تفسير سورة سبأ

تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة سبأ من كتاب تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه شحاته . المتوفي سنة 1423 هـ
أهداف سورة سبأ
سورة سبأ سورة مكية نزلت بعد سورة لقمان وقد نزلت سورة سبأ في الفترة ما بين السنتين الحادية عشرة والثانية عشرة من حياة الرسول بمكة بعد البعثة فقد جاء الوحي على النبي وعمره أربعين سنة ثم مكث في مكة ثلاثة عشرة عاما، وفي المدينة عشرة أعوام ومات وعمره ثلاث وستون سنة.
وكانت سورة سبأ ضمن مجموعة السور التي نزلت في السنوات الأخيرة من حياة المسلمين بمكة.
وكانت آيات سورة سبأ ٥٤ آية وسميت بهذا الاسم لاشتمالها على قصة سبأ وهي مدينة من المدن القديمة في اليمن وكانت عاصمة دولة قديمة بها وقد خرجت عند انهيار سد مأرب بسبب سيل العرم.
قال تعالى :﴿ لقد كان لسبإ في مساكنهم ءاية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور*فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل*ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور ﴾. ( سبإ : ١٥-١٧ ).
موضوعات السورة موضوعات سورة سبإ هي موضوعات العقيدة الرئيسية توحيد الله، والإيمان بالوحي والاعتقاد بالبعث وإلى جوارها تصحيح بعض القيم الأساسية المتعلقة بموضوعات العقيدة الرئيسية وبيان أن الإيمان والعمل الصالح لا الأموال ولا الأولاد- هما قوما الحكم والجزاء عند الله وأنه ما من قوة تعصم من بطش الله وما من شفاعة عنده إلا بإذنه.
والتركيز الأكبر في السورة على قضية البعث والجزاء وعلى إحاطة علم الله وشموله ودقته ولطفه وتتركز الإشارة في السورة إلى هاتين القضيتين بطرق متنوعة وأساليب شتى وتظلل جو السورة كله من البدء إلى النهاية.
فعن قضية البعث تقول السورة :﴿ وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم ﴾. ( سبإ : ٣ ).
ويرد قرب ختام السورة :﴿ قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب ﴾. ( سبإ : ٤٨ ).
وقد عرض الفيروزيادي مقصود السورة فقال : بيان حكمة التوحيد وبرهان نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعجزات داود وسليمان ووفاتهما وهلاك سبإ وشؤم الكفران وعدم الشكر وإلزام الحجة على عباد الأصنام ومناظرة أهل الضلالة وذكر معاملة الأمم الماضية مع النبيين ووعد المنافقين والمتصدقين بالإخلاف والعودة إلى إلزام الحجة على منكري النبوة وتمني الكفار في وقت الوفاة الرجوع إلى الدنيا أه.
ونلاحظ أن هذه القضايا التي تعالجها السورة قد عالجتها السور مكية في مواضع شتى ولكنها تعرض في كل سورة مصحوبة بمؤثرات متنوعة جديدة على القلب في كل مرة ومجال عرضها في سورة سبأ يأتي مصحوبا بمؤثرات عدة، ممثلة متنوعة ممثلة في رفعة السماوات والأرض الفسيحة وفي عالم الغيب المجهول المرهوب وفي ساحة الحشر الهائلة العظيمة وفي أعماق النفس المطوية اللطيفة وفي صحائف التاريخ المعلومة والمجهولة وفي مشاهد من ذلك التاريخ عجيبة وغريبة وفي كل منها مؤثر موح للقلب البشري موقظ له من الغفلة والشيق والهمود.
فمنذ افتتاح السورة وهي تفتح العيون على هذا الكون الهائل وعلى صحائفه وما فيها من آيات الله وعلى مجال علمه اللطيف الشامل الدقيق الهائل.
وتستمر السورة في مناقشة المكذبين وإلزامهم بالحجة وإيقافهم أمام فطرتهم وأمام منطق قلوبهم بعيدا عن الغواشي والمؤثرات المصطنعة. i
قال تعالى :﴿ قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ﴾. ( سبأ : ٤٦ ).
وهكذا تطوف السورة بالقلب البشري في مجالات متنوعة وتواجهه بالحقائق والأدلة والحجج حتى تنتهي بمشهد عنيف أخاذ من مشاهد القيامة.
فصول السورة
يجري سياق السورة في عرض موضوعاتها في جولات قصيرة متلاحقة متماسكة يمكن تقسيمها إلى ستة فصول :
١- الألوهية وإثبات البعث :
تحدثت الآيات التسع الأولى من السورة عن عظمة الخالق المالك لما في السموات والأرض المحمود في الآخرة وهو الحكيم الخبير وقررت شمول علمه الدقيق لما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ثم تطرقت للحديث عن إنكار الكافرين لمجيء الساعة وردت عليهم بتأكيد إتيانها لتتم إثابة المؤمنين وعقوبة الكافرين وليستقين العلماء والمؤمنون أن القرآن حق وصدق، وهداية إلى صراط العزيز المجيد ثم تحدثت عن عجب الكفار من قضية البعث واستبعادهم لوقوعه بعد أن يموتوا ويمزقوا كل ممزق وأجابت عن ذلك بأنه لا وجه لاستبعادهم وهم يرون من كمال قدرته الله ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض وهددت المكذبين بخسف الأرض من تحتهم أو إسقاط السماء كسفا عليهم.
٢- داود وسليمان :
تتناول الآيات من ( ١٠-١٤ ) طرفا من قصة داود وسليمان وتذكر نعمة الله عليهما وفضله فقد أعطى داود النبوة والزبور والصوت الحسن وإذا سبح الله سبحت معه الجبال والطير وآلان الله له الحديد وأوحى إليه أن يعمل دروعا سابغات للحرب كما حثه الله على العمل الصالح فإنه سبحانه بصير خبير.
وقد سخر الله لسليمان الريح ذهابها شهر ورجوعها شهر تحمل بساطه هو وخاصته إلى حيث يشاء وقد ذلل الله له الجن تعمل له أنواع المصنوعات فلما انقضى أجله مات واقفا متكئا على عصاه وما دل الجن على موته غلا أرضة قرضت عصاه فانطلقوا بعد أن كانوا مسجونين.
٣- قصة سبأ :
ضرب الله مثلا للشاكرين بداود وسليمان وقليل من الناس من يدرك فضل الله عليه وعظيم نعمائه التي لا تعد ولا تحصى ثم ضرب الله مثلا للبطر وجحود النعمة بمملكة سبأ وقد سبق أن وصفت في سورة النمل بالعظمة والقوة فلما آمنت بلقيس وكفر من جاء بعدها وأعرضوا عن شكر الله أصابهم الدمار.
وسبأ اسم لقوم كانوا يسكنون جنوبي اليمن وكانوا في أرض مخصبة لا تزال منها بقية إلى اليوم وقد ارتقوا في سلم الحضارة حتى تحكموا في مياه الأمطار الغزيرة التي تأتيهم من البحر في الجنوب والشرق فأقاموا خزانا طبيعيا يتألف جانباه من جبلين وجعلوا على فم الوادي بينهما سدا به عيون تفتح وتغلق وخزنوا المياه بكميات عظيمة وراء السد وتحكموا فيها وفق حاجتهم فكان لهم من هذا مورد مائي عظيم وقد عرف باسم سد مأرب.
وهذه الجنان عن اليمين والشمال رمز لذلك الخصب والوفرة والرخاء والمتاع الجميل ولكنهم لم يشكروا نعمة الله ولم يذكروا آلاءه فسلبهم هذا الرخاء وأرسل السيل الجارف الذي يحمل العرم في طريقه وهي الحجارة لشدة تدفقه فحطم السد وانساحت المياه فطفت وأغرقت ثم لم يعد الماء يخزن بعد ذلك فجفت الجنان واحترقت وتبدلت تلك الجنان الفيحاء صحراء تتناثر فيها الأشجار البرية الخشنة، ﴿ ذلك جزيناهم بما كفروا... ﴾ أي بنعمة الله، ﴿ وهل نجازي إلا الكفور ﴾. ( سبأ : ١٧ ).
وقد استغرقت قصة سبأ الآيات من ( ١٥-٢١ ).
٤- الشرك والتوحيد :
المتأمل في الآيات من ( ٢٢-٢٧ ) في سورة سبأ يجد ظاهرة متميزة حيث تكرر قول : قل في أول هذه الآيات كما تضمنت عددا من الأسئلة والحقائق في أسلوب رائع قوي.
لقد بدأت الآيات بتحدي المشركين أن يدعوا الذين يزعمون أنهم آلهة من دون الله وهم لا يملكون نفعا ولا ضرا ولا يملكون شفاعة عند الله- ولو كانوا من الملائكة- فالملائكة يتلقون أمر الله بالخشوع الراجف ولا يتحدثون حتى يزول عنهم الفزع والارتجاف العميق ويسألهم الله عمن يرزقهم من السموات والأرض والله مالك السماوات والأرض وهو الذي يرزقهم بلا شريك، ثم يفوض أمر النبي وأمرهم إلى الله وهو الذي يفصل فيما هم فيه مختلفون ويختم هذا الفصل بالتحدي كما بدأه أن يروه الذين يلحقونهم بالله شركاء " كلا بل هو الله العزيز الحكيم. ( سبأ : ٢٧ ).
وهكذا تطوف الآيات بالقلب البشري في مجال الوجود كله حاضره وغيبه سمائه وأرضه دنياه وآخرته وتقف به أمام رزقه وكسبه وحسابه وجزائه كل ذلك في فواصل قوية، وضربات متلاحقة وآيات تبدأ كل آية منهال يفعل الأمر قل، وكل قولة منها تدمغ بالحجة، وتصدع بالبرهان في قوة وسلطان.
وفي أعقاب هذه الآيات بيان الرسالة الرسول وأنها عامة للناس أجمعين :﴿ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾. ( سبأ : ٢٨ ).
٥- مشاهد القيامة والجزاء :
يستغرق الفصل الخامس في السورة الآيات من ( ٢٩-٣٢ ) ويبدأ بسؤال يوجهه الكفار للنبي عن يوم القيامة، استبعادا لوقوعه والجواب أن ميعاده لا يتقدم ولا يتأخر، وقد اعتز الكفار بالأموال والأولاد وقالوا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالكتب السابقة عليه.
وهنا يعرض القرآن موقف الظالمين أمام ربهم حيث يتحاورون فيراجع بعضهم بعضا كل منهم يحاول أن يلقى التبعة على أخيه فيقول الضعفاء للسادة والكبراء لقد تصديتم لنا بالإغراء والمكر بنا ليلا ونهارا حتى أفسدتم علينا رأينا وجعلتمونا نكفر بالله ونجعل له نظراء من الآلهة الخالية ويحتج الكبراء ويقولون أنحن منعناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم ؟ بل كنتم مجرمين إذ أخذتم الكفر عنا بالتقليد.
وعض الجميع بنان الندم حين رأوا العذاب والأغلال في أعناقهم ثم نرى المترفين يقاومون كل إصلاح ويكذبون كل رسالة :﴿ وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون ﴾. ( سبا : ٣٤ ).
وقد احتج المترفون بكثرة أموالهم وأولادهم واعتقدوا أن فضلهم في الدنيا سيمنعهم من العذاب في الآخرة وهنا يضع القرآن موازين الحق والعدل ويقرر القيم الحقيقية التي يكون عليها الجزاء والحساب وهي قيم الإيمان والعمل الصالح لا الأموال والأولاد.
وفي مشاهد القيامة يتضح أنه لا الملائكة ولا الجن الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا يملكون لهم في الآخرة شيئا.
كما توضح الآيات أن بسط الرزق وقبضه أمران يجريان وفق إرادة الله وليسا دليلا على رضا أو غضب ولا على قرب أو بعد إنما ذلك ابتلاء واختبار.
٦- الدعوة إلى التأمل والتفكر :
في الآيات الأخيرة من السورة من ( ٤٣-٥٤ ) حديث عن عناد الكافرين وجحودهم من غير برهان ولا دليل وتنبيه من القرآن بما وقع لأمثالهم الغابرين الذين أخذهم النكير في الدنيا وهم كانوا أقوى منهم وأعلم وأغنى.
ويعقب هنا عدة إيقاعات عنيفة كأنما هي مطارق متوالية يدعوهم في أول إيقاع منها إلى أن يقوموا لله متجردين ثم يتفكروا غير متأثرين بالحواجز التي تمنعهم من الهدى ومن النظر الصحيح وفي الإيقاع الثاني يدعوهم إلى التفكير في حقيقة البواعث التي تجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يلاحقهم بالدعوة وليس له من وراء ذلك نفع ولا هو يطلب على ذلك أجرا فما لهم يتشككون في دعوته ويعرضون ؟
وتوالت الآيات تبدأ بلفظ قل... وكل منها يهز القلب هزا، فمحمد لم يسألهم أجرا بل أجره على الله ومحمد صلى الله عليه وسلم مؤيد بالحق والحق غالب والباطل مغلوب.
ثم تلطف في وعظهم فذكر محمد صلى الله عليه وسلم إن ضل فضلاله إنما يعود عليه وحده، وإن اهتدى فيهدي الله له ثم بين سوء حالهم إذا فزعوا يوم القيامة إلى ربهم فلا يكون لهم فوت منه ولا مهرب وذكر أنهم يؤمنون به في ذلك الوقت فلا ينفعهم إيمانهم وتختم السورة بمشهد هؤلاء الكفار وقد حيل بينهم وبين ما يشتهون من الإيمان في غير موعده والإفلات من العذاب والنجاة من أهوال القيامة كما فعل بأشباههم من كفرة الأمم التي قبلهم إنهم كانوا في شك موضع في الارتياب. وهكذا تختم السورة بمشهد يثبت قضية البعث والجزاء وهي القضية التي ظهرت خلال السورة

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير( ١ ) يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور( ٢ ) ﴾
المفردات :
الحمد لله : الحمد هو الثناء على الله بما هو أهله أو الثناء على الله بجميل صفاته وأفعاله.
الحكيم : الذي أحكم أمر الدارين ودبره بمقتضى الحكمة.
الخبير : الذي يعلم بواطن الأمور.
تمهيــــد :
تبدأ السورة بالحمد لله ضمن خمس سور في القرآن الكريم بدأت بالحمد لله وهي :

١-
الفاتحة :﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾.

٢-
الأنعام :﴿ الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ﴾.

٣-
الكهف :﴿ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ﴾.

٤-
سبأ :﴿ الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير ﴾.

٥-
فاطر :﴿ الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير ﴾.
التفسير :
﴿ الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير ﴾.
الشكر والثناء على الله تعالى خالق الكون بديع السموات والأرض وله ما فيهما خلقا وإيجادا وعناية ورعاية له ما في السموات من الملائكة والأبراج والشموس والأقمار والنجوم وغير ذلك، وله ما في الأرض من الإنسان والحيوان والنباتات والبحار وغير ذلك وله الحمد في الدنيا حيث خلق ورزق ويسر ونظم وأبدع وأنزل الكتب وأرسل الرسل وله الحمد في الآخرة حيث يتم الحساب والميزان والصراط وتوزيع الكتب ومكافأة العاملين المخلصين ومعاقبة الكافرين المفسدين فمكافأة العاملين نعمة، ومعاقبة الظالمين نعمة، لتحقيق العدل وحسن الجزاء :﴿ من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد ﴾. ( فصلت : ٤٦ ).
﴿ وهو الحكيم ﴾ الذي أتقن كل شيء صنعا وأحسن كل كائن خلقا وإبداعا.
﴿ الخبير ﴾ المطلع على بواطن الأمور المحيط بكل شيء علما.
تمهيــــد :
تبدأ السورة بالحمد لله ضمن خمس سور في القرآن الكريم بدأت بالحمد لله وهي :

١-
الفاتحة :﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾.

٢-
الأنعام :﴿ الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ﴾.

٣-
الكهف :﴿ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ﴾.

٤-
سبأ :﴿ الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير ﴾.

٥-
فاطر :﴿ الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير ﴾.
﴿ يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور ﴾.
المفردات :
يلج في الأرض : يدخل فيها كالماء ينفذ في موضع وينبع في آخر، وكالكنوز والدفائن والأموات.
وما يخرج منها : كالزروع والنباتات والحيوان والفلزات وماء العيون.
وما ينزل من السماء : من الأمطار والثلوج والبرد والصواعق والأرزاق والملائكة والكتب والمقادير.
وما يعرج فيها : يصعد فيها من أعمال العباد والأبخرة والأدخنة والملائكة وغير ذلك.
التفسير :
إن علم الله تعالى يمتد ليشمل كل شيء في هذا الكون لا يشغله شأن هن شأن فيشمل علمه ما يدخل في الأرض من حبة أو دودة، أو حشرة أو هامة أو زاحفة تلج في أقطارها المترامية أو قطرة ماء أو ذرة غاز، أو إشعاع كهرباء يندس في أرجاء الأرض الفسيحة، أو غير ذلك مما لا حصر له ولا عدد تراه عين الله التي لا تنام.
قال تعالى :﴿ ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ﴾. ( الأنعام : ٥٩ ).
ويعلم ما يخرج من الأرض من نبات ونبع ماء وثمار وأشجار وبراكين تنفجر وزلازل ومعادن وبترول، وغير ذلك مما يكون حياة ورزقا أو عذابا وعقوبة ويعلم سبحانه ما ينزل من السماء من الأرزاق والمطار والشهب والرحمات والكتب والوحي والضوء والحرارة والأشعة والملائكة والإلهام والخيرات للمتقين والعذاب والنكال للمكذبين.
ويعلم سبحانه ما يعرج في السموات من دعوات صالحات وملائكة وأبخرة وصواريخ وموجات لاسلكية وأضواء منعكسة من الأرض إلى غير ذلك مما يعلمه علام الغيوب وهو الكامل الرحمة بعباده، واسع المغفرة وعلم الله تعالى ممتد يحيط بالمخلوقات كلها وبالأكوان كلها في كل مكان وفي كل زمان وبكل قلب وما فيه من نوايا وخواطر وما له من حركات وسكنات تحت عين الله التي لا تغفل ولا تنام.
﴿ وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينهم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذالك ولا أكبر إلا في كتاب مبين( ٣ ) ليجزي الذين ءامنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم( ٤ ) والذين سعوا في ءاياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم( ٥ ) ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد( ٦ ) ﴾
المفردات :
لا تأتينا الساعة : أي القيامة.
بلى : حرف جواب يأتي بعد النفي للإثبات.
يعزب : يبعد أو يغيب.
مثقال ذرة : وزن ذرة أصغر نملة أو هباءة.
ولا أصغر من ذلك : أصغر من الذرة ولا أكبر منها.
كتاب مبين : اللوح المحفوظ.
التفسير :
﴿ وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ﴾.
أنكر كفار مكة قيام الساعة، وقالوا ما هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر فليس هناك بعث ولا حشر ولا حساب ولا جزاء.
﴿ قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض... ﴾
أي قل لهم يا محمد سيقع ما تنكرونه وأقسم على ذلك بالله الذي يعلم كل شيء ولا يغيب عنه علم أصغر نملة أو هباءة كائنة في السماوات ولا في الأرض فقد أحاط علمه بكل شيء كبيرا كان أو صغيرا ومن باب أولى أن يحيط عمله بكل إنسان وبجميع أجزاء جسمه بعد موته فقد أحاط سبحانه بكل شيء علما ولا أصغر من الذرة ولا أكبر منها إلا سجل في اللوح المحفوظ عند علام الغيوب.
لطيفة أولى :
كان العالم يعتقد أن الذرة هي أصغر شيء فأشار القرآن على أن هناك ما هو أصغر منها وما هو أكبر وذلك منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام.
لطيفة ثانية :
هذه الآية إحدى آيات ثلاث أمر الله فيها رسوله أن يقسم بربه العظيم على وقوع الميعاد والبعث.
الأولى في سورة يونس :﴿ ويسئلونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين ﴾. ( يونس : ٥٣ ).
والثانية في هذه الآية :﴿ وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم ﴾. ( سبأ : ٣ ).
والثالثة : في سورة التغابن :﴿ زعم الذي كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير ﴾. ( التغابن : ٧ ).
﴿ ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم ﴾.
التفسير :
أي سيكون البعث ليكون بعده الجزاء الحسن للمؤمنين، والمعنى : ليكافئ الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالجنة، ولهم مغفرة بذنوبهم ورزق كريم واسع في دار النعيم.
﴿ والذين سعوا في ءاياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم ﴾.
المفردات :
معاجزين : مغالبين لنا ظانين عجزنا عنهم.
عذاب من رجز اليم : من أقبح العذاب وأسوئه.
التفسير :
والذين كفروا وقاوموا دعوة الإسلام وقالوا عنها إنها سحر أو شعر أو كهانة ظانين أنهم يستطيعون إبطالها وصرف الناس عنها أو معاجزين ظانين أنهم يفوتوننا فلا نقدر عليهم أو نعجز عن إيصال العقاب لهمii يقال عاجز فلان فلانا وأعجزه إذا غالبه وسبقه.
وفي القرآن الكريم :﴿ لا تحسبن الذين كفروا معاجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير ﴾. ( النور : ٥٧ ).
وقال تعالى :﴿ أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون ﴾. ( العنكبوت : ٤ ).
﴿ أولئك لهم عذاب من رجز أليم ﴾.
هؤلاء لهم عذاب شديد في نار جهنم هم أسوأ العذاب وأشده وهو مؤلم شديد الألم.
﴿ ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد ﴾.
المفردات :
الذين أوتوا العلم : علماء أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه.
هو الحق : القرآن هو الحق الموحى به من الله تعالى.
العزيز : ذو العزة.
الحميد : المحمود.
التفسير :
ليشاهد الذين أوتوا علم التوراة أو الإنجيل من أهل الكتاب أن القرآن الذي أنزله الله عليك هو الحق حيث صدق الرسل والكتب السابقة وأرشد إلى ما فيها من حق وإلى ما طرأ عليها من تحريف وهذا الذي أنزل إليك من ربك هو الوحي وهو القرآن الذي يهدي على الطريق القويم وإلى صراط الله العزيز الغالب المحمود في الأرض وفي السماء.
ويمكن أن يطلق الذين أوتوا العلم على الصحابة والتباعين الذين آمنوا بالله و صدقوا برسوله وتلقوا علوم الإسلام، كما يمكن أن تشمل أهل الكتاب وعلماء المسلمين أي الذين أوتوا العلم في أي زمان وفي أي مكان ومن أي جبل ومن أي قبيل يرون أن القرآن الكريم كتاب حق مصدق في تشريعاته وأخباره وآدابه وهدايته.
﴿ ويهدي إلى صراط العزيز الحميد ﴾.
ويرشد إلى الناموس الذي يهيمن على أقدار هذا الكون ويصحح منهج التفكير ويرشد على إقامته على أسس سليمة، ويعد الفرد للتجاوب والتناسق مع الجامعة البشرية ويعد الجماعة لرعاية الأفراد وللتناسق مع الآخرين فصراط الله هداية للحق وسلوك سليم نظيف وتعاون مع الآخرين واسترشاد بهدى السماء لتقويم المسيرة ونفع العباد والبلاد.
﴿ وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذ مزقتم كل ممزق إنك لفي خلق جديد( ٧ ) أفترى على الله كذبا أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد( ٨ ) أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب( ٩ ) ﴾
المفردات :
هل ندلكم على رجل : محمد صلى الله عليه وسلم.
إذا مزقتم كل ممزق : قطعتم قطعا صغيرة أي تمزيقا شديدا.
إنكم لفي خلق جديد : تبعثون خلقا جديدا لم ينق ص منكم شيء.
التفسير :
﴿ وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنك لفي خلق جديد ﴾.
وقال الذين كفروا من قريش هل نخبركم بأمر عجيب لا يصدق وأمر غريب مألوف بقوله محمد : حيث يدعي أن الناس إذا ماتوا وتقطعت أجسامهم وعظامهم وتفتت وصارت أجزاء كثيرة يصعب جمعها ويستحيل عودة الحياة إليها يدعي محمد أنها تعود مرة أخرى للبعث والحساب.
﴿ أفترى على الله كذبا أم به جنة... ﴾
المفردات :
افترى : الافتراء هو اختلاق الكذب أي أكذب وأختلق ؟
أم به جنة : جنون يوهمه ذلك ويجعله يتخيل البعث.
في العذاب : في الآخرة.
والضلال البعيد : الضلال البعيد عن الصواب في الدنيا أي ليس بمحمد افتراء أو جنون ولكن الكفار يعد عن الحق في الدنيا وعذاب في الآخرة.
التفسير :
إن حال محمد لا يخلو من أمرين : إما أن يكون قد اختلق هذا القول على الله كذبا وزورا دون أن ينزل عليه وحي، أو أن يكون محمد به مرض الجنون الذي جعله لا يعقل ما يقول ويتوهم البعث ويتخيله.
﴿ بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد ﴾.
أي ليس محمد بكاذب ولا بمجنون لكن كفار مكة قد ضلوا عن الحق ضلالا بعيدا، واستحقوا العذاب الشديد في الآخرة.
ويجوز أن يكون المعنى : إن الكفار في بعدهم عن الله في قلق نفسي واضطراب وعدم استقرار فهم في عذاب دنيوي وعذاب أخروي وهم في ضلال شديد لعدم اهتدائهم بهدى الله ولعدم اتباعهم لرسول الله.
﴿ أفلم يروا على ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء... ﴾
المفردات :
نخسف لهم الأرض : نغيبهم في بطنها.
كسفا : قطعا، جمع كسفة.
منيب : راجع وتائب على الله تعالى.
التفسير :
يلفت القرآن الكريم نظرهم إلى آثار القدرة الإلهية التي رفعت السماء بدون أعمدة وزينتها بالنجوم وخلقت الفضاء والهواء والأنهار والبحار والأرض والجبال والليل والنهار والشمس والقمر والإنسان والحيوان والنبات وأمسكت بزمام هذا الكون تحفظه وترعاه وتمده بمقومات الحياة والتكامل.
فهلا نظروا نظر اعتبار على ما بين أيديهم من أخبار الأمم السابقة كقوم نوح وعاد وثمود، الذين كذبوا فأهلكوا أو إلى ما بين أيديهم من السماء التي فوقهم والأرض التي تحتهم وهم محاطون من كل جانب بنعم الله التي تحيط بهم من فوقهم ومن تحتهم وعن أيمانهم وشمائلهم فضلا عن أنهم جميعا لا يستطيعون أن يخرجوا من أقطار السماوات والأرض فالله قاهر لهم وهم جميعا في قبضته إن شاء خسف بهم الأرض بالزلازل والبراكين كما فعل بقارون.
قال تعالى :﴿ فخسفنا به وبداره الأرض... ﴾ ( القصص : ٨١ ).
﴿ أو نسقط عليهم كسفا من السماء... ﴾
أو نسقط عليهم عذابا من السماء أو جزءا من الشهب أو الصواعق أو النوازل التي أهلكت أصحاب الأيكة.
قال تعالى :﴿ فكذبوه فأخذهم عذاب يوم القيامة إنه كان عذاب يوم عظيم ﴾. ( الشعراء : ١٨٩ ).
﴿ إن في ذلك لآية... ﴾.
إن هذه القدرة الإلهية التي تسيطر على هذا الكون وبيدها حفظ هذا النظام وتقليب الليل والنهار وإرسال العذاب من السماء أو الأرض فيها أبلغ الأدلة وأصدق الآيات الهادية على الإيمان.
﴿ لكل عبد منيب ﴾.
رجاع إلى الله وإلى الإيمان به والاهتداء إلى شرائعه والإيمان برسله وباليوم الآخر.
﴿ ولقد ءاتينا داود فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد( ١٠ ) أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير( ١١ ) ولسليمان الرياح غدوها شهر ورواحها شهر وأرسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير( ١٢ ) يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا ءال داود شكرا وقليل من عبادي الشكور( ١٣ ) فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين( ١٤ ) ﴾
المفردات :
فضلا : نبوة وملكا.
أوبي معه : رجعي معه بالتسبيح.
والطير : والطير تسبح أيضا.
ألنا له الحديد : جعلناه له في اللين كالعجينة يعجنها من غير نار ولا مطرقة.
***
تمهيـــد :
تعدد الآيات أنعم الله تعالى على داود وسليمان وحيث أنعم الله على داود بالنبوة والملك والجنود، والزبور والصوت الحسن وعلمه صناعة الدروع الحربية وألان له الحديد وسخر الله لسليمان الريح تحمله مسرعة مسافة شهر تختصرها إلى نصف يوم ويعود إلى بيته على بساط الريح في ن صف يوم ولولا الريح لقطع المسافة في شهر ذهابا وفي شهر إيابا وإذابة النحاس له كإذابة الحديد لأبيه داود وتسخير الجن لبناء القصور الكبيرة أو المساجد والجفان الكبيرة كالأحواض والقدور الكبيرة التي لا تتحرك لسعتها وكبرها.
التفسير :
﴿ لقد ءاتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد... ﴾
ذكر الله تعالى هنا ما أنعم الله على عبده داود حيث حباه بالنبوة والملك والفضل وأعطاه المعجزات والجنود الكثيرة والصوت الجميل الحسن الشجي حيث كان إذا سبح الله وذكره بصوته الجميل رددت الجبال معه التسبيح والنشيد، وكذلك الطير تصدح بذكره ونشيده، وألان الله الحديد في يده فكان مثل العجين لينا سهل التشكيل فكان يصنع منه دروع الحرب وآلاتها ويأكل من عمل يده.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن خير ما أكل المرء من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده ". iii
تمهيـــد :
تعدد الآيات أنعم الله تعالى على داود وسليمان وحيث أنعم الله على داود بالنبوة والملك والجنود، والزبور والصوت الحسن وعلمه صناعة الدروع الحربية وألان له الحديد وسخر الله لسليمان الريح تحمله مسرعة مسافة شهر تختصرها إلى نصف يوم ويعود إلى بيته على بساط الريح في ن صف يوم ولولا الريح لقطع المسافة في شهر ذهابا وفي شهر إيابا وإذابة النحاس له كإذابة الحديد لأبيه داود وتسخير الجن لبناء القصور الكبيرة أو المساجد والجفان الكبيرة كالأحواض والقدور الكبيرة التي لا تتحرك لسعتها وكبرها.
﴿ أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير ﴾.
المفردات :
وقدر : أحكم أو اقتصد. السرد : نسج الدروع، أي اجعل المسامير مقدرة على قدر الحلق فلا يكون غليظا ولا دقيقا.
التفسير :
أي أوحينا إليه أن اعمل دروعا سابغات أي كاملات تامة واسعات يقال : نعمة سابغات أسي كاملة وافرة قال تعالى :﴿ وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة... ﴾ ( لقمان : ٢٠ )
﴿ وقدر في السرد... ﴾
أي أحكم صنع الدروع بحيث يكون في أكمل صورة وأحسن هيئة، متناسبة الحلقات والمسامير فلا تكون الحلقات واسعة ولا ضيقة، بل متناسقة على قدر الحاجة محكمة على قدر حاجة الجسم وكان داود عليه السلام أول من صنع الدروع المحكمة.
قال قتادة : كانت الدروع قبله صفائح ثقالا.
وقال المفسرون ﴿ وقدر في السرد ﴾ : أي لا تغلظ المسامير فيتسع الثقب ولا توسع الثقب فتقلقل المسامير فيها. iv
قال الفخر الرازي : قيل إنه طلب من الله أن يغنيه عن أكل مالا بيت المال فألان له الحديد وعلمه صنعة اللبوس وهي الدروع.
﴿ واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير ﴾.
أي اعملوا يا آل داود عملا صالحا فإني مطلع ومشاهد ومراقب لكم بصير بأعمالكم وأقوالكم لا يخفى علي شيء منها.
وفي معنى ذلك قوله تعالى :﴿ إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق ﴾ ( ص : ١٨ ).
وقوله عز شأنه :﴿ وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون ﴾. ( الأنبياء : ٧٩-٨٠ ).
تمهيـــد :
تعدد الآيات أنعم الله تعالى على داود وسليمان وحيث أنعم الله على داود بالنبوة والملك والجنود، والزبور والصوت الحسن وعلمه صناعة الدروع الحربية وألان له الحديد وسخر الله لسليمان الريح تحمله مسرعة مسافة شهر تختصرها إلى نصف يوم ويعود إلى بيته على بساط الريح في ن صف يوم ولولا الريح لقطع المسافة في شهر ذهابا وفي شهر إيابا وإذابة النحاس له كإذابة الحديد لأبيه داود وتسخير الجن لبناء القصور الكبيرة أو المساجد والجفان الكبيرة كالأحواض والقدور الكبيرة التي لا تتحرك لسعتها وكبرها.
﴿ ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأرسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير ﴾.
المفردات :
ولسليمان الريح : وسخرنا لسليمان الريح.
غدوها شهر : جريها بالغداة مسيرة شهر.
ورواحها شهر : وجريها بالعشي كذلك.
وأرسلنا له عين القطر : أجرينا معدن النحاس سائلا كما ينبع الماء من العين.
يزغ : يعدل ويخالف ما أمرناه به.
التفسير :
وسخرنا لسليمان الريح تسير بأمره وتثقله حيث يشاء مسرعة بحيث تقطع في نصف النهار الأول مسيرة شهر وتقطع في نصف النهار الآخر مسيرة شهر ثان.
قال تعالى :﴿ ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين ﴾. ( الأنبياء : ٨١-٨٢ ).
﴿ وأسلنا له عين القطر... ﴾.
وأجرينا له معدن النحاس بعد إذابته فسال ونبع كما ينبع الماء من العين فلذلك سمى عين القطر باسم مال آل إليه وكانت الأعمال تتأتى به وهو بارد ولم يلن ولا ذاب لأحد قبله.
لقد ألان الله الحديد لداود فصنع منه الدروع السابغات وألان لسليمان النحاس ينبع ويسيل كما يسيل الماء، ويتشكل إلى الأدوات التي يحتاج إليها سليمان كالقصاع الكبيرة والقدور الكبيرة.
﴿ ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه... ﴾
وسخرنا له الجن يخدمونه ويعملون له الأعمال الشاقة والأبنية العظيمة ويغوصون في البحر يستخرجون منه الأحجار الكريمة كالدر والياقوت.
﴿ ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير ﴾.
ومن يخرج من الجن عن طاعة سليمان أو عن الخضوع لأمرنا يتعرض لأشد ألوان العذاب في الدنيا والآخرة.
تمهيـــد :
تعدد الآيات أنعم الله تعالى على داود وسليمان وحيث أنعم الله على داود بالنبوة والملك والجنود، والزبور والصوت الحسن وعلمه صناعة الدروع الحربية وألان له الحديد وسخر الله لسليمان الريح تحمله مسرعة مسافة شهر تختصرها إلى نصف يوم ويعود إلى بيته على بساط الريح في ن صف يوم ولولا الريح لقطع المسافة في شهر ذهابا وفي شهر إيابا وإذابة النحاس له كإذابة الحديد لأبيه داود وتسخير الجن لبناء القصور الكبيرة أو المساجد والجفان الكبيرة كالأحواض والقدور الكبيرة التي لا تتحرك لسعتها وكبرها.
﴿ يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا ءال داود شكرا وقليل من عبادي الشكور ﴾.
المفردات :
من محاريب : جمع محراب قيل المساجد وقيل المقصورة تكون إلى جوار المسجد للتعبد فيها.
تماثيل : جمع تمثال وهي الصور وقيل إن التصوير كان مباحا في شرع سليمان ثم نسخ ذلك في شرع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وجفان : جمع جفنة وهي ما يوضع فيها الطعام من أعظم القصاع وأكبرها ويليها في الصغر القصعة ويليها المئكلة ويليها الصحفة.
كالجواب : كالحياض الكبار التي يجبى فيها الماء للإبل والجواب جمع جابية.
قدور : جمع قدور وهي ما يطبخ فيه من فخار ونحوه على شكل مخصوص.
راسيات : ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها.
التفسير :
أي يعمل الجن لسليمان ما يريد عمله من بناء المحاريب وهي المساجد أو القصور الشاهقة والأبنية العالية التي يحارب من خلالها.
وقيل المحراب هو المقصورة بجوار القبلة، أو التجويف تجاه القبلة.
﴿ وتماثيل ﴾ : وهي الصور المجسمة المصنوعة من النحاس أو الزجاج للأنبياء والصالحين تشجيعا للهمم في العبادة، والاقتداء بهم وكان ذلك جائزا في عهد سليمان ثم نسخ في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم خشية التشبه بعبادة الأصنام.
وأباح الفقهاء عمل تمثال لكل ما ليس فيه روح، كالأنهار والأشجار وكذلك لعب الأطفال من التماثيل لحديث رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم وكانت لي صواحب يلعبن معي فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل ينقمعن منه فيسربهن إلى فيلعبن معي. v
وأجاز جمهور العلماء من الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب اتخاذ الصور إذا كانت مما يوطأ ويداس أو يمتهن بالاستعمال كالوسائد والمفارش أما التصوير الشمس والفوتوغرافي فهو جائز لأنه ليس تصويرا بالمعنى الذي جاءت به الأحاديث بل حبس للصورة أو الظل فيكون مثل الصورة في المرأة أو الماء.
وأما الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود وابن عباس " أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون " vi فقد قال بعض العلماء المراد به من يصنعون تمثالا يضاهئون به خلق الله بدليل حديث " أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون خلق الله " ومن طريق آخر " يقال لهم أحيوا ما خلقتم ".
وفي فتح الباري : أن فريقا من العلماء قال بتحريم عمل التماثيل وفريقا قال : إن ذلك مكروه فقط فقد حرم في صدر الإسلام حيث فيه تشبه بعبادة الأصنام وكان القوم حديثي عهد بعبادة الأصنام فنهوا عن عمل التماثيل أما الآن فعملها مكروه فقط.
وقال فريق ثالث : ليس ذلك مكروها بل هو جائز خصوصا ما لا تتم به الحياة كالتمثال النصفي كل ما هو غير كامل.
﴿ وجفان كالجواب... ﴾
الصحاف والقصاع الكبيرة التي تكفى لعدد كبير منن الناس وتشبه حياض الإبل.
﴿ وقدور راسيات... ﴾
القدور جمع قدر وهو ما يطبخ فيه من فخار وغيره على شكل مخصوص. وراسيات ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها أي إن السماط كان عظيما بديعا فيه كثير من حسن الاتساق والجمال والضخامة.
﴿ اعملوا ءال داود شكرا وقليل من عبادي الشكور ﴾.
أي أطيعوني واشكروني واستخدموا نعمتي فيما خلقت له والهجوا بذكري والصلاة والسلام والحمد لي يا آل داود.
﴿ وقليل من عبادي الشكور ﴾.
والشكور هو الذي يشكر الله في جميع أحواله من الخير والشر فهو شاكر على النعماء وصابر على البأساء وهو راض بالقضاء والقدر خيره وشره حلوه ومره.
ورد في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه وأحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يقر إذا لاقى ". vii
قال ابن عباس الشكور هو الذي يشكر على أحواله كلها.
وقال الزمخشري في الكشاف : الشكور هو المتوفر على أداء الشكر الباذل وسعه فيه وقد شغل به قلبه ولسانه وجوارحه اعترافا واعتقادا وكدحا.
وقيل الشكور هو من يرى عجزه عن الشكر لأن توفيقه للشكر نعمة تستدعي شكرا آخر لها على ما لا نهاية.
على حد قول الشاعر :
إذا كان شكري نعمة الله نعمة على له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله وإن طالت الأيام واتسع العمر
إذا مس بالنعماء عم سرورها وإن مس بالضراء أعقبها الأجر
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم صابرا شاكرا قدوة ومثلا أعلى روى مسلم في صحيحه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تفطر قدماه فقلت له : أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال " أفلا أكون عبدا شكورا ". viii
ومن شكر النعمة التواضع والعفو والاستقامة قال صلى الله عليه وسلم : " أوصاني ربي بتسع الإخلاص لله في السر والعلانية والعدل في الرضا والغضب والقصد في الغنى والفقر وأن أصل من قطعني وأعطي من حرمني وأعفو عمن ظلمني وأن يكون صمتي فكرا ونطقي ذكرا ونظري عبرة ".
تمهيـــد :
تعدد الآيات أنعم الله تعالى على داود وسليمان وحيث أنعم الله على داود بالنبوة والملك والجنود، والزبور والصوت الحسن وعلمه صناعة الدروع الحربية وألان له الحديد وسخر الله لسليمان الريح تحمله مسرعة مسافة شهر تختصرها إلى نصف يوم ويعود إلى بيته على بساط الريح في ن صف يوم ولولا الريح لقطع المسافة في شهر ذهابا وفي شهر إيابا وإذابة النحاس له كإذابة الحديد لأبيه داود وتسخير الجن لبناء القصور الكبيرة أو المساجد والجفان الكبيرة كالأحواض والقدور الكبيرة التي لا تتحرك لسعتها وكبرها.
﴿ فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ﴾.
المفردات :
فلما قضينا عليه الموت : حكمنا عليه بأن مات.
دابة في الأرض : الأرضة.
منسأته : عصاه لأنه ينسأ بها أي يطرد ويزجر.
يعلمون الغيب : كما زعموا لعلموا بموته.
العذاب المهين : الأعمال الشاقة التي كلفوا بها لظنهم حياته.
التفسير :
أي جمع الله لسليمان النبوة والملك، وتسخير الرياح وتسخير الجن ونبع النحاس من عين كالماء وسخر الله الجن لسليمان تعمل له التماثيل والمحاريب والقصاع الكبيرة والقدور الجميلة الكبيرة الراسية على الأثافي وقيل لهم : الزموا شكر الله على هذه النعم ومع كل هذه النعم فقد مات سليمان متكئا على عصاه والجن مستمرة في العمل الشاق ونزل الموت بسليمان واستمرت الجن حتى أمت عملها ثم أكلت الأرضة من عصا سليمان فخر ساقطا على الأرض فظهر جليا للإنس وللجميع أن الجن لا تعلم الغيب وأن الغيب لا يعلمه إلا الله ولو كانت الجن تعلم الغيب ما ملكت في العذاب المهين عاملة ناصبة في البناء والتشييد.
وذكر القرطبي عن ابن عباس مرفوعا أن سليمان نحت عصا الخرنوبة فتوكأ عليها حولا لا يعلمون فسقطت فعلم الإنسي أن الجن لا يعلمون الغيب فنظروا مقدار ذلك فوجدوه سنة.
وليس لدينا خبر صحيح نطمئن إليه في تحديد المدة التي قضاها سليمان ميتا والجن تعمل بين يديه فتكتفي بما أشار إليه القرآن من أنه مكث فترة ما ميتا والجن عاملة ناص به لا تعلم بموته حتى أكلت الأرضة عصاه فوقع على الأرض فعلمت الجن بموته.
***
﴿ لقد كان لسبإ في مساكنهم ءاية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور( ١٥ ) فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلنهم بجنتيهم جنتين ذواتى أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل( ١٦ ) ذلك جزيناهم بما كفورا وهل نجازي إلا الكفور( ١٧ ) وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما ءامنين( ١٨ ) فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور( ١٩ ) ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين( ٢٠ ) وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ( ٢١ ) ﴾
المفردات :
سبإ : اسم قبيلة من قبائل العرب العارية في بلاد اليمن وهم قوم بلقيس وقد سميت قبيلة سبأ باسم جد لهم من العرب هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ومن نسلهم عبد الله بن سبأ المنسوبة إليه السبئية من غلاة الشيعة.
مسكنهم : موضع سكنهم في مأرب بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليال.
آية : علامة على قدرة الله.
جنتان : جماعتان من البساتين جماعة عن يمين إقليمهم وجماعة عن شماله.
طيبة : طيبة المناخ بعيدة عن الأوباء وأسبابها.
تمهيــــد :
تحدث القرآن فيما سبق عن داود وسليمان كنموذج للشاكرين ثم تحدث عن سبأ كنموذج لقوم أبطرتهم النعمة فلم يشكروا ربهم فاستحقوا سلب النعمة والعقوبة جزاء كفرهم وتلك سنة من سنن الله العادلة مكافأة المؤمنين ومعاقبة الكافرين.
التفسير :
﴿ لقد كان لسبإ في مساكنهم ءاية جنان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور ﴾.
لقد كان لشعب سبأ في مساكنهم التي يسكنونها وقصورهم ووديانهم التي يعمرونها آية وعلامة على قدرة الله وأفضاله على عباده وهي جنتان إحداهما عن يمين الوادي وأخرى عن شماله كلها فواكه وخضرة تسقى بماء سد مأرب وتنبت الفواكه والثمار والنخيل والأعناب وصنوف النعم روى أن المرأة كانت تخرج وعلى رأسها المكتل وتسير بين الأشجار فيمتلئ المكتل مما يتساقط من الثمار فهذا قوله تعالى :﴿ كلوا من رزق ربكم واشكروا له... ﴾
كأنها تناديهم بلسان الحال وتقول لهم كلوا من هذا الرزق العظيم الذي بسطه الله لكم واشكروا الله عليه شكرا عمليا باستخدام النعمة في طاعة الله واشكروه بذكره وطاعة رسله واحترام نواميسه وطاعة أوامره.
﴿ بلدة طيبة ورب غفور ﴾.
هذه بلدة طيبة الهواء وهي صنعاء اليمن مناخها طيب وتربتها طيبة لا يوجد بها وباء ولا هواء ولا حشرات كالعقارب ونحوها.
﴿ ورب غفور ﴾.
واسع المغفرة عظيم الرحمة لمن تاب إليه ورجع.
تمهيــــد :
تحدث القرآن فيما سبق عن داود وسليمان كنموذج للشاكرين ثم تحدث عن سبأ كنموذج لقوم أبطرتهم النعمة فلم يشكروا ربهم فاستحقوا سلب النعمة والعقوبة جزاء كفرهم وتلك سنة من سنن الله العادلة مكافأة المؤمنين ومعاقبة الكافرين.
﴿ فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل ﴾.
المفردات :
فأعرضوا : عن شكر الله ونعمه.
سيل العرم : سد السيل العرم وهو سد يعترض الوادي ويطلق على المطر الشديد والعرم الصعب.
وبدلناهم : آتيناهم بدل جنتيهم.
ذواتى أكل خمط : أي صاحبتي أكل مر بشع.
أثل : شجر يشبه شجر الطرفاء لا ثمر له.
سدر : شجر النبق.
التفسير :
فأعرضوا عن شكر الله وعن المحافظة على السد وأترفوا وفسقوا فعاقبهم الله بتحطيم سد مأرب حيث أرسل أمطارا غزيرة كالحجارة القوية فأزاحت سد مأرب وأغرقت المياه الأشجار والبساتين الجميلة وبعد تحطيم السد ذيلت الشجار وجفت الزراعة ولم تبق لهم غلا أشجار متناثرة في الصحراء كبيرة الشوك سميت بالجنان على سبيل المشاكلة والتهكم.
قال قتادة : كان شجرهم خير الشجر فصبره الله شر الشجر بأعمالهم.
﴿ وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط... ﴾
وأبدلناهم بجنتيهم النضرتين جنتين ذواتي ثمر : خمط : مر بشع يجمع بين المرارة والحموضة لا يستسيغه أحد.
﴿ وأثل... ﴾ شجر لا ثمر له يشبه شجر الطرفاء.
﴿ وشيء من سدر قليل... ﴾
وشيء قليل من شجر السدر وهو المعروف بالنبق وهذا النوع ينتفع به وله شان عند العرب ولكنه كان قليلا عقابا لهم ولو أطلق لكان نعمة لا نقمة.
تمهيــــد :
تحدث القرآن فيما سبق عن داود وسليمان كنموذج للشاكرين ثم تحدث عن سبأ كنموذج لقوم أبطرتهم النعمة فلم يشكروا ربهم فاستحقوا سلب النعمة والعقوبة جزاء كفرهم وتلك سنة من سنن الله العادلة مكافأة المؤمنين ومعاقبة الكافرين.
﴿ ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور ﴾.
المفردات :
جزيناهم : عاقبناهم.
الكفور : المبالغ في الكفر المتشبت به.
التفسير :
أي ذلك العقاب الذي نزل بهم حيث دمرت البساتين الخضراء المثمرة ولم تبق لهم إلا أشجار متفرقة في الصحراء كثيرة الشوك قليلة النفع والفائدة، هذا الجزاء العادل والعقاب الرادع بسبب كفرهم بنعمة الله حيث أهملوا سد مأرب وأعرضوا عن الإيمان بالله فاستحقوا هذه العقوبة وهل نجازي الجزاء المؤلم والعقوبة الرادعة إلا لكثير الكفر المصر على الجحود والمبالغ فيه ؟.
تمهيــــد :
تحدث القرآن فيما سبق عن داود وسليمان كنموذج للشاكرين ثم تحدث عن سبأ كنموذج لقوم أبطرتهم النعمة فلم يشكروا ربهم فاستحقوا سلب النعمة والعقوبة جزاء كفرهم وتلك سنة من سنن الله العادلة مكافأة المؤمنين ومعاقبة الكافرين.
﴿ وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما ءامنين ﴾.
المفردات :
القرى التي باركنا فيها : هي قرى الشام مبارك فيها بكثرة أشجارها ووفرة ثمارها والتوسعة على أهلها.
قرى ظاهرة : متواصلة من اليمن إلى الشام.
وقدرنا فيها السير : جعلنا المسافات بينها مقدرة على أبعاد قريبة بحيث يسهلا التنقل بينها.
التفسير :
تأتي هذه الآية كالتعقيب على قصة سبأ فقد ذكر فيما سبق أن الله أنعم عليهم بالجنان والبساتين والنعم المتعددة لكنهم كفروا وجحدوا فاستحقوا العقوبة.
وأردف ذلك بذكر نوع آخر من النعم التي أنعم الله بها عليهم وهي نعمة القرى المتتابعة المرتفعة الظاهرة على الطريق الموصل بين اليمن والشام قيل من سافر من قرية صباحا وصل إلى الأخرى وقت الظهر والقيلولة ومن سار من قرية بعد الظهر وصل على الأخرى بعد الغروب إلى أن يبلغ الشام لا يخاف جوعا ولا عطشا ولا عدوا ولا يحتاج لحمل زاد، ولا مبيت في أرض خالية.
وقوله تعالى : سيروا فيها ليالي وأياما ءامنين : على إرادة القول بمعنى أبحناها وقلنا لهم سيروا فيها حيث شئتم وكيف شئتم ليالي وأياما آمنين لا تحسون مشقة ولا تستشعرون جوعا ولا عطشا ولا ترهبون عدوا.
وهذا القول إما بلسان الحال بمعنى أن وضع القرى وتأمين السير فيها واقترابها من بعضها كأنه يقول للسائر سر آمنا مطمئنا وإما بلسان المقال أي قال أنبياؤهم ومرشدهم سيروا فيها آمنين مطمئنين وإن تطاولت مدة سفركم وامتدت أياما وليالي كثيرة.
تمهيــــد :
تحدث القرآن فيما سبق عن داود وسليمان كنموذج للشاكرين ثم تحدث عن سبأ كنموذج لقوم أبطرتهم النعمة فلم يشكروا ربهم فاستحقوا سلب النعمة والعقوبة جزاء كفرهم وتلك سنة من سنن الله العادلة مكافأة المؤمنين ومعاقبة الكافرين.
﴿ فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ﴾.
المفردات :
باعد بين أسفارنا : اجعل المسافات والأبعاد بيننا وبين القرى المباركة طويلة ممتدة لتطول أسفارنا إليها.
أحاديث : لمن جاء بعدهم ولم يبق منهم إلا إخبارهم الغريبة.
ومزقناهم كل ممزق : فرقناهم في البلاد كل التفرق.
التفسير :
أسبغنا عليهم نعمنا فبطروا النعمة، وسئموا من طيب العيش وملوا العاقبة، وطلبوا الكد والتعب وطول الأسفار والتباعد بين الديار وقالوا : ربنا اجعل بيننا وبين البلاد التي تسافر إليه مفاوز وقفارا ليركبوا فيها الرواحل وليتزودوا بالماء والزاد إظهارا للتمايز الطبقي والتكبر والتفاخر على الفقراء والعاجزين.
﴿ وظلموا أنفسهم... ﴾
إذ عرضوها للسخط والعذاب حين بطروا النعمة ولم يشكروا الله عليها.
﴿ فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق... ﴾
شردوا ومزقوا وتفرقوا في أنحاء الجزيرة مبددي الشمل وأصلحوا أحاديث يرويها السمار في مجالسهم وفرقنا شملهم في البلاد كل تفريق فصارت تضرب بهم المثل فتقول ( تفرقوا أيدي سبأ ) أي مذاهب سبأ وطرقها.
فنزلت الأوس والخزرج بيثرب وغسان بالشام والأزد بعمان وخزاعة بتهامة فمزقهم الله كل ممزق وهدم السيل بلادهم.
﴿ إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ﴾.
أي في قصة سبأ وما حل بهم جزاء كفرهم وبطرهم لعبرة يعتبر بها كل صبور على الشدائد فلا يجزع ويهلع بل يلقيها بالإيمان والرضا والقدر خيره وشره حلوه ومره.
﴿ شكور ﴾ : لله على نعمائه اللهم اجعلنا من الشاكرين.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " عجبا للمؤمن لا يقضي الله تعالى له قضاء إلا كان خير له إن أصابته سراء شكر فكان خير له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمنين ". ix
ومن كلام العارفين نعم العبد الصبار الشكور الذي إذا أعطى شكر وإذا ابتلى صبر. *
تمهيــــد :
تحدث القرآن فيما سبق عن داود وسليمان كنموذج للشاكرين ثم تحدث عن سبأ كنموذج لقوم أبطرتهم النعمة فلم يشكروا ربهم فاستحقوا سلب النعمة والعقوبة جزاء كفرهم وتلك سنة من سنن الله العادلة مكافأة المؤمنين ومعاقبة الكافرين.
﴿ ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين ﴾.
المفردات :
صدق عليهم إبليس ظنه : صدق ظن إبليس فيهم أنه يستطيع إغواءهم.
فاتبعوه : في الكفر والضلال والإضلال.
إلا فريقا من المؤمنين : لكن فريقا من المؤمنين لم يتبعوه فخاب ظنه فيهم زاده الله خيبة على يوم القيامة.
التفسير :
تأتي هذه الآية وما بعدها كالتعقيب العام لبيان السنة الإلهية في الإغواء والهداية فالشيطان حين رأى منهم الانهماك في الشهوات والملذات والعدول عن الاعتدال والهدى توقع منهم السير وراءه واتباع إغوائه.
ومعنى الآية : ظن الشيطان أنه إذا أغواهم اتبعوه فكان كما ظن بوسوسته فانقادوا لإغوائه وعبدوا الشمس من دون الله إلا فريقا قليلا من المؤمنين صمدوا أمام وسوسة الشيطان وثبتوا على الإيمان.
تمهيــــد :
تحدث القرآن فيما سبق عن داود وسليمان كنموذج للشاكرين ثم تحدث عن سبأ كنموذج لقوم أبطرتهم النعمة فلم يشكروا ربهم فاستحقوا سلب النعمة والعقوبة جزاء كفرهم وتلك سنة من سنن الله العادلة مكافأة المؤمنين ومعاقبة الكافرين.
﴿ وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو في شك وربك على كل شيء حفيظ ﴾.
المفردات :
سلطان : تسلط واستيلاء.
لنعلم : لنعرف ونميز المؤمن بالآخرة من الشاك فيها.
حفيظ : محافظ رقيب.
التفسير :
لم يكن للشيطان عليهم سلطان قاهر لا يملكون مقاومته بل كل ما كان منه هو الإغواء والوسوسة والتزيين وذلك للاختبار والابتلاء ليظهر أمام الواقع من يؤمن بالآخرة فيعصمه إيمانه من الانحراف ومن هو من الآخرة في شك فهو يتأرجح أو يستجيب للغواية بلا عاصم من رقابة الله ولا تطلع لليوم الآخر.
وهذا التعقيب الذي ذكر في ختام قصة سبأ أمر عام ينطبق على قصة كل قوم بل كل فرد في كل مكان وفي كل زمان.
الله خلقنا في هذه الدنيا للاختبار والابتلاء وحذرنا من الشيطان وبين لنا أنه عدو مبين ومع هذا فمنا من يطيعه رغبة في اتباع الهوى، وضعفنا أمام الشهوات والنزوات ومنا من يصبر ويستمسك بهداية الله فيعينه الله.
قال الحسن البصري والله ما ضربهم الشيطان بعصا ولا أكرههم على شيء وما كان إلا غرورا وأماني دعاهم إليها فأجابوه.
﴿ وربك على كل شيء حفيظ ﴾.
أي هون مطلع وشاهد ورقيب فلا يند عنه شيء ولا يغيب ولا يهمل شيئا ولا يضيع وبهذا يتسع مجال التعقيب فلا يعود قاصرا على قصة سبأ وإنما يصلح تقريرا لحال البشر أجمعين فهي قصة الغواية والهداية وملابساتها وأسبابهما ونتائجهما في كل حال.
وفي معنى الآية قوله تعالى : وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم. ( إبراهيم : ٢٢ ).
***
﴿ قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وماله منهم من ظهير( ٢٢ ) ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير( ٢٣ ) ﴾
المفردات :
زعمتم : ظننتم وقلتم إنهم آلهة.
مثقال ذرة : وزن ذرة وقدرها.
وما لهم فيهما من شرك : وليس لهم من شركة في السموات ولا في الأرض.
ظهير : معين.
التفسير :
﴿ قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ﴾.
تكلمت الآيات السابقة عن داود وسليمان كنموذج للشاكرين ثم تكلمت عن قصة سبأ كنموذج للكافرين وهذه الآيات تعود على خطاب المشركين بمكة، ومناقشتهم بشأن الأصنام التي يعبدونها أو الملائكة التي عبدوها فتقول :
قل يا محمد لهؤلاء المشركين ما دمتم مصرين على الشرك وأن الأصنام أو الملائكة لها شفاعة لكم يوم البعث فاعلموا أن الحقيقة غير ذلك وهي أن الذين تدعونهم من دون الله وجعلتموهم لله شركاء لا يملكون وزن ذرة ولا هباءة، ولا شيئا مطلقا في هذا الكون ولم يشاركوا مع الله في خلق أي شيء لأنه غني وقادر ولا يحتاج إلى مشارك وليس الله تعالى منهم ظهير ولا معاون أي وإذا كانوا لا يملكون شيئا ولا يستطيعون جلب النفع ولا ضر فكيف يكونون آلهة تعبد ؟ وذكر السماوات والأرض للتعميم عرفا فيراد جميع الموجودات كما يقال صباحا ومساء لجميع الأوقات وشرقا وغربا لجميع الجهات والمراد نفي قدرة الشركاء على شيء من النفع أو الضر أو الإيجاد أو الإعدام.
قال الزمخشري :
يريد أنهم على هذه الصفة من العجز والبعد عن أحوال الربوبية فكيف يصح أن يدعوا كما يدعى ويرجوا كما يرجى ؟
﴿ ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو الغني الكبير ﴾.
المفردات :
فزع عن قلوبهم : أزيل الخوف عن قلوبهم يقال فزع عنه، مثل قولهم : قردت البعير إذا أزلت قراده والفزع انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف.
التفسير :
كان الكفار يعتقدون أن الأصنام أو الملائكة أو غير ذلك من الآلهة المدعاة تشفع لهم عند الله يوم القيامة، ويقولون :﴿ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى... ﴾. ( الزمر : ٣ ).
فبين القرآن أن الشفاعة لا تكون إلا لمن أذن له الله من نبي مرسل أو ملك مقرب وأن هول القيامة، والخوف من الله يتملك الناس والخلق أجمعين وكذلك الخوف من عدم قبول الشفاعة، فإذا ذهب الخوف ويتأمل الجميع في رضوان الله وسابغ رحمته سأل الأنبياء والمرسلون الملائكة المقربين ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق : أي قالت الملائكة : قال الله تعالى الحق فهو سبحانه الحق وقوله الحق أي الحق الكلي الحق الأزلي الحق اللدني.
﴿ وهو العلي الكبير ﴾ : صاحب الكبرياء والعظمة والملك والتصرف له وحده سبحانه.
من تفسير القرطبي : في صحيح الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قضى الله في السماء أمرا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله : كأنها سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق وهو العلي الكبير قال : والشياطين بعضهم فوق بعض " قال : حديث حسن صحيح.
أي لا تنفع الشفاعة إلا من الملائكة الذين هم اليوم فزعون مطيعون لله تعالى دون الجمادات والشياطين وقد أورد القرطبي كلاما كثيرا في تفسير الآية خلاصته ما يأتي : إنه إذا أذن للشفعاء في الشفاعة، وورد عليهم كلام الله فزعوا لما يقترن بتلك الحال من الأمر الهائل والخوف أن يقع في تنفيذ ما أذن لهم فيه تقصير فإذا سرى عنهم قالوا للملائكة فوقهم وهم الذين يوردون عليهم بالوحي بالإذن :﴿ ماذا قال ربكم ﴾ : أي ماذا أمر الله به ﴿ قالوا الحق ﴾ : وهو أنه أذن لكم في الشفاعة للمؤمنين وهو العلي الكبير فله أن يحكم في عباده بما يريد.
***
﴿ قل من يرزقكم من السموات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين( ٢٤ ) قل لا تسئلون عما أجرمنا ولا نسئل عما تعملون( ٢٥ ) قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم( ٢٦ ) قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم( ٢٧ ) وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون( ٢٨ ) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين( ٢٩ ) قل لكم ميعاد يوم لا تستئخرون عنه ساعة ولا تستقدمون( ٣٠ ) ﴾
المفردات :
من يرزقكم : من السماوات بإنزال المطر ومن الأرض بإنبات النبات.
قل الله : فهذا هو جواب الفطرة.
وإنا أو إياكم : أحدنا على الهدى والآخر على الضلال فنراجع أنفسنا وهذا أبلغ من التصريح وفيه تلطف بالخصم يحمله على التفكير دون تكبر.
تمهيـــد :
مازال السياق مستمرا في تبكيت المشركين وإلزامهم الحجة، وحملهم على التفكير في جدوى عبادة أصنام لا تنفع ولا تضر فكيف يجعلونهم شركاء لله الخالق الرازق.
التفسير :
﴿ قل من يرزقكم من السموات والأرض قل الله وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ﴾
تلفت الآية النظر على الحجج والأدلة على وحدة الألوهية فتقول للكافرين من أهل مكة من يرزقكم من السماء بالمطر والهواء وتسخير الشمس والقمر وسائر الأرزاق المادية والمعنوية ؟ ومن يرزقكم من الأرض بالنبات والسير في الأرض والأرزاق ؟ فإن ترددوا في الإجابة خوف الهزيمة العقلية فأجب أنت قائلا الله هو الرازق إذ ليس لهم من جواب سواه وقد صرحوا بهذا الجواب في قوله تعالى :﴿ قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقول الله فقل أفلا تتقون ﴾. ( يونس : ٣١ ).
﴿ وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ﴾.
نحن نوحد الله وأنتم تعبدون الأصنام فنحن فريقان مختلفان فلابد أن يكون واحد منا على الهدى والحق والآخر في الضلال والباطل وهو طريق يراد به حمل الخصم على التفكير والتدبر دون أن نجيبه بالحقيقة ؟ أو نقول له أنت على الباطل لأنك تكفر بالله وتعبد الأصنام وهذا الأسلوب يقال له أسلوب المنصف وهو ألا ينكر المجادل لمن يجادله ما يغيظه أو يصير حفيظته رجاء هدايته إلى الحق.
تمهيـــد :
مازال السياق مستمرا في تبكيت المشركين وإلزامهم الحجة، وحملهم على التفكير في جدوى عبادة أصنام لا تنفع ولا تضر فكيف يجعلونهم شركاء لله الخالق الرازق.
﴿ قل لا تسئلون عما أجرمنا ولا نسئل عما تعملون ﴾.
المفردات :
عما أجرمنا : أذنبنا.
ولا نسأل عما تعملون : فالمسئولية فردية وكل امرئ بما كسب رهين وهو تلطف آخر.
قل أروني أعلموني بالدليل عن هذه الأصنام ماذا خلقت في هذا الكون حتى تستحق العبادة مع الله.
التفسير :
كان المشركون يتهمون المسلمين بالخروج على المألوف والتحول عن دين الآباء والأجداد إلى الدين الجديد ويقولون هؤلاء هم الصابئة أي الخارجين على الدين المألوف وهنا يوجه القرآن الرسول أن يقول لهم كل منا مسئول عن نفسه يوم القيامة، فحتى لو كنا قد ارتكبنا جريمة باعتناق الإسلام فأنتم لن تتحملوا تبعة هذا الجرم ونحن لن نتحمل تبعة أعمالكم فرووا رأيكم وفكروا في مستقبلكم فالتبعة فردية وكل امرئ بما كسب رهين.
ونلاحظ أنه أضاف الإجرام إلى المؤمنين وأضاف العمل إلى الكافرين استمرار في طريقة القرآن الحكيمة في استلال الضغينة وعدم إغضاب الخصم أو إزعاجه حتى لا يحمله ذلك على الكبرياء الكاذب وعدم التدبر والتأمل.
تمهيـــد :
مازال السياق مستمرا في تبكيت المشركين وإلزامهم الحجة، وحملهم على التفكير في جدوى عبادة أصنام لا تنفع ولا تضر فكيف يجعلونهم شركاء لله الخالق الرازق.
﴿ قل يجمع بيننا وربنا ثم يفتتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم ﴾.
التفسير :
تستمر كلمة قل : لفتا لهم واستنهاضا لهمهم.
والمعنى : قل لهم : إن يوم القيامة هو يوم الجمع حيث يجمع الله الجميع من المؤمنين والكافرين ليقضي بينهم بحكمه فهو الحاكم العادل وهو العليم بأهل الهدى والضلال ويطلق الفاتح على القاضي والحاكم لنه يفتح طريق الحق ويظهره.
قال القرطبي في تفسير الآية :
﴿ قل يجمع بيننا ربنا... ﴾ يريد يوم القيامة.
﴿ ثم يفتح بيننا بالحق... ﴾ أي يقضي فيثيب المهتدي ويعاقب الضال.
﴿ وهو الفتاح ﴾ : أي القاضي بالحق ﴿ العليم ﴾ : بأحوال الخلق.
تمهيـــد :
مازال السياق مستمرا في تبكيت المشركين وإلزامهم الحجة، وحملهم على التفكير في جدوى عبادة أصنام لا تنفع ولا تضر فكيف يجعلونهم شركاء لله الخالق الرازق.
﴿ قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم ﴾.
المفردات :
كلا : ردع وزجر فلن تكون الأصنام أهلا للعبادة.
بل هو الله : الخالق الرازق العزيز الحكيم هو أهل للعبادة وحده.
التفسير :
يراد بهذه الآية بيان فائدة هؤلاء الشركاء أي الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر.
ومعنى الآية : أروني هذه الآلهة التي صيرتموها لله شركاء ونظراه معادلين حتى أراهم وأشاهد ما يقدرون عليه إن الحق واضح وغن هذه الأصنام لا تقدر على شيء فارتدعوا عن هذا الشرك فلا نظير ولا عديل لله بل هو الله الواحد الأحد المتفرد بالخلق والألوهية ذو العزة التي قهر بها كل شيء الحكيم في أقواله وأفعاله حكمة باهرة لا يعلوها شيء.
تمهيـــد :
مازال السياق مستمرا في تبكيت المشركين وإلزامهم الحجة، وحملهم على التفكير في جدوى عبادة أصنام لا تنفع ولا تضر فكيف يجعلونهم شركاء لله الخالق الرازق.
﴿ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾.
المفردات :
كافة للناس : لجميع الناس عربهم وعجمهم.
بشيرا : للمؤمنين بالجنة.
ونذيرا : للكافرين بالنار.
التفسير :
أرسل الله كل رسول إلى قومه وختم الله الرسالات بمحمد صلى الله عليه وسلم فجعل رسالته عامة للعرب والعجم والإنس والجن وتضمنت رسالته عوامل خلودها بما اشتملت عليه من الأصول الصحيحة في العقيدة والعبادات والمعاملات واليسر والحق على الاجتهاد والاستنباط فيما لم يرد فيه نص.
والمعنى : لقد جعلنا رسالتك عامة للناس أجمعين تبشر من أطاعك بالجنة وتنذر من عصاك بالنار ولكن أكثر لا يعلمون حقيقة رسالتك فيكذبوك ولا يهتدون بهدايتك.
قال تعالى :﴿ وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ﴾. ( يوسف : ١٠٣ ).
وقد دل القرآن على عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس أجمعين كما دلت على ذلك السنة المطهرة.
قال تعالى :﴿ قل يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا... ﴾ ( الأعراف : ١٥٨ ).
وقال تعالى :﴿ تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ﴾. ( الفرقان : ١ ).
وقال ابن عباس فيما رواه ابن أبي حاتم عن الله فضل محمدا على أهل السماء وعلى الأنبياء قالوا يا ابن عباس فبم فضله الله على الأنبياء ؟ قال رضي الله عنه إن الله تعالى قال :﴿ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم... ﴾ ( إبراهيم : ٤ ) وقال للنبي محمد صلى الله عليه وسلم :﴿ وما أرسلناك إلا كافة للناس... ﴾ فأرسله إلى الجن والإنس.
قال ابن كثير : وهذا الذي قاله ابن عباس قد ثبت في الصحيحين عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وأرسل كل نبي إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة ". x
وأخرج مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بعثت إلى الأسود والأحمر " xi قال مجاهد يعني الجن والإنس وقال غيره يعني العرب والعجم أه.
وقال القاسمي في تفسيره : والتحقيق في معنى عموم إرساله وشمول بعثته هو مجيئه بشرع ينطبق على مصالح الناس وحاجاتهم أينما كانوا وأي زمان وجدوا مما لم يتفق في شرع قبله قط، ولهذا ختمت النبوات بنبوته صلى الله عليه وسلم أه.
تمهيـــد :
مازال السياق مستمرا في تبكيت المشركين وإلزامهم الحجة، وحملهم على التفكير في جدوى عبادة أصنام لا تنفع ولا تضر فكيف يجعلونهم شركاء لله الخالق الرازق.
﴿ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين... ﴾
التفسير :
يقول كفار مكة، متى تأتي هذه القيامة أو متى يجيء العذاب الذي تخوفوننا به إن كنتم صادقين في أن محمدا رسول الله من عند الله وهذا لون من ألوان الاتهام والتهكم والخلط بين وظيفة الرسول التي هي البلاغ والتبشير والإنذار وما يختص به الله وهو علم الساعة أو معرفة وقت جيء العذاب وهذه الآية كقوله تعالى :﴿ يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين ءامنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد ﴾. ( الشورى : ١٨ ).
تمهيـــد :
مازال السياق مستمرا في تبكيت المشركين وإلزامهم الحجة، وحملهم على التفكير في جدوى عبادة أصنام لا تنفع ولا تضر فكيف يجعلونهم شركاء لله الخالق الرازق.
﴿ قل لكم ميعاد يوم لا تستئخرون عنه ساعة ولا تستقدمون ﴾.
المفردات :
ميعاد يوم : هو يوم القيامة.
التفسير :
إن الساعة أو الموت أو القتل يوم غزوة بدر أو العقوبة التي تصيبكم جزاء كفركم لها ميعاد لا يعلمه إلا الله وإذا جاء هذا الميعاد فلا يتقدم ساعة ولا يتأخر.
قال تعالى :﴿ فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ﴾. ( الأعراف : ٣٤ ).
قال في التفسير المنير : قل لهم يا محمد لكم ميقات معين هو يوم البعث أو القيامة لا يزيد ولا ينقص ولا تتقدمون عنه ولا تتأخرون وهو آت لا محالة وعلمه عند الله لم يطلع عليه أحدا من خلقه. أه.
قال تعالى :﴿ وما نؤخره إلا لأجل معدود*يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد ﴾. ( هود : ١٠٤-١٠٥ ).
***
﴿ وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرءان ولا بالذي بين يديه ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم على بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين( ٣١ ) قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين( ٣٢ ) وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون( ٣٣ ) ﴾
المفردات :
الذين كفروا : المشركون من أهل مكة.
ولا بالذي بين يديه : من الكتب السابقة الدالة على البعث كالتوراة والإنجيل.
المنافقون : المنكرون للبعث.
موقوفون : محبوسون في موقف الحساب.
يرجع بعضهم إلى بعض القول : يتحاورون ويتراجعون الكلام فيما بينهم باللوم والعتاب.
اللذين استضعفوا : في الدنيا من الكافرون. وهم الأتباع.
الذين استكبروا : الرؤساء والقادة.
لولا انتم : لولا إضلالكم وصدكم لنا عن الإيمان وإغراؤكم لنا بالكفر.
لكنا مؤمنين : بالتباع الرسول.
تمهيـــد :
تستعرض الآيات موقف المشركين من أهل مكة، فقد علموا أن التوراة والإنجيل والكتب السماوية ذكرت البعث والحشر والحساب والجزاء. فقالوا : لن نؤمن بالقران ولا بالذي بين يديه من الكتب التي سبقته. ثم تستعرض الآيات موقف المحاورة بين الأتباع الفقراء وبين المتبوعين الأغنياء والسادة. كل فريق يلقى التبعة على الآخر. ثم يعم الندم جميعهم ويلقى كل فريق منهم جزاء عمله.
التفسير :
﴿ وقال اللذين كفروا لن نؤمن بهذا القران ولا بالذي بين يديه ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين ﴾.
روى أن أهل مكة سألوا أهل الكتاب عن محمد فاخبروهم أنهم يجدون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتبهم فأغضبهم ذلك وكفروا بالقرآن وبالكتب السابقة عليه وقيل إن الذي كفروا به هو يوم القيامة أي أنهم كفروا بالقرآن وبما جاء به من البعث والجزاء.
ومعنى الآية : تعنت الكافرين وأعلنوا صدودهم وكفرهم بالقرآن وبما سبقه من الكتب السماوية هذا في الدنيا أما في الآخرة فلو ترى يا كل من هو أهل للرؤية مشهد للقيامة، وترى الظالمين الكافرين محجوزين عند الله الذي بيده الخلق والأمر وتبدأ الخصومة الشديدة بين الأتباع البسطاء بين القادة الأقوياء كل فريق يريد أن يتلقى التبعة على الآخر.
يقول الفقراء الذين تنازلوا عن استخدام عقولهم وأفكارهم اتباعا للقادة الكبراء في الدنيا يقولون للذين استكبروا عن الإيمان لولا أنكم كنتم قدوة لنا كلنا مؤمنين بالرسل وباليوم الآخر وكانت لنا نجاة من هذا العذاب المهين في هذا اليوم.
تمهيـــد :
تستعرض الآيات موقف المشركين من أهل مكة، فقد علموا أن التوراة والإنجيل والكتب السماوية ذكرت البعث والحشر والحساب والجزاء. فقالوا : لن نؤمن بالقران ولا بالذي بين يديه من الكتب التي سبقته. ثم تستعرض الآيات موقف المحاورة بين الأتباع الفقراء وبين المتبوعين الأغنياء والسادة. كل فريق يلقى التبعة على الآخر. ثم يعم الندم جميعهم ويلقى كل فريق منهم جزاء عمله.
﴿ قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين ﴾.
المفردات :
صددناكم : منعناكم.
بل كنتم مجرمين : ظلمة فاسدين مفسدين.
التفسير :
دافع الكبراء عن أنفسهم فقالوا للضعفاء هل سلبنا عقولكم ؟ " هل منعناكم من التفكير ؟ نحن عرضنا عليكم الأمر ولكنكم كنتم مجرمين مشركين مصرين على الفكر باختياركم وما زدنا على أن دعوناكم فاستجبتم لنا راغبين في إشباع شهواتكم في الدنيا معرضين عن دعوة الرسل وهدايات الأنبياء.
تمهيـــد :
تستعرض الآيات موقف المشركين من أهل مكة، فقد علموا أن التوراة والإنجيل والكتب السماوية ذكرت البعث والحشر والحساب والجزاء. فقالوا : لن نؤمن بالقران ولا بالذي بين يديه من الكتب التي سبقته. ثم تستعرض الآيات موقف المحاورة بين الأتباع الفقراء وبين المتبوعين الأغنياء والسادة. كل فريق يلقى التبعة على الآخر. ثم يعم الندم جميعهم ويلقى كل فريق منهم جزاء عمله.
﴿ وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن تكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ﴾.
المفردات :
مكر الليل والنهار : صدنا المكر والخديعة والاحتيال علينا بالليل والنهار.
أندادا : شركاء ونظراء لله في العبادة. نعبدهم معه.
واسروا الندامة : اضمر الفريقان الندم على ما فعلا من الضلال والإضلال، واسر : من الأضداد بمعنى أخفى. وبمعنى اظهر.
الأغلال : جمع غل وهى حديدة تجعل في عنق المجرم.
هل يجزون : ما يجزون إلا ما كانوا يفعلون.
التفسير :
تقدم الضعفاء بحجة حقيقية للذين استكبروا فقالوا أنتم لم تحملونا على الكفر حملا ولكنكم زينتم لنا الغواية وحسنتم لنا الكفر وقدمتم لنا كل خديعة ومكر وحيلة، حتى نتقيد بالكفر ولا نفكر في الانتقال إلى الإيمان وكررتم أقوالكم تدعوننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا من الشركاء والأصنام والأوثان وهنا تظهر العذاب الأليم الذي نزل بالفري قين فيخفون الندم على ما فعلوا في الدنيا لكن الآثار الحزن ظاهرة على الوجوه حين تجعل القيود وأغلال الحديد والسلاسل تجمع بين أيدي الكافرين وأعناقهم ويتعرضون للذل والمهانة والعذاب وهذا عقاب عادل جزاء كفرهم وطغيان الكبراء في الدنيا وإهمال الضعفاء لكرامتهم ولعدم استخدام عقولهم ورفض دعوة الظالمين لهم فاستحق الجميع العقاب.
﴿ هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ﴾.
أي ما يجزون إلا ما كانوا يعملون فالجزاء بحسب العمل إن كان خيرا فخيرا وإن كان شرا فشر وكانت أعمالهم كلها شرا وظلما وباطلا.
هذا وجواب لو في أول السياق محذوف يقدر بمعنى مستخلص من المشهد مثل : لرأيت أمرا فظيعا واكتفى بعرض المشهد عن ذكره فإنه أتم وأشمل.
***
﴿ وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون( ٣٤ ) وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين( ٣٥ ) قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون( ٣٦ ) وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من ءامن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات ءامنون( ٣٧ ) والذين يسعون في ءاياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون( ٣٨ ) قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين( ٣٩ ) ﴾
المفردات :
مترفوها : رؤساؤها المنعمون فيها من أهل المال والجاه.
كافرون : لا نؤمن برسول ولا نتبعه.
التفسير :
﴿ وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون ﴾.
المترفون هم أصحاب المال والغنى ومع الترف وركوب الشهوات والملذات هؤلاء يضيقون برسالات السماء حيث عن الرسالات تفرض فرائض وأوامر وتبين الحلال والحرام وهؤلاء يحبون الانطلاق في شهواتهم لذلك رأينا الفقراء هم أتباع الرسل لأن الرسالات تشتمل على بيان حقوق الإنسان من حرية ومساواة وعدالة اجتماعية ولأن قلوب الفقراء خالية من الانهماك في الملذات والشهوات وهم عادة أتباع الرسل وفي حديث الصحيحين الطويل أن هرقل ملك الروم سأل أبا سفيان عن محمد صلى الله عليه وسلم فقال هرقل : هل يتبعه ضعفاء الناس أم أشرافهم ؟ قال أبو سفيان : بل ضعفاؤهم قال هرقل : هم أتباع الرسل وسيملك محمد موضع قدمي هاتين. xii
وفي حديث رواه ابن أبي حاتم أن رجلا كان يقرأ في كتب السابقين سأل شريكا له عن محمد، فكتب إليه شريكه أنه لم يتبعه أحد من قريش إنما يتبعه أراذل الناس ومساكينهم، فترك الرجل تجارته بالساحل وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال " إلام تدعو ؟ قال " أدعو إلى كذا وكذا " قال أشهد أنك رسول الله قال النبي صلى الله عليه وسلم " وما علمك بذلك " ظ قال : إنه لم يبعث نبي إلا اتبعه أراذل الناس ومساكينهم قال فنزلت هذه الآية :﴿ وما أرسلناك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون ﴾ قال : فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم " أن الله عز وجل قد أنزل تصديق ما قلت ".
وقد تكلم القرآن عن الترف والمترفين في أكثر من آية فقال عن قوم صالح :﴿ قال الذين استكبروا إنا بالذي ءامنتم به كافرون ﴾. ( الأعراف : ٧٦ ).
وقال جل وعلا :﴿ وكذلك جعلنا في كل قرية أكبر مجرميها ليمكروا فيها... ﴾ ( الأنعام : ١٢٣ ).
وقال تعالى :﴿ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ﴾. ( الإسراء : ١٦ ).
وقد حكى القرآن الكريم عن قوم نوح قولهم له :﴿ قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ﴾. ( الشعراء : ١١١ ).
﴿ وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ﴾.
المفردات :
أكثر أموالا : من المؤمنين فنحن أكثر كرامة عند الله منهم فلن نعذب في الآخرة.
التفسير :
هكذا ينظر المترفون إلى نعم الله عليهم على أنها مكافأة من الله لهم وقد فضلهم الله في الدنيا لكرامتهم عليه ولن يعذبهم في الآخرة لأنهم أهل الامتياز والتقدير فهم في الدنيا أكثر أموالا وأولادا وأتباعا من المؤمنين وذلك في تقديرهم لعلو منزلتهم عند الله وما كان الله ليعطيهم ذالك في الدنيا ثم يعذبهم في الآخرة وهيهات لهم ذلك، فإن مقاييس الدنيا مختلفة عن حسابات الآخرة فالله تعالى قد يعطى الظالمين استدراجا لهم حتى يستحقوا العذاب عن جدارة واستحقاق وقد يمتحن المؤمنين بالفقر أو المصائب ليظهر إيمانهم وصبرهم ويتبين استحقاقهم للفضل والأجر وحسن المثوبة.
وفي القرآن الكريم :﴿ أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ﴾. ( المؤمنون : ٥٥-٥٦ ).
﴿ قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾.
المفردات :
يبسط الرزق : يوسعه امتحانا.
ويقدر : يضيقه ابتلاء.
لا يعلمون : الحكمة في التقتير على البعض والتوسيع على البعض.
التفسير :
إن الغنى والثروة والمال والرياش ليست دليلا على محبة الله للعبد، وكذلك الفقر ليس دليلا على بغض الله له فالله تعالى له حكم إلهية عليا فهو يبسط الرزق لمن يشاء ويضيق ويقدر على من يشاء بحكمته العليا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك ألا ترى أنه سبحانه وتعالى ربما وسع على العاصي وضيق على المطيع وربما عكس الأمر وقد يوسع على المطيع والعاصي تارة، ويضيق عليهما أخرى يفعل كل ذلك بحسب ما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة، التي قد نعلمها وربما خفي علينا أمرها.
وفي الحديث الصحيح " أشدكم بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل ". xiii
انظر على رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم وغلى أولى العزم من الرسل كانوا أشد الناس بلاء وانظر إلى قارون وفرعون وهامان كانوا في غنى وملك وعظمة، لكن العاقبة كانت للمرسلين وقد أهلك الله الكافرين.
يقول الشاعر :
ومن الدليل على القضاء وحكمه بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
ويقول آخر :
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأفهام حائرة وصير العالم النحرير زنديقا
﴿ وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من ءامن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات ءامنون ﴾.
المفردات :
زلفى : قربى.
جزاء الضعف : الثواب المضاعف والضعف يعني الزيادة.
الغرفات : غرفات الجنة ومنازلها العالية.
آمنون : من المرض والموت وكل مكروه.
التفسير :
ليست الأموال ولا الأولاد ولا الجاه ولا السلطان تعني أن العبد مقرب من الله وذو وجاه ومنزلة لكن المؤمن الصالح الذي صدق في إيمانه وأعماله الصالح هو الذي يضاعف له الثواب في الآخرة ويدخل الجنة في أعلى الدرجات حال كونه آمنا من كل بأس أو خوف أو أذى وحرمان.
روى مسلم وأحمد وابن ماجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله لا ينظر على صوركم وأموالكم ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ". xiv
فالخلاصة : أن لله حكمة لا يعلمها إلا هو بالنسبة للغنى والفقر قال تعالى :﴿ انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ﴾. ( الإسراء : ٢١ ).
أي كما هم متفاوتون في الدنيا هذا فقير مدقع وهذا غنى موسع عليه فكذلك في الآخرة هذا في الغرفات في أعلى الدرجات وهذا في النار في أسفل الدركات.
وقد أخرج مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ك " قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه ". xv
وروى الترمذي عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء ". xvi
وروى ابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن في الجنة لغرفا ترى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها " فقال أعرابي لمن هي ؟ قال صلى الله عليه وسلم " من طيب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى بالليل والناس نيام ". xvii
﴿ والذين يسعون في ءاياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون ﴾.
المفردات :
يسعون في آياتنا : يمشون مسرعين في إبطال القرآن والرد عليه.
معاجزين : مقدرين عجزنا وأنهم يفوتوننا فلم نعاقبهم.
التفسير :
الذين يعملون بجد في إبطالا آياتنا والصد عن كتاب الله وإلهاء الناس بالباطل وقذف الوهن والرعب في قلوب المؤمنين ليشغلوهم عن الإيمان والقرآن ويظنون أنهم معاجزون لنا أي فاتنون لنا، لا ندركهم ولا نعاقبهم هؤلاء المغرورون في العذاب محضرون أي كأنك بهم وهم محضرون في جهنم يعذبون فيها أبدا.
﴿ قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين ﴾.
المفردات :
يخلفه : يعطي بدله.
خير الرازقين : خير المعطين للرزق.
التفسير :
أكد القرآن هنا ما سبق أن قرره.
ومعنى الآية : إن الله تعالى يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء لحكمة إلهية عليا، فقد يمتحن الإنسان بالغنى كما يمتحن آخر بالفقر أو البلاء.
قال تعالى :﴿ ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ﴾. ( الأنبياء : ٣٥ ).
﴿ وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين ﴾.
تكفل الله أن يعوض من أخرج نفقة في سبيل الله فعطاء الله متجدد وفي الحديث القدسي عند مسلم " يقول الله تعالى يا ابن آدم أنفق أُنفق عليك " xviii
وروى الشيخان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا ". xix
﴿ وهو خير الرازقين ﴾
أي هو سبحانه أفضل من رزق، وأكرم من أعطى فإذا وزع السلطان أرزاق الجنود ومرتباتهم أو وزع الرجل أموالا على أولاده أو وزع الحاكم الأعطيات والمنح فذلك من رزق الله أجراه على أيدي هؤلاء وهو خالق الرزق وخالق الأسباب التي ينتفع بها المرزوق بالرزق.
قال القرطبي ما أنفق في معصية فلا خلاف انه غير مثاب عليه ولا مخلوف له وأما البنيان فما كان منه ضروريا يكن الإنسان ويحفظه فذلك مخلوف عليه ومأجور ببنيانه.
وقال الفخر الرازي : وخيرية الرزق في أمور :
أحدها : ألا يؤخر عن وقت الحاجة.
والثاني : ألا ينقص عن قدر الحاجة.
والثالث : ألا ينكده بالحساب.
والرابع : ألا يكدره بطلب الثواب والله تعالى كذلك.
فهو سبحانه عالم وقادر وهو غني واسع هو كريم يرزق من يشاء بغير حساب وهو سبحانه يعطي عباده ولا ينتظر منهم مكافأة.
قال تعالى :﴿ يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ﴾. ( فاطر : ١٥ ).
***
﴿ ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون( ٤٠ ) قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون( ٤١ ) فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون( ٤٢ ) ﴾
المفردات :
جميعا : عابدين ومعبودين.
أهؤلاء إياكم : أهؤلاء خصوكم بالعبادة دوني.
التفسير :
﴿ ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ﴾.
واذكر – أيها النبي – يوم يحشرون الله المستكبرين والمستضعفين، وما كانوا يعبدون من دون الله ثم يقول الله للملائكة : أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون. آي : أرضيتم بعبادتهم لكم ؟
وهو سؤال تقريري يراد به توبيخ المشركين وإذلالهم، حيث تشهد الملائكة أنهم تمارضوا عن عبادتهم، على حد قول عيسى يوم القامة، وتبرئه من عبديه.
قال تعالى :﴿ وإذ قال الله ياعيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق... ﴾ ( المائدة : ١١٢ ). والمقصود من السؤال والجواب، بغلام المشركين بخيبة أملهم، وضياع عبادتهم، حيث أن الملائكة تنزه الله تعالى عن الشريك والمثيل، وتعترف لله وحده بالوحدانية والملك، وان عبادتهم وولائهم لله وحده، وتقربهم من الله، لا من هؤلاء العابدين.
﴿ قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ﴾.
المفردات :
سبحانك : تنزيها لله عن الشرك.
أنت ولينا : أنت ربنا الذي نواليه ونطيعه، ونخلص له في العبادة.
يعبدون الجن : آي : الشياطين، حيث أطاعهم في عبادة الله.
التفسير :
أي : قالت الملائكة لله تعالى : تنزهت يا ربنا عن الشريك والمثيل، أنت الذي نواليه بالطاعة والعبادة إذ لا موالاة بيننا وبينهم، وما رضينا عن عبادتهم لنا، إن طاعتهم وعبادتهم كانت للجن والشياطين، الذين زينوا لهم عبادة للأصنام والأوثان.
وقال ابن عطية : في الأمم السابقة من عبد الجن وفى القرآن ما يشير إلى ذلك قال تعالى :﴿ وجعلوا لله شركاء الجن... ﴾( الأنعام : ١٠٠ ).
﴿ أكثرهم بهم مؤمنون ﴾.
أي : مصدقون فأطاعوهم في عبادة الأصنام وعصوك وعصوا رسلك فلم يعبدوك ولم يطيعوا رسلك.
وذكر أبن الوردي في تاريخه أن سبب حدوث عبادة الأصنام في العرب أن عمر بن لحى مر بقوم في الشام فرآهم يعبدون الأصنام، فسألهم فقالوا له هذه أرباب نتخذها على شكل الهياكل العلوية فنستنصر بها ونستقى فتبعهم وأتى بصنم معه في الحجاز وسول للعرب عبادته فعبدوه فاستمرت عبادة الأصنام فيهم إلى أن جاءت عبادة الأصنام.
﴿ فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون ﴾.
المفردات :
فاليوم لا يملك بعضكم ببعض : فاليوم لا يملك العابدون للمعبودين.
نفعا : شفاعة ونجاة.
ولا ضرا : عذابا وهلاكا.
للذين ظلموا : أشركوا غير الله في عبادته، من الملائكة والأنبياء، أو الأولياء والصالحين.
التفسير :
فاليوم يوم القيامة لا يملك العابدون للعابدين نفعا ولا ضرا، ولا شفاعة ولا نصرا إذ الملك لله وحده، وقد تحقق العابدون للأصنام والجن والملائكة وكل ما سوى الله باليأس والإفلاس وانقطاع الأمل، ويقال للمشركين الذين كذبوا بالبعث والحساب والجزاء ادخلوا جهنم وصلوا عذابها وذوقوا لهيبها تلك التي كنتم تكذبون بها في الدنيا.
***
﴿ وإذ تتلى عليهم ءاياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد ءاباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين( ٤٣ ) وما ءاتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير( ٤٤ ) وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشر ماء أتينهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير( ٤٥ ) ﴾.
المفردات :
آياتنا بينات : آيات القرآن واضحة ظاهرة المعنى بينة الدلالة
قالوا ما هذا إلا رجل : ما محمد إلا رجل من الرجال.
يصدكم : بصرفكم ويمنعكم
عما كان يعبد آباؤكم : من الأصنام.
إفك مفترى : كذب مختلق.
للحق : للقرآن أو دين الإيلام.
سحر مبين : محمد ساحر والقرآن سحر ظاهر.
التفسير :
﴿ وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد ءاباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين ﴾.
يتجه الكفار إلى النيل من ثلاثة أشياء في هذه الآية :
١- الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.
٢- القرآن الكريم.
٣- الإسلام.
ومعنى الآية : إذ قرأت عليهم آيات القرآن واضحات مشتملة على التشريح والآداب والقصص وألوان البيان قال كفار مكة : محمد ليس رسولا بل هو رجل مثلنا يريد أن يزهدنا في عبادة الأصنام ويصرفنا عن عبادة الآلهة التي كان آباؤنا يعبدونها.
وقالوا : إن القرآن كذب مختلق وليس وحيا من الله وقالوا عن الإسلام ودعوته – وهو حق مبين : ما هذا إلا سحر واضح فمحمد ساحر والقرآن سحر يستولي على الناس ويأخذ بالألباب وفيه قوة خارقة هي السحر وليس الوحي.
لقد كان للقرآن الكريم أثره البالغ في نفوس العرب من جهة بلاغته وفصاحته وبيانه واشتماله على أخبار السابقين وعلى ما في الكون من جمال وجلال واشتماله على أخبار القيامة والحساب والجنة والنار مع صدق القرآن وأثره في زلزلة العقائد الفاسدة ومناقشة العقول والألباب، وقد أحسن كبراء مكة بهذا الصدق وذلك التأثير فادعوا أن القرآن سحر يؤثر مع أنهم كانوا يتسللون لوذا للاستماع إلى القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم ليلا فإذ تقابلوا وواجه بعضهم بعضا تلاوموا واتفقوا ألا يعودوا للاستماع إلى القرآن الكريم خشية أن يراهم الضعفاء والأتباع من المشركين، فيميلوا إلى سماع القرآن الكريم واتباع النبي الأمين ولذلك كثر تخبط القادة من المشركين في توجيه التهم للقرآن الكريم والرسول الأمين ومن هذه التهم أن القرآن سحر ينزع من آمن به من بين أهله وعشيرته ويفرق بين الأخ وأخيه الابن وأبيه ولو صدقوا مع أنفسهم وما بداخلهم لقالوا إنه وحي من الله تعالى لا يستطيع بشر أن يأتي بمثله.
﴿ وما ءاتينهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير ﴾.
المفردات :
كتب يدرسونها : يقرءونها فأباحت لهم الشرك وأذنت لهم فيه.
من نذير : من رسول يدعوهم إلى الشرك لقد اختلقوا الشرك ولم ينزل به كتاب ولم يرسل به رسول
التفسير :
آي : كيف يتمسكون بتقليد الآباء والأجداد في عبادة الأصنام وهي عبادة باطلة لم ينزل بها كتاب سماوي ولم يرسل بها رسول من عند الله، لقد كان أولى بهم أن يتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم، الذي أرسله الله وأنزل عليه القرآن الكريم.
وتشير الآية إلى زمن الفترة السابقة على الرسالة المحمدية حيث خفيت معالم رسالة إبراهيم وإسماعيل لبعد العهد وطول المدة، وعبادة تماثيل ترمز لملكوت السماء ثم انقطاع الصلة مع طول العهد وبقاء الكفار على عبادة الأصنام قصدا بدون اعتماد على كتب يتدارسون شرائعها ولا اتباع لنبي ينذرهم عقاب الله إن خالفوا أوامره.
وفي معنى الآية قوله تعالى :﴿ أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به مشركون ﴾( الروم : ٣٥ ).
وقوله تعالى :﴿ أم ءاتينهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون ﴾. ( الزخرف : ٢١ ).
وقوله تعالى :﴿ أم لكم كتاب فيه تدرسون إن لكم فيه لما تخيرون ﴾. ( القلم ٣٧، ٣٨ ).
وقوله تعالى :﴿ لتنذر قوما ما أنذر ءاباؤهم فهم غافلون ﴾. ( يس : ٦ ).
﴿ وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشر ما ءاتينهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير ﴾.
المفردات :
وما بلغوا معشر ما ءاتيناهم : لم يبلغ أهل مكة عشر كما ءاتينا الأمم السابقة من القوة وطول العمر وكثرة المال كعاد وثمود ونحوهما.
فكيف كان نكير : فكيف كان إنكاري عليهم والاستفهام للتهويل آي : كان إنكاري شديدا بالعذاب والعقوبة.
التفسير :
أي : لاتحزن يا محمد على تكذيب قومك لك فإن هذه جبلة وطبيعة في البشر قال تعالى :﴿ وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ﴾. ( يوسف : ١٠٣ ).
لقد كذب قبلهم كثير من الأمم مثل أقوام نوح وهود وصالح وكذب موسى وعيسى، وقد كان هؤلاء السابقون أهل صناعة ومال وعمران وبلغوا في الحضارة والغنى مبلغا كبيرا لم يبلغ أهل مكة عشر ما بلغوا من الغنى والثروة والصناعة، بل ربما لم يبلغوا عشر معشار من سبقهم من المكذبين أي ١% من غنى وتفوق من سبقهم، ومع هذا الغنى والجاه للسابقين لما كذبوا الرسول أنزل الله بهم أشد العذاب، فمنهم من أخذتهم الصيحة ومنهم من خسف الله به الأرض ومنهم من غرق بالغرق أو الطوفان أو غير ذلك من ألوان العذاب فليعتبر أهل مكة بما أصاب من قبلهم وليرتدعوا عن الشرك خشية أن يصيبهم ما أصاب المكذبين.
***
﴿ قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكرون ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد( ٤٦ ) قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا لله وهو على كل شيء شهيد( ٤٧ ) قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب( ٤٨ ) قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد( ٤٩ ) قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربى إنه سميع قريب( ٥٠ ) ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب( ٥١ ) وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد( ٥٢ ) وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد( ٥٣ ) وحيل بينهم وما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب( ٥٤ ) ﴾.
المفردات :
أعضكم بواحدة : أذكركم وأحذركم بكلمة واحدة هي :
أن تقوموا لله : أن تقوموا في طلب الحق بالفكرة الصادقة أي : تتجهوا وتهتموا بالبحث عن الحقيقة وليس المراد به القيام الذي يقابل العقود.
مثنى وفرادى : اثنين اثنين، وواحد واحد
ثم تتفكرون : تنظروا في أمر حقيقة النبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من القرآن
ما بصاحبكم من جنة : ليس بمحمد من جنون ولا سحر بل هو الصدق والوحي.
التفسير :
﴿ قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكرون أما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ﴾.
حث الإسلام على استخدام العقل والفكر والرأي والتدبر والتأمل في هذا الخلق وذلك الوجود، وفي دين الإسلام والرسول محمد صلى الله عليه وسلم وهذه دعوة إلى استخدام العقل والفكر والمعنى : قل لهم يا محمد : إنما أقدم لكم نصيحة واحدة هي أن تتجهوا إلى الله مخلصين له حال كونكم اثنين اثنين أو واحد واحد، ثم تتفكرون وتتأملون في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فليس به جنون أو شعر أو سحر أو سفه أو اختلاط أو غير ذلك من الدواعي التي يرددها مشركو مكة بألسنتهم دون اقتطاع بها من قلوبهم فمحمد صادق أمين ورسول كريم يدعو الناس إلى دين الله وينذر الكافرين الجاحدين للإيمان بالعذاب الشديد يوم القيامة.
وقوله تعالى :﴿ بين يدي عذاب شديد ﴾.
أي : إن الرسالة المحمدية جاءت خاتمة الرسالات وقد أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم بين يدي الساعة روى الإمام أحمد بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : بعثت أنا والساعة جميعا إن كادت لتسبقني. xx
والحديث يشير إلى قصر مدة الدنيا فضلا عن مدة الرسالة الخاتمة التي تختم بها هذه الدنيا.
﴿ قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجرى إلا على الله وهو على كل شيء شهيد ﴾.
المفردات :
ما سألتكم من أجر : ما طلبت منكم من أجر ومال في مقابل تبليغ للرسالة.
فهو لكم : فهذا المال مردود عليكم كما تقول لشخص : ما أخذت منك من مال فخذه وأنت تعلم أنك لم تأخذ منه شيئا ويحتمل أن يكون المعنى فالأجر لكم إن أمنتم بالله ورسوله.
إن أجرى إلا على الله : ما ثوابي إلا على الله يقذف بالحق : يلقيه وينزله ليرمي به الباطل.
التفسير :
إني لم أسألكم على تبليغ الرسالة أجرا ولا مالا إنما عملت عملي في دعوتكم للهداية خالصا لوجه الله، وهو سبحانه مطلع على كل شيء وهو شهيد ومراقب ومحاسب ومجاز على كل شيء، قال الزمخشرى : وفي الآية معنيان :
أحدهما : نفي سؤاله الأجر رأسا، كما يقول الرجل لصاحبه : إن أعطيتنى شيئا فخذه، وهو يعلم أنه لم يعطه شيئا ولكن يريد به عدم الأخذ لتعليقه الأخذ على مالم يحدث وهو الإعطاء.
والمعنى الثاني : أنه يريد بالأجر الهداية إلى الإيمان أي : ما أطلب على تبليغ الرسالة أجرا إلا هدايتكم إلى الله على قوله تعالى :﴿ قل ما أسئلكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ﴾ ( الفرقان : ٥٧ ).
﴿ قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب ﴾.
التفسير :
إن الله تعالى يرسل رسالته ويختار لها من يشاء من عباده وهو عالم بمن يصلح لهذه الرسالة.
قال تعالى :﴿ يلقي الروح من أكره على من يشاء من عباده ﴾. ( غافر : ١٥ ).
وقال ابن عباس :
يقذف الباطل بالحق كقوله تعالى :﴿ بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ﴾... ( الأنبياء : ١٨ ).
وقيل في معنى الآية :
إن الله يرسل الإسلام إلى أقطار الأفاق فيكون وعدا بإظهار الإسلام ونشره وهو سبحانه علام الغيوب وفي الحديث الشريف : " ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار بعز عزيز أو بذل ذليل ". xxi
وقد أنجز الله وعده فامتد نور الإسلام إلى آفاق المعمورة ولم تمض عشر سنوات على وفات الرسول صلى الله عليه وسلم حتى كان خلفائه يفتحون فارس والروم ومصر وينشرون دين الله في المشارق والمغرب.
﴿ قل جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد ﴾.
المفردات :
وما يبدئ الباطل : لم تعد للباطل كلمة يبدأ بها أو يعيد.
التفسير :
سطع نور الإسلام وظهرت حجته وانتشرت فكرته وخبا ضوء الشرك واضمحلت قوته ووهنت دولته.
قال ابن مسعود : أي لم يبق للباطل مقالة ولا رياسة ولا كلمة.
وقال الزمخشرى :
إذا هلك الإنسان لم يبق له إبداء ولا إعادة فجعلوا قولهم :﴿ وما يبدئ الباطل وما يعيد ﴾. مثلا في الهلاك والمعنى : جاء الحق وهلك الباطل.
وأخرج البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة دخل المسجد الحرام فوجد أصنام المشركين حول الكعبة فجعل يطعنها بطرف قوسه وهو يقرأ :﴿ وقل جاء الحق وذهب الباطل إن الباطل كان زهوقا ﴾ ( الإسراء : ٨١ ) ويقرأ :﴿ قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد ﴾. xxii
﴿ قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب ﴾.
المفردات :
فإنما أضل على نفسي : فإنما يعود ضرر الضلال عليها.
التفسير :
ذكر القرطبي أن الكفار قالوا للنبي صلى الله غليه وسلم : تركت دين آبائك فضللت فقال له : قل يا محمد إن ضللت كما تزعمون فإنما أظل على نفسي أه.
أي إذا ضللت فلا أضر إلا نفسي
﴿ وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي... ﴾
وإن اهتديت إلى الدين الحق والأيمان والإسلام فذلك بسبب وحي السماء الذي أنزله الله علي.
﴿ إنه سميع قريب ﴾.
يسمع الدعاء ويجيب النداء وهو قريب غير بعيد مطلع وشاهد خلق الخلق ورزقهم ويرعاهم ويسمع دعائهم
قال تعالى :﴿ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ﴾ ( البقرة : ١٨٢ )
﴿ ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب ﴾.
المفردات :
إذ فزعوا : خافوا عند الموت أو البعث.
فلا فوت : فلا نجاة ولا مهرب من العذاب.
مكان قريب : موقف الحساب.
التفسير :
ولو ترى يا محمد، أو ولو ترى كل من يتأتى منه الرؤية حيث يشتد بهم الفزع عند القيام من القبور والحشر والحساب ويساقون إلى أرض المحشر في مكان قريب منهم لا يملكون معه الهرب ولا الفوت ولا الفكاك.
قال الفخر الرازى :
ولو ترى جوابه محذوف أي : ترى عجبا.
﴿ وأخذوا من مكان قريب ﴾.
لا يهربون وإنما الأخذ قبل تمكنهم من الهرب.
﴿ وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ﴾.
المفردات :
التناوش : تناول الإيمان والتوبة.
مكان بعيد : هو الآخرة إذ أماكن الإيمان هو الدنيا.
التفسير :
في يوم القيامة ويوم البعث ومشاهدة الحساب لا يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأنى وكيف يتأتى لهم تناول الإيمان تناولا سهلا من مكان بعيد عن محل القبور ؟ لأن الدار الآخرة هي دار الجزاء والدنيا هي دار العمل وفي الأثر : " الدنيا عمل ولا حساب والآخرة حساب ولا عمل ".
قال الفخر الرازى :
الماضي كالأمس الدابر لا يمكن الوصول إليه والمستقبل وإن كان بينه وبين الحاضر سنون فإنه آت وفي يوم القيامة الدنيا بعيدة لمضيها وفي الدنيا يوم القيامة قريب لإتيانه.
قال تعالى :﴿ لعل الساعة قريب ﴾ ( الشورى : ١٨ )
وقوله تعالى :﴿ من مكان بعيد ﴾ والمراد : ما مضى من الدنيا. اه.
وبعبارة أخرى : كما أن رجوع الزمان الماضي من الدنيا بعيد أو مستحيل فكذلك قبول الإيمان في الآخرة بعيد أو مستحيل.
وفي الأدب العربي : أن كليبا لما قتل رغبت قبيلة القاتل في الصلح فأرسلت إلى أخيه جساس تعرض عليه الصلح نظيرا أن ينفذوا له ما يطلب فقال جساس :( انشروا لي كليبا ) أي : طلب أمرا مستحيلا وهو إعادة كليبا حيا حتى يصطلح ومن شعر جساس :
يا لبكر اشروا كليبا يا لبكر أين أين الفرار
أو يكون معنى الآية : الإيمان لا يقبل إلا في الدنيا والعودة إلى الدنيا مستحيلة فأنى لهم الإيمان من مكان بعيد عن الدنيا وأنى لهم العودة إلى الدنيا.
وفي سورة المؤمنون :﴿ ربنا أخرجنا منها فأن عدنا فإنا ظالمون* قال أخسئوا فيها ولا تكلمون ﴾ ( المؤمنون :( ١٠٧-١٠٨ ).
﴿ وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد ﴾.
المفردات :
وقد كفروا به : وقد كفروا بمحمد ورسالته قبل حضور الموت.
ويقذفون بالغيب : يرجمون بالظنون.
من مكان بعيد : من جهة بعيدة ليس فيها مستند لظنهم حيث قالوا شاعر كاهن ساحر وقالوا في القرآن الكريم : سحر شعر كهانة.
التفسير :
لقد كفروا بالإسلام من قبل في الدنيا واتهموا نبي الإسلام محمدا صلى الله عليه مسلم بأمور بعيدة عنه حيث قالوا : ساحر أو شاعر أو مجنون أو كذاب وهم يعلمون بعده عن هذه الأمور، ويعلمون صدقه وأمانته وتارة يقولون عن القرآن : سخر أو شعر أو كهانة أو إفك مفترى وتارة يقولون : لابعث ولا نار ولا حساب ولا جزاء وما نحن بمعذبين.
قال القرطبي :
قال تعالى :﴿ وقد كفروا به من قبل... ﴾أي : بالله عز وجل وقيل : بمحمد من قبل يعنى في الدنيا.
﴿ ويقذفون بالغيب... ﴾العرب تقول لكم من يتكلم بما لا يحقه هو يقذف ويرجم بالغيب.
﴿ من مكان بعيد ﴾ على جهة التمثيل لمن يرجم ولا يصيب أي : يرمون بالظن فيقولون لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار رجما منهم بالظن. اه.
والمقصود من الآية تقريعهم على ما كانوا يتفوهون به من كلام ساقط بينه وبين الحقيقة مسافات بعيدة.
﴿ وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب ﴾.
المفردات :
وحيل بينهم : منعوا من الانتفاع بالإيمان بعد فوات الأوان أو الرجوع إلى الدنيا.
بأشياعهم : بأمثالهم من الكفار.
مريب : موقع في الريب والقلق والشك بمعنى الريب والتهمة والشك المريب أقوى من مطلق الشك كما تقول عجب عجيب وشعر شاعر.
التفسير :
وهكذا تختم السورة بمشهد هؤلاء الكفار يحاولون الإيمان بالله والرسول بعد البعث والحشر أو يحاولون الرجوع إلى الدنيا، ليعملوا عملا صالحا بيد أن الله لا يقبل منهم ذلك شأنهم شأن الكفار السابقين كقوم نوح وعاد وثمود وفرعون وملئه وأشياعهم وأشباههم من الكافرين الذين لم يقبل منهم الإيمان بعد معاينة الموت
قال تعالى :﴿ فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده وخسر هناك الكافرون ﴾ ( غافر : ٧٥ )
﴿ إنهم كانوا في شك مريب ﴾.
لقد استحق كفار مكة العذاب كما استحقه أشياعهم من المكذبين السابقين للرسل، لأنهم جميعا كانوا في شك ممعن في الريبة، في أمر البعث والجنة والنار بل وفي الدين كله والتوحيد.
قال قتادة : إياكم والشك والريبة فإن من مات على شك بعث عليه ومن مات على يقين بعث عليه أحيانا الله وبعثنا على اليقين إنه أرحم الراحمين وولي المؤمنين
تم بحمده الله تفسير سورة سبأ مساء السبت ١٩ ربيع الأول ١٤٢٠ ه الموافق ويليه ١٩٩٩ م بمدينة المقطم بالقاهرة والحمد لله رب العالمين
i انظر ظلال القرآن بقلم سيد قطب ٢٢/٥٣-٥٦.
ii قال الفخر الرازي معاجزين حال معناه سعوا فيها وهم يريدون التعجيز، أي : إبطال عمل الآيات ومنه الناس من التمسك بها والعجز عن الوصول إلى هديها.
iii ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده : رواه البخاري في البيوع ( ٢٠٧٣ ) وفي أحاديث الأنبياء ( ٣٤١٧ ) من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن داود النبي عليه السلام كان لا يأكل إلا من عمل يده ورواه البخاري في البيوع ( ٣٠٧٢ ) من حديث المقدام رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما أكل طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده وغن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده ".
iv الفخر الرازي ٩/١٩٦ دار إحياء التراث العربي بيروت.
v تفسير القرطبي ٦/٥٥٠٩ وفيه قال العلماء وذلك للضرورة إلى ذلك، وحاجة البنات حتى يتدربن على تربية أولادهن ثم إنه لا بقاء لذلك، وكذلك ما يصنع من الحلاوة أو من العجين لا بقاء له فرخص في ذلك والله أعلم.
vi إن أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة المصورون : رواه البخاري في اللباس ( ٥٩٥٠ ) ومسلم في اللباس ( ٢١٠٩ ) من حديث عبد الله بن مسعود قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أشد الناس عذابا عند الله يوم القيامة المصورون ".
vii أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام : رواه البخاري في الجمعة ( ١١٣١ ) وفي أحاديث الأنبياء ( ٣٤٢٠ ) ومسلم في الصيام ( ١١٥٩ ) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام وأحب الصيام إلى الله صيام داود وكان ينام نصف الليل ويقوم وينام سدسه ويصوم يوما يوفطر يوما ".
viii أفلا أكون عبدا شكورا : رواه البخاري في الجمعة ( ١١٣٠ ) ةوفي تفسير القرآن ( ٤٧٣٦ ) وفي الرقاق ( ٦٤٧١ ) ومسلم في صفة القيامة ( ٢٨١٩ ) والترمذي في الصلاة ( ٤١٢ ) والنسائي في قيام الليل ( ١٦٤٤ ) وابن ماجة في إقامة الصلاة ( ١٤١٩ ) وأحمد في مسنده ( ١٧٧٣٣ ) من حديث المغيرى إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليقوم ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه فيقال له : فيقول : " أفلا أكون عبدا شكورا " ورواه البخاري في تفسير القرآن ( ٤٨٣٧ ) ومسلم في صفة القيامة ( ٢٨٢٠ ) وأحمد في مسنده ( ٢٤٣٢٣ ) من حديث عائشة رضي الله عنها أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتتتن فطر قدماه فقالت عائشة : لم تصنع هذا يا رسول الله وقد نغفر الله لك ما تقدم وما تأخر من ذنبك ؟ قال : " أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا " فلما كثر لحمه صلى جالسا فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثم ركع، ورواه ابن ماجة في إقامة الصلاة ( ١٤٢٠ ) من حديث أبي هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حتى تورمت قدماه فقيل له : إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال " أفلا أكون عبدا شكورا ".
ix عجبا للمؤمن : أخرجه مسلم في الزهد ( ٢٩٩٩ ) وأحمد ( ١٨٤٥٥-١٨٤٦٠-٢٣٤٠٦-٢٣٤١٢ ) والدارمي ( ٢٧٧٧ ) من حديث صهيب بن سنان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضرا صبر فكان خير له ".
x أعطيت خمسا لم يعطهن نبي : رواه البخاري في التيمم ( ٣٣٥ ) وفي الصلاة ( ٤٣٨ ) ومسلم في المساجد ( ٥٢١-٥٢٣ ) والنسائي في الغسل ( ٤٣٢ ) وفي المساجد ( ٧٣٦ ) والدارمي في الصلاة ( ١٢٨٩ ) وأحمد ( ١٣٧٥٢ ) من حديث جابر ورواه مسلم في المساجد ( ٥٢٣ ) والترمذي في السير ( ١٥٥٣ ) وابن ماجة في الطهارة ( ٥٦٧ ) وأحمد ( ٧٢٢٥-٧٣٥٥-٩٤١٢ ) من حديث أبي هريرة ورواه أبو داود في الصلاة ( ٤٨٩ ) والدارمي في السير ( ٢٤٦٧ ) وأحمد ( ٢٠٧٩٢ ) من حديث أبي ذر ورواه أحمد ( ٢٢٥٦-٢٧٣٧ ) من حديث ابن عباس ورواه أحمد ( ٧٠٣٨ ) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ورواه أحمد ( ١٩٢٣٦ ) من حديث أ بي موسى رضي الله عنه.
xi بعثت إلى كل أحمر وأسود : رواه مسلم في المساجد ( ٥٢١ ) من حديث جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود... " الحديث وانظر ما قبله.
xii هرقل سأل أبا سفيان عن رسول الله : رواه البخاري ( ٥١٠٧-٢٧٨١-٤٥٥٣-٥٩٨٠-٦٢٦١-٧١٩٦ ) ومسلم ( ١٧٧٣ ) والترمذي ( ٢٧١٧ ) من حديث صدر بن حرب.
xiii أشد الناس بلاء الأنبياء : بوب به البخاري في كتاب المرضي ورواه الترمذي في الزهد ( ٢٣٩٨ ) وابن ماجة في الفتن ( ٤٠٢٣ ) وأحمد ( ١٤٨٤-١٤٩٧-١٥٥٨-١٦١٠ ) والدارمي في الرقاق ( ٢٧٨٣ ) من حديث سعد بن أبي وقاص وقال الترمذي حسن صحيح.
xiv إن الله لا ينظر إلى صوركم : رواه مسلم في البر ( ٢٥٦٤ ) وابن ماجة في الزهد ( ٤١٤٣ ) وأحمد في مسنده ( ٧٧٦٨ ) من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عن الله لا ينظر على صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ".
xv قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله : رواه مسلم في الزكاة باب في الكفاف والقناعة '( ١٠٥٤ ) والترمذي في الزهد باب ما جاء في الكفاف والصبر عليه ( ٢٤٥٢ ) من حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله ".
xvi لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة : رواه الترمذي ( ٢٢٢٠ ) وابن ماجة ( ٤١١٠ ) من حديث سهل بن سعد قال : هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه ولفظ الترمذي " لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا... " الحديث عند ابن ماجة " والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها ولو كانت الدنيا تعدل... " الحديث قال السيوطي في زيادة الجامع في تخريج الحديث الترمذي والحاكم وصححه، من حديث سهل بن سعد الذهبي قال الماوي في الفيض قال الترمذي صحيح غريب وليس كما قال ففيه عبد الحميد بن سليمان أورده في الضعفاء وقال أبو داود غير ثقة ورواه ابن ماجة أيضا وفيه عنده زكريا بن منظور قال الذهبي في الضعفاء منكر الحديث ورواه عنه الحاكم أيضا وصححه فرده الذهبي بان زكريا بن منظور ضعفوه وقال في موضع آخر ولتعدد هذه الطرق رمز المؤلف لحسنه.
xvii إن في الجنة غرفا ترى ظهورها : رواه الترمذي في البر ( ١٩٨٤ ) وفي الجنة ( ٢٥٢٦ ) وأحمد في مسنده ( ١٣٤٠ ) من حديث على قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن في الجنة غرفا ترى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها " فقام أعرابي فقال : لمن هي يا رسول الله ؟ قال : " لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى لله بالليل والناس نيام " قال ابو عيسى هذا حديث غريب.
xviii يا ابن آدم أنفق أنفق عليك : رواه البخاري في تفسير القرآن ( ٤٦٨٤ ) وفي التوحيد ( ٧٤٦٩ ) ومسلم في الزكاة ( ٩٩٣ ) من حديث أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله تبارك وتعالى يا ابن آدم أنفق أنفق عليك وقال يمين الله ملأى " وقال ابن نمير : ملآن سحاء لا يفيضها شيء الليل والنهار.
xix ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان : رواه البخاري في الزكاة ( ١٤٤٢ ) ومسلم في الزكاة ( ١٠١٠ ) وأحمد ( ٧٩٩٢ ) من حديث أبي هريرة ورواه أحمد ( ٢١٢١٤ ) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.
xx بعثت أنا والساعة جميعا : رواه أحمد في مسنده ( ٢٢٤٧٨ ) عن بريدة قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يثقول : " بعثت أنا والساعة جميعا إن كادت لتسبقني ".
xxi ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار : رواه أحمد في مسنده ( ١٦٥٩٠ ) من حديث تميم الدارمي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا بر غلا وأدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل عزا يعز الله به الإسلام وذلا يذل الله به الكفر " وكان تميم الداري يقول قد عرفت ذلك في أهل بيتي لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافرا الذل والصغار والجزية، قال الهيثمي في المجمع رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح.
xxii جاء الحق وزهق الباطل : رواه البخاري في المظالم ( ٢٤٨٧ ) وفي التفسير ( ٤٧٢٠ ) ومسلم في الجهاد والسير ( ١٧٨١ ) وأحمد ( ٣٥٧٤ ) والترمذي في التفسير ( ٣١٣٨ ) وقال هذا حديث حسن صحيح وفيه عن ابن عمر ورواه مسلم في الجهاد واليسر ( ١٧٨٠ ) وأحمد ( ١٠٥٦٥ ) من حديث أبي هريرة.
Icon