تفسير سورة الجن

زاد المسير
تفسير سورة سورة الجن من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
سورة الجن كلها مكية بإجماعهم.

سورة الجنّ
كلّها مكّيّة بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الجن (٧٢) : الآيات ١ الى ١٧]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (٤)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩)
وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤)
وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧)
قوله عزّ وجلّ: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ قد ذكرنا سبب نزول هذه الآية في (الأحقاف) «١» وبَيَّنَّا هنالك سبب استماعهم. ومعنى «النّفر» وعددهم، فأمّا قوله عزّ وجلّ: قُرْآناً عَجَباً فمعناه: بليغاً يعجب منه لبلاغته يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ أي: يدعو إلى الصواب من التوحيد والإيمان وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أي: لن نعدل بربنا أحداً من خلقه. وقيل: عنوا إبليس، أي: لا نطيعه في الشرك بالله.
قوله عزّ وجلّ: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا اختلف القراء في اثنتي عشرة همزة في هذه السورة، وهي:
«وأنه تعالى»، «وأنه كان يقول»، «وأنا ظننا»، «وأنه كان رجال»، «وأنهم ظنوا»، «وأنا لمسنا»، «وأنا كنا»، «وأنا لا ندري»، «وأنا منا»، «وأنا ظننا أن لن نعجز الله»، «وأنا لمّا سمعنا»، «وأنّا منّا»، ففتح
(١) الأحقاف: ٢٩. [.....]
346
الهمزة في هذه المواضع ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم، ووافقهم أبو جعفر في ثلاثة مواضع «وأنه تعالى»، «وأنه كان يقول»، «وأنه كان رجال»، وكسر الباقيات. وقرأ الباقون بكسرهن. وقال الزجاج: والذي يختاره النحويون في هذه السورة أن ما كان من الوحي قيل فيه:
«أن» بالفتح، وما كان من قول الجن قيل: «إن» بالكسر، معطوف على قوله عزّ وجلّ: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً وعلى هذا يكون المعنى: وقالوا: إنه تعالى جَدُّ ربنا، وقالوا: إنه كان يقول سفيهنا. فأما من فتح، فذكر بعض النحويين: يعني الفراء، أنه معطوف على الهاء في قوله عزّ وجلّ: فَآمَنَّا بِهِ وبأنه تعالى جَدُّ رَبِّنا. وكذلك ما بعد هذا. وهذا رديء في القياس، لا يعطف على الهاء المتمكّنة المخفوضة إلا بإظهار الخافض. ولكن وجهه أن يكون محمولاً على معنى أمنَّا به، فيكون المعنى: وصدَّقْنا أنه تعالى جَدُّ رَبِّنا.
وللمفسرين في معنى تَعالى جَدُّ رَبِّنا سبعة أقوال: أحدها: قُدْرَةُ رَبِّنا، قاله ابن عباس. والثاني:
غِنى رَبِّنا، قاله الحسن. والثالث: جَلاَلُ رَبِّنا، قاله مجاهد، وعكرمة. والرابع: عَظَمَةُ رَبِّنا، قاله قتادة.
والخامس: أَمْرُ رَبِّنا، قاله السدي. والسادس: ارتفاع ذِكره وعظمته، قاله مقاتل. والسابع: مُلْكُ رَبِّنا وثناؤه وسلطانه، قاله أبو عبيدة.
قوله: وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا فيه قولان: أحدهما: أنه إبليس، قاله مجاهد، وقتادة. والثاني: أنه كفارهم، قاله مقاتل. و «الشطط» : الجَوْر، والكذب، وهو: وصفه بالشريك، والولد، ثم قالت الجن:
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً وقرأ يعقوب: «أن لن تَقَوَّلَ» بفتح القاف، وتشديد الواو.
والمعنى: ظنناهم صادقين في قولهم: لله صاحبة وولد، وما ظننَّاهم يكذبون حتى سمعنا القرآن، يقول الله عزّ وجلّ: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ وذلك أن الرجل في الجاهلية كان إذا سافر فأمسى في قفر من الأرض قال: أعوذ بِسِّيدِ هذا الوادي من شَرِّ سُفَهَاءِ قومه، فيبيت في جِوارٍ منهم حتى يصبح.
(١٤٩٢) ومنه حديث كردم بن أبي السائب الأنصاري، قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة، وذلك أول ما ذُكِرَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكة، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل جاء ذئب، فأخذ حملاً من الغنم، فوثب الراعي فنادى: يا عامر الوادي جارك، فنادى منادٍ لا نراه: يا سرحان أرسله. فإذا الحمل يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمة، فأنزل الله تعالى على رسوله صلّى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ الآية.
ضعيف جدا. أخرجه العقيلي ١/ ١٠١ وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» عند هذه الآية، والواحدي في «الوسيط» ٤/ ٣٦٤ من طريق فروة ثنا القاسم بن مالك عن عبد الرحمن بن إسحاق عن أبيه عن كردم بن أبي السائب الأنصاري، وإسناده ضعيف جدا، فيه عبد الرحمن بن إسحاق، وهو ضعيف متروك، وأبوه إسحاق بن الحارث، ضعفه أحمد وغيره، ولم يرو عنه سوى ابنه. وقال ابن حبان: منكر الحديث، فلا أدري التخليط منه أو من ابنه. وأخرجه الطبراني في «الكبير» ١٩/ ١٩١- ١٩٢ وأبو الشيخ في «العظمة» ١١٢٢ من طريق القاسم بن مالك عن عبد الرحمن بن إسحاق به. وذكره الهيثمي في «المجمع» ٧/ ١٢٩ وقال: وفيه عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي، وهو ضعيف. والظاهر أنه خفي عليه حال أبيه إسحاق، وقد ضعفه أحمد وغيره كما نقل الذهبي في «الميزان» ١/ ١٨٩. الخلاصة: الإسناد ضعيف جدا، والمتن منكر.
347
وفي قوله عزّ وجلّ: فَزادُوهُمْ رَهَقاً قولان: أحدهما: أن الإنس زادوا الجن رهقاً لتعوُّذهم بهم، قاله مقاتل. والمعنى: أنهم لما استعاذوا بسادتهم قالت السادة: قد سدنا الجن والإنس. والثاني: أن الجن زادوا الإنس رَهَقاً، ذكره الزجاج. قال أبو عبيدة: زادوهم سَفَهَاً وطغياناً. وقال ابن قتيبة: زادوهم ضلالاً. وأصل الرهق: العيب. ومنه يقال: فلان يرهق في دينه.
قوله عزّ وجلّ: وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا بقول الله عزّ وجلّ: ظن الجن كَما ظَنَنْتُمْ أيها الإنس المشركون أنه لا بعث. وقالت الجن: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ أي: أتيناها فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وهم الملائكة الذين يحرسونها من استراق السمع وَشُهُباً جمع شهاب، وهو النجم المضيء وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ أي: كنا نستمع، فالآن حين حاولنا الاستماع بعد بعث محمّد صلّى الله عليه وسلم رُمِينا بالشُّهُب. ومعنى «رصداً» قد أرصد له المرمى به وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ بإرسال محمد إليهم، فيكذبونه، فيهلكون أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً وهو أن يؤمنوا فيهتدوا، قاله مقاتل.
والثاني: أنه قول كفرة الجن، والمعنى: لا ندري أشرٌّ أريدَ بمن في الأرض بحدوث الرجم بالكواكب، أم صلاح؟ قاله الفراء. ثم أخبروا عن حالهم، فقالوا: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وهم المؤمنون المخلصون وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ فيه قولان: أحدهما: المشركون. والثاني: أنهم أهل الشرِّ دون الشرك كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً قال الفراء: أي: فرقاً مختلفة أهواؤنا. وقال أبو عبيدة: واحد الطرائق: طريقة، وواحد القِددِ: قدة، أي: ضروباً وأجناساً ومِلَلاً. قال الحسن، والسدي: الجن مثلكم، فمنهم قدريّة، ومرجئة، ورافضة.
قوله عزّ وجلّ: وَأَنَّا ظَنَنَّا أي: أيقنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ أي: لن نَفُوتَه إِذا أراد بنا أمراً وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً أي: أنه يدركنا حيث كنَّا وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى وهو القرآن الذي أتى به محمد صلّى الله عليه وسلم آمَنَّا بِهِ أي: صدَّقنا أنه من عند الله عزّ وجلّ، فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً أي: نقصاً من الثواب وَلا رَهَقاً أي: ولا ظلماً ومكروهاً يغشاه وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ قال مقاتل: المخلصون لله وَمِنَّا الْقاسِطُونَ وهم المَرَدَة. قال ابن قتيبة: القاسطون: الجائرون. يقال: قسط: إذا عدل، إذا جاور، وأقسط: إذا عدل. قال المفسرون: هم الكافرون فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً أي: تَوَخَّوْه، وأَمَّوْه. ثم انقطع كلام الجن. قال مقاتل: ثم رجع إلى كفّار مكّة فقال عزّ وجلّ: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ يعني: طريقة الهدى، وهذا قول ابن عباس، وسعيد بن المسيب، والحسن، ومجاهد وقتادة والسدي، واختاره الزجاج، قال: لأن الطريقة هاهنا بالألف واللام معرفة، فالأوجب أن تكون طريقة الهدى: وذهب قوم إلى أن المراد بها طريقة الكفر، قال محمد بن كعب، والربيع، والفراء، وابن قتيبة، وابن كيسان. فعلى القول الأول يكون المعنى: لو آمنوا لوسَّعنا عليهم لِنَفْتِنَهُمْ أي: لنختبرَهم فِيهِ فننظر كيف شُكْرُهم. والماء الغَدَق: الكثير. وإنما ذكر الماء مثلاً، لأن الخير كله يكون بالمطر، فأقيم مقامه إِذ كان سببه.
وعلى الثاني: يكون المعنى: لو استقاموا على الكفر فكانوا كفاراً كلهم، لأكثرنا لهم المال لنفتنهم فيه عقوبة واستدراجا، ثم نعذبهم على ذلك. وقيل: لأكثرنا لهم الماء فأغرقناهم، كقوم نوح، قوله:
وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يعني: القرآن يَسْلُكْهُ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر «نسلكه» بالنون. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائيّ يسلكه بالياء. عَذاباً صَعَداً قال ابن قتيبة: أي:
348
عذاباً شاقاً. يقال: تصعَّدني الأمر: إذا شَقَّ علي. ومنه قول عمر: ما تَصَعَّدني شيء ما تصعَّدَتني خِطْبَةُ النِّكاح. ونرى أصل هذا كله من الصعود، لأنه شاق، فكني به عن المشَقَّات. وجاء في التفسير أنه جبل في النَّار يكلَّف صعوده، وسنذكره عند قوله عزّ وجلّ: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً «١» إن شاء الله تعالى.
[سورة الجن (٧٢) : الآيات ١٨ الى ٢٨]
وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢)
إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧)
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨)
قوله عزّ وجلّ: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فيها أربعة أقوال: أحدها: أنها المساجد التي هي بيوت للصّلوات، قاله ابن عباس. قال قتادة: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبِيَعَهُم أشركوا، فأمر الله عزّ وجلّ المسلمين أن يخلصوا له إذا دخلوا مساجدهم. والثاني: الأعضاء التي يسجد عليها العبد، قاله سعيد بن جبير، وابن الأنباري، وذكره الفراء. فيكون المعنى، لا تسجدوا عليها لغيره. والثالث:
أن المراد بالمساجد هاهنا: البقاع كلُّها، قاله الحسن. فيكون المعنى: أن الأرض كلها مواضع للسجود، فلا تسجدوا عليها لغير خالقها. والرابع: أنّ المساجد: السجود، فإنها جمع مسجد. يقال:
سجدت سجوداً، ومَسْجِداً، كما يقال: ضربت في الأرض ضرباً، ومَضْرِباً، ثم يجمع، فيقال:
المسَاجِد، والمضارِب. قال ابن قتيبة: فعلى هذا يكون واحدها: مَسْجَداً، بفتح الجيم. والمعنى:
أَخْلِصُوا له، ولا تسجدوا لغيره. ثم رجع إلى ذكر الجنّ فقال عزّ وجلّ: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يعني محمداً صلّى الله عليه وسلم يَدْعُوهُ أي: يعبده. وكان يصلي ببطن نخلة على ما سبق بيانه في الأحقاف «٢» كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قرأ الأكثرون: بكسر اللام، وفتح الباء. وقرأ هشام عن ابن عامر، وابن محيصن «لُبَداً» بضم اللام، وفتح الباء مع تخفيفها. قال الفراء: ومعنى القراءتين واحد. يقال: لِبَدة، ولُبَدة. قال الزجاج: والمعنى: كادوا يركب بعضهم بعضاً. ومنه اشتقاق اللبد الذي يفترش. وكل شيء أضفته إلى شيء فقد لَبَّدته. وقرأ قوم منهم الحسن، والجحدري: «لُبَّداً» بضم اللام مع تشديد الباء. قال الفراء:
فعلى هذه القراءة تكون صفة للرجال، كقولك: رُكَّعاً وركوعاً، وسُجَّداً وسجوداً. وقال الزّجّاج: هو جمع لا بد، مثل راكع، وركَّع.
وفي معنى الآية ثلاثة أقوال «٣» : أحدها: أنه من إخبار الله تعالى عن الجن يحكي حالهم.
(١) المدثر: ١٧.
(٢) الأحقاف: ٢٩.
(٣) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١٢/ ٢٧٣: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال: ذلك خبر من الله عن أن رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلم لما قام يدعوه كادت العرب تكون عليه جميعا في إطفاء نور الله.
ووافقه ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٥١٠: واختيار ابن جرير، وهو الأظهر لقوله بعده قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً أي قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما آذوه وخالفوه وكذبوه وتظاهروا عليه ليبطلوا ما جاء به من الحقّ واجتمعوا على عداوته: إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي أي: إنما أعبد ربي وحده لا شريك له، وأستجير به وأتوكل عليه.
349
والمعنى: أنه لما قام يصلي كاد الجن لازدحامهم عليه يركب بعضهم بعضاً، حِرْصاً على سماع القرآن، رواه عطية عن ابن عباس. والثاني: أنه من قول الجن لقومهم لما رجعوا إليهم، فوصفوا لهم طاعة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وائتمامهم به في الركوع، والسجود، فكأنهم قالوا: لما قام يصلي كاد أصحابه يكونون عليه لبداً. وهذا المعنى في رواية ابن جبير عن ابن عباس. والثالث: أن المعنى: لما قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالدَّعوة تلبَّدت الإنس والجن، وتظاهروا عليه، ليبطلوا الحق الذي جاء به، قاله الحسن، وقتادة، وابن زيد.
قوله عزّ وجلّ: قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي قرأ عاصم، وحمزة «قل إنما أدعو ربي» بغير ألف. وقرأ الباقون «قال» على الخبر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم. قال مقاتل: إن كفار مكة قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم: إنك جئت بأمر عظيم لم يسمع بمثله فارجع عنه، فنزلت هذه الآية «١».
قوله عزّ وجلّ: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا أي: لا أدفعه عنكم وَلا أسوق إليكم رَشَداً أي: خيراً، أي: إن الله تعالى يملك ذلك، لا أنا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ أي: إن عصيته لم يمنعني منه أحد، وذلك أنهم قالوا له: اترك ما تدعو إليه ونحن نجيرك وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً قد بيّنّاه في الكهف «٢» قوله: إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ فيه وجهان، ذكرهما الفرّاء: أحدهما: أنه استثناء من قوله عزّ وجلّ: لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً إلا أن أبلغكم. والثاني: لن يجيرني من الله أحد إِن لم أبلِّغ رسالته. وبالأول قال ابن السائب. وبالثاني قال مقاتل. وقال بعضهم: المعنى: لن يجيرني من عذاب الله إلا أن أبلّغ عن الله ما أرسلت به، فذلك البلاغ هو الذي يجيرني. وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بترك الإيمان والتوحيد.
قوله عزّ وجلّ: حَتَّى إِذا رَأَوْا يعني: الكفار ما يُوعَدُونَ من العذاب في الدنيا، وهو القتل، وفي الآخرة فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً أي: جندا ونصيرا، أهم، أم المؤمنون؟ قُلْ إِنْ أَدْرِي أي: ما أدري أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ من العذاب أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً أي: غاية وبُعْداً.
وذلك لأن علم الغيب لله وحده فَلا يُظْهِرُ أي: فلا يُطلِع على غيبه الذي يعلمه أحداً من الناس إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ لأن من الدليل على صدق الرسل إخبارَهم بالغيب. والمعنى: أن من ارتضاه للرسالة أطلعه على ما شاء من غيبه. وفي هذا دليل على أن من زعم أن النجوم تدلّه على الغيب فهو كافر. ثم ذكر أنه يحفظ ذلك الذي يطلع عليه الرسول فقال عزّ وجلّ: فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أي:
من بين يدي الرسول وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً أي: يجعل له حَفَظَةً من الملائكة يحفظون الوحي من أن يسترقه الشياطين، فتلقيه إلى الكَهَنة، فيتكلَّمون به قبل أن يخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلم الناس. وقال الزّجّاج يسلك
(١) عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، فهذا خبر لا شيء.
(٢) الكهف: ٢٧.
350
من بين يدي الوحي. والرّصد من الملائكة يدفعون الشياطين عن أن تستمع ما ينزل من الوحي.
قوله عزّ وجلّ: لِيَعْلَمَ فيه خمسة أقوال «١» : أحدها: ليعلم محمد صلّى الله عليه وسلم أن جبرائيل قد بلَّغ إليه، قاله ابن جبير. والثاني: ليعلم محمّد صلّى الله عليه وسلم أن الرسل قبله قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وأن الله قد حفظها فدفع عنها، قاله قتادة. والثالث: ليعلم مكذبو الرسل أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم، قاله مجاهد.
والرابع: ليعلم الله عزّ وجلّ ذلك موجوداً ظاهراً يجب به الثواب، فهو كقوله عزّ وجلّ: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ «٢» قاله ابن قتيبة. والخامس: ليعلم النبيُّ أن الرسل قد أتته، ولم تصل إلى غيره، ذكره الزجاج. وقرأ رويس عن يعقوب «ليُعلَم» بضم الياء على ما لم يُسمَّ فاعله. وقال ابن قتيبة: ويُقرأ «لتَعْلَم» بالتاء، يريد: لتعلم الجن أن الرسل قد بلَّغت عن إلههم بما رجوا من استراق السّمع، قوله:
وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ أي: علم الله ما عند الرسل وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً فلم يفته شيء حتى الذّرّ والخردل.
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١٢/ ٢٧٧: وأولى الأقوال عندنا بالصواب قول من قال: ليعلم الرسول أن الرسل قبله قد أبلغوا رسالاتِ رِّبهم.
(٢) آل عمران: ١٤٢.
351
Icon