : تُمْسُون وتُصْبحون تامَّان أي: تَدْخلون في المساء والصباح، كقولهم: «إذا سَمِعْتَ بسُرى القَيْنِ فاعلَمْ بأنَّه مُصْبِحٌ» أي: مُقيم في الصباح. والعامَّةُ على إضافة الظرف إلى الفعلِ بعده. وقرأ عكرمةُ «حيناً» بالتنوين. والجملةُ بعده صفةٌ له. والعائدُ حينئذٍ محذوفٌ أي: تُمْسُون فيه كقولِه: ﴿واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ﴾ [لقمان: ٣٣]. والناصب لهذا الظرفِ «سُبْحانَ» لأنه نابَ عن عاملِه.
قوله: ﴿وَعَشِيّاً﴾ : عطفٌ على «حينَ»، وما بينهما اعتراضٌ. و «في السماوات» يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بنفس الحمد أي: إنَّ الحمدَ يكون في هذين الظرفين.
وقد تقدم خلافُ القُراء في تخفيفِ «الميت» وتثقيلِه وكذا قوله: «تُخْرَجون» في سورة الأعراف. و «كذلك» نعتُ مصدرٍ محذوفٍ أي: ومثلَ ذلك الإِخراجِ العجيبِ تُخْرَجون.
قوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ﴾ : مبتدأٌ وخبر أي: ومن جملةِ علامات توحيدِه وأنه يَبْعَثكُم خَلْقُكم واختراعُكم. و «مِنْ» لابتداءِ الغاية.
قوله: ﴿ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ﴾. الترتيبُ والمُهْملة هنا ظاهران؛ فإنهم إنما يصيرون بَشَراً بعد أطوارٍ كثيرةٍ. «وتَنْتشرون» حالٌ. و «إذا» هي الفجائيةُ. إلاَّ أنَّ الفجائيةَ أكثرُ ما تقع بعد الفاء لأنها تَقْتضي التعقيبَ. ووجهُ وقوعِها مع «ثُمَّ» بالنسبة إلى ما يليقُ بالحالةِ الخاصةِ أي: بعد تلك الأطوارِ التي قَصَّها علينا في موضعٍ آخرَ مِنْ كونِنا نُطْفَةً ثم علقةً ثم مضغةً ثم عَظْماً مجرداً ثم عَظْماً مَكْسُوَّاً لحماً فاجأ البشريَّةَ والانتشارَ.
قوله: ﴿واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ﴾ : أي: لغاتِكم من عَرَبٍ وعَجَمٍ، مع تنوُّعِ كلٍ من الجيلين إلى أنواعٍ شتى لا سيما العجمُ، فإن لغاتِهم مختلفةٌ، وليس المرادُ بالألسنةِ الجوارحَ.
قوله: «للعالمين» قرأ حفصٌ بكسر اللام جعله جمعَ عالِم ضدَّ الجاهل. ونحوُه ﴿وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون﴾ [العنكبوت: ٤٣] والباقون بفتحها؛ لأنها آياتٌ لجميع الناس، وإن كان بعضُهم يَغْفُلُ عنها. وقد تقدَّم أولَ الفاتحةِ الكلامُ في «العالمين» : هل هو جمعٌ أو اسمُ جمع؟ فعليك باعتبارِه ثَمَّةَ.
قوله: ﴿مَنَامُكُم بالليل والنهار﴾ : قيل: في الآية تقديمٌ وتأخيرٌ ليكونَ كلُّ واحدٍ مع ما يلائمه. والتقدير: ومِنْ آياتِه منامُكم بالليل
37
وابتغاؤكم مِنْ فضلِه بالنهارِ، فحُذِف حرفُ الجرِّ لاتصالِه بالليل وعَطْفِه عليه؛ لأنَّ حرفَ العطفِ قد يقومُ مَقامَ الجارِّ. والأحسنُ أَنْ يُجْعَلَ على حالِه، والنومُ بالنهار ممَّا كانَتِ العربُ تَعُدُّه نعمةً من الله، ولا سيما في أوقاتِ القَيْلولة في البلاد الحارَّة.
38
قوله: ﴿يُرِيكُمُ البرق﴾ : فيه أوجهٌ، أحدُها: - وهو الظاهرُ الموافقُ لإِخوانِه - أَنْ يكونَ جملةً من مبتدأ أو خبرٍ، إلاَّ أنه حُذِفَ الحرفُ المصدريُّ، ولمَّا حُذِفَ بَطَلَ عملُه. والأصل: ومِنْ آياتِه أَنْ يُرِيَكم كقوله:
٣٦٤٧ - ألا أيُّهذا الزاجرِيْ أَحْضُرُ الوغَى ...................
الثاني: أنَّ «مِنْ آياتِه» متعلِّقٌ ب «يُرِيكم» أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من البرق. والتقديرُ: ويُرِيْكم البرقَ مِنْ آياته، فيكون قد عَطَفَ جملةً فعليةً على جملةٍ اسمية. الثالث: أنَّ «يُرِيْكُم» صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ أي: ومِنْ آياتِه آيةٌ يُريكم بها، أو فيها البرقُ فحُذِفَ الموصوف والعائدُ عليه. ومثلُه:
٣٦٤٨ - وما الدَّهْرُ إلاَّ تارَتان فمِنْهما موتُ..................
أي: فمنهما تارةٌ أموتُ فيها. الرابع: أنَّ التقديرَ: ومن آياتِه سحابٌ
38
أو شيءٌ يُريكم. ف «يُريكم» صفةٌ لذلك المقدرِ، وفاعلُ «يُريكم» ضميرٌ يعود عليه بخلافِ الوجهِ قبله؛ فإنَّ الفاعلَ ضميرُ الباري تعالى.
39
قوله: ﴿مِّنَ الأرض﴾ : فيه أوجهٌ، أحدها: أنه متعلِّقٌ ب «دَعاكم» وهذا أظهرُ.
الثاني: أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ صفةً ل دَعْوة. الثالث: أنه متعلِّق بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه «تَخْرُجون» أي: خَرَجْتُمْ من الأرض. ولا جائزٌ أَنْ يتعلَّق ب «تَخْرُجون» لأنَّ ما بعد «إذا» لا يعملُ فيما قبلها. وللزمخشري هنا عبارةٌ/ جيدة.
قوله: ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ : في «أَهْوَن» قولان، أحدهما: أنها للتفضيل على بابِها. وعلى هذا يُقال: كيف يُتَصَوَّرُ التفضيلُ، والإِعادةُ والبُداءة بالنسبةِ إلى اللَّهِ تعالى على حدٍّ سواء؟ في ذلك أجوبة، أحدها: أنَّ ذلك بالنسبةِ إلى اعتقاد البشرِ باعتبارِ المشاهَدَة: مِنْ أنَّ إعادَة الشيءِ أهونُ من اختراعِه لاحتياجِ الابتداءِ إلى إعمالِ فكر غالباً، وإن كان هذا منتفياً عن الباري سبحانَه وتعالى فخوطبوا بحسَبِ ما أَلِفوه.
الثاني: أنَّ الضميرَ في «عليه» ليس عائداً على الله تعالى، إنما يعودُ على الخَلْقِ أي: والعَوْدُ أهونُ على الخَلْقِ أي أسرعُ؛ لأن البُداءةَ فيها تدريجٌ مِنْ طَوْرٍ إلى طَوْر، إلى أنْ صار إنساناً، وَالإِعادةُ لا تحتاجُ إلى هذه التدريجاتِ فكأنه قيل: وهو أقصرُ عليه وأَيْسَرُ وأقلُّ انتقالاً.
الثالث: أنَّ الضميرَ في «عليه» يعودُ على المخلوق، بمعنى: والإِعادةُ أهونُ على المخلوقِ أي إعادتُه شيئاً بعدما أَنْشأه، هذا في عُرْفِ المخلوقين، فكيف يُنْكِرون ذلك في جانب اللَّهِ تعالى؟
39
والثاني: أنَّ «أهونُ» ليسَتْ للتفضيل، بل هي صفةٌ بمعنى هَيِّن، كقولهم: اللَّهُ أكبرُ [أي] : الكبير. والظاهرُ عَوْدُ الضمير في «عليه» على الباري تعالى ليُوافِقَ الضميرَ في قوله: ﴿وَلَهُ المثل الأعلى﴾. قال الزمخشري: «فإن قلتَ: لِمَ أُخِّرَتِ الصلةُ في قوله ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ وقُدِّمَتْ في قولِه ﴿هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ ؟ قلت: هنالك قُصِدَ الاختصاصُ، وهو مَحَزُّه فقيلِ: هو عليَّ هيِّنٌ وإن كان مُسْتَصعباً عندك أن يُوْلَدَ بين هِمٍّ وعاقِر، وأمَّا هنا فلا معنى للاختصاص. كيف والأمرُ مبنيٌّ على ما يعقلون من أنَّ الإِعادةَ أسهلُ من الابتداء؟ فلو قُدِّمَت الصلة لَتَغيَّر المعنى». قال الشيخ: «ومبنى كلامِه على أنَّ التقديمَ يُفيد الاختصاصَ وقد تكلَّمْنا معه ولم نُسَلِّمه». قلت: الصحيحُ أنه يُفيده، وقد تقدَّم جميعُ ذلك.
قوله: ﴿وَلَهُ المثل الأعلى﴾ يجوز أَنْ يكونَ مرتبطاً بما قبلَه، وهو قولُه: ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ أي: قد ضَرَبه لكم مَثَلاً فيما يَسْهُل وفيما يَصْعُبُ. وإليه نحا الزجَّاج أو بما بعدَه مِنْ قولِه: ﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ﴾ [الروم: ٢٨] وقيل: المَثَلُ: الوصفُ. «وفي السماوات» يجوز أَنْ يتعلَّق بالأَعْلى أي: إنه علا في
40
هاتين الجهتين، ويجوز أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِن الأعلى، أو مِن المَثَل، أو مِن الضمير في «الأَعْلى» فإنه يعودُ على المَثَل.
قوله: «مِنْ أَنْفُسكم» «مِنْ» لابتداء الغاية في موضع الصفةِ ل مَثَلاً أي: أَخَذَ مثلاً، وانتزعه مِنْ أقربِ شيءٍ منكم هو أنفسكُم.
41
قوله: ﴿هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ﴾ :«مِنْ شركاء» مبتدأٌ، و «مِنْ» مزيدةٌ فيه لوجودِ شرطَيْ الزيادة. وفي خبره وجهان، أحدهما: الجارُّ الأولُ وهو «لكم» و ﴿مِّن مَّا مَلَكَتْ﴾ : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «شركاءَ» لأنه في الأصل نعتُ نكرةٍ، قُدِّم عليها. والعاملُ فيه العاملُ في هذا الجارِّ الواقع خبراً. والخبرُ مقدرٌ بعد المبتدأ، و ﴿فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ متعلِّقٌ بشركاء. [وما في «ممَّا» بمعنى النوع] تقديرُ ذلك كلِّه: هل شركاءُ فيما رَزَقْناكم كائنون مِن النوع الذي مَلَكَتْه أَيْمانُكم مستقِرُّون لكم. فكائنون هو الوصفُ المتعلِّقُ به «ممَّا مَلَكَتْ» ولَمَّا تقدَّم صار حالاً، و «مستقرُّون» هو الخبرُ الذي تعلَّق به «لكم».
والثاني: أنَّ الخبرَ «مِمَّا مَلَكَتْ» و «لكم» متعلِّقٌ بما تَعَلَق به الخبرُ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «شركاء» أو بنفس «شركاء» كقولك: «لك في الدنيا مُحِبٌّ» ف «لك» متعلقٌ ب مُحِبّ. و «في الدنيا» هو الخبرُ.
قوله: ﴿فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ﴾ هذه الجملةُ جوابُ الاستفهامِ الذي بمعنى النفي، و «فيه» متعلِّقٌ ب «سَواء».
قوله: «تَخافونهم» فيه وجهان، أحدهما: أنها خبرٌ ثانٍ ل أنتم. تقديرُه:
41
فأنتم مُسْتَوُوْن معهم فيما رَزَقْناكم، خائفوهم كخَوْفِ بعضِكم بعضاً أيها السادة. والمرادُ نَفْيُ الأشياء الثلاثة أعني الشِّرْكةَ والاستواءَ مع العبيد وخوفَهم إياهم. وليس المرادُ ثبوتَ الشركة ونَفْيَ الاستواءِ والخوفِ، كما هو أحدُ الوجهين في قولك: «ما تأتينا فتحدِّثَنا» بمعنى: ما تأتينا مُحدِّثاً بل تأتينا ولا تحدثنا، بل المرادُ نفيُ الجميع كما تقدَّم.
وقال أبو البقاء: ﴿فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ﴾ الجملةُ في موضع نصبٍ على جوابِ الاستفهامِ أي: «هل لكم فَتَسْتَوُوا» انتهى. وفيه نظرٌ؛ كيف جَعَل جملةً اسمية حالَّةً محلَّ جملةٍ فعلية، ويَحْكمُ على موضع الاسمية بالنصب بإضمارِ ناصبٍ؟ هذا ما لا يجوزُ ولو أنه فَسَّر المعنى وقال: إنَّ الفعلَ لو حَلَّ بعدَ الفاءِ لكان منصوباً بإضمار «أن» لكان صحيحاً. ولا بُدَّ أَنْ يُبَيَّنَ أيضاً أنَّ النصبَ على المعنى الذي قَدَّمْتُه مِنْ نَفْيِ الأشياءِ الثلاثة.
والوجه الثاني: أنَّ «تخافونهم» في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير الفاعل/ في «سَواء» أي: فتساوَوْا خائِفاً بعضُكم بعضاً مشاركتَه له في المال. أي: إذا لم تَرْضَوا أن يشارِكَكم عبيدُكم في المال فكيف تُشرِكون بالله مَنْ هو مصنوعٌ له؟ قاله أبو البقاء.
وقال الرازي معنى حسناً، وهو: «أنَّ بين المَثَلِ والمُمَثَّلِ به مشابهةً ومخالفةً.
فالمشابهةُ معلومةٌ، والمخالفةُ مِنْ وجوه: قوله: «مِنْ أنفسكم»
أي: مِنْ نَسْلِكم مع حقارةِ الأنفس ونَقْصِها وعَجْزِها، وقاسَ نفسَه عليكم مع جلالتِها وعظمتِها وقُدْرَتِها. قوله: ﴿مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ أي: عبيدِكم والمِلْكُ طارئ
42
قابلٌ للنقلِ بالبيع وللزوالِ بالعِتْقِ، ومملوكُه تعالى لا خروجَ له عن المِلْكِ، فإذا لم يَجُزْ أَنْ يُشْرِكَكم مملوكُكُم، وهو مِثْلُكم إذا تحرَّرَ مِنْ جميعِ الوجوهِ، ومثلُكم في الآدميَّةِ حالةَ الرِّق فكيف يُشْرَكُ باللَّهِ تعالى مملوكُه مِنْ جميع الوجوهِ، المباينُ له بالكلية؟ وقوله: «فيما رَزَقْنَاكم» يعني أنه ليس لكم في الحقيقة، إنما هو لله تعالى ومَنْ رَزَقه حقيقةً. فإذا لم يَجُزْ أَنْ يَشْرَكَكم فيما هو لكم، من حيث الاسمُ، فكيف يكون له تعالى شريكٌ فيما له من جهة الحقيقة؟ «انتهى وإنما ذكرْتُ هذا المعنى مَبْسوطاً لأنَّه مبيِّنٌ لِما ذكرته مِنْ وجوهِ الإِعراب.
وقوله:»
كَخِيْفَتِكم «أي: خِيْفَةً مثلَ خِيْفتكم. والعامَّةُ على نصب» أنفسَكم «لأنَّ المصدرَ مضافٌ لفاعلِه. وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع على إضافةِ المصدرِ لمفعولِه. واستقبح بعضُهم هذا إذا وُجِد الفاعلُ. وقال بعضُهم: ليس بقبيحٍ بل يجوزُ إضافتُه إلى كلٍ منهما إذا وُجدا. وأنشد:
٣٦٤٩ - أَفْنَى تِلادي وما جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبٍ قَرْعُ القواريزِ أفواهَ الأباريقِ
بنصب»
الأفواه «ورَفْعِها.
قوله:»
كذلك نُفَصِّل «أي: مثلَ ذلك التفصيلِ البيِّنِ نُفَصِّل. وقرأ
43
أبو عمرو في رواية» يُفَصِّلُ «بياء الغيبة رَدًّا على قوله:» ضَرَبَ لكم «. والباقون بالتكلم رَدًّا على قوله:» رَزَقْناكم «.
44
قوله: ﴿حَنِيفاً﴾ : حالٌ مِنْ فاعل «أَقِمْ» أو مِنْ مفعولِه أو مِن «الدِّين».
قوله: «فِطْرَةَ الله» فيه وجهان، أحدهما: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لمضمونِ الجملة كقوله: ﴿صِبْغَةَ الله﴾ [البقرة: ١٣٨] و ﴿صُنْعَ الله﴾ [النمل: ٨٨]. والثاني: أنه منصوبٌ بإضمارِ فِعْل. قال الزمخشري: «أي: الزموا فطرةَ الله، وإنما أَضْمَرْتُه عَلَى خطابِ الجماعة لقولِه:» مُنِيبيْن إليه «. وهو حالٌ من الضمير في» الزَموا «. وقولُه:» واتَّقوه، وأقيموا، ولا تكونوا «معطوفٌ على هذا المضمر». ثم قال: «أو عليكم فطرةَ». ورَدَّه الشيخُ: «بأنَّ كلمةَ الإِغراءِ لا تُضْمَرُ؛ إذ هي عِوَضٌ عن الفعلِ، فلو حَذَفْتَها لَزِمَ حَذْفُ العِوَضِ والمُعَوَّضِ منه. وهو إحجافٌ». قلت: هذا رأيُ البصريين. وأمَّا الكسائيُّ وأتباعُه فيُجيزون ذلك.
قوله: ﴿مُنِيبِينَ﴾ : حالٌ مِنْ فاعل «الزموا» المضمرِ كما تقدَّم، أو مِنْ فاعل «أَقِمْ» على المعنى؛ لأنَّه ليس يُرادُ به واحدٌ بعينِه، إنما المرادُ الجميعُ. وقيل: حالٌ من الناس إذا أُريد بهم المؤمنون. وقال الزجَّاج: «بعد قوله: وَجْهَكَ» معطوفٌ محذوف تقديره: فأقمْ وجهَك وأمتك. فالحالُ من الجميع. وجاز حَذْفُ المعطوفِ لدلالةِ «مُنيبين» عليه كما جاز حَذْفُه
44
في قوله: ﴿ياأيها النبي﴾ [الطلاق: ١] أي: والناسُ لدلالة ﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ﴾ عليه. كذا زعم الزجَّاج في ﴿ياأيها النبي﴾. وقيل: على خبرِ كان أي: كونوا مُنِيبين؛ لدلالة قوله: «ولا تكونوا».
45
قوله: ﴿فَرِحُونَ﴾ : الظاهر أنَّه خبرُ «كلُّ حِزْب» وجَوَّزَ الزمخشريُّ أَنْ يرتفعَ صفةً ل «كل» قال: «ويجوز أن يكونَ» من الذين «منقطعاً مَمَّا قبله. ومعناه: من المفارقين دينَهم كلُّ حزب فَرِحين بما لديهم، ولكنه رَفَع فرحين وصفاً ل» كل «كقولِه:
٣٦٥٠ - وكلُّ خليلٍ غيرُ هاضمِ نَفْسِه ........................
قال الشيخ:»
قَدَّر أولاً «فرحين» مجروراً صفةً ل حِزْب ثم قال: ولكنه رُفِع على الوصف ل «كل» لأنك إذا قلتَ: «مِنْ قومِك كلُّ رجلٍ صالح» جاز في «صالح» الخفضُ نعتاً لرجل وهو الأكثر، كقوله:
٣٦٥١ - جادَتْ عليه كلُّ عينٍ ثَرَّةٍ فَتَرَكْنَ كلَّ حديقةٍ كالدِّرْهمِ
وجاز الرفعُ نعتاً ل «كل» كقوله:
45
٣٦٥٢ - وَلِهَتْ عليه كلُّ مُعْصِفَةٍ هَوْجاءُ ليس لِلُبِّها زَبْرُ
برفع «هوجاء» صفةً ل «كل». انتهى. وهو تقريرٌ حسنٌ.
46
قوله: ﴿إِذَا فَرِيقٌ﴾ : هذه «إذا» الفجائيةُ وقعَتْ جوابَ الشرطِ لأنها كالفاء في أنها للتعقيبِ، ولا تقع أولَ/ كلامٍ، وقد تجامِعُها الفاءُ زائدةً.
قوله: ﴿لِيَكْفُرُواْ﴾ : يجوز أن تكونَ لامَ كي، وأَنْ تكونَ لامَ الأمرِ، ومعناه التهديدُ نحو: ﴿اعملوا مَا شِئْتُمْ﴾ [فصلت: ٤٠].
قوله: «فَتَمَتَّعُوْا» قرأ العامَّة بالخطاب فيه وفي «تَعْلمون». وأبو العاليةِ بالياء فيهما، والأولُ مبنيٌّ للمفعول. وعنه «فَيَتَمَتَّعوا» بياءٍ قبل التاء. وعن عبد الله «فَلْيَتَمَتعوا» بلامِ الأمر.
قوله: ﴿سُلْطَاناً﴾ : أي: بُرْهاناً وحُجَّة. فإنْ جَعَلْناه حقيقةً كان «يتكلم» مجازاً، وإنْ جَعَلْناه حقيقةً كان «يتكلم» مجازاً، وإنْ جَعَلْناه على حذف مضاف أي: ذا سلطان كان «يتكلَّم» حقيقةً. وقال أبو البقاء هنا: «وقيل: هو جمعُ سَلِيْط ك رَغِيف ورُغْفان» انتهى. وهذا لا يجوزُ لأنه كان ينبغي أَنْ يُقال: فهم يتكلمون. و «فهو يتكلمُّ» جوابُ الاستفهام الذي تضمَّنَتْه «أم» المنقطعةُ.
قوله: ﴿لِّيَرْبُوَ﴾ : العامَّةُ على الياءِ مِنْ تحتُ مفتوحةً، أسند الفعلَ لضمير الرِّبا أي: ليزدادَ. ونافع بتاءٍ مِنْ فوقُ مضمومةً خطاباً للجماعة. فالواوُ على الأولِ لامُ كلمة، وعلى الثاني كلمةُ ضميرٍ لغائبين. وقد تقدَّمتْ قراءتا «آتيتم» بالمدِّ والقصرِ في البقرة.
قوله: «المُضْعِفُون» أي: أصحابُ الأضعاف. قال الفراء: «نحو مُسْمِن، ومُعْطِش أي: ذي إبِل سمانٍ وإبل عِطاش». وقرأ أُبَيُّ بفتح العين، جعله اسمَ مفعولٍ.
وقوله: «فأولئك هم» قال الزمخشري: «التفاتٌ حسن، كأنه [قال] لملائكتِه: فأولئك الذين يريدون وجهَ اللَّهِ بصدقاتِهم هم المُضْعِفون. والمعنى: هم المُضْعِفُون به؛ لأنه لا بُدَّ مِنْ ضميرٍ يَرْجِعُ إلى ما» انتهى. يعني أنَّ اسم الشرط متى كان غيرَ ظرفٍ وَجَبَ عَوْدُ ضميرٍ من الجواب عليه. وتقدَّم ذلك في البقرة عند قوله: ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ﴾ [البقرة: ٩٧] الآية. ثم قال:
47
ووجهٌ آخرُ: وهو أَنْ يكونَ تقديرُه: فَمُؤْتُوْه فأولئك هم المُضْعَفُون. والحَذْفُ لِما في الكلامِ مِن الدليلِ عليه. وهذا أسهلُ مَأْخَذاً، والأولُ أمْلأُ بالفائدة «.
48
قوله: ﴿الله الذي خَلَقَكُمْ﴾ : يجوز في خبر الجلالة وجهان، أظهرهما: أنه الموصولُ بعدها. الثاني: أنه الجملةُ مِنْ قولِه ﴿هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ﴾ والموصولُ صفةٌ للجلالة. وقَدَّر الزمخشري الرابطَ بين المبتدأ والجملةِ الواقعةِ خبراً فقال: «وقوله:» مِنْ ذلكم «هو الذي رَبَط الجملةَ بالمبتدأ؛ لأنَّ معناه مِنْ أفعاله». قال الشيخ: «والذي ذكره النحويون أنَّ اسمَ الإِشارةِ يكون رابطاً إذا أُشيرَ به إلى المبتدأ، وأمَّا» ذلك «هنا فليس إشارةً إلى المبتدأ لكنه شبيهٌ بما أجازه الفراءُ مِن الربطِ بالمعنى، وخالفه الناسُ، وذلك في قوله: ﴿والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ﴾ [البقرة: ٢٣٤] قال:» التقدير: يتربَّصُ أزواجُهم «. فقدر الرَّبْط بمضافٍ إلى ضميرِ الذين فحصل به الربطُ، كذلك قدَّر الزمخشريُّ» من ذلكم «:» مِنْ أفعالِه «بمضافٍ إلى الضميرِ العائد إلى المبتدأ».
قوله: «مِنْ شركائِكم» خبرٌ مقدمٌ و «مِنْ» للتبعيض. و «مَنْ يَفْعَلُ» هو المبتدأ و «مِنْ ذلكم» متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ مِنْ «شيء» بعده؛ فإنَّه في الأصل صفةٌ له. و «مِنْ» الثالثةُ مزيدةٌ في المفعولِ به؛ لأنه في حَيِّزِ النفي المستفادِ من الاستفهام. والتقدير: ما الذي يَفْعَلُ شيئاً مِنْ ذلكم مِنْ شركائكم.
48
وقال الزمخشري: «ومِنْ الأولى والثانية كلُّ واحدةٍ مستقلةٌ بتأكيدٍ لتعجيز شركائِهم وتجهيل عَبَدَتهم». قال الشيخ: «ولا أَدْري ما أراد بهذا الكلام؟»
وقرأ الأعمش «تُشْرِكون» خطاباً.
49
قوله: ﴿بِمَا كَسَبَتْ﴾ : أي بسببِ كَسْبهم. والباءُ متعلقةٌ ب «ظَهَر»، أو بنفس الفساد، وفيه بُعْدٌ.
قوله: «لِيُذِيقَهم» اللامُ للعلةِ متعلقةٌ ب «ظهر». وقيل: بمحذوفٍ أي: عاقبهم بذلك لِيُذِيقَهم. وقيل: اللامُ للصيرورةِ. وقرأ قنبل «لنُذِيْقَهم» بنون العظمة. والباقون بياء الغيبة.
قوله: ﴿لاَّ مَرَدَّ لَهُ﴾ : المَرَدُّ مصدر رَدَّ. و «مِن الله» يجوز أن يتعلَّقَ ب يأتي أو بمحذوفٍ يدلُّ عليه المصدر أي: لا يَرُدُّهُ من الله أحدٌ. ولا يجوز أن يعملَ فيه «مَرَدّ» لأنَّه كان ينبغي أَنْ يُنَوَّنَ؛ إذ هو من قبيل المطوَّلات.
قوله: ﴿فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ﴾ : و «فلأَنْفُسِهم يَمْهَدون» تقديمُ الجارَّيْنِ يُفيد الاختصاصَ بمعنى: أن ضَرَرَ كفرِ هذا ومنفعةَ عملِ هذا لا يتعدَّاه «.
قوله: ﴿لِيَجْزِيَ﴾ : في متعلَّقِه أوجهٌ، أحدها: «يَمْهدون». والثاني «يَصَّدَّعون»، والثالث محذوف. قال ابن عطية: «تقديره ذلك ليجزيَ. وتكون الإِشارةُ إلى ما تقرر مِنْ قوله» مَنْ كفر «و» مَنْ عمل «. وجعل الشيخُ قسيمَ قوله ﴿الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ﴾ محذوفاً لدلالة قوله: ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الكافرين﴾ عليه. هذا إذا عَلَّقْنا اللام ب» يَصَّدَّعون «أو بذلك المحذوفِ قال:» تقديرُه ليجزيَ الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ مِنْ فَضْلِه والكافرين بعَدْلِه «.
قوله: ﴿الرياح﴾ : قرأ العامَّةُ «الرياحَ» جمعاً/ لأجلِ مبشِّراتٍ. والأعمش بالإِفراد، وأراد الجنسَ لأجلِ «مبشِّرات».
قوله: «ولِيُذيْقَكم» إمَّا عطفٌ على معنى «مُبَشِّرات» ؛ لأنَّ الحالَ والصفةَ يُفْهِمان العلةَ، فكأنَّ التقديرَ: ليبشِّرَ وليذيقَكم، وإمَّا أَن يتعلَّقَ بمحذوفٍ، أو وليذيقَكم أرسلَها، وإمَّا أَنْ تكون الواوُ مزيدةً على رأيٍ، فتتعلَّقَ اللامُ ب «أَنْ يُرْسِلَ».
قوله: ﴿وَكَانَ حَقّاً﴾ : بعضُ الوَقَفَةِ يقف على «حقاً» ويَبْتدِئ بما بعدَه، يجعل اسمَ كان مضمراً فيها و «حقاً» خبرُها. أي: وكان
50
الانتقامُ حقاً. قال ابن عطية: «وهذا ضعيفٌ؛ لأنه لم يَدْرِ قَدْرَ ما عَرَضَه في نَظْمِ الآية» يعني الوقفَ على «حَقَّاً». وجعل بعضُهم «حَقَّاً» منصوباً على المصدر، واسمُ كان ضميرُ الأمرِ والشأن، و «علينا» خبرٌ مقدمٌ، و «نَصْرُ» مبتدأ مؤخرٌ. وبعضُهم جَعَلَ «حقاً» منصوباً على المصدر أيضاً، و «علينا» خبرٌ مقدم، و «نَصْرُ» اسمٌ مؤخر. والصحيحُ أنَّ «نَصْر» اسمها، و «حَقَّاً» خبرُها، و «علينا» متعلقٌ ب «حَقاً» أو بمحذوفٍ صفةً له.
51
قوله: ﴿مِّن قَبْلِهِ﴾ : فيه وجهان، أحدهما: أنه تكريرٌ ل «مِنْ قَبلِ» الأولى على سبيلِ التوكيد. والثاني: أَنْ يكونَ غيرَ مكررٍ. وذلك أن يُجعلَ الضميرُ في «قَبْله» للسحاب. وجاز ذلك لأنه اسمُ جنسٍ يجوز تذكيرُه وتأنيثُه، أو للريح، فتتعلَّقُ «مِنْ» الثانيةُ ب «يُنَزَّل». وقيل: يجوزُ عَوْدُ الضمير على «كِسَفا» كذا أطلق أبو البقاء. والشيخ قَيَّده بقراءةِ مَنْ سَكَّن السين. وقد تقدَّمَتْ قراءاتُ «كِسَفاً» في «سبحان». وللناس في هذا الموضعِ كلامٌ كثيرٌ رأيتُ ذِكْرَه لتوضيحِ معناه.
وقد أبْدى كلٌّ من الشيخَيْن: الزمخشريِّ وابنِ عطية فائدةَ التأكيدِ المذكور. فقال ابن عطية: «أفادَ الإِعلامَ بسرعةِ تَقَلُّب قلوبِ البشر من الإِبلاسِ إلى الاستبشار؛ وذلك أن قولَه ﴿مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ﴾ يحتملُ الفُسْحَةَ في الزمانِ، أي: من قبلِ أَنْ يُنَزِّل بكثيرٍ كالأيَّامِ ونحوِه فجاء» مِنْ قبله «، بمعنى أنَّ ذلك متصلٌ بالمطر فهو تأكيدٌ مفيدٌ».
51
وقال الزمخشري: «ومعنى التوكيد فيه الدلالةُ على أن عَهْدَهم بالمطرِ قد بَعُدَ فاسْتحكم يَأْسُهم وتمادَى إبْلاسُهم، فكان استبشارُهم على قَدْرِ اغتمامهم بذلك». وهو كلامٌ حسنٌ.
إلاَّ أنَّ الشيخَ لم يَرْتَضِه منهما فقال: «ما ذكراه من فائدةِ التأكيدِ غيرُ ظاهرٍ، وإنما هو لمجرَّدِ التوكيد ويُفيد رَفْعَ المجازِ فقط». انتهى. ولا أدري عدمُ الظهورِ لماذا؟ وقال قطرب: «وإن كانوا مِنْ قبلِ التنزيل مِنْ قبل المطَر. وقيل: التقديرُ مِنْ قبلِ إنزالِ المطرِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَزْرعوا. ودَلَّ المطرُ على الزرع؛ لأنه يَخْرج بسببِ المطر. ودلَّ على ذلك قولُه» فَرَأَوْه مُصْفَرَّاً «يعني الزرعَ؛ قال الشيخ:» وهذا لا يَسْتقيم؛ لأنَّ ﴿مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ﴾ متعلِّقٌ ب «مُبْلِسِيْن» ولا يمكن مِنْ قَبْل الزَّرْع أَنْ يتعلَّقَ بمُبْلِسين؛ لأنَّ حرفَيْ جرّ لا يتعلَّقان بعاملٍ واحدٍ إلاَّ بوساطةِ حرفِ العطف أو البدلِ، وليس هنا عطفٌ والبدلُ لا يَجوز؛ إذ إنزالُ الغيثِ ليس هو الزرعَ ولا الزرعُ بعضَه. وقد يُتَخَيَّلُ فيه بدلُ الاشتمالِ بتكلُّفٍ: إمَّا لاشتمالِ الإِنزالِ على الزَّرْع، بمعنى: أنَّ الزرعَ يكون ناشِئاً عن الإِنزال، فكأن الإِنزالَ مُشْتملٌ عليه. وهذا على مذهبِ مَنْ يقول: الأولُ مشتملٌ على الثاني «.
وقال المبردُ:»
الثاني السحابُ؛ لأنهم لَمَّا رَأَوْا السحابَ كانوا راجين المطرَ «انتهى. يريد مِنْ قبل رؤيةِ السحاب. ويحتاج أيضاً إلى حَرْفِ عطفٍ ليصِحَّ تعلُّقُ الحرفين ب» مُبْلِسين «. وقال الرمَّاني:» من قبلِ الإِرسال «.
52
والكرماني:» من قَبْلِ الاستبشارِ؛ لأنه قَرَنه بالإِبلاس، ولأنه مَنَّ عليهم بالاستبشار «. ويحتاج قولُهما إلى حرفِ العطفِ لِما تقدَّم، وادِّعاءُ حرفِ العطفِ ليس بالسهلِ؛ فإنَّ فيه خلافاً: بعضُهم يَقيسُه، وبعضُهم لا يقيسه. هذا كلُّهُ في المفردات. أمَّا إذا كان في الجمل فلا خلافَ في اقتياسِه.
53
قوله: ﴿إلى آثَارِ﴾ : قرأ ابن عامر والأخَوان وحفص بالجمع، والباقون بالإِفراد. وسلام بكسرِ الهمزة وسكون الثاء، وهي لغةٌ فيه.
وقرأ العامَّةُ «كيف يُحْيي» بياء الغَيْبة أي: أثر الرحمة فيمَنْ قرأ بالإِفراد، ومَنْ قرأ بالجمع فالفعلُ مسندٌ لله تعالى، وهو مُحْتَمَلٌ في الإِفراد أيضاً. والجحدري وأبو حيوة وابن السَّمَيْفع «تُحْيي» بتاء التأنيث. وفيها تخريجان، أظهرهما: أنَّ الفاعلَ عائدٌ على الرحمة. والثاني قاله أبو الفضل: عائدٌ على أثر، وأنَّثَ «أثر» لاكتسابه بالإِضافةِ التأنيثَ، كنظائرَ له تقدَّمَتْ. ورُدَّ عليه: بأن شرطَ ذلك كَوْنُ المضافِ بمعنى المضاف إليه، أو مِنْ سببِه لا أجنبياً، وهذا أجنبيٌّ. و «كيف يُحْيي» مُعَلِّقٌ ل «انظرْ» فهو في محلِّ نصب على/ إسقاطِ الخافضِ. وقال أبو الفتح: «الجملةُ مِنْ» كيف يُحْيي «في موضعِ نصبٍ على الحال حَمْلاً على المعنى». انتهى وكيف تقع جملةُ الطلب حالاً؟
قوله: ﴿فَرَأَوْهُ﴾ : أي: فَرَأَوْا النباتَ، لدلالة السياق عليه، أو على الأثر؛ لأنَّ الرحمةَ هي الغيث، وأثرُها هو النبات. وهذا ظاهرٌ على قراءةِ الإِفراد، وأمَّا على قراءة الجمع فيعودُ على المعنى. وقيل: الضمير
53
للسَّحابِ. وقيل: للريح. وقرأ جناح بن حبيش «مُصْفارَّاً» بألفٍ. و «لَظَلُّوا» جوابُ القسمِ الموطَّأ له ب «لَئِنْ»، وهو ماضٍ لفظاً مستقبلٌ معنى كقولِه: ﴿مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ﴾ [البقرة: ١٤٥].
وتقدَّم الكلامُ على نحوِ ﴿فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ﴾ إلى آخره في الأنبياء وفي النمل، وكذلك في قراءَتَيْ «ضعف» وما الفرقُ بينهما في الأنفال؟
والضميرُ في «مِنْ بعدِه» يعودُ على الاصفرارِ المدلولِ عليه بالصفة كقولِه:
٣٦٥٣ - إذا نُهِي السَّفيهُ جَرَى إليه .......................
أي: إلى السَّفَهِ لدلالة «السَّفيه» عليه.
54
قوله: ﴿مَا لَبِثُواْ﴾ : جوابُ قولِه «يُقْسِم» وهو على المعنى، إذ لو حُكي قولُهم بعينِه لقيل: ما لَبِثْنا. و «كذلك» أي: مِثْلَ ذلك الإِفك كانوا يُؤْفَكون.
قوله: ﴿فِي كِتَابِ الله﴾ : الظاهرُ أنه متعلِّقٌ ب «لَبِثْتم» بمعنى فيما وَعَدَ به في كتابه من الحشرِ والبعث. وقال قتادة: على التقديم
54
والتأخيِرِ، والتقدير: «وقال الذين أُوْتُوا العلم في كتابِ الله لقد لَبِثْتُمْ، و» في «بمعنى الباء أي: العلم بكتاب الله. وصدورُه عن قتادةَ بعيدٌ.
والعامَّةُ على سكون عَيْن»
البعث «. والحسنُ بفتحها. وقُرِئ بكسرِها. فالمكسورُ اسمٌ، والمفتوحُ مصدرٌ.
قوله:»
فهذا يومُ «في الفاءِ قولان، أظهرهما: أنها عاطفةٌ هذه الجملةَ على» لَقَدْ لَبِثْتُمْ «. وقال الزمخشري:» هي جوابُ شرطٍ مقدرٍ كقوله:
٣٦٥٤ -....................... .................. فقد جِئْنا خُراسانا
كأنه قيل: إنْ صَحَّ ما قُلتم: إنَّ خراسان أقصى ما يُراد بكم، وآن لنا أن نَخْلُصَ، وكذلك إنْ كنتم منكرينَ للبعث فهذا يومُ البعث «ويشير إلى البيت المشهور وهو:
قالوا:
خراسانُ أَقْصى ما يُراد بنا ثم القُفولُ فقد جِئْنا خُراسانا
قوله:»
لا تَعْلَمُوْن «أي البعثَ أي: ما يرادُ بكم، أو لا ُيُقَدَّرُ له مفعولٌ أي: لم يكونوا مِنْ أولي العلم. وهو أبلَغُ.
55
قوله: ﴿فَيَوْمَئِذٍ﴾ : أي: إذ يقعُ ذلك، ويقولُ الذين أوتوا العلمَ تلك المقالة.
55
قوله: «لا يَنْفَعُ» هو الناصبُ ل «يومئذٍ» قبله. وقرأ الكوفيون هنا وفي غافر بالياءِ مِنْ تحتُ. وافقهم نافعٌ على ما في غافر، لأن التأنيثَ مجازيٌّ ولأنه قد فُصِل أيضاً. والباقون بالتأنيث فيهما مراعاةً لِلَّفْظِ.
قوله: ﴿وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ قال الزمخشري: «مِنْ قولك: اسْتَعْتَبني فلانٌ فَأَعْتَبْتُه أي: استرضاني فَأَرْضَيْتُه، وكذلك إذا كنتَ جانياً عليه. وحقيقةُ أَعْتَبْتَه. أَزَلْتَ عَتْبَه ألا ترى إلى قوله:
٣٦٥٥ - غَضِبَتْ تميمٌ أَنْ يُقتَّل عامرٌ يومَ النسارِ فَأُعْتِبُوا بالصَّيْلَمِ
كيف جعلهم غِضاباً؟ ثم قال:»
فَأُعْتِبوا «أي: أُزيل غَضَبُهم. والغضب في معنى العَتْبِ. والمعنى: لا يُقال لهم: أرْضُوا ربَّكم بتوبة وطاعةٍ. ومثلُه قولُه تعالى: ﴿فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ [الجاثية: ٣٥] فإنْ قلتَ: كيف جُعِلوا غيرَ مُسْتَعْتِبين في بعضِ الآيات وغيرَ مُعْتَبين في بعضها، وهو قولُه: ﴿وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ المعتبين﴾ [فصلت: ٢٤]. قلت: أمَّا كونُهم غيرَ مُسْتَعْتِبين فهذا معناه، وأمَّا كونُهم غيرَ مُعْتَبين فمعناه: أنهم غيرُ راضين بما هم فيه، فشُبِّهَتْ حالُهم بحالِ قومٍ جُني عليهم فهم عاتِبون على الجاني، غيرُ راضين عنه بما هم
56
فيه. فإنْ يَسْتَعتبوا الله أي يَسْألوه إزالة ما هم فيه فما هم مِن المجابين» انتهى.
وقال ابن عطية: «ويَسْتَعْتِبون بمعنى يَعْتِبون كما تقول: يَمْلك ويَسْتملك. والبابُ في استفعل طلبُ الشيءِ، وليس هذا منه؛ لأنَّ المعنى كان يَفْسُدُ؛ إذ كان المفهومُ منه: ولا يُطْلَبُ منهم عُتْبى». قلت: وليس فاسداً لِما تقدَّم مِنْ قولِ أبي القاسم.
57
قوله: ﴿وَلَئِن جِئْتَهُمْ﴾ : إنما وُحِّد هنا، وجُمع بعده في قوله: «أنتم» لنكتَةٍ: وهو أنه تعالى أخبر في موضعٍ آخرَ فقال: «ولَئِنْ جئتَهم بكل آية» أي جاءَتْ بها الرسلُ. فقال الكفار: ما أنتم أيها المدَّعون الرسالةَ كلُّكم إلاَّ كذا.
قوله: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ﴾ : أي: مثلَ ذلك الطبعِ يطبعُ.
قوله: ﴿وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ﴾ : العامَّةُ من الاستخفاف بخاء معجمة وفاء. ويعقوب وابن أبي إسحاق بحاءٍ مهملةٍ وقاف من الاستحقاق. وابن أبي عبلة ويعقوب بتخفيف نونِ التوكيد. والنهي من باب قولهم «لا أُرَيَنَّكَ ههنا».
Icon