السورة مدنية عدد آياتها خمس وسبعون، نزلت بعد البقرة، وهي السورة الثامنة في القرآن الكريم، وقد تقدمتها سورة الفاتحة وهي مكية، وجاء بعد الفاتحة أربع سور مدنية متتالية، هن أطول السور المدنية في القرآن وهي : البقرة، آل عمران، النساء والمائدة. ثم تلت هذه الأربع سورتان مكيتان هما : الأنعام والأعراف، وهما أطول السور المكية في القرآن. ثم جاءت سورة الأنفال والتي بعدها سورة التوبة وهما مدنيتان.
ومن المعلوم أن المكي قبل الهجرة، ويتضمن أصول الدعوة، وهي قضايا التوحيد، والوحي، والبعث، كما يتضمن الإرشاد إلى أمهات الأخلاق الفاضلة. وقد عني في سبيل ذلك بتوجيه الأنظار إلى أدلة القضايا الثلاث المذكورة، ومناقشة حجج المشركين فيها. كذلك فهو يعرض كثيرا لقصص الأولين ونتائج تكذيبهم لرسلهم كيما يتعظ الناس بتلك القصص، وهذا واضح في سورتي الأنعام والأعراف وسائر السور المكية.
أما السور المدنية فإنها قد عنيت –فيما يتصل بالمخالفين- بمجادلة أهل الكتاب الذين يجاورون " المدينة "، ويثيرون الشكوك والشبه فيما يختص برسالة محمد صلى الله عليه وسلم. أما فيما يختص بالمؤمنين فقد عنيت بتفصيل كثيرا من الأحكام التي ينظمون بها شئونهم الداخلية والخارجية. ونرى ذلك في سورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة وسائر المدني من القرآن الكريم.
ولقد نزلت سورة الأنفال بمناسبة معركة بدر، ولذلك أطلق عليها بعض الصحابة اسم " سورة بدر ". وكانت معركة بدر في يوم الجمعة، السابع عشر من رمضان في السنة الثانية للهجرة. وهي الجولة الأولى من جولات الحق في إزهاق الباطل، وإنقاذ المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، الذين قعد بهم الضعف في مكة وأخذوا في الضراعة إلى الله ﴿ ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا ﴾ النساء، الآية ٧٥.
وقد استجاب الله ضراعتهم فهيأ لهم ظروف تلك المعركة التي تم فيها النصر للمؤمنين، على قلة عددهم وعددهم. وبها عرف المشركون أنه مهما طال أمد باطلهم وامتد سلطانه، فلا بد له أن يخر يوما صريعا أمام روعة الحق وقوة الإيمان. وإذا كانت بدر، نصرا للمؤمنين وهزيمة للمشركين، فهي في الوقت نفسه جاءت حافزة للقلوب المؤمنة كي يجدّ سيرها في طريق الهدى والرشاد.
وقد كان للمسلمين في تلك الغزوة شؤون، أولها حينما طلب إليهم الرسول أن يخرجوا لمصادرة عير قريش فتساءلوا : أيخرجون إطاعة للرسول الكريم ؟ أم لا يخرجون، حرصا منهم على أموالهم وأشغالهم في المدينة ؟ ثم إنهم خرجوا، لكنهم وجدوا العير قد مرت، وفاتهم أن يحصلوا عليها، فتساءلوا من جديد : أيستجيبون للرسول الكريم ويقاتلون قوى الشرك التي تكتلت وخرجت من مكة لقتالهم، أم يرجعون لأنهم لم يخرجوا للقتال، ولم يستعدوا له ؟ وقد قاتلوا بعد أن أمدهم الله بروح من عنده، وأمكنهم من عدوهم بالقتل والأسر والغنيمة، فكان لهم شأن ثالث : أيقتلون الأسرى أو يطلقون سراحهم بالفداء ؟ وفي الغنائم التي حصلوا عليها : أيختص بها الشبان المحاربون أم يشاركهم فيها الحراس وأصحاب الرأي ؟
كانت هذه الشؤون هي الجو الذي نزلت فيه سورة الأنفال فعنيت ببيان الحلول فيها، وقد بدأت بمسألة الأنفال، وهي الغنائم، ليكون مطلع الحديث تسجيلا لنعمة النصر التي ساقت إليهم تلك الأنفال، وإيحاء إلى أن حصولهم عليها يقتضي أن يكون من بواعث الطاعة لا من بواعث المخالفة. وهكذا بدأت السورة بحل مشكلة الأنفال ﴿ يسألونك عن الأنفال ﴾... وقد أرشدتهم السورة إلى أن الشأن في توزيعها لا يرجع إلى آرائهم، وإنما هو لله ولرسوله ﴿ قل الأنفال لله والرسول ﴾. وقد جاء الحكم بعد في قوله تعالى من السورة نفسها ﴿ واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ﴾.
ثم جاء إرشاد المؤمنين إلى ما يجب أن يتحلوا به حتى يحصلوا على الظفر الدائم والنصر المستمر، وهو القوة المعنوية التي بين الله عناصرها بقوله :﴿ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون. الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. أولئك هم المؤمنون حقا، لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ﴾ الآيات ٢، ٣، ٤.
ثم يعود الحديث في السورة إلى موقفهم الأول حينما أمروا بالخروج، وأن الذين كرهوا وتلكّأوا فيه أخذوا يتعللون مرة بالأموال، وأخرى بعدم الاستعداد، وبذلك انحرفوا عما يوجبه الإيمان عليهم من الطاعة والامتثال، وعما يجب على المؤمنين الصادقين أن يلبوا دعوته وهي دعوة القوة إلى ذات الشوكة :﴿ كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون. يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون. وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم، ويريد أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ﴾ الآيات ٥، ٦، ٧.
وفي شأن الأسرى وفدائهم أو قتلهم يقول تعالى :﴿ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض.... الآية ﴾.
وهكذا حلت سورة الأنفال المشاكل التي اعترضت المسلمين في غزوة بدر، كما ذكرتهم بنعمة الله عليهم في تلك الغزوة من الإمداد بقوى النصر واستجابة الدعاء :﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ﴾ الآية ٩. وذكرهم بسابق نعمه عليهم قبلها حينما آواهم بنصره ورزقهم من الطيبات، بعد أن كانوا مستضعفين في الأرض. كذلك أرشد الله تعالى المسلمين في هذه السورة إلى جملة من المبادئ إذا تمسكوا بها وحافظوا عليها حالفهم النصر والتوفيق. وفي هذا الجانب بين لهم السبب الذي يبيح الحرب، والغاية التي تنتهي عندها، ﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله، فإن الله بما تعملون بصير. ( ٣٩ ) وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم، نعم المولى ونعم النصير( ٤٠ ) ﴾.
وأمر الله تعالى بإعداد العدة ضمانا للسلم، وإرهابا للأعداء :﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم، الله يعلمهم، وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون( ٦٠ ) ﴾.
ثم يقرر إيثار السلم على الحرب متى أمكن ووجد السبيل إليه :﴿ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله، إنه هو السميع العليم( ٦١ ) وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره للمؤمنين( ٦٢ ) ﴾.
ثم أمر الله تعالى بالمحافظة على العهود، كما أمر بطاعة الرؤساء والتعاون والاحتفاظ بأسرار الدولة والثبات في الحرب، وذلك في الآيات من ٤٥ إلى ٥٩ ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا... إلى قوله تعالى : ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون ﴾.
وأخيرا بين الله تعالى في السورة أن المؤمنين في ظل هذه المبادئ وتلك الإرشادات، المهاجرين منهم والأنصار، بعضهم أولياء بعض، وأن عليهم نصر الذين يستنصرونهم من المؤمنين الذين لم يهاجروا، وأنه لا ولاية بينهم وبين الكافرين، فالذين كفروا بعضهم أولياء بعض، والذين آمنوا من هاجر منهم ومن نصر بعضهم أولياء بعض : الآيتان : ٧٤ و٧٥.
وهكذا بدأت السورة وختمت بأوصاف المؤمنين حقا. وفي هذا، وما ذكر من نعم الله على المؤمنين يتضح لنا مدد النصر الذي يعده الله لعباده المخلصين. وهو مدد دائم يتبع الإيمان والإخلاص أينما وجدا، فجدير بالمؤمنين وهم الآن في محنة كبرى من شر اليهود وحلفائهم الطغاة المستبدين، جدير بنا –أن نعمل ما في وسعنا للحصول على هذا المدد بتقوية الإيمان بالله في نفوسنا، وتوحيد صفوفنا، والسير على هدف واحد وقلب مؤمن واحد لنسترد ما اغتصب من بلادنا، ونستعيد المسجد الأقصى المبارك وما حوله إلى حظيرة الإسلام.
بسم الله الرحمان الرحيم
ﰡ
ذات بينكم : فيما بينكم.
خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجراً إلى المدينة بسبب مكر المشركين وتدبيرِهم أمر قتله، وليكون للمسلمين دولة. وقد استقر بالمدينة ومن حوله المؤمنون من المهاجرين والأنصار، وكان لا بد من الجهاد لدفع الاعتداء، لكيلا يُفتَن أهلُ الإيمان. فكانت غزوة بدر، وكان فيها النصر المبين والغنائم. وكان وراء الغنائم بعض الاختلاف في قسمتها وسؤال المؤمنين عنها، فأنزل الله تعالى هذه الآيات يعالج فيها نفوس بعض المسلمين لتطهيرها من الاختلاف الذي نشأ عن حب المال والتطلع إلى المادة، وهو من أكبر أسباب الفشل.
فكان من مقتضيات الحكمة الإلهية أن يتلقى المؤمنون في مبدأ حياتهم هذا الدرس القوي الذي يقتلع بذور الشح والطمع وحب المادة من قلوبهم.
يسألونك أيها الرسول، عن الغنائم لمن هي ؟ وكيف تقسم، أللشُبّان أم للشيوخ ؟ أم للمهاجرين هي، أم للأنصار ؟ أم لهم جميعا ؟.
قل لهم أيها الرسول :
إنها لله والرسول، والرسول بأمر ربه يتولى تقسيمها، فاتركوا الاختلاف بشأنها، واتقوا الله واجعلوا خوف الله وطاعته شِعاركم، وأصلحوا ما بينكم فاجعلوا الصلات بينكم محبة وعدلا. هذه صفةُ أهل الإيمان.
ثم وصف الله تعالى المؤمنين المخلصين في إيمانهم بأنهم هم الذين اجتمعت فيهم خصالٌ خمس، ذكر في هذه الآية ثلاث خصال و في الآية اللاحقة خصلتين :
( ١ ) ﴿ الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ الذين إذا ذكَروا الله بقلوبهم فزِعوا لعظمته وسلطانه، وامتلأت قلوبهم هيبة.
( ٢ ) ﴿ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً ﴾ وكلّما تليت عليهم آيات من القرآن ازداد إيمانهم رسوخا، وازدادوا إذعاناً وعلما.
( ٣ ) ﴿ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ ولا يعتمدون إلا على الله الذي خلَقَهم، ولا يفوّضون أمرهم إلى سواه. ومعنى التوكل : أن نسعى للعمل كما أمرنا الله راجين منه التوفيق في سعينا مؤمنين بأن العمل شرط أساسيُّ للتوكل.
( ٤ ) ﴿ الذين يُقِيمُونَ الصلاة ﴾ وأولئك المؤمنون الصادقون في إيمانهم، يؤدون الصلاة مستوفية الأركان، كاملة الخشوع والخضوع، وبهذا تحصل ثمرة الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر.
( ٥ ) ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ وينفقون بعض ما رزقناهم من المال في الجهاد والبِرِّ ومعاونة الضعفاء، وفي مصالح الأمة ومرافقها العامة.
وعِلم أبو سفيان بخروج الرسول وأصحابه فبعث إلى قريش يطلب النجدة. ولم يبق أحد قادر على حمل السلاح في مكة إلا خرج. أما أبو سفيان فحوّل طريقه إلى ساحل البحر ونجا، وبعث إلى قريش يخبرهم بذلك ليرجعوا. فأبى أبو جهل وسار بالقوم إلى بدر. فشاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال لهم : إن الله وعَدَني إحدى الطائفتين، فوافقوه على القتال، وكره ذلك بعضهم وقالوا : لم نستعدَّ له، لكنهم ساروا وأجمعوا على لقاء قريش وكانت المعركة في اليوم السابع عشر من شهر رمضان للسنة الثانية من الهجرة وقد انتصر المسلمون انتصاراً عظيما، فقتلوا من قريش سبعين رجلا، وأسروا سبعين، وفر الباقون، واستُشهد من المسلمين أربعة عشر رجلا فقط. وكانت هذه المعركة أول نصر للمسلمين، فبدأ ينحاز كثير من العرب إلى جانبهم بعد ذلك.
﴿ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ ﴾.
إن حال المؤمنين في خلافهم حول الغنائم مثل حالهم عند ما أمرك اللهُ بالخروج من المدينة لقتال المشركين ببَدْر.
يومئذٍ كانوا يجادلونك أيها الرسول، في لقاء قريش وقتالهم مع أن هذا اللقاء والقتال حق وخير. ولقد آثروا لقاء العِير لأن فيها الأموال، ولأن حراسها قليلون.
إحدى الطائفتين : الأولى هي الطائفة التي جاءت من الشام بقيادة أبي سفيان ومعها العِير وفيها أموال قريش. والثانية : قريش وقد خرجت بصناديِدها ورجالها المسلّحين ليحموا العير.
دابر الكافرين : آخرهم.
اذكروا أيها المؤمنون، إذ يَعِدكم الله أن ينصركم على إحدى الطائفتين، قريش وفرسانها، أو العِير وما فيها من أموال. أنتم تودّون أن تَلقوا الطائفة التي فيها المال، لكنّ الله تعالى يريدكم أن تلقوا قريشاً وينصركم عليهم، ليثبت الحقُّ بإرادته ويُعز الإسلام ويُظهره على الدِّين كلّه، وليقطع دابر الكافرين بعد أن يزيل الباطل، وهو الشِرك، لقد أردتم أنتم حطام الدنيا الزائل، وأراد الله لكم النصر على قريش أعداءِ الله وأعدائكم، كيما يحقِّق لكم وعدَه بالنصر. هذا أفضلُ لكم وللإسلام، وفيه العزة والكرامة، وهو خير من المال وكل ما في الدنيا من حطام.
ويبطل الباطل : يزيل الشرك والكفر.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧:الشوكة : القوة والبأس، والسلاح، ومعنى ذات الشوكة : الطائفة المسلّحة القوية.
إحدى الطائفتين : الأولى هي الطائفة التي جاءت من الشام بقيادة أبي سفيان ومعها العِير وفيها أموال قريش. والثانية : قريش وقد خرجت بصناديِدها ورجالها المسلّحين ليحموا العير.
دابر الكافرين : آخرهم.
اذكروا أيها المؤمنون، إذ يَعِدكم الله أن ينصركم على إحدى الطائفتين، قريش وفرسانها، أو العِير وما فيها من أموال. أنتم تودّون أن تَلقوا الطائفة التي فيها المال، لكنّ الله تعالى يريدكم أن تلقوا قريشاً وينصركم عليهم، ليثبت الحقُّ بإرادته ويُعز الإسلام ويُظهره على الدِّين كلّه، وليقطع دابر الكافرين بعد أن يزيل الباطل، وهو الشِرك، لقد أردتم أنتم حطام الدنيا الزائل، وأراد الله لكم النصر على قريش أعداءِ الله وأعدائكم، كيما يحقِّق لكم وعدَه بالنصر. هذا أفضلُ لكم وللإسلام، وفيه العزة والكرامة، وهو خير من المال وكل ما في الدنيا من حطام.
روى ابن جرير عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال : حدثني عمر ابن الخطّاب رضي الله عنه قال : لما كان يومُ بدرٍ نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلا، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألفٌ أو يزيدون، فاستقبلَ القبلة ثم مدّ يديه وجعل يهتف بربه : اللهمّ أنجِزْ لي ما وعدتني، اللهم إن تهلَك هذه العصابةُ لا تُعبد في الأرض، فما زال يهتف بربه مادّاً يديه مستقبلاً القبلة حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه، وقال : يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربَّك فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله تعالى :﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ... الآية ﴾.
اذكروا وقتَ استغاثتكم ربَّكم، فأجاب الله دعاءكم، وأمدكم بألف من الملائكة متتابعين.
قراءات :
قرأ أبو عمرو :«فاستجاب لكم إنّي ممدكم » بكسر همزة إنَّ والباقون «أَنّي » بفتح الهمزة وقرأ نافع ويعقوب :«مُرْدَفين » بفتح الدال. والباقون «مردفين » «بكسر الدال ».
رجز الشيطان : وسوسته، وله معان أخرى كالذنب، وعبادة الأوثان. ليربط على قلوبكم : ليثبتها ويصبرها.
اذكروا أيها المؤمنون، وقتَ أن خفتم من قلة الماء، ومن الأعداء، فوهبكم الله الأمن وداهمكم النعاسُ فنمتم آمنين. وعند ذاك أنزل الماءَ من السماء لتطَّهَّروا به ولتذهبوا وساوس الشيطان عنكم، وتثبت قلبوكم واثقة بعون الله، ولتتماسك به الأرض فتثْبت منكم الأقدام.
فقد أنزل الله في تلك الليلة مطرا طهَّركم به وأذهب عنكم رجس الشيطان، ووطَّأ به الأرضَ وصلُب الرمل، وثبتت الأقدام. وقد سبق رسول الله وأصحابه إلى الماء فنزلوا عليه وصنعوا الحِياض ثم عوَّروا ما عداها، وبذلك تمكّنوا من الشرب والأعداء عِطاش. وتفصيل ذلك في كتب السيرة والحديث.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو :«يغشاكم النعاسُ » بضم السين.
والبنان : أطراف الأصابع. مفرده : بنانة.
كذلك اذكروا أيها المؤمنون أن الله أوصى الملائكة أن تودِع في نفوسكم أن الله معكم بالتأييد والنصر، قائلا لهم : ثبِّتوا الذين آمنوا، قوُّوا قلوبهم.. وسأجعل الرعب يستولي على قلوب المشركين، فاضربوا رؤوسهم التي فوق أعناقهم، وقطِّعوا أيديهم التي يحملون بها السيوف.
الأدبار : واحدها دُبر مؤخرة الإنسان، يراد بها الهزيمة.
يا أيها الذين آمنوا، إذا واجهتم الذين كفروا في الميدان وهم زاحفون عليكم بكثرتهم فلا تفرّوا منهم.
متحيزا إلى فئة : منضمّا إليهم.
مأواه جهنم : مصيره إليها.
موهن كيد الكافرين : مضعف كيدهم وتدبيرهم.
إلا أن يكون ذلك أي فراركم منهم مكيدَة حرب، وحيث تختارون موقعاً أحسن، أو تدبّرون خطة، أو يكون ذلك التحيز انضماماً إلى فئة أخرى من المسلمين، لتعاودوا القتال.
إن من تولّى منكم وانهزم من وجه العدو يغضب الله عليه، ومصيره إلى النار.
والتولِّي يوم الزحف كبيرةٌ من السبع الموبقات، كما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«اجتنِبوا السبعَ الموبقات، قيل يا رسول الله وما هنّ ؟ قال : الشرك بالله، والسِّحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، وأكلُ الربا، وأكل مال اليتيم، والتولّي يومَ الزحف، وقذف المحصنَات الغافلات المؤمنات ».
﴿ وَلِيُبْلِيَ المؤمنين مِنْهُ بلاء حَسَناً ﴾ والله قد فعل ما ذكر ليبلي المؤمنين بالشدة، ليظهر إخلاصهم، ويُنعم عليهم بالنصر والغنيمة، وليثيبهم عليه من فضله وهو الذي وهبهم إياه.
﴿ إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ يسمع استغاثتكم ويعلم حالكم.
قراءات :
قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر «مُوهِنٌ كيدَ الكافرين » بالتنوين ونصب كيد، وقرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع :«مُوَهّنٌ كيد » بتشديد الهاء. وقرأ حفص :«مُوهِن كيد » بالإضافة وهي قراءة المصحف. وقرأ نافع وابن عامر وحفص «وأنَّ » بفتح الهمزة والباقون بكسرها.
إن تستفتحوا فتطلبوا من الله أن يفتح بينكم، وبين المسلمين، وأن يُهلك أضلَّ الفريقين وأقطعَهُا للرحم فقد استجاب الله، فجعل النصر للمسلمين، والهزيمة عليكم.
﴿ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾ وعلى ضوء هذه الحقيقة، يرغِّبهم الله في الانتهاء عما هم فيه من الشرك والكفر ومحاربة الله ورسوله وأن تعودوا للاعتداء نعدْ عليكم بالهزيمة.
﴿ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ ﴾ لن تغنَي عنكم جماعتكم المجتمعة على الإثم شيئا، ولو كان عددها كثيرا، وماذا تفعل الكثرة إذا كان الله في جانب المؤمنين !
﴿ وأَنَّ الله مَعَ المؤمنين ﴾ إذا صدقوا وأخلصوا لله وللرسول، وقاموا بواجبهم، ونصروا الله ورسوله.
في سبيل هذا ناداهم الله ست مرات بوصف الإيمان ﴿ يا أيها الذين آمَنُواْ ﴾ وقد تقدم النداء الأول في الآية من ١٥-١٩ حذرهم فيه من الفرار أمام الأعداء.
والنداء الثاني في هذه الآية :﴿ يا أيها الذين آمنوا أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ... ﴾ أطيعوا الله ورسوله في الإجابة إلى الجهاد، وقد علمتم أن النصر كان بتأييد الله وطاعة رسوله، فاستمروا على طاعتكم لله وللرسول، ولا تعرضوا عن دعوة الرسول إلى الحق وأنتم تسمعون كلامه الداعي إلى وجوب طاعته وموالاته ونصره.
﴿ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ ﴾ ولو سمعوه وفهموه لانصرفوا عن الهداية، وهم منصرفون عن تدبير ما سمعوا والانتفاع به، فقدوا نور الفطرة وران على قلوبهم ما كانوا يكسبون.
يا أيها الذين آمنوا أجيبوا الله ولبّوه فيما يأمركم به، وأجيبوا الرسول في تبليغه ما يأمره الله به، إذا دعاكم الرسول إلى أوامر الله بالأحكام التي فيها حياة أجسامكم وأرواحكم وعقولكم وقلوبكم. فنحن مأمورون أن نطيع الرسول الكريم ونتّبع ما يقول وما يفعل، وما يأمرنا به وما ينهانا عنه. إن سنّة الرسول الكريم أصل من أصول الإسلام، والعمل بها عملٌ على حفظ كيان الإسلام وتقدمه، وفي تركها انحلال الإسلام. كيف نفهم القرآن الكريم لولا سنّة رسوله ؟ لقد وردت الصلاة والزكاة والحج وكثير من أركان الإسلام بألفاظ عامة في القرآن الكريم، والرسول هو الذي علّمنا إياها وشرحها لنا بأحاديثه وأفعاله.
وهنالك في هذه الأيام فئات من الناس يدعون إلى ترك الحديث وسنة الرسول وعدم الأخذ بها، وما هذه الدعوة إلا لهدم الإسلام وتقويض أركانه. وهذا خروج عن الإسلام وإلحاد كبير نعوذ بالله منه.
﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ ﴾ واعلموا علم اليقين أن الله قائم على قلوبكم، يوجّهها كما يشاء.
روى البخاري وأصحاب السنن قال : كانت يمين النبي «لا ومقلّب القلوب ». وفي صحيح مسلم :«اللهم مصرّف القلوب، صرِّفْ قلوبنا إلى طاعتك ».
﴿ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ وأنكم جميعا ستجمعون يوم القيامة يوم البعث والجزاء.
فاتقوا أيها المؤمنون الفتن، واضربوا على أيدي المجرمين، فإن الذنب العظيم مفسدٌ جماعتكم ولا يصيب الذين ظلموا وحدهم، بل يصيب الجميع. والأفرادُ في نظر القرآن مسؤولون عن خاصة أنفسهم، ومسؤولون عن أمتهم أيضاً فإذا قصروا في أحد الجانبين أو فيهما- عرّضوا أنفسهم وأمتهم للدمار والهلاك.
﴿ واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب ﴾ للأمم والأفراد إذا سكتوا عن الفحشاء والمنكَر فيهم، ولم يتلافوا المفاسد التي تحصل بينهم.
﴿ واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض... ﴾ تذكّروا أيها المؤمنون، وقت أن كنتم عدداً قليلا، وضعفاء يستغلّ أعداؤكم ضعفكم، وقد استولى عليكم الخوف من أن يتخطفكم أعداؤكم فيفتكوا بكم. يومئذٍ آواكم أيها المهاجرون إلى يثرب حيث تلقّاكم الأنصار، وأيدكم وإياهم بنصره في غزواتكم، ورزَقكُم الغنائم الطيبة رجاء أن تشكروا هذه النعم فتسيروا في طريق الجهاد لإعلاء كلمة الله.
يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول بموالاة الأعداء، ولا تخونوا الأمانات التي تكون بينكم، فالخيانة من صفات المنافقين، والأمانة من صفات المؤمنين.
وأكبر خيانة في الوقت الحاضر هي قعود المسلمين عن الجهاد في سبيل الله، وتركُ المسجد الأقصى في يد أعداء الله اليهود. فالخيانة بكل معانيها صفة مذمومة. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلَف، وإذا ائتُمِن خان، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم ».
﴿ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ وأنتم تعلمون مفاسد الخيانة وتحريم الله لها وسوء عاقبتها في الدنيا والآخرة.
إن ذلك يفسِد أموركم. فيجب على المؤمن الصادق الإيمان أن يتقي الفتنة في المال بأن يكسبه من الحلال وينفقه في سبيل البر والإحسان، ويتقي الفتنة في الأولاد بحسن تربيتهم وتعويدهم الفضائل وحسن الأخلاق.
﴿ وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ يجزيكم به عن المال والولد، فعليكم أن تؤثروا ما عند ربكم.
لمّا حذّر الله تعالى عن الفتنة بالأموال والأولاد، قفّى على ذلك بطلب التقوى التي هي أساس الخير كله، وأن التقوى شجرة مثمرة، أعظم ثمارها الفرقان والنور الذي يبصرّنا بالحق والعدل والصلاح، والذي به نهتدي ونسعد، كما تُمحى سيئاتنا، ويغفر الله لنا ذنوبنا، وبه تفتح لنا أبواب السماء.
﴿ يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إَن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله ذُو الفضل العظيم ﴾ إن تخضعوا لأوامر الله في السر والعلن، يجعل الله تعالى في أنفسكم قدرةً تفرّقون بها بين الحق والباطل، وينصركم على أعدائكم، ويغفر لكم جميع ذنوبكم، فهو ذو الفضل العظيم عليكم وعلى جميع خلقه.
يمكرون : يدبرون لك أخبث الحيل. ويمكر الله : يُبطل مكرهم.
في هذه الآية الكريمة تصوير لموقف المشركين وهم يبيتون لرسول الله قبل الهجرة ويتآمرون عليه.
اذكر أيها الرسول، نعمة الله عليك إذ يمكر بك المشركون للإيقاع بك، إما بالحبس الذي يمنعك من لقاء الناس ودعوتهم إلى الإسلام، وإما بالقتل، وإما بأن يُخرجوك من مكة، يدبّرون لك التدبير السيء، والله تعالى يُبطل مكرهم بأن يدبرّ لك الخروج من شرهم. وتدبيرُ الله هو الخير وهو الأقوى والغالب.
ولما قص الله علينا مكرهم في ذاتِ النبيّ عليه السلام قصّ علينا هنا مكرهم في دِين محمد فقال :
﴿ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا.... ﴾.
اذكر أيها النبي، معاندة المشركين عندما كنتَ تقرأ عليهم آياتِ القرآن الكريم، وهي آياتنا، فيقولون جهلاً منهم وعناداً للحق : لو أردنا أن نقول مثل هذا القرآن لفعلْنا، إن هذا يشبه أساطير الأمم القديمة وخرافاتها.
وكان زعماء قريش كأبي جهل والوليد بن المغيرة والنضْر بن الحارث وغيرهم يتواصَون بالإعراض عن سماع القرآن ويمنعون الناس عنه. وكان النضر بن الحارث يحفظ كثيرا من أخبار الأمم القديمة كالفرس والهند واليهود، فكان يتتبع الرسول الكريم وكلّما سمعه يتلو القرآن، يجلس على إثره ويحدّث الناس بأخبار الملوك وقصص الفرس والهند ثم يقول : بالله أيّنا أحسن قصصنا ؟ أنا أو محمد ؟.
ولقد أسره المقداد بن الأسودَ يوم بدر، وأمر النبيُّ عليه الصلاة والسلام بقتله.
﴿ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المتقون ﴾ إن أولياءه الحقيقيين هم المؤمنون الطائعون لله، ولكنّ أكثرَ المشرِكين لا يعلمون حقيقة الدين، ولا مقام ذلك البيت الكريم.
وتصدية : تصفيقا باليد.
وما كانت صلاة المشركين وطوافهم في البيت الحرام إلا من قبيل اللّهو واللعب، فكانوا يطوفون رجالاً ونساءً عراةً يصفرون بأفواههم ويصفّقون.
﴿ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ ذوقوا عذابَ القتلِ لبعض كُبرائكم والأسرِ للآخرين منهم، وانهزامَ الباقين مدحورين يوم بدرٍ بسببِ كفركم.
قال بعض العلماء إن الآيات من رقم ٣٠ إلى ٣٦ مكيّة، وذلك لأنها تتحدث عن الهجرة وما كان يجري بمكة من أفعالِ مشركي قريش، وهذا وهمٌ غير صحيح، إذ أن سورة الأنفال كلّها مدنية، أما ما جاء في هذه الآيات فهو لتسلية الرسول الكريم، وللعِبرة والذكرى.
إن هؤلاء الكفار الذي جحدوا آيات الله وأشركوا به، ينفقون أموالهم ليمنعوا الناس عن الإيمان بالله واتّباع رسوله.. إنهم سينفقون هذه الأموال لتكون حسرة عليهم، ولن تفيدهم شيئا، وسيُغلَبون في ساحة القتال في الدنيا ثم يساقون يوم القيامة إلى جهنّم وستكون تلك هي الحسرة الكبرى لهم.
وليس ما حدَثَ قبل بدرٍ وبعدها إلا أنموذجاً من الأسلوب التقليدي لأعداء هذا الدين. وقد استمرَ العداء منذ فجر الدعوة ولا يزال، ومن الشرق والغرب، فلم يتركوا وسيلة إلا اتخذوها ليهاجموا الإسلام والمسلمين، واللهُ سبحانه وتعالى حفظ هذا الدين، وسيُبقيهِ عاليا إلى أن يرِث الأرضَ ومن عليها.
لقد كتب تعالى النصر لعباده المتقين والخذلان والحسرة لمن يعاديهم من الكفار، ليميز الكفرَ من الإيمان، والحق والعدل من الجور والطغيان، وليجعل الخبيث بعضهَ فوق بعض، ثم يجعل أصحابه في جهنم، وهم الخاسرون في الدنيا والآخرة.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي :«لِيُمَيِّزَ » بالتشديد والباقون لِيَميزَ كما هو في المصحف.
﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾.
استمِروا أيها المؤمنون في قتال المشركين حتى تزول الفتنةُ في الدين، ويمتنعوا عن إفسادهم لعقائد المؤمنين بالاضطهاد والأذى، فإن رجعوا عن الكفر وخلَصَ الدين لله، فإن الله تعالى عليمٌ بأعمالهم ومُجازيهم على ما فعلوا.
وما غُلب المسلمون في هذه الأيام وذهَبَت أرضُهم إلا لأنهم تركوا الاهتداء بهدي دينهم، وتركوا الاستعداد المادّي والحربيّ الذي طلبه بقوله :﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ ﴾ [ الأنفال : ٦١ ] وتفرَّقوا دولاً كثيرة فذهبتْ ريحُهم وقلّتْ هيبتُهم وغُلبوا على أمرهم.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعا إلى ما يحبّه ويرضاه، ويجمع شتاتنا على الخير والهدى فنعود صفّاً واحدا، ونعيد مقدّساتنا إلى حظيرة الإسلام، إنه نعم المولى ونعم النصير.
اعلموا أيها المؤمنون، أن حُكم كل ما غنمتموه من الأعداء المحاربين أن يُقسم خمسة أخماس : خمس منها لله وللرسول ولقرابته، واليتامى، وهم أطفال المسلمين الذين مات آباؤهم وهم فقراء، والمساكين، وهم ذوو الحاجة من المسلمين، وابن السبيل، وهم المنقطع في سفره. ويُنفق من هذا المخصص لله وللرسول في المصالح العامة التي يقررها الرسول في حياته، ويقرّرها الإمامُ بعد وفاته، وباقي الخمس يصرف للمذكورين آنفا. وأما الأخماس الأربعة الباقية من الغنيمة، فهي للمقاتلين.
وقرابة النبي عليه الصلاة والسلام هم بنو هاشم وبنو المطّلب، دون بني عبد شمس ونوفل.
روى البخاري عن مطعم بن جبير ( من بني نوفل ) قال : مشيت أنا وعثمان بن عفان ( من بني عبد شمس ) إلى الرسول فقلنا : يا رسول الله، أعطيتَ بني المطّلب وتركتَنا، ونحن وهم بمنزلة واحدة، فقال الرسول الكريم :( إنما بنو المطّلب وبنو هاشم واحِد ).
والسر في هذا أن قريشاً لما حصَرت بني هاشم في الشِعب وقاطعتهم دخَلَ معهم فيه بنو المطلب، ولم يدخل بنو عبد شمس ولا بنو نوفل.
والحكمة في تقسيم الخُمس على هذا النحو، أن الدولة التي تدير سياسة الأمة لا بدَّ لها من المال لتستعين به على القيام بالمصالح العامة، كشعائر الدين والدفاع عن الأمة، وهو ما جُعل لِلّه في هذه الآية، ثم إن هناك نفقة رئيس حكومتها وهو سهمُ الرسول فيها، ثم لِذوي القربى وذوي الحاجات من ضعفاء الأمة.
ولا يزال هذا الاعتبار معمولاً به في كثير من الدول مع اختلاف شؤون المجتمع والمصالح العامة، فالمالُ الذي رُصد للمصالح العامة يدخل في موازنة الوزارات المختلفة ما بين مصروفات علنية وسرّية، ولا سيما الأمور الحربية. وكذلك راتبُ رأس الدولة من ملكٍ أو رئيس جمهورية، منه ما هو خاصٌ بشخصه، ومنه ما هو لأُسرته وعياله. ومن موازنة الدولة ما يُبذل لإعانة الجمعيات الخيرية والعِلمية غيرها.
وعند الشيعة تفسيرٌ للغنيمة أعمُّ مما عند السنّة، كما أنهم اختلفوا عنهم في تقسيم الخمس، فقالوا : يُقسم الخُمس إلى قسمين : الأول منها ثلاثة أسهم : سهمٌ لله، وسهم لرسوله، وسهم لذوي قرباه. وما كان لله فهو للرسول، وما كان للرسول فهو لقرابته، ووليُّ القرابة بعد النبي هو الإمام المعصوم القائم مقام النبي، فإن وُجد أعطي له، وإلا وجَب إنفاقه في المصالح الدينية، وأهمُّها الدعوةُ إلى الإسلام، والعملُ على نشره وإعزازه.
أما القسم الثاني فهو ثلاثة أسهم : سهم لأيتام آل محمد، وسهم لمساكينهم، وسهم لأبناء السبيل منهم خاصة، لا يشاركهم فيه أحد، لأن الله حرّم عليهم الصَدقات فعوّضهم عنها بالخمس.
فاعلموا ذلك أيها المسلمون، واعملوا به إن كنتم آمنتم بالله حقا، وآمنتم بما أَنزلْنا على عبدنا محمد يوم الفرقان من آيات التثبيت والمدد، وهو اليوم الذي التقى فيه جمعكم وجمع الكافرين ببدر.
﴿ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ ومن عظيم قدرته أن نصَركم على قلتكم وضعفكم، وخذل الكافرين مع كثرتهم.
القُصْوى : مؤنث الأقصى ومعناها البعيدة.
البينة : الحجة الظاهرة.
ذات الصدور : ما يدور في النفس من أفكار.
اذكروا حين كنتم في موقعة بدر بالجانب الأقرب إلى المدينة، وكفار قريش في أبعدِ الجانبين، والقافلةُ التي خرجتم تطلبونها أقربُ إليكم مما يلي البحر، ولو تواعدتُم على التلاقي للقتال لما اتّفقتم عليه، ولكن الله دبَّر تلاقيكم على غير موعد، لينفِّذ أمراً كان ثابتاً في علمه أنه واقع لا محالة، وهو القتال المؤدي إلى نصركم وهزيمتهم.
﴿ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ﴾ ليهلك الهالكون من كفار قريش عن حجَّة ظاهرة، وهي هزيمة الكثرة الكافرة ويحيا المؤمنون من حجّة بينة، وهي نصر الله للقلة المؤمنة، إن الله لَسميع عليم لا يخفى عليه شيء من أقوال الفريقين ولا نيّاتهم.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو :«بالعِدوَة » بكسر العين والباقون بالضم.
وأوّلها الثباتُ أمام الأعداء، ثم ذِكر الله بالقلب واللسان، واستحضارُ عظمة الله ثم طاعةُ الله والرسول، فكلّ مخالفةٍ تؤخر النصر، وتفتح ثغرة للعدوّ. ثم يؤكد ذلك كله بتحذير يسد به نافذةً خطِرة يهبُّ منها الشر والفساد، هي نافذة التنازع والاختلاف فيما بينهم، مما يؤدي إلى الفشل وذهاب القوة، هذه قاعدة مطّردة من قواعد الاجتماع، وسنّة ثابتة من سنن الله. وهذا ما هو حاصل في مجتمعنا العربي، وهو داؤنا الّذي يفتّت قوانا ويجعل العدو يعيش ويتوسّع.
يا أيها الّذين آمنوا إذا لقيتم فئةً من أعدائكم فاثبُتوا، وأكثِروا من ذِكر الله مستحضِرين عظمته وحسن وعده بنصركم. إن الثباتَ وذِكر الله هما وسيلتان من وسائل الفوز والنصر.
تذهب ريحكم : تذهب قوتكم وهيبتكم.
وأطيعوا الله ورسوله فيما أُمرتم به أو نُهيتم عنه، وتجنّبوا التنازعَ والاختلاف فيما بينكم، فإن ذلك من أكبر أسباب الفشل والخيبة. واصبِروا على الشدائد وما تلقَون من مكارِه الحرب من بأس العدوّ واستعداده وكثرة عدده، فإن الله مع الصابرين يمدُّهم بالعَون والتأييد... ومَن كان الله معه فلا غالب له.
رئاء : رياء.
ولا تكونوا كأعدائكم المشرِكين الذين خرجوا من ديارهم في مكة مغرورين بَطِرين، متظاهرين أمام الناس رياءً يريدون الثناء عليهم بالشجاعة.
﴿ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ والله عليم بما جاءوا من أجله، عالِم بأعمالهم، وسوف يجازيهم عليها في الدنيا والآخرة.
اذكر أيّها الرسول، للمؤمنين كيف زيّن الشيطان لهؤلاء المشركين أعمالهم بوسوستِه، قائلا لهم إنه لا أحد من الناس يغلبهُم، لأنه هو مجيرٌ لهم، فلما تقابلَ الفريقان في الحرب نكص على عقِبيه وهرب وتبرّأ منهم. لقد خاف أن يُهلكه الله، واللهُ شديد العقاب على الذنوب.
اذكر يا محمد، ماذا كان يقول المنافقون من الكفّار، وضعفاء الإيمان عند رؤيتكم في إقدامكم وثباتكم : لقد غرَّ هؤلاء المسلمين دينهم.
﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَإِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ ومن يكِل أمره إلى الله ويؤمن إيماناً خالصاً فان الله يكفيه ما أهمَّه، وينصره على أعدائه، فهو العزيز الغالب، والحكيم الذي يضع كل أمر في موضعه.
عذاب الحريق : عذاب النار في الآخرة.
بعد أن بيّن الله تعالى حال هؤلاء الكفار في خروجهم إلى قتال المؤمنين بَطَراً ورياءً، وتزيينَ الشيطان لهم أعمالَهم، قفّى على ذلك بذِكر أحوالهم حين موتهم وبيان العذاب الذي ينالونه عندئذٍ. ثم ذكر أن الملائكة تأخذ الذين كفروا بالتعذيب والتأنيب حين يقبضون أرواحهم بصورة منكرة، ويؤذونهم أذى مهينا، جزاء على البطر والاستكبار. ويذكر في أثناء هذا العرض أن أخْذ الكفار بتكذيبهم سنّةٌ ماضية. وأنه كذلك أخَذ فرعون.
ولو ترى أيها الرسول ذلك الهول الخطير ينزل بهؤلاء الكفار حين تتوفاهم الملائكة لرأيتهم يضربون وجوههم وظهورهم، ويقولون لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذّبون.
قراءات :
قرأ ابن عامر :«إذ تتوفَّى » بتائين. والباقون :«يَتَوفى » بالياء.
إن الله تعالى لا يترك الناس سُدى، وإنما هي سنّته يمضي بها قدَرُه، وليس فعل هؤلاء المشركين من قريش الذين قُتلوا ببدر وما أصابهم إلا ما يصيب المشركين في كل زمان. لقد أصاب مثلُه آل فرعون والذين من قبلهم من الأمم الخالية، وقد آتاهم الله من نعمته، ورزقهم من فضله، ومكن لهم في الأرض، وجعلهم خلائف فيها، فطغَوا وبغَوا وتجبروا، وجاءتهم آيات الله فكفروا بها، فحقَّت عليهم كلمة ربك، وأخذَهم بالعذاب.
﴿ إِنَّ الله قَوِيٌّ شَدِيدُ العقاب ﴾ لا يغلبه غالب، شديد المجازاة لمن يستحق عقابه.
روى مسلم في صحيحه عن أبي ذرّ رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إن الله تعالى يقول : إني حرّمت الظلمَ على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تَظالموا، يا عبادي إنما هي أعمالكم أُحصيها لكم، فمن وجَد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه » والحديث طويل نفيس.
﴿ وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ سميع لما يقولون عليم بما يفعلون.
وكما أن دأْب هؤلاء الكفار في الإنكار لآيات الله ونعمه كدأب آل فرعون والذين من قبلهم، فإن دأبهم أيضا الاستمرار على التكذيب برسله، مثل آل فرعون والذين من قبلهم، من ثم كان الشبه بينهم في الكفر بالآيات وجحود رسالة الرسل، وفي الاستمرار على ذلك.
لهذا أخذ الله الجميع بذنوبهم : أولئك بالصواعق والرياح ونحوها، وآل فرعون بالغرق، وكلهم كانوا ظالمين، فاستحقوا ما نزل بهم من العقاب.
لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة صار الكفار معه أقساماً ثلاثة : قسماً : صالحهم ووادعهم على أن لا يحاربوه ولا يظاهروا عليه ولا يوالوا عليه عدوَّه، وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم. وقسماً : حاربوه ونصبوا له العداوة. وقسماً : تركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يؤول إليه أمره وأمر أعدائه.
ثم من هؤلاء من كان يحبّ انتصار الرسول في الباطن، ومنهم من كان يحب انتصار المشركين، ومنهم من دخل معه في الظاهر، وهو مع عدوه في الباطن ليأمن الفريقين. هؤلاء هم المنافقون. وقد عامل الرسول كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره به الله.
وكان من بين من صالحهم ووادعهم طوائف اليهود الثلاث المقيمين حول المدينة، وهم بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة. كما كان من بينهم قبائل من المشركين مجاورة للمدينة.
وقد وردت روايات متعددة في المقصودين بهذا النص، قيل : إنهم بنو قريظة، وقيل : إنهم بنو النضير، وقيل : إنهم بنو قينقاع، وقيل : إنهم الأعراب الذين كانوا حول المدينة من المشركين. وقد نقض اليهود عهودهم مع رسول الله أكثر من مرة، كما تكرر نقض المشركين من العرب لعهودهم. والمهم أن نعلم أن هذه النصوص تتحدث عن حالةٍ واقعةٍ قبل بدرٍ وبعدها.
﴿ إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ إن شر ما يدبّ على وجه الأرض عند الله في حُكمه وعدله هم الكفار المصرّون على كفرهم.
فشرِّد بهم. أبعدهم ونكل بهم.
من خلفهم : كفار مكة وأعوانهم من مشركي القبائل الموالية لهم.
وبعد أن بين تعالى أنهم قد تكرر منهم نقض العهد، ذكر ما يجب أن يعاملوا به قال :
﴿ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ ﴾، فإن تدركْ أيها الرسول، هؤلاء الناقضين لعهدهم في الحرب ظافرا بهم، فنكِّلْ بهم تنكيلا يسوؤهم ويخيف مَنْ وراءهم من الأعداء، ﴿ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ لعل مَن خَلْفهم من الأعداء يذكرون ذلك النكال فيمنعهم من نقض العهد والقتال.
﴿ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين ﴾ إن الخيانة مبغوضة بجميع ضروبها، فأبعدوا عنها أيها المؤمنون.
روى البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«ثلاثةٌ المسلمُ والكافر فيهن سواء، من عاهدتَه فَوَفِّ بعهده، مسلماً كان أو كافرا، فإنما العهد لله. ومن كانت بينك وبينه رحِم فصِلْها، مسلما كان أو كافرا. ومن ائتمنك على أمانة فأدّها إليه، مسلما كان أو كافرا ».
﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ سبقوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ ﴾، ولا يظن الذين كفروا أنهم قد نجوا من جزاء خيانتهم وغدرهم، فهم لا يعجزون الله ولن يعجزوه، ولا يفوقونه في مكرهم أبدا، بل هو القادر وحده، وسيجزيهم بقوته وعدله.
قراءات :
قرأ ابن عامر وحمزة وحفص :«ولا يحسبَنَّ » بالياء. والباقون :«ولا تحسبن » بالتاء، وقرأ ابن عامر «أنهم لا يعجزون » بفتح الهمزة، والباقون بكسرها.
بعد ذلك بيّن الله تعالى أن الاستعداد بما فيه القدرة والطاقة فريضة تصاحب فريضة الجهاد، والاستعداد أنفى للاعتداء.
أعدّوا يا معشر المسلمين، لمواجهة أعدائكم ما استطعتم من قوة حربيّة شاملة لجميع عتاد القتال، ومن المرابطين في الثغور وأطراف البلاد بِخَيلهم، لتخيفوا بكل ذلك عدوَّ الله وعدوكم، من الكفار المتربصين.
﴿ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ ﴾ وليخيفوا أيضا آخرين غير هؤلاء الأعداء، أنتم لا تعلمونهم الآن لكن الله يعلمهم، لأنه لا يخفى عليه شيء.
﴿ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ﴾ إن الله يجزيكم جزاء وافيا، عن كل ما أنفقتم من شيء في سبيل إعداد القوة قاصدين به وجه الله، دون أن ينقصكم مثقال ذرة مما تستحقون.
السلم : بفتح السين وكسرها، ضد الحرب.
وإن مالَ الأعداء المحاربون إلى السلم، فاجنح لها أيها الرسول، فليست الحرب غرضاً مقصوداً لذاته عندك، إنما تقع دفعاً لعدوانهم وتحدّيهم لدعوتك، فاقبل السلم وتوكل على الله، ولا تخف كيدهم ومكرهم، إنه سبحانه هو السميع لما يتشاورون به، العليم بما يدبرون ويأتمرون.
قراءات :
قرأ أبو بكر :«للسّلِم » بكسر السين، والباقون بفتحها والمعنى واحد.
في سبيل هذا التأليف بين قلوبهم، لما أمكنك أن تصل إليه، لكنّ الله ألَّف بينهم، بقدرته، إنه تعالى قوي غالب يدبر أمر العباد على مقتضى ما ينفعهم.
يا أيها النبيّ، إن الله كافٍ كلَّ ما يهمّك من أمر الأعداء، متكفل بك ومن اتبعك من المؤمنين.
فشجّع المؤمنين على القتال لإعلاءِ كلمة الله، ورغِّبهم فيما وراء ذلك من خير الدنيا والآخرة. واعلم يا محمد، أنه إن يوجد منكم عشرون معتصمون بالإيمان والصبر يغلبوا مئتين من الذين كفروا، ذلك بأن الكافرين لا يدرِكون حقائق الأمور، فليس لهم إيمان ولا صبر ولا مطمع في ثواب.
الضعف : بالفتح والضم، ضد القوة.
إن واجبكم أيها المؤمنون، أن تصبروا على ملاقاة أعدائكم ولو كانوا عشرة أمثالكم، لكن الله قد خفف عنكم الآن فجعل عليكم أن تصبروا أمام مِثَلْيكم فقط، لعلمه أن فيكم ضعفاً يقتضي التيسير عليكم والترخيص لكم، فإن يكن منكم مائةُ مجاهدٍ صابر يغلبوا مائتين من الكفار، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإرادة الله ومعونته، والله مع الصابرين.
قراءات :
قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر :«إن تكن » بالتاء في الآيتين. وقرأ عاصم وحمزة :«ضعْفاً » بفتح الضاد والباقون :«ضُعفاً » بضمها.
الإثخان : الشدة، حتى يثخن في الأرض : يُكثر القتال ويبالغ فيه.
عرض الدنيا : حطام الدنيا وما فيها من زخارف.
لا يسوغ لأحد من الأنبياء أن يكون له أسرى يحتجزهم، أو يأخذ منهم الفِداء، أو يمنّ عليهم بالعفو، حتى يتغلّب على أعدائه، ويُكثر القتل والجراح فيهم، فلا يستطيعوا قتالا بعد ذلك، ولكنّكم أيها المؤمنون سارعتم في غزوة بدر إلا اتخاذ الأسرى قبل التمكّن في الأرض تريدون منافع الدنيا وحُطامَها، والله يريد لكم الآخرة.
﴿ والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ عزيز يَهَبُ العزة للمؤمنين وإن لم يكن لهم أسرى، وهو حكيم في تدبيره وأمره ونهيه.
قراءات :
قرأ أهل البصرة «أن تكون » بالتاء.
روى الإمام أحمد عن أنس قال : استشار النبي صلى الله عليه وسلم في الأسارى يوم بدر فقال : إن الله مكّنكم منهم، فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله اضربْ أعناقهم. فأعرض عنه النبي، ثم عاد رسول الله لمقالته، إنما هم إخوانكم بالأمس. وعاد عمر لمقالته، فأعرض عنه. فقام أبو بكر الصدّيق فقال : يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم، وأن تقبل منهم الفداء ؟ قال : فذهب عن وجه رسول الله ما كان فيه من الغم، فعفا عنهم وقبل منهم الفداء.
وفي رواية ابن عباس عن عمر زيادة هي : فلما كان الغد جئتُ، فإذا رسول الله وأبو بكر يبكيان فقلت : يا رسولَ الله، أخبِرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك... فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبكي على أصحابك من أخذِهم الفداءَ، لقد عرض عليَّ عذابُهم أدنى من هذه الشجرة. فأنزل الله عز وجل «وما كان لنبي.... » الآية.
لولا حكمٌ سابق من الله بالعفو عن المجتهد المخطىء لأصابكم فيما أخذتم من الفِداء عذابٌ كبير بسبب ما تعجّلتم به.
﴿ فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً واتقوا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ كلوا مما غنمتم من الفداء حلالا لكم طيبا في نفسه لا خبث فيه، واتقوا الله في كل أموركم، إنه غفور لذنبكم السابق حين أخذتم الفداء.
يا أيها النبي، قل للأسرى الّذين أخذتم منهم الفداء : إن يكن في قلوبكم خير يعلمه الله فسيُخلِفُ لكم خيراً مما أخذه المؤمنون منكم، ويغفر لكم ما كان من الشرك والسيئات.
إن الله غفور لمن تاب من كفره وذنوبه، رحيم بالمؤمنين يشملهم بعنايته وتوفيقه.
قراءات :
قرأ أبو عمرو :«من الأسارى » والباقون :«من الأَسرى ».
وفي الوقت الذي يفتح الله للأسارى باب الرجاء، يحذرهم خيانة الرسول- صلى الله عليه وسلم - كما خانوا الله من قبل فلاقوا هذا المصير.
آواه : أسكنه.
قسم الله المؤمنين أربعة أقسام وبيّن حُكم كل منها ومنزلته من بينها :
١- المهاجرون الأولون أصحاب الهجرة الأولى قبل غزوة بدر إلى صلح الحديبية.
٢- الأنصار الذين كانوا بالمدينة وآووا النبي عليه الصلاة والسلام والمهاجرين من أصحابه عند الهجرة.
٣- المؤمنون الذين لم يهاجروا.
٤- المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية.
١- ﴿ إِنَّ الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله ﴾ هؤلاء هم الكَمَلَة المؤمنون الذين هجروا أوطانهم فِراراً بدِينهم من فتنة المشركين، وإرضاء لربهم ونصراً لرسوله، ثم جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله.
٢- ﴿ والذين آوَواْ ونصروا ﴾ والأنصار من أهل المدينة الذي آووا الرسول الكريم ومن هاجر من أصحابه ونصروهم، وأمّنوهم من المخاوف، وشاركوهم في أموالهم حتى آثروهم على أنفسهم، فحُكمهم حكم المهاجرين الأولين. ﴿ أولئك بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ بعضهم نصراء بعض في تأييد الحق وإعلاء كلمة الله على الحق.
٣- ﴿ والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ ﴾ والذين لم يهاجروا من المؤمنين، لا يثبت لهم شيءٌ من ولاية المؤمنين ونصرتهم، إذ لا سبيل إلى وَلايتهم حتى يهاجروا.
﴿ وَإِنِ استنصروكم فِي الدين فَعَلَيْكُمُ النصر إِلاَّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ ﴾ وإن طلبوا منكم النصر على من اضطهدوهم في الدّين، فانصرُوهم، فإن طلبوا النصر على قوم معاهِدين لكم، لم ينقضوا الميثاق معكم فلا تجيبوهم.
﴿ والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ لا يخفى عليه شيء.
قراءات :
قرأ حمزة :«ولايتهم » بكسر الواو، والباقون بفتحها.
وبهذه المحافظة على العهود والمواثيق سِراً وجهراً امتازت الشريعة الإسلامية على غيرها، فشعارُ أهل الإسلام الوفاءُ بالعهود، والبعد عن الخيانة والغدر.
﴿ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ﴾ إن لم تفعلوا ما شُرع لكم من ولاية بعضكم لبعض، ومن تناصرُكم وتعاونكم تجاه وَلاية الكفّار بعضُهم لبعض، يقع من الفتنة والفساد ما فيه أعظمُ الضرر عليكم، بتخاذلكم الذي يُفضي إلى ظفر الأعداء بكم وسلبكم بلادكم. وهذا ما هو حاصل اليوم من تكتّل الأعداء ضدّنا، ونحن متمزقون في عدة دول وإمارات، يحارب بعضنا بعضاً والعدو يسرح ويرتع في بلادنا.
﴿ وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله... ﴾ وذوو القرابة من المؤمنون أولى من غيرِهم بالبر من المؤمنون أولى من غيرِهم بالبر والنصر والإحسان كما جاء في كتاب الله الكريم، فاتبعوه وتقيدوا به. فهو سبحانه إنما شرع لنا هذه الأحكام في الولاية العامة والخاصة والعهود والمواثيق وصِلة الأرحام وغير ذلك من التشريع، وهو على علم واسع محيط بكل شيء.
وقد استدل الشيعة بهذه الآية على أن من كان أقربَ إلى الميّت نَسباً فهو أولى بميراثه من الأبعد، فبِنتُ الميت تحجب أخاه عن الإرث لأنها أقرب منه إلى الميت، وأختُه تحجب عَمَّهُ لنفس السبب. وهكذا يحجب عندَهم الأقربُ الأبعدَ من جميع المراتب.