تفسير سورة الأنفال

الهداية الى بلوغ النهاية
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب الهداية الى بلوغ النهاية المعروف بـالهداية الى بلوغ النهاية .
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأنفال، مدنية١
١ قال في الكشف ١/٤٨٩، "سورة الأنفال مدنية، وهي سبعون آية وست في المدني، وخمس في الكوفي". في المحرر الوجيز ٢/٤٩٦: "هي مدنية كلها. كذا قال أكثر الناس،.... ، ولا خلاف في هذه السورة أنها نزلت في يوم بدر وأمر غنائمه". انظر: تفسير القرطبي ٧/٢٢٩، والبرهان ١/١٩٤، ومصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور ٢/١٤٤، والإتقان ١/٢٥..

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأنفال مدنية
قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال﴾ إلى قوله: ﴿مُّؤْمِنِينَ﴾.
قال أبو حاتم: الوقف على ﴿ذَاتَ﴾ بـ: " الهاء "، وكل العلماء قال: بـ: " التاء "؛ لأَنَّها مُضَافَةٌ، ولا يحسن الوقف عليها البتة إلا عن ضرورة.
وقرأ سعد بن أبي وقاص: " يسئلونك الأنفال "، بغير ﴿عَنِ﴾.
2707
والمعنى: يسألك أصحابك، يا محمد، عن الغنائم التي غنمتها يوم بدر، لمن هي؟ فقيل للنبي، ﷺ: قل يا محمد: هي لله والرسول.
و ﴿الأنفال﴾: الغنائم. بذلك قال عكرمة، ومجاهد، وابن عباس، وقتادة، وابن زيد، وعطاء.
فأكثر العلماء الذين جعلوها: الغنائم، على أنها منسوخة بقوله: ﴿واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ﴾ [الأنفال: ٤١]، الآية.
2708
وقيل: ﴿الأنفال﴾ هي زِيَادَاتٌ تزيدها الأئمة لمن شاء، إذا كان في ذلك صلاح للمسلمين، فهي مُحْكَمَةٌ. وروي ذلك عن ابن عمر، وعن ابن عباس.
وقيل: ﴿الأنفال﴾: ما شذَّ من العدو، من عبد أو دابة، للإمام أن يُنْفِلَ ذلك من شاء إذا كان ذلك صلاحاً. قاله الحسن.
﴿الأنفال﴾: جمع " نَفَلٍ "، و " النَّفَلُ ": الغنيمة، سميت بذلك، لأنها تَفَضُّلٌ من الله، تعالى، على هذه الأمة، لم تحل لأحد قبلها.
2709
وقوله: ﴿قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول﴾، يَدُلُّ على أنهم سألوا لمن هي.
وقوله: ﴿فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ﴾، يَدُلُّ على أن سؤالهم كان بعد تَنَازُعٍ فيها.
وقيل: ﴿الأنفال﴾: السَّرايا. قاله علي بن صالح.
وقال مجاهد ﴿الأنفال﴾: الخُمُسُ.
وهذه الآية نزلت في غنائم بدر، وذلك أن النبي ﷺ، زَادَ قَوْماً لِبَلاَءٍ أَبْلَوْا، فاختلفوا فيها، بعد تَقَضِّي الحرب، فنزلت الآية تعلمهم أنَّ ما فعل النبي ﷺ، ماضٍ جائز.
وروى ابن عباس (Bهما)، أن النبي، ﷺ، قال: " من أتى مكان كذا، وفعل كذا، فله كذا "، فتسارع الشبان، وبقي الشيوخ، فلما فتح الله عليهم، طلب الشبان ما
2710
جعل لهم النبي ﷺ، فقال الأشياخ: لا يذهبوا بذلك دوننا! فأنزل الله، تعالى: ﴿ فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ﴾ الآية.
وقيل: إن النبي ﷺ، سُئِلَ شيئاً من الغنائم قبل أن تقسم فامتنع من ذلك فنزلت: ﴿قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول﴾، فرخّص الله، تعالى، له أن يعطي مَنْ أَرَادَ.
و [قيل]: إنهم سألوه الغنيمة يوم بدر، فَأُعْلِمُوا أن ذلك لله والرسول.
و ﴿عَنِ﴾ في موضع: " مِنْ ".
وقرأ ابن مسعود على هذا التأويل: " يسئلونك الانفال ".
2711
وذكر ابن وهب: " أنها نزلت في رجلين أصابا سيفاً من النَّفْلِ، فاختصما فيه إلى رسول الله ﷺ، فقال النبي ﷺ: " هُوَ لي وَلَيْسَ لَكُمَا "، فنزل: ﴿قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول﴾، وأمر الرجلين أن يصلحا ذات بينهما، وأن يطيعا الله ورسوله في ما أمرهما به النبي ﷺ "
، / من دفع السيف إليه، ثم نُسِخَ ذلك بقوله: ﴿واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ﴾ الآية.
وَرُوِيَ أن الرجلين اللذين اختصما في السيف إلى النبي ﷺ،: سعد بن مالك بن وُهَيْب الزُّهري، ورجل من الأنصار، فَأُمِرا في الآية أن يسلماه إلى النبي، ﷺ، وأن يصلحا ذات بينهما، وأن يعطيا الله ورسوله فيما يأمرانهما من تسليم السيف إلى النبي ﷺ، وغير ذلك.
وقيل: إن أَهْلَ القُوَّة يوم بدر غنموا أكثر مم اغنم أهْلُ الضُّعْفِ، فذكروا ذلك لرسول الله، ﷺ، فَنَزَلَتْ: ﴿فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ﴾.
2712
وقيل: إنهم اختلفوا في الغنائم، فَنَزَلَتْ: ﴿فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ﴾.
" والبَيْنُ " هنا: " الوَصْلُ ".
أُمِروا بصلاح وصلهم، وألا يتقاطعوا في الاختلاف على الغنائم، كأنه قال: كونوا مُجْتَمِعي القُلُوب.
وأُنِثَتْ ﴿ذَاتَ﴾؛ لأنه يراد بها الحال التي هم عليها.
وذكر إسماعيل القاضي: أنهم اختلفوا ثلاث فرق، فقالت فرقة اتبعت العدو: نحن أولى بالغنائم، وقالت فرقة حَفَّت بالنبي ﷺ، نحن أولى، وقالت فرقة أحاطت بالغنائم، نحن أولى، فأنزل الله، تعالى، الآيات في ذلك.
قوله: ﴿إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾، الآية.
2713
فهذه الصفة صفة الكمال والتمام في الإيمان.
والمعنى: ليس المؤمن من الذي يخالف الله ورسوله، ويترك أمرهما، وإنما المؤمن الذي إذا سمع ذكر الله، تعالى، وَجِلَ قَلْبُهُ، وَخَضَعَ، وانْقَادَ لأمْرِهِ، تبارك وتعالى، وإذا قرئت عليه آيات كتاب الله، سبحانه، صدق بها وأيقن أنها من عند الله، جلت عظمته، فازداد إيماناً إلى إيمانه.
قال ابن عباس: المنافق لا يدخل قَلْبَهُ شَيْءٌ من ذلك، ولا يؤمن بشيء من كتاب الله، أي: من آيات الله سبحانه، ولا يتوكل على الله، تعالى، ولا يصلي إ ذا غاب عن عيون الناس، ولا يؤتي الزكاة فليس هذا بمؤمن، وإنما المؤمن من الذي وصفه الله تعالى، بالخشية وازدياد الإيمان عند سماع آيات الله، تعالى، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة.
قال مجاهد ﴿وَجِلَتْ﴾: فَرِقت.
وقال السدي: هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية، فيذكر الله، تعالى، فَيْنَزعُ عنها خَوْفاً من الله، سبحانه.
2714
﴿الذين يُقِيمُونَ الصلاة﴾، أي يقيمونها في أوقاتها، وقيل: يقيمونها بحدودها.
﴿أولائك هُمُ المؤمنون حَقّاً﴾ الآية، المعنى: أولئك الذين هذه صفتهم هم المؤمنون حقاً.
قال ابن عباس: ﴿المؤمنون حَقّاً﴾، أي: بَرِئُوْا من الكفر.
وَهَذَا بَابٌ تُذْكَرُ فَيهَ حَقِيقَةُ الإِيمَانِ وَتَفْسِيرُهُ، وَمَا رُوِيَ فِيهِ، إِنْ شَاءَ اللهُ، تعالى.
وحقيقة الإيمان عند أَهْلِ السُّنَّة: أنه المعرفة بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح، وكذلك رواه علي بن أبي طالب عن النبي ﷺ.
وقالت المُرجئة الإيمان: قول ومعرفة بالقلب بلا عمل.
2715
وقال الجهمية الإيمان: المعرفة بلا قول ولا عمل.
وأهل السنة والطريقة القويمة على أنه: المَعْرِفَةُ وَالقَوْلُ وَالعَمَلُ، كما رواه علي عن النبي ﷺ، وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ إِجْمَاعِ الأُمَّةِ.
قد أَجْمَعَ المُسْلِمُونَ على أنه من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم أخبر أن قلبه غَيْرُ مُصَدِّقٍ بشيء من ذلك، أنَّهُ كَافِرٌ، فدل على أَنَّ الاعتقاد لا بد منه.
ثم أَجْمَعُوا على أَنَّ الكافل إذا قال: قد اعتقدت/ في قلبي الإيمان ولم يقله ويسمع منه، [أن حكمه الكافر] حتى يقوله ويسمع منه، فَإنَّ دمه لو قتل لا تلزم منه دية، فدل على أن القول مع الاعتقاد لا بد منه.
ثم أَجْمَعُوا على أن شهد الشهادتين، وقال: اعتقادي مثل قولي، ولكني لا أصوم ولا أصلي ولا أعمل شيئاً من الفروض أنه يستتاب، فإن تاب وعمل وإلا قتل كما يقتل
2716
الكافر، فدل على وجوب العمل.
فصح من هذا الإجماع، أن الإيمان هو الاعتقاد والقول والعمل، وتمامه: موافقة السنة، وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله﴾، ثم قال: ﴿وَيُقِيمُواْ الصلاة وَيُؤْتُواْ الزكاة وَذَلِكَ دِينُ القيمة﴾ [البينة: ٥]، أي: دين الملة القيمة. ومن لم يقل: إن الله تعالى، أراد الإقرار والعمل من العباد فهو كافر. فإن قيل: لو أن رجلاً أسلم فأقر بجميع ما جاء به محمد ﷺ، أيكون مؤمناً بهذا الإقرار أم لا؟ قيل: له لا يطلق عليه اسم مؤمن إلا ونيته أنه لم يطلق عليه اسم مؤمن، ولو أنه أقرّ في الوقت وقال: لا أعمل إذا جاء وقت العمل، لم يطلق عليه اسم مؤمن.
والأعمال لا يقبل منها إلا ما أريد به وجه الله، (سبحانه)، فأما من أراد بعمله مَحْمَدَةَ الناس وَرَايَا به فليس مما يقبله الله، تعالى، وصاحبه في مشيئة الله سبحانه.
روى أبو هريرة أن النبي ي ﷺ قال: " أَوَّلُ مَا يُقْضَى فيه يوم القيامة ثلاثة: رجل
2717
استشهد فأمر به، فَعَرَّفَهُ نِعمهُ فَعَرَفَهَا؛ قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كَذبْتَ ولكن قاتلت ليقال: جَريءٌ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وحهه حتى ألقي في النار. ورحل تَعَلَّمَ العلم وعَلَّمَهُ، وقرأ القرآن، فأُتِيَ به، فعرَّفه نعمه، فعرفها، فقال: فما عملت فيها؟ فقال: تعملت فيك العلم وعلَّمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كَذَبْتَ، ولكنَّك تعلمت العلم ليقال: إنك عالم، فقد قيل، وقرأت القرآن ليقال: إنك قارئ، فقد قيل، ثم أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ على وجهه حتى ألقي في النار. ورَجل وسَّع الله عليه، وأعطاهُ أنواع المال كله، فَعَرَّفه نِعمه فَعَرَفَها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت في سبيل الله شيئاً تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: جَوَادٌ، فقد قيل، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ".
وروى أبو هريرة أيضاً، أن النبي ﷺ، ق ل: " قال الله جلّ ذكره من قائل،: أَنَا خَيْرُ الشُّرَكَاءِ، فمن عَمِلَ عَمَلاً أشرك فيه غيري، فهو للذي أشركه، وَأَنَا بَرِيءٌ منه ".
2718
وفي خبر آخر: " أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ ".
وروى ابن عمر أن النبي ﷺ، قال: " أَشَدُّ النَّاسِ يوم القيامة عَذَاباً، من يرى النَّاس أَنَّ فِيهِ خَيْراً وَلاَ خَيْرَ فِيهِ ".
وعنه، ﷺ،: " مَنْ رَاءَا بأمر يريد به سُمْعَةً فإنه في مَقْتٍ من اللهِ تعالى، حتى يجلس ".
وقال النبي ﷺ: " لا تخادعوا الله فإنه من خادع الله بخدعة فنفسه يخدع لو يشعر ". قالوا: يا رسول الله، وكيف يُخادع الله، قال: " تعمل ما أمرك به تطلب غيره، فاتقوا الرياء، فإنه الشرك، فإن المرائي يدعى يوم القيامة على/ رؤوس الأشهاد بأربعة أسماء، ينسب إليها: يا كافر، يا خاسر، يا فاجر، يا غادر، ضل أجرك، وبطل عملك، فلا خلاق لك اليوم، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له يا خادع ".
وعنه، ﷺ: " إن أدنى الرِّياء شِرْكٌ ".
2719
فيجب على المؤمين الراجي ثواب الله عز وجل، الخائف من عقابه، سبحانه، أن يخلص العمل لله سبحانه، ويريد به وجهه، تبارك وتعالى. وألاَّ يتباهى بعمله عند أحد فيشركه في علمه.
فإنَّ عَمِلَ عاملٌ عَمَلاً مُخْلِصاً لله ﷺ، في السر، فَسُرّ به، وأُعْجِبَ به إذ وفقه الله تعالى، لذلك فهو حسن، وليس ذلك برياء، وهو ممدوح إنْ سلم من الإعجاب بنفسه؛ فَإنَّ الإعجاب ضَرْبٌ من التكبر، والتكبر يُحْبِطُ الأَعْمَالَ.
فإن ظَهَرَ عَمَلُهُ الذي أَسَرَّه للناس من غير أن يُشْهِّره هو على طريق الافتخار به، فأثنوا عليه بفعله فَسَرَّه ذلك فليس برياء، بل له أجر على ذلك؛ لأن الأصل كان لله تعالى، والناس يَتَأَسَّونَ به في فعله.
وقد روى أبو هريرة:
" أن رجلاً قال لرسول الله ﷺ: يا رسول الله، دخل علي رجل وأنا أصل فأعجبني الحال التي رآني عليها، فقال له النبي ﷺ: " فلك أجران: أَجْرُ السَّرِ، وأَجْرُ العَلاَنِيَّة ".
وروى حبيب بن ثابت عن أبي صالح قال: " أتى النبي ﷺ، [ رجل]، فسأله
2720
عن رجل يعمل العمل من الخير يُسِرُّه، فإذا ظهر أعجبه ذلك، فقال له النبي ﷺ: " له أجران: أجرُ السّرِّ وأجرُ العلانيَّة ".
وروى حبيب: " أن ناساً من أصحاب النبي ﷺ، قالوا: يا رسول الله، إنَّا نعمل أعمالاً في السر، فنسمع الناس يذكرونها فيعجبنا أن تُذْكَرِ بِخَيْرٍ، فقال: " لكم أجر السر وأجر العلانية ".
وقد روىأنس " أن النبي ﷺ، وجد ذات ليلة شيئاً، فلما أصبح قيل: يا رسول الله إن أثر الوجع عليك لبيّن، فقال: " أما إني على ما ترون بحمد الله، قد قرأت البارحة السبع الطُّوَلُ ".
وهذا من رسول الله ﷺ، استدعاءٌ بأن يعمل الناس على مثل عمله، ويرغبوا في الخير، ويجتهدوا، ولو وقع مثل هذا لمن صح قصده ونيته، وأراد به مثل ما أراد النبي ﷺ، ولم يرد المَحْمَدَةَ والافتخار، لكان حسناً، وصاحِبُهُ مَأْجُورٌ؛ لأَنَّهُ يَفْعَلُهُ لِيَقْتَدَى بِهِ، وَيَعْمَلَ مِثْلُ عَمَلِهِ، وهذا طريق من الدعاء إلى الخير، إذا صحت النية، فهو طريق شريف غير مستنكر.
2721
فحق العامل المجتهد أن يُجْهِدَ نسه في تكذيب وساوس الشيطان، ولا يلتفت ما يوسوس إليه، وليقبل على عمله بنية خالصة لله، ويجهد نفسه في طاعة الله، تعالى، والعمل لله، سبحانه، فلا شيء أبغض إلى الشيطان من طاعة العبد لربه، ( تعالى)، ولا شيء أسر إليه من عصيان العبد لربه، سبحانه، نعوذ بالله منه.
فحسب أَهْلِ الخَيْرِ أن لا تأتي عليهم حال إلا وهم للشيطان مرغمون، ولطمعه في أنفسهم حاسمون. فإن عجزوا عن ذلك في كل الأوقات فيلفعوه في حال اشتغالهم بأعمال الطاعة حتى تخلص أعمالهم لله تعالى، وتسلم من الشيطان من أولها إلى آخرها فإن عجزوا عن ذلك فلا يعجزوا عن أن يكون ذلك منهم في أول أعمالهم، وفي آخرها، فإن عجزوا عن/ ذلك، فلا بد من إخلاصها في أولها ليكون الابتداء بالنية لله تعالى، والإخلاص له، سبحانه؛ فإنه إذا كان [ذلك] كذلك، ثم عرض في أضعاف العمل عوارض الشيطان وساوسه، رجي له ألا يضره ذلك، فإن عجز عن ذلك وغلبه الشيطان حتى ابتدأ بغير إخلاص. ثم حدث له في بعض العمل إخلاص وإنابة عما فعل رجي له، لقوله: ﴿إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً﴾ [الكهف: ٣٠].
2722
فإن ابتدأ بغير إِخْلاَصٍ وتمادى حتى فرع عن ذلك، كان ثمرة عمله سخط ربه.
والله تعالى، حسن العفو كريم. روينا في بعض الأخبار عن النبي ﷺ: " أَنَّ الرجل إذا ابتدأ العمل بنية لله، تعالى، ثم عرض له الشيطان في آخر عمله فَغَيّر نيته، أن الله سبحانه، يعفو له عما عرض له، ويكتب له عمله على ما ابتدأه به، وأَنَّ الرجل ليبتدئ بالعمل بغير نية، فتحدث له نية لله تعالى، في آخره أن الله، يعفو له عن أوله، ويكتب له عمله على ما حدث له في آخره " هذا معنى الحديث الذي رؤينا، وهو حديث مشهور بنحو هذا اللفظ وبمثله في المعنى.
فقال ابن حازم: انظر إلى العمل الي تُحِبُّ أن يأتيك الموت وأنت عليه، فخذه الساعة، وإذا قال لك الشيطان: أنت مُراءٍ فلست مرائياً، وإذا خرجت من بيتك، وأنت صادق النية، فلا يضرك ما جاء به الشيطان.
وكان رجل حَسَنُ الصَّوْتِ بالقرآن يأتي الحسن، فربما قال له الحسن: اقرأ، فقال: يا أبا سعيد، إني أقوم من الليل فيأتيني الشيطان إن رفعت صوتي، فيقول: إنما تريد الناس، فقال له الحسن: لك نيتك إذا قمت من فراشك.
فالشيطان، عليه لعنة الله، عدو الله، سبحانه، لطيف المدخل لابن آدم، كثير
2723
الرصد له بما يُوبِقُهُ. قد أَوْبَقَ كثيراً من القرون السالفة، فَنَفَذَت فيهم سهامة، وصدق عليهم ظنه، فاللَّجَأُ منه إلى الله، تعالى، والمستغاث على دفع شره الله، تبارك الله وتعالى.
وروى معقل بن يسار عن أبي بكر الصديق، (Bهـ)، أَنَّ النبي ﷺ، قال: " الشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ ". قال أبو بكر: يا رسول الله، وهل الشرك إلا أن يُدعى مع الله إله آخر، فقال: " الشِّرْكُ أَخْفَى فِيكُمْ مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ " ثم قال: " يا أبا بكر، ألا أدلك على ما يذهب صغير ذلك وكبيره؟ قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِي أَعُوذَ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ أَأَنَا أَعْلَمُ وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لاَ أَعْلَمُ ".
قوله: ﴿وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال: ٢].
أي: يَكِلُونَ أمرهم إلى الله (سبحانه).
2724
وَِِِهَذَا بَابٌ يُذْكَرُ فِيهِ بَعْضُ مَا رُوِيَ في التَّوكُّلِ وَصِفَتِهِ وَفَصْلِهِ.
روى ابن عباس، أن النبي ﷺ قال: " مَنْ سَرَّهُ أن يكون أكرم الناس فليتق الله، ومن سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يديه ".
روى عمر رضي الله عنهـ، أنّ النبي ﷺ قال:
" لو أنك تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطَّيْرُ، تَغْدُو خِمَاصاً، وتَرُوحُ بِطَاناً ".
وعن عمران بن حصين قال: قال رسول الله ﷺ: " من انقطع إلى الله كفاه كُلَّ مُونَتِهِ ورزقه/ من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وَكَلَهُ الله إليهاً ".
وروى أبو سعيد الخدري أنَّ النبي ﷺ قال: " لَوْ فَرَّ أَحَدَكُمْ مِنْ رِزْقِهِ لأَدْرَكَهُ كَمَا
2725
يُدْرِكُهُ المَوْتُ ".
وعن أبي ذر مثله.
وقد قال الله: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ﴾ [الطلاق: ٣]. وقال: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا﴾ [التوبة: ٥١].
وروى أبو هريرة أن النبي ﷺ: " يقول الله، جلّ ذكره: يَابْنَ آدم تَفَرَّغْ لِعَبَادَتِي أَمْلأُ صدرك غِنىً، وأَسُدَّ فقرك، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ مَلأَتْ صَدْرَكَ شُغْلاً وَلَمْ أَسُدَّ فُُقْرَكَ ".
وعن أبي [بن] كعب قال: قال رسول الله ﷺ: " مَنْ كَانَتْ نِيّتَهُ الآخِرَةَ جعل الله غناه في قلبه، وَكفَّ عنه ضَيْعَتَهُ، وأَتَتْهُ الدُّنْيا [وهي] رَاغِمَةٌ، ومن كانت نيته الدنيا شتت الله، تعالى، عليه ضَيْعَتَه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتِبَ له ".
2726
وعن زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله ﷺ: يقول: " مَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا نِيَّتَهُ فَرْقَ اللهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وجعل فقره بين عينيه، ومن كانت نيته الآخرة جمع الله [له] أمره وجعل غناه في قلبه وأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ ".
وفي هذه الآية دلالة على زيادة الإيمان ونقصه؛ لأن قوله: ﴿زَادَتْهُمْ إيمانا﴾ [الأنفال: ٢]، يَدُلُّ على نقصٍ كان قبل الزيادة.
وعن أبي الدرداء، قال رسول الله ﷺ: " تَفَرَّغُوا مِنْ هُمُومِ الدُّنْيا ما استطعتم، فإنه من كانت الدنيا أكْبَر همَّهِ، أقضى الله عليه ضَيْعَةَ، وجعل فقره بين عَيْنَيْه، ومن كانت الآخرة أكبر همه جمع الله أمره وجعل غناه في قلبه، وما أَقْبَلَ عَبْدٌ بِقَلْبِهِ إِلَى الله تعالى إلا جعل الله قلوب المؤمنين تفد إليه بالود والرحمة، وكان الله إليه بكل
2727
خَيْرٍ أَسْرَعَ ".
والتوكل على الله، تعالى عند أهل النظر والمعرفة بالأصول، هو: الثقة بالله، سبحانه، في جميع الأمور، والاستسلام له، ( تعالى)، والمعرفة بأَنَّ قضاءه ماضٍ، واتباع أمره، وليس هو أن يطرح العبد بنفسه فلا يخاف شيئاً ولا يحذر أمراً، ويلقى بنفسه في التهلكة؛ لأن الله، سبحانه، يقول لأصحاب نبيه، عليه السلام: ﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى﴾ [البقرة: ١٩٧]، فأمرهم أن يتزودوا في أسفارهم: لأنهم كانوا ربما خرجوا بلا زاد، فلي يجوز لأحدٍ أن يلقى عَدُوَّه بغير سلاح ولا عُدَّةٍ ويجعل هذا تَوَكُلاً. فقد لَبِسَ النبي ﷺ، السلاح، وقال الله، تعالى،: ﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل﴾ [الأنفال: ٦٠]. وقد دخل النبي ﷺ، وأبو بكر الغار.
ودخل مكة وعلى رأسه المِغْفَرُ، وخرج يوم أُحد وعليه درعان. وفرّ
2728
أصحاب النبي ﷺ، إلى أرض الحبشة، وإلى المدينة بعد ذلك خوفاً على أنفسهم، فلو كان من التوكل إلقاء العبد نفسه في التهلكة، وترك الاحتراز من المَخُوفِ، ولَقْيُ العدو بغير سلاح، ومباشرةُ السباع، لكان رسول الله ﷺ، وأصحابه أولى بذلك بل خافوا وفرُّوا، وسلحوا واحترزوا.
وقد حكى الله تعالى، عن موسى، عليه السلام، الخَوْفَ فقال: ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ﴾ [القصص: ٢١]، وقال: ﴿فَأَصْبَحَ فِي المدينة خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ﴾ [القصص: ١٨]، وقال: ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى * قُلْنَا لاَ تَخَفْ﴾ [طه: ٦٧ - ٦٨].
فالملقي بيده إلى التهلكة من عدو أو سبع، ولا علم عنده أن الله تعالى، لا يسلطه عليه آثم في نفسه، مُعِينٌ على قتل نفسه، مُجَرِّبٌ لقدرة ربه، جلت عظمته، مُعْجَبٌ بنفسه، دَالٌ على ربه، سبحانه، / وليس هذا من صفات الصالحين، بل أنفسهم عندهم أَنْقَصُ وَأَذَلُّ، هم وَجِلُون ألا تقبل منهم أعمالهم! فكيف يدلون بأعمالهم! قال الله تعالى: ﴿ والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ المؤمنون: ٦١]، أي: يعلمون ما عملوا من الخير وهم خائفون
2729
ألاَّ يقبل منهم [عملهم]، فهذه صفات الصا لحين. ليس صفاتهم الإعجاب بأعمالهم والدلة على مالله تعالى، بأفعالهم، وقد قال عمر: رأيت رسول الله ﷺ يَظَلُّ اليوم يلتوى، ما يجد ما يملأ به بطنه. وقد روي عَمَّنْ مضى، وعن النبي ﷺ، وأصحابه من الجوع والشدة ما لا يُحْصَى.
فهذا يدفع قول من يدعي في توكله نزول الطعام الكَوْنِي، ووجود الرُّجَب في غير وقته، وشبه ذلك من المعجزات التي لا تكون إلاَّ للنبي، تدل على صدقه في ما أتى به.
فأما كرامات الله، سبحانه لأوليائه وإجابة دعائهم، فليس ينكر ذلك أحدٌ مِنْ أهْلِ السُّنَّة، وإنما ينكرون على ما أجاز حدوث المعجزات على يدي غير الأنبياء؛
2730
لأن في ذلك إبطال النبوة وهدم الشريعة.
وقوله: ﴿لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾.
الدَّرجات: منازل ومراتب رفيعة في الجنة بقدر أعمالهم.
قال مجاهد [الدَّرَجَات]: أعمال رفيعة.
وقال ابن مُحَيْرِيز الدَّرَجَاتُ: سبعون درجة، كل درجة خطو الفرس الجواد المُضَمَّر ستين سنة.
2731
﴿وَمَغْفِرَةٌ﴾: أي: مغفرة لذنوبهم، ﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾: الجنة.
قال الضحاك: أهل الجنة بعضهم فوق بعض، فيرى الذي فوق، فضله على الذي أسفل منه، ولا يرى الأسفل أنه فضل عليه أحد.
قوله: ﴿كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق﴾، الآية.
قال الكسائي: " الكاف ": نعت لمصدر: ﴿يُجَادِلُونَكَ﴾، والتقدير: يجادلونك في الحق مُجَادَلَةً ﴿كَمَآ أَخْرَجَكَ﴾.
وقال الأخفش: " الكاف " نعت ل: " حق "، والتقدير: هم المؤمنون حقاً
2732
﴿كَمَآ أَخْرَجَكَ﴾.
وقيل: " الكاف " في موضع رفع، والتقدير: ﴿كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق﴾ ﴿فاتقوا الله﴾، كأنه ابتداء وخبر.
وقال أبو عبيدة: هو قَسَمٌ، أي: لهم درجات ومغفرة ورزق كريم، والذي أخرجك من بيتك بالحق، ف: " الكاف " بمعنى: " الواو ".
وقال الزجاج: " الكاف " في موضع نصب، والتقدير: الأنفال ثابتة لك ثباتاً ﴿كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ﴾، والمعنى: ﴿كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق﴾ وهم كارهون، كذلك
2733
تَنْفُلُ من رأيت.
وقال الفراء التقدير: أمض لأمرك في الغنائم، ونَفِّلْ من شئت وإن كرهوا ﴿كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق﴾.
وقيل: " الكاف " في موضع رفع، والتقدير:
﴿إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾، إلى: ﴿لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾، هذا وعد وحق ﴿كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق﴾.
وقيل: المعنى: ﴿وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ﴾ ذلك خير لكم ﴿كَمَآ أَخْرَجَكَ﴾، ف: " الكاف ": نعت لخبر ابتداء محذوف هو الابتداء.
وقيل التقدير: ﴿قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول﴾ ﴿كَمَآ أَخْرَجَكَ﴾.
2734
قال عكرمة في الآية: ﴿وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ ﴿كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق﴾، أي: الطاعة خَيْرٌ لَكُمْ، كما إخراجك من بيتك بالحق خيراً لك.
وقوله: ﴿وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ﴾.
قال ابن عباس: " لما سمع رسول الله ﷺ، بأبي سفيان أنه مقبل من الشام، ندب إليه من المسلمين، وقال: هذه عِيرُ قريش فيها/ أموالهم، فاخرجوا إليها، لَعَلَّ الله أن يُنْفِلَكُمُوهَا! فانتدب الناس، فَخَفّ بعضهم وَثَقُلَ بَعضهم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله ﷺ يلقى حرباً. فَنَزَلَتْ: ﴿وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ﴾ ".
قال السدي ﴿لَكَارِهُونَ﴾: لطلب المشركين.
﴿للَّهِ والرسول﴾، وقف.
و ﴿مُّؤْمِنِينَ﴾، وقف.
2735
ويكون تقدير الآية وتفسيرها: " أنّ النبي ﷺ، لما نظر إلى قلة المسلمين يوم بدر وإلى كثرة المشركين قال: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ كَذَا وَكَذَا، وإِنْ أَسِرَ أَسِيراً فَلَهُ كَذَا وَكَذَا "، ليرغبهم في القتال، فلما هزمهم الله، تعالى، وأَظْفَرَه بهم، قال إليه سعد بن عبادة، فقال له: يا رسول الله؛ إن أعطيت هؤلاء ما وعدتهم بقي خلق من المسلمين بغير شيء، فأنزل الله: ﴿قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول﴾ "، أي: يصنع فيها ما يشاء. فأمسكوا لما سمعوا ذلك على كراهية منهم له، فَأَنْزَلَ الله، تعالى،: ﴿ كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق﴾، أي: أمض لأمر الله في الغنائم، وهم كارهون لذلك، أي: بعضهم، كما مضيت لأمر الله تعالى، في خروجك، وهم له كارهون، أي: بعضهم.
فإن جعلت التقدير: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال﴾ كما جادلوك يوم بدر، فقالوا: لم تخرجنا للقتال فنستعد له، إنما أخرجتنا للغنيمة، فلا يحسن الوقف على ما قبل " الكاف " على هذا.
2736
وعلى قول أبي عبيدة أن " الكاف " في موضع:: واو القسم، يحسن الوقف على ما قبل " الكاف " كأنه قال: والذي أخرجك من بيتك بالحق، كما قال: ﴿وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى﴾ [الليل: ٣]، أي: والذي خلق الذكر.
وقوله: ﴿يُجَادِلُونَكَ فِي الحق﴾، الآية.
قال ابن عباس: لما شاور النبي ﷺ، في لقاء القوم، قال له سعد بن عبادة ما قال، وذلك يوم بدر، أمر الناس فتعبّوا للقتال، وأمرهم بالشوكة، فكره ذلك أهل الإيمان، فأَنْزَلَ الله، تعالى، ﴿ كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق﴾، إلى ﴿وَهُمْ يَنظُرُونَ﴾.
قال ابن إسحاق: خرجوا مع النبي ﷺ، يريدون العِيَر طمعاً بالغنيمة، فلما عرفوا أن قريشاً قد سارت إليهم، كرهوا ذلك، وكأنهم يساقون إلى الموت؛ لأنهم لم يخرجوا للقتال. فالذي عُني بهذا هم المؤمنون، فَأَنْزَلَ الله تعالى، ﴿ كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق﴾، إلى: ﴿وَهُمْ يَنظُرُونَ﴾.
2737
وقال ابن زيد: عني بذلك المشركون، قال: هم المشركون جادلوا في الحق، ﴿كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت﴾ حين يدعون إلى الإسلام، ﴿وَهُمْ يَنظُرُونَ﴾.
قال الطبري: المراد بذلك المؤمنون. ودَلَّ عليه قوله: ﴿وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ﴾، لما كرهوا القتال جادلوا فقالوا: لم تعلمنا أنَّا نلقى العدو فنستعد لقتالهم، إِنَّمَا خرجنا لِلْعِير. وَيَدُلُّ على ذلك قوله: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ﴾، ففي هذا دليل أنّ القوم كانوا للشوكة كارهين، وأن جدالهم في القتال، [كما] قال مجاهد، كراهية منهم له.
وروي عن ابن عباس: ﴿يُجَادِلُونَكَ فِي الحق﴾، أي: في القتال، ﴿بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ﴾، أي: بعد ما أمرت به.
2738
قوله: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين﴾، إلى قوله: ﴿لِيُحِقَّ الحق وَيُبْطِلَ الباطل وَلَوْ كَرِهَ المجرمون﴾؟
والمعنى: واذكروا، أيها المؤمنون ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ﴾، والطائفتان: إحداهما فرقة أبي سفيان والعير، والطائفة الأخرى: فرقة المشركين الذين خرجوا من مكة لمنع العير.
وقوله: ﴿أَنَّهَا لَكُمْ﴾.
أي: أن ما معهم غنيمة لكم.
وقوله: ﴿وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ﴾.
أي: تحبون أن تكون لكم العير التي لا قتال فيها ولا سلاح دون/ فرقة المشركين المقاتلة المسلحين.
وكان أصحاب النبي ﷺ، أحبوا أن يَظْفَروا بالعير، فأراد الله تعالى، غير ذلك، أراد أن يَظْفَروا بالمقاتلة، فيكون ذلك أذل لهم وأخزى وهيب في قلوب المشركين؛ لأن المسلمين لو ظَفِروا بالعير ولا مقاتلة معها ما كان في ذلك هيبة ولا ردعة عند المشركين، وإذا ظَفِروا بالمقاتبلة وأهل الحرب والبأس كان ذلك أهيب وأروع لمن بقي منهم.
2739
و ﴿الشوكة﴾: السلاح.
وقال أبو عبيدة: غير ذات الحد.
يقال: فلان شَائِكٌ في السلاح وشَاكٌ، من الشِّكَةِ.
وقال ابن عباس: " لما خُبِّر رسول الله ﷺ، بأبي سفيان مُقْبلاً من الشَّأْم، ندب المسلمين إليهم، فقال: هذه غير قريش، فيها أموالٌ، أخرجوا إليها لعلّ الله أن يملككموها! فانتدب الناس، فخف بعضهم، وثقل بعضهم؛ لأنهم لم يظنوا أن رسول الله ﷺ، يلقى حرباً، وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتحسس الأخبار، ويسأل من لقي من الركبان، تخوفاً على أموال النس، حتى أصاب خبراً من بعض
2740
الركان: " إن محمداً قد استنفر [أصحابه] لك ولِعِيرك " فَحَذِرَ عند ذلك، فاستأجر ضَمْضَم بن عمرو الغفاري، فبعثه إلى مكة وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم أن محمداً قد عرض لها في أصحابه، فمضى ضَمْضَم. وخرج النبي ﷺ، في أصحابه، وأتاه الخبر عن قريش بخروجهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار النبي ﷺ الناس، وأخبرهم عن قريش. فقام أبو بكر، فقال فأحسن. وقام عمر، فقال فأحسن. ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أمرك الله، فنحن معك، والله لا نقول كما قال بنو إسرائيل لموسى: ﴿فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾، ولكن اذهب (أنت) وربك فقاتلا، إِنَّا معكم مقاتلون! والذي بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى بَرْك الغِماد، يعنى: مدينة الحبشة، لجالدنا معك مَنْ دونه! ثم قالت
2741
الأنصار بعد أن استشارها: امض يا رسول الله، لما أمرت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخصناه معك. فمضى رسول الله ﷺ، حتى التقى بالمشركين ببدر، فسبقوا الماء، والتقوا، ونصر الله تعالى، النبي ﷺ، وأصحابه، فَقُتِلَ من المشركين سبعون، وَأُسِرَ منهم سبعون، وغنم المسلمون ما كان معهم، وسلمت العير مع أبي سفيان، وكان قد أخذ بها الساحل، أسفل من موضع القتال، وهو قوله تعالى: ﴿والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ﴾ ".
وروى عكرمة عن أبن عباس قال: " قيل للنبي ﷺ، حين فرغ من بدر، عليك العير ليس دونها شيء، قال: فناداه العباس: لا يصلح، فقال له النبي ﷺ: " لِمَ "؟
2742
قال: لأن الله تعالى، وعد إحدى الطائفتين، وقد أعطاك ما وعدك. قال: " صَدَقْتَ ".
قوله: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
قرأ عيسى بن عمر: " إنِّي مُمِدُّكُم "، أي: قال: إني ممدكم.
ومن قرأ: ﴿مُمِدُّكُمْ﴾، بفتح الدال، يجوز أن يكون نصباً على الحال من الضمير في: ﴿مُرْدِفِينَ﴾.
وقيل: هو في موضع خفض نعت ل: " ألف ".
2743
ومن كسر الدال فمعناه: يُرْدِف بعضهم بعضاً، أي: يتبع بعضهم بعضاً. يقال: رَدِفْتُهُ وأَرْدَفْتُهُ: إذا تَبِعْته.
وأنكر أبو عبيد أن يكون/ المعنى: يُرْدِف بعضهم بعضاً، أي: يحمله خَلْفَهُ، ودفع قراءة الكسر على هذا التأويل.
2744
والوجه أنهم يتبعون بعضهم بعضاً في الإتيان لا في الركوب، وقد رُوي عن ابن عباس أنه قال: وَرَاءَ كُلِّ مَلِكٍ مَلَكٌ.
فمعنى الكسر: أَنَّ الملائكة يُرْدِفُ بعضها بعضاً، أي: يتبع.
ومعنى الفتح: أن الله أَرْدَفَ بهم المؤمنون.
حكى سيبويه " مُرَدِّفينَ ": بفتح الراء، وتشديد الدال وكسرها.
وأصله: " مُرْتدِفِينَ "، ثم أدَغم " التاء " في " الدال " بعد أن ألقى حركتها
2745
على " الراء ".
وحكى أيضاً: " مُرِدِفِّينَ " بكسر الراء، على أنه " مُرْتَدِفِينَ " أيضاً، لكن أدغم وكسر الراء لالتقاء الساكنين، ولم يلق عليها حركة " التاء ".
ومعنى الآية: ﴿لِيُحِقَّ الحق وَيُبْطِلَ الباطل﴾ [الأنفال: ٨]، ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ﴾، أي: حين ذلك، أي تستجيرون به من عدوكم، ﴿فاستجاب﴾ ربكم ﴿لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ﴾، أي: بأني ﴿مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة﴾ يردف بعضهم بعضاً، أي: يتلوا. وَرُوِيَ عن
2746
عاصم: " آلفٌ "، على وزن " أَفْعُلٍ ".
قال ابن عباس: لمَّا اصطفَّ القوم، قال أبو جهل: اللهم أولانا بالحق فانصره! ورفع النبي ﷺ، يده وقال: يا رب، إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً.
قال السدي: فاستجاب الله، تعالى، له ونصره بالملائكة، وذلك يوم بدر.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ، لما نظر النبي ﷺ، إلى المشركين وَهم ألفٌ، وأصحابه ثلاث مائة وبضعة عشر، استقبل القبلة، ثم مدَّ يدَهُ، وجعل يهتف بربه: " اللهم أنجز ما وعدتني "، فما زال يهتف حتى سقط رداؤه ﷺ، عن منكبيه، فرده أبو بكر على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، فقال: يا نبي الله كَذَلك مناشدتك
2747
رب، فَإِنَّه سينجز لك ما وعدك!.
وقوله: ﴿وَمَا جَعَلَهُ الله﴾.
" الهاء " تعود على " الإمْدَادِ ".
وقيل: على " الإِرْدَافِ ".
وقيل: على " الأَلْفِ ".
وقيل: على قبول الدعاء.
2748
والمعنى: ﴿وَمَا جَعَلَهُ الله﴾: إرداف الملائكة بعضها بعضاً. ﴿إِلاَّ بشرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ﴾، أي: ولكي تسكن إلى ذلك قلوبكم، وتوقن بنصر الله تعالى، فليس النصر إلا من عند الله، سبحانه ﴿إِنَّ الله عَزِيزٌ﴾، أي: لا يقهره شيء، ﴿حَكِيمٌ﴾ في تدبيره.
و" الهاء "، في ﴿بِهِ﴾ تحتمل ما جاز في " الهاء " في: ﴿جَعَلَهُ﴾.
ويجوز رجوعها على " البشرى "؛ لأنها تعني الاستبشار.
قوله: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس﴾، الآية.
من قرا: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ﴾، احتج بإجماعهم على: ﴿يغشى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٤].
2749
ومن قرأ: ﴿يُغَشِّيكُمُ﴾، مشدداً فرد الفعل إلى الله، تعالى، احتج بقوله: ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم﴾، وهو الله بلا اختلاف. فكون الكلام على نظام واحد أحسن.
وقوله: ﴿أَمَنَةً﴾: مفعول من أجله.
2750
وقيل: هو مصدر.
وقوله ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ﴾: العامل في ﴿إِذْ﴾ قوله: ﴿إِلاَّ بشرى﴾ [الأنفال: ١٠]، ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ﴾، أي: حين يغشيكم.
ومعنى ﴿يُغَشِّيكُمُ﴾: يلقى عليكم، و ﴿أَمَنَةً﴾: أماناً من الله لكم من عدوكم أن يغلبكم، وذلك يوم أحد أنزل الله، تعالى، عليكم النعاس أمنة من الخوف الذي أصابهم يوم أُحد.
وقوله: ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً﴾.
كان هذا يوم بدر، أصبح المسلمون مُجْنِبِين على غير مَاءٍ، فأنزل الله تعالى،
2751
(عليهم) مطراً فاغتسلوا، وكان الشيطان قد وسوس إليهم بما حَزَنَهم به من إصباحهم مُجنبين على غير ماء؛ لأنَّ المشركين سبقوا المسلمين ببدر، إلى الماء فأصبح المسلمون عِطَاشاً مُجْنبين ومُحدثين، فوسوس إليهم الشيطان، وقال: عدوكم على الماء، وأنتم تزعمون/ أنكم مسملون، فأزال الله الأحداث والعطش والوسوسة بالمطر الذي أنزل عليهم، وسكن به الغبار، وتمهدت الأرض للوطء عليها.
قيل: كانت سَبْخَةً لا تثبت عليها الأقدام.
2752
وقيل: كانت رَمْلاً.
وكانت آية عظيمة في ثبات أقدامهم في المطر على سَبِخَةٍ.
وقول من قال: كانت الأرض رَمِلَةً أَوْلَى، لقوله: ﴿وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقدام﴾.
قال قتادة: ذكر لنا أنهم مُطِروا يومئذ حتى سال الوادي ماءً، وكانوا قد التقوا على كثيب أعفر فَلَبَّده الله تعالى بالماء، وشرب المسلمون واستقوا، [و] أذهب الله تعالى، عنهم وساوس الشيطان وأحزانه.
وكان المشركون سبقوا إلى الماء وإلى الأرض الشديدة، ونزل المسلمون على غير ماء وعلى رمل، فأراهم الله، تعالى، بنزول المطر قدرته، وأثبت في قلوبهم أمارة النصر والغلبة فتقَّوت نفوسهم وتشجعوا، وذهب عنهم وسوسة الشيطان.
وقوله: ﴿وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقدام﴾.
أي: بالمطر، وذلك أنهم التقوا مع عدوهم على رَمْلة فَلَبَّدَهَا المطر حتى تثبت الأقدام عليها، وكان هذا كله ليلة اليوم الذي ألتقوا فيه في بدر.
2753
وقوله: ﴿وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان﴾.
أي: وساوسه.
وقال القُتَيْبِي: كيده.
والعامل في ﴿إِذْ يُوحِي﴾، ﴿وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقدام﴾.
وقيل المعنى: واذكر ﴿إِذْ يُوحِي﴾.
وقيل: أوحى الله، تعالى، ﴿ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ﴾، فكان المَلَكُ يظهر للرجل من أصحاب النبي ﷺ في صورة رجلفيقول: سمعت أبا سفيان وأصحابه يقولون: لئن حَمَلَ علينا هؤلاء لَنُهْزَمَنَّ! فتقوى بذلك قلوب المؤمنين.
وقوله: ﴿فاضربوا فَوْقَ الأعناق﴾.
2754
أي: اضربوا الأعناق.
وقال الأخفِ: ﴿فَوْقَ﴾ زائدة.
وقيل المعنى: اضربوا الرؤوس؛ لأنها فوق الأعناق.
وقال أبو عبيدة: ﴿فَوْقَ﴾ بمعنى: " على "، والمعنى " فاضربوا على الأعناق.
2755
يقال: ضَرَبْتُهُ على رَأْسِهِ فَوْقَ رَأْسِهِ بِمعنى.
وقوله: ﴿واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾.
أي: اضربوا الأطراف من الأيدي والأرجل.
و" البَنَانُ ": [أطراف] أصابع اليدين والرجلين.
وقال عطية، والضحاك: " البَنَانُ ": كل مَفْصلٍ.
2756
وواحد " البَنَانِ " " بَنَانَةٌ "، وهي: الأصابع وغيرها من الأعضاء، وهذا قول الزجاج.
وقوله: ﴿فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ﴾.
هذا أمر من الله، تعالى للملائكة.
وقيل: إِنَّ الملَكَ كان يأتي أصحاب النبي ﷺ، فيقول: سمعت هؤلاء القوم يعني المشركين، يقولون: والله لئن حملوا علينا لننكشفن! فيتحدث بذلك المسلمون، وتقوى نفوسهم.
وقيل معنى ثَبِتُّوهم أي: بالمدد.
قوله: ﴿ذلك بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ﴾، إلى قوله: ﴿سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.
والمعنى: هذا الفعل الذي فُعل بهم من ضرب الأعناق وغير ذلك، ﴿ذلك بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ﴾، أي: خالفوه، كأنهم صاروا فِي شِقٍّ آخر بمخالفتهم له.
2757
﴿وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ﴾.
أي: يخالفه.
أَجْمَعَ القراء على الإظهار، إذ هو في الخَطِّ بقافين.
والإظهَارُ لغة أهل الحجاز، وغيرهم يُدْغِمُ، وعليه أُجْمِعَ في: " الحشر ".
ويحسن " الرَّوْمُ "، في الوقف في: " الحشر " /؛ لأن الساكن الذي حرك من أجله الثاني لازم في الوقت، وهو " القاف " الأولى المُدْغَمة في الثانية، ولا يحسن " الرّوْمُ " في الوقوف [في الأفعال؛ لأن الساكن الذي حرك من أجله " القاف " الثانية غير لازم
2758
في الوقت] وهو " اللام " في اسم الله، جل ذكره، فقس عليه ما كان مثله.
وقوله: ﴿ذلكم فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ﴾.
﴿وَأَنَّ﴾: في موضع رفع عطف على: ﴿ذلك﴾.
وقيل المعنى: وذلك وأن للكافرين، و ﴿ذلكم﴾: في موضع رفع على معنى: الأمر ذلكم، أو: ذلك الأمر.
وقيل: ﴿وَأَنَّ﴾ في موضع نصب على معنى: واعلموا أن للكافرين، كما قال.
2759
أي: وحاملاً رمحاً.
ويجوز أن يكون في موضع نصب على معنى: وأن للكافرين.
ومعنى الكلام: هذا الذي عُجَّلَ لكم من ضرب الأعناق وضرب كلِّ بنان في الدنيا ذوقوه، أيها الكافرون، واعلموا أن لكم في الآخرة عذاب النار.
ثم قال تعالى: ﴿يَآأَيُّهَا الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمُ﴾ الآية.
والمعنى: إن الله أمر المؤمنين ألا يَفِرُّوا من الكفار إذا تدانى بعضهم من بعض
2760
عند القتال.
وقيل: المعنى: إذا وَاقفَتْمُوهُم فلا تفروا منهم، ولكن أثبتوا فإنّ الله معكم.
ثم توعد من يتولى أنه يرجع بغضب من الله، وأنَّ مأواهم جهنم، وأرخص لهم أن يتحرف الرجل لتمكنه عودة إلى الظفر، لا ليولي هارباً، وأرخص أن ينحاز الرجل إلى فئة من المؤمنين ليكون معهم.
يقال: تحوَّزت وتحيّزتُ.
قال الضحاك: " المُتَحَرِّفُ ": المتقدم من أصحابه ليظفر بعودة للعدو، و " المُتَحَيَزُ ": الذي يرجع إلى أميره وأصحابه.
قال عطاء: هذا مَنْسُوخٌ، نسخه: ﴿يا أيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال﴾ [الأنفال: ٦٥] الآية،
2761
فأُمِروا أن يَفِرُّوا ممن هو أكثر من مِثْلَيْهم.
وقال الحسن: الآية مخصوصة في أهل بدر خاصة، وليس الفرار من الكبائر.
وقال أبو سعيد الخدري: نَزَلَتْ في أهل بدر، يعني: ﴿وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ﴾.
ودليل أنها مخصوصة يوم بدر قوله: ﴿يَوْمَئِذٍ﴾، فعلق الحكم بيوم معلوم.
2762
وقال ابن عباس: الآية محكمة، وحكمها باق إلى اليوم، والفرار من الكبائر.
ومعنى: ﴿بَآءَ بِغَضَبٍ﴾.
أي: رجع به.
وقوله: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ﴾.
أي: لم تقتلوا أيها المسلمون المشركين.
﴿ولكن الله قَتَلَهُمْ﴾.
أضاف ذلك إلى نفسه، تعالى، إذ كان هو المسبِّب قتلهم، والمعين عليه، وعن أمره كان، وينصره تَمَّ.
رُوِيَ أن جبريل عليه السلام، قال للنبي ﷺ، عند الزحف: خُذْ قبضة من تراب فَارْمِهِم بها، ففعل يبق أحد من المشركين إلا أصابت عينه وأنفه وفمه، فولَّوا مُدْبِرِين.
2763
فلما أظْفَرَ الله المؤمنين بالمشركين، جعل كل واحد يقول: فعلت كذا، وصنعت كذا، فأنزل الله، تعالى: ﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى﴾.
وهذا يدلُّ على خلاف قول من يقول: إنَّ العبد يفعل حقيقة.
ثم قال: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ﴾، يخاطب النبي ﷺ، ﴿ ولكن الله رمى﴾ أي: الله المسبِّب للرمية، وهذا حين حَصَبَ النبي ﷺ، الكفار فهزمهم الله.
قال عكرمة: ما وقع منها شيء إلا عَيْنِ رجل.
وقيل: " إن النبي ﷺ، أخذ قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم، لما دنوا من رسول الله ﷺ، وأصحابه، وقال: " شاهت الوجوه! " فدخلت في أعينهم كلهم، وأقبل
2764
أصحاب رسول الله ﷺ، يقتلونهم ويأسرونهم، فكانت هزيمتهم من رَمْيَةٍ رسول الله/ ﷺ، فأنزل الله: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى﴾ الآية ".
قال قتادة: أخذ النبي ﷺ، يوم بدر ثلاثة أحجار فرمى بها وجوه الكفار، فهزموا عند الحجر الثالث.
وقيل: إن النبي ﷺ، رمى أُبَيَّ بن خلف الجمحي يوم بدر بحربة في يده فسكر له ضلعاً فمات منه، وكان النبي، عليه السلام، قد أوْعَدَهُ أنه يقتله.
وَيُرْوَى " أن النبي ﷺ، كان جالساً يوم بدر في عريش، وأبو بكر في يمينه، والنبي ﷺ، يدعو ويقول: " اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد! اللهم النصر الذي وعدتني "، فألح النبي ﷺ، في الدعاء، فقال أبو بكر، رضي الله عنهـ: " خفض يا رسول الله، دعاءك، فإنَّ الله متممٌّ لك ما وعدك، فَخَفَقَ رسول الله [ ﷺ]، من نعسة نعسها،
2765
ثم ضرب بيمينه على فخذ أبي بكر، فقال: " أبشر بنصر الله، رأيت في منامي بقلبي جبريل عليه السلام، يَقْدُمُ الخيل على ثنية النقع ". فلما التقى الجمعان خرج النبي ﷺ من العريش، فأخذ حَصْباً من الأرض فرمى بها في وجوههم، ثم قال: " شاهت الوجوه ثم لا ينصرون، لا ينبغي لهم أن يظهروا " فرمى مقابل وجوههم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم ثلاث مرات فلم تقع تلك الحصباء على أحد إلا قتل وانهزم، وصار في جسده خضرة ".
قال أبو عبيدة معناه: ما ظفرت ولا أَصَبَتَ، ولكن الله أظفرك ونصرك. يقال: رمى الله لك، [أي]: نصرك.
وحُكِى أن بعض العلماء قال في معناها: وما رميت قلوب المشركين إذ رميت وجوههم بالرمل والتراب، ولكن الله رمى قلوبهم بالجزع فهزمهم عنك برميته لا برميتك.
2766
وقوله: ﴿وَلِيُبْلِيَ المؤمنين مِنْهُ بلاء حَسَناً﴾.
يريد به من استشهد ذلك اليوم، وكان قد استشهد من المؤمنين ذلك اليوم أربعة عشر رجلاً، ستة من المهاجرين، وهم:
عُبَيْدَة بن الحارث بن عبد المطلب، توفي بـ: " الصَّفْرَاءِ "، من ضَرْبَةٍ في سَاقِهِ.
وعُمَيْرُ بن مالك بن وُهَيْب.
2767
وأبو سعيد بن مالك.
وذو الشِّمَالَِيْنِ: عمير بن عمرو بن نَضْلة.
وغَافِلُ بن البُكَيْر، سماه النبي: عاقل بن بكير وهو حليف لبني عَدِيٍّ.
ومَهْجَع، مولى عمر من الخطاب، (Bهـ)، وهو أول من قتل يوم بدر.
وصفوان بن بَيْضاء، من بني الحارث بن فِهر.
2768
وثمانية من الأنصار من الأوس، وهم.
سَعْد بن خيثمَةَ بن الحارث.
وَمُبَشِّر بن عبد المنذر، وهو أخو أبي لُبابة، وهو نقيب.
وعُمَير بن الحُمام.
2769
وابنا عفراء: معاذ وعمرو.
ورَافِعُ بن المُعَلّى.
2770
ويزيد بن الحارث ابن فُسْحُم.
[وحارثة] بن عندي بن سُرَاقَة.
" وكان حارثة صغير السن بعثته أمه مع عمر بن الخطاب يخدمه، فكان يعجن، فسمع النبي ﷺ يقول: " إن الله ليضحك إلى عبده يخرج [متفضلاً في ثوبه شاهراً سيفه فيقاتل حتى يقتل "، فترك العجين وخرج] إلى القتال فاستشهد، فلما قدم النبي ﷺ، المدينة، أتت أمه وأخته إلى عمر فسألتاه عن حارثة، فقال: استشهد، ثم ذهبتا إلى أبي بكر فسألتاه عن حارثة، فقال لأنه: أبنك في الجنة، ثم ذهبت إلى النبي ﷺ، فقالت: يا رسول الله ابني، فقال: " ابنك في الرفيق/ الأعلى "، فحمدت الله، وقالت: طوبى لمن كان منزله في الرفيق الأعلى، فكان الناس يعدون، وهي تهنأ ".
2771
وأم حارثة هذه هي بنت النضر، عمة أنس بن مالكل بن النضر.
وروى ابن وهب: أنّ عبد الرحمن بن عوف؛ قال: بينا أنا يوم بدر في الصَّفِّ إذا غلام عن يمين وآخر عن يساري، يغمزوني أحدهما سراً من الآخر، فقال: يَاعَمَّ، فقلت: ما تشاء، قال: أين أبو جهل؟ قال: قلت: فاعل ماذا؟ قال: عاهدت الله لئن رأيته لأضربنه بسيفي هذا؛ إنه بلغني أنَّهُ يَسُبُّ رسول الله [ ﷺ]، قال عبد الرحمن بن عوف: (ثم غمزني) الآخر سراً، فقال: يا عم، أين أبو جهل؟ قال: قلت: فاعل ماذا؟ قال: عاهدت الله لئن رأيته لأضربنه بسيفي هذا.
قلت: بأبي أنتما وإمي، وأشرت لها إليه، فبلغني أنه قتلهما، وهما: ابنا عفراء، وقطعا يده ورجله قبل أن يقتلهما.
وقال ابن مسعود: فجئت أبا جهل، وهو فرعون هذه الأمة فوجدته مقطوع اليد والرجل، فقلت: أخزاك الله، فقال: رُوَيْع غنم ادْنُهْ فإن الفحل يحمي إبله وهو معقول. قال ابن مسعود: وكان معه سيف جيّد، ومعي سيف ردي، فأدرت به حتى أخذت سيفه، ثم ضربته به حتى مات، ثم جئت النبي ﷺ، فأخبرته بقتلي لأبي جهل
2772
فقال: آلله، قلت آلله، فقال: آلله، قلت: آلله، مرتين أو ثلاثاً.
وقتل يومئذ من المشركين أكثر من سبعين، وأسر سبعون.
وكان الأسود بن عبد الأسد المخزومي حلف قبل القتال بآلهته ليشربن من الحوض الذي صنع محمد، وليهدمنّ منه، فلما دنا من الحوض لقيه حمزة بن عبد المطلب. فضرب رجله فقطعها، فأقبل يحبوا حتى وقع في الحوض، وهدم منه، وأتبعه حمزة فقتله فكان أول من قتل من المشركين، فاحتمى له المشركون، فبرز منهم ثلاثة: عُتْبة بن ربيعة، وشيبة [بن ربيعة]، والوليد بن عتبة [بن ربيعة]، ونادوا بالمبارزة فقام
2773
أليهم نفر من الأنصار. فاستحيى النبي ﷺ وأحبَّ أن يَبْرَزَ إليهم من بني عمه، فناداهم: أن ارجعوا إلى مصافكم. وليقم إليهم بنو عمهم، فقام حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب بن عبد المطلب. وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، فبرز حمزة: لعتبة، وعبيدة: لشيبة، وعلي: للوليد فقتل حمزة: عتبة، وقتل علي: الوليد، وقتل عبيدة: شيبة، بعد أن ضرب شيبةُ رِجْل عبيدة فقطعها، فَحُمِل حتى توفي بـ: " الصَّفْراء ".
فكان قتل هؤلاء النفر أن يلتقي الجمعان.
وقيل معنى: ﴿وَلِيُبْلِيَ المؤمنين﴾.
أي: وليُنعم عليهم نعمة حسن بالظفر والغنيمة والأجر.
﴿إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.
أي: ﴿سَمِيعٌ﴾ لدعاء نبيكم، ﴿عَلِيمٌ﴾ بمصالحكم.
وقيل: معناه: وليختبر الله المؤمنين اختباراً حسناً.
2774
قوله: ﴿ذلكم وَأَنَّ الله مُوهِنُ﴾ إلى: ﴿المؤمنين﴾.
﴿ذلكم﴾: في موضع رفع على معنى الأمر: ﴿ذلكم﴾.
أو: الأمْرُ.
ويجوز فيها، وفيما تقدم أن تكون في موضع نصب على معنى فعل: ﴿ذلكم﴾.
و ﴿ذلكم﴾ إشارة إلى ما تقدم من قتل المشركين والظفر بهم.
وقوله: ﴿وَأَنَّ الله مُوهِنُ﴾، أي: واعلموا أن الله مُضْعِفٌ ﴿كَيْدِ الكافرين﴾، حتى ينقادوا.
2775
وكل ما جاز في ﴿وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ﴾ [الأنفال: ١٤]، جاز في هذه.
وقيل معنى ﴿مُوهِنُ﴾: يلقي الرعب في قلوبهم.
وقوله: ﴿إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح﴾.
هذا خطاب للكفار، قالوا: اللهم انصر أحب الفريقين إليك.
ومعنى ﴿تَسْتَفْتِحُواْ﴾: تستحكموا/ على أقطع الحزبين للرحم. أي: إن تستدعوا الله أن يحكم بينكم في ذلك ﴿فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح﴾، أي: الحكم.
2776
﴿وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾.
أي: إن تنتهوا عن الكفر بالله، ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾.
قال السدي: كان المشركون إذا خرجوا من مكة إلى قتال النبي ﷺ أخذوا أستار الكعبة فاستنصروا الله.
وقوله: ﴿وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ﴾.
أي: إن عدتم إلى القتال عُدْنا لمثل الوقعة التي أصابتكم يوم بدر.
﴿وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً﴾.
أي: جنودكم وإن كانت كثيرة.
وقيل: ﴿إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح﴾: للمؤمنين، وما بعده للكفار.
وقوله: ﴿وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين﴾، عطف على: ﴿وَأَنَّ الله مُوهِنُ﴾.
وقيل: المعنى: ولأنَّ الله مع المؤمنين.
2777
قوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ﴾، إلى قوله :﴿ وهم معرضون ﴾[ ٢٠-٢٣ ].
المعنى : إن الله نهى١ المؤمنين أن يدبروا عن النبي صلى الله عليه وسلم، مخالفين لأمره، وهم يسمعون أمره،
١ في "ر": ينهى..
وقيل المعنى: واعلموا أنّ الله.
فيجوز الابتداء بها مفتوحة على هذا القول.
وقيل: إنه كله خطاب للمؤمنين، أي: إن تستنصروا فقد جاءكم النصر، وإن تنتهوا عن مثل ما فعلتم من أخذ الغنائم والأسرى قَبْل الإذن ﴿فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾، وإن تعودوا إلى مثل ذلك نَعُدْ إلى توبيخكم، كما قال تعالى: ﴿لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ (لَمَسَّكُمْ)﴾ [الأنفال: ٦٨] الآية.
وقيل المعنى: ﴿وَإِن تَعُودُواْ﴾ أيها الكفار، إلى مثل قولكم واستفتاحكم نعد إلى نصرة المؤمنين.
قوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ﴾، إلى قوله: ﴿وهم مُّعْرِضُونَ﴾.
2778
المعنى: إنّ الله نهى المؤمنين أن يُدْبِروا عن النبي ﷺ، مخالفين لأمره، وهم يسمعون أمره، ولا يكونوا كالكفار الذين قالوا: ﴿سَمِعْنَا﴾، بآذاننا ﴿وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾، بقلوبهم، ولا يعتبرون ما يتلى عليهم. وأنَّما قيل:
﴿وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾، وقد سمعوا؛ لأنّ من لم ينتفع بما سمع كان بمنزلة من لم يسمع.
وقوله: ﴿إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الصم البكم﴾.
أي: إنَّ شرَّ ما دبّ على وجه الأرض من خلق الله عند الله ﴿الصم﴾: عن الحق، فلا ينتفعون به. ولا يتدبرونه، ﴿البكم﴾: عن قول الحق والإقرار بالله، تعالى، ورسله، صلوات الله عليه ﴿الذين لاَ يَعْقِلُونَ﴾: العُمْيُ عن الهدى.
قال مجاهد هم صُمُّ القُلوبِ وبُكْمها وعُميها، وقرأ: ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار﴾ [الحج: ٤٦] الآية.
وعُني بهذه الآية عند ابن عباس: نفر من بني عبد الدار.
2779
وقيل عُني بها: المنافقون.
ثم قال: ﴿وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ﴾.
أي: لأسمعهم جواب كل ما يسألون عنه. أي: لو علم من نياتهم وضمائرهم مثل ما ينطقون به بأفواههم من الإيمان الذي لا يتعقدونه ﴿لأَسْمَعَهُمْ﴾، أي لجعلهم يعتقدون بقلوبهم مثل ما ينطقون به بأفواههم، فالإسماع في هذا إسماع القلوب وقبولها ما تسمع الآذان.
وقوله: ﴿وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ﴾.
عاقبهم بالطبع على قلوبهم، لِمَا علم من إعراضهم عن الإيمان، وما علم من كفرهم، ولذلك دعا موسى عليه السلام. على قومه، فقال: ﴿واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم﴾ [يونس: ٨٨]. عاقبهم بالدعاء عليهم لِمَا تبين من إصراررهم على الفكر، وتماديهم عليه، ﴿وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ﴾ ذلك ﴿لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ﴾، حسداً ومُعاندةٌ.
2780
وقيل: المعنى: ﴿وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ/ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ﴾. أي: لَفَهَّمَهُم مواعظ القرآن حتى يعقلوا، ولكنه علم أنه لا خير فيهم، وأنهم ممن كتب عليهم الشقاء، فلو فهَّمهم ذلك ﴿لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ﴾؛ لأنه قد سبق فيهم ذلك، والآية للمشركين، وقيل: للمنافقين.
قوله: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ﴾، إلى قوله: ﴿شَدِيدُ العقاب﴾.
قال أبو عبيدة معنى ﴿استجيبوا﴾: أجيبوا، كما قال: فلم يستجب عند ذك مُجيب، أي: يجبه.
ومعنى: ﴿لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾.
2781
أي: للإيمان. وقيل: للإسلام. وقيل: للحق. وقيل: للقرآن ومافيه.
وقيل: إلى الحرب وجهاد العدو.
وسماه " حياةً "؛ لأنَّ الكافر مثل الميِّت.
2782
وقيل معنى: ﴿لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾، أي: لما تصيرون به إذا قبلتموه إلى الحياة الدائمة في الآخرة.
" ورُوِيَ أن النبي ﷺ، دعا أُبيّا وهو يصلي فلم يجبه أبيّ، فخفف الصلاة، ثم انصرف إلى النبي ﷺ، فقال له النبي ﷺ: ما منعك إذ دعوتك أن تجيبني؟ قال: يا رسول الله، كنت أصلي، قال له: أفلم تجد فيما أوحي إليَّ: ﴿استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾؟ قال: بلى، يا رسول الله، ولا أعُودُ ".
فهذا يبين أن المعنى يراد به الذين يدعوهم رسول الله ﷺ. إلى ما فيه حاية لهم من الخير بعد الإسلام المدعو إيمانه.
2783
وقوله: ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ﴾.
قال ابن جبير: يحول بين الكافر أن يؤمن، وبين أن يكفر.
وكذلك قال ابن عباس.
وقال الضحاك: يحول بين الكافر وطاعته، وبين المؤمن ومعصيته.
وقال مجاهد معناه: يحول بين المرء وعقله (حتى لا يدري ما يصنع. وقال السدي في معناه: يحول بين الإنسان وقلبه). فلا يستطيع أن يؤمن ولا أن يكفر إلا بإذنه.
وقيل المعنى: يحول بين المرء وبين ما يتمناه بقلبه من طول العيش وامتداد الآمال والتسويف بالتوبة، فيعاجله الموت قبل بلوغ شيء من ذلك.
2784
وقال قتادة معناه: إنَّه قريب من قلب الإنسان، لا يخفى عليه شيء أظْهَرَهُ، ولا شيء أسَرَّهُ، وهو مثل قوله: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد﴾ [ق: ١٦].
وقال الطبري: هو خبر من الله تعالى، أنه أملك بقلوب العباد منهم، وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء، حتى لا يدرك الإنسان شيئاً من الإيمان ولا الكفر، ولا يَعِي شيئاً. ولا يفهم شيئاً، إلا بإذنه ومشيئته.
وقد كان النبي ﷺ، كثيراً ما يقول في دعائه: " يا مُقَلِّب القُلُوبِ قَلِّبْ قلبي إلى طَاعَتِك ".
وفي رواية أخرى: " ثبِّتْ قلبي على طاعتك ".
وكان يحلف: " لاَ ومُقلِّب القُلُوب ".
2785
ومن هذا يقال: لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلاَّ بالله، فمعناه: لا حولَ عن معصية، ولا قوة عن طاعةٍ إلا بالله.
(وقال النبي ﷺ، إذ نظر إلى زوجة زيد) فاستحسنها، وقد كان عرضت عليه نفسها فلم يستحسنها: " سُبْحَانَ مُقلِّبَ القُلُوبِ ".
﴿وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾.
أي: تردون.
وقوله: ﴿واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً﴾.
المبرد يذهب إلى أنَّ ﴿تُصِيبَنَّ﴾، نَهْيٌ، فلذلك دخلت " النون ".
2786
والمعنى في النَّهي: للظالمين، أي: لا تقربوا/ الظلم، وهو مثل ما حكى سيبويه من قوله: (لا أرينَّك هاهنا)، أي: لا تكن هاهنا؛ فإنَّ من يكون هاهنا أراه.
وقال الزجاج: هُوَ خَبَرٌ. ودخلته " النون "؛ لأن فيه قوة الجزاء، قال: وزعم بعضهم أنه جزاء فيه ضرب من النهي. ومثله مِمَّا اخْتلفَ فيه: ﴿ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ﴾ [النمل: ١٨].
2787
ومعنى ذلك: أنها أمر من الله للمؤمنين أن يتقوا اختباراً وبلاء يبتليهم به، لا يُصيبنَّ ذلك ﴿الذين ظَلَمُواْ﴾، بل يصيب الظالمين وغيرهم. فالظالمون هم الفاعلون الكفر.
وقيل: نَزَلَتْ في قوم من أصحاب النبي ﷺ، وهم أصحاب الجمل.
قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين ألاّ يُقِرُّوا المنكر بين أظهُرِهِمْ، فيعمهم الله بالعذاب.
وقال الزبير، يوم الجمل لما لقي ما لقي، ما توهمت أن هذه الآية نزلت في
2788
أصحاب محمد ﷺ، إلا اليوم.
وقال القُتَيْبي معناه: لا تخص الظالم، ولكنها تعم الظالم وغيره.
وقوله تعالى: ﴿هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الظالمون﴾ [الأنعام: ٤٧].
يَدُلُّ على أنَّ العقوبة تخص الظالم. وقد يدخل المداهن الساكت على رؤية المنكر في الظُّلم، فيكون ممن يلحقه العقاب مع الظالم.
وقد قال الحسن: إنَّ الآية نزلت في علي، وعثمان. وطلحة، والزبير [Bهم].
وأكثر النَّاس على أن حكمها باقٍ في الظالم، والمداهن الساكت على إنكار المنكر،
2789
وهو يقدر على إنكاره، فإن كان لا يقدر على الإنكار، وخاف على نفسه، أنكر على قدر استطاعته أو بقلبه.
قوله: ﴿واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب﴾.
أي: لمن عصاه وخالف أمره.
قوله: ﴿واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض﴾، إلى قوله: ﴿أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾.
هذه الآية تذكيرٌ من الله تعالى، للمؤمنين بما أنعم عليهم من العز، بعد أن كان المشركون يستضعفونهم. وهُم قَلِيلٌ، ويفتنونهم عن دينهم، ويسمعونهم المكروه.
قوله: ﴿تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس﴾. أي: يقتلونكم.
﴿فَآوَاكُمْ﴾. أي: جحعل لكم مأْوى تأوون إليه منهم.
﴿وَأَيَّدَكُم﴾.
أي: قوّاكم بنصره إياكم عليهم حتى قتلتموهم.
2790
﴿وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات﴾. أي: أحلَّ لكم غنائمهم.
ف: ﴿الطيبات﴾، هنا: الحلال. ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾. و " لعلّ " هاهنا: ترج يعود إليهم.
والطبري يجعلها بمعنى: " كَيْ ".
و ﴿الناس﴾، في هذا الموضع: الذين كانوا يخافون منهم، كفار قريش بمكة، كان المسلمون قِلَّةً يُستَضعفونَ بمكة.
قال الكبي، وقتادة: نزلت هذه الآية في يوم بدر، كانوا يومئذ قلة يخافون أن يتخطفهم الناس، فقوَّاهم الله بنصره، ورزقهم غنائم المشركين حلالاً.
2791
وقال وهب بن مُنَبِّه: ﴿تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس﴾: فا رس.
وقيل: هي: فارس والروم.
وقال الطبري معنى: ﴿فَآوَاكُمْ﴾، أي: إلى المدينة، ﴿وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ﴾، أي: بالأنصار.
وكذلك قال السدي.
ثم قال: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول﴾.
قوله: ﴿وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ﴾.
في موضع نصب على الجواب. على معنى: أنكم إذا ختم الله والرسول خنتم
2792
أماناتكم.
وقيل: هو موضع جزم على النهي نسَقاً على: ﴿لاَ تَخُونُواْ﴾.
ومعنى خيانة الله والرسول: هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر.
وقيل: هذه الآية نزلت في منافق كتب إلى إبي سفيان/ يطلعه على سر المسلمين.
وقيل: خيانة الرسول (صلى الله عليه سلم): ترك العمل بسنته.
وقليل: نزلت في أبي لُبَابَة. لما بعثه النبي ﷺ، إلى بني قريظة فأشار إليهم إلى
2793
حلقة: إنَّه الذَّبحُ. قال الزُّهْري: فقال أبو لُبابة: لا والله، لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله عليَّ، فمكث سبعة أيام لا يأكل ولا يشرب حتَّى خَرَّ مغشياً عليه، حتى تاب الله عليه. فقيل له: يا أبا لبابة، قد تاب الله عليك، قال: لا والله، لا أَحُلُّ نفسي حى يكون رسول الله ﷺ، هو الذي يَحُلُّني. فجاءه رسول الله ﷺ، فحلَّهُ بيده. ثم قال أبو لبابة: إنَّ توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع عن مالي، قال: يَحْزِيك الثلث أن تتصدَّق به.
وقيل: الآية عامة. نُهوا ألاَّ يخونوا الله والرسول كما صنع المنافقون.
وقوله: ﴿وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ﴾.
أي: لا تفعلوا الخيانة، فإنها خيانة لأماناتكم.
2794
وقيل المعنى: ولا تخونوا أماناتكم.
و" الأمانة " هاهنا: ما يُخفى عن أعين النَّاس من ترك فرائض الله، تعالى، وركوب معاصيه.
قوله: ﴿واعلموا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ﴾.
أي: اختباراً اختبرتم بها. وابتلاءً ابتليتم بها. لينظر كيف أنتم فيها عاملون.
﴿وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾.
أي: جزاء وثواباً على طاعتكم.
قوله: ﴿يا أيها الذين ءامنوا إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً﴾، إلى قوله: ﴿خَيْرُ الماكرين﴾.
والمعنى: إن تتقوا الله في أداء فرائه، واجتناب معاصيه، وترك خيانته وخيانة رسول الله ﷺ: ﴿ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً﴾، أي: فَصْلاً. وفرْقاً بين حقكم وباطل
2795
مَنْ يبغيكم السوء، ﴿وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾، أي: يمحها، ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾. أي: يستتر لكم على ذنوبكم، ﴿والله ذُو الفضل العظيم﴾، عليكم وعلى غيركم.
وقيل: ﴿فُرْقَاناً﴾: مخرجاً.
وقيل: نجاةً.
وقيل: نصراً.
2796
وقال ابن زيد معناه: يفرق في قلوبكم بين الحق والباطل حتى تعرفوه.
وقال مجاهد: مخرجاً من الضيق إلى السعة، ومن الباطل إلى الحق.
قوله: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ﴾، الآية.
المعنى: واذكر، يا محمد إذ يمكر.
وهذه الآية تذكير للنبي ﷺ، بنعم الله تعالى عليه، ﴿الذين كَفَرُواْ﴾: هم مشركو قريش.
قال [ابن عباس] معنى ﴿لِيُثْبِتُوكَ﴾، أي: ليُوثِقُوك وليثقفوك.
2797
وكذلك قال مجاهد: وقتادة. وذلك بمكة.
وقال السدي: ﴿لِيُثْبِتُوكَ﴾: ليحبسوك ويوثقوك.
وقال ابن زيد، وابن جريج: ليحبسوك.
وقال ابن عباس: اجتمع نَفَرٌ من قريش من أشرافهم، في دار الندوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأَوْهُ قالوا: من أنت؟ قال: شيخ من نَجْد، سمعت أنكم اجتمعتم، فأردت أن أحضركم، ولَنْ يَعْدَمَكم منِّي رأيٌّ ونُصْحٌ. قالوا: أجَل، ادخل، فدخل معهم، فقال: انظروا في أمر هذا الرجل، والله ليوشكن أن يواثبكم في أمركم بأمره. فقال قائل منهم: احبسوه في وثَاق. ثم تربصوا به ريب
2798
المنون، حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء. فصرخ عدو الله الشيخ النَّجدي وقال: والله، ما هذا بِرأْي، والله ليخرجنه رأيه من محبسه إلى أصحابه، فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم فمنعوه منكم، / فما آمنُ أنْ يخرجوكم من بلادكم، فقال قائل: أخرجوه من بين أظهركم فتستريحوا منه. فقال الشيخ النجدي: والله ما هذا برأي، ألْم تروا حلاوةَ قوله ولطافةَ لسانه، وأخْذَ القلوب لما يُسْمع من حديثه؟ والله لئن فعلتم ليستعرضن وليجمعن عليكم، ثم ليأتينَّ إليكم حتى يخرجكم من بلادكم، قالوا: صدق، قال أبو جهل: والله لأشيرنَّ عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه، قالوا: وما هو؟ قال: تأخذون من كل قبيلة غلاماً وسيطاً شاباً، ثم نعطي كل غلام منهم سيفاً صارماً، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل، فلا أظُنّ هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش، وأنَّهم إذا
2799
رأوا ذلك قَبِلوا العقل واسترحنا. فقال الشيخ النجدي: هذا والله هو الرأيُ، القول ما قال الفتى، فتفرقوا على ذلك، وأتى جبريل (النبيَّ) ﷺ، فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأخبره بمكر القوم، ثم أمره بالخروج، فأنزل الله عليه بالمدينة: " الأنفال " يذكره نِعَمه عليه في قوله: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ﴾، الآية.
فأنزل في قولهم " نتربص به حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء ": ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون﴾ [الطور: ٣٠].
وكان يسمى ذلك اليوم الذي اجتمعوا فيه " يوم الزحمة ".
ولما أجمعوا على ذلك باتوا يحرسونه ليوقعوا به بالغداة. فخرج النبي ﷺ، وأبو
2800
بكر إلى الغار، وأمر النبي ﷺ، عليّاً أ، ْ يبيت في موضعه، فتوهم المشركون أنه [النبي] ﷺ، فباتوا يحرسونه، فلما أصبح وجَدوا عليًّا، فقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري، فركبوا وراءه كل صعب وذلول يطلبونه، ومَرُّوا بالغار قد نسج على فمه العنكبوت، فمكث النبي ﷺ. فيه ثلاثاً.
" ويُرْوَى أن النبي ﷺ، قال لعليّ: نَمْ على فراشي وتَسَجَّ بِبُرْدي هذا الحَضْرَمي؛ فإنه لن يخلص إليك شيءٌ تكرهه، ثم خرج النبي ﷺ، وأبو جهل وأصحابه على الباب، وأخذ النبي ﷺ، حَفْنَة من تُراب، وأخذ الله بأبصارهم فلا يرونه، فجعل يثير التراب على رؤوسهم، وهو يقرأ: ﴿يس﴾، إلى قوله: ﴿فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾ فلم يبق منهم رجلٌ إلا وضع النبي ﷺ، على رأسه تراباً، وانصرف إلى حيث أراد، فآتاهم آتٍ فأعلمهم بحالهم، فوضع كُلُّ رجل منهم يده على رأسه فوجد تُراباً، فانصرفوا بِخِزْي وَذُلٍّ. "
قوله: ﴿وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ [قَدْ] سَمِعْنَا﴾ إلى قوله: ﴿بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾.
2801
المعنى: أنَّ الله تعالى، حكى عنهم: أنهم يقولون إذا يُتلى عليهم القرآن: ﴿لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا﴾ مثله: ﴿إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين﴾، أي: سطَّره الأولون وكتبوه من أخبار الأُمم.
قال ابن جريج: كان النضرُ بنُ الحارث يختلف تاجراً إلى فارس، فيَمرُّ بالعبادِ وهم يقرأون الإنجيل ويركعون ويسجدون. فجاء مكة، فوجد/ محمداً ﷺ، قد أُنْزِلَ عليه وهو يركع ويسجد، فقال: ﴿قَدْ سَمِعْنَا﴾، مثل هذا ﴿لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا﴾، يعني: ما سمع من العِبَادِ.
وقال السدي: كان النَّضْر يختلف إلى الحيرة. فيسمع سجْع أهْلها وكلامهم، فلما سمع بمكة كلام النبي ﷺ، والقرآن، قال: قد سمِعْتُ مثله: ﴿إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين﴾، يقول: أسَاجيع أهل الحيرة. و ﴿أَسَاطِيرُ﴾: جمع الجمع،
2802
فهو جمع " أسطر "، و " أسطر " جمع سطر.
وقيل: إنه جمع، وواحده: " أسطورة ".
وقُتِل النَّضر هذا وهو أسير يوم بدر صَبْراً. أسره المقداد. فقال النبي ﷺ، اقتله؛ فإنَّه يقول في كتاب الله ما يقول، فراجعه المقداد ثلاث مرات، كل ذلك يأمره بقتله، فقتل.
وقوله: ﴿وَإِذْ قَالُواْ اللهم﴾، الآية.
معناه: واذكر، يا محمد، إذْ قالوا ذلك.
والذي قاله عند ابن جُبير: هو النَّضْر بن الحارث.
وقال مجاهد: هو النَّضْر بن كَلَدَة، وأنَّه قتل بمكة بدليل قوله: {وَمَا كَانَ
2803
(الله) لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ}.
ومعناه أنه قال: اللهم إنْ كان هذا الذي أتى به مُحمّدٌ هو الحق، ﴿فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾.
قال عطاء: لقد نزل فيه بضع عشرة آية، منها: ما ذكرنا ومنها قوله:
﴿وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا﴾ [ص: ١٦]، الآية، ومنها: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى﴾ [الأنعام: ٩٤]، الآية.
ومنها: ﴿سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ﴾ [المعارج: ١] الآية.
2804
قال أبو عبيدة: كلُّ شيء من العذاب فهو " أمطرت "، ومن الرحمة " مَطِرت ".
قوله: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ﴾، إلى قوله: ﴿لاَ يَعْلَمُونَ﴾.
والمعنى: وما كان الله ليعذِّب هؤلاء الذين تمنوا العذاب وأْنت مقيم بين أظهرهم. وكان قد نزلت عليه وهو مقيم بمكة. ثم خرج النبي ﷺ، من مكة، فاستغفر من بها من المؤمنين، فنزلت عليه بعد خروجه: ﴿وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾.
ثم خرج أولئك البقية من المؤمنين، فأنزل الله، تعالى: ﴿ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله﴾، الآية، بالمدينة، فعذَّب الله، ( تعالى). الكفار، إذْ أذِنَ للنبي ﷺ، بفتح مكة، فهو العذاب الذي وُعِدوا به. قال ذلك ابن أبي أبزى.
2805
وقال أبو مالك نزل الجميع بمكة، فقوله: ﴿وَمَا كَانَ [الله] لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ﴾، يعني: النبي ﷺ، ﴿ وَمَا كَانَ [الله] مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾، يعني: من بِها من المسلمين ﴿وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله﴾، يعني: من بمكة من الكفار.
فمعنى: ﴿وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله﴾، أي: خاصة، فعذبهم الله ( تعالى). بالسيف، وفي ذلك نزلت: ﴿سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ﴾، الآية. وهو النَّضْر. سأل العذاب.
ورُوِيَ عن ابن عباس [أنَّ] المعنى: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ﴾، يا محمد، أيْ: حتى نخرجك من بين أظهرهم، ﴿وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾، قال: كان المشركون يطوفون بالبيت يقولون: " لبَّيْك لبَّيْك، لا شريك لك "، فيقول النبي ﷺ " قَدْ، [قَدْ] "، فيقولون: " إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك "، ويقولون: " غُفرانك،
2806
غُفرانك "، فهذا استغفارهم. قال: وقوله: ﴿وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله﴾، يعني في الآخرة.
وقال قتادة المعنى: ﴿وَمَا كَانَ (الله) مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾، أي: لو استغفروا لم يعذّبهم، ولكنهم ليس يستغفرون، فلذلك قال: ﴿وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله﴾، وهم لا يستغفرون، ويصدون عن المسجد الحرام.
وهو اختيار الطبري. قال: كما نقول: " ما كنتُ لأُحسن إليك وأنت تسيء إليَّ "، يراد به: لا أحسن/ إليك إذا أسَأْتَ إليَّ، أي: لو أسَأْتَ إِلَيَّ لم أُحسن إليك.
وكما قال:
يَالَيْتَ زَوْجَكَ قَدْ غَدَا مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحاً
2807
أي: إنما شاموها بعد أن كثرت القتلى.
وشمتُ السيف من الأضداد، شمتُه: سللته وأغمدته.
وقال بعض العلماء: هما أمانان أنزلهما الله تعالى، فالواحد قد مضى وهو النبي ﷺ، والثاني باق وهو استغفار (أمِنَ) من نزول العذاب به في الدنيا.
وقال ابن زيد معنى: ﴿وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾، أي: لو استغفروا لم أعذبهم. وهم لا يستغفرون، فما لهم ألاَّ يُعَذَّبوا.
وهو قول قتادة الأول.
ومعنى ذلك قال السدي.
2808
وقال عكرمة المعنى: لم يكن الله ليعذبهم وهم يُسلمون.
و" الاستغفار " هنا: الإسلام.
وقال مجاهد: ﴿وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾، أي: وهم مسلمون، ﴿وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله﴾، يعني: قريشاً، بصدهم ﴿عَنِ المسجد الحرام﴾.
ورُوِيَ عن ابن عباس، أيضاًُ أنَّه قال: ﴿وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾، [أي:] فيهم من سبق له [من الله] الدخول في الإسلام، فاستغفار مقدر فيهم يكون قال: ﴿وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله﴾، يعني: يوم بدر بالسيف.
ورُوِيَ عنه أيضاً: ﴿وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾: وهم يصلون.
ورُوِيَ عنه أيضاً: ﴿وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾، وفيهم مؤمنون يستغفرون فلما خرجوا
2809
مع النبي ﷺ، أنزل الله تعالى: ﴿ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله﴾، يعني: من بقي من الكفار بمكة.
وعن مجاهد أيضاً: ﴿وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾: يصلون.
وكذلك قال الضحاك.
ورُوِيَ عن عكرمة، والحسن أنهما قالا: قوله: ﴿وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾، يعني: المشركين، ثم نسخ ذلك قوله: ﴿وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ [الله] وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام﴾.
وقيل المعنى: وأولادهم يستغفرون، قد سبق في علم الله، تعالى، أنهم يؤمن أولادهم ويستغفرون، فلم يكن ليعذب هؤلاء بالاستئصال. وقد سبق أنهم يلدون
2810
من يؤمن ويستغفر.
وقيل المعنى: وفيهم من يستغفرون. وهم من كان بمكة بين أظْهُرهم من المؤمنين لم يخرجوا بعد من المستضعفين وغيرهم، وقاله الضحاك. قال: وقوله: ﴿وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله﴾، يعني: الكفار خاصة.
قال مجاهد: ﴿وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾: يصلون، يعني: من بمكة من المؤمنين.
وقوله: ﴿وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله﴾.
" أنْ ": في موضع نصب.
والمعنى: وأي شيء لهم في دفع العذاب عنهم. وهذه حالهم.
2811
وقيل: هي زائدة.
وقيل المعنى: وما كان يمنعهم من أن يعذبوا. وهذه حالهم.
قوله: ﴿وَمَا كانوا أَوْلِيَآءَهُ﴾.
يعني: مشركي قريش.
﴿إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ المتقون﴾.
يعني: أصحاب النبي ﷺ.
وقال مجاهد ﴿إِلاَّ المتقون﴾، أي كانوا أو حيث كانوا.
﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ﴾.
أي: أكثر المشركين: ﴿لاَ يَعْلَمُونَ﴾، أنّ أولياء الله هم المتقون، بل يحسبون
2812
أنهم هم أولياء الله.
ومن قال: إنّ قوله: ﴿وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾، يعني به المؤمنين، وقف على: ﴿وَأَنتَ فِيهِمْ﴾، لأن الأول للكافرين، والثاني للمؤمنين، وهو قول الضحاك، وعطية، وابن عباس في بعض الروايات عنه.
ومن قال: إنّ الكلام كله للكفار، وهو ما روي عن ابن عباس، وأبي زيد، والسدي، لم يقف على: ﴿وَأَنتَ فِيهِمْ﴾.
﴿وَمَا كانوا أَوْلِيَآءَهُ﴾، وقف.
والأحسن في هذه الآيات أن يكون المعنى: أن منهم من سيؤمن فيستغفر،
2813
وقد علم الله تعالى، ذلك منهم، فهو قوله: ﴿وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾، / أي: سيكون منهم ذلك، ومنهم من يموت على الكفر، علم الله ذلك منهم، فهم الذين قيل فيهم: ﴿وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله﴾، والسورة مدنية كلها.
قوله: ﴿وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً﴾، إلى قوله: ﴿يُحْشَرُونَ﴾.
رُوي عن أبي بكر عن عاصم:
﴿وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ﴾، بالنصب، ﴿إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً﴾، بالرفع، مثل قول
2814
الشاعر:
يكون مِزَاجَهَا عسل وماء.... ومعنى الآية: وما كان يا محمد، صلاة هؤلاء المشركين عند البيت الحرام ﴿إِلاَّ مُكَآءً﴾، أي: تصفيراً، ﴿وَتَصْدِيَةً﴾، أي: تصفيقاً.
يُقال: مَكا يَمْكُو مَكْواً ومُكاءً، إذا صَفَر.
2815
وصدَّى يُصدِّي تصدية، إذا صفَّق.
وقال ابن زيد، وابن جبير: (التصدية): صدهم عن سبيل الله.
وهذا إنما يجوز على أن تقدر أنَّ " الياء " بدل من " دال "، مثل: تظَنَّيتُ في تَظَنَّنْتُ.
وحكى النحاس: أنه يجوز أن يكون معناه: الضجيج والصياح، من قولهم: " صدَّ يَصُدُّ " إذا ضجَّ.
وتبدل من إحدى " الدالين " " ياء " أيضاً كالأول، وأصله: " تَصْدِدَة " في
2816
القولين جميعاً، ثم أبدلت من " الدال الثانية " " ياء ".
قال ابن عباس: كانت قريش تطوف حول البيت عراة يُصفرون ويصفقون، فأنزل الله تعالى، ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ﴾ [الأعراف: ٣٢]، فأُمر بلبس الثياب.
وقال مجاهد " المُكاء ": إدخالهم أصابعهم في أفواههم ينفخون، و " التَّصْدِيَةُ ": الصفير، يريدون أن يشغلوا بذلك محمداً ﷺ عن الصلاة.
وقال قتادة " المُكَّاءُ ": الصَّفير بالأيدي، و " التَّصْدِيَةُ ": صياح كانوا يعارضون به القرآن.
وقال السدي " المُكاء ": صفير على لحن طير أبيض يقال له: " المُكَّاء "، يكون بأرض الحجاز.
2817
وقوله: ﴿فَذُوقُواْ العذاب﴾.
هو العذاب بالسيف الذي نزل بهم يوم بدر.
وهذا ذوق بالحس يصل ألمه إلى القلب كما يصل الذوق في مرارته وطيبه إلى القلب فسمي ذوْقاً لذلك.
ثم أخبرنا، تعالى، أنّ الذين كفروا يعطون أموالهم للمشركين مثلهم ليتقوَّوا بها على قتال النبي ﷺ، فيصدون بذلك عن سبيل الله، وهو الإسلام، فيسنفقون أموالهم ﴿ثُمَّ تَكُونُ﴾ نفقتههم عليهم ﴿حَسْرَةً﴾؛ لأنَّ الأموال تذهب، ولا يصلون إلى ما أمَّلوا، فذهابها في الدنيا حسرة عليهم، وما اجترحوا من إثمها عليهم حسرة في
2818
الآخرة أيضاً، ﴿ثُمَّ يُغْلَبُونَ﴾، ولا تنفعهم نفقتهم، وهم إلى ربهم يحشرون في المعاد.
قال ابن أبزى: نزلت هذه الآية في أبي سفيان، استأجر يوم أُحد ألفين ليقاتل بهم النبي صلى عليه السلام، سوى من استجاش من العرب.
قيل: إنَّه أنفق أربعين أوقية [من ذهب]، يوم أحد، والأوقية يومئذ: اثنان وأربعون مثقالاً.
وذلك أنه لما وصل بالعير إلى مكة دعا الناس إلى القتال، فغزا رسول الله ﷺ في العام المقبل إلى أحد. وكانت بدر في رمضان، يوم جمعة صبيحة عشرة من رمضان. وكانت أحد في شوال يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت منه في العام الثاني من بدر، وهو العام الرابع من الهجرة.
وروى جماعة من التابعين: أن أبا سفيان لما سلم بعيره [إلى مكة] / كانت العير لجماعة، فتكلم قريش إلى أصحاب العير أن يعينوهم بمالها على حرب النبي عليه السلام، ليطلبوا أَثْأَرهُم ففعلوا، فأنزل الله، تعالى: ﴿ إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ﴾ الآية.
2819
قوله: ﴿لِيَمِيزَ الله الخبيث (مِنَ الطيب)﴾، إلى قوله: ﴿سُنَّةُ الأَوَّلِينَ﴾.
المعنى: إن الله تعالى، يحشرهم ليميز الخبيث من الطيب، أي: أهل السعادة من أهل الشقاء.
وقيل: المؤمن من الكافر، فيجعل الخبيث بعضه على بعض. (أي: يجعل الكافر بعضهم على بعض، أي: فوق بعض).
﴿فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً﴾.
أي: يجمعه بعضه إلى بعض. و " الرُّكَامُ ": المُجْتمع، ومنه قوله في السحاب:
﴿ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ﴾، أي يجمع المفترق، ﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً﴾ [النور: ٤٣]، أي: مجتمعاً كثيفاً.
﴿فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ﴾.
أي: الخبيث فوحد اللفظ ليرده على الخبيث، ثم جمع آخراً رداً على المعنى.
وقيل معنى: ليميز الخبيث من الطيب، أي: ما أنفقه الكافرون في معصية الله، سبحانه، فيجمعه فيجعله في جهنم، فيعذبون به. و ﴿الطيب﴾: ما أنفقه المسلمون في رضوان الله تعالى.
ثم قال تعالى: ﴿قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ﴾.
أي: ﴿قُل﴾، يا محمد، ﴿لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ﴾، أي: عما نُهوا عنه، ﴿يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ﴾، أي: ما سلف وتقدم من ذنوبهم، ﴿وَإِنْ يَعُودُواْ﴾، أي: إلى ما نهوا عنه من الصد عن سبيل الله تعالى، والكفر بآيات الله سبحانه، وإلى مثل قتالك يوم بدر، ﴿فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ﴾، أي: سنة من قتل يوم بدر، ومن هو مثلهم في أهلاك الله تعالى، إياهم يوم بدر وغيرها.
قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾، إلى قوله: ﴿نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير﴾.
2821
المعنى: إن الله ( تعالى)، أمر المؤمنين بقتالهم لئلا تكون ﴿فِتْنَةٌ﴾، أي: شرك. ف " الفتنة " هنا: الشرك، ولا يعبد إلا الله سبحانه.
وقال قتادة: المعنى: حتى يقال: لا إله إلا الله.
وقال الحسن: ﴿فِتْنَةٌ﴾: بلاء.
وقال ابن إسحاق معناه: حتى لا يفتن مؤمن عن دنيه، ويكون التوحيد لله خالصاً.
﴿فَإِنِ انْتَهَوْاْ﴾.
أي: عن الفتنة، وهي: الشرك، فإن الله لا يخفى عليه عملهم.
﴿وَإِن تَوَلَّوْاْ﴾.
عن الإيمان، وأبو إلا الفتنة، فقاتلوهم، واعلموا أن الله معينكم وناصركم، ﴿نِعْمَ المولى﴾ هو لكم، أي: المعين، ﴿وَنِعْمَ النصير﴾، أي: الناصر.
2822
قوله: ﴿واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ﴾ الآية.
هذه الآية تعليم من الله تعالى، للمؤمنين، أن كل ما غنموه من غنيمة، وهو " الفيْ ".
وقيل: " الغّنِيمَةُ ": ما أُخذ عنوة، و " الفَيْءُ ": ما أُخذ صلحا. ف: " الغَنِيمَةُ ": أربع أخماسها لمن شهد القتال، للراجل: سهم، وللفارس: سهمان.
2823
والصلح على ما صولحوا عليه، وليس فيه خمس، إنما هو لمن سمى الله تعالى، في قوله: ﴿مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى﴾ [الحشر: ٧].
وقيل: " الغنيمة "، و " الفي " واحد، فيه الخمس في " الحشر " قاله قتادة.
وقوله: ﴿للَّهِ خُمُسَهُ﴾.
مفتاح كلام، والدنيا والآخرة لله، تعالى/ وكان النبي ﷺ، يقسم " الخمس " على
2824
خمسة: فخمس لله وخمس لرسوله هو [خمس] واحد.
وقيل: إنَّ خمس لخمس لله وللرسول، كان النبي ﷺ، يقبض في " الخمس " قبضة فيجعله للكعبة، ثم يقسم باقي الخمس إلى خمسة.
وقال ابن عباس: لم يكن النبي ﷺ، يأخذ من " الخمس " شيئاً، إنما كان يعطي ذلك لقرابته مع نصيبهم.
وقد أجْمَعُوا على أنَّ " الخمس " لا يقسم على ستة.
2825
ومذهب الشافعي أن يقسم الآن على: خمسة، فيجعل، جزء فيما كان النبي ﷺ، يجعله، وذلك أن يجعل تقوية للمسلمين، وكذا رُوي أنه كان يفعل، ويعطي الأربعة الأخماس: الخمس ﴿وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل﴾ سهماً سهماً.
وقال أبو حنيفة: يقسم الخمس على ثلاثة: للفقراء: ثلث، وللمساكين ثلث، ولابن السبيل ثلث؛ لأنَّ النبي ﷺ قال: " لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ "، فسقط خمس رسول الله ﷺ وخمس ذوي القربى.
ومذهب مالك رضي الله عنهـ: أنَّ الإمام يعطي من رأى من هؤلاء المذكورين من هو أحوج، فإذا جعلت في بعض دون بعض جاز.
2826
ومعنى: ﴿وَلِذِي القربى﴾.
هم قرابة رسول الله ﷺ، من بني هاشم.
وقال أبو سعيد الخدري عن ابن عباس: إنهم قريش كلهم.
﴿واليتامى﴾.
أطفال المسلمين الذين هلك آباؤهم.
﴿والمساكين﴾.
2827
أهل الفاقة.
﴿وابن السبيل﴾.
المجتاز مسافراً قد انقطع به.
﴿إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله﴾.
أي: صدقتم بتوحيده، وآمنتم بما أنزلنا على عبدنا.
﴿يَوْمَ الفرقان﴾.
وهو يوم بدر، فرق فيه بين الحق والباطل.
﴿يَوْمَ التقى الجمعان﴾.
يعني: جمع المسلمين وجمعْ المشركين، وهو أول مشهد شهده رسول الله ﷺ،
2828
كان المشركون ما بين الألف والتسعمئة والمسلمون ثلاثمئة وبضعة عشر رجلاً، فقتل من المشركين أزيد من سبعين، وأسر مثل ذلك.
وقال بعض نحويي البصرة قوله: ﴿إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله﴾، متعلق بقوله: ﴿نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير﴾.
وقيل: هو متعلق بما قيل من ذكر الغنيمة وقسمتها، وجواب الشرط محذوف، والمعنى: إن كنتم [آمنتم] بالله فاقبلوا ما أمرتم به.
﴿والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
2829
أي: على إهلاك أهل الكفر، وغير ذلك مما يشاء قدير.
قوله: ﴿إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدنيا وَهُم بالعدوة القصوى﴾ إلى قوله: ﴿لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.
العامل في ﴿إِذْ﴾ قوله: ﴿وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان يَوْمَ التقى الجمعان﴾ [الأنفال: ٤١] ﴿إِذْ أَنتُمْ﴾.
والمعنى: إذ أنتم نزُولُ شفير الوادي الأدنى إلى المدينة، وعدوكم بشفير الوادي الأقصى إلى مكة.
﴿والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ﴾.
أي: والعير التي فيها أبو سفيان وأصحابه أسفل منكم إلى ساحر البحر.
ولا يقال: ركب إلا للذين على الإبل.
2830
وكان أبو سفيان قد أتى هو وأصحابه تجاراً من الشام، لم يشعروا بأصحاب بدر، ولم يشعر أصحاب محمد ﷺ. بكفار قريش، ولا كفار قريش بأصحاب محمد عليه السلام، حتى التقوا على ماء بدر.
﴿وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد﴾.
أي: لو كان اجتماعكم في الموضع الذي اجتمعتم فيه عن ميعاد، لاختلفتم، لكثرة عدد عدوكم، وقلة عددكم.
﴿ولكن لِّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً﴾.
أي: جمعكم الله تعالى، وإياهم ﴿لِّيَقْضِيَ الله﴾ تعالى، ﴿ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً﴾، وذلك القضاء هو/ نصره للمؤمنين، وتعذيبه للمشركين بالسيف والأسر.
وقيل: المعنى: لو كان [ذلك] [عن] ميعاد منكم ومنهم، ثم بلغكم كثرة
2831
عددهم مع قلة عددكم، ما لقيتموهم.
قال كعب بن مالك: إنما خرج النبي ﷺ، إلى بدر يريد عِيرَ قريش، حتى جمع الله تعالى، بينهم وبين عدوهم؛ لأن أبا جهل خرج ليمنع النبي ﷺ، من العير، فالتقوا ببدر، ولا يشعر كل واحد بصاحبه.
ثم قال تعالى: ﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ﴾.
أي: ليموت من مات عن حجة، أي: جمعهم على غير ميعاد، ﴿لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ﴾، أي: عن حجة قطعت عذره، ويعيش من عاش عن حجة قد ظهرت له.
2832
وقيل المعنى: ليكفر عن أمر بيّن، ويؤمن من آمن عن أمر بَيّن.
﴿وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.
أي: لقولكم: ﴿عَلِيمٌ﴾ بما تضرمه نفوسكم في كل حال.
قوله: ﴿مَنْ حَيَّ﴾.
من قرأ بـ " الإِدْغامِ "، فإنه أدْغم لاجتماع المثلين؛ ولأنه في السواد بـ: " يَاءٍ " واحدة.
ومن أظهر أجراه مجرى المستقبل، فلما لم يجز الإدغام في المستقبل (أجري
2833
الماضي على ذلك، فأظهر وقد أجاز الفراء الإدغام في المستقبل)، ومنعه جميع البصريين؛ لأنه يجتمع في المستقبل حرفان متحركان، ف: " الياء " الثانية حق أصلها أن تكون ساكنة، ولا يقاس هذا على ما صح لم يخف؛ لأنَّ " يحيى " يحذف ياؤه للجزم، ولا يحذف في " يخف " شيء للجزم.
قوله: ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً﴾، إلى قوله: ﴿تُرْجَعُ الأمور﴾.
والمعنى: إنّ الله تعالى، يا محمد، ﴿لَسَمِيعٌ﴾ لما يقول أصحابك ﴿عَلِيمٌ﴾ بما يضمرون، إذ يريك عدوك وعدوهم ﴿فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً﴾، فتخبر أصحابك بذلك، فتقوى
2834
نفوسهم، ويجترئون على حرب عدوهم، ولو أراك ربك عدوك وعدوهم كثيراً، لفشل أصحابك فجبنوا على قتالهم، وتنازعوا في ذلك، ﴿ولكن الله سَلَّمَ﴾، من ذلك بما أراك في منامك من قتلهم ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ﴾، بما تُجِنُّه الصدور.
قال مجاهد: أراهم الله عز جل، نبيّه عليه السلام، في منامه قليلاً، فأخبر أصحابه، فكان تثبيتاً لهم.
وقال الحسن: كان ذلك رؤية حق غير منام.
والمعنى: ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ [الله]﴾ بعينك التي تنام بها ﴿قَلِيلاً﴾، فالمعنى على هذا: في موضع منامك.
2835
وهو عند جميع أهل التفسير رؤيا في النوم كانت، إلا الحسن: فأمّا قوله: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم﴾، فهي رؤية حق لا منام، وهذا خطاب للنبي ﷺ، وأصحابه.
ومعنى: ﴿ولكن الله سَلَّمَرِ﴾.
أي: سلم للمؤمنين أمرهم حتى أظفرهمه.
وقيل المعنى: سلم أمره فيهم.
وقيل: سلم القوم من الفشل بما أرى نبيهم ﷺ. من قلتهم. قاله ابن عباس. يقال: فَشِل الرجل، أي: جَبُن.
2836
ثم قال: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً﴾.
أي: أراكم، أيها المؤمنون، عدوكم، قليلاً، وهم كثير ليهون عليكم أمرهم، فلا تجزعوا ولا تجبنوا، ويقلل المؤمنين في أعينهم، ليتركوا الاستعداد لهم، فتهون على المؤمنين شوكتهم.
قال عبد الله بن مسعود: قُلِّلوا في أعيننا يوم بدر، حتى قلت لرجل إلى جانبي: أراهم سبعين؟ قال: أراه مائة، قال: فأسرنا رجلاً منهم/ فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفا.
وكان من قول أبي جهل لأصحابه لما قلّل الله تعالى، المسلمين في عَيْنَيْه: يا قوم، لا تقتلوهم بالسلاح، ولكن خُذُوهم أَخْذاً، فاربطوهم بالحبال.
2837
ثم قال: ﴿لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً﴾.
أي: فعل ذلك، فيظفركم بعدوكم، وتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.
﴿وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور﴾.
أي: تصير في الآخرة إليه، فيجازي كل نفس بماكسبت.
قوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا﴾، إلى قوله: ﴿مَعَ الصابرين﴾.
هذه الآية تحريض من الله، تعالى، للمؤمنين في الثبات عند لقاء العدو، وأمرهم بذكر الله، سبحانه ﴿كَثِيراً﴾، أي: يذكرونه في الدعاء إليه في النصر على عدوهم، ﴿لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ﴾.
﴿وَأَطِيعُواْ الله﴾ تعالى، ﴿ وَرَسُولَهُ﴾ عليه السلام، أي: فيما أمركم به، ﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ﴾، أي: تختلفوا فتفترق قلوبكم، ﴿فَتَفْشَلُواْ﴾، أي: تضعفوا وتجنبوا، ﴿وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾، أي: قوتكم وبأسكم ودولتكم، فتضعفوا، ﴿واصبروا﴾، أي: اصبروا مع نبي الله تعالى، عند لقاء عدوكم، ﴿إِنَّ الله مَعَ الصابرين﴾، أي: معكم.
2838
قال مجاهد، وابن جريج ذهب ريح أصحاب رسول الله ﷺ، حين نازعوه يوم أحد، أي: تركوا أمره، يعني: الرُّماة.
قال ابن زيد، ومجاهد، وغيرهم: (الرِّيحُ) ريح النّصر.
قال ابن زيد: لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تعالى، يضرب بها وجوه العدو، فإذا كان ذلك لم يكن لهم قِوَامٌ.
فمعنى: ﴿وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾.
(أي): الريح التي هي النصر، وعلى ذلك قال قتادة ومجاهد: ﴿رِيحُكُمْ﴾: نصركم.
2839
قوله: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ﴾، الآية.
هذه الآية تنبيه للمؤمنين ألاّ يعملوا عملاً إلا الله تعالى، وطلب ما عنده تبارك وتعالى، ولا يفعلوا كفعل المشركين في مسيرهم إلى بدر طلب رئاء الناس. وذلك أنهم أُخبروا أن العير قد فاتت النبي ﷺ، [ وأصحابه]، وقيل لهم: ارجعوا فقد سلمت العير التي جئتم لنصرتها، فأبوا الرجوع، وقالوا: نأتي بدراً فنشرب بها الخمر، وتعزم علينا بها القيان، وتتحدث بنا العرب، فسُقُوا مكان الخمر المنايا.
وفيهم نزل: ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ الناس﴾ الآية.
قال ابن عباس: لما رأى أبو سفيان أنه أحرز عيره، أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عِيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجت، فارجعوا، فقال أبو جهل بن هشام: والكله لا نرجع حتى نَرِد بدراً، وكان " بدر " موسماً من مواسم العرب، تجتمع لهم بها سوق كل عام، فنقيم عليهم ثلاثاً، وننحر الجُزُر، ونطعم الطعام، فمضوا حتّى أتوا بدراً، فاجتمع السقاة على الماء من هؤلاء ومن هؤلاء، فجاز المشركون الماء.
ومعنى " البَطَرُ ": التقوية بنعم الله، تعالى على المعاصي، فأمر الله تعالى المؤمنين بإخلاص العمل له، ولا يكونوا كهؤلاء، الذين أتوا بدراً للرياء والسمعة بَطَراً منهم.
قوله: ﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ﴾، الآية.
المعنى: اذكر إذ زيّن لهؤلاء الكفار الشيطان أعمالهم.
وقيل: المعنى: ﴿وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال: ٤٢]، في هذه الأحوال، وحين زيَّنَ لهم الشيطان أعمالهم.
قال الضحاك: جاءهم إبليس يوم بدر بجنوده فزين لهم أنهم لن ينهزموا وهم يقاتلون على دين آبائهم، وأنه جَارٌ لهم، فلما التقوا، ونظر الشيطان إلى إمداد الملائكة ﴿نَكَصَ على عَقِبَيْهِ﴾، أي: رجع مدبراً، وقال لهم: ﴿إني أرى مَا لاَ تَرَوْنَ﴾.
2841
قال السدي: أتى المشركين إبليس في صورة سراقة بن مالك الكِناني الشاعر/ على فرس فقال: ﴿لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس﴾، فقالوا: من أنت؟ قال: أنا جَارُكُمْ سراقبة بن مالك، وهؤلاء كنانة قد أتوكم.
وقال قتادة: لما رأى الملعون جبريل عليه السلام تنزل معه الملائكة، علم أنه لا يدين له بالملائكة، فقال: ﴿إني أرى مَا لاَ تَرَوْنَ﴾، وقال: ﴿إني أَخَافُ الله﴾، وكذب الملعون، ما به مخافة الله تعالى، ولكن لما رأى ما لا منعة له منه، فرق وقال ذلك، وهو كاذب على نفسه.
2842
وقيل: إنه ظنَّ أنَّ الوقت الذي أُنظِر إليه قد حضر، فخاف.
وقال النبي ﷺ: " ما رُئِيَ إبليس يوماً هو فيه أصْغَرُ، [ولا أدحر]، ولا أحْقَرُ، ولا أغيظُ من يوم عرفة، وذلك مما يرى من تنزيل الرحمة والعفو عن الذنوب، إلا ما رأى يوم بدر "، قالوا: يا رسول الله، وما رأى يوم بدر؟ قال: " أما إنه رأى جبريل عليه السلام، يَزَعُ الملائكة ".
قال الحسن: رأى جبريل عليه السلام، مُعْتَجِراً بِبُرْد، يمشي بين يدي النبي عليه السلام، وفي
2843
يده اللجام.
ومعنى: ﴿نَكَصَ على عَقِبَيْهِ﴾. رجع القهقري.
وقيل معناه: رجع من حيث جاء.
وكانت وقعة بدر لسبع عشرة خلت من رمضان على رأس سبعة عشر شهراً من مقدم النبي ﷺ، من مكة.
قال مالك: على رأس سنة ونصف.
وكانت وقعة أحد بعد بدر بسنة.
2844
قوله: ﴿إِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ إلى قوله: ﴿لِّلْعَبِيدِ﴾.
المعنى: واذكر، يا محمد، ﴿إِذْ يَقُولُ﴾.
وقيل المعنى: ﴿لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال: ٤٢]، في هذه الأحوال، وحين يقول المنافقون: كذا وكذا.
و ﴿المنافقون﴾ هنا: نَفَرٌ لم يستحكم الإيمان في قلوبهم من مشركي قريش، خرجوا مع المشركين من مكة وهم على الارتياب، فلما رأوا قلة أصحاب محمد ﷺ قالوا: ﴿غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ﴾، حتى قدموا على ما قدموا عليه، مع قلبة عددهم.
وقال الحسن: هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر، فسموا: " منافقين ".
وقال معمر: هم قوم أقروا بالإسلام بمكة، ثم خرجوا مع المشركين إلى بدر، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا: ﴿غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ﴾.
قال ابن عباس: إنّما قالوا ذلك حين قلل الله المسلمين في أعين المشركين، فظنوا
2845
أنهم يغلبون لا محالة.
وقوله: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله﴾.
أي: يسلم أمره إلى الله تعالى ﴿ فَإِنَّ الله عَزِيزٌ﴾، أي: لا يغلبه شيء، ولا يقهره أمر ﴿حَكِيمٌ﴾ في تدبيره.
ف ﴿المنافقون﴾: هم الذين أظهروا الإيمان، وأبطنوا الشرك، ﴿والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾: هم الشاكون في أمر الإسلام. وقيل: هما واحد، كما قال: ﴿الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب﴾ [البقرة: ٣]، ثم قال: ﴿والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ [البقرة: ٤]، وهما واحد.
ويُروى أن رجلاً من الأنصار رأى الملائكة يوم بدر، فذهب بصره، فكان يقول: لولا ما ذهب بصري لأرَيْتكُم الشِّعْب الذي خرجت منه الملائكة.
قال: ولقد سمعت حَمْحَمة الخيل.
قوله: ﴿وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة﴾.
2846
أي: لو عاينت ذلك، يا محمد، رأيت أمراً عظيماً، يضربون وجوههم وأستاههم، يقولون لهم: ﴿وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق﴾، أي: النار. ف: " يقولون " محذوفة من الكلام.
وجواب ﴿لَوْ﴾ محذوف. والمعنى: ولو ترى ذلك لرأيت أمراً عظيماً، وشبه هذا.
وهذا إنما يكون عند قبض أرواحهم.
2847
وقيل: إنما يكون يوم القيامة.
وقيل: أريد به يوم بدر، قاله مجاهد.
قال مجاهد ﴿أَدْبَارَهُمْ﴾: أستاههم، ولكن الله كريم يَكْنِي.
قال ابن عباس: / كان المشركون إذا أقبلوا بوجوهم يوم بدر إلى المسلمين، ضربوا وجوههم بالسيوف، وإذا ولَّوا، أدركتهم الملائكة يضربون أدبارهم.
قوله: ﴿الذين كَفَرُواْ﴾. وقف، إن جعلت المعنى: إذ يتوفى الله الذين كفروا، ثم تبتدئ: ﴿الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾، على الابتداء والخبر.
ويدل على هذا المعنى: ﴿الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا﴾ [الزمر: ٤٢].
2848
وإن جعلت الملائكة هم يتوفونهم، وقفت على ﴿الملائكة﴾، وهو مروي عن نافع، وجعلت ﴿يَضْرِبُونَ﴾، على إضمار مبتدأ، أي: هم يضربون.
والأحسن الوقف على ﴿أَدْبَارَهُمْ﴾، وهو التمام وتبتدئ: ﴿وَذُوقُواْ﴾، على معنى: ويقولون.
﴿وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق﴾ تمام، إن قدرت " الكاف " في ﴿كَدَأْبِ﴾ [الأنفال: ٥٢]، متعلقة بقوله: ﴿ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لِّلْعَبِيدِ﴾.
فإن قدرت أنها متعلقة بقوله: ﴿ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾. فإن قدرت أنها متعلقة بقوله: ﴿وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق﴾، لم تقف على: ﴿الحريق﴾؛ لأنّ المعنى: ﴿وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق﴾ ذوْقاً ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾. ف: " الكاف " على هذا في موضع نصب نعت لمصدر محذوف.
2849
و ﴿ذلك﴾، في موضع رفع بالابتداء، والخبر: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾، والتقدير: ذلك العذاب لكم ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾، أي: من الآثام.
وقيل: هو في موضع رفع إضمار مبتدأ، والتقدير: الأمر ذلك.
﴿وَأَنَّ الله﴾، " أن " في موضع خفض عطفاً على " ما ".
أو في موضع نصب على حذف حرف الجر.
أو في موضع رفع نَسَاقاً على: ﴿ذلك﴾.
أو على إضمار مبتدأ، والتقدير: وذلك أنَّ الله.
قوله: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله﴾ إلى قوله: ﴿سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.
2850
" الدَّأْبُ ": العادة، وأصله من قولهم: " فلان يَدْأَبُ على الشيء ":
أي: يدوم عليه ويلزمه.
و" الكاف " متعلقة بقوله: ﴿ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾.
من المعاصي كعادة آل فرعون والذين من قبلهم.
و" الكاف " من: ﴿كَدَأْبِ﴾، في موضع رفع على إضمار مبتدأ.
أي: العادة في تعذيبكم عند قبض الأرواح وفي القبور مثل العادة في آل فرعون.
ويجوز أن تكومن " الكاف " متعلقة بـ: ﴿وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق﴾، فتكون في موضع نصب على معنى: ذوقوا مثل عادة آل فرعون في إذاقتا إياهم العذاب.
فالمعنى: فعل هؤلاء المشركون كما فعل آل فرعون، أو فعلنا، بهم كفعلنا بآل فرعون، فإذا رددت التشبيه إلى فعل المشركين وفعل آل فرعون جاز، وإذا رددته إلى
2851
فعل الله تعالى بهؤلاء كفعله بهؤلاء جاز، ويتمكن في كلا الوجهين في: " الكاف " الرفع والنصب.
قال مجاهد المعنى: كَسُنَنِ آل فرعون.
وقوله: ﴿فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ﴾.
أي: فعاقبهم الله بتكذيبهم.
﴿إِنَّ الله قَوِيٌّ﴾.
أي: لا يغلبه غالب.
﴿شَدِيدُ العقاب﴾.
لمن كفر به.
قوله: ﴿ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ﴾، الآية.
﴿ذلك﴾: في موضع نصب، على معنى: فعلنا ذلك.
2852
ويجوز أن يكون في موضع رفع، على معنى: هذا ذلك.
وقوله: ﴿بِأَنَّ الله﴾: في موضع رفع أو نصب عطف على: ﴿ذلك﴾.
والمعنى: فعلنا ذلك بمشركي قريش ببدر بذنوبهم، بأنّهم غيَّروا نعم الله عليهم، وهو محمد ﷺ، يخرجهم من الظلمات إلى النور، وتغييرهم لها هو كفرهم بما أتاهم به، وإخراجه من بين أظهرهم، وحربهم إياه.
قال السدي " نعمة الله " على قريش: محمد ﷺ كفروا بها، فنقله الله إلى الأنصار.
﴿سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾: تمام، إن جعلت المعنى فيما بعده: عادتهم كعادة فرعون، فتضمر مبتدأ تكون " الكاف " خبره.
وإن جعلت ﴿كَدَأْبِ﴾ متعلقة بقوله: ﴿حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ لم تقف على: ﴿سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.
ويكون التقدير/ في التعليق: ﴿حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾، كعادة آل فرعون في
2853
التغيير والإهلاك.
قوله: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾.
﴿كَدَأْبِ﴾ في هذه ليست بتكرير للأولى، لأن المعنى في الأولى: العادة في التعذيب، أو العادة في فعل المشركين بنبيهم كالعادة في آل فرعون، وهذا الثاني المعنى فيه: العادة في التغيير من هؤلاء كعادة آل فرعون في ذلك، فأهلك من كان قبل فرعون بذنوبهم، وأغرق (آل) فرعون، والجميع كانوا ظالمين، فكذلك أهلك هؤلاء بالسيف ببدر، إذ غيّروا نعمة الله وهي الكفر بمحمد ﷺ.
قوله: ﴿إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ﴾، إلى قوله: ﴿وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ﴾.
المعنى: إنّ شر من دَبَّ على وجه الأرض، الذين كفروا بالله ورسوله.
و ﴿الدواب﴾: يقع على الناس وعلى البهائم، وقد قال تعالى في موضع آخر: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا﴾ [هود: ٦].
وقوله :﴿ الذين عاهدت منهم ﴾[ ٥٦ ]، بدل من ﴿ الذين كفروا ﴾[ ٥٥ ]١.
والمعنى : الذين أخذوا عهدك ألا يحاربوك، ولا يعاونوا عليك كقريظة، إذ والت على النبي عليه السلام، يوم الخندق أعداءه٢ بعد عهدهم له ألا٣ يفعلوا ذلك، ﴿ وهم لا يتقون ﴾[ ٥٦ ]، الله في ذلك، ولا يخافون أن يوقع بهم الهلاك لفعلهم ذلك٤.
١ الكشاف ٢/٢١٨، وفيه: "أي: الذي عاهدتهم من الذين كفروا"، انظر: التبيان ٢/٢٦٨، والمحرر الوجيز ٢/٥٤١، والبحر المحيط ٤/٥٠٤، والدر المصون ٣/٤٢٨، وفتح القدير ٢/٣٤٦، ففيها أوجه إعرابية إضافية..
٢ في الأصل: أعداؤه، وهو خطأ ناسخ، والتفسير لمجاهد، التفسير ٣٥٧، وجامع البيان ١٤/٢٢، وتفسير ابن أبي حاتم ٥/١٧١٩، والدر المنثور ٤/٨١.
وقال ابن عطية في المحرر ٢/٥٤٢: "وأجمع المتأولون أن الآية نزلت في بني قريظة، وهي بعد تعم كل من اتصف بهذه الصفة إلى يوم القيامة"، انظر: زاد المسير ٣/٣٧١، ٣٧٢..

٣ في الأصل: لا يفعلوا، ولا يستقيم بها السياق..
٤ جامع البيان ١٤/٢٢، بتصرف..
وقوله: ﴿الذين عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ﴾، بدل من ﴿الذين كَفَرُواْ﴾.
والمعنى: الذين أخذوا عهدك ألاّ يحاربوك، ولا يعاونوا عليك كقريظة، إذ والت على النبي ﷺ، يوم الخندق أعداءه بعد عهدهم له ألا يفعلوا ذلك، ﴿وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ﴾، الله في ذلك، ولا يخافون أن يوقع بهم الهلاك لفعلهم ذلك.
قوله: ﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب﴾، إلى قوله: ﴿الخائنين﴾.
" إمّا ": للشرط، وتلزمه النون الشديدة توكيداً، لدخول " ما " من " إنْ "، هذه علة البصريين.
2855
وقال الكوفيون: تدخل " النون " الخفيفة والشديدة مع " إمّا " للفرق بين كونها للشرط وكونها للتخيير.
ومعنى الآية: إنْ لقيت يا محمد، هؤلاء الذين عاهدتم، ثم نقضوا عهدك في الحرب ﴿فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ﴾.
أي: افعل بهم فعلاً يكون مُشَرَّداً لمن خلفهم من نظرائهم، ممن بينك وبينه عَهْد.
و" التَّشْرِيدُ ": التطريد والتبديد والتفريق.
2856
فأُمر بذلك ﷺ ليكون أدباً لغيرهم، فلا يجترئوا على مثل ما فعله [هؤلاء] من نقض العهد.
وقال السدي: ﴿فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ﴾، أي: نكل بهم، ليحذر من خلفهم ممن بينك وبينه عهد.
﴿لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾.
أي: يتعظون إذا رأوا ما صنع بمن نقض العهد.
وقوله: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً﴾.
أي: إن خفت يا محمد، من قوم بينك وبينهم عهد (وعقد) أن يخونوك وينقضوا عهدك، ﴿فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ﴾، أي: حاربهم وأعلمهم قبل إتيانك لحربهم أنك فسخت عهدهم، لِمَا كان منهم من أمارة نقض العهد، وإتيان الغدر والخيانة منهم، فيستوي علمك وعلمهمه في الحرب، ﴿إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين﴾، أي: من خان
2857
عهداً، أو نقض عهداً.
و" الخَوْفُ " هنا: ظهور ما يتيقن منهم من إتيان الغدر، وليس هو الظن.
ومعنى: ﴿فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ﴾.
أي: انبذ إليهم العهد، وأعلمهم بأنك قد طرحته، لما ظهر إليك منهم، وأنك محارب لهم، فيستوي أمركما في العلم.
قال الكسائي: ﴿على سَوَآءٍ﴾: على عدل، أي: تعدل بأن يستوي علمك وعلمهم.
وقال الفراء المعنى: افعل بهم كما يفعلون سواء.
2858
وقال أيضاً: ﴿على سَوَآءٍ﴾: جهراً لا سراً.
قال أبو عبيدة معنى: ﴿تَخَافَنَّ﴾: تُوقِنَنَّ.
قوله: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ سبقوا﴾، إلى قوله: ﴿وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾.
خطَّأ أبو حاتم من قرأ بـ: " الياء "، ووجهها عند غيره ظاهر حسن.
2859
والمعنى في " الياء ": ولا يَحْسَبَنَّ من خلفهم الذين كفروا سبقوا، فيكون ضمير الفاعل في ﴿يَحْسَبَنَّ﴾، يعود على ﴿مَّنْ خَلْفَهُمْ﴾ [الأنفال: ٥٧]، و ﴿الذين كَفَرُواْ﴾: مفعول أول، و ﴿سبقوا﴾ في موضع الثاني.
وقال الفراء التقدير: أن سَبَقَوا.
وقال: وفي حرف عبد الله: / ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ سبقوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ﴾.
ورُوي عنه: " ولا يَحْسَبَ "، بفتح الباء، على إرادة النون [الخفيفة].
2860
ومن فتح: ﴿إِنَّهُمْ﴾، وقرأ بـ " الياء " أو بـ: " التاء " فمعناه: لأنهم، ولا يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً بـ: " حسب "، كما لا يجوز: حَسَبْتَ زيداً أنه قائم؛ لأن زيداً غير قيامه، ولو قلت: حسبت أمرك أنك قائم، جاز فتح " أن " لأن أمرك هو قيامك.
ومعنى ذلك: لا يحسب من ظفر بالخلاص مَنْ هذه الوقعة سبق.
ثم قال: ﴿إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ﴾، لا يفترون.
ومن قرأ بـ: " الياء " فمعناه: لا يحسب مَنْ خلفهم الذين كفروا سبقوا،
2861
أي: بالخلاص، ثم قال: ﴿إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ﴾، أي: لا يفوتون.
ثم حضّ المؤمنين على أن يُعِدُّوا لهؤلاء الذين خِيَف منهم نقض العهد ما استطاعوا ﴿مِّن قُوَّةٍ﴾.
أي: من الآلات التي تكون قوة في الحرب مثل: السلاح، والنبل، والخيل.
و" القوَّة: الرَّمْيُ "، روي ذلك عن النبي ﷺ.
قال عكرمة: ﴿مِّن قُوَّةٍ﴾: الحصون.
وقال مجاهد: ﴿مِّن قُوَّةٍ﴾: ذكور الخيل، ﴿وَمِن رِّبَاطِ الخيل﴾: إناثها.
قوله: ﴿تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله﴾.
أي: تخيفونهم به.
2862
ورُوَي: أن النبي ﷺ، قال: " ألاَ إنَّ القُوةَ الرَّمْيُ "، وأعادها ثلاثاً.
قال عكرمة: [القُوّة]: ذكور الخيل، ورباطها: إناثها.
قال عقبة بن عامر الجُهَني: قال رسول الله ﷺ: " إن الله يُدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانِعُه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، ومُنْبِلَه، فارموا واركبوا، وأن تَرْمُوا أحب إلي من أن تركبوا، وليس اللهو إلا ثلاثة: تأديب الرجل
2863
فرسَه، وملاعبتَه امرأته، ورميه بقوسه ونَبْله. ومن ترك الرّمي من بعد ما علمه فإنه نعمة كفرها أو كفر بها ".
قال أبو نجيح السُّلَمي: حاصَرْنا قصر الطائف فسمعت رسول الله ﷺ، يقول: " مَنْ رمى بسهم في سبيل الله، فهو له عدل رقبة، ومن شاب شيبة في الإسلام فهو له عدل مُحَرَّرٍ من النار ".
وقال النبي ﷺ " الخَيْل مَعْقُودٌ في نَوَاصِيهَا الخَيْر إلى يوم القيامة: الأجر والمَغْنَمُ "
، رواه عروة البَارِقِيُّ عنه، وكذلك رواه أبو هريرة وابن عمر.
وروى أنس بن مالك عنه أنه قال: " البَرَكَةُ في نواصي الخَيْل ".
2864
وروى عنه أبو هريرة أنه قال: " من احتبس فرساً في سبيل الله، إيماناً بالله، وتصديقاً بوعد الله، كان شِبَعُهُ وَرِيُّهُ وَبَوْلُهُ ورَوْثُه حسناتٍ في ميزانه يوم القيامة ".
قوله: ﴿وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ﴾.
يعني بهم: بني قريظة.
قال السدي: هم أهل فارس.
وهذان القولان يردهما علم المؤمنين ببني قريظة وبفارس، وقد قال تعالى: ﴿لاَ تَعْلَمُونَهُمُ﴾.
2865
وقال ابن زيد: هم المنافقون لا تعلمونهم؛ لأنهم [معكم]، يقولون: لا إله إلا الله، لا يعلمهم إلا الله.
وهذا قول حسن موافق لقوله: ﴿لاَ تَعْلَمُونَهُمُ﴾، فالله هو المطلع على سرائرهم.
وقيل: هم الجن.
وهو اختيار الطبري.
2866
وهو أحسن الأقوال، لما رُوي أن الجن تفرُّ من صهيل الخيل.
ورُوِيَ: أن الجن لا تقرب داراً فيها فرس، وأيضاً: فإن لا نعلمهم، كما قال تعالى.
روى ابن مِقْسَمِ: أن رجلاً أتى ابن عباس، فشكا إليه ابنته تُعترى، فقال له: ارتبط فرساً، إن كنت ممن يركب الخيل وإلا فاتخذه، فإن الله جل اسمه، يقول: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ﴾، فإن الجن من الذين لا تعلمونهم، ففعل الرجل ما أمره، فانصرف عن ابنته العارض.
وقوله: ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ﴾.
2867
أي: لا يضي (لكم) عند الله/ أجره في الآخرة، ولا خَلَفه في الدنيا.
قوله: ﴿وَآخَرِينَ﴾.
منصوب على معنى ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُمْ﴾: وتَوَقَّوا آخرين، فلا تقف على ماقبله على هذا.
ويجوز أن يكون نصبه بإضمار فعل غير هذا، فتبتدئ به إن شئت.
وإن جعلته معطوفاً على: ﴿عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ﴾، أي: وترهبون آخرين، لم تقف أيضاً قبله.
﴿لاَ تَعْلَمُونَهُمُ﴾ وقف.
2868
قوله: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا﴾، إلى قوله: ﴿عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
قد تقدم ذكر " السلم " في الفتح والكسر في " البقرة ".
والمعنى: إن جنح هؤلاء الذين أمرت أن تنبذ إليهم على سواء إلى الصلح، أي: [مالوا إليه] فمل إليه، إمّا بالدخول في الإسلام، أو بإعطاء الجزية، وإما بموادعة.
قال قتادة: وهي منسوخة بقوله: ﴿فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥].
وقال ابن عباس نسخها: ﴿فَلاَ تَهِنُواْ وتدعوا إِلَى السلم﴾ [محمد: ٣٥].
2869
وقال عكرمة والحسن نسخها: ﴿قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله﴾ [التوبة: ٢٩]، الآية.
وقيل: إنها مُحْكَمةٌ.
والمعنى: إن دعوك إلى الإسلام فصالحهم. قاله ابن إسحاق.
2870
﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الله﴾.
أي: فوض أمرك إلى الله، ﴿إِنَّهُ هُوَ السميع العليم﴾.
ثم قال: ﴿وَإِن يريدوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ الله﴾.
أي: إن يرد هؤلاء الذين أمرناك أن تجنح إلى السلم إن جنحوا لها خداعك وخيانتك، ﴿فَإِنَّ حَسْبَكَ الله﴾، أي: كافيك الله.
﴿هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين﴾.
أي: قوَّاك بذلك على أعدائك، ﴿وبالمؤمنين﴾ هنا: الأنصار. وهذا كله في بني قريظة.
﴿وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾.
أي: بين قلوب الأنصار: الأوس والخزرج، بعد التفرق والتشتت، {لَوْ
2871
أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً}، أي من ذهب وفضة ﴿مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكن الله [أَلَّفَ] بَيْنَهُمْ﴾، على الهدى، فقواك بهم.
وروي عن ابن مسعود أنه قال: نزلت هذه الآية في المتحابين في الله عز جل: ﴿لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾، الآية.
وقال مجاهد: [إذا] التقى المسلمان وتصافحا غُفِر لهما.
قوله: ﴿يا أيها النبي حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك﴾، الآية.
﴿حَسْبُكَ الله﴾: تمام، إن جعلت ﴿وَمَنِ اتبعك﴾ ابتداء.
أي: ومن اتبعك من المؤمنين حسبه الله، أي: يكفيك ويكفيه.
وقال الكسائي: ﴿وَمَنِ اتبعك﴾: في موضع نصب عطفاً على موضع " الكاف " في التأويل.
وقيل عنه: ﴿مَنِ﴾ في موضع رفع عطفاً على أسم ﴿الله﴾، جل ذكره، أي: يكفيك الله ويكفيك من اتبَعَك من المؤمنين.
ولا يحسن الوقف على: ﴿حَسْبُكَ الله﴾ على هذين التأويلين.
قوله: ﴿يا أيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال﴾ إلى قوله: ﴿مَعَ الصابرين﴾.
والمعنى: إن الله، تبارك وتعالى، أمر نبيه عليه السلام، أن يحث من آمن به على
2873
قتال المشركين.
و" التَّحْرِيضُ ": الحث الشديد، وهو مأخوذ من: " الحَرَضِ "، وهو: مقاربة الهلاك.
قوله: ﴿إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ﴾.
أي: يصبرون على لقاء العدو، ويثبتون ﴿يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ﴾.
من عدوهم، ﴿وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يغلبوا أَلْفاً﴾، من العدو، ﴿بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾، أي: من أجل أنّ المشركين قوم يقاتلون على غير رجاء ثواب، ولا لطلب أجر، فهم لا يثبتون عند اللقاء، خشية أن يقتلوا فتذهب دنياهم.
ثم خفف تعالى ذلك عن المؤمنين، فقال: ﴿الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً﴾، أي: تضعفون عن أن يلقى الواحد منكم عشرة منهم، ﴿فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ﴾، على المكاره عند لقاء العدو، ﴿يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ﴾ من العدو ﴿وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يغلبوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ الله﴾، أي: بمعونته ﴿والله مَعَ الصابرين﴾.
2874
قال عطاء: لما نزلت الآية الأولى، ثقل ذلك على المسلمين، وأَعْظَموا أن يقاتل عشرون منهم مئتين، ومئة ألفاً فَخَفَّف [الله] ذلك عنهم، فنسخها بالآية الآخرى فردهم يقفون إلى من هو مثلا عددهم، فإن (كان) المشركون أكثر من المسلمين، لم يلزم المسلمين الوقوف لهم، وحلَّ لهم أن يَتَحَوَّزُوا عنهم.
وقاله: عطاء، وعكرمة، والحسن، والسدي.
وقيل: إن هذا من الله تخفيف وليس بنسخ، فإنه لم يقل: لا يقاتل الواحد العشرة، إنما خفف عنهم ما كان فرض عليهم، ونظير ذلك: إفطار الصائم في السفر، إنما هو تخفيف، ولا يقال له نسخ، ألا ترى أنه لو صام لم يأثم، وأجزأه صومه.
2875
ومن قرأ: ﴿وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ﴾، بـ " التاء "، فعل تأنيث اللفظ.
ومن قرأ بـ: " الياء "، فلأنه تأنيث غير حقيقي، إذ المعنى: مائة رجل.
وقرأ أبو جعفر: ﴿وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً﴾، بالمد، جمع ضعيف.
2876
قوله: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى﴾، إلى قوله: ﴿غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
المعنى: ما كان لنبيٍ أن يَحْبَسٍ كافراً قَدَر عليه للغاية والمن.
و" الأسْر ": الحبْس.
قوله: ﴿حتى يُثْخِنَ فِي الأرض﴾.
أي: حتى يبالغ في قتل المشركين وقهرهم.
2877
وهذا تعريف من الله تعالى لنبيه عليه السلام، قتل من فادى به يوم بدر، كان أولى من المفاداة وإطلاقهم.
وقوله: ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا﴾.
هذا للمؤمنين الذين رَغِبُوا في أخذ المال والفداء.
﴿والله يُرِيدُ الآخرة﴾، أي: يريد لكم زينة الآخرة وخيرها.
قال ابن عباس: كان هذا يوم بدر، والمسلمين قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله تعالى، في الأسرى: ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً﴾ [محمد: ٤]، فجعل الله المؤمنين بالخيار في أسَارَاهُم.
2878
وقال مجاهد: " الإثْخان ": القتل.
وقال ابن مسعود: لما كان يوم بدر وجيء بالأسَارى، قال رسول الله ﷺ: ما تقولون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر، رضي الله عنهـ: يا رسول الله، قومك وأهلك، فأستبقهم، لعل الله أن يتوب عليهم.
وروي عنه أنه قال: يا رسول الله، بنو العم والعشيرة، وأرى أن تأخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار، وعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام.
وقال عمر رضي الله عنهـ، كذبوك وأخرجوك، فاضرب أعنقاهم.
ورُوي عنه أنه قال: لا والله الذي لا إله إلا هو، ما أرى الذي قال أبو بكر، ولكني أرى أن تمكننا منهم، فنضرب أعناقهم، فإنّ هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها.
وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله، أنظر وادياً كثير الحطب فأدخلهم فيه، ثم أضْرمه عليهم. فقال له العباس: قطعتك رحمك. فسكت رسول الله ﷺ فقال ناس: نأخذ برأي أبي بكر. وقال ناس: نأخذ برأي عمر.
وقال ناس: نأخذ برأي عبد الله بن رواحة. ثم خرج عليهم رسول الله ﷺ
2879
فقال: " إن الله ليُليّنُ قلوب رجال [حتى تكون ألين من اللين، وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة]، وإن مثلك يا أبا بكر، مثل إبراهيم عليه السلام، قال: ﴿فَمَن تَبِعَنِي [فَإِنَّهُ] مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [إبراهيم: ٣٦]، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى، قال: ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم﴾ [المائدة: ١١٨]، ومثلك يا عمر مثل نوح، قال: ﴿رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً﴾ [نوح: ٢٦]، ومثلك يا عبد الله كمثل موسى، قال: ﴿رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ/ واشدد على قُلُوبِهِمْ﴾ [يونس: ٨٨]، ثم قال رسول الله ﷺ: " أنتم اليوم عالة، فلا يقتلنّ أحد منكم إلا بفداءٍ أو ضربة عُنُق ".
2880
قال قتادة: فَادَوْهُم بأربعة آلاف أربعة آلاف، وكان النبي ﷺ لم يثخن في الأرض، وكان أول قتاله المشركين.
قال مالك: الإمام مخير في الرجال، إن شاء قتل، وإن شاء فادى بهم أسارى المسلمين، قال: وأمثل ذلك عندنا أن يقتل من خفيف منه.
وقال جماعة من العلماء: الإمامُ مُخيَّر، إن شاء قتل، وإن شاء أسر، وإن شاء فادى، وهو قول الشافعي وغيره).
2881
من قتل أسيراً قبل أن يوصله إلى الإمام فلا شيء عليه، وقد أساء، فإن قتل صبياً أو امرأة عوقب وغرم الثمن، هذا قول الشافعي وغيره.
وقال الأوزاعيي والثوري: لا يقتل الأسير حتى يبلغ الإمام، إلا أن يخافه، فإن قتله بعدها وصل به إلى الإمام غرم ثمنه، وإن قتله قبل أن يصل عوقب ولا غرم عليه.
قوله: ﴿لَّوْلاَ كِتَابٌ [مِّنَ] الله سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
هذا خطاب لأهل بدر في أخذهم الغنائم والفداء.
وروي أن هذه الآية لما نزلت قال النبي ﷺ: " لو نزل عذاب ما سلم منه إلا عمر، ولو بعث بعدي نبي لبعث عمر "، رضي الله عنهـ.
وذلك أن عمر رضي الله عنهـ أشار على النبي ﷺ، بقتل الأسارى، وألا تؤخذ منهم الفدية، وقال للنبي ﷺ: كذّبوك وأخرجوك فاضرب أعناقهم. وخالفه أبو بكر رضي الله عنهـ، وغيره في ذلك.
2882
والمعنى: لولا أنّ الله قد سبق قضاؤه في اللوح المحفوظ، أنه يحل لكم ذلك، لعقوبتم بما فعلتم؛ لأنه تعالى لم يكن يحل ذلك لأحد من الأمم قبل أمة محمد ﷺ، ولكنهم أخذوا الغنائم وقبلوا الفداء، قبل أن ينزل عليهم ما قد سبق منه، تعالى، أن يحله لهم، وكانت الأمم قبل محمد، عليه السلام، إذا غَنِمُوا شيئاً جعلوه للقربان فتأكله النار، فهو حرام عليهم، لا يحل لأحد منهم شيء منه.
وقيل: المعنى: لولا أن سبق في علمي أني سأحل لكم الغنائم، لمسكم في أخذكم إياها عذاب عظيم.
وقيل المعنى: لولا كتاب من الله سبق لأهل بدر، أن لا يعذبهم لمسهم في أخذهم الغنائم عذاب عظيم، قال ذلك: الحسن، وقتادة وابن جبير.
وقال ابن زيد: سبق في علمه الغفو عنهم، والمغفرة لهم، يعني: أهل بدر، ولولا
2883
ذلك، لمسهم إذ أخذوا الغنائم التي لم تحل لأحد قبلهم عذاب عظيم.
وقال مجاهد: لولا أنه سبق في علمه أن لا يُعذَّبَ أحد بفعل أتاه جهلاً، لمسكم فيما جهلتم فيه، من أخذ الغنائم عذاب عظيم.
ورُوي عن النبي ﷺ، أنه قال: " نُصِرْتُ بالرُّعب، وجُعلت لي الأرض مسجداً وظهوراً، وأعطيت جوامع الكَلِمَ، وأُحلت لي الغنائم، ولم تحل لنبي كان قبلي، وأُعْطِيتَ الشفاعة، خمس لم يؤتهنَّ نبي كان قبلي ".
وقيل المعنى: لولا أنه سبق مني أن لا أعذب أحداً إلا بعد النهي، لعذبتكم بأخذكم للغنائم.
واختار النحاس، وغيره، أن يكون المعنى: لولا أنه سبق من الله تعالى، أن يغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر، لعذبكم بأخذكم الغنائم.
2884
وقيل المعنى: / ﴿لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ﴾، فآمنتم به، وهو القرآن فاستوجبتم بإيمانكم الصفح والغفو، لعذبتم على أخذكم الغنائم.
قال ابن زيد: لم يكن أحد ممن حضر بدراً إلا أحب أخذ الغنائم إلا عمر بن الخطاب رضي الله عنهـ، فإنه جعل لا يلقى أسيراً إلا ضرب عنقه، وقال: يا رسول الله، ما لنا وللغنائم، نحن قومن نجاهد في سبيل الله حتى يعبد الله.
ثم أحلَّ لهم ذلك فقال: ﴿فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً واتقوا الله﴾، أي: خافوه فيما حرم عليكم، وما نهاكم عنه، وفي أن تركبوا بعد هذا فعل ما لم تؤمرا به.
﴿إِنَّ الله غَفُورٌ﴾.
أي: لذنوب أهل الإيمان، أي: سائر عليها، ﴿رَّحِيمٌ﴾ بهم.
2885
قال الطبري: ﴿واتقوا الله﴾، يراد به التأخير بعد ﴿رَّحِيمٌ﴾.
قوله: ﴿يا أيها النبي قُل لِّمَن في أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى﴾، إلى قوله: ﴿عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾.
قوله: ﴿يا أيها النبي﴾، ثم قال: ﴿في أَيْدِيكُمْ﴾، إنما ذلك؛ لأن المعنى: قل لمن في يديك، ويدي أصحابك من الأسرى.
وقيل: المعنى: يا أيها النبي قل لأصحابك: قولوا لمن في أيديكم من الأسرى.
وقيل: المخاطبة له مخاطبة لأمته.
والمعنى: يا محمد، قل لمن في يديك ويدي أصحابك من الأسرى الذين أخذ منهم الفداء: ﴿إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً﴾، أي: إسلاماً، ﴿يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ﴾، في الفداء، ويغفر لكم ذنوبكم التي سلفت منكم، وقتالكم نبيكم، أي: يسترها عليكم، ﴿والله غَفُورٌ﴾، أي: ساتر لذنوب عباده إذا تابوا، ﴿رَّحِيمٌ﴾، بهم، أن يعاقبهم بعد التوبة.
قال العباس بن عبد المطلب: فيَّ نزلت هذه الآية.
2886
وكان العباس فدى نفسه يوم بدر بأربعين أوقية من الذهب، قال العباس: فأعطاني الله أربعين عبداً، كلهم تاجر، وأنا أرجو المغفرة التي وعدنا الله تعالى، بها.
قال الضحاك: نزلت في العباس وأصحابه أُسروا يوم بدر، وهم سبعون.
وروى ابن وهب أن النبي ﷺ، لما قدم بالأسارى المدينة، قال لعمه العباس: افد نفسك يا عم، وافد ابني أخويك، يعني: عقيل بن أبي طالب. ونوفل بن
2887
الحارث، وافد حليفك، يعني: عتبة بن عمرو من بني فهر، كان حليفاً للعباس. قال له العباس: يا رسول الله إني كنت مسلماً ولكن القوم استكرهوني، فقال له النبي ﷺ: " الله أعلم بإسلامك، أما ظاهرك فقد كان علينا ". وكان النبي عليه السلام، قد وجد مع العباس أربعين أُوقِيَّةً من ذهب، كل أوقية أربعون مثقالاً، فقال العباس: احسبها لي يا رسول الله في فدائي، فقال النبي ﷺ: " ذلك مال أفاءه الله علينا، ولست أحسبه لك "، فقال له العباس: مال مال غيره، فقال له النبي ﷺ: " يا عم، أنت سيد قريش وتكذب! فأين المال الذي دفنته بمكة عنجد أم الفضل بنت الحارث، ثم قلت لها: ما أدري ما يكون، فإن أُصبت في سفري فللفضل كذا وكذا، ولعبد الله كذا وكذا،
2888
فقال العباس: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، والله ما حضر ذلك أحد إلا الله وأم الفضل. ففدى العباس نفسه، وابنَيْ أخويه، وحليفه، ففي ذلك نزل: ﴿يا أيها النبي قُل لِّمَن في أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾، الآية.
فلما سمعها العباس، قال: قد أنصفني ربي: مَنَّ علي/ بالإسلام، وغفر لي، ويعطيني خيراً مما أخذ مني.
فأعطاه الله تعالى، يوم خيبر أكثر مما أخذ منه في الفداء، وغفر له، ورحمه.
قال ابن وهب: لما رجع المشركون من بدر إلى مكة، جلس عُمير بن وهب إلى صفوان بن أمية، فقال له صفوان: قبح العيش بعد قتلى بدر! فقال عُمير: أجل، ما
2889
في العيش خير بعدهم، ولولا دَيْنٌ عليّ وعيالي، لرحلت إلى محد فلنقتلنه إن ملأت عيني منه، فإن لهم عندي عِلّة أقول: قدمت لتفادوني في أسيرٍ لي، ففرح صفوان بقوله/ وقال له: عليّ دَيْنُكَ، وعيالك أسوة عيالي في النفقة، لن يسعني شيء ويعجز عنهم. فحمله صفوان وجهزه، وأمر بسيف عمير فسُم وصقل. وقال عمير لصفوان: اكتمني ليالٍ. وأقبل عُمير حتى وصل المدينة، فنزل ببال المسجد، وعَقَلَ راحلته وأخذ السيف، وعمد إلى رسول الله ﷺ، فنظر إليه عمر وهو في نفر من الأنصار، ففزع عمر من عُمير، وقال لأصحابه: هذا عدو الله الذي حرَّش بيننا
2890
وحزرنا للقوم، ثم قام عمر ودخل على رسول الله [ ﷺ]، وقال: هذا عمير بن وهب قد دخل المسجد، ومعه السلاح، وهو الفاجر الغادر، يا رسول الله لا تأمنه! فقال ﷺ: أدخله عليّ فدخل، وأمر عمر أصحابه أن يحْتَرزوا منه، ويدخلوا بالسلام على النبي ﷺ: فقال النبي عليه السلام: يا عمر، تأخر عنه، فلما دنا عُمير من النبي عليه السلام قال: أنْعِمُوا صباحاً، قال النبي ﷺ: قد أكرمنا الله عن تحيتك، وجعل تحيتنا السلام، وهي تحية أهل الجنة، فما أقدمك يا عُمير؟ قال: قدمت تفادوني في أسيري؛ فإنكم العشيرة والأهل. فقال له النبي ﷺ: " وما شَرَطْتَ لصفوان بن أمية في الحِجْرِ؟ ففزع عُمير، وقال ": وما شرطت له؟ قال: تحمّلت له قتلي على أن يعول بنيك، ويقضي دَيْنَكَ،
2891
والله حائل بينك وبين ذلك، قال عمير: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، كنا يا رسول الله نكذبك بالوحي وبما يأتيك من خبر السماء، وأنّ هذا الحديث الذي كان بيني وبين صفوان في الحِجْرِ كما قلت يا رسول الله، لم يطلع عليه أحد غيري وغيره، ثم أخبرك الله تعالى، به فآمنتُ بالله ورسوله، فالحمد لله الذي ساقني هذا المساق، ففرح المسلمون حين هَدَاه الله، فقال عمر: والله لخنزير كان أحب إليّ منه حين أتى، ولَهُوَ اليوم أحب إلي من بعض بني. فقال له النبي عليه السلام: " أجلس نواسك. وقال [لأصحابه]: عَلِّمُوا أخاكم القرآن. وأطلق له أسيره، فقال له عُمير: يا رسول الله، قد كنت جاهداً ما استطعت في إطفاء نور الله سبحانه، فالحمد لله الذي ساقني هذا المساق، فأْذن لي ألحق بقريش فأدعوهم إلى الإسلام، لعل الله يهديهم ويَسْتَنْقِذَهُم من الهلكة، فأذن له النبي عليه السلام، فلحق بمكة، وجعل صفوان بن أمية يقول لقريش: أبشروا بفتح ينسيكم وقعة بدر، وجعل يسأل كل راكب قدم من المدينة: هخل كان [بها] من حدث؟ وكان يرجو قتل النبي، عليه السلام، على يد عُمير، حتى قدم عليه رجل من
2892
المدينة، فسأله صفوان عن عمير، فقال: قد أسلم، فقال المشركون: صبأ/ عُمير.
وقال صفوان: إن لله علي ألا أنفعه بنافعه أبداً، ولا أكلمه بكلمة أبداً، وقدم عليهم عُمير، فدعاهم إلى الإسلام، ونصح لهم، فأسلم بشر كثير.
ونذر أبو سفيان بن حرب بعد وقعة بدر أن لا يمسَّ رأسه ذُهْنٌ، ولا يقرب أهله حتى يغزو محمداً ﷺ فغزاه إلى أُحد، فكانت وقعة أُحد بعد بدر بسنة.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ﴾.
يعني الأسارى الذين افتدوا وأسلموا في ظاهر أمرهم، ﴿فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ﴾، أي: من قبل وقعة بدر، ﴿فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ﴾، يعني ببدر.
قال قتادة: هو عبد الله بن أبي سَرْح كان يكتب الوحي للنبي ﷺ، ثم نافق
2893
وسار إلى المشركين بمكة وقال لهم: ما كان محمد يكتب إلا ما شِئْتُ فَنَذَر رجل من الأنصار لئن أمكنه الله به ليضربنه بالسيف. فلما كان يوم الفتح أمّن النبي ﷺ، الناس إلا عبد الله بن سد بن أبي سَرْح [ومِقْيَس بن صُبَابة]، وابن خطل، وامرأة كانت تدعو على النبي عليه السلام، كل صباح. فجاءه عثمان بابن أبي سَرْح، وكان رضيع عبد الله، فقال: يا نبي الله، هذا فلان أقبل تائباً نادماً، فأعرض عنه النبي ﷺ، فلما سمع
2894
به الأنصاري، أقبل متقلداً سيفه، فأطاف به، وجعل ينظر إلى النبي عليه السلام، رجاء أن يومئ إليه. ثم إن رسول الله ﷺ، قدم يده فبايعه، فقال: " أما والله لقد تَلُومَنَّكَ فيه لتوفي نذرك "، فقال: يا نبي الله، إني هبتك، فلولا أَوْمَضَتَ إليّ فقال له النبي ﷺ: " إنه لا ينبغي لنبيٍ أن يُومِضَ ".
ومعنى ﴿خَانُواْ الله﴾: خانوا أولياءه.
قوله: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ﴾، إلى قوله: ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
من فتح " الواو " في: " الوَلاية " جعله مصدر " وَليَ " يقال: هو لي بَيِّنُ الوَلاَيَةِ.
2895
ومن كسر فهو مصدر " والي "، يقال: هو والٍ بيّن الوِلاَيةِ.
ومعنى الآية: إن الذين صدقوا بمحمد عليه السلام، وما جاء به، وهجروا قومهم وعشيرتهم وأرضهم إلى أرض الإسلام، والهجرة هجرتان: هجرة كانت إلى أرض الحبشة، وهجرة إلى المدينة، وهذا إنما كان في أول الإسلام، ثم انقطع ذلك الآن: لأن الدار كلها دار الإسلام، ﴿وَجَاهَدُواْ﴾، أي: أتعبوا أنفسهم في حرب أعداء الله، ﴿والذين آوَواْ ونصروا﴾، أي: آووا رسول [الله] ﷺ والمهاجرين معه ونصروهم، وهم الأنصار، ﴿أولئك بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ﴾، أي: المهاجرون أولياء الأنصار وإخوانهم.
2896
و " الوليُّ " في اللغة: النصير. فاختيار الطبري أن يكون: ﴿أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ﴾ بمعنى أنصار بعض.
قال ابن عباس: كانت هذه الولاية في الميراث، فكان المهاجرون والأنصار يرث بعضهم بعضاً بالهجرة دون القرابة، ألا ترى إلى قوله: ﴿والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ﴾، فكانوا يتوارثون على ذلك حتى نزلت بعده: ﴿وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ﴾ [الأنفال: ٧٥]، فنسخت مواريث المهاجرين والأنصار بعضهم من بعض.
وكذلك قال مجاهد.
قال قتادة: لبث المسلمون زماناً يتوارثون بالهجرة، وليس يثرث المؤمن الذي لم يهاجر من المؤمن المهاجر شيئا، وإن كان ذا رحم، ولا الأعرابي من المهاجر شيئاً، فنسخ ذلك قوله: ﴿وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله مِنَ المؤمنين والمهاجرين إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ/ مَّعْرُوفاً﴾ [الأحزاب: ٦]، يعني: من أهل الشرك، يوصون لهم إن أرادوا،
2897
ولا يتوارث أهل مِلَّتَيْن.
وقال عكرمة والحسن: نسخها آخر السورة: ﴿وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ﴾ [الأنفال: ٧٥].
وقوله: ﴿والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ﴾.
أي: الذين آمنوا بمكة، ولم يفارقوا دار الكفر، ﴿مَا لَكُمْ﴾.
أيها المهاجرون، ﴿مِّن وَلاَيَتِهِم﴾، أي: نصرهم وميراثهم، ﴿مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ استنصروكم﴾، هؤلاء الذين آمنوا ولم يهاجروا، ﴿فِي الدين﴾، أي: على أهل الكفر، ﴿فَعَلَيْكُمُ﴾ نصرهم ﴿إِلاَّ﴾ أن يستنصروكم ﴿على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ﴾، أي عهد وذمة، فلا تنصروهم وهم عليهم، ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، أي: [بصير] فيما أمركم به من ولاية بعضكم بعضاً.
وقال ابن عباس: ﴿وَإِنِ استنصروكم فِي الدين﴾، يعني: الأعراب المسلمين، فعليكم
2898
أن تنصورهم، ﴿إِلاَّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ﴾، فلا تنصورهم عليهم.
قوله: ﴿والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ﴾، الآية.
المعنى: والذين كفروا بعضهم أحق ببعض الميراث، [أي:] أحمق من قرابتهم من المؤمنين.
وقيل: معناه: بعضهم أعون بعض.
وقوله: ﴿إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض وَفَسَادٌ﴾.
أي: إن تفعلوا موارثة المهاجرين والأنصار بعضهم من بعض، دون ذوي
2899
الأرحام من المهاجرين الذين آمنوا ولم يهاجروا، ودون قرابتهم من المؤمنين والكفار: ﴿تَكُنْ فِتْنَةٌ﴾، أي: يحدث بلاء في الأرض بسبب ذلك، ﴿وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾، أي: معاص.
قال ابن عباس: إلا تأخذوا في الميراث بما أمرتكم ﴿تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض﴾.
قال ابن زيد: كان المؤمن المهاجر والمؤمن الذي لم يهاجر لا يتوارثان، وإن كانا أخوين، فلما كان الفتح انقطعت الهجرة، وتوارثوا حيث ما كانوا بالأرحام.
وقال ابن جريج: ﴿إِلاَّ تَفْعَلُوهُ﴾: إلا تناصروا وتتعاونوا ﴿تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض﴾.
ف " الهاء " في: ﴿تَفْعَلُوهُ﴾ تعود على التوارث، أو على التناصر.
2900
قوله: ﴿والذينءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا﴾، الآية.
المعنى: والذين صدقوا بمحمد عليه السلام، بوما جاء به، ﴿وَهَاجَرُواْ﴾، أي: هجروا أهلهم ودارهم، ومضوا إلى دار الإسلام ﴿وجاهدوا﴾، أي في سبيل الله، ﴿والذينءَاوَواْ ونصروا﴾، أي: آووا النبي ﷺ، ومن معه من المهاجرين، ونصروهم، وهم الأنصار، ﴿أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ﴾، أي: ستر: ﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾، أي: لهم في الجنة مطعم هنيّ كريم، لا يتغير في أجوافهم فيصير نجواً، ولكنه يصير رَشْحاً كرشح المِسْكِ.
قوله: ﴿والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ [فأولئك مِنكُمْ]﴾، الآية.
المعنى: والذين آمنوا بمحمد ﷺ، وبما جاء به، من بعد ما أمرتكم بموالاة المهاجرين والأنصار وتوارثهم، وهاجروا إليم وجاهدوا معكم ﴿فأولئك مِنكُمْ﴾، يعني الذين آمنوا من بعد الحديبية، ﴿وَهَاجَرُواْ﴾، ويقال لها: الهجرة الثانية،
2901
﴿فأولئك مِنكُمْ﴾، أي: مثلكم ف يالنصر والموالاة والمواريث.
ثم قال تعالى: ﴿وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ﴾.
هذا نسخ لما تقدم/ من التوارث بالهجرة دون القرابة التي ليس معها هجرة.
قال اسماعيل القاضي: عنى بذوي الأرحام من يرث منهم، هم أولى ممن لا يرث من ذوي الأرحام، ومن غيرهم ممن لا نسب بينه وبين الميّت، فأما الولاء فهو قائم بنفسه في الميراث كما جعله النبي ﷺ.
ومعنى ﴿فِي كِتَابِ الله﴾، في اللوح المحفوظ، هو كذلك قد سبق في علمه تعالى أنه كذلك بأمرنا.
﴿إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
أي: يعلم ما ينقلكم إليه قبل أن ينقلكم، لا إله إلا هو.
2902
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
بِأَيْدِي رِجَالٍ لَمْ يَشْيمُوا سُُيُوفَهُمْ وَلَمْ تَكْثُرِ الْقَتْلَى بِهَا حِينَ سُلَّتِ